بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : تفسير الإمام الفخر الرازى المسمى ( مفاتيح الغيب }
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع }(1/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفقنا لأداء أفضل الطاعات ووفقنا على كيفية اكتساب أكمل السعادات وهدانا إلى قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من كل المعاصي والمنكرات بسم الله الرحمن الرحيم نشرع في أداء كل الخيرات والمأمورات الحمد لله الذي له ما في السموات رب العالمين بحسب كل الذوات والصفات الرحمن الرحيم على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات مالك يوم الدين في إيصال الأبرار إلى الدرجات وإدخال الفجار في الدركات إياك نعبد وإياك نستعين في القيام بأداء جملة التكليفات اهدنا الصراط المستقيم بحسب كل أنواع الهدايات صراط الذين أنعمت عليهم في كل الحالات والمقامات غير المغضوب عليهم ولا الضالين من أهل الجهالات والضلالات والصلاة على محمد المؤيد بأفضل المعجزات والآيات وعلى آله وصحبه بحسب تعاقب الآيات وسلم تسليما أما بعد فهذا كتاب مشتم على شرح بعض ما رزقنا الله تعالى من علوم الفاتحة ونسأل الله العظيم أن يوفقنا لإتمامه وان يجعلنا في الدارين أهلا لإكرامه وإنعامه إنه خير موفق ومعين وبإسعاف الطالبين قمين وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب أما المقدمة ففيها فصول -
الفصل الأول
في التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال
اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل وألغي والعناد وحملوا ذلك على ما ألفو من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب الوصول فنقول وبالله التوفيق إن قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا شك أن المراد منه الاستعاذة بالله من جميع المنهيات والمحظورات ولا شك ان المنهيات إما أن تكون من باب الاعتقاد أو من باب أعمال الجوارح أما الاعتقاد فقد جاء في الخبر المشهور قوله ستفترق أمتي(1/15)
على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهذا يدل على أن الاثنتين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المعلقة بذات الله تعالى وبصفاته وبأحكامه وبأفعاله وبأسمائه وبمسائل الجبر والقدر والتعديل والتجوير والثواب والمعاد والوعد والوعيد والأسماء والأحكام والإمامة فإذا وزعنا الفرق الضالة - وهو الاثنتان والسبعون - على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما وكل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات والمتعلقة بأحكام الذوات والصفات بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد ولا شك أن قولنا أعوذ بالله يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع والاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا وقبيحا فظهر بهذا الطريق أن قولنا أعوذ بالله مشتمل على عشرة آلاف مسئلة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة(1/16)
سورة الفاتحة
وآياتها سبع مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وأما قوله جل جلاله بسم الله الرحمن الرحيم ففيه نوعان من البحث النوع الأول قد اشتهر عند العلماء أن لله تعالى ألفا وواحدا من الأسماء المقدسة المطهرة وهي موجودة في الكتاب والسنة ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية وأيضا فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقا بالعلم بالمسمى وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات وعن الدلائل الدالة على ثبوتها وعن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة ومجموعها يزيد على الألوف النوع الثاني من مباحث هذه الآية أن الباء في قوله بسم الله باء الإلصاق وهي متعلقة بفعل والتقدير باسم الله أشرع في أداء الطاعات وهذا المعنى لا يصير ملخصا معلوما إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات ومع الأجوبة عن الشبهات وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة ومن اللطائف أن قوله أعوذ بالله إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال وقوله بسم الله إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات فقوله بسم الله لا يصير معلوما إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة والأعمال الصافية وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح والحق الصريح أما قوله جل جلاله الحمد لله فاعلم أن الحمد إنما يكون حمدا على النعمة والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 ولنتكلم في مثال واحد وهو ان العاقل يجب أن يعتبر ذاته وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبا من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عز وجل بحكمته في تخليق بدن الإنسان ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط وعند هذا يظهر أن معرفة(1/17)
أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها - علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان كما قال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض الجاثية 13 وحينئذ يظهر أن قوله جل جلاله الحمد لله مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل وأما قوله جل جلاله رب العالمين فاعلم أن قوله رب مضاف وقوله العالمين مضاف إليه وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب العالمين ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى وهي على ثلاثة أقسام المتحيزات والمفارقات والصفات أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات أما البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية قال أبو العلاء المعري يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هين على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات - لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله لقمان 27 وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله رب العالمين وأما قوله تعالى الرحمن الرحيم فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع كتب الطب حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء ثم يتأمل في أنه تعالى كيف(1/18)
هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرا لا ساحل له وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد فرأيت في النوم كان ملكا نزل من السماء وقال يا جالينوس إن إلهك يقول لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي قال فانتبهت فصنفت فيه كتابا وقال أيضا إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع فرأيت في الهيكل كأن ملكا نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر واكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء وأما قوله تعالى مالك يوم الدين فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا وسنوه كالفراسخ وشهوره كالأميال وأنفاسه كالخطوات ومقصده الوصول إلى عالم أخراه لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة إذا عرفت هذا فنقول قوله مالك يوم الدين إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر وهي قسمان بعضها عقلية محضة وبعضها سمعية أما العقلية المحضة فكقولنا هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه ثم يمكن إعادته مرة اخرى وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس وكيفية أحوالها وصفاتها وكيفية بقائها بعد البدن وكيفية سعادتها وشقاوتها وبيان قدرة الله عز وجل على إعادتها وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية وأما السمعيات فهي على ثلاثة أقسام أحدها الأحوال التي توجد قبل قيام القيامة وتلك العلامات منها صغيرة ومنها كبيرة وهي العلامات العشرة التي سنذكرها ونذكر أحوالها وثانيها الأحوال التي توجد عند قيام القيامة وهي كيفية النفخ في الصورة وموت الخلائق وتخريب السموات والكواكب وموت الروحانيين والجسمانيين وثالثها الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق وكيفية الأحوال التي يشاهدونها وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام وكيفية الحساب وكيفية وزن الأعمال وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار وكيفية صفة أهل الجنة وصفة أهل النار ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار بعد وصولهم إليها وشرح الكلمات التي يذكرونها والأعمال التي يباشرونها ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف من المسائل وهي بأسرها داخلة تحت قوله مالك يوم الدين وأما قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأموز به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا على مقدورات لا نهاية لها عالما بمعلومات لا نهاية لها غنيا عن كل الحاجات فإنه أمر عباده ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه - فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى إياك نعبد ثم إن بعد(1/19)
الفراغ من المقام المذكور لا بد من تفصيل أقسام تلك التكاليف وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي وجميع ما صنف في الدين من كتب الفقه يدخل فيه تكاليف الله ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين وأيضا يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات وأيضا فكتب الفقه مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح اما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل وهي التي تشتمل عليها كتب الأخلاق وكتب السياسات بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى إياك نعبد علم حينئذ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها أما قوله جل جلاله اهدنا الصراط المستقيم فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية ولتحصيل الهداية طريقان أحدهما طلب المعرفة بالدليل والحجة والثاني بتصفية الباطن والرياضة أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية لأنه لا ذرة من ذرات العالم الأعلى والأسفل إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته وبعزة عزته وبجلال صمديته كما قيل وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وتقريره أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية ومختلفة في الصفات وهي الألوان والأمكنة والأحوال ويستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية وإلا لزم حصول الاستواء فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص وتدبير مدبر وذلك المخصص إن كان جسما عاد الكلام فيه وإن لم يكن جسما فهو المطلوب ثم ذلك الموجود إن لم يكن حيا عالما قادرا بل كان تأثيره بالفيض والطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء وإن كان حيا عالما قادرا فهو المطلوب إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات والأرض شاهد صادق ومخبر ناطق بوجود الإله القادر الحكيم العليم وكان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول إن لله تعالى في كل جوهر فرد أنواعا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة وذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل ويمكن أيضا اتصافه بصفات غير متناهية على البدل وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه وأما تحصيل الهداية بطريق الرياضة والتصفية فذلك بحر لا ساحل له ولكل واحد من السائرين إلى الله تعالى منهج خاص ومشرب معين كما قال ولكل وجهة هو موليها ولا وقوف للعقول على تلك الأسرار ولا خبر عند الافهام من مبادئ ميادين تلك الأنوار والعارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة وأسرارا دقيقة قلما ترقى إليها أفهام الأكثرين وأما قوله جل جلاله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فما أجل هذه المقامات وأعظم مراتب هذه الدرجات ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادئ هذه الحالات فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها وأسرار لا غاية(1/20)
لها وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسئلة كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين
الفصل الثاني
في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة
ولنتكلم في قولنا أعوذ بالله فنقول أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل وأما الباء في قوله بالله فهي باء الإلصاق وهي نوع من أنواع حروف الجر وحروف الجر نوع من أنواع الحروف وأما قولنا اله فهو اسم معين إما من أسماء الأعلام او من الأسماء المشتقة على اختلاف القولين فيه والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم وقد ثبت في العلوم العقلية أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس لأن الجنس جزء من ماهية النوع والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة فقولنا أعوذ بالله لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولا وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها ثم بعد الفراغ منه لا بد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم وإلى الاسم المشتق وإلى اسم الجنس وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة الله اسم علم أو اسم مشتق وبتقدير أن يكون مشتقا فهو مشتق من ماذا ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها وأيضا يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق ثم يذكر بعده أقسام الفعل ومن جملتها الفعل المضارع ويذكر حده وخواصه وأقسامه ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا أعوذ على التخصيص وأيضا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله أعوذ بالله ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدا ثم نقول والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة فيجب البحث أيضا عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها وأيضا فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة وهي الكلام والقول واللفظ واللغة والعبارة فيجب البحث عن كل واحد منها ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة أو من الألفاظ المتباينة وبتقدير أن تكون ألفاظا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل ثم نقول والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفسا على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين وأما الحرف(1/21)
فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له وأيضا لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس ويجب أيضا البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح ثم نقول والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع وأما الألوان والأضواء فهي كيفيات محسوسة بحاسة البصر والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة فهل يصح أن يقال هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا ثم نقول والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا ثم نقول والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف ومقولة الكم ومقولة النسبة عرض فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه ثم نقول والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم وهي كيفية وقوع الموجود والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب ثم نقول والمرتبة العاشرة أن نقول لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم وأيضا فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم ولا شك أن المعلوم مقابلة غير المعلوم لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلا لغيره فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلا للمعلوم وجب أن يكون غير المعلوم معلوما فحينئذ يكون المقابل للمعلوم معلوما وذلك محال واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها ولا يحيط عقله بأقل القليل منها فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة
الفصل الثالث
في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة
اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها ثم إذا حكينا فيها مثلا شبهات خمسة فكل واحد منها أيضا مسألة مستقلة(1/22)
بنفسها ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة الثلاثة أيضا مسائل ثلاثة وإذا قلنا مثلا الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجها وفصلنا تلك الوجوه فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة وإذا وقفت على هذه الدقيقة فنقول إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف - عظم الخطب واتسع الباب ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله أعوذ بالله ونرجو من فضل الله العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم
الكتاب الأول
في العلوم المستنبطة من قوله ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) اعلم أن العلوم المستنبطة من هذه الكلمة نوعان أحدهما المباحث المتعلقة باللغة والإعراب والثاني المباحث المتعلقة بعلم الأصول والفروع القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة وفيه أبواب
الباب الأول
في المباحث المتعلقة بالكلمة وما يجري مجراها وفيه مسائل
المسألة الأولى
اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق ثم إن الاشتقاق على نوعين الاشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر أما الاشتقاق الأصغر فمثل اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه واما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة فنقول أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب كقولنا من وقلبه نم وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا حمد وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من التقديرات الثلاث فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه ثم بعد هذه المرتبة أن(1/23)
تكون الكلمة رباعية كقولنا عقرب وثعلب وهي تقبل أربعة وعشرين وجها من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجها ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا سفرجل وهي تقبل مائة وعشرين نوعا من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجها على ما سبق تقريره وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه فاضرب العدد الفوقاني في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني والله أعلم
المسألة الثانية
اعلم أن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جدا وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة وأيضا الكلمات الثلاثية قلما يوجد فيها ما يكون جميع تقاليبها الممكنة معتبرة بل يكون في الأكثر بعضها مستعملا وبعضها مهملا ومع ذلك فإن القدر الممكن منه هو الغاية القصوى في تحقيق الكلام في المباحث اللغوية
المسألة الثالثة
في تفسير الكلمة اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة خمسة منها معتبرة وواحد ضائع فالأول ك ل م فمنه الكلام لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه وأيضا يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى ومنه الكلم للجرح وفيه شدة والكلام ما غلظ من الأرض وذلك لشدته الثاني ك م ل لأن الكامل أقوى من الناقص والثالث ل ك م ومعنى الشدة في اللكم ظاهر والرابع م ك ل ومنه بئر مكول إذا قل ماؤها وإذا كان كذلك كان ورودها مكروها فيحصل نوع شدة عند ورودها الخامس م ل ك يقال ملكت العجين إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوي ومنه ملك الإنسان لأنه نوع قدرة وأملكت الجارية لأن بعلها يقدر عليها
المسألة الرابعة
لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها كلمة ومنها يقال كلمة الشهادة ويقال الكلمة الطيبة صدقة ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز وذلك لوجهين الأول أن المركب إنما يتركب من المفردات فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقا لاسم الجزء على الكل والثاني أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيها بالمفرد في تلك الوجوه والمشابهة سبب من أسباب حسن المجاز فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب
المسألة الخامسة
لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين أحدهما يقال لعيسى كلمة الله إما(1/24)
لأنه حدث بقوله كن أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك والثاني أنه تعالى سمى أفعاله كلمات كما قال تعالى في الآية الكريمة قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم والله أعلم
المسألة السادسة في القول
هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة فالأول ق ول فمنه القول لأن ذلك أمر سهل على اللسان الثاني ق ل و ومنه القلو وهو حمار الوحش وذلك لخفتة في الحركة ومنه قلوت البر والسويق فهما مقلوان لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة ومنه القلولي وهو الخفيف الطائش والثالث و ق ل الوقل الوعل وذلك لحركته ويقال توقل في الجبل إذا صعد فيه والرابع و ل ق يقال ولق يلق إذا أسرع وقرئ إذ تلقونه بألسنتكم أي تخفون وتسرعون والخامس ل وق كما جاء في الحديث لا آكل الطعام إلا ما لوق لي أي أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل والسادس ل ق و ومنه اللقوة وهي العقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش واللقوة الناقة السريعة اللقاح
المسألة السابعة
قال ابن جني رحمه الله تعالى اللغة فعلة من لغوت أي تكلمت وأصلها لغوة ككرة وقلة فإن لاماتها كلها واوات بدليل قولهم كروت بالكرة وقلوت بالقلة وقيل فيه لغي يلغي إذا هذى ومنه قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما قلت إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره ههنا وهو حاصل فيه فالأول ل غ و ومنه اللغة ومنه أيضا الكلام اللغو والعمل اللغو والثاني ل وغ ويبحث عنه والثالث غ ل و ومنه يقال لفلان غلو في كذا ومنه الغلوة والرابع غ ول ومنه قوله تعالى لا فيها غول والخامس و غ ل ومنه يقال فلان أوغل في كذا والسادس و ل غ ومنه يقال ولغ الكلب في الإناء ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه
المسألة الثامنة في اللفظ
وأقول أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز وذلك لأنها إنما تحدث عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج يحبسه في المحابس المعينة ثم يزيل ذلك الحبس فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه والحاصل أن اللفظ هو الرمي وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين الأول أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه وذلك هو الإخراج واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب والثاني أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيها بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج والمشابهة إحدى أسباب المجاز
المسألة التاسعة
العبارة وتركيبها من ع ب ر وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال فالأول ع ب ر ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر وأيضا كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع ومنه العبرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل(1/25)
بواسطته من أحد طرفي البحر إلى الثاني ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة والثاني ع ر ب ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف ومنه فلان أعرب في كلامه لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولا فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان والثالث ب ر ع ومنه فلان برع في كذا إذا تكامل وتزايد الرابع ب ع ر ومنه البعر لكونه منتقلا من الداخل إلى الخارج الخامس ر ع ب ومنه يقال للخوف رعب لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حال أخرى والسادس ر ب ع ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها
المسالة العاشرة
قال أكثر النحويين الكلمة غير الكلام فالكلمة هي اللفظة المفردة والكلام هو الجملة المفيدة وقال أكثر الأصوليين إنه لا فرق بينهما فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاما مشعر بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة وذكر كلمات اخرى إلا أنها في غاية الضعف أما الأصوليون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه الأول أن العقلاء قد اتفقوا على أن الكلام ما يضاد الخرس والسكوت والتكلم بالكلمة الواحدة يضاد الخرس والسكوت فكان كلاما الثاني أن اشتقاق الكلمة من الكلم وهو الجرح والتأثير ومعلوم أن من سمع كلمة واحدة فإنه يفهم معناها فههنا قد حصل معنى التأثير فوجب أن يكون كلاما والثالث يصح أن يقال إن فلانا تكلم بهذه الكلمة الواحدة ويصح أن يقال أيضا أنه ما تكلم إلا بهذه الكلمة الواحدة وكل ذلك يدل على أن الكلمة الواحدة كلام وإلا لم يصح أن يقال تكلم بالكلمة الواحدة الرابع أنه يصح أن يقال تكلم فلان بكلام غير تام وذلك يدل على أن حصول الإفادة التامة غير معتبر في اسم الكلام
المسألة الحادية عشرة
تفرع على الاختلاف المذكور مسألة فقهية وهي أولى مسائل أيمان الجامع الكبير لمحمد بن الحسن رحمه الله تعالى وهي أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها إن كلمتك فأنت طالق ثلاث مرات قالوا عن ذكر هذا الكلام في المرة الثانية طلقت طلقة واحدة وهل تنعقد هذه الثانية طلقة قال أبو حنيفة وصاحباه تنعقد وقال زفر لا تنعقد وحجة زفر أنه لما قال في المرة الثانية إن كلمتك فعند هذا القدر من الكلام حصل الشرط لأن اسم الكلام اسم لكل ما أفاد شيئا سواء أفاد فائدة تامة أو لم يكن كذلك وإذا حصل الشرط حصل الجزاء وطلقت عند قوله إن كلمتك فوقع تمام قوله أنت طالق خارج تمام ملك النكاح وغير مضاف إليه فوجب أن لا تنعقد وحجة أبي حنيفة أن الشرط - وهو قوله إن كلمتك - غير تام والكلام اسم للجملة التامة فلم يقع الطلاق إلا عند تمام قوله إن كلمتك فأنت طالق وحاصل الكلام أنا إن قلنا إن اسم الكلام يتناول الكلمة الواحدة كان القول قول زفر وإن قلنا لا يتناول إلا الجملة فالقول قول أبي حنيفة ومما يقوي قول زفر أنه لو قال في المرة الثانية إن كلمتك وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله فأنت طالق طلقت ولولا أن هذا القدر كلام وإلا لما طلقت ومما يقوي قول أبي حنيفة أنه لو قال كلما كلمتك فأنت طالق ثم ذكر هذه الكلمة في المرة الثانية فكلمة كلما توجب التكرار فلو كان التكلم بالكلمة الواحدة كلاما لوجب أن يقع عليه الطلقات الثلاث عند قوله في المرة الثانية كلما كلمتك وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله فأنت طالق لأن هذا المجموع مشتمل على ذكر الكلمات الكثيرة وكل واحد منها يوجب وقوع الطلاق وأقول لعل زفر يلتزم ذلك(1/26)
المسالة الثانية عشرة
محل الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وزفر ينبغي أن يكون مخصوصا بما إذا قال إن كلمتك فأنت طالق أما لو قال إن تكلمت بكلمة فأنت طالق أو قال إن نطقت أو قال إن تلفظت بلفظة أو قال إن قلت قولا فأنت طالق وجب أن يكون الحق في جميع هذه المسائل قول زفر قولا واحدا والله أعلم
المسالة الثالثة عشرة
لفظ الكلمة والكلام هل يتناول المهمل أم لا منهم من قال يتناوله لأنه يصح أن يقال الكلام منه مهمل ومنه مستعمل ولأنه يصح أن يقال تكلم بكلام غير مفهوم ولأن المهمل يؤثر في السمع فيكون معنى التأثير والكلام حاصلا فيه ومنهم من قال الكلمة والكلام مختصان بالمفيد إذ لو لم يعتبر هذا القيد لزم تجويز تسمية أصوات الطيور بالكلمة والكلام
المسألة الرابعة عشرة
إذا حصلت أصوات متركبة تركيبا يدل على المعاني إلا أن ذلك التركيب كان تركيبا طبيعيا لا وضعيا فهل يسمى مثل تلك الأصوات كلمة وكلاما مثل أن الإنسان عند الراحة أو الوجع قد يقول أخ وعند السعال قد يقول أح أح فهذه أصوات مركبة وحروف مؤلفة وهي دالة على معان مخصوصة لكن دلالتها على مدلولاتها بالطبع لا بالوضع فهل تسمى أمثالها كلمات وكذلك صوت القطا يشبه كأنه يقول قطا وصوت اللقلق يشبه كانه يقول لق لق فأمثال هذه الأصوات هل تسمى كلمات اختلفوا فيه وما رأيت في الجانبين حجة معتبرة وفائدة هذا البحث تظهر فيما إذا قال إن سمعت كلمة فعبدي حر فهل يترتب الحنث والبر على سماع هذه الألفاظ أم لا
المسالة الخامسة عشرة
قال ابن جني لفظ القول يقع على الكلام التام وعلى الكلمة الواحدة على سبيل الحقيقة أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة أما تركيب الكلام فيفيد التأثير وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة ومما يقوي ذلك قول الشاعر قلت لها قفي فقالت قاف
سمي نطقها بمجرد القاف قولا
المسألة السادسة عشرة
قال أيضا إن لفظ القول يصح جعله مجازا عن الاعتقادات والآراء كقولك فلان يقول بقول أبي حنيفة ويذهب إلى قول مالك أي يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به ألا ترى أنك لو سألت رجلا عن صحة رؤية الله تعالى فقال لا تجوز رؤيته فتقول هذا قول المعتزلة ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازا عنه
المسألة السابعة عشرة
لفظ قال قد يستعمل في غير النطق قال أبو النجم - قالت له الطير تقدم راشدا
إنك لا ترجع إلا حامدا(1/27)
وقال آخر - وقالت له العينان سمعا وطاعة
وحدرتا كالدر لما يثقب
وقال - امتلأ الحوض وقال قطني
مهلا رويدا قد ملأت بطني
ويقال في المثل قال الجدار للوتد لم تشقني قال سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورأيي ومنه قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون النحل 40 وقوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فصلت 11
المسألة الثامنة عشرة
الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر أما القرآن فقوله تعالى والله يشهد أن المنافقين لكاذبون المنافقون وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمدا رسول الله وكانوا صادقين فيه فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في القول اللساني قوله أخبروا أن محمدا رسول الله قلنا لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمدا رسول الله لأنهم كانوا قالوا نشهد إنك لرسول الله المنافقون والشهادة لا تحصل إلا مع العلم وهم ما كانوا عالمين به فثبت أنهم كانوا كاذبين فيما أخبروا عنه بالقول اللساني وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة كنت قد زورت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر وأما الشعر فقول الأخطل - إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما الذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم وأيضا الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ ومن أصحابنا من قال اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني المسألة التاسعة عشرة هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث قال الله تعالى فليأتوا بحديث مثله والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضا ان يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني والله أعلم المسألة العشرون ههنا الفاظ كثيرة فأحدها الكلمة وثانيها الكلام وثالثها القول ورابعها اللفظ وخامسها العبارة وسادسها الحديث وقد شرحناها بأسرها وسابعها النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها وبتقدير حصول المباينة فما الفرق
المسألة الحادية والعشرون
في حد الكلمة قال الزمخشري في أول المفصل الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع وهذا التعريف ليس بجيد لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع فهذا التعريف غلط لأنها دالة على أمرين حدث وزمان وكذا القول في أسماء(1/28)
الأفعال كقولنا مه وصه وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ فغلط وجعله صفة للمعنى
المسألة الثانية والعشرون
اللفظ إما أن يكون مهملا وهو معلوم أو مستعملا وهو على ثلاثة أقسام أحدها أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء من المعاني البتة وهذا هو اللفظ المفرد كقولنا فرس وجمل وثانيها أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء أصلا حين هو جزؤه أما باعتبار آخر فإنه يحصل لأجزائه دلالة على المعاني كقولنا عبد الله فإنا إذا اعتبرنا هذا المجموع اسم علم لم يحصل لشيء من أجزائه دلالة على شيء أصلا أما إذا جعلناه مضافا ومضافا إليه فإنه يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على شيء آخر وهذا القسم نسميه بالمركب وثالثها أن يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على مدلول آخر على جميع الاعتبارات وهو كقولنا العالم حادث والسماء كرة وريد منطلق وهذا نسميه بالمؤلف
المسألة الثالثة والعشرون
المسموع المفيد ينقسم إلى أربعة أقسام لأنه إما أن يكون اللفظ مؤلفا والمعنى مؤلفا كقولنا الإنسان حيوان وغلام زيد وإما أن يكون المسموع مفردا والمعنى مفردا وهو كقولنا الوحدة والنقطة بل قولنا الله سبحانه وتعالى وإما أن يكون اللفظ مفردا والمعنى مؤلفا وهو كقولك إنسان فإن اللفظ مفرد والمعنى ماهية مركبة من أمور كثيرة وإما أن يكون اللفظ مركبا والمعنى مفردا وهو محال
المسألة الرابعة والعشرون
الكلمة هي اللفظة المفردة الدالة بالاصطلاح على معنى وهذا التعريف مركب من قيود أربعة فالقيد الأول كونه لفظا والثاني كونه مفردا وقد عرفتهما والثالث كونه دالا وهو احتراز عن المهملات والرابع كونه دالا بالاصطلاح وسنقيم الدلالة على أن دلالات الألفاظ وضعية لا ذاتية
المسألة الخامسة والعشرون
قيل الكلمة صوت مفرد دال على معنى بالوضع قال أبو علي بن سينا في كتاب الأوسط وهذا غير جائز لأن الصوت مادة واللفظ جنس وذكر الجنس أولى من ذكر المادة وله كلمات دقيقة في الفرق بين المادة والجنس ومع دقتها فهي ضعيفة قد بينا وجه ضعفها في العقليات وأقول السبب عندي في أنه لا يجوز ذكر الصوت أن الصوت ينقسم إلى صوت الحيوان وإلى غيره وصوت الإنسان ينقسم إلى ما يحدث من حلقة وإلى غيره والصوت الحادث من الحلق ينقسم إلى ما يكون حدوثه مخصوصا بأحوال مخصوصة مثل هذه الحروف وإلى ما لا يكون كذلك مثل الأصوات الحادثة عند الأوجاع والراحات والسعال وغيرها فالصوت جنس بعيد واللفظ جنس قريب وإيراد الجنس القريب أولى من الجنس البعيد
المسالة السادسة والعشرون
قالت المعتزلة الشرط في كون الكلمة مفيدة أن تكون مركبة من حرفين فصاعدا فنقضوه بقولهم ق وع وأجيب عنه بأنه مركب في التقدير فإن الأصل أن يقال قي وعي بدليل أن عند التثنية يقال قيا وعيا وأجيب عن هذا الجواب بان ذلك مقدر أما الواقع فحرف واحد وأيضا نقضوه بلام التعريف وبنون التنوين وبالإضافة فإنها بأسرها حروف مفيدة والحرف نوع داخل تحت جنس الكلمة ومتى صدق النوع فقد صدق الجنس فهذه الحروف كلمات مع أنها غير مركبة(1/29)
المسألة السابعة والعشرون
الأولى أن يقال كل منطوق به أفاد شيئا بالوضع فهو كلمة وعلى هذا التقدير يدخل فيه المفرد والمركب وبقولنا منطوق به يقع الاحتراز عن الخط والإشارة
المسألة الثامنة والعشرون
دلالة الألفاظ على مدلولاتها ليست ذاتية حقيقية خلافا لعباد لنا أنها تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة والذاتيات لا تكون كذلك حجة عباد أنه لو لم تحصل مناسبات مخصوصة بين الألفاظ المعينة والمعاني المعينة وإلا لزم أن يكون تخصيص كل واحد منها بمسماه ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال وجوابنا أنه ينتقض باختصاص حدوث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده وإلا لم يرجح ويشكل أيضا باختصاص كل إنسان باسم علمه المعين
المسألة التاسعة والعشرون
وقد يتفق في بعض الألفاظ كونه مناسبا لمعناه مثل تسميتهم القطا بهذا الاسم لأن هذا اللفظ يشبه صوته وكذا القول في اللقلق وأيضا وضعوا لفظ الخضم لأكل الرطب نحو البطيخ والقثاء ولفظ القضم لأكل اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها لأن حرف الخاء يشبه صوت أكل الشيء الرطب وحرف القاف يشبه صوت أكل الشيء اليابس ولهذا الباب أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في الخصائص
المسألة الثلاثون
لا يمكننا القطع بان دلالة الألفاظ توقيفية ومنهم من قطع به واحتج فيه بالعقل والنقل أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقا بوضع آخر لا إلى نهاية وهو محال فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف الله تعالى وأما النقل فقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها البقرة 31 وأجيب عن الأول بأنه لم لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة وعن الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام وأيضا لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام
المسألة الحادية والثلاثون
لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح خلافا للمعتزلة واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضروريا كان العلم بالموصوف أيضا ضروريا فلو خلق الله تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم بالله ضروريا وذلك يقدح في صحة التكليف وأجيب عنه بأنه لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يخلق علما ضروريا في القلب بأن واضعا وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال
المسالة الثانية والثلاثون
لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وان تكون كلها اصطلاحية وأن يكون بعضها توقيفيا وبعضها اصطلاحيا
المسألة الثالثة والثلاثون
اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئا لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفادا من ذلك اللفظ لزم الدور وهو محال وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى وحينئذ يندفع الدور(1/30)
المسألة الرابعة والثلاثون
والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية أما التركيبات فعقلية فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات فظهر الفرق
المسألة الخامسة والثلاثون
للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال الألفاظ تدل على المعاني لأن المعاني هي التي عناها العاني وهي أمور ذهنية والدليل على ما ذكرناه من وجهين الأول أنا إذا رأينا جسما من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيرا قلنا إنه طير فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان الخارجية الثاني أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديما حادثا معا وهو محال أما إذا قلنا أنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين الحكمين من هذين الإنسانين وذلك لا يتناقض
المسألة السادسة والثلاثون
لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ لأن الماهيات غير متناهية وما لا نهاية له لا يكون مشعورا به على التفصيل وما لا يكون مشعورا به امتنع وضع الاسم بإزائه
المسألة السابعة والثلاثون
كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم كان وضع اللفظ بإزائه أولى مثل صيغ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملا والمانع زائلا وإذا كان الداعي قويا والمانع زائلا كان الفعل به واجب الحصول
المسالة الثامنة والثلاثون
المعنى الذي يكون خفيا عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلا من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد أما الذي يقول به بعض المتكلمين - وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال - فهو أمر خفي لا يتصورة إلا الخواص من الناس وإذا كان كذلك وجب أن يقال الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسما لنفس العالمية والقدرة اسما للقادرية لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية
المسألة التاسعة والثلاثون في المعنى
المعنى اسم للصورة الذهنية لا للموجودات الخارجية لأن المعنى عبارة عن الشيء الذي عناه العاني وقصده القاصد وذاك بالذات هو الأمور الذهنية وبالعرض الأشياء الخارجية فإذا قيل إن القائل أراد بهذا اللفظ هذا المعنى فالمراد أنه قصد بذكر ذلك اللفظ تعريف ذلك الأمر المتصور المسألة الأربعون
قد يقال في بعض المعاني إنه لا يمكن تعريفها بالألفاظ مثل أنا ندرك بالضرورة تفرقة بين الحلاوة المدركة من النبات والحلاوة المدركة من الطبرزذ فيقال إنه لا سبيل إلى تعريف هذه التفرقة بحسب اللفظ وأيضا ربما اتفق حصول أحوال في نفس بعض الناس ولا يمكنه تعريف تلك الحالة بحسب التعريفات اللفظية إذا عرفت هذا فنقول أما القسم الأول فالسبب فيه أن ما به يمتاز حلاوة النبات(1/31)
من حلاوة الطبرزذ ما وضعوا له في اللغة لفظة معينة بل لا يمكن ذكرها إلا على سبيل الإضافة مثل أن يقال حلاوة النبات وحلاوة الطبرزذ فلما لم توضع لتلك التفرقة لفظة مخصوصة لا جرم لا يمكن تعريفها باللفظ ولو أنهم وضعوا لها لفظة لقد كان يمكن تعريفها باللفظ على ذلك التقدير وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان إذا أدرك من نفسه حالة مخصوصة وسائر الناس ما أدركوا تلك الحالة المخصوصة استحال لهذا المدرك وضع لفظ لتعريفة لأن السامع ما لم يعرف المسمى أولا لم يمكنه أن يفهم كون هذا اللفظ موضوعا له فلما لم يحصل تصور تلك المعاني عند السامعين امتنع منهم أن يتصوروا كون هذه الألفاظ موضوعة لها فلا جرم امتنع تعريفها أما لو فرضنا أن جماعة تصوروا تلك المعاني ثم وضعوا لها ألفاظا مخصوصة فعلى هذا التقدير كان يمكن تعريف تلك الأحوال بالبيانات اللفظية - فهكذا يجب أن يتصور معنى ما يقال إن كثيرا من المعاني لا يمكن تعريفها بالألفاظ
المسألة الحادية والأربعون
في الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني وهي أن الإنسان خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع مهماته فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه التوسل به إلى الاستعانة بالغير ولا بد لذلك التعريف من طريق والطرق كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء إلا أن أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ ويدل عليه وجوه أحدها أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت والأصوات عند تقطيعاتها أسباب لحدوث الحروف المختلفة وهذه المعاني تحصل من غير كلفة ومعونة بخلاف الكتابة والإشارة وغيرهما والثاني أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في الحال فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي والثالث أن الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف الكثيرة وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات تكاد أن تصير غير متناهية فإذا جعلنا لكل واحد من المعاني واحدا من تلك الكلمات توزعت الألفاظ على المعاني من غير التباس واشتباه ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق فلهذه الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة بان أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ
المسألة الثانية والأربعون
كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وجوهر النفس في أصل الخلقة عار عن هذين الكمالين ولا يمكنها اكتساب هذه الكمالات إلا بواسطة هذا البدن فصار تخليق هذا البدن مطلوبا لهذه الحكمة ثم إن مصالح هذا البدن ما كانت تتم إلا إذا كان القلب ينبوعا للحرارة الغريزية ولما كانت هذه الحرارة قوية احتاجت إلى الترويح لأجل التعديل فدبر الخالق الرحيم الحكيم هذا المقصود بأن جعل للقلب قوة انبساط بها يجذب الهواء البارد من خارج البدن إلى نفسه ثم إذا بقي ذلك الهواء في القلب لحظة تسخن واحتد وقويت حرارته فاحتاج القلب إلى دفعة مرة أخرى وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفسا والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل فوقع تخليق البدن في المرتبة الثانية من المطلوبية ووقع تخليق القلب وجعله منبعا للحرارة الغريزية في المرتبة الثالثة ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح في المرتبة الرابعة ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق في المرتبة الخامسة ووقع صرف ذلك(1/32)
الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت في المرتبة السادسة ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع في المرتبة السابعة مادة للصوت وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين وحينئذ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها ثم أودع في هذا النطق والكلام حكما عالية وأسرارا باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية
المسألة الثالثة والأربعون
ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاما أيضا وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة بل أمرا وضعيا اصطلاحيا والتحقيق في هذا الباب أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلما بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات
المسألة الرابعة والأربعون
لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر قالت المعتزلة صيغة افعل لفظة موضوعة لإرادة الفعل وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر الفلاني كذا وكذا وقال أصحابنا الطلب النفساني مغاير للإرادة والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان وهذا متفق عليه ولكن لم يرد منه الإيمان ولو أراده لوقع ويدل عليه وجهان الأول أن قدرة الكافر إن كانت موجبة للكفر كان خالق تلك القدرة مريدا للكفر لأن مريد العلة مريد للمعلول وإن كانت صالحة للكفر والإيمان امتنع رجحان أحدهما على الآخر إلا بمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع القدرة مع الداعية موجبا للكفر ومريد العلة مريد للمعلول فثبت أنه تعالى مريد الكفر من الكافر والثاني أنه تعالى عالم بأن الكافر يكفر وحصول هذا العلم ضد لحصول الإيمان والجمع بين الضدين محال والعالم بكون الشيء ممتنع الوقوع لا يكون مريدا له فثبت أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان وثبت أنه لا يريد منه الإيمان فوجب أن يكون مدلول أمر الله تعالى فعل شيء آخر سوى الإرادة وذلك هو المطلوب وأما بيان أن الحكم الذهني مغاير للاعتقاد والعلم فالدليل عليه أن القائل إذا قال العالم قديم فمدلول هذا اللفظ هو حكم هذا القائل بقدم العالم وقد يقول القائل بلسانه هذا مع أنه يعتقد أن العالم ليس بقديم فعلمنا أن الحكم الذهني حاصل والاعتقاد غير حاصل فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد
المسالة الخامسة والأربعون
مدلولات الألفاظ قد تكون أشياء مغايرة للألفاظ كلفظة السماء والأرض وقد تكون مدلولاتها أيضا ألفاظا كقولنا اسم وفعل وحرف وعام وخاص ومجمل ومبين فإن هذه الألفاظ أسماء ومسمياتها أيضا ألفاظ(1/33)
المسألة السادسة والأربعون
طريق معرفة اللغات إما العقل وحده وهو محال وإما النقل المتواتر أو الآحاد وهو صحيح وإما ما يتركب عنهما كما إذا قيل ثبت بالنقل جواز إدخال الاستثناء على صيغة من وثبت بالنقل أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فيه فيلزم من مجموعهما بحكم العقل كون تلك الصيغة موضوعة للعموم وعلى هذا الطريق تعويل الأكثرين في إثبات أكثر اللغات وهو ضعيف لأن هذا الاستدلال إنما يصح لو قلنا إن واضع تينك المقدمتين وجب أن يكون معترفا بهذه الملازمة وإلا لزم التناقض لكن الواضع للغات لو ثبت أنه هو الله تعالى وجب تنزيهه عن المناقضة أما لو كان هو الناس لم يجب ذلك ولما كان هذا الأصل مشكوكا كان ذلك الدليل مثله
المسألة السابعة والأربعون
اللغات المنقولة إلينا بعضها منقول بالتواتر وبعضها منقول بالآحاد وطعن بعضهم في كونها متواترة فقال أشهر الألفاظ هو قولنا الله وقد اختلفوا فيها فقيل إنها ليست عربية بل هي عبرية وقيل إنها اسم علم وقيل إنها من الأسماء المشتقة وذكروا في اشتقاقها وجوها عشرة وبقي الأمر في هذه الاختلافات موقوفا إلى الآن وأيضا فلفظة الإيمان والكفر قد اختلفوا فيهما اختلافا شديدا وكذا صيغ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص مع أنها أشد الألفاظ شهرة وإذا كان الحال كذلك في الأظهر الأقوى فما ظنك بما سواها والحق أن ورود هذه الألفاظ في أصول هذه الموارد معلوم بالتواتر فأما ماهياتها واعتباراتها فهي التي اختلفوا فيها وذلك لا يقدح في حصول التواتر في الأصل
المسالة الثامنة والأربعون
منهم من سلم حصول التواتر في بعض هذه الألفاظ في هذا الوقت إلا أنه زعم أن حال الأدوار الماضية غير معلوم فلعل النقل ينتهي في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد وليس لقائل أن يقول لو وقع ذلك لاشتهر وبلغ إلى حد التواتر لأن هذه المقدمة إن صحت فإنما تصح في الوقائع العظيمة وأما التصرفات في الألفاظ فهي وقائع حقيرة والحق أن العلم الضروري حاصل بأن لفظ السماء والأرض والجدار والدار كان حالها وحال أشباهها في الأزمنة الماضية كحالها في هذا الزمان
المسألة التاسعة والأربعون
لا شك أن أكثر اللغات منقول بالآحاد ورواية الواحد إنما تفيد الظن عند اعتبار أحوال الرواة وتصفح أحوالهم بالجرح والتعديل ثم إن الناس شرطوا هذه الشرائط في رواة الأحاديث ولم يعتبروها في رواة اللغات مع أن اللغات تجري مجرى الأصول للأحاديث ومما يؤكد هذا السؤال أن الأدباء طعن بعضهم في بعض بالتجهيل تارة وبالتفسيق أخرى والعداوة الحاصلة بين الكوفيين والبصريين مشهورة ونسبة أكثر المحدثين أكثر الأدباء إلى ما لا ينبغي مشهورة وإذا كان كذلك صارت رواياتهم غير مقبولة وبهذا الطريق تسقط أكثر اللغات عن درجات القبول والحق أن أكثر اللغات قريب من التواتر وبهذا الطريق يسقط هذا الطعن
المسألة الخمسون
دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات ونقل الإعرابات والتصريفات مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحادا ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن وأيضا فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم النقل وعدم الإجمال وعدم التخصيص وعدم المعارض العقلي فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنا والله أعلم(1/34)
الباب الثاني
في المباحث المستبنطة من الصوت والحروف وأحكامها وفيه مسائل
المسألة الأولى
ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع وأقول أن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به بل هذا الذي ذكره إن كان ولا بد فهو إشارة إلى سبب حدوثه لا إلى تعريف ماهيته
المسألة الثانية
يقال إن النظام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم وأبطلوه بوجوه منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولا وثانيا وليس الصوت كذلك ومنها أن الجسم باق والصوت ليس كذلك وأقول النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول إنه عين ذلك الهواء
المسألة الثالثة
قال بعضهم الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة وهو باطل لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة والصوت ليس كذلك وقيل الصوت نفس القرع أو القلع وقيل أنه تموج الحركة وكل ذلك باطل لأن هذه الأحوال مبصرة والصوت غير مبصر والله أعلم
المسألة الرابعة
قيل سببه القريب تموج الهواء ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئا فشيئا لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون وأما سبب التموج فإمساس عنيف وهو القرع أو تفريق عنيف وهو القلع ويرجع في تحقيق هذا إلى كتبنا العقلية حد الحرف
المسألة الخامسة
قال الشيخ الرئيس في حد الحرف إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزا في المسموع
المسالة السادسة
الحروف إما مصوتة وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء وهي لا توجد إلا في الآن الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر ثم هذه على قسمين منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر وإن كانت زمانية بحسب الحس مثل الحاء والخاء فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آني الوجود في نفس الأمر لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفا واحدا زمانيا ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمراره(1/35)
المسألة السابعة
الحرف لا بد وأن يكون إما ساكنا أو متحركا ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه لأنهما من صفات الأجسام بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص
المسألة الثامنة
الحركات أبعاض المصوتات والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا
المسألة التاسعة
الصامت سابق على المصوت الذي يسمى بالحركة بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور وهو محال
المسألة العاشرة
الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديما لوجهين الأول أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث والثاني أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معا لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها والماهيات لا تقبل الزوال ولا العدم فكانت قديمة وأما النقل فهو أن كلام الله قديم وكلام الله ليس إلا هذه الحروف فوجب القول بقدم هذه الحروف أما أن كلام الله قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو لم يكن كلام الله قديما لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصا ثم صار فيما لا يزال كاملا وذلك بإجماع المسلمين باطل وإنما قلنا إن كلام الله تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه أحدها قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله التوبة 6 ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف فدل هذا على أن هذه الحروف كلام الله وثانيها أن من حلف على سماع الله تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف وثالثها أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول
إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي فيلزمكم قدم الكل وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلا
المسألة الحادية عشرة
إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبنى الإيمان على العرف وإذا قلنا كلام الله قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات وإذا قلنا كلام الله معجزة لمحمد عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة فإن القديم كان موجودا قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له وإذا قلنا كلام الله سور وآيات عنينا به هذه الحروف وإذا قلنا كلام الله فصيح عنينا به هذه الألفاظ وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضا هذه الألفاظ(1/36)
المسألة الثانية عشرة
زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى وهذا باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بان الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة وأيضا فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح وزعموا انها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ولا فرق بين القولين إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى وحده وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب
المسألة الثالثة عشرة
قالت الكرامية الكلام اسم للقدرة على القول بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم وإن لم يكن في الحال مشتغلا بالقول وأيضا فضد الكلام هو الخرس لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول وإذا ثبت هذا فهم يقولون إن كلام الله تعالى قديم بمعنى أن قدرته على القول قديمة أما القول فإنه حادث هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه
المسألة الرابعة عشرة
قالت الحشوية للأشعرية إن كان مرادكم من قولكم إن القرآن قديم هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديما لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبرا عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديما بهذا التفسير وأن المراد من كونه قديما وجها آخر سوى ذلك فلا بد من بيانه والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقا بجميع المخبرات وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال واعلم أنا لا نقول إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذبا والكذب في كلام الله محال لأنه تعالى لما أخبر أن أقواما أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذبا وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص والإخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص وهو على الله محال واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه والله أعلم بالصواب
الباب الثالث
في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف وفيه مسائل
المسالة الأولى
اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين الأول أن الكلمة إما أن يصح الإخبار عنها وبها وهي الاسم وإما أن لا يصح الإخبار عنها لكن يصح الإخبار بها وهي الفعل وإما أن لا يصح الإخبار عنها ولا بها وهو الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الإخبار عنهما وعلى أن الاسم يصح الإخبار عنه فلنذكر البحثين في مسألتين(1/37)
المسألة الثانية
اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الإخبار عنهما قالوا لأنه لا يجوز أن يقال ضرب قتل ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام وأيضا فإنه لا يصح أن يقال جدار سماء ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الإخبار عنه وبه لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام فكذا ههنا ثم قيل الذي يدل على صحة الإخبار عن الفعل والحرف وجوه الأول أنا إذا أخبرنا عن ضرب يضرب أضرب بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبا وليس كذلك وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبرا عنه فإن قالوا المخبر عنه بهذا الخبر هو هو هذه الصيغ وهي أسماء قلنا هذا السؤال ركيك لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسما فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال وقد أبطلناه الثاني إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم الثالث أن قولنا الفعل لا يخبر عنه إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه وذلك متناقض فإن قالوا المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ فنقول قد أجبنا على هذا السؤال فإنا نقول المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسما فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم وإن كان فعلا فقد صار الفعل مخبرا عنه الرابع الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها وكل ما كان كذلك صح الإخبار عنه بكونه ممتازا عن غيره فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز الخامس الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلا على المعنى وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولا لتلك الصيغة فهذه سؤالات صبعة في هذا المقام
المسألة الثالثة
طعن قوم في قولهم الاسم ما يصح الإخبار عنه بأن قالوا لفظة أين وكيف وإذا أسماء مع أنه لا يصح الإخبار عنها وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا الاسم ما جاز الأخبار عنه أردنا به ما جاز الإخبار عن معناه ويصح الإخبار عن معنى إذا لأنك إذا قلت آتيك إذا طلعت الشمس كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس والوقت يصح الإخبار عنه بدليل أنك تقول طاب الوقت وأقول وهذا العذر ضعيف لأن إذا ليس معناه الوقت فقط بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفا لشيء آخر والوقت حال ما جعل ظرفا لحادث آخر فإنه لا يمكن الإخبار عنه البتة فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته اسما وجب كونه اسما فنقول هذا باطل لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسما وجب أن يكون الفعل اسما لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر وهو اسم ولما كان هذا باطلا فكذا ما قالوه
المسألة الرابعة
في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول الكلمة إما أن يكون معناها مستقلا بالمعلومية أو لا يكون والثاني هو الحرف أما الأول فإما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه وهو الفعل أو لا يدل وهو الاسم وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل
المسألة الخامسة
في تعريف الاسم الناس ذكروا فيه وجوها
التعريف الأول
أن الاسم هو الذي يصح الإخبار عن معناه واعلم أن صحة الإخبار عن ماهية(1/38)
الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود والإشكال عليه من وجهين الأول أن الفعل والحرف يصح الإخبار عنهما والثاني أن إذا وكيف وأين لا يصح الإخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين
التعريف الثاني
أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلا أو مفعولا أو مضافا واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الإخبار عنه
التعريف الثالث
أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع وهذا أيضا رسم لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين أحدهما المبنيات فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب والثاني أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابها للاسم وهذا التعريف أيضا ضعيف
التعريف الرابع
قال الزمخشري في المفصل الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه الأول أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع ثم ذكر فيما كتب من حواشي المفصل أنه إنما وجب ذكر اللفظ لأنا لو قلنا الكلمة هي الدالة على المعنى لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك مع أنها ليست أسماء والثاني أن الضمير في قوله في نفسه إما أن يكون عائدا إلى الدال أو إلى المدلول أو إلى شيء ثالث فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله وهذا عبث ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل فإنه لفظ يدل على مدلوله وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى وذلك يقتضي كون الشيء حاصلا في نفسه وهو محال فإن قالوا معنى كونه حاصلا في نفسه أنه ليس حاصلا في غيره فنقول فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها
التعريف الخامس
أن يقال الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة فإن قالوا لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا قلنا لأنا جعلنا اللفظ جنسا للكلمة والكلمة جنس للاسم والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل إنه باطل طردا وعكسا أما الطرد فمن وجوه الأول أن كل ما كان معلوما فإنه لا بد وأن يكون مستقلا بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره وإذا كان تصوره في نفسه متقدما على تصورة مع غيره كان مستقلا بالمعلومية الثاني أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية وذلك استقلال الثالث أن النحويين اتفقوا على أن الباء تفيد الإلصاق ومن تفيد التبعيض فمعنى الإلصاق إن كان مستقلا بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلا بالمعلومية فيصير الحرف اسما وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقل بالمعلومية فيصير الاسم حرفا وأما العكس فهو أن قولنا كم وكيف ومتى وإذا وما الاستفهامية والشرطية كلها أسام مع أن مفهوماتها غير مستقلة وكذلك الموصولات الثالث أن قولنا من غير دلالة على زمان ذلك المعنى يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم وبالاصطباح وبالاغتباق والجواب عن(1/39)
السؤال الأول أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا كتبت بالقلم فنريد بالاستقلال هذا القدر فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن المسمى والذي يدل على ما تقدم قولهم اغتبق يغتبق فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق
المسألة السادسة
علامات الاسم إما أن تكون لفظية أو معنوية فاللفظية إما أن تحصل في أول الاسم وهو حرف تعريف أو حرف جر أو في حشوه كياء التصغير وحرف التكسير أو في آخره كحرفي التثنية والجمع وأما المعنوية فهي كونه موصوفا وصفة وفاعلا ومفعولا ومضافا إليه ومخبرا عنه ومستحقا للإعراب بأصل الوضع
المسألة السابعة
ذكروا للفعل تعريفات
التعريف الأول
قال سيبويه أنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول
التعريف الثاني
أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر ويمتنع استناد شيء آخر إليها
التعريف الثالث
قال الزمخشري الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان وهو ضعيف لوجهين الأول أنه يجب أن يقال كلمة دالة على اقتران حدث بزمان وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه أحدها أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة وثانيها أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة وثالثها أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك
التعريف الرابع
الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمرا ثابتا كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدميا مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر وإنما قلنا في زمان معين احترازا عن الأسماء واعلم أن في هذه القيود مباحثات القيد الأول هو قولنا يدل على ثبوت المصدر لشيء فيه إشكالات الأول أنا إذا قلنا خلق الله العالم فقولنا خلق إما أن يدل على ثبوت الخلق لله سبحانه وتعالى أو لا يدل فإن لم يدل بطل ذلك القيد وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايرا للمخلوق وهو إن كان محدثا افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وإن كان قديما لزم قدم المخلوق والثاني أنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل فإن لم يدل بطل هذا القيد وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلا لشيء غيره وذلك الغير يجب أن يكون حاصلا في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقا بحصول آخر إلى غير النهاية وهو محال والثالث إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية وذلك محال لأن العدم والفناء نفي محض(1/40)
فكيف يعقل حصولهما لغيرهما والرابع أن على تقدير أن يكون الوجود زائدا على الماهية فإنه يصدق قولنا أنه حصل الوجود لهذه الماهية فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية وهو محال وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء وإلا لزم أن يكون الوجود زائدا على الماهية ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية
وأما القيد الثاني
وهو قولنا في زمان معين ففيه سؤالات أحدها أنا إذا قلنا وجد الزمان أو قلنا فني الزمان فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر ولزم التسلسل فإن قالوا يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعا في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب قلنا الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوما كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلا وكذبا وثانيها أنا إذا قلنا كان العالم معدوما في الأزل فقولنا كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل وهو محال فإن قالوا ذلك الزمان مقدر لا محقق قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال وإن لم يطابق كان كذبا ولزم فساد الحد وثالثها أنا إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل فهذا يقتضي كون الله زمانيا وهو محال ورابعها أنه ينتقض بالأفعال الناقصة فإن كان الناقصة إما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل فإن دلت كان تاما لا ناقصا لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاما تاما لا ناقصا وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلا وخامسها أنه يبطل بأسماء الأفعال فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين وسادسها أن اسم الفاعل يتناول إما الحال وإما الاستقبال ولا يتناول الماضي البتة فهو دال على الزمان المعين والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء والثلاثة المذكورة على قولنا الفعل يدل الزمان فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم سواء كان حقا أو باطلا وأما قوله يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة قلنا الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقا إلا أن الاسم الذي يستند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا كان الشيء بمعنى حدث وحصل وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا كان زيد منطلقا فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضا الحدوث والوقوع إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين لا جرم وجب ذكرهما ههنا فكما أن قولنا كان زيد معناه انه حصل ووجد فكذا قولنا كان زيد منطلقا معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق وهذا بحث عميق دقيق غفل الأولون عنه وقوله خامسا يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلا دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة وقوله سادسا اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال قلنا لا نسلم بدليل أنهم قالوا إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل
المسألة الثامنة
الكلمة إما أن يكون معناها مستقلا بالمعلومية أو لا يكون وهذا الأخير هو الحرف فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي ثم نقول والمستقل بالمعلومية إما أن يدل على الزمان المعين(1/41)
لذلك المسمى أو لا يدل والذي لا يدل هو الاسم فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية
المسألة التاسعة
إذا قلنا ضرب فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين بحسب هذا اللفظ فإن قالوا هذا محال ويدل عليه وجهان الأول أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب الثاني أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين وإلا لزم التناقض ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لأسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاما ولا محتملا للتصديق والتكذيب وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
المسألة العاشرة
قالوا الحرف ما جاء المعنى في غيره وهذا لفظ مبهم لأنهم إن أرادوا معنى الحرف أن الحرف ما دل على معنى يكون المعنى حاصلا في غيره وحالا في غيره لزمهم إن تكون أسماء الأعراض والصفات كلها حروفا وإن أرادوا به أنه الذي دل على معنى يكون مدلول ذلك اللفظ غير ذلك المعنى فهذا ظاهر الفساد وإن أرادوا به معنى ثالثا فلا بد من بيانه
المسألة الحادية عشرة
التركيبات الممكنة من هذه الثلاثة ستة الاسم مع الاسم وهو الجملة الحاصلة من المبتدأ والخبر والاسم مع الفعل وهو الجملة الحاصلة من الفعل والفاعل وهاتان الجملتان مفيدتان بالاتفاق وأما الثالث - وهو الاسم مع الحرف - فقيل إنه يفيد في صورتين
الصورة الأولى
قولك يا زيد فقيل ذلك إنما أفاد لأن قولنا يا زيد في تقدير أنادي واحتجوا على صحة قولهم بوجهين الأول أن لفظ يا تدخله الإمالة ودخول الإمالة لا يكون إلا في الاسم أو الفاعل والثاني أن لام الجر تتعلق بها فيقال يالزيد فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر ولو لم يكن قولنا يا قائمة مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر لأن الحرف لا يدخل على الحرف ومنهم من أنكر أن يكون يا بمعنى أنادي واحتج عليه بوجوه الأول أن قوله أنادي إخبار عن النداء والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون قولنا أنادي زيدا مغايرا لقولنا يا زيد الثاني أن قولنا أنادي زيدا كلام محتمل للتصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها الثالث أن قولنا يا زيد ليس خطابا إلا مع المنادى وقولنا أنادي زيدا غير مختص بالمنادى الرابع أن قولنا يا زيد يدل على حصول النداء في الحال وقولنا أنادي زيدا لا يدل على اختصاصه بالحال الخامس أنه يصح أن يقال أنادي زيدا قائما ولا يصح أن يقال يا زيد قائما فدلت هذه الوجوه الخمسة على حصول التفرقة بين هذين اللفظين
الصورة الثانية
قولنا زيد في الدار فقولنا زيد مبتدأ والخبر هو ما دل عليه قولنا في إلا أن المفهوم من معنى الظرفية قد يكون في الدار أو في المسجد فأضيفت هذه الظرفية إلى الدار لتتميز هذه الظرفية عن سائر أنواعها فإن قالوا هذا الكلام إنما أفاد لأن التقدير زيد استقر في الدار وزيد مستقر في الدار فنقول هذا باطل لأن قولنا استقر معناه حصل في الاستقرار فكان قولنا فيه يفيد حصولا آخر وهو أنه حصل فيه(1/42)
حصول ذلك الاستقرار وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال فثبت أن قولنا زيد في الدار كلام تام ولا يمكن تعليقه بفعل مقدر مضمر
المسألة الثانية عشرة
الجملة المركبة إما أن تكون مركبة تركيبا أوليا أو ثانويا اما المركبة تركيبا أوليا فهي الجملة الاسمية أو الفعلية والأشبه أن الجملة الاسمية أقدم في المرتبة من الجملة الفعلية لأن الاسم بسيط والفعل مركب والبسيط مقدم على المركب فالجملة الاسمية يجب أن تكون أقدم من الجملة الفعلية ويمكن أن يقال بل الفعلية أقدم لأن الاسم غير أصيل في أن يسند إلى غيره فكانت الجملة الفعلية أقدم من الجملة الاسمية وأما المركبة تركيبا ثانويا فهي الجملة الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لأن قولك الشمس طالعة جملة وقولك النهار موجود جملة أخرى ثم أدخلت حرف الشرط في إحدى الجملتين وحرف الجزاء في الجملة الأخرى فحصل من مجموعها جملة واحدة والله سبحانه وتعالى أعلم
الباب الرابع
في تقسيمات الاسم إلى أنواعه وهي من وجوه
التقسيم الأول
إما أن يكون نفس تصور معناه مانعا من الشركة أو لا يكون فإن كان الأول فإما أن يكون مظهرا وهو العلم وإما أن يكون مضمرا وهو معلوم وأما إذا لم يكن مانعا من الشركة فالمفهوم منه إما أن يكون ماهية معينة وهو أسماء الأجناس وإما أن يكون مفهومة أنه شيء ما موصوف بالصفة الفلانية وهو المشتق كقولنا أسود فإن مفهومه أنه شيء ما له سواد فثبت بما ذكرناه أن الاسم جنس تحته أنواع ثلاثة أسماء الأعلام وأسماء الأجناس والأسماء المشتقة فلنذكر أحكام هذه الأقسام
النوع الأول
أحكام الأعلام وهي كثيرة الحكم الأول قال المتكلمون اسم العلم لا يفيد فائدة أصلا وأقول حق أن العلم لا يفيد صفة في المسمى وأما ليس بحق أنه لا يفيد شيئا وكيف وهو يفيد تعريف تلك الذات المخصوصة الحكم الثاني اتفقوا على أن الأجناس لها أعلام فقولنا أسد اسم جنس لهذه الحقيقة وقولنا ثعالة اسم علم لها وأقول الفرق ين اسمالجنس وبين علم الجنس من وجهين الأول أن اسم العلم هو الذي يفيد الشخص المعين من حيث إنه المعين فإذا سمينا أشخاصا كثيرين باسم زيد فليس ذلك لأجل أن قولنا زيد موضوع لإفادة القدر المشترك بين تلك الأشخاص بل لأجل أن لفظ زيد وضع لتعريف هذه الذات من حيث أنها هذه ولتعرف تلك من حيث إنها تلك على سبيل الاشتراك إذا عرفت هذا فنقول إذا قال الواضع وضعت لفظ أسامة لإفادة ذات كل واحد من أشخاص الأسد بعينها من حيث هي هي على سبيل الاشتراك اللفظي كان ذلك علم الجنس وإذا قال وضعت لفظ الأسد لإفادة الماهية التي هي القدر المشترك بين هذه الأشخاص فقط من غير أن يكون فيها دلالة على الشخص المعين كان هذا اسم الجنس فقد ظهر الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس الثاني أنهم وجدوا أسامة اسما غير منصرف وقد تقرر عندهم أنه ما لم يحصل في الاسم شيئان لم يخرج(1/43)
عن الصرف ثم وجدوا في هذا اللفظ التأنيث ولم يجدوا شيئا آخر سوى العلمية فاعتقدوا كونه علما لهذا المعنى
الحكم الثالث
اعلم أن الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام أنه ربما اختص نوع بحكم واحتيج إلى الاخبار عنه بذلك الحكم الخاص ومعلوم أن ذلك الإخبار على سبيل التخصيص غير ممكن إلا بعد ذكر المخبر عنه على سبيل الخصوص فاحتيج إلى وضع الأعلام لهذه الحكمة الحكم الرابع أنه لما كانت الحاجات المختلفة تثبت لأشخاص الناس فوق ثبوتها لسائر الحيوانات لا جرم كان وضع الأعلام للأشخاص الإنسانية أكثر من وضعها لسائر الذوات العلم اسم ولقب وكنية
الحكم الخامس في تقسيمات الأعلام وهي من وجوه الأول العلم إما أن يكون اسما كإبراهيم وموسى وعيسى أو لقبا كإسرائيل أو كنية كأبي لهب واعلم أن هذا التقسيم يتفرع عليه أحكام الحكم الأول الشيء إما أن يكون له الاسم فقط أو اللقب فقط أو الكنية فقط أو الاسم مع اللقب أو الاسم مع الكنية أو اللقب مع الكنية واعلم أن سيبويه أفرد أمثلة الأقسام المذكورة من تركيب الكنية والاسم وهي ثلاثة أحدها الذي له الاسم والكنية كالضبع فإن اسمها حضاجر وكنيتها أم عامر وكذلك يقال للأسد أسامة وأبو الحارث وللثعلب ثعالة وأبو الحصين وللعقرب شبوة وأم عريط وثانيها أن يحصل له الاسم دون الكنية كقولنا قثم لذكر الضبع ولا كنية له وثالثها الذي حصلت له الكنية ولا اسم له كقولنا للحيوان المعين أبو براقش الحكم الثالث الكنية قد تكون بالإضافات إلى الآباء وإلى الأمهات وإلى البنين وإلى البنات فالكنى بالآباء كما يقال للذئب أبو جعدة للأبيض وأبو الجون وأما الأمهات فكما يقال للداهية أم حبو كرى وللخمر أم ليلى واما البنون فكما يقال للغراب ابن دأية وللرجل الذي يكون حاله منكشفا ابن جلا وأما البنات فكما يقال للصدى ابنة الجبل وللحصاة بنت الأرض والحكم الرابع الإضافة في الكنية قد تكون مجهولة النسب نحو ابن عرس وحمار قبان وقد تكون معلومة النسب نحو ابن لبون وبنت لبون وابن مخاض وبنت مخاض لأن الناقة إذا ولدت ولدا ثم حمل عليها بعد ولادتها فإنها لا تصير مخاضا إلا بعد سنة والمخاض الحامل المقرب فولدها إن كان ذكرا فهو ابن مخاض وإن كان أنثى فهي بنت مخاض ثم إذا ولدت وصار لها لبن صارت لبونا فأضيف الولد إليها بإضافة معلومة الحكم الخامس إذا اجتمع الاسم واللقب فالاسم إما أن يكون مضافا أو لا فإن لم يكن مضافا أضيف الاسم إلى اللقب يقال هذا سعيد كرز وقيس بطة لأنه يصير المجموع بمنزلة الاسم الواحد وأما إن كان الاسم مضافا فهم يفردون اللقب فيقولون هذا عبد الله بطة الحكم السادس المقتضي لحصول الكنية أمور أحدها الاخبار عن نفس الأمر كقولنا أبو طالب فإنه كني بابنه طالب وثانيها التفاؤل والرجا كقولهم أبو عمرو لمن يرجو ولدا يطول عمره وأبو الفضل لمن يرجو ولدا جامعا للفضائل وثالثها الإيماء إلى الضد كأبي يحيى للموت ورابعها أن يكون الرجل إنسانا مشهورا وله أب مشهور فيتقارضان الكنية فإن يوسف كنيته أبو يعقوب ويعقوب كنيته أبو يوسف وخامسها اشتهار الرجل بخصلة فيكنى بها إما بسبب اتصافه بها أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد
التقسيم الثاني للأعلام
العلم إما أن يكون مفردا كزيد أو مركبا من كلمتين لا علاقة بينهما(1/44)
كبعلبك أو بينهما علاقة وهي إما علاقة الإضافة كعبد الله وأبي زيد أو علاقة الإسناد وهي إما جملة اسمية أو فعليه ومن فروع هذا الباب أنك إذا جعلت جملة اسم علم لم تغيرها البتة بل تتركها بحالها مثل تأبط شرا وبرق نحوه
التقسيم الثالث
العلم إما أن يكون منقولا أو مرتجلا أما المنقول فإما أن يكون منقولا عن لفظ مفيد أو غير مفيد والمنقول من المفيد إما أن يكون منقولا عن الاسم أو الفعل أو الحرف أو ما يتركب منها أما المنقول عن الاسم فإما أن يكون عن اسم عين كأسد وثور او عن اسم معنى كفضل ونصر أو صفة حقيقية كالحسن أو عن صفة إضافية كالمذكور والمردود والمنقول عن الفعل إما أن يكون منقولا عن صيغة الماضي كشمر أو عن صيغة المضارع كيحيى او عن الأمر كاطرقا والمنقول عن الحرف كرجل سميته بصيغة من صيغ الحروف وأما المنقول عن المركب من هذه الثلاثة فإن كان المركب مفيدا فهو المذكور في التقسيم الثاني وإن كان غير مفيد فهو يفيد وأما المنقول عن صوت فهو مثل تسمية بعض العلوية بطباطبا وأما المرتجل فقد يكون قياسا مثل عمران وحمدان فإنهما من أسماء الأجناس مثل سرحان وندمان وقد يكون شاذا قلما يوجد له نظير مثل محبب وموهب
التقسيم الرابع
الأعلام إما أن تكون للذوات أو المعاني وعلى التقديرين فإما أن يكون العلم علم الشخص أو علم الجنس فههنا أقسام أربعة وقبل الخوض في شرح هذه الأقسام فيجب أن تعلم أن وضع الأعلام للذوات أكثر من وضعها للمعاني لأن أشخاص الذوات هي التي يتعلق الغرض بالإخبار عن أحوالها على سبيل التعيين أما أشخاص الصفات فليست كذلك في الأغلب ولنرجع إلى أحكام الأقسام الأربعة فالقسم الأول العلم للذوات والشرط فيه أن يكون المسمى مألوفا للواضع والأصل في المألوفات الإنسان لأن مستعمل أسماء الأعلام هو الإنسان وإلف الشيء بنوعه أتم من إلفه بغير نوعه وبعد الإنسان الأشياء التي يكثر احتياج الإنسان إليها وتكثر مشاهدته لها ولهذا السبب وضعوا أعوج ولاحقا علمين لفرسين وشذقما وعليا لفحلين وضمران لكلب وكساب لكلبة وأما الأشياء التي لا يألفها الإنسان فقلما يضعون الأعلام لأشخاصها أما القسم الثاني فهو علم الجنس للذوات وهو مثل أسامة للأسد وثعالة للثعلب وأما القسم الثالث فهو وضع الأعلام للأفراد المعينة من الصفات وهو مفقود لعدم الفائدة وأما القسم الرابع فهو علم الجنس للمعاني والضابط فيه أنا إذا رأينا حصول سبب واحد من الأسباب التسعة المانعة من الصرف ثم منعوه الصرف علمنا أنهم جعلوه علما لما ثبت أن المنع من الصرف لا يحصل إلا عند اجتماع سببين وذكر ابن جني أمثلة لهذا الباب وهي تسميتهم التسبيح بسبحان والغدو بكيسان لأنهما غير منصرفين فالسبب الواحد - وهو الألف والنون - حاصل ولا بد من حصول العلمية ليتم السببان
التقسيم الخامس للأعلام
اعلم أن اسم الجنس قد ينقلب اسم علم كما إذا كان المفهوم من اللفظ أمرا كليا صالحا لأن يشترك فيه كثيرون ثم إنه في العرف يختص بشخص بعينه مثل النجم فإنه في الأصل اسم لكل نجم ثم اختص في العرف بالثريا وكذلك السماك اسم مشتق من الارتفاع ثم اختص بكوكب معين(1/45)
الباب الخامس
في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة وهي كثيرة
أما أحكام أسماء الأجناس فهي أمور
الحكم الأول
الماهية قد تكون مركبة وقد تكون بسيطة وقد ثبت في العقليات أن المركب قبل البسيط في الجنس وأن البسيط قبل المركب في الفصل وثبت بحسب الاستقراء أن قوة الجنس سابقة على قوة الفصل في الشدة والقوة فوجب أن تكون أسماء الماهيات المركبة سابقة على أسماء الماهيات البسيطة
الحكم الثاني
أسماء الأجناس سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقة لأن الاسم المشتق متفرع على الاسم المشتق منه فلو كان اسمه أيضا مشتقا لزم إما التسلسل أو الدور وهما محالان فيجب الانتهاء في الاشتقاقات إلى أسماء موضوعة جامدة فالموضوع غني عن المشتق والمشتق محتاج إلى الموضوع فوجب كون الموضوع سابقا بالرتبة على المشتق ويظهر بهذا أن هذا الذي يعتاده اللغويون والنحويون من السعي البليغ في أن يجعلوا كل لفظ مشتقا من شيء آخر سعي باطل وعمل ضائع
الحكم الثالث
الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن إما متحيز أو حال في المتحيز أو لا متحيز ولا حال في المتحيز أما هذا القسم الثالث فالشعور به قليل وإنما يحصل الشعور بالقسمين الأولين ثم إنه ثبت بالدليل أن المتحيزات متساوية في تمام ذواتها وأن الاختلاف بينها إنما يقع بسبب الصفات القائمة بها فالأسماء الواقعة على كل واحد من أنواع الأجسام يكون المسمى بها مجموع الذات مع الصفات المخصوصة القائمة بها هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب وأما أحكام الأسماء المشتقة فهي أربعة الحكم الأول ليس من شرط الاسم المشتق أن تكون الذات موصوفة بالمشتق منه بدليل أن المعلوم مشتق من العلم مع أن العلم غير قائم بالمعلوم وكذا القول في المذكور والمرئي والمسموع وكذا القول في اللائق والرامي الحكم الثاني شرط صدق المشتق حصول المشتق منه في الحال بدليل أن من كان كافرا ثم أسلم فإنه يصدق عليه أنه ليس بكافر وذلك يدل على أن بقاء المشتق منه شرط في صدق الاسم المشتق الحكم الثالث المشتق منه إن كان ماهية مركبة لا يمكن حصول أجزائها على الاجتماع مثل الكلام والقول والصلاة فإن الاسم المشتق إنما يصدق على سبيل الحقيقة عند حصول الجزء الأخير من تلك الأجزاء
الحكم الرابع
المفهوم من الضارب أنه شيء ما له ضرب فأما أن ذلك الشيء جسم أو غيره فذلك خارج عن المفهوم لا يعرف إلا بدلالة الالتزام
الباب السادس
في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني وذكر الأحكام المفرعة على هذين القسمين وفيه مسائل
المسألة الأولى
في لفظ الإعراب وجهان أحدهما أن يكون مأخوذا من قولهم أعرب عن نفسه إذا بين ما في ضميره فإن الإعراب إيضاح المعنى والثاني أن يكون أعرب منقولا من قولهم عربت معدة الرجل إذا فسدت فكان المراد من الإعراب إزالة الفساد ورفع الإبهام مثل أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته(1/46)
المسالة الثانية
إذا وضع لفظ الماهية وكانت تلك الماهية موردا لأحوال مختلفة وجب أن يكون اللفظ موردا لأحوال مختلفة لتكون الأحوال المختلفة اللفظية دالة على الأحوال المختلفة المعنوية كما أن جوهر اللفظ لما كان دالا على أصل الماهية كان اختلاف أحواله دالا على اختلاف الأحوال المعنوية فتلك الأحوال المختلفة اللفظية الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية هي الإعراب
المسألة الثالثة
الأفعال والحروف أحوال عارضة للماهيات والعوارض لا تعرض لها عوارض أخرى هذا هو الحكم الأكثري وإنما الذي يعرض لها الأحوال المختلفة هي الذوات والألفاظ الدالة عليها هي الأسماء فالمستحق للإعراب بالوضع الأول هو الأسماء
المسألة الرابعة
إنما اختص الإعراب بالحرف الأخير من الكلمة لوجهين الأول أن الأحوال العارضة للذات لا توجد إلا بعد وجود الذات واللفظ لا يوجد إلا بعد وجود الحرف الأخير منه فوجب أن تكون العلامات الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية لا تحصل إلا بعد تمام الكلمة الثاني أن اختلاف حال الحرف الأول والثاني من الكلمة للدلالة على اختلاف أوزان الكلمة فلم يبق لقبول الأحوال الإعرابية إلا الحرف الأخير من الكلمة
المسالة الخامسة
الإعراب ليس عبارة عن الحركات والسكنات الموجودة في أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات والإعراب غير موجود فيها بل الإعراب عبارة عن استحقاقها لهذه الحركات بسبب العوامل المحسوسة وذلك الاستحقاق معقول لا محسوس والإعراب حاجة معقولة لا محسوسة المسألة السادسة
إذا قلنا في الحرف إنه متحرك أو ساكن فهو مجاز لأن الحركة والسكون من صفات الأجسام والحرف ليس بجسم بل المراد من حركة الحرف صوت مخصوص يوجد عقيب التلفظ بالحرف والسكون عبارة عن أن يوجد الحرف من غير أن يعقبه ذلك الصوت المخصوص المسمى بالحركة
المسألة السابعة
الحركات إما صريحة أو مختلسة والصريحة إما مفردة أو غير مفردة فالمفردة ثلاثة وهي الفتحة والكسرة والضمة وغير المفردة ما كان بين بين وهي ستة لكل واحدة قسمان فللفتحة ما بينها وبين الكسرة أو ما بينها وبين الضمة أو ما بينها وبين الفتحة والضمة على هذا القياس فالمجموع تسعة وهي أما مشبعة او غير مشبعة فهي ثمانية عشر والتاسعة عشرة المختلسة وهي ما تكون حركة وإن لم يتميز في الحس لها مبدأ وتسمى الحركة المجهولة وبها قرأ أبو عمرو فتوبوا إلى بارئكم البقرة 54 مختلسة الحركة من بارئكم وغير ظاهرة بها
المسألة الثامنة
لما كان المرجع بالحركة والسكون في هذا الباب إلى أصوات مخصوصة لم يجب القطع بانحصار الحركات في العدد المذكور قال ابن جني اسم المفتاح بالفارسية - وهو كليد - لا يعرف أن أوله متحرك أو ساكن قال وحدثني أبو علي قال دخلت بلدة فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل فتعجبت منها وأقمت هناك أياما فتكلمت أيضا بها فلما فارقت تلك البلدة نسيتها
المسألة التاسعة
الحركة الإعرابية متأخرة عن الحرف تأخرا بالزمان ويدل عليه وجهان الأول أن(1/47)
الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال وأمثالها إنما تحدث في آخر زمان حبس النفس وأول إرساله وذلك أن فاصل ما بين الزمانين غير منقسم والحركة صوت يحدث عند إرسال النفس ومعلوم أن ذلك الآن متقدم على ذلك الزمان فالحرف متقدم على الحركة الثاني أن الحروف الصلبة لا تقبل التمديد والحركة قابلة للتمديد فالحرف والحركة لا يوجدان معا لكن الحركة لا تتقدم على الحرف فبقي أن يكون الحرف متقدما على الحركة
المسألة العاشرة
الحركات أبعاض من حروف المد واللين ويدل عليه وجوه الأول أن حروف المد واللين قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فله طرفان ولا طرف لها في النقصان إلا هذه الحركات الثاني أن هذه الحركات إذا مددناها ظهرت حروف المد واللين فعلمنا أن هذه الحركات ليست إلا أوائل تلك الحروف الثالث لو لم تكن الحركات أبعاضا لهذه الحروف لما جاز الاكتفاء بها لأنها إذا كانت مخالفة لها لم تسد مسدها فلم يصح الاكتفاء بها منها بدليل استقراء القرآن والنثر والنظم وبالجملة فهب أن إبدال الشيء من مخالفه القريب منه جائز إلا أن إبدال الشيء من بعضه أولى فوجب حمل الكلام عليه
المسألة الحادية عشرة
الابتداء بالحرف الساكن محال عند قوم وجائز عند آخرين لأن الحركة عبارة عن الصوت الذي يحصل التلفظ به بعد التلفظ بالحرف وتوقيف الشيء على ما يحصل بعده محال
المسألة الثانية عشرة
أثقل الحركات الضمة لأنها لا تتم إلا بضم الشفتين ولا يتم ذلك إلا بعمل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفة وأما الكسرة فإنه يكفي في تحصيلها العضلة الواحدة الجارية ثم الفتحة يكفي فيها عمل ضعيف لتلك العضلة وكما دلت هذه المعالم التشريحية على ما ذكرناه فالتجربة تظهره أيضا واعلم أن الحال فيما ذكرناه يختلف بحسب أمزجة البلدان فإن أهل أذربيجان يغلب على جميع ألفاظهم إشمام الضمة وكثير من البلاد يغلب على لغاتهم إشمام الكسرة والله أعلم
المسألة الثالثة عشرة
الحركات الثلاثة مع السكون إن كانت إعرابية سميت بالرفع والنصب والجر أو الخفض والجزم وإن كانت بنائية سميت بالفتح والضم والكسر والوقف
المسألة الرابعة عشرة
ذهب قطرب إلى أن الحركات البنائية مثل الإعرابية والباقون خالفوه وهذا الخلاف لفظي فإن المراد من التماثل إن كان هو التماثل في الماهية فالحس يشهد بأن الأمر كذلك وإن كان المراد حصول التماثل في كونها مستحقة بحسب العوامل المختلفة فالعقل يشهد أنه ليس كذلك
المسألة الخامسة عشرة
من أراد أن يتلفظ بالضمة فإنه لا بد له من ضم شفتيه أولا ثم رفعهما ثانيا ومن أراد التلفظ بالفتحة فإنه لا بد له من فتح الفم بحيث تنتصب الشفة العليا عند ذلك الفتح ومن أراد التلفظ بالكسرة فإنه لا بد له من فتح الفم فتحا قويا والفتح القوي لا يحصل إلا بانجرار اللحي الأسفل وانخفاضة فلا جرم يسمى ذلك جرا وخفضا وكسرا لأن انجرار القوى يوجب الكسر وأما الجزم فهو القطع وأما أنه لم سمي وقفا وسكونا فعلته ظاهرة
المسألة السادسة عشرة
منهم من زعم أن الفتح والضم والكسر والوقف أسماء للأحوال البنائية كما أن الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية ومنهم من جعل الأربعة الأول أسماء تلك الأحوال سواء كانت(1/48)
بنائية أو إعرابية وجعل الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية فتكون الأربعة الأولى بالنسبة إلى الأربعة الثانية كالجنس بالنسبة إلى النوع
المسالة السابعة عشرة
أن سيبويه يسميها بالمجاري ويقول هي ثمانية وفيه سؤالان الأول لم سمي الحركات بالمجاري فإن الحركة نفسها الجري والمجرى موضع الجري فالحركة لا تكون مجرى وجوابه أنا بينا أن الذي يسمى ههنا بالحركة فهو في نفسه ليس بحركة إنما هو صوت يتلفظ به بعد التلفظ بالحرف الأول فالمتكلم لما انتقل من الحرف الصامت إلى هذا الحرف فهذا الحرف المصوت إنما حدث لجريان نفسه وامتداده فلهذا السبب صحت تسميته بالمجرى السؤال الثاني قال المازني غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة والمبني لا يزول عن حاله فلم يجز تسميته بالمجاري - بل كان الواجب أن يقال المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج ولا تحرك عند الوقف فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقا
المسألة الثامنة عشرة
الإعراب اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل بحركة أو حرف تحقيقا أو تقديرا أما الاختلاف فهو عبارة عن موصوفية آخر تلك الكلمة بحركة أو سكون بعد أن كان موصوفا بغيرها ولا شك أن تلك الموصوفية حالة معقولة لا محسوسة فلهذا المعنى قال عبد القاهر النحوي الإعراب حالة معقولة لا محسوسة وأما قوله باختلاف العوامل فاعلم أن اللفظ الذي تلزمه حالة واحدة أبدا هو المبني وأما الذي يختلف آخره فقسمان أحدهما أن لا يكون معناه قابلا للأحوال المختلفة كقولك أخذت المال من زيد فتكون من ساكنة ثم تقول أخذت المال من الرجل فتفتح النون ثم تقول أخذت المال من ابنك فتكون مكسورة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة إلا أنه ليس بإعراب لأن المفهوم من كلمة من لا يقبل الأحوال المختلفة في المعنى وأما القسم الثاني وهو الذي يختلف آخر الكلمة عند اختلاف أحوال معناها - فذلك هو الإعراب
المسألة التاسعة عشرة
أقسام الإعراب ثلاثة الأول الإعراب بالحركة وهي في أمور ثلاثة أحدها الاسم الذي لا يكون آخره حرفا من حروف العلة سواء كان أوله أو وسطه معتلا أو لم يكن نحو رجل ووعد وثوب وثانيها أن يكون آخر الكلمة واوا أو ياء ويكون ما قبله ساكنا فهذا كالصحيح في تعاقب الحركات عليه تقول هذا ظبي وغزو ومن هذا الباب المدغم فيهما كقولك كرسي وعدو لأن المدغم يكون ساكنا فسكون الياء من كرسي والواو من عدو كسكون الباء من ظبي والزاي من غزو وثالثها أن تكون الحركة المتقدمة على الحرف الأخير من الكلمة كسرة وحينئذ يكون الحرف الأخير ياء وإذا كان آخر الكلمة ياء قبلها كسرة كان في الرفع والجر على صورة واحدة وهي السكون وأما في النصب فإن الياء تحرك بالفتحة قال الله تعالى أجيبوا داعي الله الأحقاف 31 القسم الثاني من الإعراب ما يكون بالحرف وهو في أمور ثلاثة أحدها في الأسماء الستة مضافة وذلك جاءني أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال ورأيت أباه ومررت بأبيه وكذا في البواقي وثانيها كلا مضافا إلى مضمر تقول جاءني كلاهما ومررت بكليهما ورأيت كليهما وثالثها التثنية والجمع تقول جاءني مسلمان ومسلمون(1/49)
ورأيت مسلمين ومسلمين ومررت بمسلمين ومسلمين والقسم الثالث الإعراب التقديري وهو في الكلمة التي يكون آخرها ألفا وتكون الحركة التي قبلها فتحة فإعراب هذه الكلمة في الأحوال الثلاثة على صورة واحدة تقول هذه رحا ورأيت رحا ومررت برحا
المسألة العشرون
أصل الإعراب أن يكون بالحركة لأنا ذكرنا أن الأصل في الإعراب أن يجعل الأحوال العارضة للفظ دلائل على الأحوال العارضة للمعنى والعارض للحرف هو الحركة لا الحرف الثاني وأما الصور التي جاء إعرابها بالحروف فذلك للتنبيه على أن هذه الحروف من جنس تلك الحركات
المسألة الحادية والعشرون
الاسم المعرب ويقال له المتمكن نوعان أحدهما ما يستوفي حركات الإعراب والتنوين وهو المنصرف والأمكن والثاني ما لا يكون كذلك بل يحذف عنه الجر والتنوين ويحرك بالفتح في موضع الجر إلا إذا أضيف أو دخله لام التعريف ويسمى غير المنصرف والأسباب المانعة من الصرف تسعة فمتى حصل في الاسم اثنان منها أو تكرر سبب واحد فيه امتنع من الصرف وهي العلمية والتأنيث اللازم لفظا ومعنى ووزن الفعل الخاص به أو الغالب عليه والوصفية والعدل والجمع الذي ليس على زنة واحدة والتركيب والعجمة في الأعلام خاصة والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث سبب منع الصرف
المسألة الثانية والعشرون
إنما صار اجتماع اثنين من هذه التسعة مانعا من الصرف لأن كل واحد منها فرع والفعل فرع عن الاسم فإذا حصل في الاسم سببان من هذه التسعة صار ذلك الاسم شبيها بالفعل في الفرعية وتلك المشابهة تقتضي منع الصرف فهذه مقدمات أربع
المقدمة الأولى
في بيان أن كل واحد من هذه التسعة فرع أما بيان أن العلمية فرع فلأن وضع الاسم للشيء لا يمكن إلا بعد صيرورته معلوما والشيء في الأصل لا يكون معلوما ثم يصير معلوما وأما أن التأنيث فرع فبيانه تارة بحسب اللفظ وأخرى بحسب المعنى أما بحسب اللفظ فلأن كل لفظة وضعت لماهية فإنها تقع على الذكر من تلك الماهية بلا زيادة وعلى الأنثى بزيادة علامة التأنيث وأما بحسب المعنى فلأن الذكر أكمل من الأنثى والكامل مقصود بالذات والناقص مقصود بالعرض وأما أن الوزن الخاص بالفعل أو الغالب عليه فرع فلأن وزن الفعل فرع للفعل والفعل فرع للاسم وفرع الفرع فرع وأما أن الوصف فرع فلأن الوصف فرع عن الموصوف واما أن العدل فرع فلأن العدول عن الشيء إلى غيره مسبوق بوجود ذلك الأصل وفرع عليه وأما أن الجمع الذي ليس على زنته واحد فرع فلأن ذلك الوزن فرع على وجود الجمع لأنه لا يوجد إلا فيه والجمع فرع على الواحد لأن الكثرة فرع على الوحدة وفرع الفرع فرع وبهذا الطريق يظهر أن التركيب فرع وأما أن المعجمة فرع فلأن تكلم كل طائفة بلغة أنفسهم أصل وبلغة غيرهم فرع واما أن الألف والنون في سكران وأمثاله يفيدان الفرعية فلأن الألف والنون زائدان على جوهر الكلمة والزائد فرع فثبت بما ذكرنا أن هذه الأسباب التسعة توجب الفرعية
المقدمة الثانية
في بيان أن الفعل فرع والدليل عليه أن الفعل عبارة عن اللفظ الدال على وقوع المصدر في زمان معين فوجب كونه فرعا على المصدر(1/50)
المقدمة الثالثة
أنه لما ثبت ما ذكرناه ثبت أن الاسم الموصوف بأمرين من تلك الأمور التسعة يكون مشابها للفعل في الفرعية ومخالفا له في كونه اسما في ذاته والأصل في الفعل عدم الإعراب كما ذكرنا فوجب أن يحصل في مثل هذا الاسم أثران بحسب كل واحد من الاعتبارين المذكورين وطريقة أن يبقى إعرابها من أكثر الوجوه ويمنع من إعرابها من بعض الوجوه ليتوفر على كل واحد من الاعتبارين ما يليق به
المسألة الثالثة والعشرون
إنما ظهر هذا الأثر في منع التنوين والجر لأجل أن التنوين يدل على كمال الاسم فإذا ضعف الاسم بحسب حصول هذه الفرعية أزيل عنه ما دل على كمال حاله وأما الجر فلأن الفعل يحصل فيه الرفع والنصب وأما الجر فغير حاصل فيه فلما صارت الأسماء مشابهة للفعل لا جرم سلب عنها الجر الذي هو من خواص الأسماء
المسألة الرابعة والعشرون
هذه الأسماء بعد أن سلب عنها الجر إما أن تترك ساكنة في حال الجر أو تحرك والتحريك أولى تنبيها على أن المانع من هذه الحركة عرضي لا ذاتي ثم النصب أول الحركات لأنا رأينا أن النصب حمل على الجر في التثنية والجمع السالم فلزم هنا حمل الجر على النصب تحقيقا للمعارضة
المسألة الخامسة والعشرون
اتفقوا على أنه إذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف كقوله مررت بالأحمر والمساجد وعمركم ثم قيل السبب فيه أن الفعل لا تدخل عليه الألف واللام والإضافة فعند دخولهما على الاسم خرج الاسم عن مشابهة الفعل قال عبد القاهر هذا ضعيف لأن هذه الأسماء إنما شابهت الأفعال لما حصل فيها من الوصفية ووزن الفعل وهذه المعاني باقية عند دخول الألف واللام والإضافة فيها فبطل قولهم إنه زالت المشابهة وأيضا فحروف الجر والفاعلية والمفعولية من خواص الأسماء ثم إنها تدخل على الأسماء مع أنها تبقى غير منصرفة والجواب عن الأول أن الإضافة ولام التعريف من خواص الأسماء فإذا حصلتا في هذه الأسماء فهي وإن ضعفت في الاسمية بسبب كونها مشابهة للفعل إلا أنها قويت بسبب حصول خواص الأسماء فيها إذا عرفت هذا فنقول أصل الاسمية يقتضي قبول الإعراب من كل الوجوه إلا أن المشابهة للفعل صارت معارضة للمقتضى فإذا صار هذا المعارض معارضا بشيء آخر ضعف المعارض فعاد المقتضى عاملا عمله وأما السؤال الثاني فجوابه أن لام التعريف والإضافة أقوى من الفاعلية والمفعولية لأن لام التعريف والإضافة يضادان التنوين والضدان متساويان في القوة فلما كان التنوين دليلا على كمال القوة فكذلك الإضافة وحرف التعريف
المسألة السادسة والعشرون
لو سميت رجلا بأحمر لم تصرفه بالاتفاق لاجتماع العلمية ووزن الفعل أما إذا نكرته فقال سيبويه لا أصرفه وقال الأخفش أصرفه واعلم أن الجمهور يقولون في تقرير مذهب سيبويه على ما يحكى أن المازني قال قلت للأخفش كيف قلت مررت بنسوة أربع فصرفت مع وجود الصفة ووزن الفعل قال لأن أصله الاسمية فقلت فكذا لا تصرف أحمر اسم رجل إذا نكرته لأن أصله الوصفية قال المازني فلم يأت الأخفش بمقنع وأقول كلام المازني ضعيف لأن الصرف ثبت على وفق الأصل في قوله مررت بنسوة أربع لأنه يكفي عود الشيء إلى حكم الأصل أدنى سبب(1/51)
بخلاف المنع من الصرف فإنه على خلاف الأصل فلا يكفي فيه إلا السبب القوي وأقول الدليل على صحة مذهب سيبويه أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف أما المقدمة الأولى فهي إنما تتم بتقرير ثلاثة أشياء الأول ثبوت وزن الفعل وهو ظاهر والثاني الوصفية والدليل عليه أن العلم إذا نكر صار معناه الشيء الذي يسمى بذلك الاسم فإذا قيل رب زيد رأيته كان معناه رب شخص مسمى باسم زيد رأيته ومعلوم أن كون الشخص مسمى بذلك الاسم صفة لا ذات والثالث أن الوصفية أصلية والدليل عليه أن لفظ الأحمر حين كان وصفا معناه الاتصاف بالحمرة فإذا جعل علما ثم نكر كان معناه كونه مسمى بهذا الاسم وكونه كذلك صفة إضافية عارضة له ف المفهومان اشتركا في كون كل واحد منهما صفة إلا أن الأول يفيد صفة حقيقية والثاني يفيد صفة إضافية والقدر المشترك بينهما كونه صفة فثبت بما ذكرنا أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف لما ذكرناه فإن قيل يشكل ما ذكرتم بالعلم الذي ما كان وصفا فإنه عند التنكير ينصرف مع أنه عند التنكير يفيد الوصفية بالبيان الذي ذكرتم قلنا إنه وإن صار عند التنكير وصفا إلا أن وصفيته ليست أصلية لأنها ما كانت صفة قبل ذلك بخلاف الأحمر فإنه كان صفة قبل ذلك والشيء الذي يكون في الحال صفة مع أنه كان قبل ذلك صفة كان أقوى في الوصفية مما لا يكون كذلك فظهر الفرق واحتج الأخفش بأن المقتضي للصرف قائم وهو الاسمية والعارض الموجود لا يصح معارضا لأنه علم منكر والعلم المنكر موصوف بوصف كونه منكرا والموصوف باق عند وجود الصفة فالعلمية قائمة في هذه الحالة والعلمية تنافي الوصفية فقد زالت الوصفية فلم يبق سوى وزن الفعل والسبب الواحد لا يمنع من الصرف والجواب أنا بينا بالدليل العقلي إن العلم إذا جعل منكرا صار وصفا في الحقيقة فسقط هذا الكلام
المسألة السابعة والعشرون
قال سيبويه السبب الواحد لا يمنع الصرف خلافا للكوفيين حجة سيبويه أن المقتضي للصرف قائم وهو الاسمية والسببان أقوى من الواحد فعند حصول السبب الواحد وجب البقاء على الأصل وحجة الكوفيين قولهم المقدم وقد قيل أيضا وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
وجوابه أن الرواية الصحيحة في هذا البيت يفوقان شيخي في مجمع
المسألة الثامنة والعشرون
قال سيبويه ما لا ينصرف يكون في موضع الجر مفتوحا واعترضوا عليه بأن الفتح من باب البناء وما لا ينصرف غير مبني وجوابه أن الفتح اسم لذات الحركة من غير بيان أنها إعرابية أو بنائية
المسألة التاسعة والعشرون
إعراب الأسماء ثلاثة الرفع والنصب والجر وكل واحد منها علامة على معنى فالرفع علم الفاعلية والنصب علم المفعولية والجر علم الإضافة وأما التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبرعات(1/52)
المسألة الثلاثون
السبب في كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا والمضاف إليه مجرورا وجوه الأول أن الفاعل واحد والمفعول أشياء كثيرة لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول واحد وإلى مفعولين وإلى ثلاثة ثم يتعدى أيضا إلى المفعول له وإلى الظرفين وإلى المصدر والحال فلما كثرت المفاعيل اختير لها أخف الحركات وهو النصب ولما قل الفاعل اختير له أثقل الحركات وهو الرفع حتى تقع الزيادة في العدد مقابلة للزيادة في المقدار فيحصل الاعتدال الثاني أن مراتب الموجودات ثلاثة مؤثر لا يتأثر وهو الأقوى وهو درجة الفاعل ومتأثر لا يؤثر وهو الأضعف وهو درجة المفعول وثالث يؤثر باعتبار ويتأثر باعتبار وهو المتوسط وهو درجة المضاف إليه والحركات أيضا ثلاثة أقواها الضمة وأضعفها الفتحة وأوسطها الكسرة فألحقوا كل نوع بشبيهه فجعلوا الرفع الذي هو أقوى الحركات للفاعل الذي هو أقوى الأقسام والفتح الذي هو أضعف الحركات للمفعول الذي هو أضعف الأقسام والجر الذي هو المتوسط للمضاف إليه الذي هو المتوسط من الأقسام الثالث الفاعل مقدم على المفعول لأن الفعل لا يستغني عن الفاعل وقد يستغني عن المفعول فالتلفظ بالفاعل يوجد والنفس قوية فلا جرم أعطوه أثقل الحركات عند قوة النفس وجعلوا أخف الحركات لما يتلفظ به بعد ذلك
المسألة الحادية والثلاثون
المرفوعات سبعة الفاعل والمبتدأ وخبره واسم كان واسم ما ولا المشبهتين بليس وخبر إن وخبر لا النافية للجنس ثم قال الخليل الأصل في الرفع الفاعل والبواقي مشبهة به وقال سيبويه الأصل هو المبتدأ والبواقي مشبهة به وقال الأخفش كل واحد منهما أصل بنفسه واحتج الخليل بان جعل الرفع إعرابا للفاعل أولى من جعله أعرابا للمبتدأ والأولوية تقتضي الأولية بيان الأول أنك إذا قلت ضرب زيد بكر بإسكان المهملتين لم يعرف أن الضارب من هو والمضروب من هو أما إذا قلت زيد قائم بإسكانهما عرفت من نفس اللفظتين أن المبتدأ أيهما والخبر أيهما فثبت أن افتقار الفاعل إلى الإعراب أشد فوجب أن يكون الأصل هو وبيان الثاني أن الرفعية حالة مشتركة بين المبتدأ والخبر فلا يكون فيها دلالة على خصوص كونه مبتدأ ولا على خصوص كونه خبرا أما لا شك أنه في الفاعل يدل على خصوص كونه فاعلا فثبت أن الرفع حق الفاعل إلا أن المبتدأ لما أشبه الفاعل في كونه مسندا إليه جعل مرفوعا رعاية لحق هذه المشابهة وحجة سيبويه أنا بينا أن الجملة الاسمية مقدمة على الجمل الفعلية فإعراب الجملة الاسمية يجب أن يكون مقدما على إعراب الجملة الفعلية والجواب أن الفعل أصل في الإسناد إلى الغير فكانت الجملة الفعلية مقدمة وحينئذ يصير هذا الكلام دليلا للخليل
المسألة الثانية والثلاثون
المفاعيل خمسة لأن الفاعل لا بد له من فعل وهو المصدر ولا بد لذلك الفعل من زمان ولذلك الفاعل من عرض ثم قد يقع ذلك الفعل في شيء آخر وهو المفعول به وفي مكان ومع شيء آخر فهذا ضبط القول في هذه المفاعيل وفيه مباحث عقلية أحدها أن المصدر قد يكون هو نفس المفعول به كقولنا خلق الله العالم فإن خلق العالم لو كان مغايرا للعالم لكان ذلك المغاير له إن كان قديما لزم من قدمه قدم العالم وذلك ينافي كونه مخلوقا وإن كان حادثا افتقر خلقه إلى(1/53)
خلق آخر ولزم التسلسل وثانيها أن فعل الله يستغني عن الزمان لأنه لو افتقر إلى زمان وجب أن يفتقر حدوث ذلك الزمان إلى زمان آخر ولزم التسلسل وثالثها أن فعل الله يستغني عن العرض لأن ذلك العرض إن كان قديما لزم قدم الفعل وإن كان حادثا لزم التسلسل وهو محال
المسالة الثالثة والثلاثون
اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال الأول وهو قول البصريين - أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول والثاني وهو قول الكوفيين - أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول والثالث وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين - أن العامل هو الفاعل فقط والرابع وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين - أن العامل في الفاعل الفاعلية وفي المفعول معنى المفعولية حجة البصريين أن العامل لا بد وأن يكون له تعلق بالمعمول وأحد الاسمين لا تعلق له بالآخر فلا يكون له فيه عمل البتة وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد قلنا ذاك في الموجبات أما في المعرفات فممنوع واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل والمفعولية صفة قائمة بالمفعول ولفظ الفعل مباين لهما وتعليل الحكم بما يكون حاصلا في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مباينا له وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر وهو أن الفعل أمر ظاهر وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية والله أعلم
الباب السابع
في إعراب الفعل
اعلم أن قوله أعوذ يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل المسألة الأولى إذا قلنا في النحو فعل وفاعل فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول مات زيد وهو لم يفعل ونقول من طريق النحو مات فعل وزيد فاعله بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا بإيجاده واختياره كقولنا قام أو لا باختياره كقولنا مات فإن قالوا الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول قلنا إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل ولا تقتضي حصوله للمفعول بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول المسألة الثانية الفعل يجب تقديمه على الفاعل لأن الفعل إثباتا كان أو نفيا يقتضي أمرا ما يكون هو مسندا إليه فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه فلما وجوب كون الفعل مقدما على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر فإن قالوا لا نجد في العقل فرقا بين قولنا ضرب زيد وبين قولنا زيد ضرب قلنا(1/54)
الفرق ظاهر لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما إذا عرفت هذا فنقول إذا قلنا ضرب زيد فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره فحينئذ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه وحينئذ يصير قولنا زيد مخبرا عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبرا عن ذلك المبتدأ المسألة الثالثة قالوا الفاعل كالجزء من الفعل والمفعول ليس كذلك وفي تقريره وجوه الأول أنهم قالوا ضربت فأسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات وهم يحتجزون عن تواليها في كلمة واحدة وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل وأن المفعول منفصل عنه الثاني أنك تقول الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طردا للباب والثالث وهو الوجه العقلي - أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب فثبت أن الفاعل جزء من الفعل المسألة الرابعة الإضمار قبل الذكر على وجوه أحدها أن يحصل صورة ومعنى كقولك ضرب غلامه زيدا والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعا موقعة والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميرا قبل الذكر وأما قول النابغة جزى ربه عني عدي بن حاتم
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فجوابه أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم وقال ابن جني وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافا للجماعة ثم ذكر كلاما طويلا غير ملخص وأقول الأولى في تقريره أن يقال الفعل من حيث أنه فعل كان غنيا عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغني عن المفعول وذلك لأن الفاعل هو المؤثر والمفعول هو القابل والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر أقصى ما في الباب أن يقال أن الفاعل مؤثر والمؤثر أشرف من القابل فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معا وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضا جواز تقديم المفعول على الفاعل القسم الثاني وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى وهو كقولك ضرب غلامه زيد فغلامه مفعول وزيد فاعل ومرتبة المفعول بعد مرتبة الفاعل إلا أنه وإن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى والقسم الثالث وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة كقوله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات البقرة 124 فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة لكنه حاصل في المعنى لأن الفاعل مقدم في المعنى ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر
المسألة الخامسة
الفاعل قد يكون مظهرا كقولك ضرب زيد وقد يكون مضمرا بارزا كقولك ضربت وضربنا ومضمرا مستكنا كقولك زيد ضرب فتنوي في ضرب فاعلا وتجعل الجملة خبرا عن زيد ومن إضمار الفاعل قولك إذا كان غدا فأتني أي إذا كان ما نحن عليه غدا
المسألة السادسة
الفعل قد يكون مضمرا يقال من فعل فتقول زيد والتقدير فعل زيد ومنه قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله التوبة 6 والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين
المسألة السابعة
إذا جاء فعلان معطوفا أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح لأن يكون معمولا لهما فهذا على قسمين لأن الفعلين إما أن يقتضيا عملين متشابهين أو مختلفين وعلى التقديرين فإما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحدا أو أكثر فهذه أقسام أربعة القسم الأول أن يذكر فعلان يقتضيان عملا واحدا ويكون المذكور بعدهما اسما واحدا كقولك قام وقعد زيد فزعم الفراء أن الفعلين جميعا عاملان في زيد والمشهور أنه لا يجوز لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات أما في المعرفات فجائز وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد القسم الثاني إذا كان الاسم غير مفرد وهو كقولك قام وقعد أخواك فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول أو بالفعل الثاني فإن رفعته بالأول قلت قام وقعدا أخواك لأن التقدير قام أخواك وقعدا أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل لأن الفعل لا يخلو من فاعل مضمر أو مظهر تقول قاما وقعد أخواك وعند البصريين إعمال الثاني أولى وعند الكوفيين إعمال الأول أولى حجة البصريين أن إعمالهما معا ممتنع فلا بد من إعمال أحدهما والقرب مرجح فإعمال الأقرب أولى وحجة الكوفيين إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه القسم الثالث ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين وكان الاسم المذكور بعدهما مفردا فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى خلافا للكوفيين حجة البصريين وجوه الأول قوله - تعالى - آتوني أفرغ عليه قطرا الكهف 96 فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولا فإما أن يكون الناصب لقوله قطرا هو قوله آتوني أو أفرغ والأول باطل وإلا صار التقدير آتوني قطرا وحينئذ كان يجب أن يقال أفرغه عليه ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقولك قطرا هو قوله أفرغ الثاني قوله تعالى هاؤم اقرؤا كتابيه الحاقة 19 فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه وأجاب الكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه وإنما النزاع في أنا نجوز إعمال الأبعد وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع الحجة الثالثة للبصريين أنه يقال ما جاءني من أحد فالفعل رافع والحرف جار ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب الحجة الرابعة أن اهمالهما وإعمالهما لا يجوز ولا بد من الترجيح والقرب مرجح فأعمال الأقرب أولى(1/55)
صفحة فارغة(1/56)
واحتج الكوفيون بوجوه الأول أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعا فإعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز فوجب القول بإعمال الأول هناك فإذا كان الاسم مفردا وجب أن يكون الأمر كذلك طردا للباب الثاني أن الفعل الأول وجد معمولا خاليا عن العائق لأن الفعل لا بد له من مفعول والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن إعمال الخالي عن العائق أولى من إعمال العامل المقرون بالعائق القسم الرابع إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعا فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين
المسألة الثامنة
قول امرئ القيس فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلا من المال وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلا من المال وهذا متناقض فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) في المباحث النقلية والعقلية وفيه أبواب -
الباب الأول
في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
المسألة الأولى
اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذ قبل قراءة الفاتحة وعن النخعي أنه بعدها وهو قول داود الأصفهاني وإحدى الروايتين عن ابن سيرين وهؤلاء قالوا الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال ( آمين ) فبعد ذلك يقول أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي حين افتتح الصلاة قال الله أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد لله كثيرا ثلاث مرات وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ثم قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط وذكر الاستعاذة جزاء والجزاء متأخر عن الشرط فوجب أن تكون الاستعاذة متأخره عن قراءة القرآن ثم قالوا وهذا موافق لما في العقل لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم فلو دخله العجب في آداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب لقوله عليه الصلاة(1/57)
والسلام ثلاث مهلكات وذكر منها إعجاب المرء بنفسه فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة قالوا ولا يجوز أن يقال إن المراد من قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم المائدة 6 والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة لأنه يقال ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل أما جمهور الفقهاء فقالوا لا شك أن قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ النحل 98 يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان الحج 52 وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب وأقول ههنا قول ثالث وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر وبعدها بمقتضى القرآن جمعا بين الدليلين بقدر الإمكان
المسألة الثانية
قال عطاء الاستعاذة واجبة لكل قراءة سواء كانت في الصلاة أو في غيرها وقال ابن سيرين إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون إنها غير واجبة حجة الجمهور أن النبي لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه الأول أنه عليه السلام واظب عليه فيكون واجبا لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 الثاني أن قوله تعالى فاستعذ أمر وهو للوجوب ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات لأنه تعالى قال فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله النحل 98 وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة الثالث أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم لأن قوله فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم مشعر بذلك ودفع شر الشيطان واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة الرابع أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة فهذا ما لخصناه في هذه المسألة
المسألة الثالثة
التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان لنا الآية التي تلوناها والخبر الذي رويناه وكلاهما يفيد الوجوب فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب(1/58)
المسألة الرابعة
قال الشافعي رضي الله عنه في الأم روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر ثم قال فإن جهر به جاز وإن أسر به أيضا جاز وقال في الإملاء ويجهر بالتعوذ فإن أسر لم يضر بين أن الجهر عنده أولى وأقول الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية والأصل هو العدم
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله عنه في الأم قيل إنه يتعوذ في كل ركعة ثم قال والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى وأقول له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وكلمة إذا لا تفيد العموم ولقائل أن يقول قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة والله أعلم
المسألة السادسة
أنه تعالى قال في سورة النحل فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 وقال في سورة أخرى إنه هو السميع العليم الأنفال 61 وفي سورة ثالثة إنه سميع عليم الأعراف 200 فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي واجب أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة قالوا لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وموافق أيضا لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم وقال أحمد الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعا بين الآيتين وقال بعض أصحابنا الأولى أن يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لأن هذا أيضا جمع بين الآيتين وروى البيهقي في كتاب السنن عن أبي سعيد الخدري أنه قال كان رسول الله إذا قام من الليل كبر ثلاثا وقال
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقال الثوري والأوزاعي الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال قل يا محمد استعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق العلق 1 وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعا من الاستغراق في الله والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي
المسألة السابعة
التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة ويتفرع على هذا الأصل فرعان الفرع الأول أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا عندهما لا يتعوذ لأنه لا يقرأ وعنده يتعوذ وجه قولهما قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 علق الاستعاذة على القراءة ولا قراءة على المقتدي فلا يتعوذ ووجه أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة الفرع الثاني إذا افتتح صلاة العيد فقال سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول أعوذ بالله ثم يكبر أم لا عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة(1/59)
وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا -
المسألة الثامنة
السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل لقوله تعالى ورتل القرآن ترتيلا المزمل 4 والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ وأفهم غيره تلك المعاني وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم فكان الترتيل أولى فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال قال رسول الله
يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا قال أبو سليمان الخطابي جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة يقال للقارئ اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة
المسألة التاسعة
إذا قرأ القرآن فالسنة أن يجيد في القراءة روى أبو داود عن البراء بن عازب قال قال رسول الله
زينوا القرآن بأصواتكم
المسألة العاشرة
المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جدا والتمييز عسر فوجب أن يسقط التكليف بالفرق بيان المشابهة من وجوه الأول أنهما من الحروف المجهورة والثاني أنهما من الحروف الرخوة والثالث أنهما من الحروف المطبقة والرابع أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء والخامس أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام
أنا أفصح من نطق بالضاد فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر وإذا ثبت هذا فنقول لو كان هذا الفرق معتبرا لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي أزمنة الصحابة لا سيما عند دخول العجم في الإسلام فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف
المسألة الحادية عشرة
اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان فوجب نفيه عن هذه اللغة
المسألة الثانية عشرة
اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم الحمد لله بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقا لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع
المسألة الثالثة عشرة
اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال وذلك لأنا نقول هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون فإن كان الأول(1/60)
فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم والقطع واليقين وذلك باطل بالإجماع ولقائل أن يجيب عنه فيقول بعضها متواتر ولا خلاف بين الأمة فيه وتجويز القراءة بكل واحد منها وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعيا والله أعلم
الباب الثاني
في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ به والمستعاذ منه والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة
الركن الأول
في الاستعاذة وفيه مسائل -
المسألة الأولى
في تفسير قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بحسب اللغة فنقول قوله ( أعوذ ) مشتق من العوذ وله معنيان أحدهما الالتجاء والاستجارة والثاني الالتصاق يقال أطيب اللحم عوذه وهو ما التصق منه بالعظم فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي ألتجئ إلى رحمة الله تعالى وعصمته وعلى الوجه الثاني معناه ألتصق نفسي بفضل الله وبرحمته وأما الشيطان ففيه قولان الأول أنه مشتق من الشطن وهو البعد يقال شطن دارك أي بعد فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانا لبعده من الرشاد والسداد قال الله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن الأنعام 112 فجعل من الإنس شياطين وركب عمر برذونا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال ما حملتموني إلا على شيطان والقول الثاني أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانا وأما الرجيم فمعناه المرجوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقولهم كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين أي ملعون ثم في كونه مرجوما وجهان الأول أن كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى قال الله تعالى اخرج منها فإنك رجيم الحجر 34 واللعن يسمى رجما وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له لئن لم تنته لارجمنك مريم 46 قيل عنى به الرجم بالقول وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين الشعراء 116 وفي سورة يس لئن لم تنتهوا لنرجمنكم يس 18 والوجه الثاني أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردا لهم من السموات ثم وصف بذلك كل شرير متمرد(1/61)
وأما قوله إنه هو السميع العليم الأنفال 61 ففيه وجهان الأول أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان ولا يطلع عليها أحد فكأن العبد يقول يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها وأنت القادر على دفعها عني فادفعها عني بفضلك فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار الثاني أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن وهو قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 200 وقال في حم السجدة إنه هو السميع العليم فصلت 36
المسألة الثانية
في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريدا لأن يصونه تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى وذلك الطلب هو الاستعاذة وهو قوله ( أعوذ بالله ) إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله وعلمه بنفسه وأما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالما به ولا بأحواله فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثا ولا بد أن يعلم كونه قادرا على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزا عن تحصيل مراد البعد ولا بد أن يعلم أيضا كونه جوادا مطلقا إذ لو كان البخل عليه جائزا لما كان في الاستعاذة فائدة ولا بد أيضا وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد وأن يعلم أيضا أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه إذ لو كان مستقلا بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ومن الناس من يقول لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول أعوذ بالله على سبيل الإجمال وهذا ضعيف جدا لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا مريم 42 فبتقدير أن لا يكون الإله عالما بكل المعلومات قادرا على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالا لمن لا يسمع ولا يبصر وكان داخلا تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيبا على أبيه وأما علم العبد بحال نفسه فلا بد وان يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام وأن يعلم أيضا أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهدا لها متيقنا فيها وجب أن يحصل(1/62)
في قلبه تلك الحالة المسماة بالانكسار والخضوع وحينئذ يحصل في قلبه الطلب وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب وذلك هو قوله ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) والذي يدل على كون الإنسان عاجزا عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه - الحجة الأولى أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم ولم يعرفوا الجواب عنها بل أصروا عليها وظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات الحجة الثانية أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح وإن أحدا لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات الحجة الثالثة أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول ذلك الحد الأوسط إن كان حاضرا في عقله كان القياس منعقدا والنتيجة لازمة فحينئذ لا يكون العقل متوقفا في تلك القضية بل يكون جازما بها وقد فرضناه متوقفا فيها هذا خلف وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه أو لا يمكنه طلبه والأول باطل لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذ يكون عاجزا عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة الحجة الرابعة أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين المؤمنون 97 فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضا كذلك ويدل عليه وجوه الأول أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة والشهوة والغضب والقوى الطبيعية السبع وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد واعتبر ذلك بالقوة الباصرة فإن الأشياء التي تقوى القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى(1/63)
حضيض عالم الجسمانيات وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الحجة الخامسة أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان أحدهما اللذات الحسية والثاني اللذات الخيالية وهي لذة الرياسة وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن أن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها وإذا كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الحجة السادسة في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقوله واستعينوا بالصبر والصلاة البقرة 45 وقول موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين الأعراف 128 وفي بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى يقول وعزتي وجلالي لأقطعن امل كل مؤمل غيري باليأس ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس ولأخيبنه من قربي ولأبعدنه من وصلي ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني
المسألة الثالثة
في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة قوله ( أعوذ بالله ) يبطل القول بالجبر من وجوه - الأول أن قوله أعوذ بالله اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلا لأن تحصيل الحاصل محال وأيضا فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله فثبت أن قوله ( أعوذ بالله ) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال نفسه والثاني أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله والثالث أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله واجب(1/64)
والرابع أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان أما إذا كانت فعلا لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى لأنه لا شر إلا من قبله الخامس أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت لا يكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة 286 وقلت يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة 185 وقلت وما جعل عليكم في الدين من حرج الحج 78 فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني السادس جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني فإن كان الأول فقد بطل الجبر وإن كان الثاني فهذا محض الظلم وأنت قلت وما الله يريد ظلما للعباد غافر 31 فكيف يليق هذا بك فإن قال قائل هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر وأنا لا أقول بالجبر ولا بالقدر بل أقول الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر وهو الكسب فنقول هذا ضعيف لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال وإن كان الثاني فهو الجبر المحض والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول فكيف يعقل حصول الواسطة قال أهل السنة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين الأول أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين أو كانت صالحة للطرفين معا فإن كان الأول فالجبر لازم وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه وأما الثاني وهو أن يقال إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين الأول أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح والثاني أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ولا يكون صادرا عن العبد وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم الوجه الثاني في السؤال أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه ثم قال أهل السنة والجماعة قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يبطل القول بالقدر من وجوه(1/65)
الأول أن المطلوب من قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير أو على سبيل القهر والجبر أما الأول فقد فعله ولما فعله كان طلبه من الله محالا لأن تحصيل الحاصل محال وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين وقد ثبت كونهم مكلفين أجابت المعتزلة عنه فقالوا المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح لا يقال فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب لأنا نقول إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو لا أثر فيه فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم وهو جمع بين النقيضين وهو محال فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب وذلك يبطل القول بالاعتزال وأما إن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها البتة أثر فيكون فعلها عبثا محضا وذلك في حق الله تعالى محال الوجه الثاني أن يقال إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد أو لا يتوقع فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه وأما إذا قيل إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان الوجه الثالث أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر وذلك يقدح في قولهم إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير وإن كان الثاني - وهو أنه قادر على فعل الشر والخير - فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح وذلك المرجح يكون من الله تعالى وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة الوجه الرابع هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان فالشيطان كيف وقع في المعاصي فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر فهذا حيف على البشر وتخصيص له بمزيد الثقل والإضرار وذلك ينافي كون الإله ريحما ناصرا لعباده الوجه الخامس أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع فلا فائدة في الاستعاذة منه وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في الاستعاذة منه واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله أعوذ بالله إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك(1/66)
وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الركن الثاني المستعاذ به واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين أحدهما أن يقال أعوذ بالله والثاني أن يقال أعوذ بكلمات الله أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله أعوذ بكلمات الله التامات فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون النحل 40 والمراد من قوله كن نفاذ قدرته في الممكنات وسريان مشيئته في الكائنات بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة وأيضا فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة والخروج من القوة إلى الفعل يسيرا يسيرا وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها الآن الذي لا ينقسم فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة وأيضا ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستول على عالم الأجسام وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى فالمدبرات أمرا النازعات 5 فقوله
أعوذ بكلمات الله التامات استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة ثم ههنا دقيقة وهي أن قوله
أعوذ بكلمات الله التامات إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحدا إلا الله تعالى لم يستعذ إلا بالله ولم يلتجئ إلا إلى الله ولم يعول إلا على الله فلا جرم يقول أعوذ بالله و أعوذ من الله بالله كما قال عليه السلام
وأعوذ بك منك واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلا أيضا بغير الله لأن الاستعاذة لا بد وأن تكون لطلب أو لهرب وذلك اشتغال بغير الله تعالى فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضا عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقا في نور قوله بسم الله ألا ترى أنه عليه السلام لما قال
وأعوذ بك منك ترقى عن هذا المقام فقال
أنت كما أثنيت على نفسك الركن الثالث من أركان هذا الباب المستعيذ واعلم أن قوله أعوذ بالله أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك وهذا غير مختص بشخص معين فهو أمر على سبيل العموم لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله فالأول أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم هود 47 فعند هذا أعطاه الله خلعتين السلام والبركات وهو قوله تعالى قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك هود 48 والثاني حكى عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي يوسف 23 فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال لنصرف عنه السوء والفحشاء يوسف 24 والثالث فخذ أحدنا مكانه يوسف 78 فقال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده يوسف 79 فأكرمه الله تعالى بقوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا يوسف 100(1/67)
الرابع حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة قال قومه أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين البقرة 67 فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته البقرة 73 الخامس أن القوم لما خوفوه بالقتل قال وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون الدخان 20 وقال في آية أخرى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب غافر 27 فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم والسادس أن أم مريم قالت وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم آل عمران 36 فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا آل عمران 37 والسابع أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا مريم 18 فوجدت نعمتين ولدا من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله إني عبد الله مريم 30 الثامن أن الله تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون المؤمنون 97 وقال قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 و قل أعوذ برب الناس الناس 1 والتاسع قال في سورة الأعراف خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم الأعراف 199 وقال في حم السجدة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم فصلت 34 إلى أن قال وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فصلت 36 فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبدا في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن وأما الأخبار فكثيرة الخبر الأول عن معاذ بن جبل قال استب رجلان عند النبي وأغرقا فيه فقال عليه السلام
إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك وهي قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه الأول أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل وعند الغضب يزول العقل فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعا له عن الاقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال وحاملا له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات فلا جرم يقول أعوذ بالله الثاني أن الإنسان غير عالم قطعا بأن الحق من جانبه ولا من جانب خصمه فإذا علم ذلك يقول أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله الثالث أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال أعوذ بالله وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى(1/68)
والخبر الثاني
روى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي أنه قال من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة قلت وتقريره من جانب العقل أن قوله أعوذ بالله مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين
الخبر الثالث
روى أنس عن النبي أنه قال من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكا يذود عنه الشيطان قلت والسبب فيه أنه لما قال أعوذ بالله وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها والشيطان الأكبر هو النفس فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان
والخبر الرابع
عن خولة بنت حكيم عن النبي أنه قال
من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل قلت والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة كما قال عليه الصلاة والسلام
أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح وبعضها طاهرة مشرقة خيرة وبعضها كدرة مؤذية شريرة فإذا قال الرجل
أعوذ بكلمات الله التامات فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة وأيضا كلمات الله هي قوله كن وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء
والخبر الخامس
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال
إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه عقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه
والخبر السادس
عن ابن عباس عن النبي
أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ويقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ويقول
كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها اسمعيل وإسحق عليهما السلام
الخبر السابع
أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام
عذت بمعاذ فالحقي بأهلك واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل وإنما التفاته إلى القول فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مشتغلا بتلك الكلمة ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا
والخبر الثامن
روى الحسن قال بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول أعوذ بالله إذ جاء نبي الله فقال أعوذ برسول الله فأمسك عنه فقال عليه السلام عائذ الله أحق أن يمسك عنك فقال فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله فقال عليه الصلاة والسلام أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار
والخبر التاسع
قال سويد سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وقال سمعت رسول الله يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت
والخبر العاشر
قوله عليه الصلاة والسلام أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام في المستعاذ منه وهو الشيطان والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها كما ذكره في قول الله تعالى كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس البقرة 275 وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات ومن علوم المكاشفات
المسألة الأولى
اختلف الثاني في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين واعلم أنه لا بد أولا من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم بل القول المحصل فيه قولان الأول أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة والقول الثاني أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية وهي الملائكة المقربون كما قال الله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون الأنبياء 19 ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام وأشرفها حملة العرش كما قال تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية الحاقة 17 والمرتبة الثانية الحافون حول العرش كما قال تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش الزمر 75 والمرتبة الثالثة ملائكة الكرسي والمرتبة الرابعة ملائكة السموات طبقة طبقة والمرتبة الخامسة ملائكة كرة الأثير والمرتبة السادسة ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم والمرتبة السابعة ملائكة كرة الزمهرير والمرتبة الثامنة مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار والمرتبة التاسعة مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال والمرتبة العاشرة مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة وهي المسماة بالصالحين من الجن وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية وهي المسماة بالشياطين(1/69)
صفحة فارغة(1/70)
واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه الحجة الأولى أن الشيطان لو كان موجودا لكان إما أن يكون جسما كثيفا أو لطيفا والقسمان باطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسما كثيفا لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئا منها ومن جوز ذلك كان خارجا عن العقل وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساما لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية وأيضا يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن الحجة الثانية أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة إلا أنا لا نرى أثرا لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثرا من هذا الجن وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحدا ممن تاب على تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثرا ولا خبرا الحجة الثالثة أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس وإما الخبر وإما الدليل أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتا فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها والذين يقولون إنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوا والكذابون المخرفون وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة إخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلا مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر لأنا لا نعرف دليلا عقليا يدل على وجود الجن والشياطين فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء فوجب أن يكون القول بوجود هذه لأشياء باطلا فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين والجواب عن الأولى بأنا نقول إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسما فلم لا يجوز أن يقال أنه جوهر مجرد عن الجسمية واعلم أن القائلين بهذا القول فرق الأولى الذين قالوا النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد(1/71)
تكون خيرة وقد تكون شريرة فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها فإن كان النفسان من النفوس الطاهرة المشرفة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاما وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء الفريق الثاني الذين قالوا الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضا فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية وهم المسمون بصالحي الجن وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية إذا عرفت هذا فنقول الجنسية علة الضم فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان الفريق الثالث وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معينا فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين وهو ذلك الفلك المعين وكما أن الروح البشرية تتعلق أولا بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولا بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتادى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من اجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة - فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو وهذا النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلا طائفة والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة ويحصل بينها محبة ومودة وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري وإذا عرفت هذا فنقول قالوا إن العلة تكون أقوى من المعلول فلكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على(1/72)
مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا وأخرى في اليقظة على سبيل الإلهام ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوي اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين ويزعم أنها موجودات ليست أجساما ولا جسمانية واعلم أن قوما من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية واعلم أن هذا باطل لوجهين الأول أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي وهو النفس فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس الثاني هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية فلم لا يجوز أن يقال إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار وهذان المعنيان أعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم فلم لا يجوز أن يقال الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار وإذا ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يقال أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها أليس أن الفلاسفة قالوا إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها وإنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة والدليل لم يقم على إبطالها فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها وأما الجواب عن الشبهة الثانية أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه أما حال غيره فإنه لا يعلمها فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات
المسألة الثانية
اعلم أن القرآن والإخبار يدلان على وجود الجن والشياطين أما القرآن فآيات الآية الأولى قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا(1/73)
إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 29 وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن وعلى أنهم أنذروا قومهم والآية الثانية قوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان البقرة 102 والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا سبأ 13 وقال تعالى والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد ص وقال تعالى ولسليمان الريح إلى قوله تعالى ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه سبأ 12 والآية الرابعة قوله تعالى يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض الرحمن 33 والآية الخامسة قوله تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد الصافات 6 وأما الأخبار فكثيرة
الخبر الأول
روى مالك في الموطأ عن صيفي بن أفلح عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري قال فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته قال فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته فإذا هي حية فقمت لأقتلها فأشار أبو سعيد أن اجلس فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال ترى هذا البيت فقلت نعم فقال إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس وساق الحديث إلى أن قال فرأى امرأته واقفة بين الناس فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتا فما ندري أيهما كان أسرع موتا الفتى أم الحية فذكرت ذلك لرسول الله فقال
إن بالمدينة جنا قد أسلموا فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان
الخبر الثاني
روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد قال لما أسري برسول الله رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال جبريل عليه السلام ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما نزل إلى الأرض وشر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن
والخبر الثالث
روى مالك أيضا في الموطأ أن كعب الأحبار كان يقول أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ والخبر الرابع
روى أيضا مالك أن خالد بن الوليد قال يا رسول الله إني أروع في منامي فقال له رسول الله قل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وان يحضرون
والخبر الخامس
ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي ليلة الجن وقراءته عليهم ودعوته إياهم إلى الإسلام(1/74)
والخبر السادس
روى القاضي أبو بكر في الهداية أن عيسى ابن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه
والخبر السابع
قوله عليه السلام
إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم وقال
ما منكم أحد إلا وله شيطان قيل ولا أنت يا رسول الله قال
ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم والأحاديث في ذلك كثيرة والقدر الذي ذكرناه كاف
المسألة الثالثة
في بيان أن الجن مخلوق من النار والدليل عليه قوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم الحجر 27 وقال تعالى حاكيا عن إبليس لعنه الله أنه قال خلقتني من نار وخلقته من طين واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد ألا ترى أن الأطباء قالوا المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح وهما في غاية السخونة وقال جالينوس إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد ونقول أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية وقال بعضهم الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات
المسالة الرابعة
ذكروا قولين في أنهم لما سموا بالجن الأول أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان ومنه الجن لاستتارهم عن العيون ومنه المجنون لاستتار عقله ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى اتخذوا أيمانهم جنة المنافقون 2 أي وقاية وسترا واعلم أن على هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون إلا أن يقال إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف والقول الثاني أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى
المسألة الخامسة
اعلم أن طوائف المكلفين أربعة الملائكة والإنس والجن والشياطين واختلفوا في الجن والشياطين فقيل الشياطين جنس والجن جنس آخر كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر وقيل الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأشرار الجن
المسألة السادسة
المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر وأنكر أكثر المعتزلة ذلك أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه الأول أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه وذلك غير مستبعد وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضا غير ممتنع قياسا على النفس وغيره الثاني قوله تعالى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس البقرة 275 الثالث قوله عليه السلام
إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم أما المنكرون فقد احتجوا بأمور الأول قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي إبراهيم 22 صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل الثاني لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع(1/75)
العداوة فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل
المسألة السابعة
اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون قال عليه السلام في الروث والعظم
إنه زاد إخوانكم من الجن وأيضا فإنهم يتوالدون قال تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الكهف 50
المسألة الثامنة
في كيفية الوسوسة بناء على ما ورد في الآثار ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان ويضع رأسه على حبة قلبه ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي قال
إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ألا فضيقوا مجاريه بالجوع وقال عليه السلام
لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ومن الناس من قال هذه الأخبار لا بد من تأويلها لأنه يمتنع حملها على ظواهرها واحتج عليه بوجوه الأول أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام الثاني ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر الثالث أن الشيطان مخلوق من النار فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن ومعلوم أنه لا يحس بذلك الرابع أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثرا ولا فائدة وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضررا ولا من صداقتهم نفعا وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول بان على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضا زائل وعن الثاني لا يبعد أن يقال إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر وعن الثالث أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الأنبياء 69 فلم لا يجوز مثله ههنا وعن الرابع أن الشياطين مختارون ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض
المسألة التاسعة
في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب الإحياء قال القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب أو مثل هدف ترمي إليه السهام من كل جانب أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص فتتراءى فيها صورة بعد صورة أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال فالقلب دائما في التغير والتأثر من هذه الأسباب وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار وأعني بها إدراكات وعلوما إما على سبيل التجدد وإما على(1/76)
سبيل التذكر ونما تسمي خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلا عنها فالخواطر هي المحركات للإرادات والإرادات محركة للأعضاء ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة - وإلى ما ينفع - أعني ما ينفع في العاقبة - فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والمذموم يسمى وسواسا ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بد لها من سبب والتسلسل محال فلا بد من انتهاء الكل إلى واجب الوجود وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه
المسألة العاشرة
في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح فنقول لا بد قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات
المقدمة الأولى
لا شك أن ههنا مطلوبا ومهروبا وكل مطلوب فإما أن يكون مطلوبا لذاته أو لغيره ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوبا لغيره وأن يكون كل مهروب مهروبا عنه لغيره وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته وبوجود شيء يكون مهروبا عنه لذاته
المقدمة الثانية
إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما
المقدمة الثالثة
إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس
المقدمة الرابعة
القوة الباصرة إذا أدركت موجودا في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذا أو مؤلما خاليا عنهما فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله وإن حصل العلم بكونه مؤلما ترتب على هذا العلم والاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلما ولا بكونه لذيذا لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله
المقدمة الخامسة
إن العلم بكونه لذيذا إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خاليا عن المعارض والمعاوق فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء مثاله إذا رأينا طعاما لذيذا فعلمنا بكونه لذيذا إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان ومثال آخر لهذا المعنى أن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم أعظم منه أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالا منها فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذا أو مؤلما إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض(1/77)
المقدمة السادسة
في بيان أن التقرير الذي بيناه على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبا ذاتيا لزوميا عقليا وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك فامتنع صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك وللترك بدلا عن الفعل إلا بضميمة تنضم إليها وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذا أو مؤلما وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبل أمر لازم لزوما ذاتيا واجبا فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائما مال طبعه إليه وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة فلو قدرنا شيطانا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل بل الحق أن نقول إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال والجواب أن كل ما ذكرتموه حق وصدق إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره ثم عند التذكر يترتب الميل عليه ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي إبراهيم 22 إلا أنه بقي لقائل أن يقول فالإنسان إنما أقدم على المعصية بتذكير الشيطان فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر يثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه ولا بد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله
أعوذ بك منك والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية فكأن متكلما يتكلم معه ومخاطبا يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن(1/78)
تلك الأشياء ليست حروفا ولا أصواتا وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك فهذا قول جمهور الفلاسفة ولقائل أن يقول هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أو لا فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء وإن كان الحق هو الثاني - وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات - فحينئذ يعود السؤال وهو أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجدانا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك وإما أن يقال خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى أما القسم الأول - وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان - فهذا قول باطل لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادرا على تركه فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره وأما القسم الثاني - وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر - فهو ظاهر الفساد ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث - وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا إن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين وأما الذين قالوا إنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى واعلم أن الثنوية يقولون للعالم إلهان أحدهما خير وعسكره الملائكة والثاني شرير وعسكره الشياطين وهما يتنازعان أبدا كل شيء في هذا العالم فلكل واحد منهما تعلق به والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد على ما ثبت فساده بالدلائل فهذا منتهى القول في هذا الباب(1/79)
المسألة الثانية عشرة
من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الإحياء وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية ومنهم من أنكر هذه الأحوال وقال أنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال أما أصحابنا قد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والإحداث ليست إلا لله فبطلت هذه المذاهب بالكلية وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم وكل جسم فإنه قادر بالقدرة والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام فهذه مقدمات ثلاث المقدمة الأولى أن الشيطان جسم وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلا عن حجة وأما المقدمة الثانية - وهي قولهم الجسم إنما يكون قادرا بالقدرة - فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة فلو كان شيء منها قادرا لذاته لكان الكل قادرا لذاته وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام وأما المقدمة الثالثة - وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام - وهذا أيضا ضعيف لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة
المسألة الثالثة عشرة
اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب ثم اختلفوا فقال بعضهم أن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة ومنهم من قال لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة المطالب التي لأجلها يستعاذ اعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله فقوله ( أعوذ بالله ) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية وكلها أمور غير متناهية ونحن ننبه على معاقدها فنقول الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدان أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقادا صوابا صحيحا ويمكن أن يعتقد اعتقادا فاسدا خطأ ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة وسبعامائة أو أكثر خارج عن هذه الأمة فقوله ( أعوذ بالله ) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها(1/80)
وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين منها ما يفيد المضار الدينية ومنها ما يفيد المضار الدنيوية فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف وضبطها كالمعتذر وقوله ( أعوذ بالله ) يتناول كلها وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية فقوله ( أعوذ بالله ) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها والحاصل أن قوله ( أعوذ بالله ) يتناول ثلاثة أقسام وكل واحد منها يجري مجرى ما لا نهاية له أولها الجهل ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية فالعبد يستعذ بالله منها ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر وأهل البدعة على كثرتها وثانيها الفسق ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جدا وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله ( أعوذ بالله ) متناولا لكلها وثالثها المكروهات والآفات والمخافات ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله ( أعوذ بالله ) متناولا لكلها ومن أراد أن يحيط بها فليطالع كتب الطب حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعا من الآلام والأسقام ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول ( أعوذ بالله ) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجئ إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي
الباب الثالث
في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الأولى
في قوله أعوذ بالله عروج من الخلق إلى الخالق ومن الممكن إلى الواجب وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر فقوله أعوذ إشارة إلى الحاجة التامة فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة وقوله بالله إشارة إلى الغنى التام للحق فقول العبد أعوذ إقرار على نفسه بالفقر والحاجة وقوله بالله إقرار بأمرين أحدهما بان الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات والثاني أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو ولا معطي للخيرات إلا هو فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله ففروا إلى الله الذاريات 50 وهذه الحالة تحصل عند قوله أعوذ ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقا في نور جلال الحق شاهد قوله قل الله ثم ذرهم فعند ذلك يقول أعوذ بالله
النكتة الثانية
أن قوله أعوذ بالله اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام
من عرف(1/81)
نفسه فقد عرف ربه والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال
النكتة الثالثة
أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان وذلك هو الاستعاذة بالله إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له وذلك ليس في وسعك إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الرابعة
أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك ثم إن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات فلا جرم كان سعي الشيطان في الصد عنه أبلغ وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة
النكتة الخامسة
الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر 6 والرحمن مولى الإنسان وخالقة ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب فالمقام الأول هو الفرار وهو قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والمقام الثاني هو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله بسم الله الرحمن الرحيم
النكتة السادسة
قال تعالى لا يمسه إلا المطهرون فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث فلا بد من استعمال الطهور فلما قال أعوذ بالله حصل الطهور فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال بسم الله
النكتة السابعة
قال أرباب الإشارات لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله التوبة 29 وقال في العدو الباطن إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر 6 فكأنه تعالى قال إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك كما قال تعالى يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين آل عمران 125 وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الإسراء 65 وأيضا فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين وأيضا فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين والعدو(1/82)
الباطن إن غلبنا كنا مفتونين وأيضا فمن قتله العدو الظاهر كان شهيدا ومن قتله العدو الباطن كان طريدا فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الثامنة
أن قلب المؤمن أشرف البقاع فلا تجد ديارا طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضا ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء بل فوق المرآة لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم ير فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فاطر 10 بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علما بالصفات الصمدية ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام قال القبر روضة من رياض الجنة وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت فإذا كان القلب سريرا لمعرفة الله وعرشا لإلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع الثاني كأن الله تعالى يقول يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه الثالث أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 ولم يقل عند المليك فقط كأنه قال أنا في ذلك اليوم أكون مليكا مقتدرا وعبيدي يكونون ملوكا إلا أنهم يكونون تحت قدرتي إذا عرفت هذه المقدمة فنقول كأنه تعالى يقول يا عبدي إني جعلت جنتي لك وأنت جعلت جنتك لي لكنك ما انصفتني فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها فيقول العبد لا يا رب فيقول تعالى وهل دخلت جنتك فلا بد وأن يقول العبد نعم يا رب فيقول تعالى إنك بعد ما دخلت جنتي ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك وقلت له اخرج منها مذؤوما مدحورا فأخرجت عدوك قبل نزولك وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده فعند ذلك يجيب العبد ويقول إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه فيقول الله تعالى العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قويا فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن قيل فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه قلنا قال أهل الإشارة كانه تعالى يقول للعبد أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك ومن أراد أن ينزل سلطانا في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها ولا يجب على السلطان تلك الأعمال فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة التاسعة
كأنه تعالى يقول يا عبدي ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان إنه كان يعبدني مثل عباده الملائكة وكان في الظاهر مقرا بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع فلما تكبر نفيته عن خدمتي وهو في الحقيقة ما عادى أباك إنما امتنع من خدمتي ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات فاترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/83)
النكتة العاشرة
أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ص 82 فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه
النكتة الحادية عشرة
إنما قال أعوذ بالله ولم يذكر اسما آخر بل ذكر قوله الله لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرا عليما حكيما فقوله أعوذ بالله جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم وهذه الصفات هي النهاية في الزجر وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرا إلا أنه غير عالم فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر بل لا بد معها من العلم وأيضا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر لأن الملك إذا رأى منكرا إلا أنه لا ينهي عن المنكر لم يكن حضوره مانعا منه أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل فإذا قال العبد أعوذ بالله فكأنه قال أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام
النكتة الثانية عشرة
لما قال العبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاص وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى
النكتة الثالثة عشرة
الشيطان اسم والرجيم صفة ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفا من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الرابعة عشرة
لقائل أن يقول لم لم يقل أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى وجوابه كأنه تعالى يقول عبدي إنه يراك وأنت لا تراه بدليل قوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم الأعراف 27 وإنما نفذ كيده لأنه يراكم وأنتم لا ترونه فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الخامسة عشرة
أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفا للجنس لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية بل المرئي ربما كان أشد حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطانا فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة فلما سمع بعض القوم ذلك فقال إني أقاتل هؤلاء السبعين وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله فرجع الرجل خائبا إلى المسجد فقال المذكر ماذا عملت فقال هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني وأما إن جعلنا الألف(1/84)
واللام للعهد فهو أيضا جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان والراضي يجري مجرى الفاعل له وإذا استبعدت ذلك فاعرفه بالمسألة الشرعية فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدي من حيث رضي بها وسكت خلفه
النكتة السادسة عشرة
الشيطان مأخوذ من شطن إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيدا وأما المطيع فقريب قال الله تعالى واسجد واقترب العلق 19 والله قريب منك قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب البقرة 186 وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرميا بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى وألزمهم كلمة التقوى الفتح 26 فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيدا مرجوما وجعلك قريبا موصولا ثم إنه تعالى أخبر إنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبا لأنه تعالى قال ولن تجد لسنة الله تحويلا فاطر 43 فاعرف أنه لما جعلك قريبا فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته
النكتة السابعة عشرة
قال جعفر الصادق إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرا فيقرأ بلسان طاهر كلاما أنزل من رب طيب طاهر
النكتة الثامنة عشرة
كأنه تعالى يقول إنه شيطان رجيم وأنا رحمن رحيم فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم
النكتة التاسعة عشرة
الشيطان عدوك وأنت عنه غافل غائب قال تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم الأعراف 27 فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب لقوله تعالى والله غالب على أمره يوسف 21 فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده
الباب الرابع
في المسائل الملتحقة بقوله ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
المسألة الأولى
فرق بين أن يقال أعوذ بالله وبين أن يقال بالله أعوذ فإن الأول لا يفيد الحصر والثاني يفيده فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضا جاء قوله الحمد لله وجاء قوله لله الحمد وأما هنا فقد جاء أعوذ بالله وما جاء قوله بالله أعوذ فما الفرق
المسألة الثانية
قوله أعوذ بالله لفظه الخبر ومعناه الدعاء والتقدير اللهم أعذني ألا ترى أنه قال وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم آل عمران 36 كقوله أستغفر الله أي اللهم اغفر لي والدليل عليه أن قوله أعوذ بالله إخبار عن فعله وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله فما السبب في أنه قال أعوذ بالله ولم يقل أعذني والجواب أن بين الرب وبين العبد عهدا كما قال تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم النحل 91 وقال وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 فكأن العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية(1/85)
ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت أعوذ بالله فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول إني أعيذك من الشيطان الرجيم المسألة ج أعوذ فعل مضارع وهو يصلح للحال والاستقبال فهل هو حقيقة فيهما والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال وإنما يختص به بحرف السين وسوف ( د ) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل ولم يقع بين الحاضر والماضي ( ه ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم ( و ) كيف العامل فيه ولا شك أنه معمول فما هو ( ز ) قوله أعوذ يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل وهو الكمال فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة ( ح ) قوله أعوذ حكاية عن النفس ولا بد من الأربعة المذكورة في قوله آتين الأحزاب 33 أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة ( أ ) الباء في قوله بالله باء الإلصاق وفيه مسائل
المسألة الأولى
البصريون يسمونه باء الألصاق والكوفيون يسمونه باء الآلة ويسميه قوم باء التضمين واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سببا للإلصاق وباء الآلة لكونه داخلا على الشيء الذي هو آلة
المسألة الثانية
اتفقوا على أنه لا بد فيه من إضمار فعل فإنك إذا قلت بالقلم لم يكن ذلك كلاما مفيدا بل لا بد وأن تقول كتبت بالقلم وذلك يدل على أن هذه الحرف متعلق بمضمر ونظيره قوله بالله لأفعلن ومعناه أحلف بالله لأفعلن فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه فكذا ههنا ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره على اسم الله أي سر على اسم الله
المسألة الثالثة
لما ثبت أنه لا بد من الإضمار فنقول الحذف في هذا المقام أفصح والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله أعوذ بالله بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب ويقع في الخاطر أن جميع المهمات لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله وإلا عند الابتداء باسم الله ونظيره أنه قال الله أكبر ولم يقل فإنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا
المسألة الرابعة
قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب فإن قيل كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة قلنا كاف التشبيه قائم مقام الاسم وهو في العمل ضعيف أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر فكان فيه كلاما قويا
المسألة الخامسة
الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل الأحقاف 9 وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه أحدها للإلصاق وهي كقوله أعوذ بالله وقوله بسم الله وثانيها(1/86)
للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه وثالثها لتأكيد النفي كقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فصلت 46 ورابعها للتعدية كقوله تعالى ذهب الله بنورهم البقرة 17 أي أذهب نورهم وخامسها الباء بمعنى في قال حل بأعدائك ما حل بي
أي حل في أعدائك وأما باء القسم وهو قوله بالله فهو من جنس باء الإلصاق
المسألة السادسة
قال بعضهم الباء في قوله وامسحوا برؤوسكم المائدة 6 زائدة والتقدير وامسحوا رؤسكم وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغوا أو مفيدا والأول باطل لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل فثبت أنه يفيد فائدة زائدة وكل من قال بذلك قال إن تلك الفائدة هي التبعيض الثاني أن الفرق بين قوله مسحت بيدي المنديل وبين قوله مسحت يدي بالمنديل يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل الثالث أن بعض أهل اللغة قال الباء قد تكون للتبعيض وأنكره بعضهم لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضا فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس وهذا هو قول الشافعي والإشكال عليه أنه تعالى قال فامسحوا بوجوهكم وأيديكم النساء 43 فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافيا في التيمم وعند الشافعي لا بد فيه من الإتمام وله أن يجيب فيقول مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخا فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص
المسألة السابعة
فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل إحداها قال محمد في الزيادات إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق وهو كقوله أنت طالق إن شاء الله ولو قال لمشيئة الله يقع لأنه أخرجه مخرج التعليل وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق ولو قال لإرادة الله يقع أما إذا قال أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين ولا بد من الفرق وثانيها قال في كتاب الأيمان لو قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه ولو قال إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى ولا بد من الفرق وثالثها لو قال لامرأته طلقي نفسك ثلاثا بألف فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل فصار بإزاء كل طلقة ثلث الألف ولو قال طلقي نفسك ثلاثا على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة على كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف قلت وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء ( أ ) قال أبو حنيفة الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه فإذا قال بعت كذا بكذا فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال إذا قال بعت هذا(1/87)
الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسدا وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن وفي الصورة الثانية الخمر مثمن وجعل الخمر ثمنا جائزا اما جعله مثمنا فإنه لا يجوز ( ب ) قال الشافعي إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم وعند أبي حنيفة لا يتعين ( ج ) قال الله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة التوبة 111 فجعل الجنة ثمنا للنفس والمال ومن أصول الفقه مسائل ( أ ) الباء تدل على السببية قال الله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله الأنفال 13 ههنا الباء دلت على السببية وقيل إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب ( ب ) إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية لا بد من بيانه ( ج ) الباء في قوله
سبحانك اللهم وبحمدك لا بد من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق وكذلك البحث عن قوله ونحن نسبح بحمدك البقرة 30 فإنه يجب البحث عن هذه الباء ( د ) قيل كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة وعلومها في القرآن وعلوم القرآن في الفاتحة وعلوم الفاتحة في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وعلومها في الباء من بسم الله قلت لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب فهو كمال المقصود النوع الثالث من مباحث هذا الباب مباحث حروف الجر فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها أحدهما الباء وثانيهما لفظ من فنقول في لفظ من مباحث - ( أ ) أنك تقول أخذت المال من ابنك فتكسر النون ثم تقول أخذت المال من الرجل فتفتح النون فههنا اختلف آخر هذه الكلمة وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات فوجب كون هذه الكلمة معربة ( ب ) كلمة من وردت على وجوه أربعة ابتداء الغاية والتبعيض والتبيين والزيادة ( ج ) قال المبرد الأصل هو ابتداء الغاية والبواقي مفرعة عليه وقال آخرون الأصل هو التبعيض والبواقي مفرعة عليه ( د ) أنكر بعضهم كونها زائدة وأما قوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم آل عمران 31 فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله ( ه ) الفرق بين من وبين عن لا بد من ذكره قال الشيطان ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم الأعراف 17 وفيه سؤالان الأول لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع(1/88)
بلفظ عن الثاني لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال أعوذ بالله من الشيطان ولم يقل عن الشيطان
النوع الرابع
من مباحث هذا الباب - ( أ ) الشيطان مبالغة في الشيطنة كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم وهذا يقتضي المساواة بينهما وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير ( ب ) الإله هل هو رحيم كريم فإن كان رحيما كريما فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد وإن لم يكن رحيما كريما فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان ( ج ) الملائكة في السموات هل يقولون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان ( د ) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله ( ه ) الأنبياء والصديقون لم يقولون أعوذ بالله مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ص 82 ( و ) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم إبراهيم 22 وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم
الكتاب الثاني
في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم وفيه أبواب
الباب الأول
في مسائل جارية مجرى المقدمات وفيه مسائل
المسألة الأولى
قد بينا أن الباء من بسم الله الرحمن الرحيم متعلقة بمضمر فنقول هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدما وأن يكون متأخرا فهذه أقسام أربعة أما إذا كان متقدما وكان فعلا فكقولك أبدأ باسم الله وأما إذا كان متقدما وكان اسما فكقولك ابتداء الكلام باسم الله وأما إذا كان متأخرا وكان فعلا فكقولك باسم الله أبدا وأما إذا كان متأخرا وكان اسما فكقولك باسم الله ابتدائي ويجب البحث ههنا عن شيئين الأول أن التقديم أولى أم التأخير فنقول كلاهما وارد في القرآن أما التقديم فكقوله باسم الله مجراها ومرساها وأما التأخير فكقوله(1/89)
اقرأ باسم ربك العلق 1 وأقول التقديم عندي أولى ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى قديم الوجود لذاته فيكون وجوده سابقا على غيره والسابق بالذات يستحق السبق في الذكر الثاني قال تعالى هو الأول والآخر الحديد 3 وقال لله الأمر من قبل ومن بعد الروم 4 الثالث أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم الرابع أنه قال إياك نعبد فههنا الفعل متأخر عن الاسم فوجب أن يكون في قوله بسم الله كذلك فيكون التقدير باسم الله أبتدئ الخامس سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي الله عنه يقول سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري المحققون فإنهم ما رأوا شيئا إلا وكانوا قد رأوا الله قبله قلت وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الآن والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم ومعلوم أن برهان اللم أشرف وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولا فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم الله ومن قال باسم الله ثم أضمر الفعل ثانيا فكأنه رأى وجوب الاستعانة بالله ثم نزل منه إلى أحوال نفسه
المسألة الثانية
إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم قال الشيخ أبو بكر الرازي نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل وهو الأمر لأنه تعالى قال إياك نعبد وإياك نستعين والتقدير قولوا إياك نعبد وإياك نستعين فكذلك قوله بسم الله الرحمن الرحيم التقدير قولوا بسم الله وأقول لقائل أن يقول بل إضمار الاسم أولى لأنا إذا قلنا تقدير الكلام بسم الله ابتداء كل شيء كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالقا لجميع الكائنات سواء قاله قائل أو لم يقله وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره ولا شك أن هذا الاحتمال أولى وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن يقال قولوا الحمد لله أو الأولى أن يقال الحمد لله لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقا للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله
المسألة الثالثة
الجر يحصل بشيئين أحدهما بالحرف كما في قوله باسم والثاني بالإضافة كما في الله من قوله باسم الله وأما الجر الحاصل في لفظ الرحمن الرحيم فإنما حصل لكون الوصف تابعا للموصوف في الإعراب فههنا أبحاث أحدها أن حروف الجر لم اقتضت الجر وثانيها أن الإضافة لم اقتضت الجر وثالثها أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة ورابعها أن الإضافة على كم قسم تقع قالوا إضاقة الشيء إلى نفسه محال فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه أما القسم الأول فنحو باب حديد وخاتم ذهب لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب وأما القسم الثاني فكقولك غلام زيد فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية وأما أقسام النسب والإضافات فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد فإن أنواع النسب غير متناهية
المسألة الرابعة
كون الاسم اسما للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى(1/90)
فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى
المسألة الخامسة
قال أبو عبيد ذكر الاسم في قوله بسم الله صلة زائدة والتقدير بالله قال وإنما ذكر لفظة الاسم إما للتبرك وإما ليكون فرقا بينه وبين القسم وأقول والمراد من قوله بسم الله قوله ابدءوا ببسم الله وكلام أبي عبيد ضعيف لأنا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا فوجب أن يكون المراد ابدأ بذكر الله والمراد ابدأ ببسم الله وأيضا فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار واسمه أشرف الأسماء فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقا على كل الأذكار وأن يكون اسمه سابقا على كل الأسماء وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة
الباب الثاني
فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة
أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة
المسألة الأولى
أجمعوا على أن الوقف على قوله بسم ناقص قبيح وعلى قوله بسم الله أو على قوله بسم الله الرحمن كاف صحيح وعلى قوله بسم الله الرحمن الرحيم تام واعلم أن الوقف لا بد وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة وهو أن يكون ناقصا أو كافيا أو كاملا فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقا بما قبله يكون كافيا والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعا عنه يكون وقفا تاما ثم لقائل أن يقول قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام إلا أن قوله الرحمن الرحيم ملك متعلق بما قبله لأنها صفات والصفات تابعة للموصوفات فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم الله الرحمن آية ثم يقولوا الرحيم آية ثانية وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة فهذا الإشكال لا بد من جوابه
المسألة الثانية
أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله بسم الله وفي قوله الحمد لله والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل لأن الكسرة توجب التسفل واللام المفخمة حرف مستعل والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله الله لطيف بعباده الشورى 19 وقوله قل هو الله أحد الإخلاص 1 وقوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم التوبة 111
المسألة الثالثة
قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران الأول الفرق بينه وبين لفظ اللاة في الذكر الثاني أن التفخيم مشعر بالتعظيم وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم الثالث أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب وأيضا جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه وهو يدل على أنه يذكره بكل قلبه فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم(1/91)
المسألة الرابعة
لقائل أن يقول نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد ثم أنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضا أن يقولوا اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بد من الفرق
المسألة الخامسة
تشديد اللام من قولك الله للإدغام فإنه حصل هناك لامان الأولى لام التعريف وهي ساكنة والثانية لام الأصل وهي متحركة وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكنا والثاني متحركا أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة أما في الكلمتين فكما في قوله فما ربحت تجارتهم وما بكم من نعمة ما لهم من الله البقرة 16 وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين فامتنع الإدغام لهذا السبب وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزا
المسألة السادسة
لأرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة الله اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة الله وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروف سقطت المعرفة وفنيت وبطلت وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان
المسألة السابعة
لا يجوز حذف الألف من قولنا الله في اللفظ وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه قال بعضهم أقبل سيل جاء من عند الله
يجود جود الجنة المغله
انتهى ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة إحداها أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم لا لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد ثانيها لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا وثالثها لو ذكر قوله الله في قوله الله أكبر هل تنعقد الصلاة به أم لا
المسألة الثامنة
لم يقرأ أحد الله بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى
المسألة التاسعة
تشديد الراء من قوله الرحمن الرحيم لأجل إدغام لام التعريف في الراء ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام وفي ثلاثة عشر حرفا سواه وهي الصاد والضاد والسين والشين والدال والذال والراء والزاي والطاء والظاء والتاء والثاء والنون انتهى كقوله تعالى التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر التوبة 112 والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج فإن اللام(1/92)
وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه فحسن الإدغام ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله العابدون الحامدون الآمرون بالمعروف كلها بالإظهار وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج فإنه إذا بعد مخرج الحرف الأول عن مخرج الحرف الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الاخر بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما لأن التمييز بينهما مشكل صعب
المسألة العاشرة
أجمعوا على أنه لا يمال لفظ الرحمن وفي جواز إمالته قولان للنحويين أحدهما أنه يجوز ولعله قول سيبويه وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف والقول الثاني وهو الأظهر عند النحويين أنه لا يجوز
المسألة الحادية عشرة
أجمعوا على أن إعراب الرحمن الرحيم هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو أما الرفع فعلى تقدير بسم الله هو الرحمن الرحيم وأما النصب فعلى تقدير بسم الله أعني الرحمن الرحيم النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط وفيه مسائل
المسألة الأولى
طولوا الباء من بسم الله وما طولوها في سائر المواضع وذكروا في الفرق وجهين الأول أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها ألا ترى أنهم لما كتبوا اقرأ باسم ربك العلق 1 بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية الثاني قال القتيبي إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه طولوا الباء وأظهروا السين ودوروا الميم تعظيما لكتاب الله
المسألة الثانية
قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصل بكتبه لفظ الله ارتفعت واستعلت فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة الله عز وجل أن يرتفع حاله ويعلو شأنه
المسألة الثالثة
حذفوا ألف اسم من قوله بسم الله وأثبتوه في قوله اقرأ باسم ربك والفرق من وجهين الأول أن كلمة بسم الله مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال فلأجل التخفيف حذفوا الألف بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل الثاني قال الخليل إنما حذفت الألف في قوله بسم الله لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط وإنما لم تسقط في قوله اقرأ باسم ربك لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في بسم الله لأنه يمكن حذف الباء من اقرأ باسم ربك مع بقاء المعنى صحيحا فإنك لو قلت اقرأ اسم ربك صح المعنى أما لو حذفت الباء من بسم الله لم يصح المعنى فظهر الفرق
المسألة الرابعة
كتبوا لفظة الله بلامين وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة وفي لزوم التعريف والفرق من وجوه الأول أن قولنا الله اسم معرب متصرف تصرف الأسماء فأبقوا كتابته على الأصل أما قولنا الذي فهو مبني لأجل أنه ناقص لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنيا فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب ألا ترى أنهم كتبوا قولهم اللذان بلامين لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف فإن الحرف لا يثنى(1/93)
الثاني أن قولنا الله لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي الثالث أن تفخيم ذكر الله في اللفظ واجب فكذا في الخط والحذف ينافي التفخيم وأما قولنا الذي فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضا تفخيمه في الخط
المسألة الخامسة
إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا الله في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة
المسألة السادسة
قالوا الأصل في قولنا الله الإله وهي ستة حروف فلما أبدلوه بقولهم الله بقيت أربعة أحرف في الخط همزة ولامان وهاء فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان والهاء من أقصى الحلق وهو إشارة إلى حالة عجيبة فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف ثم لا يزال يترقى قليلا إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق ومحل الروح فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة ويترقى قليلا في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد فهو إشارة إلى ما قيل النهاية رجوع إلى البداية
المسألة السابعة
إنما جاز حذف الألف قبل النون من الرحمن في الخط على سبيل التخفيف ولو كتب بالألف حسن ولا يجوز حذف الياء من الرحيم لأن حذف الألف من الرحم لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس بخلاف حذف الياء من الرحيم
الباب الثالث
من هذا الكتاب في مباحث الاسم وهي نوعان
أحدهما ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم والثاني ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم النوع الأول وفيه مسائل
المسألة الأولى
في هذا اللفظ لغتان مشهورتان تقول العرب هذا اسمه وسمه قال باسم الذي في كل سورة سمه وقيل فيه لغتان غيرهما سم وسم قال الكسائي إن العرب تقول تارة إسم بكسر الألف وأخرى بضمه فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم وقال الذين لغتهم ضم الألف سم وقال ثعلب من جعل أصله من سما يسمى قال إسم وسم ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم وقال المبرد سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه
المسألة الثانية
أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي
المسألة الثالثة
في اشتقاقه قولان قال البصريون هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به وأقول اللفظ معرف للمعنى ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على(1/94)
المعرف فلا جرم كان الاسم عاليا على المعنى ومتقدما عليه وقال الكوفيون هو مشتق من وسم يسم سمة والسمة العلامة فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيما وجمعه أوساما
المسألة الرابعة
الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم ثم حذف منه الواو ثم زيد فيه ألف الوصل عوضا عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة أصله الوعد والوصف والوزن أسقط منها الواو وزيد فيها الهاء وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو فلهم قولان الأول أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمى والأمر فيه اسم كقولنا ادع من دعوت أو اسم مثل ارم من رميت ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسما وأدخلوا عليها وجوه الأعراب وأخرجوها عن حد الأفعال قالوا وهذا كما سموا البعير يعملا وقال الأخفش هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر ثم ادخلوا الألف واللام على الماضي من فعله وتركوه مفتوحا والقول الثاني أصله سمو مثل حمو وإنما حذفت الواو من آخره استثقالا لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة النوع الثاني من مباحث هذا الباب المسائل العقلية فنقول أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل
المسألة الأولى
قالت الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بد من التنبيه على مقدمة وهي أن قول القائل الاسم هل هو نفس المسمى أم لا يجب أن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو وأن المسمى ما هو حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا فنقول إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها وتلك الحقائق بأعيانها فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثا وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى وبالمسمى أيضا تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء وهذا وإن كان حقا إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث
المسألة الثانية
اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلا لطيفا دقيقا وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين ولفظ الاسم كذلك فوجب أن يكون لفظ الاسم اسما لنفسه فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى إلا أن فيه إشكالا وهو أن كون الاسم اسما للمسمى من باب الاسم المضاف وأحد المضافين لا بد وأن يكون مغايرا للآخر
المسألة الثالثة
في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى وفيه وجوه الأول أن الاسم قد يكون موجودا مع كون المسمى معدوما فإن قولنا المعدوم منفي معناه سلب لا ثبوت له والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف وأيضا قد يكون المسمى موجودا والاسم معدوما مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة الثاني أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحدا كالأسماء المترادفة وقد يكون الاسم واحدا والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة وذلك أيضا يوجب المغايرة الثالث أن كون الاسم اسما للمسمى وكون المسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول يشكل هذا بكون الشيء عالما بنفسه الرابع الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات وتلك الأصوات أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقيا بل يكون واجب الوجود لذاته الخامس أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج وذلك لا يقوله عاقل السادس قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180 وقوله
( صلى الله عليه وسلم ) إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله عز وجل السابع أن قوله تعالى بسم الله وقوله تبارك اسم ربك الرحمن 78 ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال الثامن أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا اسم الله وبين قولنا اسم الاسم وبين قولنا الله الله وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى التاسع أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول الله اسم عربي وخداي اسم فارسي وأما ذات الله تعالى فمنزه عن كونه كذلك العاشر قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180 أمرنا بأن ندعو الله بأسمائه فالاسم آلة الدعاء والمدعو هو الله تعالى والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص والحكم أما النص فقوله تعالى تبارك اسم ربك الرحمن 78 والمتبارك المتعالي هو الله تعالى لا الصوت ولا الحرف وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال زينب طالق وكان زينب اسما لامرأته وقع عليها الطلاق ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها والجواب عن الأول أن يقال لم لا يجوز أن يقال كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزها عن(1/95)
صفحة فارغة(1/96)
النقائص والآفات فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا السبب وقع الطلاق عليها
المسألة الرابعة
التسمية عندنا غير الاسم والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق بينهما معلوم بالضرورة
المسألة الخامسة
قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ الدالة على ارتباط بعضها بالبعض فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال ويدل عليه وجوه الأول أن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين فكان الاسم مفردا والفعل مركبا والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة فوجب أن يكون سابقا عليه في الذكر واللفظ الثاني أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل فعلى هذا الفاعل غني عن الفعل والفعل محتاج إلى الفاعل والغني سابق بالرتبة على المحتاج فوجب أن يكون سابقا عليه في الذكر الثالث أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخبر أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد البتة بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد البتة فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة على الفعل فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع
المسألة السادسة
قد علمت أن الاسم قد يكون اسما للماهية من حيث هي هي وقد يكون اسما مشتقا وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفا بالصفة الفلانية كالعالم والقادر والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب
المسألة السابعة
يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر
المسألة الثامنة
في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات اعلم أنها تسعة فأولها الاسم الواقع على الذات وثانيها الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار إنه جسم وجوهر وثالثها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية ورابعها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم(1/97)
ومذكور ومالك ومملوك وخامسها الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا أنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خال عن المخالفات وسادسها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات وسابعها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئا وثامنها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين أحدهما أن يكون سابقا على غيره وهو صفة إضافية والثاني أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية ومثل القيوم فإن معناه كونه قائما بنفسه مقوما لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه والأول سلب والثاني إضافة وتاسعها الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية فهذا هو القول في تقسيم الأسماء وسواء كان الاسم اسما لله سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحدثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه
المسألة التاسعة
في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الإلهية
المقدمة الأولى
أنه تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة لا لصفة والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بد وأن يكون لصفة زائدة فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر البتة فحينئذ لزم رجحان الجائز لا لمرجح وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فإن قيل هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل وهو محال
المقدمة الثانية
أنا نقول إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي وذاته المخصوصة أمر ثابت والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة وأيضا فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة
المقدمة الثالثة
في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة ويدل عليه وجوه الأول أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور أربعة إما العلم بكونه موجودا وإما العلم بدوام وجوده وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضا مغايرة لدوام وجوده وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر الثاني أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور امرا من الأمور إلا من طرق أمور أربعة(1/98)
أحدها الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس وثانيها الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم وثالثها الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان ورابعها الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق الثالث أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة وهذا معدوم فذاك معدوم فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر المقدمة الرابعة في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم المقدمة الخامسة في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم الإنصاف أن هذه المباحث صعبة والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي وقال بعضهم عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية والحق تعالى غير متناه والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله المقدمة السادسة اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين معرفة عرضية ومعرفة ذاتية أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناءا علمنا بأنه لا بد له من بان فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات فوجود البناء لا يدل عليه وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا وعرفنا الحرارة بلمسنا وعرفنا الصوت بسمعنا فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية إذا عرفت هذا فنقول أنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط المقدمة السابعة اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو - أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية - يقع في الشاهد على نوعين أحدهما العلم والثاني الإبصار فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين فعلمنا أن العلم غير وأن الإبصار غير إذا عرفت هذا فنقول بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار هذا أيضا مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه وبتقدير أن يكون هناك طريقان أحدهما المعرفة والثاني الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها البتة فهذا هو الكلام في هذه المقدمات
المسألة العاشرة
في أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا نقل عن قدماء الفلاسفة(1/99)
إنكاره قالوا والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان لله بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى فإذا ثبت أن أحدا من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة البتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود فعند هذا قالوا إنه ليس لتلك الحقيقة اسم بل له لوازم معرفة وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفا بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا إذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة
المسألة الحادية عشرة
بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكنا وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار لأن شرف العلم بشرف المعلوم وشرف الذكر بشرف المذكور فلما كان ذات الله تعالى أشرف المعلومات والمذكورات كان العلم به أشرف العلوم وكان ذكر الله أشرف الأذكار وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة وهو اسم الله الأعظم ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات
المسألة الثانية عشرة
القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه الأول قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا ذو الجلال ولإكرام الرحمن 27 وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام
ألظوا بياذا الجلال والإكرام وهذا عندي ضعيف لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات والقول الثاني قول من يقول أنه هو الحي القيوم لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب ما اعظم آية في كتاب الله تعالى فقال الله لا إله إلا هو الحي القيوم البقرة 255 فقال
ليهنك العلم أبا المنذر وعندي أنه ضعيف وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة وأما القيوم فهو مبالغة في القيام ومعناه كونه قائما بنفسه مقوما لغيره فكونه قائما بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره وكونه مقوما لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم القول الثالث قول من يقول أسماء الله كلها عظيمة مقدسة ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان وعندي أن هذا أيضا ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار القول الرابع أن الاسم الأعظم هو قولنا الله وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه وإذا كان كذلك كان دالا على ذاته المخصوصة(1/100)
المسألة الثالثة عشرة
أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق الله تعالى محال لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق الله محال لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته فما لا يكون ممكنا لذاته امتنع أن يكون مركبا وما لا يكون مركبا امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته
المسألة الرابعة عشرة
اعلم أنا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق الله تعالى أم لا قد ذكرنا اختلاف الناس فيه وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق الله تعالى فبقيت الأقسام السبعة فنقول أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام والله الهادي
الباب الرابع
في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية
قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام الأول الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل
المسألة الأولى
أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية الله تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز أما حجة الجمهور فوجوه الحجة الأولى قوله تعالى قل أي شيء أكبر شهادة قل الله الأنعام 19 وهذا يدل على أنه يجوز تسمية الله باسم الشيء فإن قيل لو كان الكلام مقصورا على قوله قل الله لكان دليلكم حسنا لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى قل الله شهيد بيني وبينكم الأنعام 19 وهذا كلام مستقل بنفسه ولا تعلق له بما قبله وحينئذ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمى باسم الشيء قلنا لما قال أي شيء أكبر شهادة ثم قال قل الله شهيد بيني وبينكم وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله أي شيء أكبر شهادة وحينئذ يلزم المقصود الحجة الثانية قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 والمراد بوجهه ذاته ولو لم تكن ذاته شيئا لما جز استثناؤه عن قوله كل شيء هالك وذلك يدل على أن الله تعالى مسمى بالشيء الحجة الثالثة قوله عليه السلام في خبر عمران بن الحصين
كان الله ولم يكن شيء غيره وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على الله تعالى الحجة الرابعة
روى عبد الله الأنصاري في الكتاب الذي سماه بالفاروق عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول ما من شيء أغير من الله عز وجل(1/101)
الحجة الخامسة أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذات الله تعالى كذلك فيكون شيئا واحتج جهم بوجوه الحجة الأولى قوله تعالى الله خالق كل شيء الرعد 16 وكذلك قوله وهو على كل شيء قدير المائدة 120 فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقا ومقدورا والله تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور ينتج أن الله سبحانه وتعالى ليس بشيء فإن قالوا إن قوله تعالى الله خالق كل شيء وقوله وهو على كل شيء قدير عام دخله التخصيص قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن التخصيص خلاف الأصل والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر الثاني أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيرا قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه ويحكم على الباقي بحكم الكل فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول إن بتقدير أن يكون الله تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو الله تعالى فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال الحجة الثانية قوله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى 11 حكم الله تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء فإن قالوا إن الكاف زائدة قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام الله تعالى لغو وعبث وباطل ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال الحجة الثالثة لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء وأسماء الله تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسما لله تعالى أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلا في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال وأما قولنا أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال فالدليل عليه قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذورا الذين يلحدون في أسمائه الأعراف 180 والاستدلال بالآية أن يكون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن الاسم حسنا ثم إنه تعالى أمرنا بان ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك وذروا الذين يلحدون في أسمائه الأعراف 180 وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء الله فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو الله إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب الحجة الرابعة أنه لم ينقل عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب الله تعالى بقوله يا شيء وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة فكيف يجوز للعبد خطاب الله بهذا الاسم بل نقل(1/102)
عنهم أنهم كانوا يقولون يا منشئ الأشياء يا منشئ الأرض والسماء واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى وهذا في غاية البعد فإنه لا نزاع في أن الله تعالى موجود وذات وحقيقة إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق فليكن الإنسان عالما بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط
المسألة الثانية
في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك عن معنيين أحدهما أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به والثاني أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه واعلم أن بين الأمرين فرقا وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلا في نفسه ولا ينعكس لأن كونه حاصلا في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلا في نفسه مع انه لا يكون معلوما لأحد بقي ههنا بحث وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولا للإدراك والوجدان ثم نقل ثانيا إلى حصول الشيء في نفسه أو الأمر فيه بالعكس أو وضعا معا فنقول هذا البحث لفظي والأقرب هو الأول لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقا على وضعه لحصول الشيء نفسه إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين أحدهما كونه معلوما مشعورا به والثاني كونه في نفسه ثابتا متحققا أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى لوجدوا الله النساء 64 ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن فإن قالوا لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدما محضا لما كان الأمر كذلك فنقول هذا ضعيف من وجهين الأول أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوما والثاني أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر ثم نقول ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به فإن قالوا ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء ولفظ الموجود لا يفيد ذلك قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع وأيضا فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه وبيانه من وجوه الأول أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم البتة فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى الثاني أن لفظ الموجود(1/103)
بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء
المسألة الثالثة
في الذات
روى عبد الله الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه بالفاروق أخبارا تدل على هذا اللفظ أحدها عن عائشة عن رسول الله أنه قال إن من اعظم الناس أجرا الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات الله وثانيها
عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله وثالثها
عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تسبوا عليا فإنه كان مخشوشا في ذات الله ورابعها
عن أبي ذر قال سألت رسول الله أي الجهاد أفضل قال إن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله وخامسها
عن النعمان بن بشير عن النبي قال إن للشيطان مصايد وفخوخا منها البطر بأنعم الله والفخر بعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله وأقول إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكرا قيل إنه ذو ذلك الأمر وإن كان مؤنثا قيل إنها ذات ذلك الأمر فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة إذا عرفت هذا فنقول إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة وهكذا إلى غير النهاية بل لا بد وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها وحينئذ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات فقولنا إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة ولما كان الحق تعالى قيوما في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقا وصدقا وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئا منها لا يدل على هذا المعنى لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة الله تعالى وماهيته وإنماالمراد منه طلب رضوان الله ألا ترى أنه قال لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله أي في طلب مرضاة الله وهكذا الكلام في سائر الأخبار
المسألة الرابعة
في لفظ النفس وهذا اللفظ وارد في القرآن قال تعالى تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك المائدة 116 وقال ويحذركم الله نفسه آل عمران 28
وعن عائشة قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله ثم فقدته فطلبته فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وعن أبي هريرة عن النبي أنه قال يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا وإن جاءني يمشي جئته أهرول والخبر الثالث
عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لما خلق الله الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي والخبر الرابع
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ومن أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله ومن أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر(1/104)
من الله ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل الخبر الخامس
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي علمها هذا التسبيح سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه الخبر السادس
روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى أنه قال حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وتمام الخبر مشهور الخبر السابع
عن ابن عمر أن النبي قرأ ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره الأنعام 91 ثم أخذ يمجد الله نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله المنبر حتى خفنا سقوطه الخبر الثامن
عن أبي هريرة عن النبي أنه قال التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة قال آدم أنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطنعك لنفسه وأنزل عليك التوراة فهل وجدت كتبته علي قبل أن يخلقني قال نعم قال فحج آدم موسى ثلاث مرات الخبر التاسع
عن جابر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله يقول الله تعالى هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما الخبر العاشر
عن أنس بن مالك عن النبي يرويه عن ربه أنه قال من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة فلا أبالي في أي واد من الدنيا أهلكه وأقذفه في جهنم وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت ولا بد له منه وأكره مساءته الخبر الحادي عشر
عن عبد الله عن النبي أنه قال ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك - أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا الخبر الثاني عشر
عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ثم لم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه الله تعالى من طينة الخبال فقال قلت يا رسول الله وما طينة الخبال قال صديد أهل جهنم واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء وحقيقته وهويته وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء لأن كل جسم مركب وكل مركب ممكن وكل ممكن محدث وذلك على الله محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه
المسألة الخامسة
في لفظ الشخص
عن سعد بن عبادة عن النبي قال لا شخص أغير من الله ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدح من الله واعلم انه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعينا باعتباره يمتاز عن غيره
المسألة السادسة
في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على الله قال الله تعالى الله نور السموات والأرض النور 35 وأما الأخبار
فروى أنه قيل لعبد الله بن عمر نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي(1/105)
في بطن أمه فقال سمعت رسول الله يقول إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى ومن أخطأ فقد ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله تعالى واعلم أن القول بان الله تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل ويدل عليه وجوه الأول أن النور إما أن يكون جسما أو كيفية في جسم والجسم محدث فكيفياته أيضا محدثة وجل الإله عن ان يكون محدثا الثاني أن النور تضاده الظلمة والإله منزه عن أن يكون له ضد الثالث أن النور يزول ويحصل له أفول والله منزه عن الأفول والزوال وأما قوله تعالى الله نور السموات والأرض فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية وأيضا فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية مثل نوره النور 35 فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور بل هو خالق النور بقي أن يقال فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه فنقول فيه وجوه الأول قرأ بعضهم لله نور السموات والأرض وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة والثاني أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه والثالث أن بحكمته حصلت مصالح العالم وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة ومن كان ناظما للمصالح وساعيا في الخيرات فقد يسمى بالنور يقال فلان نور هذه البلد إذا كان موصوفا بالصفة المذكورة والرابع أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء النور 35 وأما الأخبار فكثيرة الخبر الأول
ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي أنه قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله الخبر الثاني
عن أنس بن مالك عن النبي أنه قال هل تدرون أي الناس أكيس قالوا الله ورسوله أعلم قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا قالوا يا رسول الله هل لذلك من علامة قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت الخبر الثالث
عن ابن مسعود قال تلا النبي قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه الزمر 22 فقلت يا رسول الله كيف يشرح الله صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقلت
ما علامة ذلك يا رسول الله قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت الخبر الرابع
عن أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول الله كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت والله مؤمنا حقا فقال عليه الصلاة والسلام انظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل(1/106)
النار يتعاوون فيها فقال عليه الصلاة والسلام عرفت فالزم ثم قال رسول الله من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا ثم قال يا رسول الله ادع لي بالشهادة فدعا له فنودي بعد ذلك يا خيل الله اركبي فكان أول فارس ركب فاستشهد في سبيل الله الخبر الخامس
عن ابن عباس رضي الله عنه قال بينما أنا جالس عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذ سمع صوتا من فوقه فرفع رأسه إلى السماء فقال إن هذا الباب من السماء قد فتح وما فتح قط فنزل منه ملك فقال يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة الخبر السابع
عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي كان يقول اللهم بك نصبح وبك نمسي وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور اللهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظا ونصيبا في كل خير تقسمه اليوم من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو بلاء تدفعه أو سوء ترفعه أو فتنة تصرفها الخبر الثامن
عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي أنه سئل عن أهل الجنة فقال أهل الجنة شعث رؤسهم وسخة ثيابهم لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم الخبر التاسع
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ان اهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حاجة أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم الخبر العاشر
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله عز وجل يقول نوري هداي ولا إله إلا الله كلمتي فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن الخبر الحادي عشر
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يدعو أعوذ بكلمات الله التامة وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات من زوال نعمتك ومن تحول عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن درك الشقاء وشر قد سبق الخبر الثاني عشر
عن النبي أنه كان يقول اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا والحديث مشهور
المسألة السابعة
في لفظ الصورة وفيه أخبار الخبر الأول
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال إن الله خلق آدم على صورته
وعن ابن عمر قال قال رسول الله لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن
قال إسحاق بن راهويه صح عن رسول الله إن الله خلق آدم على صورة الرحمن الخبر الثاني
عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات غدوة فقال له قائل ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة قال وما أبالي وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم(1/107)
الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي ربي فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوها ( الأول ) أن قوله إن الله خلق آدم على صورته الضمير عائد إلى المضروب يعني أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب ( الثاني ) أن المراد أن الله خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنينا ورضيعا بل خلقه الله رجلا كاملا دفعة واحدة ( الثالث ) أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا أي صفته فقوله خلق الله آدم على صورة الرحمن أي خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفا في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم
المسألة الثامنة
الفلاسفة قد يطلقون لفظ الجوهر على ذات الله تعالى وكذلك النصارى والمتكلمون يمتنعون منه أما الفلاسفة فقالوا المراد من الجوهر الذات المستغني عن المحل والموضوع والله تعالى كذلك فوجب أن يكون جوهرا فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر وهو الظهور فسمي الجوهر جوهرا لكونه ظاهرا بسبب شخصيته وحجميته فكونه جوهرا عبارة عن كونه ظاهر الوجود وأما حجميته فليست نفس الجوهر بل هي سبب لكونه جوهرا وهو ظهور وجوده والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو وأما المتكلمون فقالوا أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه
المسألة التاسعة
أطلق أكثر الكرامية لفظ الجسم على الله تعالى فقالوا لا نريد به كونه مركبا مؤلفا من الأعضاء وإنما نريد به كونه موجودا قائما بالنفس غنيا عن المحل وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم ولنا مع الكرامية مقامان المقام الأول أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسما معنى غير الطول والعرض والعمق وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون أنه تعالى فوق العرش ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ بل يقولون إنه أعظم من العرش وكل ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلا عريضا عميقا فكان جسما بمعنى كونه طويلا عريضا عميقا فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسما معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف المقام الثاني أن نقول لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلا وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه لا سيما والمتكلمون قالوا لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى
المسألة العاشرة
في إطلاق لفظ الإنية على الله تعالى اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيرا وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة إن في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود وفي قوة الوجود لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الإنية عليه(1/108)
المسألة الحادية عشرة في إطلاق لفظ الماهية عليه اعلم أن لفظ الماهية ليس لفظا مفردا بحسب أصل اللغة بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول ما تلك الحقيقة وما هي وكان النبي يقول أرنا الأشياء كما هي فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة
المسألة الثانية عشرة
في إطلاق لفظ الحق اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجودا وجودا حقيقيا في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صوابا مطابقا كان واجب التقرير والإبقاء وأما إن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الإخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى هو المستحق لاسم الحق أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله وأما بحسب الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير من هذه الصفة وأما بحسب الأخبار والذكر فلان هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقا واجب التقرير فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات والله الموفق الهادي
القسم الثاني من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات عقلية المقدمة الأولى اعلم أن كونه تعالى أزليا أبديا لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له وذلك لأنا نقول كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أو لا يتوقف عليه فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزليا أبديا من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر وأما إن توقف عليه فنقول ذلك الزمان إما أن يكون أزليا أو لا يكون ذلك الزمان أزليا فالتقدير هو أن كونه أزليا لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل وأما أن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزليا فحينئذ قد كان الله أزليا موجودا قبل ذلك الزمان وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر وهو المطلوب فثبت أن كونه تعالى أزليا لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزليا المقدمة الثانية أن الشيء كلما كان أزليا كان باقيا لكن لا يلزم من كون الشيء باقيا كونه أزليا ولفظ الباقي ورد في القرآن قال الله تعالى ويبقى وجه ربك الرحمن 27 وأيضا قال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 والذي لا يصير هالكا يكون باقيا لا محالة وأيضا قال تعالى هو الأول والآخر الحديد 3 فجعله أولا لكل سواه وما كان أولا لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولا لأول نفسه ولو كان له آخر لامتنع كونه آخرا لأول نفسه فلما كان أولا لكل ما سواه(1/109)
وكان آخر لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزليا لا أول له ولا آخر له المقدمة الثالثة لو كان صانع العالم محدثا لافتقر إلى صانع آخر ولزم التسلسل وهو محال فهو قديم وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء الاسم الأول القديم واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة ولا يفيد نفي الأولية يقال دار قديم إذا طالت مدته قال الله تعالى حتى عاد كالعرجون القديم يس 39 وقال إنك لفي ضلالك القديم يوسف 95 الاسم الثاني الأزلي وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه وهذا باطل إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه وهو محال بل المراد وجود لا أول له البتة الاسم الثالث قولنا لا أول له وهذا اللفظ صريح في المقصود واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية قال بعضهم إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدما إلا أنه في الحقيقة ثبوت وقال آخرون إنه مفهوم عدمي لأنه نفي لكون الشيء مسبوقا بالعدم وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقا بالعدم فكونه مسبوقا بالعدم كيفية ثبوتية فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية فكان قولنا لا أول مفهوما عدميا وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقا بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة فكانت مسبوقة بالعدم فكان كونها كذلك صفة أخرى ولزم التسلسل وهو محال الاسم الرابع الأبدي وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل الاسم الخامس السرمدي واشتقاق هذه اللفظة من السرد وهو التوالي والتعاقب قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم واحد فرد وثلاثة سرد أي متعاقبة ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى إذا عرفت هذا فنقول الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالا كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازا فإن ورد في الكتاب والسنة أطلقناه وإلا فلا الاسم السادس المستمر وهذا بناء الاستفعال وأصله المرور والذهاب ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان أما في حق الله فهو محال لأنه باق بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه الاسم السابع الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون(1/110)
قولنا في الشيء إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات أما في حق الله تعالى فعلى المجاز الاسم الثامن لفظ الباقي قال تعالى ويبقى وجه ربك الرحمن 27 واعلم أن كل ما كان أزليا كان باقيا ولا ينعكس فقد يكون باقيا ولا يكون أزليا ولا أبديا كما في الأجسام والأعراض الباقية ومن الناس من قال لفظ الباقي يفيد الدوام وعلى هذا لا يصح وصف الأجسام بالباقي وليس الأمر كذلك لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله الاسم التاسع الدائم قال تعالى أكلها دائم الرعد 35 ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم هو الله الاسم العاشر قولنا واجب الوجود لذاته ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء واعلم أن كل كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديما أزليا ولا ينعكس فليس كل ما كان قديما أزليا كان واجب الوجود لذاته لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللا بعلة أزلية أبدية فحينئذ يجب كونه أزليا أبديا بسبب كون علته كذلك فهذا الشيء يكون أزليا أبديا مع انه لا يكون واجب الوجود لذاته وقولهم بالفارسية خداي معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا خداي كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية إحداهما خود ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا آي ومعناه جاء فقولنا خداي معناه انه بنفسه جاء وهو إشاره إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم خداي أنه لذاته كان موجودا الاسم الحادي عشر الكائن واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى قال الله تعالى وكان الله على كل شيء مقتدرا الكهف 45 وقال إن الله كان عليما حكيما النساء 11 وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن لكنه وارد في بعض الأخبار روي في الأدعية المأثورة عن النبي
يا كائنا قبل كل كون ويا حاضرا مع كل كون ويا باقيا بعد انقضاء كل كون أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثا لطيفا نحويا وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ كان على قسمين أحدهما الذي يكون تاما وهو بمعنى حدث ووجد وحصل قال تعالى كنتم خير أمة آل عمران 110 أي حدثتم ووجدتم خير أمة والثاني الذي يكون ناقصا كقولك كان الله عليما حكيما فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بد له من مرفوع ومنصوب واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل إلا أنهم قالوا أنه على الوجه الأول فعل تام وعلى الثاني فعل ناقص فقلت للقوم لو كانت هذه اللفظة فعلا لكان دالا على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء وحينئذ يتم الكلام فكان يجب أن يستغني عن ذكر المنصوب وعلى هذا التقدير يصير فعلا تاما فثبت أن القول بان بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا فكان القول بان هذه الكلمة ناقصة كلاما باطلا ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زمانا طويلا وما أفلحوا في الجواب ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة وتقريره أن نقول لفظ كان لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود إلا أن هذا على قسمين منه ما يفيد حدوث(1/111)
الشيء في نفسه ومنه ما يفيد موصوفية شيء بشيء آخر أما القسم الأول فإن لفظ كان يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه لا يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعا فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما فقولنا كان زيد عالما معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد وفي القسم الثاني لا بد من ذكر الاسمين وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو إذا عرفت هذا فنقول فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على الله تعالى
القسم الثالث من أقسام الصفات الحقيقية -
الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات بذات الله تعالى فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار ويحتجون عليه بوجوه - الأول أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها والقسمان باطلان فبطل القول بالصفات وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين ( الأول ) أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحدا ( الثاني ) أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنيا عما سواه والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكنا لذاته لوجهين ( الأول ) أن الممكن لذاته لا بد له من سبب وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير وما كان كذلك كان ممكنا لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته وهو محال ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا وهو محال لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد والفعل والقبول أثران مختلفان ( الثاني ) أن الأثر مفتقر إلى المؤثر فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه أو حال حدوثه أو حال عدمه والأول باطل وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلا للحاصل وهو محال فبقي القسمان الأخيران وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثرا لغيره كان حادثا فوجب أن يقال الشيء الذي لا يكون حادثا فإنه لا يكون أثرا للغير فثبت أن القول بالصفات باطل الحجة الثانية على نفي الصفات قالوا إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم ويكون كل واحد منهما مخالفا للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركبا من جزأين ثم نقول ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديما لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديما وحينئذ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية فيلزم كون كل واحد منهما مركبا من جزأين وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات(1/112)
وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه ( الأول ) أن قيام الحوادث بذات الله محال لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات وإن لم تكن كافية فيه فحينئذ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير والموقوف على الغير ممكن لذاته ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال ( والثاني ) أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته فحينئذ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال فكان وجود قابليتها في الأزل محالا ( الثالث ) أن تلك الصفات لما كانت حادثة فإن الإله الموصوف بصفات الإلهية كان موجودا قبل حدوث هذه الصفات فحينئذ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية فوجب نفيها فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة الحجة الثالثة أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم فإن كان الأول كان وجودها فضلا زائدا فوجب نفيها وإن كان الثاني كان الإله مفتقرا في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر والمحتاج لا يكون إلها الحجة الرابعة ذاته تعالى إما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات وإما أن لا تكون فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية الحجة الخامسة لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذ يكون الإله مجزأ مبعضا منقسما وذلك بعيد عن العقل لأن كل مركب ممكن لا واجب الحجة السادسة أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات والأول لا يقوله النصارى فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها فبقي الثاني وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفرا فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به
المسالة الثانية في دلائل مثبتي القول بالصفات
اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالما قادرا حيا فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات ويدل عليه وجوه ( الأول ) أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا ذات الله ذات وبين قولنا ذات الله عالمة قادرة وذلك يدل على أن كونه عالما قادرا ليس نفس تلك الذات ( الثاني ) أنه يمكن العلم بكونه موجودا مع الذهول عن كونه قادرا وعالما وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادرا مع الذهول عن كونه عالما وبالعكس وذلك يدل على أنه كونه عالما قادرا ليس نفس تلك الذات ( الثالث ) أن كونه عالما عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن وكونه قادرا ليس عام التعلق(1/113)
بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة بل هو مختص بالجائز فقط ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك ( الرابع ) أن كونه تعالى قادرا يؤثر في وجود المقدور وكونه عالما لا يؤثر ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك ( الخامس ) أن قولنا موجود يناقضه قولنا ليس بموجود ولا يناقضه قولنا ليس بعالم وذلك يدل على أن المنفي بقولنا ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا ليس بعالم وكذا القول في كونه قادرا فهذه دلائل واضحة على أنه لا بد من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى إلا أنه بقي أن يقال لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من كونه قادرا كونه بحيث يصح منه الإيجاد وتلك الصحة معللة بذاته وكونه عالما معناه الشعور والإدراك وذلك حالة نسبية إضافية وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة وهذا تمام الكلام في هذا الباب
المسألة الثالثة
أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة وهي مثل العلم والقدرة فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالعلوم والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول قالت الفلاسفة الحي هو الدراك الفعال إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضا كذلك وحينئذ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالما قادرا واحتجوا عليه بان الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة فلا بد وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة فيقال لهم قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة فسقط هذا الدليل وأيضا الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى ولزم التسلسل ولا جواب عنه إلا أن يقال إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية وقال قوم ثالث معنى كونه حيا أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم فهذا عبارة عن نفي الامتناع ولكن الامتناع عدم فنفيه يكون عدما للعدم فيكون ثبوتا فيقال لهم هذا مسلم لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة فإن قالوا الدليل عليه أنا نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية فوجب أن يكون كونها حية مغايرا لتلك الذات فيقال لهم قد دللنا على أن لا نعقل ذات الله تعالى تعقلا ذاتيا وإنما نتعقل تلك الذات تعقلا عرضيا وعند هذا يسقط هذا الدليل فهذا تمام الكلام في هذا الباب
المسألة الرابعة
لفظ الحي وارد في القرآن قال الله تبارك وتعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم البقرة 255 وقال وعنت الوجوه للحي القيوم طه 111 وقال هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين غافر 65 فإن قيل الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم فالجواب أن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حيا بل بمجموع كونه حيا قيوما وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما(1/114)
سواه وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة والحي هو الدراك الفعال فقوله الحي يعني كونه دراكا فعالا وقوله القيوم يعني كونه دراكا لجميع الممكنات فعالا لجميع المحدثات والممكنات فحصل المدح من هذا الوجه
الباب الخامس
في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة عقلية وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا قالت المعتزلة والأشعرية التكوين نفس المكون وقال آخرون إنه غيره واحتج النفاة بوجوه - الحجة الأولى أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار الحجة الثانية أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها إلى تكوين آخر ولزم التسلسل الحجة الثالثة أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية فإن كان الأول فحينئذ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود وإلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إثبات صفة أخرى وإن كان الثاني فحينئذ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير فوجب أن لا تكون القدرة قدرة وذلك يوجب التناقض واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجدا مغاير للمعقول من كونه قادرا ثم نقول كونه موجدا إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمرا زائدا والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجدا له ألا ترى أنه إذا قيل لم وجد العالم قلنا لأجل أن الله أوجده فلو كان كون الموجد موجدا له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجودية يقتضي تعليل وجوده نفسه ولو كان معللا بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل فوجب أن يكون كون الموجد موجدا أمرا مغايرا لكون الفاعل قادرا لوجود الأثر فثبت أن التكوين غير المكون إذا عرفت هذا الأصل فنقول القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا معنى كونه تعالى خالقا رازقا محييا مميتا ضارا نافعا عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء وأما القائلون بأن التكوين غير المكون فقالوا معنى كونه خالقا رازقا ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية(1/115)
اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام ( أحدها ) كونه معلوما مذكورا مسبحا ممجدا فيقال يا أيها المسبح بكل لسان يا أيها الممدوح عند كل إنسان يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية وثانيها كونه تعالى فاعلا للأفعال صفة إضافية محضة بناء على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجدا أو المخبر عنه كونه موجدا للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية أما القسم الأول - وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجدا - فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل الموجد والمحدث والمكون والمنشئ والمبدع والمخترع والصانع والخالق والفاطر والبارئ فهذه ألفاظ عشرة متقاربة ومع ذلك فالفرق حاصل أما الاسم الأول - وهو الموجد - فمعناه المؤثر في الوجود وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجودا بعد أن كان معدوما وهذا أخص من مطلق الإيجاد وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفا للموجد وأما المنشئ فاشتقاقه من النشوء والنماء وهو الذي يكون قليلا قليلا على التدريج وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة وهما كنوعين تحت جنس الموجد والمخترع قريب من المبدع وأما الصانع فيقرب أن يكون اسما لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة وأما البارئ فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة يقال برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقا لغرض معين فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجدا على سبيل العموم أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول إنه إذا خلق النافع سمي نافعا وإذا خلق المؤلم سمي ضارا والمثال الثاني إذا خلق الحياة سمي محييا وإذا خلق الموت سمي مميتا والمثال الثالث إذا خصهم بالإكرام سمي برا لطيفا وإذا خصهم بالقهر سمي قهارا جبارا والمثال الرابع إذا قلل العطاء سمي قابضا وإذا أكثره سمي باسطا والمثال الخامس إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقما وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفوا غفورا رحيما رحمانا المثال السادس إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضا باسطا وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضا رافعا إذا عرفت هذا فنقول إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار وإذا عرفت هذا فنقول ههنا دقائق لا بد منها فالدقيقة الأولى أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه فقولنا المعز المذل وقولنا المحيي المميت يتقابلان تقابل الضدين وأما قولنا القابض الباسط الخافض الرافع فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف وله أمثله المثال الأول الرؤوف الرحيم يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤوف أميل إلى جانب إيصال النفع والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر والمثال الثاني ألفاتح(1/116)
والفتاح والنافع والنفاع والواهب والوهاب فالفاتح يشعر بإحداث سبب الخير والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء
الباب السادس
في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية
واعلم أن القرآن مملوء منه وطريق الضبط فيه أن يقال ذلك السلب إما أن يكون عائدا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأفعال أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا كقولنا إنه ليس جوهرا ولا جسما ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالا ولا محلا واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية ومن جملتها قوله تعالى والله الغني وأنتم الفقراء محمد 38 وقوله وربك الغني ذو الرحمة الأنعام 133 لأن كونه غنيا أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره ومنه أيضا قوله لم يلد ولم يولد الإخلاص 3 وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام أحدها نفي النوم قال تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم البقرة 255 وثانيها نفي النسيان قال تعالى وما كان ربك نسيا مريم 64 وثالثها نفي الجهل قال تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سبأ 3 ورابعها أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شان وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام أحدها أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى وما مسنا من لغوب ق 38 وثانيها أن لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون النحل 40 وثالثها أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل قال تعالى وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب النحل 77 ورابعها نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر قال تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء آل عمران 181 واما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله وهو يطعم ولا يطعم الأنعام 14 وهو يجير ولا يجار عليه المؤمنون 88 وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة - وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد فالقرآن مملوء منه وأما السلوب العائدة إلى الأفعال وهو أنه لا يفعل كذا وكذا - فالقرآن مملوء منه أحدها أنه لا يخلق الباطل قال تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ص 27 وقال تعالى حكاية عن المؤمنين ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا آل عمران 191 وثانيها أنه لا يخلق اللعب قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق وثالثها لا يخلق العبث قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الملك الحق المؤمنون 115 ورابعها أنه لا يرضى بالكفر قال تعالى(1/117)
ولا يرضى لعباده الكفر الزمر 7 وخامسها أنه لا يريد الظلم قال تعالى وما الله يريد ظلما للعباد غافر 31 وسادسها أنه لا يحب الفساد قال تعالى والله لا يحب الفساد البقرة 205 وسابعها أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم قال تعالى ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم النساء 147 وثامنها أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الإسراء 7 وتاسعها أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه قال تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون الأنبياء 23 وقال تعالى فعال لما يريد هود 107 وعاشرها أنه لا يخلف وعده ووعيده قال تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ق 29 إذا عرفت هذا الأصل فنقول أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية فيحصل من هذا الجنس أيضا أقسام غير متناهية من الأسماء إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب فمنها القدوس والسلام ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص فالقدوس سلب عائد إلى الذات والسلام سلب عائد إلى الصفات وثانيها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير وثالثها الغفار وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين ورابعها الحليم وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة وخامسها الواحد ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش سادسها الغني ومعناه كونه منزها عن الحاجات والضرورات وسابعها الصبور والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه وقس عليه البواقي والله الهادي
الباب السابع
في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية وفيه فصول
الفصل الأول
في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة
والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة الأول القادر قال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم الأنعام 65 وقال في أول سورة القيامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه القيامة 3 وقال في آخر السورة أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى القيامة 40 الثاني القدير قال تعالى تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الملك 1 وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادرا الثالث المقتدر قال تعالى وكان الله على كل شيء مقتدرا الكهف 45 وقال في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 الرابع عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى فقدرنا فنعم القادرون المرسلات 23 واعلم أن لفظ الملك يفيد القدرة أيضا بشرط خاص ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة فالأول المالك قال الله تعالى مالك يوم الدين الفاتحة 3 الثاني الملك قال تعالى فتعالى الله الملك الحق المؤمنون 116 وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس الحشر 23 وقال ملك الناس الناس 2 واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك والسبب فيه أن الملك أعلى شأنا من المالك الثالث مالك الملك قال تعالى قل اللهم مالك الملك الناس 2 الرابع المليك قال تعالى عند مليك مقتدر القمر 55 الخامس لفظ الملك قال تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 وقال تعالى له ملك السماوات والأرض الحديد 2 واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة الأول القوي قال تعالى إن الله لقوي عزيز الحج 74 الثاني ذو القوة قال تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين الذاريات 58
الفصل الثاني
في الأسماء الحاصلة بسبب العلم وفيه ألفاظ الأول العلم وما يشتق منه وفيه وجوه الأول إثبات العلم لله تعالى قال تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه البقرة 255 وقال تعالى ولا تضع إلا بعلمه فاطر 11 وقال تعالى قد أحاط بكل شيء علما الطلاق 12 وقال تعالى إن الله عنده علم الساعة لقمان 34 الاسم الثاني العالم قال تعالى عالم الغيب والشهادة الرعد 9 الثالث العليم وهو كثير في القرآن الرابع العلام قال تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام - إنك أنت علام الغيوب المائدة 116 الخامس الأعلم قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الأنعام 124 السادس صيغة الماضي قال تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم البقرة 187 السابع صيغة المستقبل قال تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله البقرة 197 وقال والله يعلم ما تسرون وما تعلنون النحل 19 الثامن لفظ علم من باب التفعيل قال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها البقرة 31 وقال في حق الملائكة سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا البقرة 32 وقال وعلمك ما لم تكن تعلم النساء 113 وقال الرحمن علم القرآن الرحمن 2 واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة التاسع لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء وذلك في حق الله تعالى محال اللفظ الثاني من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة وهو كالمرادف للعلم حتى قال بعضهم في حد العلم إنه الخبر إذا عرفت هذا فنقول ورد لفظ الخبير في حق الله تعالى في حد العلم أنه الخبر إذا عرفت هذا فنقول ورد لفظ الخبير في حق الله تعالى كثيرا في القرآن وذلك أيضا يدل على العلم النوع الثالث من الألفاظ الشهود والمشاهدة ومنه الشهيد في حق الله تعالى إذا فسرناه بكونه مشاهدا لها عالما بها أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام النوع الرابع الحكمة وهذه اللفظة قد يراد بها العلم وقد يراد بها أيضا ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي(1/118)
صفحة فارغة(1/119)
النوع الخامس اللطيف وقد يراد به العلم بالدقائق وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة
الفصل الثالث
في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام وما يجري مجراه
اللفظ الأول الكلام وفيه وجوه الأول لفظ الكلام قال تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله التوبة 6 الثاني صيغة الماضي من هذا اللفظ قال تعالى وكلم الله موسى تكليما النساء 164 وقال ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمة ربه الأعراف 143 الثالث صيغة المستقبل قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الشورى 51 اللفظ الثاني القول وفيه وجوه الأول صيغة الماضي قال تعالى وإذ قال ربك للملائكة البقرة 30 ونظائره كثيرة في القرآن الثاني صيغة المستقبل قال تعالى إنه يقول إنها بقرة البقرة 68 الثالث القيل والقول قال تعالى ومن أصدق من الله قيلا النساء 122 وقال تعالى ما يبدل القول لدي ق 29 اللفظ الثالث الأمر قال تعالى لله الأمر من قبل ومن بعد الروم 4 وقال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 وقال حكاية عن موسى عليه السلام إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة البقرة 67 اللفظ الرابع الوعد قال تعالى وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن التوبة 111 وقال تعالى وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده يونس 4 اللفظ الخامس الوحي قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الشورى 51 وقال فأوحى إلى عبده ما أوحى النجم 10 اللفظ السادس كونه تعالى شاكرا لعباده قال تعالى فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء 19 وكان الله شاكرا عليما النساء 147
الفصل الرابع
في الإرادة وما يقرب منها
فاللفظ الأول الإرادة قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة 185 اللفظ الثاني الرضا قال تعالى وإن تشكروا يرضه لكم الزمر 7 وقال ولا يرضى لعباده الكفر الزمر 7 وقال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة الفتح 18 وقال في صفة السابقين الأولين رضي الله عنهم ورضوا عنه المجادلة 22 وقال حكاية عن موسى وعجلت إليك رب لترضى طه 84(1/120)
اللفظ الثالث المحبة قال يحبهم ويحبونه المائدة 54 وقال ويحب المتطهرين البقرة 222 اللفظ الرابع الكراهة قال تعالى كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها الإسراء 38 وقال ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم التوبة 46 قالت الأشعرية الكراهة عبارة عن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة بل هي صفة أخرى سوى الإرادة والله أعلم
الفصل الخامس
في السمع والبصر
قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى 11 وقال تعالى لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير الإسراء 1 وقال تعالى إنني معكما أسمع وأرى طه 46 وقال لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر مريم 42 وقال تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار الأنعام 103
الفصل السادس
في الصفات الإضافية مع السلبية
اعلم أن الأول هو الذي يكون سابقا على غيره ولا يسبقه غيره فكونه سابقا على غيره إضافة وقولنا إنه لا يسبقه غيره فهو سلب فلفظ الأول يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب والآخر هو الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعده غيره والحال فيه كما تقدم أما لفظ الظاهر فهو إضافة محضة لأن معناه كونه ظاهرا بحسب الدلائل وأما لفظ الباطن فهو سلب محض لأن معناه كونه خفيا بحسب الماهية ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب القيوم لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين أحدهما أن لا يكون محتاجا إلى شيء سواه البتة وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته والثاني أن يكون كل ما سواه محتاجا إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه فالأول سلب والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم
الفصل السابع
في الأسماء الدالة على الذات والصفات الحقيقية
والإضافية والسلبية
فمنها قولنا الإله وهذا الاسم يفيد الكل لأنه يدل على كونه موجودا وعلى كيفيات ذلك الوجود أعني كونه أزليا أبديا واجب الوجود لذاته وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام وهل يجوز ذلك في دين الإسلام المشهور أنه لا يجوز وقال(1/121)
بعضهم إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار يا إله الآلهة وهو بعيد وأما قولنا الله فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات فنقول لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائما مقام تلك الإشارة ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات فإن قالوا الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية والإشارة العقلية قد تتناول السلوب
الفصل الثامن
في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي
من أسماء الذات أو من أسماء الصفات
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه وذلك لأن أهل التشبيه يقولون الموجود إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون حالا في ا لمتحيز أما الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز - فكان خارجا عن القسمين - فذاك محض العدم وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون أما المتحيز فهو منقسم وكل منقسم فهو محتاج فكل متحيز هو محتاج فما لا يكون محتاجا امتنع أن يكون متحيزا وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز إذا عرفت هذا الأصل فنقول ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان فمنها العظيم وذلك لأن أهل التشبيه قالوا معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش ومنها الكبير وما يشتق منه وهو لفظ الأكبر ولفظ الكبرياء ولفظ المتكبر واعلم أني ما رأيت أحدا من المحققين بين الفرق بينهما إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه الأول أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فجعل الكبرياء قائما مقام الرداء والعظمة قائمة مقام الإزار ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالا من صفة العظمة والثاني أن الشريعة فرقت بين الحالين فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمة الصلاة الله أكبر ولم يقل أحد الله أعظم ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة الثالث أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى فقال ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم البقرة 255 وقال في آية أخرى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سبأ 32 إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول - ومن الله الإرشاد(1/122)
والتعليم - يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيرا سواء استكبره غيره أم لا وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من العلو فمنها قوله تعالى ( العلي ) البقرة 255 ومنها قوله سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 ومنها المتعالي ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الإطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم تعالى لقوله تعالى في أول سورة النحل سبحانه وتعالى عما يشركون النحل 1 إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا معنى علوه وتعاليه كونه موجودا في جهة فوق ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش ومنهم من قال إنه مباين للعرش ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين للعرش ببعد غير متناه وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار فأحدها أنه عظيم بحسب مدة الوجود وذلك لأنه أزلي أبدي وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام وثانيها أنه عظيم في العلم والعمل وثالثها أنه عظيم في الرحمة والحكمة ورابعها أنه عظيم في كمال القدرة وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزها عن صفات النقائص والحاجات إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزها عن كل ما لا يليق بالإلهية فهذا تمام البحث في هذا الباب
الفصل التاسع
في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة
اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة أنا وأنت وهو وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا أنا لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه وأوسط هذه الأقسام قولنا أنت لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضرا فلأجل كونه خطابا للغير يكون دون قوله أنا ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضرا يكون أعلى من قوله هو فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله أنا وأوسطها أنت وأدناها هو وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ أما لفظ أنا فقال في أول سورة النحل أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا النحل 2 وفي سورة طه إنني أنا الله لا إله إلا أنا طه 14 وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت الأنبياء 87 وأما لفظ هو فقد جاء كثيرا في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة 163 وآخرها في سورة المزمل وهو قوله رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا المزمل 9 وأما ورود هذه الكلمة مقرونا باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل يونس 90 ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول أما قوله لا إله إلا أنا فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل وذلك لا يليق إلا بالله - سبحانه - واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله أنا وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به لا سيما في حق الحق تعالى فثبت أن قوله لا إله إلا أنا لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى وأما الدرجة الثانية وهي قوله لا إله إلا أنت فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضرا لا غائبا لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائبا عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة وأما الدرجة الثالثة وهي قوله لا إله إلا هو فهذا يصح من الغائبين واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب وبالعكس وعن هذا قال الشاعر أيا غائبا حاضرا في الفؤاد
سلام على الغائب الحاضر
ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين قل لا إله إلا الله فقال كل بيت أنت حاضره
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم تأتي الناس بالحجج
واعلم أن لفظ هو فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه وبعضها لا يمكن قال مصنف الكتاب وأنا بتوفيق الله كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة هو أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه ولا ينتهي الشرح إليه فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول فيه أسرار الأول أن الرجل إذا قال يا هو فكأنه يقول من أنا حتى أعرفك ومن أنا حتى أكون مخاطبا لك وما للتراب ورب الأرباب وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات فلهذا السبب خاطبه العبد بخطاب الغائبين فقال يا هو والفائدة الثانية أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضا دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم لأن القائل إذا قال يا هو فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا هو صالحا لهما جميعا فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله هو فلما قال يا هو فقد حكم على(1/123)
صفحة فارغة(1/124)
كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف كما قال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله يا هو والفائدة الثالثة أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة الله تعالى لأنه إذا قال يا رحمن فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالبا للحصة وكذلك إذا قال يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا فتاح وإذا قال يا ملك فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها وقس عليه سائر الأسماء أما إذا قال يا هو فإنه يعرف أنه هو وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل والفائدة الرابعة أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق إما صفات الجلال وإما صفات الإكرام أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل وهذا فيه دقيقة لأن من خاطب السلطان فقال أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب ويقال إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقا للمخلوقات مرتبا لها على النظم الأكمل وهذا أيضا فيه دقيقة من وجهين الأول لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقا لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالي بطريق في غاية الخسة والدناءة وذلك سوء أدب والثاني أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات إلا أن ههنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتنبه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول يا هو كأن العبد يقول أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي ولا أخاطبك أيضا بلفظة أنت لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ولكني لا أزيد على قولي هو ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته بذاته ويكون إقرارا بأن حضرته أعلى(1/125)
وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار الفائدة الخامسة في هذا الذكر أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل فثبت أن لفظ هو يفيد الشوق إلى الله تعالى وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والابتهاج والسرور وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة هو تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات الفائدة السادسة في شرح جلالة هذا الذكر واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين المقدمة الأولى أن العلم على قسمين تصور وتصديق أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم البتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة ثم إن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول التصور مقام التوحيد وأما التصديق فإنه مقام التكثير المقدمة الثانية أن التصور على قسمين تصور يتمكن العقل من التصرف فيه وتصور لا يمكنه التصرف فيه أما القسم الأول فهو تصور الماهيات المركبة فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب وهذا التصرف عمل وفكر وتصرف من بعض الوجوه وأما القسم الثاني فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملا يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضا أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وإذا عرفت هذا فنقول قولنا في الحق سبحانه وتعالى يا هو هذا تصور محض خال عن التصديق ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن(1/126)
جميع جهات التركيب والكثرة فكان قولنا يا هو نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وهو أعظم المقامات الفائدة السابعة أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بالأجزاء الداخلة فيه أو بالأمور الخارجة عنه أما القسم الأول - وهو تعريفه بنفسه - فهو محال لأن المعرف سابق على المعرف فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به وذلك محال وأما القسم الثاني - وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه - فهذا في حق الحق محال لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة وذلك في حق الحق محال وأما القسم الثالث - وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه - فهذا أيضا باطل محال لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئا من أحوال القديم الواجب لذاته لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة الفائدة الثامنة أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطة فيصير غافلا عن كل ما سواه حتى إنه ربما كان جائعا فينسى جوعه وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره فكذلك العبد إذا قال يا هو وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة وعلى فكره الغفله فيصير غائبا عن كل ما سوى تلك الهوية معزولا عن الألتفات إلى شيء سواها وحينئذ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله هو وبلسانه هو فإذا قال العبد هو وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها الفائدة التاسعة من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي أنه قال
من جعل همومه هما واحدا كفاه الله هموم الدنيا والآخرة فكأن العبد يقول همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية ورحمة غير متناهية وحكمة غير متناهية فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى فأنا أجعل همي مشغولا بذكره فقط ولساني مشغولا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة الفائدة العاشرة أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولا عن غيره فكأن العبد يقول كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره فإذا كان هذا لازما فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولا بمعرفة أشرف(1/127)
المعلومات وأجعل لساني مشغولا بذكر أشرف المذكورات فلهذا السبب أواظب على قوله يا هو الفائدة الحادية عشرة أن الذكر أشرف المقامات قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإذا ثبت هذا فنقول أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين إذا عرفت هذه المقدمة فنقول العبد فقير محتاج والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولا على السؤال فإذا قال الفقير للغني يا كريم كان معناه أكرم وإذ قال له يا نفاع كان معناه طلب النفع وإذا قال يا رحمن كان معناه ارحم فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا عن السؤال والطلب أما إذا قال يا هو كان معناه خاليا عن الإشعار بالسؤال والطلب فوجب أن يكون قولنا هو أعظم الأذكار ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب يا هو يا من لا هو إلا هو يا من لا إله إلا هو يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهار يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان أما القرآن فإنه تعالى قال ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو القصص 88 ثم قال بعده كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 معناه إلا هو فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة وأما البرهان فهو أن من الناس من قال إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها فقلت فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل وإن كانت مفهوما مغايرا فذلك المفهوم المغاير لا بد وأن يكون له ماهية وحينئذ يعود الكلام فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر وينفي الصنع والصانع بالكلية وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت وعند هذا يظهر صدق قولنا لا هو إلا هو أي لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه فثبت أنه لا هو إلا هو والله أعلم
الباب الثامن
في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى وفيه مسائل هل أسماؤه تعالى توقيفية المسألة الأولى اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى
توقيفية أم اصطلاحية قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان واردا في القرآن والأحاديث الصحيحة وقال(1/128)
آخرون كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز وإلا فلا وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه الاسم غير والصفة غير فاسمي محمد واسمك أبو بكر فهذا من باب الأسماء وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلا فقيها كذا وكذا إذا عرفت هذا الفرق فيقال أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف واحتج الأولون بأن قالوا إن العالم له أسماء كثيرة ثم إنا نصف الله تعالى بكونه عالما ولا نصفه بكونه طبيبا ولا فقيها ولا نصفه بكونه متيقنا ولا بكونه متبينا وذلك يدل على أنه لا بد من التوقيف وأجيب عنه فقيل أما الطبيب فقد ورد
نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له نحضر الطبيب قال الطبيب أمرضني وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة فلهذا السبب سمي ذلك بيانا وتبيينا ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه الأول أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها الثاني أن الله تعالى قال ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180 والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسما حسنا فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكا بهذه الآية الثالث أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثا وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب ففي حق الله أولى أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع فكذلك في حق البارىء تعالى المسألة الثانية اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى ونحن نعد منها صورا فأحدها الاستهزاء قال تعالى الله يستهزئ بهم البقرة 15 ثم أن الاستهزاء جهل والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين البقرة 67 وثانيها المكر قال تعالى ومكروا ومكر الله آل عمران 54 وثالثها الغضب قال تعالى وغضب الله عليهم الفتح 6 ورابعها التعجب قال تعالى بل عجبت ويسخرون الصافات 12 فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوبا إلى الله والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء وخامسها التكبر قال تعالى العزيز الجبار المتكبر الحشر 23 وهو صفة ذم وسادسها الحياء قال تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما البقرة 26 والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح(1/129)
واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية آثار تصدر عنها في النهاية مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فأحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض وقس الباقي عليه
المسألة الثالثة
رأيت في بعض كتب التذكير أن لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة وألف في الإنجيل وألف في الزبور ويقال ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر وأقول هذا غير مستبعد فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحا بليغا بل نقول كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبها للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه وذلك أنه لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة ثم لما عرف أن كل واحد من هذه الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالا معينا ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا وذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور قال وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها فرأيت في بعض الليالي كأن ملكا نزل من السماء وقال جالينوس إن إلهك يقول لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتابا مفردا وبالغت في شرحه فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى
المسألة الرابعة
أنا نرى في كتب الطلسمات والعزائم أذكارا غير معلومة ورقي غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة وأقول لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقي إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلا لم يكن فيها فائدة وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه وإما أن تكون دالة(1/130)
على شيء آخر أما الثاني فإنه لا يفيد لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب فبقي أن يقال إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء فنقول ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات لكن لقائل أن يقول إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم وتوجه إلى عالم القدس وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقي المجهولة
المسألة الخامسة
أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة والعاقل لا بد وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة وبعضها قاسية قاهرة وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس وأن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجا معينا وطريقا مبينا في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وبقوله عليه الصلاة والسلام
الأرواح جنود مجندة إذا عرفت هذا فنقول الجنسية علة الضم فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى معين فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعا وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق وإن رآه متأثرا عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وأقول هذا هو المعقول فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسبا لحالة مخصوصة فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلا هينا يسيرا وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء والله الهادي
الباب التاسع
في المباحث المتعلقة بقولنا الله وفيه مسائل لفظ الجلالة علم لا مشتق
المسألة الأولى
المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى وأنه ليس بمشتق البتة وهو قول(1/131)
الخليل وسيبويه وقول أكثر الأصوليين والفقهاء ويدل عليه وجوه وحجج الحجة الأولى أنه لو كان لفظا مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقا لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين ولو كان كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله توحيدا حقا مانعا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين لأن بتقدير أن يكون الله لفظا مشتقا كان قولنا الله غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة وحينئذ لا يكون قولنا لا إله إلا الله موجبا للتوحيد المحض وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة وأنها ليست من الألفاظ المشتقة الحجة الثانية أن من أراد أن يذكر ذاتا معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات مثل أن يقول زيد الفقيه النحوي الأصولي إذا عرفت هذا فنقول إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولا لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول الله العالم القادر الحكيم ولا يعكسون هذا فلا يقولون العالم القادر الله وذلك يدل على أن قولنا الله اسم علم فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض إبراهيم 1 قلنا ههنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع وحينئذ يزول السؤال لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل فقيل عقيبه زيد ليصير هذا مزيلا لذلك الاشتباه ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية الحجة الثالثة قال تعالى هل تعلم له سميا مريم 65 وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله هل تعلم له سميا فوجب أن يكون المراد اسم العلم فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج الحجة الأولى قوله تعالى وهو الله في السموات الأنعام 3 وقوله هو الله الذي لا إله إلا هو الحشر 22 فإن قوله الله لا بد وأن يكون صفة ولا يجوز أن يكون اسم علم بدليل أنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وهو بكر ويجوز أن يقال هو العالم الزاهد في البلد وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين إن الضمير لا يقع موصوفا ولا صفة وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم الحجة الثانية أن اسم العلم قائم مقام الإشارة فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعا في حقه الحجة الثالثة أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية وإذا كان هذا في حق الله ممتنعا كان القول بإثبات الاسم العلم محالا في حقه(1/132)
والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى أن يقال هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشارا إليه بالحس أم لا وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة
المسألة الثانية
الذين قالوا إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعا الفرع الأول أن الإله هو المعبود سواء عبد بحق أو بباطل ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق وعلى هذا التفسير لا يكون إلها في الأزل واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب واحد وهو الله تعالى وما سواه ممكن والممكن لا يوجب إلا بالمرجح فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله فثبت أن غاية الإنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى الفرع الثاني أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسخف ويدل عليه وجوه الأول أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود وهذا جهل عظيم الثاني أنه لو قال أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب لم تصح صلاته الثالث أن من عمل عملا لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله ومن كان كذلك لم يكن محبا لله ولم يكن راغبا في عبادة الله وكل ذلك جهل ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول وهو أن يتشرف بخدمة الله لأنه إذا شرع في الصلاة حصلت النية في القلب وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية وحصل الذكر في اللسان وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله فمقصود العبد حصول هذا الشرف الفرع الثالث من الناس من طعن في قول من يقول الإله هو المعبود من وجوه الأول أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة الثاني أنه تعالى إله الجمادات والبهائم مع أن صدور العبادة منها محال الثالث أنه تعالى إله المجانين والأطفال مع أنه لا تصدر العبادة عنها الرابع أن المعبود ليس له بكونه معبودا صفة لأنه لا معنى لكونه معبودا إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان ومعلوم بعلمه ومراد خدمته بإرادته وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى الخامس يلزم أن يقال إنه تعالى ما كان إلها في الأزل الفرع الرابع من الناس من قال الإله ليس عبارة عن المعبود بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا وهذا القول أيضا يرد عليه أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين وأن لا يكون إلها في الأزل ومنهم من قال إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة(1/133)
عنه واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلها في الأزل ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلها في الأزل التفسير الثاني الإله مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته وبيانه من وجوه الأول أن الكمال محبوب لذاته وما سوى الحق فهو ناقص لذاته لأن الممكن من حيث هو هو معدوم والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته فإذا كان الكامل محبوبا لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوبا لذاته الثاني أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقف عند نفسه بل يبقى متعلقا بغيره لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28 التفسير الثالث أنه مشتق من الوله وهو ذهاب العقل واعلم أن الخلق قسمان واصلون إلى ساحل بحر معرفته ومحرومون فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار فالأولون بادوا في أودية الظلمات والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات التفسير الرابع أنه مشتق من لاه إذا ارتفع والحق سبحانه وتعالى وهو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات لأن الواجب لذاته ليس إلا هو والكامل لذاته ليس إلا هو والأحد الحق في هويته ليس إلا هو والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو وأيضا فهو تعالى مرتفع عن أن يقال إن ارتفاعه بحسب المكان لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض لأجل حصوله في ذلك المكان وما بالذات أشرف مما بالغير فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان التفسير الخامس من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه فالعبد إذا تفكر فيه تحير لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه لأن كل ما سواه فهو محتاج وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضا لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه(1/134)
التفسير السادس من لاه يلوه إذا احتجب ومعنى كونه محتجبا من وجوه الأول أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول الثاني أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائله عنها فحينئذ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات فحينئذ كان يظهر أن نور الوجود منه لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالا لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره فلهذا قال بعض المحققين سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول ولا يجوز أن يقال محجوبة لأن المحجوب مقهور والمقهور يليق بالعبد أما الحق فقاهر وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب والخلق محجوبون التفسير السابع اشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ويدل عليه أمور الأول أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى فيقول بقلبه ولسانه يا رب يا رب فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة وهذا فعل متناقض لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات والثاني أن الخير والراحة مطلوب من الله والثالث أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات والخلق مشغوفون بالرجوع إليه شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس فقال الأستاذ كنت حدادا عشر سنين وقصارا عشرة أخرى وبوابا عشرة ثالثة فقالوا ما رأيناك فعلت ذلك قال فعلت ولكنكم ما رأيتم أما عرفتم أن القلب كالحديد فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف لا إله إلا الله فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر لا إله إلا الله التفسير الثامن أن اشتقاق لفظ الإله من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى وهو يجير ولا يجار عليه(1/135)
المؤمنون 88 ولأنه هو المنعم لقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 ولأنه هو المطعم لقوله تعالى وهو يطعم ولا يطعم الأنعام 14 ولأنه هو الموجد لقوله تعالى قل كل من عند الله النساء 78 فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل جبار لها بالقوة والفعل والتكميل فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه وههنا لطائف وفوائد الفائدة الأولى عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه والله الكريم يقول عبادي أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ولكن لا تفروا مني بل أقول ففروا إلى الله الذاريات 50 فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم وأيضا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء وأنا أفعل ضد ذلك الفائدة الثانية قال
إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة وأقول إنه إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين الفائدة الثالثة قال
إن الله عز وجل يقول يوم القيامة للمذنبين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا رب فيقول الله تعالى ولم فيقولون رجونا عفوك وفضلك فيقول الله تعالى إني قد أوجبت لكم مغفرتي الفائدة الرابعة
قال عبد الله بن عمر قال رسول الله إن الله عز وجل ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له هل تنكر من هذا شيئا هل ظلمك الكرام الكاتبون فيقول لا يا رب فيقول الله تعالى فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب فيقول لا يا رب فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم ثم يخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول العبد يا رب كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء الفائدة الخامسة وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر وقالت ابني ابني فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فقال
أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعا من هذه المرأة بابنها فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة المسألة الثالثة في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية بل عبرانية أو سريانية فإنهم يقولون إلها رحمانا ومرحيانا فلما عرب جعل الله الرحمن الرحيم وهذا بعيد ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية والدليل عليه قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله لقمان 25 وقال تعالى هل تعلم(1/136)
له سميا مريم 65 وأطبقوا على أن المراد منه لفظة الله وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث وأما المنكرون لذلك فلهم قولان قال الكوفيون أصل هذه اللفظة إلاه فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم فصار الالاه فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة فاجتمع لامان فأدغمت الأولى فقالوا الله وقال البصريون أصله لاه فألحقوا بها الألف واللام فقيل الله وأنشدوا كحلفه من أبي رباح
يسمعها لاهه الكبار
فأخرجه على الأصل
المسألة الرابعة
قال الخليل أطبق جميع الخلق على أن قولنا الله مخصوص بالله سبحانه وتعالى وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا أو ينكرونه فيقولون إله كما قال الله تعالى خبرا عن قوم موسى اجعل لنا يعرشون وجاوزنا ببنى إسرءيل البحر فأتوا على قوم تجهلون الأعراف 138
المسألة الخامسة
اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى ونحن نشير إليها ( فالخاصة الأولى ) أنك إذا حذفت الألف من قولك الله بقي الباقي على صورة لله وهو مختص به سبحانه كما في قوله ولله جنود السموات والأرض الفتح 4 ولله خزائن السموات والأرض المنافقون 7 وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة له كما في قوله تعالى له مقاليد السموات والأرض الزمر 63 وقوله له الملك وله الحمد التغابن 1 فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا هو وهو أيضا يدل عليه سبحانه كما في قوله قل هو الله أحد الإخلاص 1 وقوله هو الحي لا إله إلا هو غافر 65 والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فإنك تقول هما هم فلا تبقى الواو فيهما فهذه الخاصية موجودة في لفظ الله غير موجودة في سائر الأسماء وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضا بحسب المعنى فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة وما وصفته بالقهر وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم وما وصفته بالقدرة وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات فثبت أن قولنا الله قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء الخاصية الثانية أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم فلو أن الكافر قال أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم أو إلا الملك أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة والله الهادي إلى الصواب
الباب العاشر
في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم
اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام الذي يكون نافعا وضروريا معا والذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا والذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا والذي لا يكون نافعا ولا يكون ضروريا أما القسم الأول - وهو الذي يكون نافعا وضروريا معا - فإما أن يكون كذلك في الدنيا فقط وهو مثل النفس - فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت وإما أن يكون كذلك في الآخرة وهو معرفة الله تعالى فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد وأما القسم الثاني - وهو الذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا - فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة وأما القسم الثالث - وهو الذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا - فكالمضار التي لا بد منها في الدنيا كالأمراض والموت والفقر والهرم ولا نظير لهذا القسم في الآخرة فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار وأما القسم الرابع - وهو الذي لا يكون نافعا ولا ضروريا - فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بد منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة لكن الموت الأول أسهل من الثاني لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد وكما أن التنفس له أثران أحدهما إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته والثاني إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب كذلك الفكر له أثران أحدهما إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه والثاني إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب وما ذاك إلا بان يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمنا من الآفات واصلا إلى الخيرات والمسرات وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بان تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله وذرة من أنوار إحسانه فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحمانا رحيما فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس وبدن وروح وجسد أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون النحل 78 ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها واعلم أنه لا نهاية لها البتة ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح(1/137)
صفحة فارغة(1/138)
العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدرا متناهيا ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضا غير متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء 85 حق وصدق وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذ يظهر لك صدق قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 وحينئذ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك فتفهم شيئا قليلا من معنى قوله الرحمن الرحيم فإن قيل فهل لغير الله رحمة أم لا قلنا الحق أن الرحمة ليست إلا لله ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره وههنا مقامان المقام الأول في بيان أنه لا رحمة إلا لله فنقول الذي يدل عليه وجوه الأول أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضا إلا أن الأعواض أقسام منها جسمانية مثل أن يعطي دينارا ليأخذ كرباسا ومنها روحانية وهي أقسام فأحدها أنه يعطي المال لطلب الخدمة وثانيها يعطى المال لطلب الإعانة وثالثها يعطي المال لطلب الثناء الجميل ورابعها يعطي المال لطلب الثواب الجزيل وخامسها يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب وسادسها يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه وكل هذه الأقسام أعواض روحانية وبالجملة فكل من أعطى فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة ولا يكون جودا ولا هبة ولا عطية أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالا فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى الحجة الثانية أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى الحجة الثالثة أن الإنسان يمكنه الفعل والترك فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب وما ذاك إلا الله تعالى فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى الحجة الرابعة هب أن فلانا يعطي الحنطة ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى فوجب أن يقال المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى المقام الثاني في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم وبيانه من(1/139)
وجوه الأول أن الإنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق الثاني أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملا تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة فكأنه تعالى يأمرك بان تكتسب لنفسك سعادة الأبد وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده ولا شك أن الحالة الأولى أفضل الثالث أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم وعبودية الله أولى من عبودية غير الله الرابع أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك فقد ينعم عليك حال ما تكون غنيا عن إنعامه وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجا إلى إنعامه وأيضا فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات فإذا ظهرت بك حاجة عرفها وإن طلبت منه شيئا قدر على تحصيله فكان ذلك أفضل الخامس الإنعام يوجب المنة وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل والله أعلم
الباب الحادي عشر
في بعض النكت المستخرجة من قولنا بسم الله الرحمن الرحيم النكتة الأولى مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه فشكا إلى الله تعالى فدله على عشب في المفازة فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه فقال يا رب أكلته أولا فانتفعت به وأكلته ثانيا فازداد مرضي فقال لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي الثانية باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ففعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان الثالثة كان بعض العارفين يرعى غنما وحضر في قطيع غنمة الذئاب وهي لا تضر أغنامه فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الذئب والغنم فقال الراعي من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى الرابعة قوله بسم الله معناه أبدأ باسم الله فأسقط منه قوله أبدأ تخفيفا فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلا على الصفح والإحسان الخامسة روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصرا وأمر أن يكتب بسم الله على بابه(1/140)
الخارج فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا فقال تعالى يا موسى لعلك تريد إهلاكه أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله السادسة سمى نفسه رحمانا رحيما فكيف لا يرحم
روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا فأعطي قليلا فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له ولم تفعل قال إما أن يجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك السابعة الله إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره الثامنة كثيرا ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئا من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء فكأنه تعالى يقول إن لطاعتك عدوا وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل بسم الله الرحمن الرحيم حتى لا يطمع العدو فيها التاسعة اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين
روي عن النبي أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال اكتب فيه لا إله إلا الله فدفعه إلى النقاش وقال اكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله فكتب النقاش فيه ذلك فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي فرأى النبي فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق فقال يا أبا بكر ما هذه الزوائد فقال أبو بكر يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله وأما الباقي فما قلته وخجل أبو بكر فجاء جبريل عليه السلام وقال يا رسول الله أما اسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد عن اسم الله عز وجل وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى العاشرة
أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة قال بسم الله مجراها ومرساها هود 41 فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة
وأيضا أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة الحادية عشرة إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم الله تعالى في قوله ( إنه من سليمان ) فالجواب من وجوه الأول أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعا على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفا على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان فأخذت الكتاب وقالت إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فقوله ( إنه من سليمان ) من كلام بلقيس لا كلام سليمان الثاني لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب إنه من سليمان وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله بسم الله الرحمن الرحيم كما هو العادة في جميع(1/141)
الكتب فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه فقالت إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فقالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم الثالث أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ليكون الشتم له لا لله تعالى الثانية عشرة الباء من بسم مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته مرض لبعضهم جار يهودي قال فدخلت عليه للعيادة وقلت له أسلم فقال على ماذا قلت من خوف النار قال لا أبالي بها فقلت للفوز بالجنة فقال لا أريدها قلت فماذا تريد قال على أن يريني وجهه الكريم قلت أسلم على أن تجد هذا المطلوب فقال لي اكتب بهذا خطا فكتبت له بذلك خطا فأسلم ومات من ساعته فصلينا عليه ودفناه فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له يا شمعون ما فعل بك ربك قال غفر لي وقال لي أسلمت شوقا إلي وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى
روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيدا وأراد قتله فقال زيد لم تقتلني قال لأن محمدا يحبك وأنا أبغضه فقال زيد يا رحمن أغثني فسمع المنافق صوتا يقول ويحك لا تقتله فخرج من الخربة ونظر فلم ير أحدا فرجع وأراد قتله فسمع صائحا أقرب من الأول يقول لا تقتله فنظر فلم يجد أحدا فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتا قريبا يقول لا تقتله فخرج فرأى فارسا معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله ودخل الخربة وحل وثاق زيد وقال له أما تعرفني أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عز وجل أدرك عبدي وفي الثانية كنت في السماء الدنيا وفي الثالثة بلغت إلى المنافق وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه
قال السدي أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام فأتوه فقالوا له يا نبي الله لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ولا غني لي عن فضلك قال فصب الله تعالى عليهم المطر فقال لهم سليمان عليه السلام ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم أما قوله الله فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله فإذا مت أقول الله وإذا سئلت في القبر أقول الله وإذا جئت يوم القيامة أقول الله وإذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله وإذا جزت الصراط أقول الله وإذا دخلت الجنة أقول الله وإذا رأيت الله قلت الله النكتة الثالثة عشرة الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فاطر 32 فقال أنا الله(1/142)
للسابقين الرحمن للمقتصدين الرحيم للظالمين وأيضا الله هو معطي العطاء والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء ومن كمال رحمته كانه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ولو علمته المرأة لجفتك ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار وأنا أعلم كل ذمك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم الرابعة عشرة الله يوجب ولايته قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا البقرة 257 والرحمن يوجب محبته قال الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا مريم 96 والرحيم يوجب رحمته وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب 43 الخامسة عشرة قال عليه الصلاة والسلام
من رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا له تعالى كتب عند الله من الصديقين وخفف عن والديه وإن كانا مشركين
وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة
وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ وإذا غشيت أهلك فقل بسم الله فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة وإذا ركبت السفينة فقل بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجابا بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجابا بينك وبين الزبانية في العقبى السادسة عشرة
كتب قيصر إلى عمر رضي الله عنه أن بي صداعا لا يسكن فابعث لي دواء فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم السابعة عشرة قال
من توضأ ولم يذكر اسم الله تعالى كان طهورا لتلك الأعضاء ومن توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهورا لجميع بدنه فإذا كان الذكر على الوضوء طهورا لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهورا للقلب عن الكفر والبدعة الثامنة عشرة طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم فقال ائتوني بالسم القاتل فأتي بطاس من السم فأخذها بيده وقال بسم الله الرحمن الرحيم وأكل الكل وقام سالما بإذن الله تعالى فقال المجوس هذا دين حق التاسعة عشرة
مر عيسى ابن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه يا عيسى كان هذا العبد عاصيا ومذ مات كان محبوسا في عذابي وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولدا وربته حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض(1/143)
العشرون
سئلت عمرة الفرغانية - وكانت من كبار العارفات - ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب الحادية والعشرون قيل في قوله الرحيم هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر وحشراته والقيامة وظلماته والميزان ودرجاته وقراءة الكتاب وفزعاته والصراط ومخافاته والنار ودركاته الثانية والعشرون كتب عارف بسم الله الرحمن الرحيم وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له أي فائدة لك فيه فقال أقول يوم القيامة إلهي بعثت كتابا وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم فعاملني بعنوان كتابك الثالثة والعشرون قيل بسم الله الرحمن الرحيم تسعة عشر حرفا وفيه فائدتان إحداهما أن الزبانية تسعة عشر فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر الثانية خلق الله تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر الرابعة والعشرون لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها بسم الله الرحمن الرحيم وأيضا السنة أن يقال عند الذبح باسم الله والله أكبر ولا يقال بسم الله الرحمن الرحيم لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان والله تعالى الهادي إلى الصواب
الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء هذه السورة وفيه أبواب
الباب الأول
اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى - فالأول فاتحة الكتاب سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء والثاني سورة الحمد والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد والثالث أم القرآن والسبب فيه وجوه - الأول أن أم الشيء أصله والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر لله تعالى فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم يدل على الإلهيات وقوله مالك يوم الدين يدل على المعاد وقوله إياك نعبد وإياك نستعين يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يدل أيضا على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات(1/144)
وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن السبب الثاني لهذا الاسم أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة إما الثناء على الله باللسان وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة وإما طلب المكاشفات والمشاهدات فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله ثناء على الله وقوله إياك نعبد وإياك نستعين اشتغال بالخدمة والعبودية إلا أن الابتداء وقع بقوله إياك نعبد وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية ثم قال وإياك نستعين وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله وأما قوله اهدنا الصراط المستقيم فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب أن المقصود من جميع العلوم إما معرفة عزة الربوبية أو معرفة ذلة العبودية فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة ثم من قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته السبب الرابع أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه وهو علم الفروع وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إشارة إلى علم الأصول لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته فقوله رب العالمين يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه ربا للعالمين وقوله الحمد لله إشارة إلى كونه مستحقا للحمد ولا يكون مستحقا للحمد إلا إذا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات ثم وصفه بنهاية الرحمة - وهو كونه رحمانا رحيما - ثم وصفه بكمال القدرة - وهو قوله مالك يوم الدين - حيث لا يهمل أمر المظلومين بل يستوفي حقوقهم من الظالمين وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية وهو قول إياك نعبد ثم مزجه أيضا بعلم الأصول مرة أخرى وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة أولها حصول هداية النور في القلب وهو المراد من قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وثانيها أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى وهو قوله صراط الذين أنعمت عليهم وثالثها أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات وهو قوله غير المغضوب عليهم وعن أوزار الشبهات وهو قوله ولا الضالين فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع(1/145)
السبب الخامس
قال الثعلبي سمعت أبا القاسم بن حبيب قال سمعت أبا بكر القفال قال سمعت أبا بكر بن دريد يقول الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر قال قيس بن الحطيم - نصبنا أمنا حتى ابذعروا
وصاروا بعد ألفتهم سلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية والعرب تسمي الأرض أما لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ولأنه يقال أم فلان فلانا إذا قصده الاسم الرابع من أسماء هذه السورة السبع المثاني قال الله تعالى ولقد آتيناك سبعاص من المثاني وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه الأول أنها مثنى نصفها ثناء العبد للرب ونصفها عطاء الرب للعبد الثاني سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة الثالث سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الرابع سميت مثاني لأنها سبع آيات كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن الخامس آياتها سبع وأبواب النيران سبعة فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة والدليل عليه ما
روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي يا محمد كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت قال لم يا جبريل قال لأن الله تعالى قال وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر 43 وآياتها سبع فمن قراها صارت كل آية طبقا على باب من أبواب جهنم فتمر أمتك عليها منها سالمين السادس سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى السابع سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له الثامن سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى سبعا من المثاني في سورة الحجر الاسم الخامس الوافية كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم قال الثعلبي وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة الاسم السادس الكافية سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها وأما غيرها فلا يكفي عنها
روي محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها(1/146)
الاسم السابع الأساس وفيه وجوه - الأول أنها أول سورة من القرآن فهي كالأساس الثاني أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه وذلك هو الأساس الثالث أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بد منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها الاسم الثامن الشفاء
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله فقال هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء وأقول الأمراض منها روحانية ومنها جسمانية والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضا فقال تعالى في قلوبهم مرض البقرة 10 وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة الاسم التاسع الصلاة قال عليه الصلاة والسلام
يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة الاسم العاشر السؤال
روي أن رسول الله حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال من شغله ذكري عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال الذي خلقني فهو يهدين الشعراء 78 إلى أن قال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين الشعراء 83 ففي هذه السورة أيضا وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله الحمد لله - إلى قوله - مالك يوم الدين ثم ذكر العبودية وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين وهو أيضا يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله اهدنا ولم يقل ارزقنا الجنة الاسم الحادي عشر سورة الشكر وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان الاسم الثاني عشر سورة الدعاء لاشتمالها على قوله اهدنا الصراط المستقيم فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء والله أعلم
الباب الثاني
في فضائل هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال الأول أنها مكية
روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ثم قال الثعلبي وعليه أكثر العلماء
وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال أول ما نزل من القرآن(1/147)
الحمد لله رب العالمين وذلك أن رسول الله أسر إلى خديجة فقال لقد خشيت أن يكون خالطني شيء فقالت وما ذاك قال إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة إذا أتاك النداء فاثبت له فأتاه جبريل عليه السلام وقال له قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال قام رسول الله فقال بسم الله الرحمن الرحيم فقالت قريش دق الله فاك والقول الثاني أنها نزلت بالمدينة
روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد لأن العلماء على خلافه ويدل عليه وجهان الأول أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ومنها قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهي فاتحة الكتاب وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم الثاني أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب القول الثالث قال بعض العلماء هذه السورة نزلت بمكة مرة وبالمدينة مرة أخرى فهي مكية مدنية ولهذا السبب سماها الله بالمثاني لأنه ثنى إنزالها وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها المسألة الثانية في بيان فضلها
عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة وعن الحسين قال أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان ثم أودع علوم الفرقان في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية المسألة الثالثة قالوا هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف وهي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور قال تعالى لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا الفرقان 14 والجيم أول حروف اسم جهنم قال تعالى وإن جهنم لموعدهم أجمعين الحجر 43 وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الأعراف 179 وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه التحريم 8 وقال تعالى إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين النحل 27 وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق قال تعالى لهم فيها زفير وشهيق هود 106 وأيضا الزاي تدل على الزقوم قال تعالى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 43 والشين تدل على الشقاوة قال تعالى فأما الذين شقوا ففي النار هود 106 وأسقط الظاء لقوله انطلقوا إلى ظل ذي(1/148)
ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب المرسلات 30 وأيضا يدل على لظى قال تعالى كلا إنها لظى نزاعة للشوى المعارج 15 وأسقط الفاء لأنه يدل على الفراق قال تعالى يومئذ يتفرقون الروم 14 وأيضا قال لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى طه 61 فإن قالوا لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فنقول الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر 44 والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم والله أعلم
الباب الثالث
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال الحمد لله فكأن سائلا يقول الحمد لله منبئ عن أمرين أحدهما وجود الإله والثاني كونه مستحقا للحمد فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين فأجاب عن السؤال الأول بقوله رب العالمين وأجاب عن السؤال الثاني بقوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل المسألة الأولى إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظريا والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه فكان قوله رب العالمين إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم ثم فيه لطائف اللطيفة الأولى أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله رب العالمين إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده وفي بقائه إلى إبقائه فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر كما قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الإسراء 44 اللطيفة الثانية أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين بل قال الحمد لله رب العالمين والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا فقال قوم الشيء حال بقائه يستغني عن السبب والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه فقوله رب العالمين تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه أما(1/149)
افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغني عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه اللطيفة الثالثة أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه فقوله رب العالمين تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله الحمد لله فأولها سورة الأنعام وهو قوله الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور الأنعام 1 واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله رب العالمين لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق ا لسماوات والأرض والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة وثانيها سورة الكهف وهو قوله الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط وقوله في أول سورة الفاتحة رب العالمين إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة وثالثها سورة سبأ وهو قوله الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض سبأ 1 فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العالمين ورابعها قوله الحمد لله فاطر السماوات والأرض فاطر 1 والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها والخلق هو التقدير والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العالمين ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسموات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله الحمد لله رب العالمين فهذا هو التنبيه على أن قوله رب العالمين يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم(1/150)
المسألة الثانية أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضا مشتملة على الدلالة على كونه متعاليا في ذاته عن المكان والحيز والجهة لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية فقوله رب العالمين يدل على كونه ربا للمكان والزمان وخالقا لهما وموجدا لهما ثم من المعلوم أن الخالق لا بد وأن يكون سابقا وجوده على وجود المخلوق ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز متعالية عن الجهة والحيز فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته وذلك محال فقوله رب العالمين يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار المسألة الثالثة هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية لأنه لما كان ربا للعالمين كان خالقا لكل ما سواه والخالق سابق على المخلوق فكانت ذاته موجودة قبل كل محل فكانت ذاته غنية عن كل محل فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبا بالذات بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع فلما حكم بكونه مستحقا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار وإنما عرفنا كونه فاعلا مختارا لأنه لو كان موجبا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ولامتنع وقوع التغير فيها وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقا للحمد المسألة الخامسة لما خلق الله العالم مطابقا لمصالح العباد موافقا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالما فثبت بما ذكرنا أن قوله الحمد لله يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزها عن الحيز والمكان ويدل على كونه منزها عن الحلول في المحل ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة وأما السؤال الثاني - وهو قوله هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء والجواب هو قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين إما أن يكون في السلامة والسعادة وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده فكان رحمانا رحيما وإن كان في المكاره والآفات فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد أو من الله فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين في يوم الدين وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بد وأن يكون مستحقا للحمد الذي لا نهاية له والثناء الذي لا غاية له فظهر(1/151)
بالبيان الذي ذكرناه أن قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين مرتب ترتيبا لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية واعلم أن الإنسان مركب من جسد ومن روح والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيا بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتيا بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته وتلك الأعمال هي العبادة فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظبا على العبادات وهذه أول درجات سعادة الإنسان وهو المراد بقوله إياك نعبد فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادة والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات وهو المراد من قوله وإياك نستعين ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم وفيه لطائف اللطيفة الأولى أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه ( الأول ) أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان فهما طرفان معوجان والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل ( والثاني ) أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بان الكل بقضاء الله وأما في الأعمال فنقول من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ومن بالغ في تركها وقع في الجمود والصراط المستقيم هو الوسط وهو العفة وأيضا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ومن بالغ في تركها وقع في الجبن والصراط المستقيم هو الوسط وهو الشجاعة اللطيفة الثانية أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية اللطيفة الثالثة قال بعضهم إنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم لم يقتصر عليه بل قال صراط الذين أنعمت عليهم وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق وعقولهم غير وافيه بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات(1/152)
وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 المسألة الثانية في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر والمحبوب والمكروه وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها إلا أن نقول الشر وإن كان كثيرا إلا أن الخير أكثر والمرض وإن كان كثيرا إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيرا إلا أن الشبع أكثر منه وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائما في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة إذا عرفت هذا فنقول إن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتا حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد من فاعل تولى بناء ذلك البيت ولو أن إنسانا شككنا فيه لم نتشكك فإنه لا بد وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادرا إذ لو كان موجبا بالذات لدام الأثر بدوامه فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيما محسنا فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ومن كان غالب أفعاله راحة وخيرا وكرامة وسلامة كان رحيما محسنا ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضرا في عقل كل أحد فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال ( الحمد لله ) ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول وكأنه قيل لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط بل هو إله كل العالمين وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول فهذا يقتضي كونه ربا للعالمين وإلها للسموات والأرضين ومدبرا لكل الخلائق أجمعين ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بد وأن يكون قادرا على إهلاكها ولا بد وأن يكون غنيا عنها فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال وحينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه وبأي طريق أتوسل إليه فعند هذا ذكر الله ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض فكأنه قال أيها العبد الضعيف أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين لا أضيع عملا من أعمالك فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة(1/153)
ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء أولها مقام الشريعة وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة وهو قوله إياك نعبد وثانيها مقام الطريقة وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب وهو قوله وإياك نستعين وثالثها أنه يشاهد عالم الشهادة معزولا بالكلية ويكون الأمر كله لله وحينئذ يقول اهدنا الصراط المستقيم ثم إن ههنا دقيقة وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة فلهذا قال صراط الذين أنعمت عليهم ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد بين أيضا أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان فلهذا قال غير المغضوب عليهم وهم الفساق ولا الضالين وهم الكفار ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة أعني الشريعة المدلول عليها بقوله إياك نعبد والطريقة المدلول عليها بقوله وإياك نستعين والحقيقة المدلول عليها بقوله اهدنا الصراط المستقيم - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية المسألة الثالثة في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى جر الخيرات واللذات ودفع المكروهات والمخافات ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوبا بالذات وكان استقراء أحوال هذا العلم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب - صار هذا المعنى سببا لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء شديد الحب لها عظيم الميل والرغبة إليها ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضا أن حب التشبه غالب على طباع الخلق أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعة إلى الفسق وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل(1/154)
والطلب في قلبه أقوى وأثبت وأيضا فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضا يوجب استحكام هذه الحالة فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدا ثم نقول إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملا شافيا وافيا فيقول هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا الأول باطل لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزا وأقلهم عقلا فعند هذا يظهر له أن تلك الإمارة والرياسة ما حصلت له بقوته وما هيئت له بسبب حكمته وإنما حصلت تلك الإمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال هو الضار وعند هذا لا يحمد أحدا على فعل إلا الله ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله فعند هذا يقول العبد الحمد لله واعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله وذلك هو قوله رب العالمين ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول الرحمن الرحيم فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحة في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال مالك يوم الدين ليس إلا الذي عرفته بأنه الرحمن الرحيم فحينئذ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله وحينئذ ينقطع التفاته عما سوى الله ولا يبقى متعلق القلب بغير الله ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولا بخدمتهما وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلا بخدمة الأمير والوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى فعند هذا يقول إياك نعبد والمعنى إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى فيقول اهدنا الصراط المستقيم ثم إن أهل الدنيا فريقان أحدهما الذين لا يعبدون أحدا إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله والفرقة الثانية الذين يخدمون الخلق ويستعينون بهم ويطلبون الخير منهم فلا جرم العبد يقول إلهي اجعلني في زمرة الفرقة(1/155)
الأولى وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا والله أعلم
الباب الرابع
في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة
المسألة الأولى أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب ونزيد ههنا وجوها الأول قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر الإسراء 78 والمراد بالقرآن القراءة والتقدير أقم قراءة الفجر وظاهر الأمر للوجوب الثاني
عن أبي الدرداء أن رجلا سأل النبي فقال أفي الصلاة قراءة فقال نعم فقال السائل وجبت فأقر النبي ذلك الرجل على قوله وجبت الثالث عن ابن مسعود أن النبي سئل أيقرأ في الصلاة فقال - عليه الصلاة والسلام -
أتكون صلاة بغير قراءة وهذان الخبران نقلتهما من تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني حجة الأصم قوله - عليه الصلاة والسلام -
صلوا كما رأيتموني أصلي جعل الصلاة من الأشياء المرئية والقراءة ليست بمرئية فوجب كونها خارجة عن الصلاة والجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم المسألة الثانية قال الشافعي - رحمه الله - قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة فإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصح صلاته وبه قال الأكثرون وقال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة لنا وجوه الأول أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 ولقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره النور 63 ولقوله تعالى فاتبعوني يحببكم الله آل عمران 31 ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على الناصية فجعل ذلك القدر من المسح شرطا لصحة الصلاة وههنا نقل أهل العلم نقلا متواترا أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها وهذا من العجائب الحجة الثانية قوله تعالى أقيموا الصلاة البقرة 43 والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان(1/156)
رسول الله يأتي بها وإذا كان كذلك كان قوله
أقيموا الصلاة جاريا مجرى قوله
أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول والتي أتى بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - هي الصلاة المشتملة على الفاتحة فيكون قوله أقيموا الصلاة أمرا بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلا قاطعا على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحجة الثالثة أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم ويدل عليه أيضا ما
روي في الصحيحين أن النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام -
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ولقوله - عليه الصلاة والسلام -
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرث فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الإطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والإخبار والمعقول الحجة الرابعة أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة إذا ثبت هذا فنقول إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركا سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا النساء 115 فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرأوها لا على اعتقاد الوجوب بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها فنقول أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة فمن لم يأت بالقراءة كان تاركا طريقة المؤمنين في هذا العمل فدخل تحت الوعيد وهذا القدر يكفينا في الدليل ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب الحجة الخامسة
الحديث المشهور وهو أنه - سبحانه وتعالى - قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله - تعالى - حمدني عبدي إلى آخر الحديث وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة فنقول الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة ولازم اللازم لازم فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة الحجة السادسة قوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب قالوا حرف النفي دخل على الصلاة وذلك غير ممكن فلا بد من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال والجواب من وجوه الأول أنه جاء في بعض الروايات لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها وخروجه عن عهدة التكليف بسببها وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره الثاني من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد(1/157)
ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزءا من الصلاة وهذا هو أول المسألة فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره الثالث هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان أحدهما أقرب إلى الحقيقة والثاني أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب إذا ثبت هذا فنقول المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحا أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحا لكنه لا يكون كاملا فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى الوجه الرابع أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه أحدها أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان والثاني أن جانب الحرمة راجح والثالث أن هذا أحوط الحجة السابعة
عن أبي هريرة عن النبي أنه قال كل صلاة لم يقرا فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام قالوا الخداج هو النقصان وذلك لا يدل على عدم الجواز قلنا بل هذا يدل على عدم الجواز لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح قال لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة وإذا ثبت هذا فنقول فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام الحجة الثامنة نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه عن ابن المنذر أنه روى بإسناده
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والحجة التاسعة
روى رفاعة بن مالك أن رجلا دخل المسجد وصلى فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل علمني الصلاة يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب وجه الدليل أن هذا أمر والأمر للوجوب وأيضا الرجل قال علمني الصلاة فكل ما ذكره الرسول وجب أن يكون من الصلاة فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءا من أجزاء الصلاة الحجة العاشرة
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها قالوا نعم قال فما تقرأوا في صلاتكم قالوا الحمد لله رب العالمين فقال هي هي وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال ما تقرأوا في صلاتكم فقالوا الحمد لله وهذا يدل على أنه كان مشهورا عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة فكان هذا إجماعا معلوما عندهم الحجة الحادية عشرة التمسك بقوله تعالى فاقرؤوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وجه الدليل أن قوله فاقرؤا أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب والثاني يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا وهو(1/158)
باطل بالإجماع والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل الحجة الثانية عشرة الأمر بالصلاة كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل الحجة الثالثة عشرة قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس ودفع الضرر عن النفس واجب فإن قالوا فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه فيبقى الخوف قلت اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضا فيتقابل هذان الضرران وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف أما تركه فيفيد الخوف فثبت أن الأحوط هو العمل الحجة الرابعة عشرة لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة الحجة الخامسة عشرة أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها والجامع رعاية الاحتياط الحجة السادسة عشرة الأصل بقاء التكليف فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة إما أن يعرف بالنص أو القياس أما الأول فباطل لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وقد بينا أنه دليلنا وأما القياس فباطل لأن التعبدات غالبة على الصلاة وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس الحجة السابعة عشرة لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعا وتركا للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام اتبعوا ولا تبتدعوا ولقوله عليه الصلاة والسلام
وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها الحجة الثامنة عشرة الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل والأول باطل بالإجماع لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة فتعين(1/159)
الثاني فنقول الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحا في الشرع واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي
عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة ا لكتاب والجواب عن الأول أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا وذلك لأن قوله فاقرؤا ما تيسر من القرآن أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب والثاني يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها وهو باطل بالإجماع والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل ( 1 ) وعن الثاني أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وأيضا لم لا يجوز أن يقال المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا لأنه أحوط ولأنه أفضل والله أعلم المسألة الثالثة لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة فقال أبو حنيفة إذا قرأ آية واحدة كفت مثل قوله آلم وحم والطور ومدهامتان وقال أبو يوسف ومحمد لا بد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة وتجب قراءتها مع الفاتحة وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل ولا يقرأ لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه وإنما قال يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا قال يعلى سألت محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال ما بين الدفتين قرآن قال قلت فلم تسره قال فلم يجبني وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة وقال بعض فقهاء الحنفية تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم فالأولى السكوت عنه(1/160)
واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل إحداها أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية وثانيتها أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها وثالثتها الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث المسألة الخامسة في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية قال والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق واحتج عليه بان التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنيا ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف وذلك يبطل الإسلام واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال نفي كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف وإن ثبت بالآحاد فحينئذ يصير القرآن ظنيا ثم أورد على نفسه سؤالا وهو أنه لو قال قائل ليس من القرآن عدم فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل لأن الأصل هو العدم واما قولنا إنه قرآن فهو ثبوت فلا بد فيه من النقل ثم أجاب عنه بان قال هذا وإن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل وحينئذ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواترا أو آحادا فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه فهذا آخر ما قيل في هذا الباب والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا إنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي وسقط تهويل القاضي المسألة السادسة في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة وهو قول ابن المبارك والثوري ويدل عليه وجوه - الحجة الأولى
روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت
قرأ رسول الله فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية الحمد لله رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية اهدنا الصراط المستقيم آية صراط(1/161)
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية وهذا نص صريح الحجة الثانية
روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال
فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثالثة
روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال قال رسول الله
إلا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري فقلت بلى فقال بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة قلت ببسم الله الرحمن الرحيم قال هي هي فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن الحجة الرابعة
روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي قال له كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة قال أقول الحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
وروى أيضا بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص
وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 قال فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال بسم الله الرحمن الرحيم وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي
أنه قال إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها وبإسناده أيضا
عن أبي هريرة أن النبي قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه مجدني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عز وجل أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وبإسناده
عن أبي هريرة قال كنت مع رسول الله في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال الحمد لله رب العالمين فسمع النبي ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد من تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته وبإسناده
عن طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله(1/162)
واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله الحجة الخامسة قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول قوله تعالى اقرأ باسم ربك العلق 1 ولا يجوز أن يقال الباء صلة زائدة لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة وإذا كان هذا الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صونا للنص عن التعطيل الحجة السادسة التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن ولما أجمعوا على كتابتها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن الحجة السابعة أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين فوجب جعلها من كلام الله تعالى ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتا واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي الحجة الثامنة أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية واحدة وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال بسم الله ليس بآية منها لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية منها تامة الحجة التاسعة أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق الحجة العاشرة قوله عليه السلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدوا للرسول عليه السلام فقال إن شانئك هو الأبتر الكوثر 3 فلزم أن يقال الصلاة الخالية عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل والنقصان قال بفساد هذه الصلاة وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها(1/163)
الحجة الحادية عشرة
ما روي أن النبي قال لأبي بن كعب ما اعظم آية في كتاب الله تعالى فقال بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم بل هذا بعض آية فلا بد وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة الحجة الثانية عشرة إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن فأعاد معاوية الصلاة وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها الحجة الثالثة عشرة أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله فوجب أن يجب على رسولنا ذلك وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضا في حقنا وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة أما المقدمة الأولى فالدليل عليها أن نوحا عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها هود 41 وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم الله الرحمن الرحيم فإن قالوا أليس أن قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى قلنا معاذ الله أن يكون الأمر كذلك وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب وكانت قد سمعت باسم سليمان فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم الله الرحمن الرحيم والمقدمة الثانية أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده الأنعام 90 وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق الحجة الرابعة عشرة أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق والقديم الخالق يجب أن يكون سابقا على المحدث المخلوق وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبرا في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضا أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق الحجة الخامسة عشرة أن بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه(1/164)
مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان من سورة الرحمن وقوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين من سورة المرسلات مكررا في القرآن بخط واحد وصورة واحدة قلنا إن الكل من القرآن الحجة السادسة عشرة
روى أنه كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها هود 41 فكتب بسم الله فنزل قوله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الإسراء 110 فكتب بسم الله الرحمن فلما نزل قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 كتب مثلها وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن ومجموعها من القرآن ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك وذلك يوجب الطعن في القرآن الحجة السابعة عشرة قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته وهل يجوز للجنب قراءته وللمحدث مسه فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واحتج المخالف بأشياء الأول تعلقوا بخبر أبي هريرة وهو أن النبي قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها والثاني أنه تعالى قال
جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد من الصلاة الفاتحة وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد - وللعبد ثلاث آيات ونصف - وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة - أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد آيتان ونصف وذلك يبطل التنصيف المذكور الحجة الثانية
روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة الحجة الثالثة لو كان قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم وذلك بخلاف الدليل والجواب عن الحجة الأولى من وجوه الأول
أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي الثاني
روى أبو داود السختياني ( 1 ) عن(1/165)
النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي إذا عرفت هذا فنقول قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي يعني في القسمة وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه الثالث أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضا يحتمل النصف في المعنى قال عليه الصلاة والسلام
الفرائض نصف العلم وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان وقال شريح أصبحت ونصف الناس علي غضبان سماه نصفا من حيث أن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون الرابع أن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة وهذا الخبر الذي تمسكوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا لكن المقصود منه بيان شيء آخر فكانت دلائلنا أقوى وأظهر الخامس أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال لعل عائشة جعلت الحمد لله رب العالمين اسما لهذه السورة كما يقال قرأ فلان الحمد لله الذي خلق السموات والمراد أنه قرا هذه السورة فكذا ههنا وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وتأكيد كون الله تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات والله أعلم المسألة السابعة في بيان عدد آيات هذه السورة رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول هذه السورة ثمان آيات فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات وبه فسروا قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 إذا ثبت هذا فنقول الذين قالوا إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية تامة وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى إذا عرفت هذا فنقول الذي قاله الشافعي أولى ويدل عليه وجوه الأول أن مقطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم لأنا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة ق والمتشاكلة كما في سورة القمر وقوله أنعمت عليهم ليس من القسمين فامتنع جعله من المقاطع الثاني أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد وكذلك الاستثناء مع المستثنى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل أما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاما واحدا وآية واحدة وذلك أقرب إلى الدليل الثالث أن المبدل منه في حكم المحذوف فيكون تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالا فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به(1/166)
والدليل عليه قوله تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا إبراهيم 28 وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم فثبت أنه لا يجوز فصل قوله صراط الذين أنعمت عليهم عن قوله غير المغضوب عليهم بل هذا المجموع كلام واحد فوجب القول بأنه آية واحدة فإن قالوا أليس أن قوله الحمد لله رب العالمين آية واحدة وقوله الرحمن الرحيم آية ثانية ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها بل هي متعلقة بما قبلها قلنا الفرق أن قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ولا كذلك هذا لما بينا أن مجرد قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاما تاما بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فظهر الفرق المسألة الثامنة ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآنا واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي قال في سورة الملك
إنها ثلاثون آية وفي سورة الكوثر إنها ثلاث آيات ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل فإن قالوا لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا أنها بعض آية من سائر السور قلنا هذا غير بعيد ألا ترى أن قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ثم صار مجموع قوله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 آية واحدة فكذا ههنا وأيضا فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور فسقط هذا السؤال المسألة التاسعة يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة وأما الشافعي فإنه قال إنها آية منها ويجهر بها وقال أبو حنيفة ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضا فنقول الجهر بها سنة ويدل عليه وجوه وحجج الحجة الأولى قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة وإذا ثبت هذا فنقول الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية فأما أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا فهذا مفقود في جميع السور وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية الحجة الثانية أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله تعالى فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا البقرة 200 ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرا بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفا منه فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر(1/167)
الله أولى عملا بقوله فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا الحجة الثالثة هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخرا بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره ولا شك أن هذا مستحسن في العقل فيكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ومما يقوى هذا الكلام أيضا أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره لئلا ينكشف ذلك العيب أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفاؤه ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكرا لله بالتعظيم ولهذا قال عليه السلام
طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول
يا من ذكره شرف للذاكرين ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه ولهذا السبب نقل أن عليا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين الحجة الرابعة ما رواه الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت منا الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير عند الركوع والسجود ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير قال الشافعي إن معاوية كان سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية الحجة الخامسة
روى البيهقي في السنن الكبير عن أبي هريرة قال كان رسول الله يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلى بن أبي طالب فقد اهتدى والدليل عليه قوله عليه السلام
اللهم أدر الحق مع علي حيث دار الحجة السادسة أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بد من إضماره والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات أو ما يجري مجرى هذا المضمر ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة واحتج المخالف بوجوه وحجج
روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين وروى مسلم هذا الخبر(1/168)
في صحيحه وفيه أنهم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وفي رواية أخرى
ولم أسمع أحدا منهم قال بسم الرحمن الرحيم وفي رواية رابعة
فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثانية
ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وخلف عمر وعثمان فابتدؤا القراءة بالحمد لله رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين وأقول إن أنسا وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا عليا وذلك يدل على إطباق الكل على أن عليا كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثالثة قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية الأعراف 55 واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة الأعراف 205 وبسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله فوجب إخفاؤه وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين والجواب عن خبر أنس من وجوه الأول قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني
روي عن أنس في هذا الباب ست روايات أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات إحداها قوله صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين وثانيتها قوله إنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وثالثتها قوله لم أسمع أحدا منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية وثلاث أخرى تناقض قولهم إحداها ما ذكرنا أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم وثانيتها
روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وثالثتها أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام فلعل أنسا خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى فهذا جواب قاطع في المسألة ثم نقول هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا إلا أن الترجيح معنا وبيانه من وجوه الأول أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وهؤلاء كانوا اكثر علما وقربا من رسول الله من أنس وابن المغفل والثاني أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بان إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي والثالث أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر والعلماء على غير(1/169)
العلماء والأشراف على الأعراب ولا شك أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل والغالب على الظن أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه وأيضا أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها الإسراء 110 وأيضا فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله وأن أنسا وابن المغفل ما سمعاه الرابع قال الشافعي لعل المراد من قول أنس كان رسول الله يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان قدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة الخامس لعل المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت كما قال تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها الإسراء 110 السادس الجهر كيفية ثبوتية والإخفاء كيفية عدمية والرواية المثبتة أولى من النافية السابع أن الدلائل العقلية موافقة لنا وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه وأما التمسك بقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة الأعراف 205 فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر أما قوله بسم الله الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع فكان الجهر به أولى المسألة العاشرة في تفاريع التسمية وفيه فروع - الفرع الأول قالت الشيعة السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه الفرع الثاني الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان الأول أن التسمية ليست من القرآن وهؤلاء فريقان منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور وهذا الفصل قد صار الآن معلوما فلا حاجة إلى إثبات التسمية فعلى هذا لو لم تكتب لجاز ومنهم من قال إنه يجب إثباتها في المصاحف ولا يجوز تركها أبدا والقول الثاني أنها من القرآن وقد أنزلها الله تعالى ولكنها آية مستقلة بنفسها وليست آية من السورة وهؤلاء أيضا فريقان منهم من قال إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال لا بل أنزلها مرة واحدة وأمر بإثباتها في أول كل سورة والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها وعلى أنها من القرآن ما
روي عن أم سلمة أن النبي كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة وعن إبراهيم بن يزيد قال قلت لعمرو بن دينار إن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن فقال سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها وعن عبد الله بن المبارك أنه قال من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية وروي مثله عن ابن عمر وأبي هريرة(1/170)
الفرع الثالث القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جني وسفيان الثوري وابن أبي ليلى يقرا التسمية سرا وقال مالك لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرا ولا جهرا وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك الفرع الرابع مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعا عن أبي حنيفة أنه قال إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها قال وإن قرأها مع كل سورة فحسن الفرع الخامس ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة لقوله عليه السلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر الفرع السادس اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم والصحيح عندنا أنه لا يجوز الفرع السابع أجمع العلماء على أن تسمية الله على الوضوء مندوبة وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله
توضأ كما أمرك الله به والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمدا أو سهوا لم تصح صلاته وقال إسحق إن تركها عامدا لم يجز وإن تركها ساهيا جاز الفرع الثامن متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف الحج 36 وقال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الأنعام 121 الفرع التاسع أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول بسم الله فإذا نام قال بسم الله وإذا قام من مقامه قال بسم الله وإذا قصد العبادة قال بسم الله وإذا دخل الدار قال بسم الله أو خرج منها قال بسم الله وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال بسم الله ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول بسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل بسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضا بسم الله وإذا حضر الموقف قال بسم الله فتتباعد عنه النار ببركة قوله بسم الله المسألة الحادية عشرة ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها وقال أبو حنيفة إنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد إنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه لنا حجج ووجوه الحجة الأولى أنه إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى(1/171)
باللفظ العربي وواظب عليه طول عمره فوجب أن يجب علينا مثله لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي الحجة الثانية أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ الحجة الثالثة أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام
ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار الحجة الرابعة أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين النساء 115 الحجة الخامسة أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن فوجب أن لا يخرج عن العهدة إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 ولقوله عليه السلام للأعرابي
ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه الأول قوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين الشعراء 192 إلى قوله بلسان عربي مبين الشعراء 195 الثاني قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه إبراهيم 4 الثالث قوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا فصلت 44 وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا فيلزم أن يقال إن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن الرابع قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا الإسراء 88 فهذا الكلام المنظوم بالفارسية إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله أو لا عينه ولا مثله والأول معلوم البطلان بالضرورة والثاني باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلا لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتيا بمثل القرآن وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله لا يأتون بمثله الإسراء 88 ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن ولم يأت به فوجب أن يبقى في العهدة الحجة السادسة
ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فنقول هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع وبيانه من وجوه الأول أن أحدا من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن الثاني يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول وذلك باطل الحجة السابعة
روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا قال يا رسول الله إني لا أستطيع أن أحفظ(1/172)
القرآن كما يحسن في الصلاة فقال
قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح وذلك يبطل قول من يقول أنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت الحجة الثامنة يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاها رحمانا ومرحيانا وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا الحجة التاسعة أنا إذا ترجمنا قوله تعالى فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه الكهف 19 كان ترجمته بفرستيديكي أزشمابانقرة بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست يارة ازان بياورد ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام
إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات لأنه لا قائل بالفرق وأيضا فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى هماز مشاء بنميم القلم 11 إلى قوله عتل بعد ذلك زنيم القلم 12 فإن ترجمتها تكون شتما من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى وكذلك قوله تعالى ادع ( 1 ) لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها البقرة 61 فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى الحجة العاشرة قوله عليه الصلاة والسلام
أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآنا لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة الحجة الحادية عشرة أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة وبقراءة زيد وإنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعا ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين الحجة الثانية عشرة أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان اهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول الحجة الثالثة عشرة لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن(1/173)
بالفارسية ويصلي بها ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق لأن ذلك يزيل عنهم إتعاب النفس في تعلم اللغة العربية ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية وذلك لا يقوله مسلم الحجة الرابعة عشرة لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية وهذا جائز وذاك غير جائز بيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني قال تعالى وأقم الصلاة لذكري طه 14 وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها محمد 24 فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد فلو كانت القراءة بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة الحجة الخامسة عشرة المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم والفارق ظاهر أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه وذلك من وجهين الأول أن الإعجاز في فصاحته وفصاحته في لفظه والثاني أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر 9 أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن وقراءة الترجمة قراءة القرآن ويدل عليه وجوه الأول
روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 43 وكان الرجل عجميا فكان يقول طعام اليتيم فقال قل طعام الفاجر ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين الشعراء 196 فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى الأعلى 19 ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث أنه تعالى قال وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به الأنعام 19 ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن والجواب عن الأول أن نقول إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول أنا مؤمن إن شاء الله ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن(1/174)
مسعود ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا بل تقول إن القائل به شاك في دينه والشاك لا يكون مؤمنا فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة ولعمري هذه المناقضات عجيبة وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به وأن نقول إنه رجع عن هذه المذاهب وأما قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين الشعراء 196 فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين وقوله تعالى لأنذركم الأنعام 19 فالمعنى لأنذركم معناه وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها المسألة الثانية عشرة قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها وقال في القديم تجب القراءة إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال ولنا وجوه الحجة الأولى قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم الحجة الثانية
أنه كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 إلا أن يقال إن كونه مأموما يمنع منه إلا أنه معارضة الحجة الثالثة أنا بينا أن قوله تعالى وأقيموا الصلاة البقرة 43 أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله يفعلها ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة فكان قوله أقيموا الصلاة يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة الحجة الرابعة قوله عليه السلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقد ثبت تقرير وجه الدليل فإن قالوا هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي
قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام قلنا هذا الحديث طعنوا فيه الحجة الخامسة قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي علمه أعمال الصلاة
ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وهذا يتناول المنفرد والمأموم الحجة السادسة
روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال ما لي أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا أي والله قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها قال أبو عيسى الترمذي هذا حديث حسن الحجة السابعة
روى مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله
من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تام قال فقلت يا أبا هريرة إني أكون أحيانا خلف الإمام قال اقرأ بها يا فارسي في نفسك(1/175)
والاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أن صلاة المقتدي بدون مبرة عن الخداج عند الخصم وهو على خلاف النص الثاني أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة وذلك يؤيد المطلوب الحجة الثامنة
روى أبو هريرة أن النبي قال إن الله تعالى يقول قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي الحجة التاسعة
روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال بعضنا إنا لنصنع ذلك فقال وأنا أقول مالي أنازع القرآن لا تقرؤا شيئا من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها الحجة العاشرة أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها الحجة الحادية عشرة وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة فثبت أن القراءة أحوط فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك الحجة الثانية عشرة إذا بقي المقتدي ساكتا عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلا فوجب أن يكون حال القارئ أفضل منه لقوله عليه الصلاة والسلام
أفضل الأعمال قراءة القرآن وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب لأنه لا قائل بالفرق الحجة الثالثة عشرة لو كان الاقتداء مانعا من القراءة لكان الاقتداء حراما لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة والمانع من العبادة الشريفة محرم فيلزمه أن يكون الاقتداء حراما وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا الأعراف 204 واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم وبالغنا فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير وأما الأخبار فقد ذكروا أخبارا كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها ثم نقول هب أنها صحيحة ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه الأول أن قولنا يوجب الاشتغال بقراءة القرآن وهو من أعظم الطاعات وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر الله ولا شك أن قولنا أولى الثاني أن قولنا أحوط الثالث أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر المسألة الثالثة عشرة قال الشافعي رضي الله عنه
قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في(1/176)
ركعة بطلت صلاته قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة أحدها قول الأصم وابن علية وهو أن القراءة غير واجبة أصلا والثاني قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القراءة إنما تجب في ركعة واحدة لقوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب والاستثناء من النفي إثبات فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء والثالث قول أبي حنيفة وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة وهو في الأخيرتين بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت وذكر في كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين والرابع نقل ابن الصباغ في كتاب الشامل عن سفيان أنه قال تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين والخامس وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات ولا تجب في جميعها فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات وإن كانت مغربا كفت في ركعتين وإن كانت صبحا وجبت القراءة فيهما معا والسادس وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات ويدل على صحته وجوه الحجة الأولى أنه كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 الحجة الثانية أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن ثم قال وكذلك فافعل في كل ركعة والأمر للوجوب فإن قالوا قوله
فافعل في كل ركعة راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال قلنا القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال الحجة الثالثة نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب الشامل عن أبي سعيد الخدري أنه قال
أمرنا رسول الله أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة الحجة الرابعة القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها الحجة الخامسة أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت
فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر وإذا ثبت هذا فنقول الركعتان الأوليان أصل والأخريان تبع ومدار الأمر في التبع على التخفيف ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما ولا يجهر بالقراءة فيهما والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى ومذهبنا أحوط فكان أرجح المسألة الرابعة عشرة إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع الفرع الأول قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفا من حروفها عمدا بطلت صلاته أما لو تركها سهوا قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له تركت القراءة قال كيف كان الركوع والسجود قالوا حسنا قال فلا بأس قال الشافعي فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعا ورجع الشافعي عنه في الجديد وقال تفسد صلاته لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين الأول أن الشعبي
روى أن عمر رضي الله عنه أعاد(1/177)
الصلاة والثاني أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة قال الشافعي هذا هو الظن بعمر الفرع الثاني تجب الرعاية في ترتيب القراءة فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له الأول دون الأخير الفرع الثالث الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة إما أن يحفظ بعضها وإما أن لا يحفظ شيئا منها أما الأول فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب وأما الثاني - وهو أن لا يحفظ شيئا من الفاتحة - فههنا إن حفظ شيئا من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ لقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وإن لم يحفظ شيئا من القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر وهو التكبير والتحميد وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء حجة الشافعي
ما روى رفاعة بن مالك أن رسول الله قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله ثم يكبر فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبر بقي ههنا قسم واحد وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئا من القرآن ولا يحفظ أيضا شيئا من الأذكار العربية وعندي أنه يؤمر بذكر الله تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم المسألة الخامسة عشرة نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن واعلم أن هذا في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذ كان ابن مسعود عالما بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلا في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة والله الهادي للصواب
الباب الخامس
في تفسير سورة الفاتحة وفيه فصول
الفصل الأول
في تفسير قوله تعالى الحمد لله وفيه وجوه الأول ههنا ألفاظ ثلاثة الحمد والمدح والشكر فنقول الفرق بين الحمد والمدح من وجوه الأول أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أن المدح أعم من الحمد الوجه الثاني في الفرق أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان الوجه الثالث في الفرق أن المدح قد يكون منهيا عنه
قال عليه الصلاة والسلام احثوا التراب في وجوه المداحين أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا
قال(1/178)
من لم يحمد الناس لم يحمد الله الوجه الرابع أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختارا فقوله الحمد لله يدل على كون هذا القائل مقرا بأن إله العالم ليس موجبا بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضا فقوله الحمد لله أولى من قوله الشكر لله لأن قوله الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كان العبد يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم وقيل الحمد على ما دفع الله من البلاء والشكر على ما أعطى من النعماء فإن قيل النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل قلنا فيه وجوه الأول كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما الثاني المنع غير متناه والإعطاء متناه فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى الثالث أن دفع الضرر أهم من جلب النفع فلهذا قدمه الفائدة الثانية أنه تعالى لم يقل أحمد الله ولكن قال الحمد لله وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه أحدها أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده أما لما قال الحمد لله فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا او لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم وثانيها أن قولنا الحمد لله معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد فقولنا الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده وثالثها أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمدا يليق به وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال من أنا حتى أحمده لكنه محمود بجميع حمد الحامدين مثاله ما لو سئلت هل لفلان عليك نعمة فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق فقد حمدته بأكمل المحامد ورابعها أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن فثبت أن قوله الحمد لله(1/179)
أولى من قوله أحمد الله ونظيره قولنا لا إله إلا الله فإنه لا يدخله التكذيب بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا الله لأنه قد يكون كاذبا في قوله أشهد ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين والله يشهد إن المنافقين لكاذبون المنافقون 1 ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا الله الفائدة الثالثة اللام في قوله الحمد لله يحتمل وجوها كثيرة أحدها الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها الملك كقولك الدار لزيد وثالثها القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان واللام في قولك الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل الفائدة الرابعة قوله الحمد لله ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة الفائدة الخامسة الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف وفيه قولان الأول أنه إن كان مسبوقا بمعهود سابق انصرف إليه وإلا يحمل على الاستغراق صونا للكلام عن الإجمال والقول الثاني أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط إذا عرفت هذه فنقول قوله الحمد لله إن قلنا بالقول الأول أفاد أن كل ما كان حمدا وثناء فهو لله وحقه وملكه وحينئذ يلزم أن يقال إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد والثناء البتة وإن قلنا بالقول الثاني كان معناه أن ماهية الحمد حق لله تعالى وملك له وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله فإن قيل أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية وقال عليه السلام
من لم يحمد الناس لم يحمد الله قلنا إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله الفائدة السادسة أن قوله الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله فكذلك العقل دل عليه وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا إما ثوابا أو ثناء أو توصيل حق أو تخليصا للنفس من خلق البخل وطالب العوض لا يكون منعما فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأن تحصيل الحاصل محال فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا فلا جرم كان مستحقا للحمد فثبت(1/180)
أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة أحدها أن تكون منفعة والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى وثالثها أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد لله الفائدة السابعة قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر إذا عرفت هذا فنقول وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه الأول أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها الثاني أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر وإذا زال عنه العوائق والحوائل فكل ذلك إنعام من الله تعالى فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه وتلك النعم أيضا توجب الشكر وعلى هذا التقدير فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها وذلك محال والموقوف على المحال محال فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به الثالث أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد لله بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد الله وشكره وبالثناء عليه الرابع أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه ( أحدها ) أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد وثانيها أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك وثالثها أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا الله بل قال الحمد لله لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا(1/181)
عليه ونقل أن داود عليه السلام قال
يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر فقال يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك الفائدة الثامنة
عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه أو كان عطشانا فأرواه أو كان عريانا فكساه أما إذا قال العبد الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ثم جميع هذه المحامد متناهية وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد الحمد لله رب العالمين فلهذا السبب قال تعالى
انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له أقول ههنا دقيقة أخرى وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية وقوله الحمد لله حمد غير متناه ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه فكأنه تعالى يقول عبدي إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي فثبت أن قول العبد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها الفائدة التاسعة لا شك أن الوجود خير من العدم والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه وقد ثبت أن الوجود نعمة فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح الأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر فإذا قال العبد الحمد لله فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلي بل المراد الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لأحد معك فيها شركة ومنازعة الفائدة العاشرة لقائل أن يقول التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال سبحان الله والحمد لله فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه(1/182)
محسنا إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاما والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسنا بالعباد إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد وإلا إذا كان قادرا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه وإلا إذا كان غنيا عن كل الحاجات إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات فثبت أن الابتداء بقوله الحمد لله أولى من الابتداء بقوله سبحان الله الفائدة الحادية عشرة الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل لقوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم إبراهيم 7 والعقل أيضا يدل عليه وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى وأبواب معرفته ومحبته وذلك من أعظم النعم فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى ولما كان لا نهاية لدرجات الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة الفائدة الثانية عشرة الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها قيل للسري السقطي كيف يجب الإتيان بالطاعة قال أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله فقيل كيف ذلك قال وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ثم إن نعم الله على العبد كثيرة إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين نعم الدنيا ونعم الدين ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ثم نعم الدين قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب والقسم الثاني أشرف ثم نعم الدنيا قسمان تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم والقسم الثاني أشرف فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقا لموضعه لائقا بسببه الفائدة الثالثة عشرة أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين وأما الثاني فهو قوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ففاتحة العالم مبنية على الحمد(1/183)
وخاتمته مبنية على الحمد فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير الفائدة الرابعة عشرة من الناس من قال تقدير الكلام قولوا الحمد لله وهذا عندي ضعيف لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه الأول أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقا له وملكا له وهذا كلام تام في نفسه فلا حاجة إلى الإضمار الثاني أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير الثالث ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده اعمل كذا وكذا لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل ثم إذا كان الولد كريما فإنه يجيب ويطيعه وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد فيكون إثمه أقل فكذلك ههنا قال الله تعالى الحمد لله فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا إثمه أقل الفائدة الخامسة عشرة تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد لله أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه الأول أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى واجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد الثاني أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلا فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطن قبيح لقوله تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا آل عمران 188 الثالث أنا قد دللنا على أن قوله الحمد لله يدل ظاهره على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلا وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله الرابع أن قوله الحمد لله مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق فلما بدأ كتابة بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية والخامس أن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن وإلا كانت عبثا وذلك في حقه محال والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة وإما أن تكون من باب التفضل أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين وأما الذي يكون من باب التفضل أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين وأما الذي يكون باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان فنقول هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا الحمد لله وتقريره أن نقول أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد(1/184)
والمدح السادس قوله الحمد لله يدل على أنه تعالى محمود فنقول استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب وذلك يهدم أصول المعتزلة وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتا له لذاته - فنقول فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا إن قوله الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ولا جور في أقضيته ولا ظلم في أحكامه وعندنا أن الله تعالى كذلك فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ولا جور إلا وهو حكمه ولا عبث إلا وهو صنعه لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد أو على نفسه فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه وذلك باطل قالوا فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا الفائدة السادسة عشرة اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع من الناس من قال إنه ثابت بالسمع لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا الإسراء 15 ولقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل النساء 165 ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق والدليل عليه قوله تعالى الحمد لله وبيانه من وجوه الأول أن قوله الحمد لله يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع الثاني أنه تعالى قال الحمد لله رب العالمين وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم وإذا كان كذلك ثبت أن اسحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده الفائدة السابعة عشرة يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون تحميد الله مغايرا لقولنا الحمد لله فنقول حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب أو فعل اللسان أو فعل الجوارح أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال فهذا هو المراد من الحمد واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام(1/185)
فريقين الفريق الأول الذين قالوا إنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه واحتجوا عليه بوجوه الأول أن ذلك التحميد إما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أولا وبناء عليه فالأول باطل لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة وذلك يقدح في كمال الكرم فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء وذلك يوجب الظلم الثاني قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر فوجب أن لا يكون مشروعا الثالث أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك وهذا الحمد لا نفع له في حق الله فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد وهذا لا يليق بالحكم الكريم الفريق الثاني قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه الأول أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل والثاني أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم الثالث أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس وذلك مقام نازل والله أعلم
الفصل الثاني
في تفسير قوله رب العالمين وفيه فوائد
الفائدة الأولى اعلم أن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته وإما أن يكون ممكنا لذاته أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم لأن المتكلمين قالوا العالم كل موجود سوى الله وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم إذا عرفت هذا فنقول كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون صفة للمتحيز وإما أن لا يكون متحيزا ولا صفة للمتحيز فهذه أقسام ثلاثة القسم الأول المتحيز وهو إما أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون فإن كان قابلا للقسمة فهو الجسم وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة أما البسيطة فهي العناصر الأربعة وأحدها كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة وثانيها كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى وثالثها كرة الهواء ورابعها كرة النار وأما الأجسام المركبة فهي النبات والمعادن والحيوان على كثرة أقسامها وتباين أنواعها وأما القسم الثاني - وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات - فهي الأعراض والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسا من أجناس الأعراض أما الثالث - وهو الممكن الذي لا يكون متحيزا ولا صفة للمتجيز - فهو(1/186)
الأرواح وهي إما سفلية وإما علوية أما السفلية فهي إما خيرة وهم صالحو الجن وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته فيكون محتاجا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته وأيضا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المتبقي والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد لله رب العالمين وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رب العالمين الفائدة الثانية المربي على قسمين أحدهما أن يربي شيئا ليربح عليه المربي والثاني أن يربيه ليربح المربي وتربية كل الخلق على القسم الأول لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثوابا أو ثناء والقسم الثاني هو الحق سبحانه كما قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره وبيانه من وجوه الأول ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم الثاني أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر كما قال تعالى وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم الحجر 21 الثالث أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه والحق تعالى بخلاف ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام
إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء الرابع أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط أما الحق تعالى فأنه يعطي قبل السؤال ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم وحال ما كنت جاهلا غير عاقل لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية الخامس أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة السادس أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156 فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين الفائدة الثالثة أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة إما لكونه كاملا في ذاته وفي صفاته منزها عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك وإما لكونه محسنا إليك ومنعما عليك وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان وإما لأجل انك تكون خائفا من قهره وقدرته وكمال سطوته فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى يقول إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين وهو المراد من قوله الحمد لله وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا(1/187)
الرحمن الرحيم وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين الفائدة الرابعة وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية ونحن نذكر منها أمثلة المثال الأول لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولا ثم مضغة ثانيا ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ثم اتصل البعض بالبعض ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى فحصلت القوة الباصرة في العين والسامعة في الأذن والناطقة في اللسان فسبحان من أسمع بعظم وبصر بشحم وأنطق بلحم واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض وهو عروق الشجرة فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا ثم الثمار ثانيا ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية كما قال تعالى إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا عبس 25 الآيات المثال الثالث أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب يونس 5 ما خلق الله ذلك إلا بالحق وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الأنعام 97 واقرأ قوله ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا - إلى آخر الآية النبأ 6 واعلم انك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة ودلائل رحمته لائحة ظاهرة وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد لله رب العالمين الفائدة الخامسة أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكا ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربا للعالمين ومن عرف ذاتا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها وذلك يدل على أن كونه ربا للعالمين أكمل الصفات والأمر كذلك لأن أكمل المراتب أن يكون تاما وفوق التمام فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام الفائدة السادسة أنه يملك عبادا غيرك كما قال وما يعلم جنود ربك إلا هو المدثر 31 وأنت ليس لك رب سواه ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كان لك ربا غيره فما أحسن هذه(1/188)
التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض وبالليل عن المخافات من غير عوض واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ويصونه من المخافات بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات فما أكبر هذه التربية وما أحسنها أليس من التربية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال
الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب فلهذا المعنى قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن الأنبياء 42 ما ذاك إلا الملك الجبار والواحد القهار ومقلب القلوب والأبصار والمطلع على الضمائر والأسرار الفائدة السابعة قالت القدرية إنما يكون تعالى ربا للعالمين ومربيا لهم لو كان محسنا إليهم دافعا للمضار عنهم أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه لم يكن ربا ولا مربيا بل كان ضارا ومؤذيا وقالت الجبرية إنما سيكون ربا ومربيا لو كانت النعمة صادرة منه والألطاف فائضة من رحمته ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون ربا للعالمين إليهم محسنا بخلق الإيمان فيهم الفائدة الثامنة قولنا الله أشرف من قولنا رب على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى ثم إن الداعي في أكثر الأمر يقول يا رب يا رب والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها
الفصل الثالث
في تفسير قوله الرحمن الرحيم وفيه فوائد
الفائدة الأولى الرحمن هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد والرحيم هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفا لبعض القوم فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفا فاتبعته تعجبا فنزل في بعض التلال وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه
وروي عن ذي النون أنه قال كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي وصرت بحيث ما ملكت نفسي فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعا واقفا على طرف الوادي فوثب العقرب على ظهر الضفدع واخذ الضفدع يسبح ويذهب فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ونزل العقرب من ظهره واخذ يعدو فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه والأفعى أيضا لدغ العقرب فماتا معا وسلم الإنسان منهما ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته ثم إن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه فعند ذلك تعود أمه إليه ولهذا السبب جاء في أدعية العرب يا رزاق النعاب في عشه فظهر بهذه الأمثلة أن فضل الله عام وإحسانه شامل ورحمته واسعة(1/189)
واعلم أن الحوادث على قسمين منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك بل يكون في الحقيقة عذابا ونقمة ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة مع أنه يكون في الحقيقة فضلا وإحسانا ورحمة أما القسم الأول فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة وأما القسم الثاني كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة وفي الحقيقة رحمة وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب وفي الباطن راحة ورحمة فالأبله يغتر بالظواهر والعاقل ينظر في السرائر إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذابا وألما في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة وتحقيقه ما قيل في الحكمة إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم الإسراء 7 والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار كما قال تعالى ففروا إلى الله الذاريات 50 وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام فإن موسى كان يبني الحكم عن ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك الكهف 79 فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسرارا خفية وحكما بالغة وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم الفائدة الثانية الرحمن اسم خاص بالله والرحيم ينطلق عليه وعلى غيره فإن قيل فعلى هذا الرحمن أعظم فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى والجواب لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال جئتك لمهم يسير فقال اطلب للمهم اليسير رجلا يسيرا كأنه تعالى يقول لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة ولكن كما علمتني رحمانا تطلب مني الأمور العظيمة فأنا أيضا رحيم فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك كما قال تعالى لموسى
يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك الفائدة الثالثة وصف نفسه بكونه رحمانا رحيما ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال ورحمة منا وكان أمرا مقضيا مريم 21 فتلك الرحمة صارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار الفجار ثم إنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم الله الرحمن الرحيم ومرة في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سببا لخلاص مريم عليها السلام عن(1/190)
المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سببا لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار الفائدة الرابعة أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه فكأنه تعالى يقول أنا رحمن لأنك تسلم إلي نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة كما قال تعالى وصوركم فأحسن صوركم غافر 64 وأنا رحيم لأنك تسلم إلي طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة الفائدة الخامسة روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروه به فقام ودخل عليه وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أما كان يصلي أما كان يصوم أما كان يزكي فقالوا بلى فقال هل عق والديه فقالوا بلى فقال عليه السلام
هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام هلا عفوت عنه فقالت لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني فقال عليه السلام هاتوا بالحطب والنار فقالت وما تصنع بالنار فقال عليه السلام أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك فقالت عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم فعند ذلك انطلق لسانه وذكر أشهد أن لا إله إلا الله والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار الفائدة السادسة لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فظهر أنه يوم القيامة يقول أمتي أمتي فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 فإن كان أثر الرحمة والواحدة هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم وأيضا روي أنه عليه السلام قال
اللهم اجعل حساب أمتي على يدي ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديونا بدرهمين وأخرج عائشة عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم فرحمتي لا نهاية لها ومعصيتهم متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانيا فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي لأني أنا الرحمن الرحيم الفائدة السابعة قالت القدرية كيف يكون رحمانا رحيما من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه وكيف يكون رحمانا رحيما من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه وقالت الجبرية أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله والله أعلم(1/191)
الفصل الرابع
في تفسير قوله مالك يوم الدين وفيه فوائد
الفائدة الأولى قوله مالك يوم الدين أي مالك يوم البعث والجزاء وتقريره أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي والموافق والمخالف وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 31 وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ص 8 وقال إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى طه 15 واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا وذلك هو المراد بقوله مالك يوم الدين وبقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - الآية الزلزلة 7
روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك فيقول إلهي ماذا عملت فيقول الله تعالى ألست لما كنت نائما تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك الله ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك وأيضا يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله فلا يثقل مع ذكر الله غيره واعلم أن الواجبات على قسمين حقوق الله تعالى وحقوق العباد أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي وإن حككتها انحدر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها قولي لمولاك أن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال فأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ههنا ما هو أولى وذكر قصة الجدار وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى الفائدة الثانية اختلف القراء في هذه الكلمة فمنهم من قرأ مالك يوم الدين ومنهم من قرأ ملك يوم الدين حجة من قرأ مالك وجوه الأول أن فيه حرفا زائدا فكانت قراءته أكثر ثوابا الثاني أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله الثالث المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى الرابع أن الملك ملك للرعية والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية(1/192)
فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك الخامس أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكا لذلك المالك باختيار نفسه فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية السادس أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية قال عليه الصلاة والسلام
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولا يجب على الرعية خدمة الملك أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافرا وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيما فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك وحجة من قال إن الملك أولى من المالك وجوه الأول أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك الثاني أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس الناس 1 لفظ الملك فيه متعين ولولا أن الملك أعلى حالا من المالك وإلا لم يتعين الثالث الملك أولى لأنه أقصر والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها بخلاف المالك فإنها أطول فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو وأجاب الكسائي بأن قال إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلا للأمل أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه لا يجزيه لأنه وإن كان ذلك تطويلا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ويجوز أن يموت في تلك الليلة فيقول إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازما على الإتمام وهو المراد ثم نقول إنه يتفرع على كونه ملكا أحكام وعلى كونه مالكا أحكام أخر أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكا فوجوه الأول أن السياسات على أربعة أقسام سياسة الملاك وسياسة الملوك وسياسة الملائكة وسياسة ملك الملوك فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكا واحدا ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك لأن عالما من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ألا ترى إلى قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا لمن أذن له الرحمن وقال صوابا النبأ 38 وقوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه البقرة 255 وقال في صفة الملائكة ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الأنبياء 28 فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين الحكم الثاني من أحكام كونه تعالى ملكا أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء(1/193)
انتقص ملكهم وقلت خزائنهم أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان بل يزداد بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولدا واحدا لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازما على الكل فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا الحكم الثالث من أحكام كونه ملكا كمال الرحمة والدليل عليه آيات إحداها ما ذكر في هذه السورة من كونه ربا رحمانا رحيما وثانيها قوله تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم الحشر 22 ثم قال بعده هو الله الذي لا إله إلا هو الملك الحشر 23 ثم ذكر بعده كونه قدوسا عن الظلم والجور ثم ذكر بعده كونه سلاما وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ثم ذكر بعده كونه مؤمنا وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه فثبت أن كونه ملكا لا يتم إلا مع كمال الرحمة وثالثها قوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 لما أثبت لنفسه الملك أردفه بان وصف نفسه بكونه رحمانا يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحمانا يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة ورابعها قوله تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس الناس 1 فذكر أولا كونه ربا للناس ثم أردفه بكونه ملكا للناس وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى الحكم الرابع للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم قال تعالى تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا مريم 90 وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى طه 132 فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم الحكم الخامس أنه لما وصف نفسه بكونه ملكا ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال وما ربك بظلام للعبيد فصلت 46 ثم بين كيفية العدل فقال ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الأنبياء 47 فظهر بهذا أن كونه ملكا حقا ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل فإن كان الملك المجازي عادلا كان ملكا حقا وإلا كان ملكا باطلا فإن كان ملكا عادلا حقا حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكا ظالما ارتفع الخير من العالم يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوما وأوغل في الركض وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ووصل إلى بستان فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان أعطني رمانة واحدة فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا مؤذيا فقال أيها الصبي لم صار الرمان هكذا فقال الصبي لعل(1/194)
ملك البلد عزم على الظلم فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم وقال لذلك الصبي أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى فقال للصبي لم بدلت هذه الحالة فقال الصبي لعل ملك البلد تاب عن ظلمه فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم فلا جرم بقي اسمه مخلدا في الدنيا بالعدل حتى إن من الناس من يروي عن رسول الله أنه قال
ولدت في زمن الملك العادل أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة الحكم الأول قراءة المالك أرجى من قراءة الملك لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم الحكم الثاني الملك وإن كان أغنى من المالك غير ان الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل فلهذا السبب قال الكسائي اقرأ مالك يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة الحكم الثالث أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين الحكم الرابع الملك له هيبة وسياسة والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة الفائدة الثالثة الملك عبارة عن القدرة فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ههنا بحث وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات والأول باطل لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم والثاني باطل أيضا لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد والجواب أن الله تعالى مالك الموجودات وملكها بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر فإن قيل إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا والقيامة غير موجودة في الحال فلا يكون الله مالكا ليوم الدين بل الواجب أن يقال مالك يوم الدين بدليل أنه لو قال أنا قاتل زيد فهذا إقرار ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا قلنا الحق ما ذكرتم إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود(1/195)
القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال الفائدة الرابعة أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة الله والرب والرحمن والرحيم والمالك والسبب فيه كأنه يقول خلقتك أولا فأنا إله ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين فإن قيل إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة قلنا التقدير كأنه قيل اذكر أني إله ورب مرة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول غافر 3 الفائدة الخامسة قالت القدرية إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يعمله ظلم وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين وقالت الجبرية لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكا لها ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم علمنا أنه خالق لها مقدر لها والله أعلم
الفصل الخامس
في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد
الفائدة الأولى العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتي به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم طريق معبد أي مذلل واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحد سواك والذي يدل على هذا الحصر وجوه الأول أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام واعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به فالمرتبة الأولى - وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع - وإليها الإشارة بقوله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا مريم 9 وقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم - الآية البقرة 28 والمرتبة الثانية - وهي خلق المنتفع به - وإليها الإشارة بقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا البقرة 29 ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم البقرة 29 فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر الوجه الثاني في دلائل هذا الحصر والتعيين وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء الله والرب والرحمن والرحيم ومالك يوم الدين وللعبد أحوال ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل أما الماضي فقد كان معدوما محضا كما قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا البقرة 29 وكان ميتا فاحياه الله تعالى كما قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 وكان جاهلا فعلمه الله كما(1/196)
قال والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة النحل 78 والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديما أزليا فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوما كان محتاجا إلى الرب الرحمن الرحيم أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عنده أسباب الضرورات فقال الله تعالى أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود أما بعد أن أصرت موجودا فقد كثرت حاجاتك إلي فأنا رب رحمن رحيم وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكتمل إلا بالله وفضله وإحسانه فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر الوجه الثالث في دليل هذا الحصر وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادرا عالما محسنا جوادا كريما حليما وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكا فيه فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبودا للخلق أمر يقيني وأما كون غيره معبودا للخلق فهو أمر مشكوك فيه والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الرابع أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره وأيضا قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الخامس أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكنا لذاته وكل ما كان ممكنا لذاته كان محتاجا فقيرا والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير والشيء ما لم يكن في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى فمستحق العبادات هو الله تعالى فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه السادس استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة وأرضا بلا دعامة ويسير الشمس والقمر ويسكن القطبين ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق وتارة الهواء وهي الريح وتارة الماء وهو المطر وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد ثم جعل في الأرض أجساما مقيمة لا تسافر وهي الجبال وأجساما مسافرة لا تقيم وهي الأنهار وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمدا عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته وجعل الماء نارا على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا نارا وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ورفع موسى فوق الطور وقال له اخلع ( 1 ) كذا في الأصل واللفظ في الآية 12 من سورة طه فاخلع نعليك نعليك ورفع الطور على موسى وقومه ورفعنا فوقكم الطور(1/197)
النساء 154 وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله وفار التنور هود 40 وجعل البحر يبسا لموسى عليه السلام فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه الفائدة الثانية قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله فقوله إياك نعبد وإياك نستعين يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف وذلك لأن كل من اتخذ شريكا لله فذلك الشريك إما أن يكون جسما وإما أن لا يكون أما الذين اتخذوا شريكا جسمانيا فذلك الشريك إما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركبا أو بسيطا أما المركب فإما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبودا لأنفسهم وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبودا لأنفسهم وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضا طوائف الطائفة الأولى الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة وهؤلاء هم المانوية والثنوية والطائفة الثانية هم الذين قالوا الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها هؤلاء عبدة الملائكة والطائفة الثالثة الذين قالوا للعالم إلهان أحدهما خير والآخر شر وقالوا مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس وهما أخوان فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس إذا عرفت هذا التفصيل فنقول كل من اتخذ لله شريكا فإنه لا بد وأن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه إما طلبا لنفعه أو هربا من ضرره وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله فلهذا قالوا إياك نعبد وإياك نستعين فكان قوله إياك نعبد وإياك نستعين قائما مقام قوله لا إله إلا الله واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحان الله يدل على كونه كاملا تاما في ذاته وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملا متمما لغيره والشيء لا يكون مكملا متمما لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاما كاملا في ذاته فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا(1/198)
سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله وإياك نستعين ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر الفائدة الثالثة قال إياك نعبد فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك وفيه وجوه أحدها أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا يحكى أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع رستاقيا جلفا فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مرارا فقيل للرستاقي إنه فلان الأستاذ فانصرع في الحال منه وما ذاك إلا لاحتشامه منه فكذا ههنا عرفه ذاته أولا حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة وثانيها أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولا قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولا معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب فكذا ههنا إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية وثالثها قال الله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات ورابعها أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولا بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولا إياك ثم قلت ثانيا نعبد كان قولك أولا إياك صريحا بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك وخامسها وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته فوجب أن يكون ذكره متقدما على جميع الأذكار فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدما على ذكر الخلق وسادسها قال بعض المحققين من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلي لا إلى البلاء وحينئذ يكون غرقا في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه وكل من كان كذلك كان أبدا في أعلى مراتب السعادات أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلي فكان غرقا في كل الأوقات في الاشتغال بغير الله فكان أبدا في الشقاوة لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفا من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلى بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال ولهذا التحقيق قال لأمة موسى اذكروا نعمتي وقال لأمة محمد عليه السلام اذكروني أذكركم(1/199)
إذا عرفت هذا فنقول إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقا في مشاهدة نور جلال إياك ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقرا في عين الفردوس كما قال تعالى
لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وسابعها لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونه ولا يعبدون غير الله وثامنها أن هذه النون نون العظمة فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبدا لنا كان ملك الدنيا والآخرة وتاسعها لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبرا ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك فالأول تكبر والثاني تواضع ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله فإن قال قائل جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله نعبد احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله لا جرم حسن تقدم الحمد أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله الفائدة الرابعة لقائل أن يقول النون في قوله نعبد إما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم والأول باطل لأن الشخص الواحد لا يكون جمعا والثاني باطل لأن عند أداء العبادة فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة فالوجه الأول أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها ويدل عليه قوله عليه السلام
التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها ثم نقول إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية الوجه الثاني أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد والمراد منه ذلك الجمع وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله الوجه الثالث أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقا وغربا فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام
من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته(1/200)
الوجه الرابع كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الخامس كأن العبد يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بجهات التقصير ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد وههنا مسألة شرعية وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فالمشتري إما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحدا منها وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض فإما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء وإما أن يقبل الكل وحينئذ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره والتقدير كأن العبد يقول إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني الفائدة الخامسة اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها وبيانه من وجوه الأول أن الكمال محبوب بالذات وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال وهي موجبة أيضا لأكمل السعادات في الزمان المستقبل فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه الثاني أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات - الآية الأحزاب 72 وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا بدليل قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها النساء 58 وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات ولأن أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني قال بعض الصحابة رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا فلما خرج لم يجد ناقته فقال إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي قال الراوي فزدنا تعجبا فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس
يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات الثالث أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة
يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع
وعن رسول(1/201)
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن يوسف 31 فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك تمنع القلب عن الشعور بهم فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازي فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى ثم قال أهل التحقيق العبادة لها ثلاث درجات الدرجة الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب أو هربا من العقاب وهذا هو المسمى بالعبادة وهذه الدرجة نازلة ساقطة جدا لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب ومن جعل المطلوب بالذات شيئا من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جدا والدرجة الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته أو يتشرف بقبول تكاليفه أو يتشرف بالانتساب إليه وهذه الدرجة أعلى من الأولى إلا أنها أيضا ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله
والدرجة الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها وخالقا ولكونه عبدا له والإلهية توجب الهيبة والعزة والعبودية توجب الخضوع والذلة وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات هذا هو المسمى بالعبودية وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله فإنه لو قال أصلي لثواب الله أو للهرب من عقابه فسدت صلاته واعلم أن العبادة والعبودية مقام عال شريف ويدل عليه آيات الأولى قوله تعالى في آخر سورة الحجر ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ا لحجر 97 والاستدلال بها من وجهين أحدهما أنه قال واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فأمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أن يأتيه الموت ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة وثانيهما أنه قال ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء التسبيح وهو قوله فسبح والتحميد وهو قوله بحمد ربك والسجود وهو قوله وكن من الساجدين والعبادة وهي قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب وتفيد انشراح الصدر وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق وذلك يوجب زوال ضيق القلب الآية الثانية في شرف العبودية قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الإسراء 1 ولولا أن العبودية أشرف المقامات وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج ومنهم من قال العبودية أشرف من الرسالة لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق وأيضا بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات واللائق بالعبد الانعزال عن التصرفات وأيضا العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة وشتان ما بينهما(1/202)
الآية الثالثة في شرف العبودية أن عيسى أول ما نطق قال إني عبد الله مريم 30 وصار ذكره لهذه الكلمة سببا لطهارة أمه ولبراءة وجوده عن الطعن وصار مفتاحا لكل الخيرات ودافعا لكل الآفات وأيضا لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة كما قال تعالى ورافعك إلي آل عمران 55 والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروما عن الجنة الآية الرابعة قوله تعالى لموسى عليه السلام إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى طه 14 أمره بعد التوحيد بالعبودية لأن التوحيد أصل والعبودية فرع والتوحيد شجرة والعبودية ثمرة ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر فهذه الآيات دالة على شرف العبودية وأما المعقول فظاهر وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلا عن كمالات الوجود فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولكونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات وعنوان السعادات ومطلع الدرجات وينبوع الكرامات فلهذا السبب قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين وكان علي كرم الله وجهه يقول
كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا وكفى بي شرفا أن تكون لي ربا اللهم إني وجدتك إلها كما أردت فاجعلني عبدا كما أردت
الفائدة السادسة
اعلم أن المقامات محصورة في مقامين معرفة الربوبية ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن ا لرحيم مالك يوم الدين فكون العبد منتقلا من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات وبعدها جاءت معرفة العبودية ولها مبدأ وكمال وأول وآخر أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد بقوله إياك نعبد وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أن لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب وذلك هو المراد بقوله وإياك نستعين ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة وهو قوله اهدنا الصراط المستقيم وهذا ترتيب شريف رفيع عال يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه
الفائدة السابعة
لقائل أن يقول قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فما الفائدة فيه قلنا فيه وجوه الأول أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحمانا رحيما(1/203)
مالكا ليوم الدين فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد الوجه الثاني إن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 ربنا اغفر لنا الحشر 10 رب هب لي الشعراء 83 رب أرني الأعراف 143 والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضا العبادة خدمة والخدمة في الحضور أولى الوجه الثالث أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء والدعاء في الحضور أولى الوجه الرابع العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقربا إلى الله فينوي حصول القربة ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعا من الثناء على الله فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال إياك نعبد وإياك نستعين
الفصل السادس
في قوله وإياك نستعين
اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ويدل عليه وجوه من العقل والنقل أما العقل فمن وجوه الأول أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد في الطلب فهو من الله تعالى فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانه الله الثاني أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين وما ذاك المعين إلا الله تعالى لأن ذلك المعين لو كان بشرا أو ملكا لعاد الطلب فيه الثالث أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى ولا معنى للإعانة إلا ذلك وأما النقل فيدل عليه آيات أولاها قوله وإياك نستعين وثانيتها قوله استعينوا بالله الأعراف 128 وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكنا من أصل الفعل فتبطل الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد
الفائدة الأولى
لقائل أن يقول الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين فما الحكمة فيه الجواب من وجوه الأول كأن المصلي يقول شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها الثاني كأن الإنسان يقول يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلبا يفر مني فأستعين(1/204)
بك في إحضاره وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام
قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله الثالث لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له هل لك من حاجة فقال أما إليك فلا فقال سله فقال حسبي من سؤالي علمه بحالي بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ويدي فلا أحركهما وعيني فلا أنظر بهما وأذني فلا أسمع بهما ولساني فلا أتكلم به وكان الخليل مشرفا على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معينا فكذلك لا أريد معينا غيرك فإياك نعبد وإياك نستعين كأنه تعالى يقول أتيت بفعل الخليل وزدت عليه فنحن نزيد أيضا في الجزاء لأنا ثمت قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الأنبياء 69 وأما أنت فقد نجيناك من النار وأوصلناك إلى الجنة وزدناك سماع الكلام القديم ورؤية الموجود القديم وكما أنا قلنا لنار نمروذ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكذلك تقول لك نار جهنم جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي الرابع إياك نستعين أي لا أستعين بغيرك وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك الوجه الخامس قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر
الفصل السابع
في قوله اهدنا الصراط المستقيم وفيه فوائد
الفائدة الأولى لقائل أن يقول المصلي لا بد وأن يكون مؤمنا وكل مؤمن مهتد فالمصلي مهتد فإذا قال اهدنا كان جاريا مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلبا لتحصيل الحاصل وإنه محال والعلماء أجابوا عنه من وجوه الأول المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى
يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول في كل مرة اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فإن قيل إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحا عليه السلام كان أفضل منه والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها الوجه الثاني في الجواب أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط وهما مذمومان والحق هو الوسط ويتأكد ذلك بقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا البقرة 143 وذلك الوسط هو العدل والصواب فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا أما بعد حصول هذه(1/205)
الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل الوجه الثالث أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل فقوله اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل الوجه الرابع أنه تعالى قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض الشورى 52 - 53 وقال أيضا لمحمد عليه السلام وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الأنعام 153 وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى الله مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله فقوله اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيى وزكريا عليهما السلام فالمراد بقوله اهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء ولا شك أن هذا مقام شديد هائل لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به إلا أنا نقول أيها الناس لا تخافوا ولا تحزنوا فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال صراط الذين أنعمت عليهم فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول يا إلهي إن والدي رأيته ارتكب الكبائر كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته فأنا أقول اهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلبا لمرتبة التائبين فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم الوجه الخامس كأن الإنسان يقول في الطريق كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق والأعداء إلى طريق ثان والشيطان إلى طريق ثالث وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج والعقل ضعيف والعمر قصير والصناعة طويلة والتجربة خطرة والقضاء عسير وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة والمستقيم السوي الذي لا غلظ فيه
يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله فإذا أعرابي على ناقة له فقال يا شيخ إلى(1/206)
أين فقال إبراهيم إلى بيت الله قال كأنك مجنون لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل فقال إبراهيم إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها قال وما هي قال إذا نزلت علي بلية ركبت مركب الصبر وإذا نزل علي نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل الوجه السادس قال بعضهم الصراط المستقيم الإسلام وقال بعضهم القرآن وهذا لا يصح لأن قوله صراط الذين أنعمت عليهم بدل من الصراط المستقيم وإذا كان كذلك كان التقدير اهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا ليكون لفظ الصراط مذكرا لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية القول الثاني في تفسير اهدنا أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا ونظيره قوله تعالى ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا آل عمران 8 أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم
الفائدة الثانية
لقائل أن يقول لم قال اهدنا ولم يقل اهدني والجواب من وجهين الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب كان بعض العلماء يقول لتلامذته إذا قرأتم في خطبة السابق ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين إن نويتني في قولك رضي الله عنك فحسن وإلا فلا حرج ولكن إياك وأن تنساني في قولك وعن جماعة المسلمين لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بد وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولا على النبي ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي ثانيا لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه الثاني قال عليه الصلاة والسلام
ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها قالوا يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة قال يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك والثالث كأنه يقول أيها العبد ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولا حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل أهدنا الرابع كأن العبد يقول سمعت رسولك يقول الجماعة رحمة والفرقة عذاب فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت اهدنا الصراط المستقيم ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة قال تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين - الآية النساء 69(1/207)
الفائدة الثالثة
اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة فكأن العبد يقول اهدنا الصراط المستقيم لوجوه الأول أنه أقرب الخطوط وأقصرها وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم الثاني أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضا في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان الثالث الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه والرابع المستقيم لا يتغير والمعوج يتغير فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم والله أعلم
الفصل الثامن
في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم وفيه فوائد
الفائدة الأولى
في حد النعمة وقد اختلف فيها فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر والذم بمعصية الله فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة وقولنا المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع الفرع الأول اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام أحدها نعمة تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق وثانيها نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من الله تعالى وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة والخالق لذلك المنعم والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير لقمان 14 فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله وثالثها نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا وهي أيضا من الله تعالى لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى الفرع الثاني أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول(1/208)
الحياة فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة وأما النقل فهو أنه تعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 ثم قال عقيبه هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا البقرة 29 فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة الفرع الثالث اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا فقال بعض أصحابنا ليس لله تعالى على الكافر نعمة وقالت المعتزلة لله على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيويه واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى أنعمت عليهم ولو كان ذلك لكان قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم طلبا لصراط الكفار وذلك باطل فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار فإن قالوا إن قوله الصراط يدفع ذلك قلنا إن قوله صراط الذين أنعمت عليهم بدل من قوله الصراط المستقيم فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم وحينئذ يعود المحذور المذكور والآية الثانية قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما آل عمران 178 وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ومثل هذا لا يكون نعمة بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير فكذا ههنا وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات إحداها قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء البقرة 21 - 22 فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة وثانيها قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم وثالثها قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 ورابعها قوله تعالى وقليل من عبادي الشكور سبأ 13 وقول إبليس ولا تجد أكثرهم شاكرين الأعراف 17 ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة
الفائدة الثانية
قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين - الآية النساء 69 ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
الفائدة الثالثة قوله أنعمت عليهم يتناول كل من كان لله عليه نعمة وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين فنقول كل نعمة(1/209)
دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية وهذا يدل على أن المراد من قوله أنعمت عليهم هو نعمة الإيمان فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا الأصل فنقول يتفرع عليه أحكام الحكم الأول أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ولأن الإيمان أعظم النعم فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم الحكم الثاني يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار لأن قوله أنعمت عليهم مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم الحكم الثالث دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين لأنه لو كان الإرشاد واجبا على الله لم يكن ذلك إنعاما لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما وحيث سماه الله تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب الحكم الرابع لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه
الفصل التاسع
في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين وفيه فوائد
الفائدة الأولى
المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى من لعنه الله وغضب عليه المائدة 60 والضالين هم النصارى لقوله تعالى قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل المائدة 77 وقيل هذا ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز عن دينهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله إن الذين كفروا البقرة 6 ثم أتبعه بذكر المنافقين وهوقوله ومن الناس من يقول آمنا البقرة 8 فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله أنعمت عليهم ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله غير المغضوب عليهم ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله ولا الضالين
الفائدة الثانية
لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال(1/210)
الفائدة الثالثة
قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس 32 ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم ولا الاقتداء بطريقهم ولكانوا خارجين عن قوله أنعمت عليهم ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام
الفائدة الرابعة
الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام واعلم أن هذا على الله تعالى محال لكن ههنا قاعدة كلية وهي أن جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والتكبر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار وأيضا الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب
الفائدة الخامسة
قالت المعتزلة غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من الله تعالى وقال أصحابنا لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين وحينئذ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى وذلك محال
الفائدة السادسة
أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته
الفائدة السابعة
دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله أنعمت عليهم وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين فإن قيل لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة قلنا لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم
الفائدة الثامنة
في الآية سؤال وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم أو محدث فإن كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ويتسلسل وهو محال وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد
الفائدة التاسعة
في الآية سؤال آخر وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وأن(1/211)
يكون من الضالين فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين والجواب الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه السلام
لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا فقوله صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حد الكمال
الفائدة العاشرة
في الآية سؤال آخر ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم والمردودين فريقين المغضوب عليهم والضالين والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المرادون بقوله أنعمت عليهم فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه النساء 93 وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس 32 وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل والله أعلم
القسم الثاني
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة وفيه فصول
الفصل الأول
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة
اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة وعالم الآخرة عالم الصفا فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع وكالجسم بالنسبة إلى الظل فكل ما في الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل وكل ما في الآخرة فلا بد له في الدنيا من مثال وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بد وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه كما قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين التكوير 21 وأيضا فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات فذاك مطاع العالم الأعلى وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي والمظهر هو الرسول البشري وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا وإذا عرفت هذا فنقول كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله والمؤمنون كل آمن بالله - الآية البقرة 285 ويندرج في أحكام الرسل قوله لا نفرق بين أحد من رسله البقرة 285 فهذه الأربعة(1/212)
متعلقة بمعرفة المبدأ وهي معرفة الربوبية ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين أحدهما المبدأ والثاني الكمال فالمبدأ هو قوله تعالى وقالوا سمعنا وأطعنا البقرة 285 لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى الله وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله غفرانك ربنا البقرة 285 وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد وهو المراد من قوله وإليك المصير البقرة 285 ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة المبدأ والوسط والمعاد أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة وهي معرفة الله والملائكة والكتب والرسل وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين سمعنا وأطعنا نصيب عالم الأجساد وغفرانك ربنا نصيب عالم الأرواح وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد وهو قوله وإليك المصير فابتداء الأمر أربعة وفي الوسط صار اثنين وفي النهاية صار واحدا ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع فأولها قوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا البقرة 286 وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الأحزاب 41 وقوله واذكر ربك إذا نسيت الكهف 24 وقوله تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 وقوله واذكر اسم ربك المزمل 8 وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الله الرحمن الرحيم وثانيها قوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا البقرة 286 ودفع الإصر - والإصر هو الثقل - يوجب الحمد وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين وثالثها قوله ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به البقرة 286 وذلك إشارة إلى كمال رحمته وذلك هو قوله الرحمن الرحيم ورابعها قوله واعف عنا البقرة 286 لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين وهو قوله مالك يوم الدين وخامسها قوله تعالى واغفر لنا البقرة 286 لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين وسادسها قوله وارحمنا البقرة 286 لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا اهدنا الصراط المستقيم وسابعها قوله أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين البقرة 286 وهو المراد من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في(1/213)
عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر فلهذا السبب قال عليه السلام
الصلاة معراج المؤمن
الفصل الثاني
في مداخل الشيطان
اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة الشهوة والغضب والهوى فالشهوة بهيمية والغضب سبعية والهوى شيطانية فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه فقوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء العنكبوت 45 المراد آثار الشهوة وقوله ( والمنكر ) المراد منه آثار الغضب وقوله والبغي العنكبوت 45 المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه وبالغضب يصير ظالما لغيره وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى ولهذا قال عليه السلام
الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة ثم لها نتائج فالحرص والبخل نتيجة الشهوة والعجب والكبر نتيجة الغضب والكفر والبدعة نتيجة الهوى فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع - وهو الحسد - وهو نهاية الأخلاق الذميمة كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد وهو قوله ومن شر حاسد إذا حسد الفلق 5 كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس 6 فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس بل قيل الحاسد أشر من إبليس لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا فقال إبليس لو كنت إلها لما جهلتني فلما دخل قال فرعون أتعرف في الأرض شرا مني ومنك قال نعم الحاسد وبالحسد وقعت في هذه المحنة إذا عرفت هذا فنقول أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضا أصل سورة الفاتحة هو التسمية وفيها الأسماء الثلاثة وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية والآيات السبع التي هي الفاتحة في مقابلة الأخلاق السبعة ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى لأن الهوى إله سوى الله يعبد بدليل قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الجاثية 23 وقال تعالى لموسى
يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى ومن عرف أنه رحمن لا يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن لقوله تعالى(1/214)
الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 ومن عرف أنه رحيم وجب أن يتشبه به في كونه رحيما وإذا صار رحيما لم يظلم نفسه ولم يلطخها بالأفعال البهيمية وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة وذكر معها اسمين آخرين وهما الرب والمالك فالرب قريب من الرحيم لقوله سلام قولا من رب رحيم يس 58 والمالك قريب من الرحمن لقوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 فحصلت هذه الأسماء الثلاثة الرب والملك والإله فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها والتقدير كأنه قيل إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس الناس 1 وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس الناس 2 وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس الناس 3 ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول من قال الحمد لله فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن زال غضبه ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة
الفصل الثالث
في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان
إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد
اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار وتقريره أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال
ربي الذي يحيي ويميت وقال في موضع آخر
الذي خلقني فهو يهدين وقال موسى عليه السلام
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال في موضع آخر
ربكم ورب آبائكم الأولين وقال تعالى في أول سورة البقرة يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون البقرة 21 وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق العلق 1 فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم فهذه الحالة من حيث أنها تعرف العبد وجود الإله دليل ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام فلا جرم هو دليل من وجه وإنعام من وجه والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد(1/215)
وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء فقوله الحمد لله يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته ورحمته وكمال حكمته وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم فكان قوله الحمد لله دالا على جملة هذه المعاني وأما قوله رب العالمين فهو يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ولا معبود غيره وأما قوله الرحمن الرحيم فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت وأما قوله مالك يوم الدين فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما إذا عرفت هذا ظهر أن قوله الحمد لله يدل على وجود الصانع المختار وقوله رب العالمين يدل على وحدانيته وقوله الرحمن الرحيم يدل على رحمته في الدنيا والآخرة وقوله مالك يوم الدين يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية أما قوله إياك نعبد إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي محصورة في نوعين الأعمال التي يأتي بها العبد والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان أحدهما إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله إياك نعبد والثاني علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله وإياك نستعين وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر وأما الآثار المتفرغة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي وإليه الإشارة بقوله اهدنا الصراط المستقيم ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف الطائفة الأولى الكاملون المحقون المخلصون وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإليهم الإشارة بقوله أنعمت عليهم والطائفة الثانية الذين أخلوا بالأعمال الصالحة وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم والطائفة الثالثة الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة وهم أهل البدع والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين إذا عرفت هذا فنقول استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين أحدهما أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال والثاني أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه وقوله اهدنا الصراط المستقيم إشارة إلى القسم الأول وقوله صراط الذين أنعمت عليهم إشارة إلى القسم الثاني ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة وهم المغضوب عليهم أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة وهم الضالون وهذا آخر السورة وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية(1/216)
الفصل الرابع
قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي وفي رواية أخرى فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فوائد هذا الحديث الفائدة الأولى قوله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق كما قال إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الإسراء 7 وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد كما قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الذاريات 56 وقال إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا الإنسان 2 وقال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية والنصف الثاني منها في معرفة العبودية حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد الفائدة الثانية الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة وهذا يدل على أحكام الحكم الأول أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى أحدها أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 ولقوله عليه الصلاة والسلام
صلوا كما رأتيموني أصلي وثانيها أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وثالثها أن جميع المسلمين شرقا وغربا لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم النساء 115 ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب خامسها قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وقوله فاقرؤا أمر وظاهره الوجوب فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملا بظاهر الأمر وسادسها أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها لقوله عليه السلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وسابعها أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرما لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره النور 63 وثامنها أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها إذا ثبت هذا فنقول التكليف كان متوجها على العبد بإقامة الصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة(1/217)
وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة وتاسعها أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري طه 14 وهذه السورة مع كونها مختصرة جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم الحجر 87 فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها البتة وعاشرها أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة الفائدة الثالثة أنه قال
إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي وفيه أحكام أحدها أنه تعالى قال فاذكروني أذكركم البقرة 152 فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملئه وثانيها أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية لأنه وقع الابتداء به ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال اذكروني أذكركم البقرة 152 ثم قال يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الأحزاب 41 ثم قال الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم آل عمران 191 ثم قال إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر وثالثها أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا الله اسم علم لذاته المخصوصة إذ لو كان اسما مشتقا لكان مفهومه مفهوما كليا ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان فثبت أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا الله اسم علم أما قوله
وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك البقرة 30 وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضا بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 والعقل أيضا يدل عليه لأن الفكر في ذات الله غير ممكن لقوله عليه الصلاة والسلام
تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر فلهذا قال الحمد لله رب العالمين وعند هذا يقول حمدني عبدي فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل وعلى أن لسانه صار موافقا لعقله ومطابقا له وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه فما أجل هذه الحالة وأما قوله
وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي فلقائل أن يقول إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي وههنا لما قال الرحمن الرحيم(1/218)
قال عظمني عبدي فما الفرق وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته وبكونه مكملا لغيره ثم قال بعده رب العالمين وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا عظمني عبدي وأما قوله
وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي أي نزهني وقدسني عما لا ينبغي - فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب وإلى أهل الكفر العقاب لكان هذه الإهمال والإمهال ظلما من الله على العباد أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم فلهذا السبب قال الله تعالى ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 31 وهذا هو المراد من قوله تعالى مجدني عبدي الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه وأما قوله
وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر فإن قوله إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة ثم جاء بحث الجبر والقدر وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به والحق أنه غير مستقل به وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك وإما أن لا تكون كذلك فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدرا للفعل دون الترك إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة وهو المراد من قوله وإياك نستعين وهو المراد من قولنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا أي لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وهب لنا من لدنك رحمة وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم البتة معنى قوله إياك نعبد وإياك نستعين وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى هذا بيني وبين عبدي اما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه وهذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه وأما قوله
وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وتقريره أنا نرى أهل العلم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية وفي جميع مسائل النبوات وفي جميع مسائل المعاد والشبهات غالبة والظلمات مستولية ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد فلولا هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان الحجرات 7 وإلا لامتنع وصول(1/219)
أحد إلى الحق فقوله اهدنا الصراط المستقيم إشارة إلى هذه الحالة ويدل عليه أيضا أن المبطل لا يرضى بالباطل وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك أما الملائكة فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم البقرة 32 وقال آدم عليه السلام وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الأعراف 23 وقال إبراهيم عليه السلام لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين الأنعام 77 وقال يوسف عليه السلام توفني مسلما وألحقني بالصالحين يوسف 101 وقال موسى عليه السلام رب اشرح لي صدري - الآية طه 25 وقال محمد عليه السلام ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب آل عمران 8 فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه الفائدة الرابعة من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة أيضا في الصلاة سبعة وهي القيام والركوع والانتصاب والسجود الأول والانتصاب فيه والسجود الثاني والقعدة فصار عدد آيات الفاتحة مساويا لعدد هذه الأعمال فصارت هذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد فقوله بسم الله الرحمن الرحيم بإزاء القيام ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائما مرتفعا وأيضا فالتسمية لبداية الأمور قال عليه الصلاة والسلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى الأعلى 14 وأيضا القيام لبداية الأعمال فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه وقوله تعالى الحمد لله رب العالمين بإزاء الركوع وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق لأن التحميد عبارة عن الثناء بسبب الإنعام الصادر منه والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضا الحمد يدل على النعم الكثيرة والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره فينحني ظهره للركوع وقوله الرحمن الرحيم مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولذلك قال عليه السلام
إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة وقوله مالك يوم الدين مناسب للسجدة الأولى لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع وهو السجدة وقوله إياك نعبد وإياك نستعين مناسب للقعدة بين السجدتين لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية وأما قوله اهدنا الصراط المستقيم فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع وأما قوله صراط الذين أنعمت عليهم - إلى آخره فهو مناسب للقعدة وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام وهو أن أمره بالقعود بين يديه وذلك إنعام عظيم من الله على العبد فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم وأيضا أن محمدا عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله والصلاة معراج المؤمن فلما(1/220)
وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام - وهي أن جلس بين يدي الله - وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام فهو أيضا يقرأ التحيات ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين - الآية النساء 69 واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان وهي قوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون 12 إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين المؤمنون 14 وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ومراتب الأرواح كثيرة وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى وأن إلى ربك المنتهى النجم 42
الفصل الخامس
في الصلاة معراج العارفين
اعلم أنه كان لرسول الله معراجان أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى فهذا ما يتعلق بالظاهر وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان أحدهما من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والثاني من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى فكان قاب قوسين أو أدنى النجم 9 وقوله أو أدنى إشارة إلى فنائه في نفسه أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش الزمر 75 ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية الحاقة 17 وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام وهم الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبة الله وأنسهم بالثناء على الله ولذتهم في خدمة الله وإليهم الإشارة بقوله ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته وبقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 ثم لهم أيضا درجات متفاوته ومراتب متباعدة والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها والوقوف على شرح صفاتها ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم يوسف 76 إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ومسبب الأسباب ومبدأ الكل وينبوع الرحمة ومبدأ الخير وهو الله تعالى فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام
إن لله سبعين حجابا من النور لو كشفها(1/221)
لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين أولهما المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والثاني المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه فقيل له إن تحفة أمتك الصلاة وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني أما الجسماني فبالأفعال وأما الروحاني فبالأذكار فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا لأن المقام مقام القدس فليكن ثوبك طاهرا وبدنك طاهرا لأنك بالوادي المقدس طوى وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب وخير وشر وصدق وكذب وحق وباطل وحلم وطيش وقناعة وحرص وكذا القول في كل الأخلاق المتضدة والصفات المتنافية فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ولهذا السر قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين التوبة 119 ثم إذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله ثم قل الله أكبر والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم واعز من كل المعلومات بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ثم قل سبحانك اللهم وبحمدك وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل تبارك اسمك وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ثم قل وتعالى جدك وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ثم قل ولا إله غيرك وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو والمقدس الذي لا مقدس إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو والعقل ههنا ينقطع واللسان يعتقل والفهم يتبلد والخيال يتحير والعقل يصير كالزمن ثم عد إلى نفسك وحالك وقل وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فقولك سبحانك اللهم وبحمدك معراج الملائكة المقربين وهو المذكور في قوله ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك البقرة 30 وهو أيضا معراج محمد عليه السلام لأن معراجه مفتتح بقوله سبحانك اللهم وبحمدك وأما قولك وجهت وجهي فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام وقولك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتدفع ضرر العجب من نفسك(1/222)
واعلم أن للجنة ثمانية أبواب ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة وهو باب المعرفة والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم والباب الثالث باب الشكر وهو قولك الحمد لله رب العالمين والباب الرابع الرجاء وهو قولك الرحمن الرحيم والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال أمن يجيب المضطر إذا دعاه النمل 62 وقال ادعوني أستجب لكم غافر 60 وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة وهو المراد من قوله تعالى جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ص 50 فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف وهو قوله تعالى إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض الكهف 14 بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين المطففين 6 ثم اقرأ سبحانك اللهم وبعده وجهت وجهي وبعده الفاتحة وبعدها ما تيسر لك من القرآن واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله إياك نعبد وإياك نستعين واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت فاجعلها محنية بالركوع فقل سمع الله لمن حمده ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل سبحان ربي الأعلى فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة الركوع الواحد والسجودان وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله فالتحيات المباركات باللسان والصلوات بالأركان والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والراحة والريحان فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية فقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكانه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها وبأي طريق وصلت إليها فقل بقولي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له(1/223)
فقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقيل لك إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم البقرة 129 فما جزاؤك له فقل كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فيقال لك فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله فقل بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل
إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك وقد جاؤك فأبدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين فيقول العبد عن يمينه وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
الفصل السادس
في الكبرياء والعظمة
أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له والخلاء الذي لا غاية له وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل فالأول والآخر صفة الزمان والظاهر والباطن صفة المكان وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ووسع الزمان أولا وآخرا وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزها عن المكان والزمان إذا عرفت هذا فنقول الحق سبحانه وتعالى له عرش وكرسي فعقد المكان بالكرسي فقال وسع كرسيه السموات والأرض البقرة 255 وعقد الزمان بالعرش فقال وكان عرشه على الماء هود 7 لأن جري الزمان يشبه جري الماء فلا مكان وراء الكرسي ولا زمان وراء العرش فالعلو صفة الكرسي وهو قوله وسع كرسيه السموات والأرض البقرة 255 والعظمة صفة العرش وهو قوله فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم التوبة 129 وكمال العلو والعظمة لله كما قال ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم البقرة 255 واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام
ألظوا بياذا الجلال والإكرام وقال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام الرحمن 27 وقال تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام الرحمن 78 إذا عرفت هذا(1/224)
الأصل فاعلم أن المصلي إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم يريدون وجهه الكهف 28 ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ولهذا التطهير مراتب المرتبة الأولى التطهير من دنس الذنوب بالتوبة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا التحريم 8 ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوته كأنها غير متناهية كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الروم 30 فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم يريدون وجهه الكهف 28 فقم قائما واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بان تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات البهاء ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام
ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش والكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو المدثر 31 فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل الله أكبر وتريد بقولك الله الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر والوجه الثاني في تفسير هذا التكبير أنه عليه الصلاة والسلام قال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتقول الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي والوجه الثالث أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه التوحيد أن لا تتوهمه الوجه الرابع أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فطاعاتهم قاصرة عن خدمته وثناؤهم قاصر عن كبريائه وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال الله فضلا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر(1/225)
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله
لا ينالك غوص الفكر ولا ينتهي إليك نظر ناظر ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل سبحانك اللهم وبحمدك ثم قل وجهت وجهي ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية وتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ودركات الملعونين والمردودين والضالين فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فأبصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد لله رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 وإذا قلت الرحمن الرحيم فأبصر به عالم الجمال وهو الرحمة والفضل والإحسان وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال وإذا قلت إياك نعبد فابصر به عالم الشريعة وإذا قلت وإياك نستعين فأبصر به الطريقة وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فأبصر به الحقيقة وإذا قلت صراط الذي أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق وإذا قلت ولا الضالين فأبصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالذلة والمسكنة وقل الله أكبر ثم انزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة فقل سبحان ربي العظيم وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل سمع الله لمن حمده فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم فإن قيل ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير قلنا لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف وهذا المقام مقام الشفاعة وهما متباينان ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى وذلك لأن السجود أكثر تواضعا من الركوع لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة - وهو(1/226)
الأعلى - والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة روي أن لله تعالى ملكا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه أيها الملك طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش فقال الملك عند ذلك سبحان ربي الأعلى فإن قيل فما الحكمة في السجدتين قلنا فيه وجوه الأول أن السجدة الأولى للأزل والثانية للأبد والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيا الثاني قيل اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله الثالث السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 الرابع السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى كما قال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 والخامس السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه واعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة ويفهمون من العلو علو الجهة ويفهمون من الكبر طول المدة وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام فهو عظيم لا بالجثة عال لا بالجهة كبير لا بالمدة وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد فكيف يكون عظيما بالجثة وهو منزه عن الحجمية وكيف يكون عاليا بالجهة وهو منزه عن الجهة وكيف يكون كبيرا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرا بالمدة فهو تعالى عال على المكان لا بالمكان وسابق على الزمان لا بالزمان فكبرياؤه كبرياء عظمة وعظمته عظمة علو وعلوه علو جلال فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ويناسب المخيلات وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون وأعظم مما يصفه الواصفون وأعلى مما يمجده الممجدون فإذا صور لك حسك مثالا فقل الله أكبر وإذا عين خيالك صورة فقل سبحانك الله وبحمدك وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الصافات 180
الفصل السابع
في لطائف قوله الحمد لله وفوائد الأسماء
الخمسة المذكورة في هذه السورة
أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت النكتة الأولى
روي عن النبي أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال يا رب ما جزاء من حمدك فقال الحمد لله فقال تعالى الحمد لله فاتحة الشكر(1/227)
وخاتمته قال أهل التحقيق لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ك وروي عن علي عليه السلام أنه قال خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينه والحكمة لسانه والخير سمعه والرأفة قلبه والرحمة همه والصبر بطنه ثم قيل له تكلم فقال الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي منك وأيضا
نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال الحمد لله فكان أول كلامه ذلك إذا عرفت هذا فنقول أول مراتب المخلوقات هو العقل وآخر مراتبها آدم وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله الحمد فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال الحمد لله رب العالمين وأيضا ثبت أن أول كلمات الله قوله الحمد لله وآخر أنبياء الله محمد رسول الله وبين الأول والآخر مناسبة فلا جرم جعل قوله الحمد لله أول آية من كتاب محمد رسوله ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان أحمد ومحمد وعند هذا قال عليه السلام
أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد فأهل السماء في تحميد الله ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء 19 ورسول الله محمدهم والنكتة الثانية أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام فلهذا السبب قال سبقت رحمتي غضبي النكتة الثالثة أن الرسول اسمه أحمد ومعناه أنه أحمد الحامدين أي أكثرهم حمدا فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين فلهذا السبب قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 النكتة الرابعة أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة وهما الرحمن الرحيم وهما يفيدان المبالغة والرسول له أيضا اسمان مشتقان من الرحمة وهما محمد وأحمد لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول الحمد والحامد والمحمود فهذه خمسة للرسول دالة على الرحمة إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم الحجر 49 فقوله نبئ إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد والياء في قوله عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله أني عائد إليه وقوله أنا عائد إليه وقوله الغفور الرحيم صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول مع خمسة أسماء تدل على الرحمة وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156(1/228)
فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء النكتة الأولى أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء منها خمسة من صفة الربوبية وهي الله والرب والرحمن والرحيم والمالك وخمسة أشياء من صفات العبد وهي العبودية والاستعانة وطلب الهداية وطلب الاستقامة وطلب النعمة كما قال صراط الذين أنعمت عليهم فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة فكأنه قيل إياك نعبد لأنك أنت الله وإياك نستعين لأنك أنت الرب اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين النكتة الثانية الإنسان مركب من خمسة أشياء بدنه ونفسه الشيطانية ونفسه الشهوانية ونفسه الغضبية وجوهره الملكي العقلي فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28 وتجلى للنفس الشيطانية بالبر والإحسان - وهو اسم الرب - فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال أحل لكم الطيبات المائدة 4 فلان وترك العصيان وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله مالك يوم الدين فإن البدن غليظ كثيف فلا بد من قهر شديد وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران وانفتحت أبواب الجنان ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت إياك نعبد وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت وإياك نستعين على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات وأطاعت النفوس الغضبية فقالت اهدنا وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت اهدنا الصراط المستقيم وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين النكتة الثالثة قال عليه السلام
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله وإقام الصلاة من تجلي الرب لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الرحمن مبالغة في الرحمة وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه وأيضا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ووجوب الحج من تجلى اسم مالك يوم الدين لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر يوم القيامة وأيضا الحاج يصير حافيا حاسرا عاريا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة كثيرة جدا النكتة الرابعة أنواع القبلة خمسة بيت المقدس والكعبة والبيت المعمور والعرش وحضرة جلال(1/229)
الله فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة النكتة الخامسة الحواس خمس أدب البصر بقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار الحشر 2 والسمع بقوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 والذوق بقوله يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا المؤمنون 51 والشم بقوله إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون يوسف 94 واللمس بقوله والذين هم لفروجهم حافظون المؤمنون 5 فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة النكتة السادسة اعلم أن الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار والشطر الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته فالأول هو النزول والثاني هو الصعود والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله مالك يوم الدين وبين قوله إياك نعبد وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان إما دفع الضرر أو جلب النفع وإما في طلب الآخرة وهو أيضا قسمان دفع الضرر وهو الهرب من النار وطلب الخير وهو طلب الجنة فالمجموع أربعة والقسم الخامس - وهو الأشرف - طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئا سوى الله وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة النكتة السابعة يمكن أيضا تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور - وهو قوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - أما قولنا سبحان الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الإسراء 1 وأما قولنا الحمد لله فهو فاتحة خمس سور وأما قولنا لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله آلم الله لا إله إلا هو آل عمران 1 وأما قولنا الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافا إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال ولذكر الله أكبر العنكبوت 45 وقال ورضوان من الله أكبر التوبة 72 وأما قولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحا لأنه من الأذكار الخمسة فقولنا الله مبدأ لقولنا سبحان الله وقولنا رب مبدأ لقولنا الحمد لله وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا الله فإن قولنا لا إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة وذلك هو الرحمن وقولنا الرحيم مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء وقولنا مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئا على خلاف إرادته والله أعلم(1/230)
الفصل الثامن
في السبب المقتضي لاشتمال بسم الله الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة
وفيه وجوه ( الأول ) لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته وفي آخر الأمر يتجلى بذاته قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته قال ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام الشورى 32 وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات آل عمران 190 ثم يتجلى لأوليائه بصفاته قال ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا آل عمران 191 ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون الأنعام 91 إذا عرفت هذا فنقول اسم الله عز وجل أقوى الأسماء في تجلي ذاته لأنه أظهر الأسماء في اللفظ وأبعدها معنى عن العقول فهو ظاهر باطن يعسر إنكاره ولا تدرك أسراره قال الحسين بن منصور الحلاج اسم الله مع الخلق قد تاهوا به ولها
ليعلموا منه معنى من معانيه
والله ما وصلوا منه إلى سبب
حتى يكون الذي أبداه مبديه
وقال أيضا يا سر سر يدق حتى
يخفى على وهم كل حي
فظاهرا باطنا تجلى
لكل شيء بكل شيء
وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلى الحق بصفاته العالية ولذلك قال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى الإسراء 110 وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلي الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما غافر 7
الفصل التاسع
في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة
السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة أولها الخلق وثانيها التربية في مصالح الدنيا وثالثها التربية في تعريف المبدأ ورابعها التربية في تعريف المعاد وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال إياك نعبد كأنه يقول إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ثم قال إياك نعبد وإياك نستعين كأنه(1/231)
قال إياك نعبد لأنك الله الخالق وإياك نستعين لأنك الرب الرازق إياك نعبد لأنك الرحمن وإياك نستعين لأنك الرحيم إياك نعبد لأنك الملك وإياك نستعين لأنك المالك واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ومن دار الشرور إلى دار السرور فقال لا بد لذلك اليوم من زاد واستعداد وذلك هو العبادة فلا جرم قال إياك نعبد ثم قال العبد الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال ما معي قليل فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال وإياك نستعين ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال اهدنا الصراط المستقيم ثم إنه لا بد لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال صراط الذين أنعمت عليهم والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فالأنبياء هم الأدلاء والصديقون هم البدرقة والشهداء والصالحون هم الرفقاء ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين وذلك لأن الحجب عن الله قسمان الحجب النارية - وهي عالم الدنيا - ثم الحجب النورية - وهي عالم الأرواح - فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية
الفصل العاشر
في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله واسمان مضافان إلى غير الله أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله بسم الله وقوله الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور فبسم الله ذكر والحمد لله شكر فلما قال بسم الله استحق الرحمة ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم الرحمن وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم الرحيم فلهذا المعنى قيل يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله ألست بربكم قالوا بلى الأعراف 172 وصفة الرحمن لوسط حالهم وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله لمن الملك اليوم لله الواحد القهار غافر 16 والله أعلم بالصواب وهو الهادي إلى الرشاد(1/232)
بداية الجزء الثانى من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(2/2)
سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع
وآياتها مائتان وست وثمانون
الم
تفسير آلم حروف الهجاء
الم فيه مسألتان المسألة الأولى
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى وذلك المعنى هو الحرف الأول من ( ضرب ) فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة فكانت لا محالة أسماء فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) الحديث والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور
معاني تسمية حروفها
فروع الأول أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً
حكمها ما لم تلها العوامل
الثاني حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات
كونها معربة
الثالث هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين
معاني آلم
المسألة الثانية للناس في قوله تعالى الم وما يجري مجراه من الفواتح قولان أحدهما أن هذا(2/3)
علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور وقال علي رضي الله عنه إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي وقال بعض العارفين العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر ثم أجرى من النهر جدول ثم أجرى من الجدول ساقية فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده وهو المراد من قوله تعالى أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ( الرعد 17 ) فبحور العلم عند الله تعالى فأعطي الرسل منها أودية ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم وعلى هذا ما روي في الخبر ( للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين وبادوا بائرين والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه وكذلك علماء الباطن وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال سر الله فلا تطلبوه وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال عجزت العلماء عن إدراكها وقال الحسين بن الفضل هو من المتشابه
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول
حجج المتكلمين بالآيات
أما الآيات فأربعة عشر أحدها قوله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمد 24 ) أمرهم بالتدبر في القرآن ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي الناقص والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق وثالثها قوله وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ ( الشعراء 192 195 ) فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منذراً به وأيضاً قوله بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ يدل على أنه نازل بلغة العرب وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً ورابعها قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها قوله تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وقوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء وسادسها قوله هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها قوله حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) وقوله وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( يونس 57 ) وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها قوله قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) وتاسعها قوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( العنكبوت 51 ) وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم وعاشرها قوله تعالى هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ فكيف يكون بلاغاً وكيف(2/4)
يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم وقال في آخر الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ ( إبراهيم 52 ) وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر قوله قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ( النساء 174 ) فكيف يكون برهان ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم الثاني عشر قوله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً ( طه 123 124 ) فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم الثالث عشر إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم الرابع عشر قوله تعالى الرَّسُولُ بِمَا إِلَى قَوْلُهُ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( البقرة 285 ) والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً
الاحتجاج بالأخبار
وأما الأخبار فقوله عليه السلام ( إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي ) فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا نزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم
الاحتجاج بالمعقول
أما المعقول فمن وجوه أحدها أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها أن المقصود من الكلام الإفهام فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به فهذا مجموع كلام المتكلمين واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول
احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم لقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ والوقف ههنا واجب لوجوه أحدها أن قوله تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ( آل عمران 7 ) لو كان معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لبقي يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد لا يقال أنه حال لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً آمنا به كل من عند ربنا وهذا كفر وثانيها أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( آل عمران 7 )
احتجاجهم بالخبر
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا وروي أنه عليه السلام قال ( أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ) ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً لقوله عليه السلام ) أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )
احتجاجهم بالمعقول
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة(2/5)
بعقولنا كالصلاة والزكاة والصوم فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير والصوم سعي في كسر الشهوة ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه وتارة بما لا نقف على معناه ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر بل فيه فائدة أخرى وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً ومتفكراً فيه أبداً ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب
هل المراد من الفواتح معلوم
القول الثاني قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً الأول أنها أسماء السور وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وكقولهم للنحاس صاد وللنقد عين وللسحاب غين وقالوا جبل قاف وسموا الحوت نوناً الثاني أنها أسماء الله تعالى روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول ( يا كه يعص يا ح م ع سق ) الثالث أنها أبعاض أسماء الله تعالى قال سعيد بن جبير قوله ( آلر ح م ن ) مجموعها هو اسم الرحمن ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي الرابع أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته قال ابن عباس رضي الله عنهما في ( آلم ) الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد أول آخر أزلي أبدي واللام إشارة إلى أنه لطيف والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان وقال في كهيعص إنه ثناء من الله تعالى على نفسه والكاف يدل على كونه كافياً والهاء يدل على كونه هادياً والعين يدل على العالم والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم والياء على أنه يجير والعين على العزيز والعدل والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين وفي الثاني ليس كذلك السادس بعضها يدل على أسماء الذات وبعضها على أسماء الصفات قال ابن عباس في الم أنا الله أعلم وفي المص أنا الله أفصل وفي الر أنا الله أرى وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه السابع كل واحد منها يدل على صفات الأفعال فالألف آلاؤه واللام لطفه والميم مجده قاله محمد بن كعب القرظي وقال الربيع بن أنس ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه الثامن بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله فقال الضحاك الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل(2/6)
إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التاسع كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً واللام أي لامه الجاحدون والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق وقال بعض الصوفية الألف معناه أنا واللام معناه لي والميم معناه مني العاشر ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار وذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها وعارفون بقوانين الفصاحة فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر الحادي عشر قال عبد العزيز بن يحيى إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات الثاني عشر قول ابن روق وقطرب إن الكفار لما قالوا ( لا تسمعوا لهذاالقرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصلوا بالأعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم الثالث عشر قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام وآجال آخرين قال ابن عباس رضي الله عنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يتلو سورة البقرة الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) ثم أتى أخوه حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن آلم وقالوا ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم كذلك نزلت ) فقال حيى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال حيى فهل غير هذا فقال نعم المص فقال يحيى هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة فهل غير هذا قال نعم الر فقال حيى هذا أكثر من الأولى والثانية فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا فقال نعم المر قال حيى فنحن نشهد أن من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ فقال أبو ياسر أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير فذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 7 ) الرابع عشر هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر قال أحمد بن يحيى بن ثعلب إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد الخامس عشر روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه السادس عشر قال الأخفش إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد هو الكل كما تقول قرأت(2/7)
الحمد وتريد السورة بالكلية فكأنه تعالى قال أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ السابع عشر أن التكلم بهذه الحروف وإن كان معتاداً لكل أحد إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه الثامن عشر قال أبو بكر التبريزي إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف فيجب أن لا يكون قديماً التاسع عشر قال القاضي الماوردي المراد من ( آلم ) أنه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل عليكم والإلمام الزيارة وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون الألف إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أول الأمر وهو رعاية الشريعة قال تعالى مِن الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة قال الله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية وهو مقام الحقيقة قال تعالى قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( الأنعام 91 ) الحادي والعشرون الألف من أقصى الحلق وهو أول مخارج الحروف واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخر المخارج فهذه إشارة إلى أنه لا بدّ وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى على ما قال فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 )
كون فوائح السور أسماءها
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة أو تكون مفهومة والأول باطل أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم وأما القسم الثانيفنقول إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب أو أسماء المعني والثاني باطل لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون فيمتنع حملها عليها لأن القرآن نزل بلغة العرب فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل وهو معتذر بالإجماع لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة وليس فيهم من حملها على الكل أو لا يحمل على شيء منها وهو الباقي ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب
جعلها أسماء ألقاب أو معاني
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذه الألفاظ غير معلومة قوله ( لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج ) قلنا ولم لا يجوز ذلك وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة والسجيل والاستبرق فارسيان قوله ( وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان ) قلنا لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا ههنا سلمنا أنها مفهومة لكن قولك ( إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني ) إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء(2/8)
على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم سلمنا أنها موضوعة لأمر ما فلم لا يجوز أن يقال إنها من أسماء المعاني قوله ( إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة ) قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء ولكن لم لا يجوز أن يقال إنها مع القرينة المخضوضة تفيد معنى معيناً وبيانه من وجوه أحدها أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله وثانيها أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس وثالثها أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء ورابعها أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه أحدها أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في الم و حم فالاشتباه حاصل فيها والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه
فإن قيل يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية قلنا قولنا الم لا يفيد معنى ألبتة فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً بخلاف التسمية بمحمد فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين بخلاف قولنا الم فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً وثانيها لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالنواثر لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نفلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور وثالثها أن القرآن نزل بلسان العرب وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب وأنه غير جائز ورابعها أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران وخامسها هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً وهو محال فإن قيل مجموع قولنا ( صاد ) اسم للحرف الأول منه فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب قلنا الفرق ظاهر لأن المركب يتأخر عن المفرد والاسم يتأخر عن المسمى فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين وذلك غير مستحيل أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً وذلك محال وسادسها لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه ومعلوم أنه غير حاصل(2/9)
الجواب ( قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب ) قلنا عنه جوابان أحدهما أن كل ذلك عربي لكنه موافق لسائر اللغات وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين الثاني أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها فتكلموا بتلك الأسماء فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً
قوله ( وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً ) قلنا كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل أو في الكتاب أو في السنة بيانه وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه
وقوله ( لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب ) قلنا لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذاالغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض وهو بالإجماع باطل
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا ( آلم ) غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني فلا يجوز استعمالها فيه لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب ولأنها متعارضة فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات وذلك مما لا سبيل إليه
أما الجواب عن المعارضة الأولى فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى حكمة خفية
وعن الثاني أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر
وعن الثالث أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة ( حضرموت ) فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة والبيت من الشعر والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم
وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا
وعن الخامس أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين ولفظ الاسم كذلك فيكون الاسم اسماً لنفسه فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له
وعن السادس أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض على أن القول الحق أنه تعالى يفعل ما يشاء فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب من أن المشركين قال بعضهم لبعض ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فكان إذا تكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً والإنسان حريص على ما منع فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه والذي يؤكد هذا المذهب أمران أحدهما أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني أن(2/10)
العلماء قالوا أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى أقصى ما في الباب أن يقال لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً لكنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة فإن ذلك يكون جائزاً وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال والداعي إليه قد يكون هو الإفادة وقد يكون غيرها قوله ( أنه يكون هذياناً ) قلنا إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت أن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم
القول بأنها أسماء السور
فروع على القول بأنها أسماء السور الأول هذه الأسماء على ضربين أحدهما يتأتى فيه الإعراب وهو أما أن يكون اسماً مفرداً ( كصاد وقاف ونون ) أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو كدر ابجرد وهو من باب ما لا ينصرف لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث والثاني ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو كه يعص وال مر إذا عرفت هذا فنقول أما المفردة ففيها قراءتان إحداهما قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو اذكر وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز سيبويه مثله في حم وط س وي س لو قرىء به وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ ( ي س ) بفتح النون وأن يكون الفتح جراً وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية فقد جاء عنهم ( الله لأفعلن ) غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم ( أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف ) وثانيتهما قراءة بعضهم صاد بالكسر وسببه التحريك لالتقاء الساكنين أما القسم الثاني وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه فهو يجب أن يكون محكياً ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك ( دعني من تمرتان )
الثاني أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة
الثالث هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد فوردت ( ص ق ن ) على حرف و ( طاه وط س وي س وح م ) على حرفين و ( آلم وال ر وط سم ) على ثلاثة أحرف والم ص وال مر على أربعة أحرف و ( كه عيص وحم ع سق ) على خمسة أخرف والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا(2/11)
الرابع هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا فنقول إن جعلناها أسماء للسور فنعم ثم يحتمل الأوجه الثلاثة أما الرفع فعلى الابتداء وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدودة
الإشارة في ( ذلك الكتاب )
ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول المشار إليه ههنا حاضر و ( ذلك ) اسم مبهم يشار به إلى البعيد والجواب عنه من وجهين الأول لا نسلم أن المشار إليه حاضر وبيانه من وجوه أحدها ما قاله الأصم وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد فقوله ذالِكَ إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة وقد يسمى بعض القرآن قرآناً قال الله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ ( الأعراف 204 ) وقال حاكياً عن الجن قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ ( الجن 1 ) وقوله إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ( الأحقاف 30 ) وهم ما سمعوا إلا البعض وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت وثانيها أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه ويؤيده قوله إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل 5 ) وهذا في سورة المزمل وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث وثالثها أنه تعالى خاطب بني إسرائيل لأن سورة البقرة مدنية وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وينزل عليه كتاباً فقال تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ورابعها أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ( الزخرف 4 ) وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وخامسها أنه وقعت الإشارة بذلك إلى ( آلم ) بعد ما سبق التكلم به وانقضى والمنقضى في حكم المتباعد وسادسها أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً احتفظ بذلك وسابعها أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب
( ذلك ) يشار بها للقريب والبعيد
المقام الثاني سلمنا أن المشار إليه حاضر لكن لا نسلم أن لفظة ( ذلك ) لا يشار بها إلا إلى البعيد بيانه أن ذلك وهذا حرفاً إشارة وأصلهما ( ذا ) لأنه حرف للإشارة قال تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) ومعنى ( ها ) تنبيه فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل هذا أي تنبه(2/12)
أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه وقد تدخل الكاف على ( ذا ) للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل ( ذلك ) فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها فصارت كالدابة فإنها مختصة في العرف بالفرس وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض وإذا ثبت هذا فنقول إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي لا على مقتضى الوضع العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِلَى قَوْلُهُ وَكُلٌّ مّنَ الاْخْيَارِ ( ص 45 48 ) ثم قال هَاذَا ذِكْرُ ( الأنبياء 24 ) وقال وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 52 53 ) وقال وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ق 19 ) وقال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى ( النازعات 25 26 ) وقال وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 ) ثم قال إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ ( الأنبياء 106 ) وقال فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يَحْيَى اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) أي هكذا يحيى الله الموتى وقال وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة الجواب لا نسلم أن المشار إليه مؤنث لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم والأول باطل لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث وأما الاسم فهو ( آلم ) وهو ليس بمؤنث نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو ( آلم ) لا الذي هو مئنث وهو السورة
مدلول لفظ ( كتاب )
المسألة الثالثة اعلم أن أسماء القرآن كثيرة أحدها الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ( ص 29 ) والكتاب جاء في القرآن على وجوه أحدها الفرض كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( النساء 103 ) وثانيها الحجة والبرهان فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( الصافات 157 ) أي برهانكم وثالثها الأجل وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) أي أجل ورابعها بمعنى مكاتبة السيد عبده وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النور 33 ) وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق
اشتقاق لفظ ( قرآن )
وثانيها القرآن قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ ( الإسراء 88 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( الزخرف 3 ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وللمفسرين فيه قولان أحدهما قول ابن عباس أن القرآن والقراءة(2/13)
واحد كالخسران والخسارة واحد والدليل عليه قوله فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) أي تلاوته أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته الثاني وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وقال سفيان بن عيينة سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات والكلمات جمعت فصارت آيات والآيات جمعت فصارت سوراً والسور جمعت فصارت قرآناً ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية
معنى الفرقان
وثالثها الفرقان تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ( الفرقان 1 ) وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( البقرة 185 ) واختلفوا في تفسيره فقيل سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة ودليله قوله تعالى وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ( الإسراء 106 ) ونزلت سائر الكتب جملة واحدة ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ ( الفرقان 32 ) وقيل وقال الذين كفروا سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام والمجمل والمبين والمحكم والمؤول وقيل الفرقان هو النجاة وهو قول عكرمة والسدي وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة وعليه حمل المفسرون قوله وَإِذَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ ( البقرة 53 )
معنى تسميته بالذكر
ورابعها الذكر والتذكرة والذكرى أما الذكر فقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 50 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وفيه وجهان أحدهما أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره والثاني أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وأنه شرف لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته وأما التذكرة فقوله وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ( الحاقة 48 ) وأما الذكرى فقوله تعالى وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 )
تسميته تنزيلاً وحديثاً
وخامسها التنزيل وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 192 193 )
وسادسها الحديث اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) سماه حديثاً لأن وصوله إليك حديث ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به فإن الله خاطب به المكلفين
وسابعها الموعظة تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى والآخذ جبريل والمستملي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف لا تقع به الموعظة
تسميته بالحكم والحكمة
وثامنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم أما الحكم فقوله وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا ( الرعد 37 ) وأما الحكمة فقوله حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ ( الأحزاب 34 ) وأما الحكيم فقوله يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ ( ي س 1 2 ) وأما المحكم فقوله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 )
معنى الحكمة
واختلفوا في معنى الحكمة فقال الخليل هو مأخوذ من الأحكام والإلزام وقال المؤرخ هو مأخوذ من حكمة اللجام لأنها تضبط الدابة والحكمة تمنع من السفه
وتاسعها الشفاء وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 82 ) وقوله وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وفيه وجهان أحدهما أنه شفاء من الأمراض والثاني أنه شفاء من مرض(2/14)
الكفر لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض فقال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) وبالقرآن يزول كل شك عن القلب فصح وصفه بأنه شفاء
كونه هدي وهادياً
وعاشرها الهدى والهادي أما الهدى فلقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) هُدًى لّلنَّاسِ ( آل عمران 4 الأنعام 91 ) وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( يونس 57 ) وأما الهادي إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وقالت الجن قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ
الحادي عشر الصراط المستقيم قال ابن عباس في تفسيره إنه القرآن وقال وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
والثاني عشر الحبل وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( آل عمران 103 ) في التفسير إنه القرآن وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك ومن ذلك سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عصمة فقال ( إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به ) لأنه يعصم الناس من المعاصي
الثالث عشر الرحمة وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 88 ) وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات
تسميته بالروح
الرابع عشر الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح وسمي جبريل بالروح فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( مريم 17 ) وعيسى بالروح أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ ( النساء 171 )
الخامس عشر القصص نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) سمي به لأنه يجب اتباعه وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين ومنه قوله تعلى إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( آل عمران 62 )
السادس عشر البيان والتبيان والمبين أما البيان فقوله هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ ( آل عمران 138 ) والتبياني فهو قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وأما المبين فقوله تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( يوسف 1 )
السابع عشر البصائر هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( الأعراف 203 ) أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص
الثامن عشر الفصل إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ ( الطارق 13 14 ) واختلفوا فيه فقيل معناه القضاء لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة ومن جعله وراءه ساقه إلى النار
تسميته بالنجوم(2/15)
التاسع عشر النجوم فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( الواقعة 75 ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( النجم 1 ) لأنه نزل نجماً نجماً
العشرون المثاني مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 ) قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار
تسميه القرآن نعمة وبرهانا
الحادي والعشرون النعمة وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ ( الضحى 11 ) قال ابن عباس يعني به القرآن
الثاني والعشرون البرهان قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ ( النساء 174 ) وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله
الثالث والعشرون البشير والنذير وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( النساء 165 الأنعام 48 ) وقال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً ( الفتح 8 ) وقال في صفة القرآن في ح م السجدة بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ( فصلت 4 ) يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن
تسميته قيماً
الرابع والعشرون القيم فِيمَا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ( الكهف 2 ) والدين أيضاً قيم ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ ( التوبة 36 ) والله سبحانه هو القيوم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 آل عمران 2 ) وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة
الخامس والعشرون المهيمن وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وهو مأخوذ من الأمين وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 )
السادس والعشرون الهادي إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وقال يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ ( الجن 2 ) والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر ( النور الهادي )
تسميته نوراً
السابع والعشرون النور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وفي القرآن وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ ( الأعراف 157 ) يعني القرآن وسمي الرسول نوراً قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) يعني محمد وسمي دينه نوراً يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( الصف 8 ) وسمي بيانه نوراً أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) وسمي التوراة نوراً إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وسمي الإنجيل نوراً وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ ( المائدة 46 ) وسمي الإيمان نوراً يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ( الحديد 12 )
الثامن والعشرون الحق ورد في الأسماء ( الباعث الشهيد الحق ) والقرآن حق وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( الحاقة 51 ) فسماه الله حقاً لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( الأنبياء 18 ) أي ذاهب زائل(2/16)
التاسع والعشرون العزيز وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( الشعراء 9 68 ) وفي صفة القرآن وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( فصلت 41 ) والنبي عزيز لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ والأمة عزيزة وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة وللعزيز معنيان أحدهما القاهر والقرآن كذلك لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته والثاني أن لا يوجد مثله
تسمية القرآن بالكريم
الثلاثون الكريم وَأَنَّهُ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 77 ) واعلم أنه تعالى سمي سبعة أشياء بالكريم مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 60 ) إذ لا جواد إجود منه والقرآن بالكريم لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه وسمي موسى كريماً وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( الدخان 17 ) وسمي ثواب الأعمال كريماً فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( ي س 11 ) وسمي عرشه كريماً اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( النمل 26 ) لأنه منزل الرحمة وسمي جبريل كريماً إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( التكوير 19 ) ومعناه أنه عزيز وسمي كتاب سليمان كريماً إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( النمل 29 ) فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً
ومن أسمائه ( العظيم )
الحادي والثلاثون العظيم وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ ( الحجر 87 ) اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ ( البقرة 255 ) وعرشه عظيماً وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وكتابه عظيماً وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ ( الحجر 87 ) ويوم القيامة عظيماً لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 5 6 ) والزلزلة عظيمة إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) وخلق الرسول عظيماً وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) والعلم عظيماً وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وكيد النساء عظيماً إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف 28 ) وسحر سحرة فرعون عظيماً وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 116 ) وسمي نفس الثواب عظيماً وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الفتح 29 ) وسمي عقاب المنافقين عظيماً وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ( البقرة 7 )
ومنها المبارك
الثاني والثلاثون المبارك وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وسمى الله تعالى به أشياء فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ ( القصص 30 ) وسمى شجرة الزيتون مباركة يُوقَدُ مِن شَجَرَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ زَيْتُونَة ٍ ( التوبة 35 ) لكثرة منافعها وسمي عيسى مباركاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً ( مريم 31 ) وسمي المطر مباركاً وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) لما فيه من المنافع وسمي ليلة القدر مباركة إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ ( الدخان 3 ) فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة
اتصال ( آلم ) بقوله ( ذلك الكتاب )
المسألة الرابعة في بيان اتصال قوله الم بقوله ذالِكَ الْكِتَابُ قال صاحب الكشاف إن جعلت الم اسماً للسورة ففي التأليف وجوه
الأول أن يكون الم مبتدأ و ذالِكَ مبتدأ ثانياً و الْكِتَابِ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً(2/17)
كما تقول هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم وَيَكُونَ ذالِكَ الْكِتَابُ خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ومعناه هو ذلك وأن تكون هذه الم جملة و ذالِكَ الْكِتَابُ جملة أخرى وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذالِكَ مبتدأ وخبره الْكِتَابِ أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( السجدة 2 ) وتأليف هذا ظاهر
تفسير قوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ
قوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ فيه مسألتان
المسألة الأولى الريب قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء ومنها قوله عليه السلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فإن قيل قد يستعمل الريب في قولهم ( ريب الدهر ) و ( ريب الزمان ) أي حوادثه قال الله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر فقضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
قلنا هذان قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل فهو كالمشكوك فيه وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن فقوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه والمقصود أنه لا شبهة في صحته ولا في كونه من عند الله ولا في كونه معجزاً ولو قلت المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( البقرة 23 ) وها هنا سؤالات السؤال الأول طعن بعض الملحدة فيه فقال إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه الجواب المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه والأمر كذلك لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه السؤال الثاني لم قال ههنا لاَ رَيْبَ فِيهِ وفي موضع آخر لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) الجواب لأنهم يقدمون الأهم فالأهم وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ولو قلت لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا كما قصد في قوله لاَ فِيهَا غَوْلٌ تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث من أين يدل قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ على نفي الريب بالكلية الجواب قرأ أبو الشعثاء لاَ رَيْبَ فِيهِ بالرفع واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية والدليل عليه أن قوله لاَ رَيْبَ نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من(2/18)
أفراد الماهية لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية وذلك يناقض نفي الماهية ولهذا السر كان قولنا ( لا إله إلا الله ) نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى وأما قولنا ( لا ريب فيه ) بالرفع فهو نقيض لقولنا ( ريب فيه ) وهو يفيد ثبوت فرد واحد فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض
الوقف على ( فيه )
المسألة الثانية الوقف على فِيهِ هو المشهور وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على لاَ رَيْبَ ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً ونظيره قوله قَالُواْ لاَ ضَيْرَ وقول العرب لا بأس وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز والتقدير لاَ رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى واعلم أن القراءة الأولى أولى لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم
حقيقة الهدى
قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ فيه مسائل
المسألة الأولى في حقيقة الهدى الهدى عبارة عن الدلالة وقال صاحب الكشاف الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية وقال آخرون الهدى هو الاهتداء والعلم والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أثبت الهدى مع عدم الاهتداء ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال هديته فلم يهتد وذلك يدل على قولنا واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة أولها وقوع الضلالة في مقابلة الهدى قال تعالى أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) وقال لَعَلَى هُدًى أو فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأعراف 60 ) وثانيها يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها أن اهتدى مطاوع هدى يقال هديته فاهتدى كما يقال كسرته فانكسر وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى والجواب عن الأول أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع وعن الثاني أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً وغير منتفع به لا يسمى مهدياً ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم وعن الثالث أن الائتمار مطاوع الأمر يقال أمرته فائتمر ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء على أنه معارض بقوله هديته فلم يهتد ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم
معنى المتقي(2/19)
المسألة الثانية المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي والوقاية فرط الصيانة إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى فقال بعضهم يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد وقال آخرون لا يدخل ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم فروي عنه عليه السلام أنه قال ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه واعلم أن التقوى هي الخشية قال في أول النساء تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ( النساء 1 ) ومثله في أول الحج وفي الشعراء إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ( هود 106 ) يعني ألا تخشون الله وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب لقومهم وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ( نوح 3 ) يعني اخشوه وكذا قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن والغرض الأصلي منها الإيمان تارة والتوبة أخرى والطاعة ثالثة وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً أما الإيمان فقوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) أي التوحيد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) وفي الشعراء قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( الشعراء 11 ) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( الأعراف 96 ) أي تابوا وأما الطاعة فقوله في النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وفيه أيضاً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ( النحل 52 ) وفي المؤمنين وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( المؤمنون 52 ) وأما ترك المعصية فقوله وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( البقرة 189 ) أي فلا تعصوه وأما الإخلاص فقوله في الحج فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج 32 ) أي من إخلاص القلوب فكذا قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ ( البقرة 41 ) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) وقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده ) وقال علي بن أبي طالب التقوى ترك الإصرار عل المعصية وترك الاغترار وبالطاعة قال الحسن التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله وتعلم أن الأمور كلها بيد الله وقال إبراهيم بن أدهم التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق ويقال التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك ويقال المتقي من سلك سبيل المصطفى ونبذ الدنيا وراء القفا وكلف نفسه الإخلاص والوفا واجتنب الحرام والجفا ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ كفاه لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) ثم قال ههنا في القرآن إنه هدي للمتقين فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان(2/20)
المسألة الثالثة في السؤالات السؤال الأول كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط وأيضاً فالمتقي مهتدى والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين الجواب القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع وعلى دينه وصدق رسوله فهو أيضاً دلالة للكافرين إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وقال إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( ي س 11 ) وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين السؤال الثاني كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه حصم ذو وجهين ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد فكيف يكون هدى
الجواب أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع صار كله هدى السؤال الثالث كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وفي معرفة النبوة ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق
الجواب ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة فثبت أن المطلق لا يفيد العموم
السؤال الرابع الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره والقرآن ليس كذلك فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره فكيف يكون هدى قلنا من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) محل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع لاَ رَيْبَ فِيهِ لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه ويجوز أن ينصب على الحال(2/21)
والعامل فيه الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً وأن يقال إن قوله الضَّالّينَ الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و ذالِكَ الْكِتَابُ جملة ثانية و لاَ رَيْبَ فِيهِ ثالثة و هُدًى لّلْمُتَّقِينَ رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة
بيانه أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هادٍ وإيراده منكراً
اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ أما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون أو هم الذين وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى فإذا كان موصولاً كان الوقف على المتقين حسناً غير تام وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً
المسألة الثانية قال بعضهم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيآت أما الفعل فأما أن يكون فعل القلب وهو قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وأما أن يكون فعل الجوارح وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة أو مالية وأجلها الزكاة ولهذا سمي الرسول عليه السلام ( الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ) وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي فالترك هو التقوى والفعل إما فعل القلب وهو الإيمان أو فعل الجوارح وهو الصلاة والزكاة وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة واللروح يجب تطهيره أولاً عن النقوش الفاسدة حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه وكذا القول في الأخلاق فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف الإيمان إفعال من الأمن ثم يقال آمنه إذا صدقه وحقيقته(2/22)
آمنه من التكذيب والمخالفة وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى ( أقر وأعترف ) وأما ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ماوثقت فحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق وأقول اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع
الفرقة الأولى الذين قالوا الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان وهم المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنّة ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله ويكون المراد التصديق إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله فالإيمان المعدي بالباء يجري على طريقة أهل اللغة أما إذا ذكر مطلقاً غير معدي فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي الذي هو التصديق إلى معنى آخر ثم اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد وثانيها أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وثالثها أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد وهو قول النظام ومن أصحابه من قال شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها وأما أهل الحديث فذكروا وجهين الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب الثاني زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقصإيمانه ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه ومنهم من قال الإيمان اسم للفرائض دون النوافل
الفرقة الثانية الذين قالوا الإيمان بالقلب واللسان معاً وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين أحدهما اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو كان علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال وثانيهما اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا قال بعض المتكلمين هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله(2/23)
تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف وقال أهل الإنصاف المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته وبكونه مرئياً أو غيره لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان القول الثاني أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو قول بشر بن عتاب المريسي وأبي الحسن الأشعري والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس القول الثالث قول طائفة من الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب
الفرقة الثالثة الذين قالوا الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط وهؤلاء قد اختلفوا على قولين أحدهما أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيهما أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي
الفرقة الرابعة الذين قالوا الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً لا أنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان الثاني أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه إذا عرفت هذه المقدمة فنقول الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة
القيد الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه الأول أنه كان في أصل اللغة للتصديق فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً الثاني أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار(2/24)
منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع الثالث أجمعنا على أن الإيمان المعدي بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدي كذلك الرابع أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( البقرة 41 ) وقوله وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) الخامس أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً السادس أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي قال الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 78 ) من ثلاثة أوجه أحدهما أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فدل على أنه مؤمن وثانيها قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) وثالثها قوله ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ ( البقرة 178 ) وهذا لا يليق إلا بالمؤمن ومما يدل على المطلوب قوله تعالى وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ ( الأنفال 72 ) هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) وقوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ ( الأنفال 72 ) ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) وقال تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقوله تعالى تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ءايَة ً الْمُؤْمِنُونَ ( النور 31 ) لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة
القيد الثاني أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني والدليل عليه قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( البقرة 8 ) نفي كونهم مؤمنين ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي
القيد الثالث أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً
القيد الرابع ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عزّ وجلّ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان فإن قال قائل ها هنا صورتان الصورة الأولى من عرف الله تعالى بالدليل(2/25)
والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة فههنا أن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان وهو خرق للإجماع وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) وهذا قلب طافح بالإيمان فكيف لا يكون مؤمناً الصورة الثانية من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع وإن قلتم ليس بؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق
والجواب أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين وحكم بكونهما مؤمنين وإن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان
المسألة الرابعة قيل الْغَيْبَ مصدر أقيم مقام اسم الفاعل كالصوم بمعنى الصائم والزور بمعنى الزائر ثم في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قولان الأول وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن قوله بِالْغَيْبِ صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون ونظيره قوله تعالى ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) ويقول الرجل لغيره نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما ليس عليه دليل فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم واحتج أبو مسلم على قوله بأمور الأول أن قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ( البقرة 4 ) إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه وأنه غير جائز الثاني لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته فقوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور
والجواب عن الأول أن قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة وهو جائز كما في قوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلُ وَرُسُلِهِ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وعن الثاني أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا فكان ذلك التخصيص لازماً على(2/26)
الوجهين جميعاً فإن قيل أفتقولون العبد يعلم الغيب أم لا قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ويفيد الكلام فلا يلتبس وعلى هذا الوجه قال العلماء الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة وعن الثالث لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم
المسألة الخامسة قال بعض الشيعة المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر أما القرآن فقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النو 55 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل
المسألة السادسة ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً أحدها أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه وثانيها أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وقال الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ( المعارج 34 ) من قامت السوق إذا نفقت وأقامتها نفاقها لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي نتوجه إليه الرغبات وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه وثالثها أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم قام بالأمر وقامت الحرب على ساقها وفي ضده قعد عن الأمر وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط ورابعها إقامتها عبارة عن أدائها وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود وقالوا سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها قال تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( الصافات 143 ) وإعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطي الحقوق من دون بخس ونقص ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم لأنه يجب دوام وجوده ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده
المسألة السابعة ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً أحدها أنها الدعاء قال الشاعر فوقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتشم
وثانيها قال الخارزنجي اشتقاقها من الصلى وهي النار من قولهم صليت العصا إذا قومتها بالصلى فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار وثالثها أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً ( لغشية 4 ) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ( المسد 3 ) وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً ورابعها قال صاحب الكشاف الصلاة فعلة من ( صلى ) كالزكاة من ( زكى ) وكتبتها بالواو على لفظ المفخم وحقيقة صلى حرك الصلوين(2/27)
لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده وقيل الداعي مصلى تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد وأقول ها هنا بحثان
الأول إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ولو جوزنا أن يقال مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ثم أنه خفي ولدارس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل
الثاني الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم مختتمة بالتحليل وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة لأنه الذي يقف الصلاح عليه لأنه عليه السلام لما بين للإعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفلح إن صدق )
المسألة الثامنة الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( الواقعة 82 ) أي حظكم من هذا الأمر والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل وهو باطل لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( الرعد 22 ) فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه وقال آخرون الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل لأن الإنسان قد يقول اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة ويقول اللهم ارزقني عقلاً أعيش به وليس العقل بمملوك وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه فقال أبو الحسين البصري الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به فإذا قلنا قد رزقنا الله تعالى الأموال فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالاً فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا الحرام لا يكون رزقاً وقال أصحابنا الحرام قد يكون رزقاً فحجة الأصحاب من وجهين الأول أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً فوجب أن يكون رزقاً له الثاني أنه تعالى قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة فوجب أن يقال أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى أما الكتاب فوجوه أحدها قوله(2/28)
تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام وذلك باطل بالاتفاق وثانيها لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( البقرة 254 ) وأجمع المسلون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده فدل على أن الحرم لا يكون رزقاً وثالثها قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ اللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ ( يونس 59 ) فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام ( لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعاً ) وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال أنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال أن السلطن قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه وإنما يقال إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله لكنه كما يقال يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ولا يقال يا خالق الكلاب والخنازير وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) فخص اسم العباد بالمتقين وإن كان الكفار أيضاً من العباد وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام ( فاخترت ما حرم االله عليك من رزقه ) صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم
المسألة التاسعة أصل الإنفاق إخراج المال من اليد ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ ( الأنعام 35 )
المسألة العاشرة في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فوائد أحدها أدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفى عن الإسراف والتبذير المنهي عنه وثانيها قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به وثالثها يدخل في الإنفاق المذكور في الآية الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب والإنفاق الواجب أقسام أحدها الزكاة وهي قوله في آية الكنز وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 ) وثانيها الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته وثالثها الإنفاق في الجهاد وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وأراد به الصدقة لقوله بعده فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ ( المنافقون 10 ) فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح(2/29)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ
اعلم أن قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) عام يتناول كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو ما كان مؤمناً بهما ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 2 3 ) فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام ثم نقول أما قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق فإذا قلنا فلان آمن بكذا فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالأَتفاق لكن لا بدّ معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذباً فهو إلى الذم أقرب
المسألة الثانية المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلاً ومنزلاً ومنزولاً به أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به وهذا كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤيدي في سفل وقوله الأمير لا يفارق ذاته ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم قلنا يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلفقه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ هذا الإيمان واجب لأنه قال في آخره وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملاً إلا إذا علمه على سبيل التفصيل لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية فإن تحصيل العلم بالشرائع(2/30)
النازلة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل غير واجب على العامة وأما قوله وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد والإيمان به واجب على الجملة لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل وأما قوله وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآخرة صفة الدار الآخرة وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة
المسألة الثانية اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه فلذلك لا يقول القائل تيقنت وجود نفسي وتيقنت أن السماء فرقي لما أن العلم به غير مستدرك ويقال ذلك في العلم الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً فيقول القائل تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء
المسألة الثالثة أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار روى عنه عليه السلام أنه قال ( يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا يعني النوم واليقظة وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة )
أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة أحدها أن ينوي الابتداء بِالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) وذلك لأنه لما قيل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول ما السبب في اختصاص المتقين بذلك فوقع قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جواباً عن هذا السؤال كأنه قيل الذي يكون مشتغلاً بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بدّ وأن يكون على هدى من ربه وثانيها أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً لّلْمُتَّقِينَ ثم يقع الابتداء من قوله أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً وثالثها أن يجعل الموصول الأول صفة الْمُتَّقِينَ ويرفع الثاني على الابتداء و أُوْلَائِكَ خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا(2/31)
بنبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى
المسألة الثانية معنى الاستعلاء في قوله عَلَى هُدًى بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره ( فلان على الحق أو على الباطل ) وقد صرحوا به في قولهم ( جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل ) وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى ومدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولاً مدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً وذلك واجب على المكلف لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بدّ من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة وإنما نكر هُدًى ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً قال عون بن عبد الله الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدى بها إلا العلماء
المسألة الثالثة في تكرير أُوْلَائِكَ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين فإن قيل فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( الأعراف 179 ) قلنا قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل
المسألة الرابعة هُمْ فصل وله فائدتان إحداهما الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما حصر الخبر في المبتدأ فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان أما لو قلت الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان
المسألة الخامسة معنى التعريف في الْمُفْلِحُونَ الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو فقيل زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو
المسألة السادسة المفلح الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه والمفلح بالجيم مثله والتركيب دال على معنى الشق والفتح ولهذا سمي الزراع فلاحاً ومشقوق الشفة السفلى أفلح وفي المثل ( الحديد بالحديد يفلح ) وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علماً وعملاً بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات
المسألة السابعة هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه والمرجئة من وجه آخر أما الوعيدية فمن وجهين الأول أن قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يقتضي الحصر فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا(2/32)
يكون مفلحاً وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة والزكاة الثاني أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح فوجب أن لا يحصل الفلاح أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكروة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً وإن زنى وسرق وشرب الخمر وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة إذ لا قائل بالفرق والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان ثم الجواب عن قول الوعيدية أن قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يدل على أنهم الكاملون في الفلاح فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح ونحن نقول بموجب فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب بل يجوز له أن يكون خائفاً منه وعن الثاني أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى والجواب عن قول المرجئة أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن إتقاء المعاصي وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن في الآية مسائل نحوية ومسائل أصولية ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى أما قوله ءانٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ءانٍ حرف والحرف لا أصل له في العمل لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة وفيه مقدمات المقدمة الأولى في بيان المشابهة واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني كما يدخل على الفعل نحو أعطاني وأكرمني وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم المقدمة الثانية أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناءً على الدوران المقدمة الثالثة في أنها لم نصبت الاسم ورفعت الخبر وتقريره أن يقال إنها لما صارت عاملة فأما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول ءانٍ عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة ولأنها أعطيت عمل الفعل والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لا يكون أقوى من الأصل والقسم الثاني أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه والقسم الثالث أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع ثم في المفعول بالنصب فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع وهو أنها تنصب الاسم وترفع(2/33)
الخبر وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض
المسألة الثانية قال البصريون هذا الحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر وقال الكوفيون لا أثر له في رفع الخبر بل هو مرتفع بما كان مرتفعاً به قبل ذلك حجة البصريين أن هذه الحروف تشبه الفعل مشابهة تامة على ما تقدم بيانه والفعل له تأثير في الرفع والنصب فهذه الحروف يجب أن تكون كذلك وحجة الكوفيين من وجهين الأول أن معنى الخبرية باقٍ في خبر المبتدأ وهو أولى باقتضاء الرفع فتكون الخبرية رافعة وإذا كانت الخبرية رافعة استحال ارتفاعه بهذه الحروف فهذه مقدمات ثلاثة إحداها قولنا الخبرية باقية وذلك ظاهر لأن المراد من الخبرية كون الخبر مسنداً إلى المبتدأ وبعد دخول حرف ( إن ) عليه فذاك الإسناد باقٍ وثانيها قولنا الخبرية ههنا مقتضية للرفع وذلك لأن الخبرية كانت قبل دخول ( إن ) مقتضية للرفع ولم يكن عدم الحرف هناك جزءاً من المقتضى لأن العدم لا يصلح أن يكون جزء العلة فبعد دخول هذه الحروف كانت الخبرية مقتضية للرفع لأن المقتضى بتمامه لو حصل ولم يؤثر لكان ذلك لمانع وهو خلاف الأصل وثالثها قولنا الخبرية أولى بالاقتضاء وبيانه من وجهين الأول أن كونه خبراً وصف حقيقي قائم بذاته وذلك الحرف أجنبي مباين عنه وكما أنه مباين عنه فغير مجاور له لأن الاسم يتخللهما الثاني أن الخبر يشابه الفعل مشابهة حقيقية معنوية وهو كون كل واحد منهما مسنداً إلى الغير أما الحرف فإنه لا يشابه الفعل في وصف حقيقي معنوي فإنه ليس فيه إسناد فكانت مشابهة الخبر للفعل أقوى من مشابهة هذا الحرف للفعل فإذا ثبت ذلك كانت الخبرية باقتضاء الرفع لأجل مشابهة الفعل أولى من الحرف بسبب مشابهته للفعل ورابعها لما كانت الخبرية أقوى في اقتضاء الرفع استحال كون هذا الحرف رافعاً لأن الخبرية بالنسبة إلى هذا الحرف أولى وإذا كان كذلك فقد حصل الحكم بالخبرية قبل حصول هذا الحرف فيعد وجود هذا الحرف لو أسند هذا الحكم إليه لكان ذلك تحصيلاً للحاصل وهو محال الوجه الثاني أن سيبويه وافق على أن الحرف غير أصل في العمل فيكون إعماله على خلاف الدليل وما ثبت على خلاف الدليل يقدر بقدر الضرورة والضرورة تندفع بأعمالها في الاسم فوجب أن لا يعملها في الخبر
المسألة الثالثة روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد وقال إني أجد في كلام العرب حشوا أجد العرب تقول عبد الله قائم ثم تقول إن عبد الله قائم ثم تقول إن عبد الله لقائم فقال المبرد بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال السائل بأن قال إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جواباً للقسم نحو والله إن زيداً منطلق ويدل عليه من التنزيل قوله وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف 83 ) وقوله في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَة ٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ ( الكهف 13 ) وقوله فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( الشعاء 216 ) وقوله قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنعام 56 ) وقوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( االحج 89 )(2/34)
وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه وعليه قوله فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الاشعراء 16 ) وقوله وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ فِرْعَونُ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( االأعراف 104 ) وفي قصة السحرة إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ ( الأعراف 125 ) إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( طه 71 الشعراء 49 ) وقال عبد القاهر والتحقيق أنها للتأكيد وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى ( إن ) وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله كقول أبي نواس فعليك باليأس من الناس
إن غنى نفسك في الياس
وإنماحسن موقعها لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس وأما جعلها مع اللام جواباً للمنكر في قولك ( إن زيداً لقائم ) فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضاً أن يكون من الحاضرين واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ في الذي توهمت وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( آل عمران 36 ) وكذلك قول نوح عليه السلام قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 )
أما قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد أما القسم الأول وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن ومن لم يصدقه في ذلك فأما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض فذلك هو الكافر فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به ومثاله من أنكر وجود الصانع أو كونه عالماً قادراً مختاراً أو كونه واحداً أو كونه منزهاً عن النقائص والآفات أو أنكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر فذلك يكون كافراً لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال فلا جرم لم يكن إنكاره ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة ولنقل ذلك على سبيل التواتر فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان ولا إنكارها موجباً للكفر ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل(2/35)
وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه فهذا قولنا في حقيقة الكفر فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما علم بالضرورة مجيئه به قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفراً لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى لأنه لا سبيل إلى الاطلاع بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مداراً للأحكام الشرعية وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها لا أنها في أنفسها كفر فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والأخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الأخبار إذا عرفت هذا فنقول احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماضٍ مثل قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أو إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً ( نوح 1 ) على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئاً آخر قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلا إذا كان مسبوقاً بالخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً فيجب أن يكون محدثاً أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين الأول أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم لله تعالى فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى الثاني أن الله تعالى قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( الفتح 27 ) فلما دخلوا المسجد لا بدّ وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله أجاب المستدل أولاً عن السؤال الأول فقال عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلاً لا علماً وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم وعلى هذا سقطت هذه المعارضة وعن الثاني أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة فقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافاً بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلاً في الأزل وهذا هو المقصود أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلاً في الأزل أو ما كان فإن لم يكن حاصلاً في الأزل كان ذلك تصريحاً بالجهل وذلك كفر وإن قلنا إنه كان حاصلاً فزواله يقتضي زوال القديم وذلك سد باب إثبات حدوث العالم والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم(2/36)
إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء فإذا قال ( إن الناس يؤذونني ) فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلا جرم حسن ذلك وأقصى ما في الباب أن يقال لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الإمارات المفيدة للظن فضلاً عن القطع وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف والله أعلم ومن المعتزلة من احتال في دفع ذلك فقال إن قوله إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله إن الذين كفروا يؤمنون وقوله إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان فثبت أن قوله إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب أن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ صيغة الجمع وقوله لاَ يُؤْمِنُونَ أيضاً صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذٍ يعود الكلام المذكور
المسألة الرابعة اختلف أهل التفسير في المراد ههنا بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ فقال قائلون إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال آخرون بل المراد قوم من المشركين كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم وهم الذين جحد وأبعد البينة وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال الله تعالى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 4 5 ) وكان عليه السلام حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال الله تعالى له فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) وقال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك فإن اليأس إحدى الراحتين
أما قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف سَوَآء اسم بمنعى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر منه قوله تعالى تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( آل عمران 64 ) فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 ) بمعنى مستوية فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه
المسألة الثانية في ارتفاع سواء قولان أحدهما أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ(2/37)
تُنذِرْهُمْ في موضع الرفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه الثاني أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن واعلم أن الوجه الثاني أولى لأن ( سواء ) اسم وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركاً للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز وإذا ثبت هذا فنقول من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء فوجب أن يكون سواء خبراً فيكون الخبر مقدماً وذلك يدل على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز ونظيره قوله تعالى سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ( الجاثية 21 ) وروى سيبويه قولهم ( تميمي أنا ) ( ومشنوء من يشنؤك ) أما الكوفيون فأنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين الأول المبتدأ ذات والخبر صفة والذات قبل الصفة بالاستحقاق فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياساً على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية الثاني أن الخبر لا بدّ وأن يتضمن الضمير فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر وأنه غير جائز لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه فكان الإضمر قبل الذكر محالاً أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى لا أن يكون واجباً وعن الثاني أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب كقولهم ( في بيته يؤتى الحكم ) قال تعالى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى ( طه 67 ) وقال زهير فمن يلق يوماً على علاته هرما
يلق السماحة منه والندى خلقا
والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه لأن من قال خرج ضرب لم يكن آتياً بكلام منتظم ومنهم من قدح فيه بوجوه أحدها أن قوله ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ فعل وقد أخبر عنه بقوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ونظيره قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( يوسف 35 ) فاعل ( بدا ) هو ( ليسجننه ) وثانيها أن المخبر عنه بأنه فعل لا بدّ وأن يكون فعلاً فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل إسماً كان هذا الخبر كذباً والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً لأن الاسم لا يكون فعلاً وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه وثالثها أنا إذا قلنا الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه وهذا خطأ وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه ثم قال هؤلاء لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل فلا جرم كان التقدير سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بدّ وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا قلنا قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والأعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه وقبل ذلك ما كانوا كذلك ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله ولما قال ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ(2/38)
أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك
المسألة الرابعة قال صاحب الكشاف ( الهمزة ) و ( أم ) مجردتان لمعنى الاستفهام وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء كقوله اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء
المسألة الخامسة في قوله ءأَنذَرْتَهُمْ ست قراءات إما بهمزتين محققتين بينهما ألف أولاً ألف بينهما أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف أولاً ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء ( قد أفلح ) فإن قيل فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً قال صاحب الكشاف هو لاحن خارج عن كلام العرب
المسألة السادسة الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى أما قوله لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً ( لأن ) والجملة قبلها اعتراض
المسألة الثانية احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ( ي س 7 ) وقوله ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى قوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( المدثر 11 17 ) وقوله تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) على تكليف ما لا يطلق وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذباً والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان على الله والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال وقد يذكر هذا في صورة العلم هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلاً وذلك محال ومستلزم المحال محال فالأمر واقع بالمحال ونذكر هذا على وجه ثالث وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقاً لو حصل عدم الإيمان فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً وهو محال فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين بل أمر بالجمع بين العدم والوجود وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ونذكر هذا على وجه خامس وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم(2/39)
حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ( الفتح 15 ) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى وذلك منهي عنه ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه قالت المعتزلة لنا في هذه الآية مقامان المقام الأول بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعاً من الإيمان والمقام الثاني بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل أما المقام الأول فقالوا الذي يدل عليه وجوه أحدها أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى ( الإسراء 94 ) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلاً لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحاً وكذا قوله وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ ( الأعراف 12 ) وقوله لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( النساء 39 ) وقول موسى لأخيه مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ ( طه 92 ) وقوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( آلل عمران 71 ) وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 99 ) وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( التكوير 26 ) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وثانيها أن الله تعالى قال رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( السناء 165 ) وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 ) فلما بين أنه ما أبقي لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعاً لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع وثالثها أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة ( ح م السجدة ) أنهم قالوا قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذماً لهم في هذا القول فلو كان العلم مانعاً لكانوا صادقين في ذلك فلم ذمهم عليه ورابعها أنه تعالى أنزل قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى ءاخِرَهُ ذماً لهم وزجراً عن الكفر وتقبيحاً لفعلهم فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذوراً في أن لا يمشي وخامسها القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله فلو(2/40)
كان العلم والخبر مانعاً لكان لهم أن يقولوا إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالاً منا فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع وسادسها قوله تعالى نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر قالوا فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع البتة فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعاً عن الإيمان المقام الثاني قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه أحدها أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع والواجب لا قدرة له عليه لأنه إذا كان واجب الوقوع لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر وأما الممتنع فلا قدرة عليه فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء أصلاً وذلك كفر بالاتفاق فثبت أنا لعلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده وثانيها أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه فإن كان ممكناً علمه ممكناً وإن كان واجباً علمه واجباً ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم وقد بينا أنه محال وثالثها لو كان الخبر والعلم مانعاً لما كان العبد قادراً على شيء أصلاً لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع والواجب لا قدرة عليه والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع والممتنع لا قدره عليه فوجب أن لا يكون العبد قادراً على شيء أصلاً فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات والحركات الاضطرارية للحيوانات لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك فإن رمى إنسان إنساناً بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك ورابعها لو كان العلم بالعدم مانعاً للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بأن يعدموا علمه لأن إعدم ذات الله وصفاته غير معقول والأمر به سفه وعبث فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعاً من الوجود وخامسها أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات نظراً إلى ذاته وعينه فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلاً وهو محال وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة فلو صار بسبب العلم واجباً لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات وكونه ليس من الممكنات وذلك محال وسادسها أن الأمر بالمحال سفه وعبث فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضاً بكل أنواع السفه فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن بل يجوز أن يكون كله كذباً وسفهًا ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان وسابعها أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز(2/41)
ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف والمزمن بالطيران في الهواء وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل لم لا تطير إلى فوق ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود وثامنها لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالاً بعد حال ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين وتاسعها أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة فوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً مريداً مختاراً وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب وعاشرها الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقال وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل للمعتزلة فيه طريقان الأول طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار فإنا لما قلنا لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلاً قالوا خطأ قول من يقول إنه ينقلب علمه جهلاً وخطأ أيضاً قول من يقول إنه لا ينقلب ولكن يجب الإمساك عن القولين والثاني طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري أن العلم تبع المعلوم فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلاً عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان فهذا فرض علم بدلاً عن علم أخر لا أنه تغير العلم فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قوياً قاطعاً وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جداً فصار مجموع الكلامين كلاماً قوياً في نفي التكاليف ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه والذي قاله الجبرية من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) توسل به إلى الطعن فيه وقال قوم من الرافضة إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل(2/42)
وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال أن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره وإنما قال بهذا المذهب فراراً من تلك الإشكالات المتقدمة واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب بل هي جارية مجرى التشنيعات فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي خطأ قول من يقول إنه يدل وخطأ قول من يقول إنه لا يدل إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكماً بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفي في دفعه تقرير وجه الاستدلال فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم فلو حصل الوجود معه لكان قد ا جتمع العدم والوجود معاً ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلاً وهو الآن أيضاً حاضر فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافاً بانقلاب العلم جهلاً وهذا آخر الكلام في هذا البحث واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بدّ من ذكرها وهي خمسة أحدها روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال كنت جالساً عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر فقال لا تعجل بالكفر وما سمعت قال سمعت هاشماً الأوقص يقول إن تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) وقوله ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( المدثر 11 ) إلى قوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر 26 ) إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الدخان 2 ) إلى قوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 ) فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل عليّ فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم ولا على الوليد من لوم فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر وحكي أيضاً أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) فقال له أخبرني عن تُبْتُ أكانت في اللوح المحفوظ فقال عمرو ليس هكذا كانت بل كانت تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة فغضب عمرو وقال إن علم الله ليس بشيطان إن علم الله لا يضر ولا ينفع وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن وثانيها روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر أن رجلاً قام إليه فقال يا أبا عبد الرحمن أن أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بداً فغضب ثم قال سبحان الله العظيم قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم(2/43)
يحملهم على الله على فعلها حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم والأرض التي أقلتكم فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك وذلك لأنه متناقض وفاسد أما المتناقض فلأن قوله ( وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله ) صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض وأما أنه فاسد فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئاً من الأعمال فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل وجل منصب الرسالة عنه وثالثها الحديثان المشهوران في هذا الباب أما الحديث الأول فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد أنه قال لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول هذا لرددته ولو سمعت الله عزّ وجلّ يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا وأما الحديث الثاني فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام فإن موسى قال لآدم أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره على قال نعم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحج آدم موسى والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه أحدها أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آذم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام وأنه غير جائز وثانيها أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ وثالثها أنه قال أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم بل الله أخرجه منها ورابعها أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كن حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة وخامسها أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه أحدها أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود وثانيها أنه قال فحج آدم منصوباً أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوباً وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر وثالثها وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب(2/44)
الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة فقال آدم إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جداً والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك وفيما ذكرنا ههنا كفاية
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والكلام ههنا يقع في مسائل
المسألة الأولى الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة
المسألة الثانية اختلف الناس في هذا الختم أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ثم لهم قولان منهم من قال الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء فإما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولاً يتوقف فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويز يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولاً من فعل الله ولا من فعل العبد لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر وذلك يبطل القول بالصانع فثبت أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى فنقول إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجباً أو جائزاً أو ممتنعاً والثاني والثالث باطل فتعين الأول وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزاً لأنه لو كان جائزاً لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر وأخرى منفكاً عنه فلنفرض وقوع ذلك لأن كل ما كان جائزاً لا يلزم من فرض وقوعه محال فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر وأخرى لا يترتب عليه الأثر فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على(2/45)
انضمام قرينة إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة لا ذلك المجموع وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا وأيضاً فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يتوقف فحينئذٍ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدراً للأثر وأخرى بحيث لا يكون مصدراً له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما البتة فيكون هذا قولاً بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً وأما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة ومن ذلك المرجح وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب ومنعاً له عن قبول الإيمان فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبة ما يجري مجرى السبب الموجب له لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى وأما المعتزلة فقد قالوا إنه لا يجوز أجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) وقال فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 4 5 ) وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا بل لا بدّ من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقرأ حتى لا يخلص إليها الذكر وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ولهذا قال تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ ( النساء 155 ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( المطففين 14 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ( لتوبة 77 ) وثانيها أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب وثالثها أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة زَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم ورابعها أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي وخامسها أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِين(2/46)
َ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 1 ) وسادسها الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان أي تصدقه وتشهد بأنه حق فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم وسابعها قال بعضهم هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( البقرة 65 ) وقال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 26 ) ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين وثامنها يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلاً بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذي في عينيه والطنين في أذنه فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد وتاسعها يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ( الإسراء 97 ) وقال وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ( طه 102 ) وقال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( ي س 65 ) وقال لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ( االأنبياء 100 ) وعاشرها ما حكوه عن الحسن البصري وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وحينئذٍ الملائكة يحبونه ويستغفرون له ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر قالوا والختم بهذا المعنى لا يمنع لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر قالوا وإنما خص القلب والسمع بذلك لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جان ببالقلب ولهذا خصهما بالذكر(2/47)
فإن قيل فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة قلنا لا لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك ولا مانع منه فوجب إثباته أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بدّ من حمله على المجاز وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع
المسألة الثالثة الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي الطبع والكنان والرين على القلب والوقر في الآذان والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين 14 ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 25 ) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( التوبة 87 ) بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء 155 ) فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( فصلت 4 ) لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س 70 ) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء النحل 80 ) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) والقسم الثاني وردت دلالة على أنه لا مانع البتة وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الأسراء 94 ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( االكهف 29 ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ( البقرة 28 ) لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( آل عمران 71 ) والقرآن مملوء من هذين القسمين وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا لأنهم نزهوه فسئل عن أهل السنّة فقال لا لأنهم عظموه والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح وأقول ههنا سر آخر وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ولو توقفت لزم الجبر وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة بل ههنا سر آخر هو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح وهذا يقتضي الجبر ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً ( الجاثية 23 ) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم(2/48)
المسألة السادسة الفائدة في تكرير الجار في قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين
المسألة السادسة إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه أحدها أنه وحد السمع لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً كما يقال أتاني برأس الكبشين يعني رأس كل واحد منهما كما وحد البطن في قوله ( كلوا في بعض بطنكم تعيشوا ) يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس فإذا لم يؤمن كقولك فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه الثاني أن السمع مصدر في أصله والمصادر لا تجمع يقال رجلان صوم ورجال صوم فروعي الأصل يدل على ذلك جمع الأذن في قوله وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) الثالث أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم الرابع قال سيبويه إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً قال تعالى يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ( المعارج 37 ) قال الراعي فبها جيف الحيدي فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها وقرأ ابن أبي عبلة ( وعلى أسماعهم )
المسألة السابعة من الناس من قال السمع أفضل من البصر لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر والتقديم دليل على الفضيل ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم وقد كان فيهم من كان مبتلي بالعمى ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر ولأن السمع متى بطل بطل النطق والبصر إذا بطل لم يبطل النطق ومنهم من قدم البصر لأن آلة القوة الباصرة أشرف ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ومتعلق القوة السامعة الريح
المسألة الثامنة قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يدل على أن محل العلم هو القلب واستقصينا بيانه في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) في سورة الشعراء
المسألة التاسعة قال صاحب الكشاف البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات كما أن البصيرة نور القلب وهو ما يستبصر به ويتأمل فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للأبصار والاستبصار أقول إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثاً غامضة لا تليق بهذا الموضع
المسألة العاشرة قرىء غِشَاوَة ً بالكسر والنصب وغشاوة بالضم والرفع وغشاوة بالفتح والنصب وغشوة بالكسر والرفع وغشوة بالفتح والرفع والنصب وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا والغشاوة هي الغطاء ومنه الغاشية ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع
المسألة الحادية عشرة العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً لأنه ينقخ العطش أي يكسره وقراتاً لأنه برقته عن القلب ثم اتسع فيه فسمي كل ألم(2/49)
فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة والفرق بين العظيم الكبير أن العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريدجئته أو خطره ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى
المسألة الثانية عشرة اتفق المسلمون على أنه يحسن منالله تعالى تعذيب الكفار وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو ولنذكر ههنا دلائل الفريقين أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور أحدها أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة فوجب أن يكون قبيحاً أما أنه ضرر فلا شك وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى غيره والأول باطل لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد فإن عبده إذا أساء إليه أدبه لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره والثاني أيضاً باطل لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال لأن الأَضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً والجهل الذي لا يكون ضاراً بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر دون قبيح نفس الضرر وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح وثانيها أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستقحاق العقاب إما لأنه تمام العلة أو لأنه شطر العلة وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً والقبيح لا يفعله الحكيم فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع أو للإضرار أولاً للإنفاع ولا للإضرار فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب ولا جائز أن يقال خلقهم لا للإنفاع(2/50)
ولا للإضرار لأن الترك على العدم يكفي في ذلك ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً ولا جائز أن يقال خلقهم للإضرار لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير وكل ذلك يدل على عدم العقاب ورابعها أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها وبينا أن ذلك يوجب الجبر وتعذيب المجبور قبيح في العقول وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي فيقال ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم فنقول لأن هذا لبيب حازم فطن وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل والفطانة والغباوة والحزم والخرق والمعلمين والباعثين والزاجرين ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه وعند هذا يقال أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة والغباوة والقساوة والطيش والخرق ثم يعاقبه عليه وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيباً حازماً عارفاً عالماً وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم والعاقل العالم البارد الرأس المعتدل مزاج القلب اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً ومعلماً كاملاً ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيءا فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول وخامسها أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا لأنه قال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد لأنك فوت على نفسك بعض المنافع فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت عليّ لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً لا شك أن هذا نهاية السفاهة فكيف يليق بأحكم الحاكمينا ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد ويقال(2/51)
هب أنه بالغ هذا في أضرارك ولكن إلى متى هذا التعذيب فإما أن تقتله وتريحه وإما أن تخلصه فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقالا وسادسها أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة فقال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( الإسرءا 33 ) وقال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد فيكون العقاب المؤبد ظلماً وسابعها أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم ولم لا يسمع نداءهم ولم يخيب رجاءهم ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النحل 62 ) وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 10 ) قالوا فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه أحدها أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين والدلائل العقلية تفيد اليقين والمظنون لا يعارض المقطوع وإنما قلنا إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر فكانت روايتهم مظنونة وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير وكل ذلك أمور ظنية وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً لكن عدم المعارض العقلي مظنون هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه وثانيها وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس قال الشاعر فوإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعاد ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه بعد لؤما وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى وهذا بناءً على حرف وهو أهل السنّة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول صلِ غداً إن عشت ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد إذا ثبت هذا(2/52)
فنقول لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم وأما توعده بالعقاب فغير لازم وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقه يرده عن قتله وعقوبته فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار فأما الكذب النافع فلا ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه كذب أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها ولا يسمى ذلك كذباً فكذا ههنا وثالثها أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص صريحاً أو نقول معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الأخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول أحوال القلب أربعة وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل وخلو القلب عن كل ذلك فهذه أقسام أربعة وأما أحوال اللسان فثلاثة الإقرار والإنكار والسكوت فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسماً النوع الأول ما إذا حصل العرفان القلبي فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت القسم الأول ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختيارياً فصاحبه مؤمن حقاً بالإتفاق وإن كان اضطرارياً وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر بل أنكر فهذا يجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه(2/53)
منكر مكذب فإذا كان باللسان مقراً مصداقاً وجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار القسم الثاني أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني فهذا الإنكار إن كان اضطرارياً كان صاحبه مسلماً لقوله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً القسم الثالث أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خالياً عن الإقرار والإنكار فهذا السكوت إما أن يكون اضطرارياً أو اختيارياً فإن كان اضطرارياً فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقاً أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة فهذا مؤمن قطعاً لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذوراً فيه وأما إن كان اختيارياً فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار فهذا محل البحث وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار النوع الثاني أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي فإما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت القسم الأول أن يوجد معه الإقرار ثم ذلك الإقرار إن كان اختيارياً فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر فها هنا لا كلام وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ها هنا بالنفاق لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً فبأن يكون منافقاً عند التقليد كان أولى القسم الثاني الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني ثم هذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شك في الكفر وإن كان اضطرارياً وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة القسم الثالث الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد النوع الثالث الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني أو الإنكار اللساني أو السكوت القسم الأول أن يوجد معه الإقرار اللساني فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المنافق وإن كان اختيارياً فهو مثل أن يعتقد بناءً على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث وهذا غير مستبعد لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان فهذا القسم أيضاً من النفاق القسم الثاني أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً بخلاف باطنه القسم الثالث أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً النوع الرابع القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت القسم الأول إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختيارياً أو اضطرارياً فإن كان اختيارياً فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر أما إذا كان اضطرارياً لم يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً القسم الثاني القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث القلب الخالي مع اللسان الخالي فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب وقد ظهر منه أن النفاق ما هو وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله(2/54)
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ المراد منه المنافقون والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان وقال آخرون بل المنافق أيضاً كاذب باللسان فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ولذلك قال تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) وقال وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 ) ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة أحدها أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك وثانيها أن الكافر عى طبع الرجال والمنافق على طبع الخنوثة وثالثها أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق والمنافق رضي بذلك ورابعها أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي ولأجل غلظ كفره قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) وخامسها قال مجاهد إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً وهذا بعيد لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم فإن عظم فلغير ذلك وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء وطلب الغوائل إلى غير ذلك ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على أمرين الأول أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمناً لقوله وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ وقالت الكرامية إنه يكون مؤمناً الثاني أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بدّ وأن يكون مؤمناً وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان فبطل قول من قال من المتكلمين أن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً
المسألة الرابعة ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوهاً أحدها يروى عن ابن عباس أنه قال سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي وقال الشاعر سميت إنساناً لأنك ناسي
وقال أبو الفتح البستي فيا أكثر الناس إحساناً إلى الناس
وأكثر الناس إفضالاً على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
وثانيها سمي إنساناً لاستئناسه بمثله وثالثها قالوا الإنسان إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ ( القصص 29 ) كما سمي الجن لاجتنانهم واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر
المسألة الخامسة قال ابن عباس أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب منهم عبد الله بن أبي(2/55)
ومعتب بن قشير وجد ابن قيس كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض
المسألة السادسة لفظة ( من ) لفظة صالحة للتثنية والجمع والواحد أما في الواحد فقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( الأنعام 25 ) وفي الجمع كقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ( يونس 42 ) والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ وعند الجمع يرجع إلى المعنى وحصل الأمران في هذه الآية لأن قوله تعالى يِقُولُ لفظ الواحد و مِنَ لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة السؤال الأول المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر والجواب إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب وهم اليهود فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لأنهم يعتقدونه جسماً وقالوا عزيز بن الله وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم فلهذا كذبهم الله تعالى فيه السؤال الثاني كيف طابق قوله وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ قولهم بِاللَّهِ فَإِذَا والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل والجواب أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه يعني أنه ليس من هذا الجنس فكيف يظن به ذلك فكذا ههنا لما قالوا آنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ كان ذلك مبالغة في تكذيبهم ونظيره قوله يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا هو أبلغ من قولهم وما يخرجون منها السؤال الثالث ما المراد باليوم الآخر الجواب يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع له أمد ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن تدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة وما بعده فلا حد له
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء أحدها ما ذكره في هذه الآية وهو أنهم يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فيجب أن يعلم أولاً ما المخادعة ثم ثانياً ما المراد بمخادعة الله وثالثاً أنهم لماذا كانوا يخادعون الله ورابعاً أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم(2/56)
المسألة الأولى اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل وأصل هذه اللفظة الإخفاء وسميت الخزانة المخدع والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان وقالوا خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً وطريق خيدع وخداع إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له ومنه المخدع وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين لأن الدين يوجب الاستقامة والعدولعن الغرور والإساءة كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده ومنه أخذ التدليس في الحديث لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس
المسألة الثانية وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى فلقائل أن يقول إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين الأول أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع الثاني أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نافقهم مخادعة الله تعالى فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لا بدّ من التأويل وهو من وجهين الأول أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال في عكسه وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( الأنفال 41 ) أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى الثاني أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم
المسألة الثالثة فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه الأول أنهم ظنوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا الثاني يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم أسراره وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار الثالث أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل لقوله عليه الصلاة والسلام ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الرابع أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم فإن قيل فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كيفية مكرهم وخداعهم فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم قلنا إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح قلنا قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يقال عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب لزيادة قوة الداعي إليه ويعضده قراءة أبي حيوة ( يخدعون الله ) ثم قال يُخَادِعُونَ بياناً ليقول ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين وما نفعهم فيه فقيل يُخَادِعُونَ(2/57)
المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ( وما يخادعون ) والباقون ( يخدعون ) وحجة الأولين مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقاً للفظ الأول وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين فلا يكون الإنسان الواحد مخادعاً لنفسه ثم ذكروا في قوله وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وجهين الأول أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن والثاني ما ذكره أكثر المفسرين وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم وهو كقوله إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 ) أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء ( البقرة 13 ) وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً ( النحل 50 ) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15 16 ) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الأحزاب 57 ) وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث أحدها قرىء ( وما يخادعون ) من أخدع و ( يخدعون ) بفتح الياء بمعنى يختدعون ( ويخدعون ) و ( يخادعون ) على لفظ ما لم يسم فاعله وثانيها النفس ذات الشيء وحقيقته ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم وثالثها أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس ومشاعر الإنسان حواسه والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس
أما قوله تعالى فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب فإن قيل الزيادة من جنس المزيد عليه فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا محمولاً على الكفر والجهل فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل قالت المعتزلة لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه أحدها أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا فعل الله الكفر فينا فكيف تأمرنا بالإيمان وثانيها أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره وثالثها أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم ورابعها قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأي ذنب لهم حتى يعذبهم وخامسها أنه تعالى أضافه إليهم بقوله بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض وأنهم هم السفهاء وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إذا ثبت هذا فنقول لا بدّ من التأويل وهو من وجوه الأول يحمل المرض على الغم لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستعلاء شأنه يوماً فيوماً وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف ال له(2/58)
تعالى ذلك فقال فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعظيم شأنه الثاني أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف فهو كقوله تعالى في سورة التوبة فَزَادَهُمُ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) والسورة لم تفعل ذلك ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك وكقوله تعالى حكاية عن نوح إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 5 6 ) والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ولكنهم ازدادوا فراراً عنده وقال وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى ( التوبة 49 ) والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( المادة 64 ) وقال فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 ) وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده ما زادتك موعظتي إلا شراً ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله الثالث المراد من قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا المنع من زيادة الألطاف فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( المنافقون 4 ) الرابع أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض فيقولون جارية مريضة الطرف قال جرير فإن العيون التي في طرفها مرض
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار فقال تعالى فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف ولقد حفق الله تعالى ذلك بقوله وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( الحشر 2 ) الخامس أن يحمل المرض على ألم القلب وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته فكان أولى من سائر الوجوه أما قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال صاحب ( الكشاف ) ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به فهو نحو قوله تحية بينهم ضرب وجيع وهذا على طريقة قولهم جد جده والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد أما قوله بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ففيه أبحاث أحدها أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر وهذا الآية حجة عليه وثانيها أن قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات فالمراد التعريض ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به وثالثها في هذه الآية قراءتان إحداهما يَكْذِبُونَ والمراد بكذبهم قوله بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا والثانية ( يكذبون ) من كذبه الذي هو نقيض صدقه ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق(2/59)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين والكلام فيه من وجوه أحدها أن يقال من القائل لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ وثانيها ما الفساد في الأرض وثالثها من القائل إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ورابعها ما الصلاح
أما المسألة الأولى فمنهم من قال ذلك القائل هو الله تعالى ومنهم من قال هو الرسول عليه السلام ومنهم من قال بعض المؤمنين وكل ذلك محتمل ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين وإما أن يقال إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم لاَ تُفْسِدُواْ فإن قيل أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك قلنا نعم إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ ( التوبة 74 ) وقال يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ( التوبة 96 )
المسألة الثانية الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً وفيه ثلاثة أقوال أحدها قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه فحقنت الدماء وسكنت الفتن وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب ولذلك قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( محمد 22 ) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به وثانيها أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وضعف أنصاره فكان ذلك يجرىء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة وفيه فساد عظيم في الأرض وثالثها قال الأصم كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه وجحد الإسلام وإلقاء الشبه
المسألة الثالثة الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ كالمقابل له وعند ذلك يظهر احتمالان أحدهما أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب(2/60)
وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين لا جرم قالوا إنما نحن مصلحون لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد وثانيهما أنا إذا فسرنا لاَ تُفْسِدُواْ بمداراة المنافقين للكفار فقولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ( النساء 62 ) فقولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي نحن نصلح أمور أنفساً
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه وتجويز خلافه لا يطعن فيه وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم وأما قوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فخارج على وجوه ثلاثة أحدها أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض إذ فيه كفران نعمة الله وإقدام كل أحد على ما يهواه لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ولهذا قال فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ على ما تقدم تقريره
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين أولهما ترك ما لا ينبغي وهو قوله ءامَنُواْ وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان فإنه لو لم يكن إيماناً لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص فكان قوله ءامَنُواْ كافياً في تحصيل المطلوب وكان ذكر قوله كَمَا ءامَنَ النَّاسُ لغواً والجواب أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله كَمَا ءامَنَ النَّاسُ
المسألة الثانية اللام في النَّاسِ فيها وجهان أحدهما أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه وهم ناس معهودون أو عبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من أبناء جنسهم والثاني أنها للجنس ثم ها هنا أيضاً وجهان أحدهما أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين وهؤلاء المنافقون كانوا منهم وكانوا قليلين ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر والثاني أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي
المسألة الثالثة القائل وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ إما الرسول أو المؤمنون ثم كان بعضهم يقول(2/61)
لبعض أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء
المسألة الرابعة السفه الخفة يقال سفهت الريح الشيء إذا حركته قال ذو الرمة فجرين كما اهتزت رياح تسفهت
أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي فسفيه الرمح جاهله إذا ما
بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النساء 5 ) وقال عليه السلام ( شارب الخمر سفيه ) لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة وأكثر المؤمنين كانوا فقراء وكان عند المنافقين أن دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باطل والباطل لا يقبله إلا السفيه فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب وقوله الحق لوجوه أحدها أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه وثانيها أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه وثالثها أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله وذلك هو السفيه
المسألة الخامسة إنما قال في آخر هذه الآية لاَّ يَعْلَمُونَ وفيما قبلها لاَّ يَشْعُرُونَ لوجهين الأول أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس الثاني أنه ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُو ا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِى ءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه وقرأ أبو حنيفة ( وإذا لاقوا ) أما قوله قَالُواْ ءامَنَّا فالمراد أخلصنا بالقلب والدليل عليه وجهان الأول أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك الثاني أن قولهم للمؤمنين ( آمنا ) يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين(2/62)
التصديق بالقلب أما قوله وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ فقال صاحب ( الكشاف ) يقال خلوت بفلان وإليه وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من ( خلا ) بمعنى مضى ومنه القرون الخالية ومن ( خلوت به ) إذا سخرت منه من قولك ( خلا فلان بعرض فلان ) أي يعبث به ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم أما قوله إِنَّا مَعَكُمْ ففيه سؤالان السؤال الأول هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم الجواب في هذا خلاف لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم لئلا يتوهموا فيهم المباينة ومن يقول في الشياطين المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض وأما أصاغرهم فلا السؤال الثاني لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة ( بأن ) الجواب ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم فلا جرم كان التأكيد لائقاً به أما قوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ففيه سؤالان السؤال الأول ما الاستهزاء الجواب أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع وهزأ يهزأ مات على مكانه وناقته تهزأ به أي تسرع وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية فعلى هذا قولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم السؤال الثاني كيف تعلق قوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ بقوله إِنَّا مَعَكُمْ الجواب هو توكيد له لأن قوله إِنَّا مَعَكُمْ معناه الثبات على الكفر وقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ رد للإسلام ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر أو استئناف كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا إنا معكم فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام فقالوا إنما نحن مستهزئون
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء أحدها قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وفيه أسئلة الأول كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزىء وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس وهو على الله محال ولأنه لا ينفك عن الجهل لقوله قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 ) والجهل على الله محال والجواب ذكروا في التأويل خمسة أوجه أحدها أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك(2/63)
الشيء قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 144 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وقال عليه السلام ( اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم والعنه عدد ما هجاني ) أي أجزه جزاء هجائه وقال عليه السلام ( تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ) وثانيها أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم وثالثها أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب ورابعها إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا وخامسها أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزىء في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه وأما في الآخرة فقال ابن عباس إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة وأهل الجنة ينظرون إليهم فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذاك قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ إلى قوله فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( المطففين 34 ) فهذا هو الاستهزاء بهم السؤال الثاني كيف ابتدأ قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ولم يعطف على الكلام الذي قبله الجواب هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله
السؤال الثالث هل قيل إن الله مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ الجواب لأن ( يستهزىء ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت وهذا كانت نكايات الله فيهم أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّة ً أَوْ مَرَّتَيْنِ ( التوبة 126 ) وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ الجواب الثاني قوله تعالى وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( البقرة 15 ) قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد ومده الشيطان في الغي وأمده إذا واصله بالوسواس ومد وأمد بمعنى واحد وقال بعضهم مد يستعمل في الشر وأمد في الخير قال تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنين 55 ) ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين الأول أن(2/64)
قراءة ابن كثير وابن محيصن ( ونمدهم ) وقراءة نافع ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ) يدل على أنه من المدد دون المد الثاني أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له كأملي له قالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه أحدها قوله تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى
وثانيها أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلاً لله تعالى فكيف يذمهم عليه
وثالثها لو كان فعلاً لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً
ورابعها أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله ( في طغيانهم ) ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ( الأعراف 202 ) إذا ثبت هذا فنقول التأويل من وجوه أحدها وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم وثانيها أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور وثالثها أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده ورابعاً ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين الأول لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر الثاني هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان بل المراد أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فلا فائدة في الإعادة واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء ( الحاقة 11 ) أي جاوز قدره وقال اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 24 ) أي أسرف وتجاوز الحد وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
واعلم أن تراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به(2/65)
والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين أما قوله فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم وفيه سؤالان السؤال الأول كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها الجواب هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري السؤال الثاني هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر فولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا ههنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه تمثيلاً لخسارتهم وتصويراً لحقيقته أما قوله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسيبة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة وقال قتادة انتقلوا من الهدى إلى الضلالة ومن الطاعة إلى المعصية ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة والله أعلم
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين أحدها أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل وذلك في نهاية الإيضاح ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجرداً ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله قال تعالى وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( العنكبوت 43 الحشر 21 ) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده مثل وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه(2/66)
المسألة الثانية أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان أحدهما هذا المثل وفيه إشكالات أحدها أن يقال ما وجه التمثيل بمن أعطي نوراً ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور وثانيها أن يقال إن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل وثالثها أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات والمنافق لم يكتسب خيراً وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه فما وجه التشبيه والجواب أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوهًا أحدها قال السدي إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين وثانيها إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبداً من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين وعد ذلك نوراً من أنوار الإيمان ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلاً قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلاً ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة وثالثها أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نوراً بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة ورابعها أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ فالنار مثل لقولهم ( آمنا ) وذهابه مثل لقولهم للكفار ( إنا معكم ) فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلاً بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره وإنما سمى مجرد ذلك القول نوراً لأنه قول حق في نفسه وخامسها يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نوراً لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال وسادسها أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وسابعها يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ألا ترى إلى قوله تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ( المائدة 64 ) وثامنها قال سعيد بن جبير نزلت في اليهود(2/67)
وانتظارهم لخروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كإيقاد النار وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور
المسألة الثالثة فأما تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة فهو في كتاب الله تعالى كثير والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هادياً إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة وهذا حال الإيمان في باب الدين فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر فشبه تعالى أحدهما بالآخر فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية بقيت ههنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل السؤال الأول قوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر والجواب استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد ناراً وكذا قوله مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 ) أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ ( الفتح 29 ) أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا فلان مثله في الخير والشر فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن السؤال الثاني كيف مثلت الجماعة بالواحد والجواب من وجوه أحدها أنه يجوز في اللغة وضع ( الذي ) موضع ( الذين ) كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( التوبة 69 ) وإنما جاز ذلك لأن ( الذي ) لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم ولكونه مستطالاً بصلته فهو حقيق بالتخفيف ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين وثانيها أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً وثالثها وهو الأقوى أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومثله قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ( الجمعة 5 ) وقوله يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ( محمد 20 ) ورابعها المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي يخرج كل واحد منكم السؤال الثالث ما الوقود وما النار وما الإضاءة وما النور ما الظلمة الجواب أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء حار محرق واشتقاقها من ( نارينور ) إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً والنور مشتق منها وهو ضوؤها والمنار العلامة والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع السراج عليه ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة ومصداق ذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) و ( أضاء ) يرد لازماً ومتعدياً تقول أضاء القمر الظلمة وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر(2/68)
فأضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به تقول دار حوله وحواليه والحول السنة لأنها تحول وحال عن العهد أي تغير وحال لونه أي تغير لونه والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له والحول انقلاب العين والحول الانقلاب قال الله تعالى لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 ) أي لم تنقص وفي المثل من أشبه أباه فما ظلم أي فما نقص حق الشبه والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعًا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج السؤال الرابع أضاءت متعدية أم لا الجواب كلاهما جائز يقال أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلماً وههنا الأقرب أنها متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ( ضاء ) السؤال الخامس هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله فَلَمَّا أَضَاءتْ الجواب ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نوراً والغرض إزالة النور عنهم بالكلية ألا ترى كيف ذكر عقيبه وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ والظلمة عبارة عن عدم النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله لاَّ يُبْصِرُونَ السؤال السادس لم قال ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ويقال ذهب به إذا استصحبه ومعنى به معه وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ( يوسف 15 ) إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ ( المؤمنون 91 ) والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ ( فاطر 2 ) فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني ( أذهب الله نورهم ) السؤال السابع ما معنى ( وتركهم ) والجواب ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين السؤال الثامن لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون الجواب أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعد أصلاً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ(2/69)
اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب فلذلك جعله بمنزلة الأبكم وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى أما قوله فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذ الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبداً وثانيها أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه وعن الضلالة بعد أن اشتروها وثالثها أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه أحدها أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم فإذا أضاء لهم مشوا فيه وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته وتعظم الظلمة في عينه وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون وثانيها أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلاً فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضرراً في الدين وثالثها أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها أن هؤلاء الذين يجعلون(2/70)
أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار وسادسها أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماتع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق وسابعها المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات وترك الأديان القديمة والانقياد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة والمراد من قوله كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ أنه متى حصل لهم شيء من المنافع وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع فحينئذٍ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه وبقي على الآية أسئلة وأجوبة السؤال الأول أي التمثيلين أبلغ والجواب التمثيل الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ السؤال الثاني لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك الجواب من وجوه أحدها لأن ( أو ) في أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت ومنه قوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما فكذا قوله أَوْ كَصَيّبٍ معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفتي هاتين القصتين فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك وثانيها إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار وبعضهم يشبهون أصحاب المطر ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) وقوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( الأعراف 4 ) وثالثها أو بمعنى بل قال تعالى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) ورابعها أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ( النور 61 ) وقال الشاعر فوقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وهذه الوجوه مطردة في قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) السؤال الثالث المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو الجواب لعلماء البيان ههنا قولان أحدهما أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً(2/71)
من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل فههنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة والقول الثاني أنه تشبيه مركب وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وههنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب قلنا لولا طلب الراجع في قوله يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره السؤال الرابع ما الصيب الجواب أنه المطر الذي يصوب أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد ولا يقال صيب إلا للمطر الجود كان عليه الصلاة والسلام يقول ( اللهم اجعله صيباً هنيئاً ) أي مطراً جوداً وأيضاً يقال للسحاب صيب قال الشماخ وأسحم دان صادق الوعد صيب
وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل كما تنكرت النار في التمثيل الأول وقرىء ( أو كصائب ) وصيب أبلغ والسماء هذه المظلة السؤال الخامس قوله من السماء ما الفائدة فيه والصيب لا يكون إلا من السماء الجواب من وجهين الأول لو قال أو كصيب فيه ظلمات احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلاً من بعض جوانب السماء دون بعض أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقاً الثاني من الناس من قال المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى فذاك هو المطر ثم إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب ههنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء كذا قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) وقوله وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 ) السؤال السادس ما الرعد والبرق الجواب الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع السؤال السابع الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته الجواب أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل السؤال الثامن كيف يكون المطر مكاناً للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب الجواب لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديداً جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام(2/72)
السؤال التاسع هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات الجواب الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع أما الرعد فإنه نوع واحد وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع السؤال العاشر لم جاءت هذه الأشياء منكرات الجواب لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف السؤال الحادي عشر إلى ماذا يرجع الضمير في ( يجعلون ) الجواب إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفاً في اللفظ لكنه باقٍ في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ( البقرة 20 ) السؤال الثاني عشر رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم الجواب المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) المراد بعضهما السؤال الثالث عشر ما الصاعقة الجواب إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود السؤال الرابع عشر ما إحاطة الله بالكافرين الجواب إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه عالم بهم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَى ْء عِلْمَا ( الطلاق 12 ) وثانيها قدرته مستولية عليهم وَاللَّهُ مِن وَرَاءهُم مُحِيطٌ ( البروج 20 ) وثالثها يهلكهم من قوله تعالى إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( يوسف 66 ) السؤال الخامس عشر ما الخطف الجواب إنه الأخذ بسرعة وقرأ مجاهد ( يخطِف ) بكسر الطاء والفتح أفصح وعن ابن مسعود ( يختطف ) وعن الحسن ( يَخَطف ) بفتح الياء والخاء وأصله يختطف وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء وعن زيد بن علي يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) أما قوله تعالى كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ ( البقرة 20 ) فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرد فأعماهم وأضاء إما متعدٍ بمعنى كلما نور لهم مسلكاً أخذوه فالمفعول محذوف وإما غير متعدٍ بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ( كلما ضاء ) فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما ومع الإظلام إذا قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والأقرب في أظلم أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قامت السوق وقام الماء جمد ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن(2/73)
يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة وهي أن المشهور أن ( لو ) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم وقوله وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً وما علم فيهم خيراً وأما الخبر فقوله عليه السلام ( نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ) فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض فقد علمنا أن كلمة ( لو ) لا تفيد إلا الربط والله أعلم
وأما قوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى منهم من استدل به على أن المعدوم شيء قال لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء والجواب لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئاً فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئاً
المسألة الثانية احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئاً واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) قال لو كان هو تعالى شيئاً لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا تتناقض هذه الآية واعلم أن هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم واحتج أصحابنا بوجهين الأول قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) والثاني قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئاً
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة فإنهم يقولون الاستطاعة قبل الفعل محال فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء وكل شيء مقدور وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولاً به في محل النزاع لأنه حال البقاء مقدوره على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه أما حال الحدوث فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده
المسألة الخامسة تخصيص العام جائز في الجملة وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل لأن قوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( البقرة 284 ) يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ثم خص بدليل العقل فإن قيل إذا كان(2/74)
اللفظ موضوعاً للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً وذلك يوجب الطعن في القرآن قلنا لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازاً في الأكثر وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً والله أعلم
القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في هذه الآيات مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما قدم أحكام الفرق الثلاثة أعني المؤمنين والكفار والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وفيه فوائد أحدها أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث إن فلاناً من قصته كيت وكيت ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزبد تحريك لذلك الثالث وثانيها كأنه سبحانه وتعالى يقول جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة وثالثها أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي بدليل أنه في هذه الآية انتقل من الغيبة إلى الحضور ورابعها أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف ففيه كلفة ومشقة فلا بدّ من راحة تقابل هذه الكلفة وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب
المسألة الثانية حكي عن علقمة والحسن أنه قال كل شيء في القرآن يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فإنه مكي وما كان خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ فبالمدينة قال القاضي هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فهذا ضعيف لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم ومرة باسم جنسهم وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر(2/75)
المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها فالخطاب في الجميع ممكن
المسألة الثالثة اعلم أن الألفاظ في الأغلب عبارات دالة على أمور هي إما الألفاظ أو غيرها أما الألفاظ فهي كالاسم والفعل والحرف فإن هذه الألفاظ الثلاثة يدل كل واحد منها على شيء هو في نفسه لفظ مخصوص وغير الألفاظ فكالحجر والسماء والأرض ولفظ النداء لم يجعل دليلاً على شيء آخر بل هو لفظ يجري مجرى عمل يعمله عامل لأجل التنبيه فأما الذين فسروا قولنا ( يا زيد ) بأنادي زيداً أو أخاطب زيداً فهو خطأ من وجوه أحدها أن قولنا أنادي زيداً خبر يحتمل التصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها وثانيها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك وثالثها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطباً بهذا الخطاب وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك لأنه لا يمتنع أنه يخبر إنساناً آخر بأني أنادي زيداً ورابعها أن قولنا أنادي زيداً إخبار عن النداء والأخبار عن النداء غير النداء والنداء هو قولنا يا زيد فإذن قولنا أنادي زيداً غير قولنا يا زيد فثبت بهذه الوجوه فساد هذا القول ثم ههنا نكتة نذكرها وهي أن أقوى المراتب الاسم وأضعفها الحرف فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف وكذا أعظم الموجودات هو الحق سبحانه وتعالى وأضعفها البشر وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً فقالت الملائكة أي مناسبة بينهما أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا فقيل قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ
المسألة الرابعة ( ياء ) حرف وضع في أصله لنداء البعيد وإن كان لنداء القريب لكن لسبب أمر مهم جداً وأما نداء القريب فله أي والهمزة ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة البعيد فإن قيل فلم يقول الداعي يا رب يا الله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) قلنا هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى وما يقربه إلى منازل المقربين هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهمات للداعي
المسألة الخامسة ( أي ) وصلة إلى نداء ما فيه الألف اللام كما أن ( ذو ) و ( الذي ) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بدّ وأن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي والاسم التابع له صفة كقولك يا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة وموصوفها وأما كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها ففيها فائدتان الأولى معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه والثانية وقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة وإنما كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات فإن كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد واقتصاص أخبار المتقدمين بأمور عظام وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقظوا لها مع أنهم غافلون عنها فلهذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد
المسألة السادسة اعلم أن قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ يقتضي أن الله تعالى أمر كل الناس(2/76)
بالعبادة فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصاً للعموم وههنا أبحاث البحث الأول أن لفظ الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم والخلاف فيه مع الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي هاشم لنا أنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( االحجر 15 ) ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله كُلُّهُمْ تأكيداً بل بياناً ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم وتمام تقريره في أصول الفقه البحث الثاني لما ثبت أن قوله تعالى يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر فهل يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك أم لا والأقرب أنه لا يتناولهم لأن قوله يا أيهاالناس خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وأيضاً فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً وما لا يكون إنساناً لا يدخل تحت قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فإن قيل فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعاً قلنا لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم البحث الثالث قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة الحق لا لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه فالآتي بفرد من أفراد العبادة آتٍ بالعبادة والآتي بالعبادة آتٍ بتمام ما اقتضاه قوله اعْبُدُواْ وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة فإن أردنا أن نجعله دالاً على العموم نقول الأمر بالعبادة لا بدّ وأن يكون لأجل كونها عبادة لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم وههنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع له وكل ذلك مناسب في العقول وإذا ثبت أن كون عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأموراً بها لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة البحث الرابع لقائل أن يقول قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ لا يتناول الكفار البتة لأن الكفار لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة أما أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان فلأن الأمر بمعرفة الله تعالى إما أن يتناوله حال كونه غير عارف بالله تعالى أو حال كونه عارفاً بالله تعالى أما إن تناوله حال كونه غير عارف بالله فيستحيل أن يكون عارفاً بأمر الله تعالى لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال فلو تناوله الأمر في هذه الحالة لكان قد تناوله الأمر في حال يستحيل منه أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر وذلك تكليف ما لا يطاق وإن تناوله الأمر بالمعرفة حال كونه عارفاً بالله فذالك محال لأنه أمر بتحصيل الحاصل وذلك غير ممكن فثبت أن الكافر يستحيل أن يكون مأموراً بتحصيل المعرفة وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأموراً بالعبادة لأنه إما أن يؤمر بالعبادة قبل(2/77)
المعرفة وهو محال لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة أو يؤمر بالعبادة بعد المعرفة إلا أن على هذا التقدير يكون الأمر بالعبادة موقوفاً على الأمر بالمعرفة فلما كان الأمر بالمعرفة ممتنعاً كان الأمر بالعبادة أيضاً ممتنعاً وأيضاً يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين لأنهم يعبدون الله فأمرهم بالعبادة يكون أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال والجواب من الناس من قال الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية فقال الأمر بالعبادة حاصل والعبادة لا تمكن إلا بالمعرفة والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجباً والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى فوجبت والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها فكان السعي واجباً فكذا ههنا يصح أن يكون الكافر مخاطباً بالعبادة وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولاً ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك بقي لهم الأمر بتحصيل المعرفة محال قلنا هذه المسألة مستقصاة في الأصول والذي نقول ههنا إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم يكون الله آمراً على العلم به فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين قوله لأنه يصير ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال قلنا لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة فصح تفسير قوله ( اعبدوا ) بالزيادة في العبادة البحث الخامس قال منكرو التكليف لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف لوجوه أحدها أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر فإن كان الأول فهو محال لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح لأن الاستواء يناقض الترجيح فالجمع بينهما محال والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع لأن المرجوح حال ما كان مساوياً للراجح كان ممتنع الوقوع وإلا فقد وقع الممكن لا عن مرجح وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفاً بإيجاد ما يجب وقوعه وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفاً بما يمتنع وقوعه وكلاهما تكليف ما لا يطاق وثانيها أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم فلا فائدة في ورود الأمر به وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم فكان الأمر بإيقاعه أمراً بإيقاع الممتنع وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله تعالى وهو محال ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي وحينئذٍ لا يكون في الطاعة فائدة وثالثها أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال لأنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ولأنا نعلم(2/78)
بالضرورة أن الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده وأما إلى العابد فمحال لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثاً والعبث غير جائز على الحكيم ورابعها أن العبد غير موجد لأفعاله لأنه غير عالم بتفاصيلها ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل وخامسها أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن فلو قدرنا إنساناً مشتغل القلب دائماً بالله تعالى وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقاً له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة فإن الفقهاء والقياسيين قالوا إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر والجواب عن الشبه الثلاثة الأول من وجهين الأول أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض الثاني أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره لأنه تعالى خالق مالك والمالك لا اعتراض عليه في فعله البحث السادس قالوا الأمر بالعبادة وإن كان عاماً لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 233 )
ومنهم من قال إنه مخصوص في حق العبيد لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة والأمر الدال على وجوب طاعة المولى أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة والخاص يقدم على العام والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه
المسألة السابعة قال القاضي الآية تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا والإنعام علينا واعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لا يستحق بفعله الثواب لأنه لما كان خلقه إيانا وإنعامه علينا سبباً لوجوب العبادة فحينئذٍ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئاً فوجب أن لا يستحق العبد على العبادة ثواباً على الله تعالى أما قوله رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه لما أمر بعبادة الرب أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم وهذا يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال وطعن قوم من الحشوية في هذه الطريقة وقالوا الاشتغال بهذا العلم بدعة ولنا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وههنا ثلاث مقامات المقام الأول في بيان فضل هذا العلم وهو من وجوه أحدها أن شرف العلم بشرف المعلوم فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف فلما كان أشرف المعلومات ذات الله تعالى وصفاته وجب أن يكون العلم المتعلق به أشرف العلوم(2/79)
وثانيها أن العلم إما أن يكون دينياً أو غير ديني ولا شك أن العلم الديني أشرف من غير الديني وأما العلم الديني فإما أن يكون هو علم الأصول أو ما عداه أما ما عداه فإنه تتوقف صحته على علم الأصول لأن المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك فرع على ثبوت نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) والفقيه إنما يبحث عن أحكام الله وذلك فرع على التوحيد والنبوة فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم وثالثها أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة وهما من أخس الأشياء فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء ورابعها أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه وقد يكون لقوة براهينه وعلم الأصول مشتمل على الكل وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظراً إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب وإن كان الطب أشرف منه نظراً إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة وعلم الحساب أشرف منهما نظراً إلى أن براهين علم الحساب أقوى أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات ولا شك أن ذلك أشرف الأمور وأما الحاجة إليه فشديدة لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا أما في الدين فشديدة لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة ومن جهلها استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيباً يقينياً وهذا هو النهاية في القوة فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم وخامسها أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم فوجب أن يكون أشرف العلوم وسادسها أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) و الرَّسُولُ بِمَا ( البقرة 285 ) وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) وقوله يُظْلَمُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ( البقرة 282 ) وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل وسابعها أن الآيات الواردة في ا لأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته على ما قال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل ونشير إلى معاقد الدلائل أما الذي يدل على وجود الصانع فالقرآن مملوء منه أولها ما ذكر ههنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم وخلق السماء وخلق(2/80)
الأرض وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض فالمقصود منه ذلك وأما الذي يدل على الصفات أما العلم فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ثم أردفه بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ( آل عمران 5 6 ) وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال واتقانها على علم الصانع وههنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالماً بالأشياء وقال أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( االملك 14 ) وهو عين تلك الدلالة وقال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وذلك تنبيه على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر فلولا كونه عالماً بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك وأما صفة القدرة فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادراً مختاراً لا موجباً بالذات وأما التنزيه فالذي يدل على أنه ليس بجسم ولا في مكان قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث وإذا كان أحداً وجب أن لا يكون جسماً وإذا لم يكن جسماً لم يكن في المكان وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا و ( الأنبياء 22 ) قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الأَسراء 42 ) وقوله وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله ههنا وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) وأما المعاد فقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) وأنت لو فتشت علم الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلاً مسلماً يقول ذلك ويرضى به وثانيها أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا ( البقرة 30 ) من يفسد فيها كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح والحكيم لا يفعل القبيح فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والمراد إني لما كنت عالماً بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم ولا شك أن هذا هو المناظرة وأما مناظرة الله تعالى مع إبليس فهي أيضاً ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات أحدها مع نفسه وهو قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك فقال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( الأنعام 82 )(2/81)
وثانيها حاله مع أبيه وهو قوله ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وثالثها حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل أما بالقول فقوله مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( الأنبياء 52 ) وأما بالفعل فقوله فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ( الأنبياء 58 ) ورابعها حاله مع ملك زمانه في قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ ( البقرة 258 ) إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليسي إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ وأما بحثه في المعاد فقال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن الله تعالى حكى في سوطه طه قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 49 50 ) وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وقال في سورة الشعراء رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وهذا هو الذي قاله إبراهيم رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 28 ) فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين وأما استدلال موسى على النبوة بالمعجزة ففي قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل فإن القرآن مملوء منه ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار فالأول الدهرية الذين كانوا يقولون وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل والثاني الذين ينكرون القادر المختار والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك وذلك يدل على وجود القادر والثالث الذين أثبتوا شريكاً مع الله تعالى وذلك الشريك إما أن يكون علوياً أو سفلياً أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم والله تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح وعبدة الأوثان قالوا بإلاهية الأوثان والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم الرابع الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان أحدهما الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) والثاني الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم اليهود والنصارى والقرآن مملوء من الرد عليهم ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً ( البقرة 26 ) وتارة بالتماس سائر(2/82)
المعجزات كقوله وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وتارة بأن هذا القرآن نزل نجماً نجماً وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 )
الخامس الذين نازعوا في الحشر والنشر والله تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعاً كثيرة من الدلائل السادس الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه فأجاب الله عنه بقوله إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) وتارة بأن الحق هو الجبر وأنه ينافي صحة التكليف وأجاب الله تعالى عنه بأنه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافراً أو جاهلاً المقام الثاني في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات ويدل عليه المعقول والمنقول أما المعقول فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي فأما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر وإما أن لا يجوز التقليد أصلاً وهو المطلوب فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار أما الآيات فأحدها قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) ولا شك أن المراد بقوله بالحكمة أي بالبرهان والحجة فكانت الدعوة بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأموراً بها وقوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة فكان الجدال فيه مأموراً به ثم إنا مأمورون باتباعه عليه السلام لقوله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) ولقوله لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال وثانيها قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الحج 3 8 لقمان 20 ) ذم من يجادل في الله بغير علم وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً وأيضاً حكى الله تعالى ذلك عن نوح في قوله قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) وثالثها أن الله تعالى أمر بالنظر فقال أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ ( النساء 82 ) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( الغاشية 17 ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الرعد 41 ) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يونس 10 ) أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ورابعها أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال ورابعها أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( الزمر 21 ) إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( آل عمران 13 ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاِوْلِى(2/83)
( طه 54 128 ) وأيضاً ذم المعرضين فقال وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ( يوسف 105 ) لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وخامسها أنه تعالى ذم التقليد فقال حكاية عن الكفار وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 23 ) وقال بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( لقمان 21 ) وقال بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( الشعراء 74 ) وقال إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ( الفرقان 42 ) وقال عن والد إبراهيم عليه السلام لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار وأما الأخبار ففيها كثرة ولنذكر منها وجوهاً أحدها ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال ( جاء من بني فزارة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إن امرأتي وضعت غلاماً أسود فقال له هل لك من إبل فقال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ذلك قال عسى أن يكون قد نزعه عرق قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ) واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس وثانيها عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول خلقه بأهون على من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الله الأَحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد ) فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء على القدرة على الإعادة وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية وثالثها روى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) فقالت عائشة يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله فقال عليه السلام ( لا ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به واعلم أن للخصم مقامات أحدها أن النظر لا يفيد العلم وثانيها أن النظر المفيد للعلم غير مقدور وثالثها أنه لا يجوز الإقدام عليه ورابعها أن الرسول ما أمر به وخامسها أنه بدعة
أما المقام الأول فاحتج الخصم عليه بأمور أحدها أنا إذا تفكرنا وحصل لنا عقيب فكرنا اعتقاد فعلمنا بكون ذلك الاعتقاد علماً إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً والأول باطل لأن الإنسان إذا تأمل في اعتقاده في كون ذلك الاعتقاد علماً وفي اعتقاده في أن الواحد نصف الاثنين وأن الشمس مضيئة والنار محرقة وجد الأول أضعف من الثاني وذلك يدل على أن تطرق الضعف إلى الأول والثاني باطل لأن الكلام في ذلك الفكر الثاني كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال(2/84)
وثانيها إنا رأينا عالماً من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلاً فرجعوا عنه وتركوه وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانياً كذلك وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر وثالثها أن المطلوب إن كان مشعوراً به استحال طلبه لأن تحصيل الحاصل محال وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلاً عنه و المغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه ورابعها أن العلم يكون النظر مفيداً للعلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً وجب اشتراك العقلاء فيه وليس كذلك وإن كان نظرياً لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده وذلك محال لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعاً في ذلك الفرد أيضاً فيلزم إثبات الشيء بنفسه وهو محال لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوماً قبل ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوماً قبل فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال وخامسها أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول النظر في الإلاهيات لا يفيد واحتج عليه بوجهين الأول أن حقيقة الإله غير متصورة وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون واجب الوجود منزهاً عن الحيز والجهة وكونه موصوفاً بالعلم والقدرة أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب فلم يكن العلم بهذا السلب علماً بحقيقته وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب فالعلم بهذا الانتساب ليس علماً بذاته بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور فإذا فقد التصور امتنع التصديق ولا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها أعني أنا نعلم أنه شيء ما يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور قلنا هذه الأمور المعلومة إما أن يقال إنها نفس الذات وهو محال أو أمور خارجة عن الذات فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضاً تصور بحسب صفات آخر فحينئذٍ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال الوجه الثاني أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا أنا ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أنا فمنهم من يقول هو هذا البنية ومنهم من يقول هو المزاج ومنهم من يقول بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية ومنهم من يقول شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا(2/85)
أما المقام الثاني وهو أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا فقد احتجوا عليه بوجوه أحدها أن تحصيل التصورات غير مقدور فالتصديقات البديهية غير مقدورة فجميع التصديقات غير مقدورة وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن طالب تحصيلها إن كان عارفاً بها استحال منه طلبها لأن تحصيل الحاصل محال فإن كان غافلاً عنها استحال كونه طالباً لها لأن الغافل عن الشيء لا يكون طالباً له فإن قيل لم لا يجوز أن يكون معلوماً من وجه ومجهولاً من وجه قلنا لأن الوجه الذي يصدق عليه أنه معلوم غير الوجه الذي يصدق عليه أنه غير معلوم وإلا فقد صدق النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال وحينئذٍ نقول الوجه المعلوم استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل والوجه الذي هو غير معلوم استحال طلبه لأن المغفول عنه لا يكون مطلوباً وإنما قلنا إن التصورات لما كانت غير كسبية استحال كون التصديقات البديهية كسبية وذلك لأن عند حضور طرفي الموضوع والمحمول في الذهن من القضية البديهية إما أن يلزم من مجرد حضورهما جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات أو لا يلزم فإن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل كانت مشكوكة وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين وممتنع الحصول عند عدم حضورهما وما يكون واجب الدوران نفياً وإثباتاً مع ما لا يكون مقدوراً نفياً وإثباتاً وجب أن يكون أيضاً كذلك فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية وإنما قلنا إن هذه التصديقات لما لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبياً لأن التصديق الذي لا يكون بديهياً لا بدّ وأن يكون نظرياً فلا يخلو إما أن يكون واجب اللزوم عند حضور تلك التصديقات البديهية أو لا يكون فإن لم يكن واجب اللزوم منها لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب فلم يكن ذلك استدلالاً يقينياً بل إما ظناً أو اعتقاداً تقليدياً وإن كان واجباً فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفياً وإثباتاً مع تلك القضايا الضرورية فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدوراً للعبد أصلاً وثانيها أن الإنسان إنما يكون قادراً على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقاً للمعلوم دون الجهل وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالماً بذلك الشيء لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل فوجب أن لا يكون العبد متمكناً من إيجاد العلم ولا من طلبه وثالثها أن الموجب للنظر إما ضرورة العقل أو النظر أو السمع والأول باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك بل كثير من العقلاء يستقبحونه ويقولون إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل فوجب الاحتراز منه والثاني أيضاً باطل لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظرياً فحينئذٍ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر لأنه لا فائدة فيه والثالث باطل لأنه قبل النظر لا يكون متمكناً من معرفة وجوب النظر وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضاً لعدم الفائدة وإذا بطلت الأقسم ثبت نفي الوجوب المقام الثالث وهو أن بتقدير كون النظر مفيداً للعلم ومقدوراً للمكلف لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به وبيانه من وجوه أحدها أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالباً إلى الجهل وما يكون كذلك يكون قبيحاً فوجب أن يكون الفكر(2/86)
قبيحاً والله تعالى لا يأمر بالقبيح وثانيها أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه وأن الباطل مع خصمه ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا وجدوا الكلمات متعارضة وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق وثالثها أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكاً في تلك المقدمة وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكاً فيه صارت النتيجة ظنية لأن المظنون لا يفيد اليقين فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث ورابعها أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب الدين بالكلام تزندق وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه المقام الرابع أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو إما أن يكون العلم بدلائلها علماً ضرورياً غنياً عن التعلم والاستفادة وإما أن لا يكون كذلك بل يحتاج في تحصيلها إلى التأمل والتدبر والاستفادة والأول باطل وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة فلو كان الدين مبنياً عليه لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ولما لم يشتهر بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين فإن قيل معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين قلنا هذا ضعيف لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة وذلك لأن الدليل إذا كان مبنياً على مقدمات عشرة فإن كان الرجل جاز ما بصحة تلك المقدمات كان عارفاً بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها لأن الزيادة عل تلك العشرة إن كان معتبراً في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط وإلا لم يكن معتبراً لم يكن العلم به علماً بزيادة شيء في الدليل بل يكون علماً منفصلاً فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضاً لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينياً لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنياً فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال مثاله إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافياً قال سبحان الله فمن الناس من قال إن قوله سبحان الله يدل على أنه عرف الله بدليله وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفاً بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بدّ له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم والطبيعة والعلة الموجبة فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقداً(2/87)
لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليداً لا يقيناً فثبت بهذا فساد ما قلتموه المقام الخامس أن نقول الاشتغال بعلم الكلام بدعة والدليل عليه القرآن والخبر والإجماع وقول السلف والحكم أما القرآن فقوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) ذم الجدل وقال أيضاً وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) قالوا فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله تعالى وأما الخبر فقوله عليه السلام ( تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ) وقوله عليه السلام ( عليكم بدين العجائز ) وقوله ( إذا ذكر القدر فأمسكوا ) وأما الإجماع فهو أن هذا علم لم تتكلم فيه الصحابة فيكون بدعة فيكون حراماً أما أن الصحابة ما تكلموا فيه فظاهر لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نصب نفسه للاستدلال في هذه الأشياء بل كانوا من أشد الناس إنكاراً على من خاض فيه وإذا ثبت هذا ثبت أنه بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق أما الأثر قال مالك بن أنس إياكم والبدع قيل وما البدع يا أبا عبد الله قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون وسئل سفيان بن عيينة عن الكلام فقال اتبع السنة ودع البدعة وقال الشافعي رضي الله عنه لأن يبتلي الله العبد بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وقال لو أوصى رجل بكتبه العلمية لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل تلك الكتب في الوصية وأما الحكم فهو أنه لو أوصى للعلماء لا يدخل المتكلم فيه والله أعلم فهذا مجموع كلام الطاعنين في النظر والاستدلال والجواب أما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة لأنهم مختارون في استخراج تلك الشبه فيبطل قولهم إنها ليست اختيارية وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعاويل على النظر قبيح فهي متناقضة لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه التي أوردوها قبيحاً وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن الرسول ما أمر بذلك فهو باطل لأنا بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاءوا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال وأما قوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ فهو محمول على الجدل بالباطل توفيقاً بينه وبين قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ وأما قوله وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ( الأنعام 68 ) فجوابه أن الخوض ليس هو النظر بل الخوض في الشيء هو اللجاح وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخالق ) فذاك إنما أمر به ليستفاد منه معرفة الخالق وهو المطلوب وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بدين العجائز ) فليس المراد إلا تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأمور على الله على ما قلنا وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا ذكر القدر فأمسكوا ) فضعيف لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي وأما الإجماع فنقول إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام كما أنهم لم يستعلموا ألفاظ الفقهاء ولا يلزم منه القدح في الفقه البتة وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله تعالى ورسوله بالدليل فبئس ما قلتم وأما تشديد السلف على الكلام فهو محمول على أهل البدعة وأما مسألة الوصية فهي معارضة بما أنه لو أوصى لمن كان عارفاً بذات اللهوصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله لا يدخل فيه الفقيه ولأن مبنى الوصايا(2/88)
على العرف فهذا إتمام هذه المسألة والله أعلم
المسألة الثانية أما حقيقة العبادة فذكرناها في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وأما الخلق فحكى الأزهري صاحب ( التهذيب ) عن ابن الأنباري أنه التقدير والتسوية واحتجوا فيه بالآية والشعر والاستشهاد أما الآية فقوله تعالى أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) أي المقدرين وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( العنكبوت 17 ) أي تقدرون كذباً وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ ( المائدة 110 ) أي تقدر وأما الشعر فقول زهير
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال آخر فولا يئط بأيدي الخالقين ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها أحاديث الخلق ومنه قوله تعالى إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 137 ) والخلاق المقدار من الخير وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ومنه ( أخلق الثوب ) لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من الله تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ طِينٍ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد الله البصري إطلاق اسم خالق على الله محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق الله محال وقال جمهور أهل السنّة والجماعة الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا الله ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك
المسألة الثالثة اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده ولما لم يكن العلم بوجوده ضرورياً بل استدلالياً لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده واعلم أننا بينا في ( الكتب العقلية ) أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان وإما الحدوث وإما مجموعهما وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها أحدها الاستدلال بإمكان الذوات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) وبقوله حكاية عن إبراهيم فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) وبقوله وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وثانيها الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وبقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء على ما سيأتي تقريره وثالثها الاستدلال بحدوث الأجسام وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ورابعها الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وذلك محصور في أمرين(2/89)
دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ( والكتب الإلهية ) في الأكثر مشتملة على هذين البابين والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين أما دلائل الأنفس فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً قبل ذلك وأنه صار الآن موجوداً وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بدّ له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بدّ من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول ههنا لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم ولما كان هذا السؤال محتملاً ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وهو المراد من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأَشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات فلا بدّ وأن يكون لأمر منفصل وذلك الأمر إن كان جسماً عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام وإن لم يكن جسماً فإما أن يكون موجباً أو مختاراً والأول باطل وإلا لم يكن اختصاص بعضالأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بدّ وأن يكون قادراً فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم ولا بجسماني وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات وإذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين الأول أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقاً بالعقول وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك الثاني أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الخالق علينا فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع واعلم أن للسلف طرقاً لطيفة في هذا الباب أحدها يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي الله عنه فقال جعفر هل ركبت البحر قال نعم قال هل رأيت أهواله قال بلى هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل فقال جعفر قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد قال بل رجوت السلامة قال ممن كنت ترجوها فسكت الرجل فقال جعفر إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت وهو(2/90)
الذي أنجاك من الغرق فأسلم الرجل على يده وثانيها جاء في ( كتاب ديانات العرب ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمران بن حصين ( كم لك من إله ) قال عشرة قال فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم قال الله قال عليه السلام ( مالك من إله إلا الله ) وثالثها كان أبو حنيفة رحمه الله سيفاً على الدهرية وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه فبينما هو يوماً في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم فقالوا له هات فقال ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها هل يجوز ذلك في العقل قالوا لا هذا شيء لا يقبله العقل فقال أبو حنيفة يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ فبكوا جميعاً وقالوا صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا ورابعها سألوا الشافعي رضي الله عنه ما الدليل على وجود الصانع فقال ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم قالوا نعم قال فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم والنحل فيخرج منها العسل والشاة فيخرج منها البعر ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر وخامسها سئل أبو حنيفة رضي الله عنه مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى وبالعكس فدل على الصانع وسادسها تمسك أحمد بن حنبل رضي الله عنه بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير فلا بدّ من الفاعل عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ وسابعها سأل هرون الرشيد مالكاً عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات وثامنها سئل أبو نواس عنه فقال فتأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
وأزهار كما الذهب السبيك
على قضب الزبر جد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
وتاسعها سئل أعرابي عن الدليل فقال البعرة تدل على البعير والروث على الحمير وآثار الأقدام على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير(2/91)
وعاشرها قيل لطبيب بم عرفت ربك قال باهليلج مجفف أطلق ولعاب ملين أمسكا وقال آخر عرفته بنحلة بأحد طرفيها تعسل والآخر تلسعا والعسل مقلوب اللسع وحادي عشرها حكم البديهية في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزخرف 87 ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( غافر 87 )
المسألة الرابعة قال القاضي الفائدة في قوله الَّذِى خَلَقَكُمْ أن العبادة لا تستحق إلا بذلك فلما ألزم عباده بالعبادة بين ماله ولأجله تلزم العبادة فإن قيل فما الفائدة في قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم قلنا الجواب من وجهين الأول إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة الثاني أن من قبلهم كالأصول لهم وخلق الأصول يجري مجرى الأنعام على الفروع فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم كأنه تعالى يقول لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقاً لأصولك وآبائك
المسألة الخامسة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بجثان البحث الأول أن كلمة لعل للترجي والإشفاق تقول لعل زيداً يكرمني وقال تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) ألا ترى إلى قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( الشورى 18 ) والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وذلك على الله تعالى محال فلا بدّ فيه من التأويل وهو من وجوه أحدها أن معنى ( لعل ) راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى فقوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره وثانيها أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا لعل وعسى ونحوهما من الكلمات أو للظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب فعلى هذاالطريق ورد لفظ لعل في كلام الله تعالى وثالثها ما قيل أن لعل بمعنى كي قال صاحب ( الكشاف ) ولعل لا يكون بمعنى كي ولكن كلمة لعل للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا السبب قيل لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي ورابعها أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء خامسها قال القفال لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللاً بعد نهل واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد فأصل لعل عل لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا أي لعلك فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه البحث الثاني أن لقائل أن يقول إذا كانت العبادة تقوى فقوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جار مجرى قوله اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون والجواب من وجهين الأول(2/92)
لا نسلم أن العبادة نفس التقوى بل العبادة فعل يحصل به التقوى لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار والعبادة فعل المأمور به ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز فكأنه تعالى قال اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه الثاني أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة
المسألة السادسة قرأ أبو عمرو خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي والذين من قبلكم قال صاحب ( الكشاف ) الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً كما أقحم جرير في قوله يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
أما قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الذي ) وهو موصول مع صلته إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم وإما أن يكون رفعاً على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح
المسألة الثانية ( الذي ) كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق فأبوه منطلق قضية معلومة فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي وهو تحقيق قولهم إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل إذا ثبت هذا فقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 الزممر 38 )
المسألة الثالثة أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق فبدأ أولاً بقوله خَلَقَكُمْ وثانياً بالآباء والأمهات وهو قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وثالثاً بكون الأرض فراشاً ورابعاً بكون السماء بناء وخامساً بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض وهو قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ولهذا الترتيب أسباب الأول أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة وكان أولى بالذكر فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء الثاني هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع(2/93)
الثالث أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى فلما كانت وجوه الدلائل له ههنا أتم كان أولى بالتقديم واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع
المسألة الرابعة اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشاً ونظيره قوله أَم مَّنْ جَعَلَ الاْرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً ( النحل 61 ) وقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مِهَاداً ( الزخرف 10 ) واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور الشرط الأول كونها ساكنة وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالإستقامة أو بالاستدارة فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشاً لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية وذلك الإنسان هاوٍ والأرض أثقل من الإنسان والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأَبطأ لا يلحق الأسرع فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشاً أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها لأن حركة الأرض مثلاً إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه أحدها أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام وثانيها الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل وذلك السطح موضوع على الماء والهواء ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء وإن جمعت رسبت وهذا باطل الوجهين الأول أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض والثاني لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطاً حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدباً وثالثها الذين قالوا سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط وهذا باطل لوجهين الأول أن الأصغر أسرع انجذاباً من الأكبر فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك الثاني الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود ورابعها قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب وهذا أيضاً باطل من وجوه خمسة الأول الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا الثاني ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها الثالث ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق الرابع يجب أن يكون الثقيل كلما كان(2/94)
أعظم أن تكون حركته أبطأ لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر أبطأ من اندفاع الأصغر الخامس يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء لأنه عند الابتداء أبعد من الفلك وخامسها أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه وهذا أيضاً ضعيف لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بدّ وأن يكون جائزاً فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار وسادسها قال أبو هاشم النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف والسؤال عليه أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى وعند هذا نقول انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بدّ من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ولهذا قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( فاطر 41 ) الشرط الثاني في كون الأرض فراشاً لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن وأيضاً فلو كانت الأرض من الذهب مثلاً لتعذرت الزراعة عليها ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد وأن لا تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرجل الشرط الثالث أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس فكان يبرد جداً فجعل الله كونه أغبر ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات الشرط الرابع أن تكون بارزة من الماء لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة وهذا بعيد جداً لأن الكرة إذا عظمت جداً كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه والذي يزيده تقريراً أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها فهذا أولى والله أعلم
المسألة الخامسة في سائر منافع الأرض وصفاتها فالمنفعة الأولى الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى الثانية أن يتخمر الرطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات الثالثة اختلاف بقاع الأرض فمنها أرض رخوة وصلبة ورملة وسبخة وحرة(2/95)
وهي قوله تعالى وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ ( الرعد 4 ) وقال وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ( الأعراف 58 ) الرابعة اختلاف ألوانها فأحمر وأبيض وأسود ورمادي اللون وأغبر على ما قال تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ الخامسة انصداعها بالنبات قال تعالى وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( الطارق 12 ) السادسة كونها خازنة للماء المنزل من السماء وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون 18 ) وقوله قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) السابعة العيون والأنهار العظام التي فيها وإليه الإشارة بقوله ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً الثامنة ما فيها من المعادن والفلزات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ ( الحجر 19 ) ثم بين بعد ذلك تمام البيان فقال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) التاسعة الخبء الذي تخرجهالأرض من الحب والنوى قال تعالى إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( الأنعام 95 ) وقال يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( النحل 25 ) ثم إن الأر لها طبع الكرم لأنك تدفع إليها حبة واحدة وهي تردها عليك سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) العاشرة حياتها بعد موتها قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ( السجدة 27 ) وقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( ي س 33 ) الحادية عشرة ما عليها من الدواب المختلفة الألوان والصور والخلق وإليه الإشارة بقوله خَلَقَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( لقمان 10 ) والثانية عشر ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه وإليه الإشارة بقوله وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ق 7 ) فاختلاف ألوانها دلالة واختلاف طعومها دلالة واختلاف روائحها دلالة فمنها قوت البشر ومنها قوت البهائم كما قال كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) أما مطعوم البشر فمنها الطعام ومنها الأدام ومنها الدواء ومنها الفاكهة ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة قال تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 ) وأيضاً فمنها كسوة البشر لأن الكسوة إما نباتية وهي القطن والكتان وإما حيوانية وهي الشعر والصوف والإبريسم والجلود وهي من الحيوانات التي بثها الله تعالى في الأرض فالمطعوم من الأرض والملبوس من الأرض ثم قال وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى(2/96)
ثم إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ساترة لقبائحك بعد مماتك فقال أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( المرسلات 25 ) ثم إنه سبحانه وتعالى جمع هذه المنافع العظيمة للسماء والأرض فقال وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ ( الجاثية 13 ) الثالثة عشرة ما فيها من الأحجار المختلفة ففي صغارها ما يصلح للزينة فتجعل فصوصها للخواتم وفي كبارها ما يتخذ للأبنية فانظر إلى الحجر الذي تخرج النار منه مع كثرته وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ثم انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الشريف الرابعة عشرة ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ثم تأمل فإن البشر استخرجوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمكة من قعر البحر واستنزلوا الطير من أوج الهواء ثم عجزوا عن إيجاد الذهب والفضة والسبب فيه أنه لا فائدة في وجودهما إلا الثمينة وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة فالقادر على إيجادهما يبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً إظهار لهذه الحكمة وإبقاء لهذه النعمة ولذلك فإن ما لا مضرة على الخلق فيه مكنهم منه فصاروا متمكنين من اتخاذ الشبه من النحاس والزجاج من الرمل وإذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب اضطر في افتقار هذه التدابير إلى صانع حكيم مقتدر عليم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً الخامسة عشرة كثرة ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار التي تصلح للبناء والسقف ثم الحطب وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ قد نبه الله تعالى على دلائل الأرض ومنافعها بألفاظ لا يبلغها البلغاء ويعجز عنها الفصحاء فقال وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( الرعد 3 ) وأما الأنهار فمنها العظيمة كالنيل وسيحون وجيحون والفرات ومنها الصغار وهي كثيرة وكلها تحمل مياهاً عذبة للسقي والزراعة وسائر الفوائد
المسألة السادسة في أن السماء أفضل أم الأرض قال بعضهم السماء أفضل لوجوه أحدها أن السماء متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد وثانيها لما أتى آدم عليه السلام في الجنة بتلك المعصية قيل له اهبط من الجنة وقال الله تعالى لا يسكن في جواري من عصاني وثالثها قوله تعالى وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( المؤمنون 32 ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) ولم يذكر في الأرض مثل ذلك ورابعها أن في أكثر الأمر ورد ذكر السماء مقدماً على الأرض في الذكر وقال آخرون بل الأرض أفضل لوجوه ( ا ) أنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً ( آل عمران 96 ) ( ب ) فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ ( القصص 30 ) ( ج ) إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) ( د ) وصف أرض الشام بالبركة فقال مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( الأعراف 137 ) وخامسها وصف جملة الأرض بالبركة فقال قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ( فصلت 9 ) إلى قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ( فصلت 10 ) فإن قيل وأي بركة في الفلوات الخالية والمفاوز المهلكة قلنا إنها مساكن للوحوش ومرعاها ثم إنها مساكن للناس إذا احتاجوا إليها فلهذه البركات قال تعالى وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ( الذاريات 20 ) وهذه الآيات وإن كانت حاصلة لغير الموقنين لكن لما لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للموقنين تشريفاً لهم(2/97)
كما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وسادسها أنه سبحانه وتعالى خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه 55 ) ولم يخلق من السموات شيئاً لأنه قال وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( الأنبياء 32 ) وسابعها أن الله تعالى أكرم نبيه بها فجعل الأرض كلها مساجد له وجعل ترابها طهوراً أما قوله السَّمَاء بِنَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسراراً عظيمة وحكماً بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم
المسألة الثانية في فضائل السماء وهي من وجوه الأول أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء بالمصابيح وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ( الملك 5 ) وبالقمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وبالشمس وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوج 16 ) وبالعرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 29 ) وبالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) وباللوح فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) وبالقلم ن وَالْقَلَمِ ( القلم 1 ) فهذه سبعة ثلاثة منها ظاهرة وأربعة خفية ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار الثاني أنه تعالى سمى السموات بأسماء تدل على عظم شأنها سماء وسقفاً محفوظاً وسبعاً طباقاً وسبعاً شداداً ثم ذكر عاقبة أمرها فقال وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( المرسلات 9 ) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ( التكوير 11 ) يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( الأنبياء 104 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( المعارج 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً ( الطور 9 ) فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وذكر مبدأها في آيتين فقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ ( فصلت 11 ) وقال أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ( الأنبياء 30 ) فهذا الاستقصاء الشديد في كيفية حدوثهما وفنائهما يدل على أنه سبحانه خلقهما لحكمة بالغة على ما قال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) والثالث أنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء فالأيدي ترفع إليها والوجوه تتوجه نحوها وهي منزل الأنوار ومحل الصفاء والأضواء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد الرابع قال بعضهم السماوات والأرضون على صفتين فالسماوات مؤثرة غير متأثرة والأرضون متأثرة غير مؤثرة والمؤثر أشرف من القابل فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر وأيضاً ففي أكثر الأمر ذكر السموات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد فإنه لا بدّ من السموات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية الخامس تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة فانظر كيف جعل الله تعالى أديم(2/98)
السماء ملوناً بهذا اللون الأزرق لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ولهذا قال أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا لَهَا مِن فُرُوجٍ يعني ما فيها من فصول ولو كانت سقفاً غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة
المسألة الثالثة في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها وهي الشمس والقمر والنجوم أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله فكيف كان الناس يسعون في معايشهم ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) وأيضاً فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً والثالث أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ويهلك ما عليها من نبات على ما قال أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( لفرقان 45 ) فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سبباً لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتنحل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للبناء والعمارات وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلاً قليلاً إلى الشتاء فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظاً من شعاع الشمس وأيضاً كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير فكان لا يصل النور إلى الفقير لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى(2/99)
وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية وكانت الكواكب تتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الأفراط وكان يعرض قريباً مما لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية هذا أما القمر وهو المسمى بآية الليل فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة وجعل طلوعه في وقت مصلحة وغروبه في وقت آخر مصلحة أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو ولولا الظلام لأدركه العدو وهو المراد من قول المتنبي فوكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر ومن الحكايات أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال إن الله صورك ونورك وعلى البروج دورك فإذا شاء نورك وإذا شاء كورك فلا أعلم مزيداً أسأله لك ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول فماذا أقول وقولي فيك ذو قصر
وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا
أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول القمر يقرب الأجل ويفضح السارق ويدرك الهارب ويهتك العاشق ويبلي الكتان ويهرم الشبان وينسى ذكر الأحباب ويقرب الدين ويدني الحين وكان فيهم أيضاً من يفضل القمر على الشمس من وجوه أحدها أن القمر مذكر والشمس مؤنث لكن المتنبي طعن فيه بقوله ففما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
وثانيها أنهم قالوا القمران فجعلوا الشمس تابعة للقمر ومنهم من فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن ) والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ( الشمس 21 ) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله ( الشمس 21 ) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( التغابن 2 ) وقال لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الحشر 20 ) وقال خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وقال إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( الشرح 6 ) وقال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ الآية أما النجوم ففيها منافع المنفعة الأولى كونها رجوماً للشياطين والثانية معرفة القبلة بها والثالثة أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الأنعام 97 ) ثم النجوم على ثلاثة أقسام غاربة لا تطلع كالكواكب الجنوبية وطالعة لا تغرب كالشمالية ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى وأيضاً منها ثوابت ومنها سيارات ومنها شرقية ومنها غربية والكلام فيها طويل أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد(2/100)
فدع عنك بحراً ضل فيه السوابح
قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن 26 27 ) وقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ( هود 31 ) وقال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( الكهف 51 ) فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك قال قائلهم فوأعرف ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد ففوالله ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
المسألة الرابعة في شرح كون السماء بناء قال الجاحظ إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعة وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحة فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال أَنَاْ صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً ( عبس 25 26 ) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن فكيف الحال في الجنة فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن والأرض تطعمك كذا وكذا لوناً من الأطعمة ثم قال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه 55 ) معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة فضلاً عن أن تكون لك كبيرة بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى وههنا سؤالات(2/101)
السؤال الأول هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة وفي الأرض طبيعة قابلة فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى والجواب لا شك أن على كلا القولين لا بدّ من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة والجسم قابل لهذه الصفات وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث أو الإمكان وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادراً على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بدّ فيه من دليل السؤال الثاني لما كان قادراً على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة والجواب يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوهاً أحدها أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلباً للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالاً بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعاً لضرر المرض فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعاً لضرر العقاب كان أولى وثانيها أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذٍ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق وفكر غامض فيستوجب الثواب ولهذا قيل لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وثالثها أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة السؤال الثالث قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر والجواب من وجوه أحدها أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء وثانيها أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء وثالثها أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض السؤال الرابع ما معنى من في قوله مِنَ الثَّمَراتِ الجواب فيه وجهان أحدهما التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقاً يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم والثاني أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم(2/102)
إنفاقاً فإن قيل فيم انتصب رزقاً قلنا إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له وإن كا نت مبينة كان مفعولاً لأخرج السؤال الخامس الثمر المخرج بماء السماء كثير فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار الجواب تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا وإشعاراً بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم
أما قوله تعالى فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه سؤالات السؤال الأول بم تعلق قوله فَلاَ تَجْعَلُواْ الجواب فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يتعلق بالأمر أي أعبدوا فلا تجعلوا لله أنداداً فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد وثانيها بلعل والمعنى خلقكم لكي تنقوا وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له نداً فإنه من أعظم موجبات العقاب وثالثها بقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء السؤال الثاني ما الند الجواب أنه المثل المنازع وناددت الرجل نافرته من ند ندوداً إذا نفر كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه أي ينافره ويعانده فإن قيل إنهم لم يقولوا إن الأصنام تنازع الله قلنا لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط وقرأ محمد بن السميفع فلا تجعلوا لله نداً السؤال الثالث ما معنى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ الجواب معناه إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله تعالى فلا تقولوا ذلك فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة وهذا مما لم يوجد إلى الآن لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حليم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشر وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة الفريق الأول عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم قالوا فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى والفريق الثاني النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام والفريق الثالث عبدة الأوثان واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام وهو إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( نوح 23 ) فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه السلام وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوهاً(2/103)
أحدها ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه وثانيها ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة والفريق الثاني أنها هي الوسائط بين الله تعالى وبين البشر فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية ومتقربين إلى أشباحها الغائبة ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب وثالثها أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ولما طالت مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر ورابعها أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنماً على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وخامسها لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها وسادسها لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حت ى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل(2/104)
المسألة الثانية فإن قال قائل لما رجع حاصل مذهب عبدة الأوثان إلى هذه الوجوه التي ذكرتموها فمن أين يلزم من إثبات خالق العالم أن لا يجوز عبادة الأوثان الجواب قلنا إنه تعالى إنما نبه على كون الأرض والسماء مخلوقتين بما بينا أن الأرض والسماء يشاركون سائر الأجسام في الجسمية فلا بدّ وأن يكون اختصاص كل واحد منهما بما اختص به من الأشكال والصفات والأخبار بتخصيص مخصص وبينا أن ذلك المخصص لو كان جسماً لافتقر هو أيضاً إلى مخصص آخر فوجب أن لا يكون جسماً إذا ثبت هذا فنقول أما قول من ذهب إلى عبادة الأوثان بناءً على اعتقاد الشبه فلما دللنا بهذه الدلالة على نفي الجسمية فقد بطل قوله وأما القو ل الثاني وهو أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا العالم فلما أقمنا الدلالة على أن كل جسم يفتقر في اتصافه بكل ما اتصف به إلى الفاعل المختار بطل كونها آلهة وثبت أنها عبيد لا أرباب وأما القول الثالث وهو قول أصحاب الطلسمات فقد بطل أيضاً لأن تأثير الطلسمات إنما يكون بواسطة قوى الكواكب فلما دللنا على حدوث الكواكب ثبت قولنا وبطل قولهم وأما القول الرابع والخامس فليس في العقل ما يوجه أو يحيله لكن الشرع لما منع منه وجب الامتناع عنه وأما القول السادس فهو أيضاً بناءً على التشبيه فثبت بما قدمنا أن إقامة الدلالة على افتقار العالم إلى الصانع المختار المنزه عن الجسمية يبطل القول بعبادة الأوثان على كل التأويلات والله أعلم
المسألة الثالثة اعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتخذوها معبوداً لهم على حدة وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي وهيكل العقل الصريح وهيكل السياسة المطلقة وهيكل النفس والصورة مدورات كلها وكان هيكل زحل مسدساً وهيكل المشتري مثلثاً وهيكل المريخ مستطيلاً وهيكل الشمس مربعاً وكان هيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل وهيكل القمر مثمناً فزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نستنصر بها فننصر ونستستقي بها فنسقى فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ومنها ( نوبهار بلخ ) الذي بناه منهو شهر الملك على اسم القمر ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب و ( سواع ) لبني هذيل و ( يغوث ) لبني مذحج و ( يعوق ) لهمدان و ( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع و ( اللات ) بالطائف لثقيف و ( مناة ) بيثرب للخزرج و ( العزى ) لكنانة بنواحي مكة و ( أساف ) ونائلة ) على الصفا والمروة وكان قصي جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل وهو الذي يقول فأربا واحداً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل البصير(2/105)
الكلام في النبوة
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام الدلائل القاهرة على إثبات الصانع وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدل على النبوة وذلك يدل على فساد قول التعليمية الذين جعلوا معرفة الله مستفادة من معرفة الرسول وقول الحشوية الذين يقولون لا تحصل معرفة الله إلا من القرآن والأخبار ولما كانت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين الأول أن يقال إن هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون مساوياً لسائر كلام الفصحاء أو زائداً على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة أو زائداً عليه بقدر ينقض والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث وإنما قلنا إنهما باطلان لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين أو منفردين فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحكام يزيلون الشبهة وذلك نهاية في الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية وكانوا في محبة أبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال وارتكبوا ضروب المهالك والمحن وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل وكل ذلك يوجب الاتيان بما يقدح في قوله والمعارضة أقوى القوادح فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته ومع ذلك فإنه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزاً أحدها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم وثانيها أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم(2/106)
الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحاً كما ترى وثالثها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك وليس كذلك القرآن لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته ورابعها أن كل من قال شعراً فصيحاً في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول وفي القرآن التكرار الكثير ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً وخامساً أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة وسادسها أنهم قالوا إن شعر امرىء القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل وشعر النابغة عند الخوف وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر وشعر زهير عند الرغبة والرجاء وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن أما القرآن فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على غاية الفصاحة ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) وقال تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) وقال في الترهيب أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ الاْيَاتِ ( الإسراء 68 ) وقال مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ فَإِذَا هِى َ تَمُورُ أَمْ أَمْ أَمِنتُمْ ( الملك 16 17 ) الآية وقال وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( إبراهيم 15 ) إلى قوله فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ إلى قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ( العنكبوت 40 ) وقال في الوعظ ما لا مزيد عليه أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ وقال في الإلهيات اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى مَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ( الرعد 8 ) إلى آخره وسابعها أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن وكذا علم أصول الفقه وعلم النحو واللغة وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة واستعمال مكارم الأخلاق ومن تأمل ( كتابنا في دلائل الإعجاز ) علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى الطريق الثاني أن نقول القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب
المسألة الثانية إنما قال وسابعها أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن وكذا علم أصول الفقه وعلم النحو واللغة وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة واستعمال مكارم الأخلاق ومن تأمل ( كتابنا في دلائل الإعجاز ) علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى الطريق الثاني أن نقول القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب
المسألة الثانية إنما قال نَزَّلْنَا على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله ومخالفاً لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما(2/107)
نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأَنزله على خلاف هذه العادة جملة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَة ً واحِدَة ً ( الفرقان 32 ) والله سبحانه وتعالى ذكر ههنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون فإن كان الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرىء ( على عبادنا ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته
المسألة الثالثة السورة هي طائفة من القرآن وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء وهي أيضاً في أنفسها طوال وأوساط وقصار أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه فإن قيل فما فائدة تقطيع القرآن سوراً قلنا من وجوه أحدها ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولاً وثانيها أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن وثالثها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير ورابعها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل
المسألة الرابعة قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يدل على القرآن أن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن
المسألة الخامسة اعلم أن التحدي بالقرآن جاء على وجوه أحدها قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى ( القصص 49 ) وثانيها قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثالثها قوهل فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود 13 ) ورابعها قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ونظير هذا كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله ائتني بنصفه ائتني بربعه ائتني بمسألة منه فإن هذا هو النهاية في التحدي وإزالة العذر فإن قيل قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وسورة قل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر كان ذلك مكابرة والإقدام على أمثال هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين قلنا فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعحاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن الأمر كذلك كان امتناعهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً فعلى هذين(2/108)
التقديرين يحصل المعجز
المسألة السادسة الضمير في قوله مّن مّثْلِهِ إلى ماذا يعود وفيه وجهان أحدهما أنه عائد إلى ( ما ) في قوله مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم والثاني أنه عائد إلى ( عبدنا ) أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء والأول مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين ويدل على الترجيح له وجوه أحدها أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في يونس فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وثانيها أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا فوجب صرف الضمير إليه ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئاً مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقال وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله وثالثها أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين أما لو كان عائداً إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد لأن الجماعة لا تماثل الواحد والقارىء لا يكون مثل الأمي ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ورابعها أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفناه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد عليه السلام كان الأول أولى وخامسها أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه السلام لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى
المسألة السابعة في المراد من الشهداء وجهان الأول المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر فيكون في الكلام محاجة من وجهين أحدهما في إبطال كونها آلهة والثاني في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله الثاني المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه السلام والمعنى وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر فإن قيل هل يمكن(2/109)
حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما فأولى قلنا أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة فيمكن جعله مجازاً عن المعين والناصر وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول الأولى حمله على الأكابر وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم والإضمار خلاف الأصل أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام لأنه يصير كأنه قال وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز
المسألة الثامنة أما ( دون ) فهو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون وهو الحقير الدني ودوَّن الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلاً ودونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حداً إلى حد قال الله تعالى لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( آل عمران 28 ) أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فإن قيل فما متعلق من دون الله قلنا فيه وجهان أحدهما أن متعلقه ( شهداءكم ) وهذا فيه احتمالان الأول المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم والثاني ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة وثانيهما أن متعلقه هو الدعاء والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينه تصحح بها الدعاوى عند الحكام وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم الله يشهد إنا لصادقون
المسألة التاسعة قال القاضي هذا التحدي يبطل القول بالجبر من وجوه أحدها أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدي أصلاً وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز وثانيها أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزاً وما لا يكون فلا يصح معنى التحدي على قولهم(2/110)
وثالثها أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول ورابعها أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة فإذا كان قولهم إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز وخامسها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقاً له فيما ادعاه ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلاً في الإعجاز وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله والجواب أن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصداً أو أن يقع ذلك منه اتفاقاً والثاني باطل لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه فثبت الأول وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال
أما قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة أحدها أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي غاية الحرص على إبطال أمره لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به فحيث ما أتوا به ظهر المعجز وثانيها وهو أنه عليه السلام وإن كان متهماً عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته بل كان يكون وجلاً خائفاً مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره حاشاه من ذلك ( صلى الله عليه وسلم ) فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق وثالثها أنه عليه السلام لو لم يكن قاطعاً بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله لأنه إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته كان يجوز خلافه وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام ولا يجزم به فلما جزم دل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً في أمره ورابعها أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية وذلك يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال وههنا سؤالات السؤال الأول انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون ( إن ) الذي للشك الجواب فيه وجهان أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم فإنهم كانوا بعد غير جازمين(2/111)
بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام الثاني أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكماً به السؤال الثاني لم قال فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ولم يقل فإن لم تأتوا به الجواب لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله السؤال الثالث وَلَن تَفْعَلُواْ ما محلها الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية السؤال الرابع ما حقيقة لن في باب النفي الجواب لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في ( لن ) توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك لا أقيم غداً عندك فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غداً ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أصله لا أن وهو قول الخليل وثانيها لا أبدلت ألفها نوناً وهو قول الفراء وثالثها حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل السؤال الخامس ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله الجواب إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار فاتقاء النار يوجب ترك العناد فأقيم المؤثر مقام الأثر وجعل قوله فَاتَّقُواْ النَّارَ قائماً مقام قوله فاتركوا العناد وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد لإنابة اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار السؤال السادس ما الوقود الجواب هو ما يوقد به النار وأما المصدر فمضوم وقد جاء فيه الفتح قال سيبويه وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقوداً عالياً ثم قال والوقود أكثر والوقود الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده السؤال السابع صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة الجواب لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( التحريم 6 ) السؤال الثامن فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة الجواب تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولاً السؤال التاسع ما معنى قوله وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ الجواب أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة وذلك يدل على قوتها من وجهين الأول أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولاً بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق الثاني أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر
السؤال العاشر لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً الجواب لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناماً وجعلوها للهأنداداً وعبدوها من دونه قال تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وهذه الآية مفسرة لها فقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ(2/112)
في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكاً بهم وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً وإغراباً في تحسرهم ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم وقيل هي حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل بل فيه ما يدل على فساده وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا أما قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين وليس فيه ما يدل على أن هناك نيراناً أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة
الكلام في المعاد
وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَة ٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة تكلم بعدهما في المعاد وبين عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن مسألة الحشر والنشر من المسائل المعتبرة في صحة الدين والبحث عن هذه المسألة إما أن يقع عن إمكانها أو عن وقوعها أما الإمكان فيجوز إثباته تارة بالعقل وبالنقل أخرى وأما الوقوع فلا سبيل إليه إلا بالنقل وإن الله ذكر هاتين المسألتين في كتابه وبين الحق فيهما من وجوه الوجه الأول أن كثيراً ما حكى عن المنكرين إنكار الحشر والنشر ثم إنه تعالى حكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل فيه وإنما جاز ذلك لأن كل ما لا يتوقف صحة نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عليه أمكن إثباته بالدليل النقلي وهذه المسألة كذلك فجاز إثباتها بالنقل مثاله ما حكم ههنا بالنار للكفار والجنة للأَبرار وما أقام عليه دليلاً بل اكتفى بالدعوى وأما في إثبات الصانع وإثبات النبوة فلم يكتف فيه بالدعوى بل ذكر فيه الدليل وسبب الفرق ما ذكرناه وقال في سورة النحل وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى عَلَيْهِ حَقّا(2/113)
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( النحل 38 ) وقال في سورة التغابن زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ( التغابن 7 ) الوجه الثاني أنه تعالى أثبت إمكان الحشر والنشر بناءً على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة فإنه تعالى ذكر فيها حكاية عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون فأجابهم الله تعالى بقوله قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( الواققعة 49 ) ثم إنه تعالى احتج على إمكانه بأمور أربعة أولها قوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 58 ) وجه الاستدلال بذلك أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع بحصول الانحلال عنها كلها ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البقية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً أولاً في أطراف العالم ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان ثم إنها كانت متفرقة في أطراف بدن ذلك الحيوان فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى فهذا تقرير هذه الحجة وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه منها في سورة الحج السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ إلى قوله وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً ثم قال ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( الحج 6 7 ) وقال في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ( المؤمنون 15 16 ) وقال في سورة لا أقسم أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مّن مَّنِى ّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً فَخَلَقَ فَسَوَّى ( القيامة 37 38 ) وقال في سورة الطارق فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ إلى قوله إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( الطارق 5 8 ) وثانيها قوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ إلى قوله بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( الواقعة 67 ) وجه الاستدلال به أن الحب وأقسامه من مطول مشقوق وغير مشقوق كالأرز والشعير ومدور ومثلث ومربع وغير ذلك على اختلاف أشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة ففيهما جميعاً أولى ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظاً ثم إذا ازدادت الرطوبة تنفلق الحبة فلقتين فيخرج منها ورقتان وأما المطول فيظهر في رأسه ثقب وتظهر الورقة الطويلة كما في الزرع وأما النوى فما فيه من الصلابة العظيمة التي بسببها يعجز عن فلقه أكثر الناس إذا وقع في الأرض الندية ينفلق بإذن الله ونواة التمر تنفلق من نقرة على ظهرها ويصير مجموع النواة من نصفين يخرج من أحد النصفين الجزء الصاعد ومن الثاني الجزء الهابط أما الصاعد فيصعد وأما الهابط فيغوص في أعماق الأرض والحاصل أنه يخرج من النواة الصغيرة شجرتان إحداهما خفيف صاعد والأخرى ثقيل هابط مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والهواء والتربة أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء ونظيره قوله تعالى في الحج وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) وثالثها قوله تعالى أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع فلا بدّ من قادر(2/114)
قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول وثانيها أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها وثالثها تسييرها بالرياح ورابعها إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز وكل ذلك يدل على جواز الحشر أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء والثاني لما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها والثالث تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز ههنا والرابع أنه تعالى أنشأ السحاب لحاجة الناس إليه فههنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في موضع آخر من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى إلى قوله قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ ( الأعراف 56 ) ثم ذكر دليل الحشر فقال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ إلى قوله كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأعراف 57 ) ورابعها قوله أَفَرَءيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ وجه الاستدلال أن النار صاعدة والشجرة هابطة وأيضاً النار لطيفة والشجرة كثيفة وأيضاً النار نورانية والشجرة ظلمانية والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها والله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة ي س فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( ي س 58 )
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في النمل أمر الهواء بقوله أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ إلى قوله مِن اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( النمل 64 ) وذكر الأرض في الحج في قوله وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً ( الحج 5 ) فكأنه سبحانه وتعالى بين أن العناصر الأربعة على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر النوع الثاني من الدلائل الدالة على إمكان الحشر هو أنه تعالى يقول لما كنت قادراً على الإيجاد أولاً فلأن أكون قادراً على الإعادة أولى وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر وأنه تعالى ذكرها في مواضع من كتابه منها في البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( البقرة 28 ) ومنها قوله في سبحان الذي وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً ( الإسراء 49 50 ) إلى قوله قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ومنها في العنكبوت أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( العنكبوت 19 ) ومنها قوله في الروم وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( الروم 27 ) ومنها في ي س قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) النوع الثالث الاستدلال باقتداره على السموات على اقتداره على الحشر وذلك في آيات منها في سورة سبحان أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ( الأَسراء 99 ) وقال في ي س أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( ي س 81 ) وقال في الأحقاف أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( الأحقاف 33 ) ومنها في سورة ق أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً إلى قوله(2/115)
رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ ( ق 11 ) ثم قال أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ق 15 ) النوع الرابع الاستدلال على وقوع الحشر بأنه لا بدّ من إثابة المحسن وتعذيب العاصي وتمييز أحدهما من الآخر بآيات منها في يونس إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ( يونس 4 ) ومنها في طاه إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) ومنها في ص وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 27 28 ) النوع الخامس الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر فمنها خلقه آدم عليه الصلاة والسلام ابتداء ومنها قصة البقرة وهي قوله فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) ومنها قصة إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) ومنها قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( البقرة 259 ) ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام فإنه تعالى استدل على إمكانهما بعين ما استدل به على جواز الحشر حيث قال وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ( مريم 9 ) ومنها في قصة أصحاب الكهف ولذلك قال لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الكهف 21 ) ومنها قصة أيوب عليه السلام وهي قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ يدل على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا ومنها ما أظهر الله تعالى على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى حيث قال وَيُحْى ِ الْمَوْتَى ( الحج 6 ) وقال وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ( المائدة 110 ) ومنها قوله أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( مريم 67 ) فهذا هو الإشارة إلى أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة القول بالحشر وسيأتي الاستقصاء في تفسير كل آية من هذه الآيات عند الوصول إليها إن شاء الله تعالى ثم إنه تعالى نص في القرآن على أن منكر الحشر والنشر كافر والدليل عليه قوله وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ووجه إلزام الكفر أن دخول هذا الشيء في الوجود ممكن الوجود في نفسه إذ لو كان ممتنع الوجود لما وجد في المرة الأولى فحيث وجد في المرة الأولى علمنا أنه ممكن الوجود في ذاته فلو لم يصح ذلك من الله تعالى لدل ذلك إما على عجزه حيث لم يقدر على إيجاد ما هو جائز الوجود في نفسه أو على جهله حيث تعذر عليه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن المكلف الآخر ومع القول بالعجز والجهل لا يصح إثبات النبوة فكان ذلك موجباً للكفر قطعاً والله أعلم
المسألة الثانية هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ولأنه تعالى قال ههنا وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال(2/116)
يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان
المسألة الثالثة اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ والمطعم بقوله كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَة ٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ والمنكح بقوله وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية
أما قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه سؤالات الأول علام عطف هذا الأمر والجواب من وجوه أحدها أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والضرب وبشر عمراً بالعفو والإطلاق وثانيها أنه معطوف على قوله فَاتَّقُواْ كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم وثالثها قرأ زيد بن علي وَبَشّرِ على لفظ المبني للمفعول عطفاً على أعدت السؤال الثاني من المأمور بقوله وبشر والجواب يجوز أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأن يكون كل أحد كما قال عليه الصلاة والسلام ( بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ) لم يأمر بذلك واحد بعينه وإنما كل أحد مأمور به وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به السؤال الثالث ما البشارة الجواب أنها الخبر الذي يظهر السرور ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أفاد خبره السرور ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه ومنه البشرة لظاهر الجلد وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه وأما فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك أما قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل
المسألة الثانية من الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة فإذا قيل له ما قولك فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم كفر قال إن هذا ممتنع لأن فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم وفعل الكفر استحقاق العقاب الدائم والجمع بينهما محال والقول أيضاً بالتحابط محال فلم يبق إلا أن يقال هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع وإنما قلنا إن القول بالتحابط محال لوجوه(2/117)
أحدها أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أو لا يتضادا فإن تضادا كان طريان الطارىء مشروطاً بزوال الباقي فلو كان زوال الباقي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثانيها أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارىء أولى من اندفاع الطارىء بقيام الباقي فإما أن يوجدا معاً وهو محال أو يتدافعا فحينئذٍ يبطل القول بالمحابطة وثالثها أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل فإن تعادلا مثل أن يقال كان قد حصل استحقاق عشرة أجزاء من الثواب فطرأ استحقاق عشرة أجزاء من العقاب فنقول استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب وإذا كان كذلك لم يكن تأثير هذا الجزء في إزالة هذا الجزء أولى من تأثيره في إزالة ذلك الجزء ومن تأثير جزء آخر في إزالته فأما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثراً في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة مستقلة وكل ذلك محال وإما أن يختص كل واحد من الأجزاء الطارئة بواحد من الباقي من غير مخصص فذلك محال لامتناع ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وأما إن كان المقدم أكثر فالطارىء لا يزيل إلا بعض أجزاء الباقي فلم يكن بعض أجزاء الباقي أن يزول به أولى من سائر الأجزاء فأما أن يزول الكل وهو محال لأن الزائل لا يزول إلا بالناقص أو يتعين البعض للزوال من غير مخصص وهو محال أو لا يزول شيء منها وهو المطلوب وأيضاً فهذا الطارىء إذا أزال بعض أجزاء الباقي فإما أن يبقى الطارىء أو يزول أما القول ببقاء الطارىء فلم يقل به أحد من العقلاء وأما القول بزواله فباطل لأنه إما أن يكون تأثير كل واحد منهما في إزالة الآخر معاً أو على الترتيب والأول باطل لأن المزيل لا بدّ وأن يكون موجوداً حال الإزالة فلو وجد الزوالان معاً لوجد المزيلان معاً فيلزم أن يوجدا حال ما عدما وهو محال وإن كان على الترتيب فالمغلوب يستحيل أن ينقلب غالباً وأما إن كان المتقدم أقل فأما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارىء وذلك محال لأن جميع أجزائه صالح للإزالة واختصاص البعض بذلك ترجيح من غير مرجح وهو محال وإما أن يصير الكل مؤثراً في الإزالة فيلزم أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة وذلك محال فقد ثبت بهذه الوجوه العقلية فساد القول بالإحباط وعند هذا تعين في الجواب قولان الأول قول من اعتبر الموافاة وهو أن شرط حصول الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً وهذا قول ظاهر السقوط الثاني أن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنّة واختيارنا وبه يحصل الخلاص من هذه الظلمات
المسألة الثالثة احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازاً
المسألة الرابعة الجنة البستان من النخل والشجر المتكاتف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة(2/118)
واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان فإن قيل لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار الجواب أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ( محمد 15 ) وأما قوله كُلَّمَا رُزِقُواْ فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا وههنا سؤالات السؤال الأول ما وقع من ثمرة الجواب فيه وجهان الأول هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير وإنما المراد النوع من أنواع الثمار الثاني وهو أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك رأيت منك أسداً تريد أنت أسد وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة السؤال الثاني كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل الجواب لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب السؤال الثالث الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنة والجواب فيه وجهان الأول أنه من أرزاق الدنيا ويدل عليه وجهان الأول أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولاً عظم ابتهاجه وفرحه به فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا والدليل الثاني أن قوله كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بدّ وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا القول الثاني أن المشبه به رزق الجنة أيضاً والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين الأول المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص الثاني المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم(2/119)
مختلف وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرورة وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق أما قوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ففيه سؤالان السؤال الأول إلام يرجح الضمير في قوله وَأُتُواْ بِهِ الجواب إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابهاً يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلاً منه في الدنيا وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضاً فإلى الشيء المرزوق في الجنة يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً السؤال الثاني كيف موقع قوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً من نظم الكلام والجاب أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً أما قوله وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة ولا سيما ما يختص بالنساء وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك قال أهل الإشارة وهذا يدل على أنه لا بدّ من التنبه لمسائل أحدها أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثاً بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى وثانيها أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها وثالثها من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وههنا سؤالان الأول هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف الجواب هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت ومنه بيت الحماسة فوإذا العذارى بالدخان تقنعت
واستعملت نصب القدور فملت(2/120)
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة وقرأ زيد بن علي مطهرات وقرأ عبيد بن عمير مطهرة يعني متطهرة السؤال الثاني هلا قيل طاهرة الجواب في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب أما قوله وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فقالت المعتزلة الخلد ههنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع واحتجوا عليه بالآية والشعر أما الآية فقوله وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( الأنبياء 34 ) فنفي الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل والمنفي غير المثبت فالخلد هو البقاء الدائم وأما الشعر فقول امرىء القيس فوهل يعمن إلا سعيد مخلد
قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقال أصحابنا الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم واحتجوا فيه بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً وأما العرف فيقال حبس فلان فلاناً حبساً مخلداً ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفاً مخلداً فهذا هو الكلام في أن هذا اللفظ هل يدل على دوام الثواب أم لا وقال آخرون العقل يدل على دوامه لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القلب وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب البتة من الغم والحسرة والله تعالى أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً فأجاب الله تعالى عنه بأن(2/121)
صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها ثم في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى عن ابن عباس أنه لما نزل الْمَصِيرُ يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ ( الحج 73 ) فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية والقول الثاني أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً والقول الثالث أن هذا الطعن كان من المشركين قال القفال الكل محتمل ههنا أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وهذا صفة اليهود لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء الآية فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان ههنا إذا ثبت هذا فنقول احتمال الكل ههنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود وذكر المنافقين وذكر المشركين وكلهم من الذين كفروا ثم قال القفال وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد
المسألة الثانية اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة كما قالوا فلان هلك حياء من كذا ومات حياء ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء وذاب حياء وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم ولكنه وارد في الأحاديث روى سلمان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً ) وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان الأول وهو القانون في أمثال هذه الأشياء أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته وكذلك الغضب له علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب بل المراد تلك النهاية وهو أنزل العقاب فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب الثاني يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال وهذا فن بديع من الكلام ثم(2/122)
قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وكذلك قولك وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال ولقائل أن يقول لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً
المسألة الثالثة اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه أحدها إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء فقالوا في التمثيل بالذرة أجمع من ذرة وأضبط من ذرة وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب أجرأ من الذباب وأخطأ من الذباب وأطيش من الذباب وأشبه من الذباب بالذباب وألح من الذباب وفي التمثيل بالقراد أسمع من قراد وأصغر من قراد وأعلق من قراد وأغم من قراد وأدب من قراد وقالوا في الجراد أطير من جرادة وأحطم من جرادة وأفسد من جرادة وأصفى من لعاب الجراد وفي الفراشة أضعف من فراشة وأطيش من فراشة وأجهل من فراشة وفي البعوضة أضعف من بعوضة وأعز من مخ البعوضة وكلفني مخ البعوضة في مثل تكليف ما لا يطاق وأما العجم فيدل عليه ( كتاب كليلة ودمنة ) وأمثاله وفي بعضها قالت البعوضة وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك وثانيها أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة قال مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان فقال عبيد الزراع يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك قال بلى قالوا فمن أين هذا الزوان قال لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر والقرية هي العالم والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء وصريف الأسنان ويكون الأبرار هنالك في ملكوت(2/123)
ربهم من كانت له أذن تسمع فليسمع وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء لو أن رجلاً أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره ونجى من اقتدى به وقال لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم وقال قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون وقال لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان أما قولهم ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى قلنا هذا جهل لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح
المسألة الرابعة قال الأصم ( ما ) في قوله مثلاً ماصلة زائدة كقوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقال أبو مسلم معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح قول أبي مسلم لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك وفي بعوضة قراءتان إحداهما النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان الأول أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شيوعاً وبعداً عن الخصوصية بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتاباً أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتاباً آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتاباً أي كتاب كان الثاني أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة أما على قراءة الرفع ففيها وجهان الأول أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في ( تماماً على الذي أحسن ) الثاني أن تكون استفهامية فإنه لما قال إِنَّ للَّهِ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيراً كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير(2/124)
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم
المسألة السادسة انتصب بعوضة بأنه عطف بيان لمثلاً أو مفعول ليضرب ومثلاً حال من النكرة مقدم عليه أو ثاني مفعولين ليضرب مضمناً معنى يجعل وهذا إذا كانت ما صلة أو إبهامية فإن كانت مفسرة ببعوضة فهي تابعة لما هي تفسير له والمفسر والمفسر معاً لمجموعهما عطف بيان أو مفعول ومثلاً حال مقدمة وأما رفعها فبكونها خبر مبتدأ أما إذا كانت ما موصولة أو موصوفة أو استفهامية فأمرها ظاهر فإذا كانت إبهامية فهي على الجواب كأن فائلاً قال ما هو فقيل بعوضة
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) اشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت اسميته وعن بعضهم اشتقاقه من بعض الشيء سمي به لقلة جرمه وصغره ولأن بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله والوجه القوي هو الأول قال وهو من عجائب خلق الله تعالى فإنه صغير جداً وخرطومه في غاية الصغر ثم إنه مع ذلك مجوف ثم ذلك الخرطوم مع فرط صغره وكونه جوفاً يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم
المسألة الثامنة في قوله فَمَا فَوْقَهَا وجهان أحدهما أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء والثاني أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه أحدها أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولاً وثانيها أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول يقال إن فلاناً يتحمل الذل في اكتساب الدينار وفي اكتساب ما فوقه يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار وثالثها أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير واحتج الأولون بوجهين الأول بأن لفظ ( فوق ) يدل على العلو فإذا قيل هذا فوق ذاك فإنما معناه أنه أكبر منه ويروى أن رجلاً مدح علياً رضي الله عنه والرجل متهم فيه فقال علي أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك أراد بهذا أعلى مما في نفسك الثاني كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر والجواب عن الأول أن كل شيء كان ثبوت صفة فيه أقوى من ثبوتها في شيء آخر كان ذلك الأقوى فوق الأضعف في تلك الصفة يقال إن فلاناً فوق فلان في اللؤم والدناءة أي هو أكثر لؤماً ودناءة منه وكذا إذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه والجواب عن الثاني أن جناح البعوضة أقل منها وقد ضربه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثلاً للدنيا
المسألة التاسعة ( أما ) حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء وهذا يفيد التأكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب قلت أما زيد فذاهب إذا ثبت هذا فنقول إيراد(2/125)
الجملتين مصدرتين به أحماد عظيم لأمر المؤمنين وا عتداد بعلمهم أنه الحق وذم عظيم للكافرين على ما قالوه وذكروه
المسألة العاشرة ( الحق ) الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب وحقت كلمة ربك وثوب محقق محكم النسج
المسألة الحادية عشرة ( ماذا ) فيه وجهان أن يكون ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي فيكون كلمتين وأن يكون ذا مركبة مع ما مجعولين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة فهو على الوجهين الأول مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته وعلى الثاني منصوب المحل في حكم ما وحده كما لو قلت ما أراد الله
المسألة الثانية عشرة الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة ا لبديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية وإما أن تكون معنوية وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعرية أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرامية أو قائماً بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد أو يكون موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما
المسألة الثالثة عشرة الضمير في ( أنه الحق ) للمثل أو لأن يضرب وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاص يا عجبا لابن عمرو هذا
المسألة الرابعة عشرة ( مثلاً ) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جواباً ولمن حمل سلاحاً رديئاً كيف تنتفع بهذا سلاحاً أو على الحال كقوله هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَة ً
المسألة الخامسة عشرة اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكي عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً أجاب عنه بقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ونريد أن نتكلم ههنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات فنتكلم أولاً في الإضلال فنقول إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى التعدي كقولك خرج فإنه غير متعدٍ فإذا قلت أخرج فقد جعلته معتدياً وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب وقد تجيء لمجرد الوجدان حكي عن عمرو بن معد يكرب أنه قال لبني سليم قاتلناكم فما أجبناكم وهاجيناكم فما أفحمناكم وسألناكم فما أبخلناكم أي فما وجدناكم جبناء(2/126)
ولا مفحمين ولا بخلاء ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل فتمنى حصين أن يسود خزاعة
فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
أي وجد ذليلاً مقهوراً ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي فأما قوله كببته فأكب فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين وهذا ليس بعزيز وأما قوله قاتلناكم فما أجبناكم فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين وكذا القول في البواقي وهذا القول الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك إذا ثبت هذا فنقول قولنا أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين أحدهما أنه صيره ضالاً والثاني أنه وحده ضالاً أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالاً فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالاً عما ذا وفيه وجهان أحدهما أنه صيره ضالاً عن الدين والثاني أنه صيره ضالاً عن الجنة أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالاً عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( القصص 15 ) وقال وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ ( النساء 119 ) و قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ( فصلت 29 ) وقال فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( النمل 24 العنبكوت 38 ) ) وقال الشيطان إلى قوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وأيضاً أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالاً كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجاً وداخلاً وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه أحدها أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له وثانيها أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال(2/127)
وثالثها أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال وأما بحسب الدلائل العقلية فمن وجوه أحدها أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم وقال تعالى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقال لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( االحج 78 ) وثانيها لو كان تعالى خالقاً للجهل وملبساً على المكلفين لما كان مبيناً لما كلف العبد به وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبيناً وثالثها أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثاً وسفهاً ورابعها أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ ( الكهف 55 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( لبقرة 28 ) وقال إِنّى تُصْرَفُونَ وقال إِنّى تُؤْفَكُونَ فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة وخامسها أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ إلى قوله مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ( المؤمنين 97 ) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( النحل 98 ) فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم ولوجب أن يتخذوه عدواً من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدواً لأجل ذلك قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعاً بالكلية عن إبليس وعائداً إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين وسادسها أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك فقال وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( طه 79 ) وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ( طه 85 ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( الأنعام 116 ) إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ( ص 26 ) وقوله تعالى حاكياً عن إبليس وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ ( النساء 119 ) فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ(2/128)
قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه والله متعالٍ عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركاً لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساوٍ لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى وسابعها أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوباً إلى العصاة على ما قال وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( المائدة 67 ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ( غافر 34 ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( غافر 28 ) فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتاً للثابت وهذا محال وثامنها أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنهم لا يهدون إلى الحق قال أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ( يونس 35 ) فنفي ربوبية تلك الأشياء من حيث أنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث أنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم بل كان قد أربى عليهم لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل وتاسعها أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون وعليه مقبولون وبه ملتذون ومغتبطون ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر وهذا لا يجوز وعاشرها أن قوله تعالى وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ( البقرة 26 27 ) صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقاً وناقضاً للعهد مغاير لفسقه ونقضه وحادي عاشرها أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه إما بكونه ابتلاءً وامتحاناً أو بكونه عقوبة ونكالاً فقال في الابتلاء وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ أي امتحاناً إلى أن قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( المدثر 31 ) فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلاً متشابهاً لا يعرف حقيقة الغرض فيه والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( آل عمران 7 ) وأما العقوبة والنكال فكقوله إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ( غافر 71 ) إلى أن قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ فبين أن إضلاله لا يعدوا أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسراً بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسراً بغيرهما دفعاً للاشتراك فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات أحدها أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في(2/129)
إضلاله فيقال لذلك الشيء إنه أضله قال تعالى في حق الأصنام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) أي ضلوا بهن وقال وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً ( نوح 23 24 ) أي ضل كثير من الناس بهم وقال وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( المائدة 64 ) وقال فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فراراً وقال فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ( المؤمنون 110 ) وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعوهنم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سبباً لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ( التوبة 124 125 ) فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيماناً ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفراً فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضاً فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ ( لمدثر 31 ) فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( المدثر 31 ) فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاً فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضاً أمرضني الحب أي مرضت به ويقال قد أفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به وقال الشاعر دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
أي يغري الملوم باللوم والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ففي هذه الآية الكفار لما قالوا ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة وثانيها أن الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال أضله أي سماه ضالاً وحكم عليه به وأكفر فلان فلاناً إذا سماه كافراً وأنشدوا بيت الكميت
فوطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال طرفة فوما زال شربي الراح حتى أضلني صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالاً وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة ومن أهل اللغة من أنكره وقال إنما يقال ضللته تضليلاً إذا سميته ضالاً وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجراً فاسقاً وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالاً لزمه أن يصير محكوماً عليه بالضلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضاً لأن الرجل إذا قال لآخر فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالاً ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على(2/130)
الحكم والتسمية وثالثها أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا ومن مجازه قولهم أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب ومثله قول العرجي فأضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدىء أفسدت سيفك وأصدأته ورابعها الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 47 48 ) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم وقال تعالى إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( غافر 71 74 ) فسر ذلك الضلا بالعذاب وخامسها أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( محمد 1 ) قيل أبطلها وأهلكها ومن مجازه قولهم ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً فيه ويقال أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى قال النابغة فوآب مضلوه بعين جلية
وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى وَقَالُواْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( السجدة 10 ) أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنساناً أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين وسادسها أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة قالت المعتزلة وهذا في الحقيقة ليس تأويلاً بل حملاً للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أي يضله عن الجنة وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية وسابعها أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه فيقال أضل فلان بعيره أي ضل عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين وثامنها أن يكون قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثم قالوا يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وذكروه على سبيل التهكم فهذا من قول الكفار ثم قال تعالى جواباً لهم وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ أي ما أضل به إلا الفاسق هذا مجموع كلام المعتزلة وقالت الجبرية لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسن والدلائل اللطيفة أحدها مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر(2/131)
وثانيها مسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلاماً محيلاً قوياً ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها فكما أنصفنا واعترافنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضاً واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء وثالثها أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده لكن أحداً لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء فإن قيل إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم فقصد إيقاعه فلذلك حصل له الجهل قلنا ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ فإن كان اختاره أولاً فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه وذلك غير ممكن وإن قلنا إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية وهو محال ورابعها أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية فهذه مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى في بيان أن التصورات غير كسبية وذلك لأن من يحاول اكتسابها فإما أن يكون متصوراً لها أو لا يكون متصوراً لها فإن كان متصوراً لها استحال أن يطلب تحصيل تصورها لأن تحصيل الحاصل محال وإن لم يكن متصوراً لها كان ذهنه غافلاً عنها والغافل عن الشيء يستحيل أن يكون طالبه
المقدمة الثانية في بيان أن التصديقات البديهية غير كسبية لأن حصول طرفي التصديق إما أن يكون كافياً في جزم الذهن بذلك التصديق أولاً يكون كافياً فإن كان الأول كان ذلك التصديق دائراً مع ذينك التصورين على سبيل الوجوب نفياً وإثباتاً وما كان كذلك لم يكن مقدوراً وإن كان الثاني لم يكن التصديق بديهياً بل متوقفاً فيه
المقدمة الثالثة في بيان أن التصديقات بأسرها غير كسبية وذلك لأن هذه النظريات إن كانت واجبة اللزوم عن تلك البديهيات التي هي غير مقدورة كانت تلك النظريات أيضاً غير مقدورة وإن لم تكن واجبة اللزوم عن تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علوماً بل لا تكون إلا اعتقاداً حاصلاً للمقلد وليس كلامنا فيه فثبت أن كلامكم في عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى الله تعالى معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات أما التأويل الأول فساقط لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أو ليس لها أثر في ذلك فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين الأول أنا قد دللنا في تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ على أنه متى حصل الرجحان فلا بدّ وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب فحينئذٍ جاء الجبر وبطل ما قلتموه الثاني هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن(2/132)
لها أثراً في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإبقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب بالاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما وحينئذٍ يبطل تأويلهم أما التأويل الثاني وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باقٍ لأنه إذا سماه الله بذلك وحكم به عليه فلو لم يأتِ المكلف به لانقلب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال فكان عدم إتيان المكلف به محالاً وإتيانه به واجباً وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة وههنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع فهذا إنما يسمى إضلالاً إذا كان الأنول والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله وههنا الأمر بخلاف ذلك لأنه تعالى لو منع المكلف جبراً عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى فكيف يقال إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم وأما التأويل الرابع فقد اعتراض القفال عليه فقال لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب أما قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 47 ) فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر أي في عذاب جهنم في الآخرة ويكون قوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ من صلة سعر وأما قوله تعالى إِذَا الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ إلى قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ فمعنى قوله ضلوا عنا أي بطلوا فلم ينتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ثم قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ قد يكون على معنى كذلك يضل الله أعمالهم أي يحبطها يوم القيامة ويحتمل كذلك يخذلهم الله تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر فإذا خذلهم الله تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا وأما التأويل الخامس وهو الإهلاك فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك وأما التأويل السادس وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف لأنه تعالى قال يُضِلُّ بِهِ أي يضل بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه وأما التأويل السابع وهو أن قوله يُضِلُّهُ أي يجده ضالاً قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه وأيضاً فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال يُضِلُّ بِهِ والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء(2/133)
وأما التأويل الثامن فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم لأنه إلى قوله يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً من كلام الكفار ثم قوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ كلام الله تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو ثم هب أنه ههنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء لا شك أنه قول الله تعالى فهذا هو الكلام في الإضلال
أما الهدى فقد جاء على وجوه أحدها الدلالة والبيان قال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا ( السجدة 26 ) وقال فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( البقرة 38 ) وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان وقال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) وقال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( الإنسان 3 ) أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين وقال وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) وقال ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 154 ) وهذا لا يقال للمؤمن وقال تعالى حكاية عن خصوم داود عليه السلام وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ ( ص 22 ) أي أرشدنا وقال إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( محمد 25 ) وقال أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) إلى قوله أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( الزمر 57 ) إلى قوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ الزمر 59 ) أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات وقال أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وَهُدًى ( الأنعام 157 ) وهذه مخاطبة للكافرين وثانيها قالوا في قوله عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) أي لتدعو وقوله وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ( الرعد 7 ) أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى وثالثها التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته فهذا ثواب لهم وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم والدليل على هذا الوجه قوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 ) وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( آل عمران 86 ) يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( آل عمران 86 ) فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات فهذا الهدى غير البيان لا محالة وقال تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ( التغابن 11 ) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ( المجادلة 22 ) ورابعها الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى ( المجادلة 22 ) ورابعها الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 175 ) وقال قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ(2/134)
( المائدة 15 16 ) وقال وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ ( محمد 4 6 ) والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( يونس 90 ) وهذا تأويل الجبائي وخامسها الهدى بمعنى التقديم يقال هدى فلان فلاناً أي قدمه أمامه وأصل هدى من هداية الطريق لأن الدليل يتقدم المدلول وتقول العرب أقبلت هوادي الخيل أي متقدماتها ويقال للعنق هادي وهوادي الخيل أعناقها لأنها تتقدمها وسادسها يهدي أي يحكم بأن المؤمن مهتد وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل هداه جعله مهتدياً وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية قال تعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ ( المائدة 103 ) أي ما حكم ولا شرع وقال إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( آل عمران 73 ) معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى وقال مَن يَهْدِ اللَّهُ أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتدياً فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال قالت الجبرية وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم قال الله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) قالت القدرية هذا غير جائز لوجوه أحدها أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه هداه إليه وإنما يقال رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه فأما أن يقال إنه هداه إليه فلا وثانيها لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب فإن قيل هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد قلنا هذا الكسب مدفوع من وجهين الأول أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه فإن كان بتخليقه فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به فحينئذٍ تتوجه الإشكالات المذكورة وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال الثاني أنه لو كان خلقاً لله تعالى وكسباً للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون الله بخلقه أولاً ثم يكتسبه العبد أو يكتسبه العبد أولاً ثم يخلقه الله تعالى أو يقع الأمران معاً فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبوراً على اكتسابه فيعود الإلزام وإن اكتسبه العبد أولاً فالله مجبور على خلقه وإن وقعا معاً وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق وأيضاً فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر لأنه من كسبه وفعله وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال هذا مجموع كلام المعتزلة قالت الجبرية إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى إما بواسطة أو بغير واسطة والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال والقاطع لا يعارضة المحتمل فوجب المصير إلى ما قلناه وبالله التوفيق
المسألة السادسة عشرة لقائل أن يقول لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقليل ما هم ولحديث ( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ) وحديث ( الناس أخبر قلة ) والجواب أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها(2/135)
بالقياس إلى أهل الضلال وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهاباً إلى الحقيقة
المسألة السابعة عشرة قال الفراء الفاسق أصله من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت فكأن الفاسق هو الخارج عن الطاعة وتسمى الفأرة فويسفة لخروجها لأجل المضرة واختلف أهل القبلة في أنه هل هو مؤمن أو كافر فعند أصحابنا أنه مؤمن وعند الخوارج أنه كافر وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر واحتج المخالف بقوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( التوبة 17 ) وقال حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ الحجرات 7 ) وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام
المسألة الثامنة عشرة اختلفوا في المراد من قوله تعالى الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وذكروا وجوهاً أحدها أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسله فكان ذلك ميثاقاً وعهداً على التمسك بالتوحيد إذا كان يلزم بهذه الحجج ما ذكرنا من التمسك بالتوحيد وغيره ولذلك صح قوله وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وثانيها يحتمل أن يعني به ما دل عليه بقوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاْمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 ) فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه وصفهم بنقض عهده وميثاقه والتأويل الأول يمكن فيه العموم في كل من ضل وكفر والثاني لا يمكن إلا فيمن اختص بهذا القسم إذا ثبت هذا ظهر رجحان التأويل الأول على الثاني من وجهين الأول أن على التقدير الأول يمكن إجراء الآية على عمومها وعلى الثاني يلزم التخصيص الثاني أن على التقدير الأول يلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله وأحكمه بما أنزل من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وأوضحها وأزال التلبيس عنها ولما أودع في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مؤكداً لها وأما على التقدير الثاني فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئاً هم بأنفسهم التزموه ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى وثالثها قال القفال يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوماً من أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته ورابعاً قال بعضهم إنه عنى به ميثاقاً أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك وهو معنى قوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) قال المتكلمون هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك وخامسها عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار(2/136)
بربوبيته وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وعهد خص به العلماء وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله
المسألة التاسعة عشرة اختلفوا في المراد من قوله تعالى وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فذكروا وجوهاً أحدها أراد به قطيعة الرحم وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها وهو كقوله تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرابة وعلى هذا التأويل تكون الآية خاصة وثانيها أن الله تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار فذاك هو المراد من قوله وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وثالثها أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك
المسألة العشرون أما قوله تعالى وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه ويترك التعدي إلى الغير ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السموات والأرض قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وفي هذا الخسران وجوه أحدها أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل فإن أطاع الله وجده وإن عصاه ورثه المؤمنون فذلك قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( المؤمنون 10 11 ) وقال إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وثانيها أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله وثالثها أنهم إنما أصروا على الكفر خوفاً من أن تفوتهم اللذات العاجلة ثم إنها تفوتهم إما عند ما يصير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مأذوناً في الجهاد أو عند موتهم وقال القفال رحمه الله تعالى وبالجملة أن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً لا يجزي عليه فيقال له خاسر كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي الله خاسرين قال تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 2 3 ) وقال قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 103 104 ) والله أعلم(2/137)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذا الموضع إلى قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة أولها نعمة الأحياء وهي المذكورة في هذه الآية واعلم أن قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان كانت معصيته لأبيه أعظم فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الأحياء فهذا هو المقصود الكلي فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم قلنا لأن الأحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ وأما الموت فقد تراخى عن الأحياء والأحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه أحدها أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ موبخاً لهم كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم وثانيها إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم كيف تكفرون وثالثها أنه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ حال ما منعهم عن الإيمان ويقول فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاقق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وهو يخلق فيهم الأعراض ويقول إِنّى تُؤْفَكُونَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد ورابعها أن الله تعالى إذا قال للعبيد كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فهل ذكر هذا الكلام توجيهاً للحجة على العبد وطلباً للجواب منه أو ليس كذلك فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثاً وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد فللعبد أن يقول حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر فالأول أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر والثاني أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له والثالث أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك والرابع أنك خلقت في(2/138)
قدرة موجبة للكفر والخامس أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر والسادس أنك خلقت في قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان وهي بأسرها كانت مفقودة فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال كيف تكفرون بالله وخامسها أنه تعالى قال لرسوله قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة أعني نعمة الحياة وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذاً ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكاً فإن أحداً لا يعده نعمة ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضرراً من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة والجواب أن هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب فنحن أيضاً نقابلها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون فلو وجد لانقلب علمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال فوقوعه محال مع أنه قال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال وإن كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر وإذا حصل ذلك المرجح وجب وعلى هذا كيف لا يعقل قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته وبالله التوفيق
المسألة االثانية اتفقوا على أن قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا المراد به وكنتم تراباً ونطفاً لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز والأكثرون على أنه مجاز لأنه شبه الموات بالميت وليس أحدهما من الآخر بسبيل لأن الميت ما يحل به الموت ولا بدّ وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة فيكون اللحمية والرطوبة وقال الأولون هو حقيقة فيه وهو مروي عن قتادة قال كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى ثم أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتاً فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة والأول هو الأقرب لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه قال القفال وهو كقوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حياً وجعله سميعاً بصيراً ومجازه من قولهم فلان ميت الذكر وهذا أمر ميت وهذه سلعة ميتة إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي فوأحييت لي ذكرى وما خاملا
ولكن بعض الذكر أنبه من بعض(2/139)
فكذا معنى الآية وَكُنتُمْ أَمْواتًا أي خاملين ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئاً فَأَحْيَاكُمْ أي فجعلكم خلقاً سميعاً بصيراً
المسألة الثالثة احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر قالوا لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة ولم يذكر حياة القبر ويؤكده قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ( المؤمنون 15 16 ) ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 ) لأنه قول الكفار ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في حلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر فالجواب لم يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة وأيضاً فلقائل أن يقول إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لما صح أن يقول ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن كلمة ثم تقتضي التراخي والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة الدائمة من غير تراخ فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً
المسألة الرابعة قال الحسن رحمه الله قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يعني به العامة وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( البقرة 259 ) إلى قوله فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وكقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( البقرة 243 ) وكقوله فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ وكقوله فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وكقوله وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الكهف 21 ) وكقوله في قصة أيوب عليه السلام فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم
المسألة الخامسة تمسك المجسمة بقوله تعالى ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير أي إلى حيث لا يحكم غيره
المسألة السادسة هذه الآية دالة على أمور الأول أنها دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) الثاني أنها تدل على صحة الحشر النشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية الثالث أنها تدل على التكليف والترغيب والترهيب الرابع أنها دالة على الجبر والقدر كما تقدم بيانه الخامس أنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فبين أنه لا بدّ من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بدّ من الرجوع إليه أما أنه لا بدّ من الموت فقد بين سبحانه وتعالى(2/140)
أنه بعد ما كان نطقة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وصيره بصيراً بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ( المؤمنون 100 ) ينادي فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون كما قال يحيى بن معاذ الرازي فيمر أقاربي بحذاء قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني
وقال أيضاً إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها وانصرف المشيعون عن تشييعها وبكى الغريب عليها لغربتها وناداها من شفير القبر ذو مودتها ورحمتها الأعادي عند جزعتها ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها فما رجائي إلا أن نقول ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون ووحيد قد جفاه المحبون أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران وأما أنه لا بدّ من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) وقال يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( المعارج 43 ) ثم يعرضون على الله كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف 48 ) فيقومون خاشعين خاضعين كما قال وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ ( طه 108 ) وقال بعضهم إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا وجائعة لطول القيامة بطوننا وبادية لأهل الموقف سوآتنا وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا ووسع رحمتك وغفرانك لنا يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة
هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولاً ثم أتبعه بذكر السماء والأرض أما قوله خُلِقَ فقد مر تفسيره في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وأما قوله لَكُمْ فهو يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله(2/141)
مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً جميع المنافع فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فكأنه سبحانه وتعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً فكيف يعجز عن إعادتكم ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سورة مختلفة كما قال أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً وقال في أول سورة أتى أمر الله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ( النحل 5 ) إلى آخره وههنا مسائل
المسألة الأولى قال أصحابنا إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلاً لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملاً بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال فإن قيل فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره قلنا عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضاً لله تعالى فلا يكون مؤثراً فيه وثانيها أن من فعل فعلاً لغرض كان عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال وثالثها أنه تعالى لو فعل فعلاً لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان محدثاً كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال ورابعها أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وفي قوله إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فقالوا إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة
المسألة الثانية احتج أهل الإباحة بقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الثالثة قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعاً للموضعين ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه
المسألة الرابعة قوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضاً لا لغيره وأما قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فيه مسائل
المسألة الأولى الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله(2/142)
ثُمَّ اسْتَوَى يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أولاً ولو كان حاصلاً أولاً لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله ثُمَّ اسْتَوَى يقتضي التراخي ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض
المسألة الثانية قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء مفسر بقوله قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 9 10 ) بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ
المسألة الثالثة قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ إلى قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وقال في سورة النازعات أَءنتُمْ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 27 30 ) وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً أحدها يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين الأول أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضاً لا محالة متأخراً عن خلق السماء الثاني أن قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذٍ يتحقق التناقض والجواب أن قوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض وعلى هذا التقدير يزول التناقض ولقائل أن يقول قوله تعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم على تدحية الأرض ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض فإن ذات السماء وتسويتها متقدمة على ذات الأرض وحينئذٍ يعود السؤال وثالثها وهو الجواب الصحيح أن قوله ( ثم ) ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم مثاله قول الرجل لغيره أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الرابعة الضمير في فسواهن ضمير مبهم وسبع سموات تفسير له كقوله ربه رجلاً وفائدته أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبين أولاً لأنه إذا أبهم تشوفت النفوس إلى الاطلاع عليه وفي البيان(2/143)
بعد ذلك شفاء لها بعد التشوف وقيل الضمير راجع إلى السماء والسماء في معنى الجنس وقيل جمع سماءة والوجه العربي هو الأول ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وإخلاؤه من العوج والفطور وإتمام خلقهن
المسألة الخامسة اعلم أن القرآن ههنا قد دل على وجود سبع سموات وقال أصحاب الهيئة أقربها إلينا كرة القمر وفوقها كرة عطارد ثم كرة الزهرة ثم كرة الشمس ثم كرة المريخ ثم كرة المشتري ثم كرة زحل قالوا ولا طريق إلى معرفة هذا الترتيب إلا من وجهين الأول الستر وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يصيران ككوكب واحد ويتميز الساتر عن المستور بكونه الغالب كحمرة المريخ وصفرة عطارد وبياض الزهرة وزرقة المشتري وكدورة زحل كما أن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة وكوكب عطارد يكسف الزهرة والزهرة تكسف المريخ وهذا الترتيب على هذا الطريق يدل على كون الشمس فوق القمر لانكسافها به ولكن لا يدل على كونها تحت سائر الكواكب أو فوقها لأنها لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال سائر الكواكب عند طلوعها فعند هذا ذكروا طريقين أحدهما ذكر بعضهم أنه رأى الزهرة كشامة في صحيفة الشمس وهذا ضعيف لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة كما أن حصل في وجه القمر المحو الثاني اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل وأما في حق الشمس فإنه قليل جداً فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين هذا ما قاله الأكثرون إلا أن أبا الريحان قال في ( تلخيصه لفصول الفرغاني ) إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر فبطلت هذه الوجوه وبقي موضع الشمس مشكوكاً واعلم أن أصحاب الأرصاد وأرباب الهيئة زعموا أن الأفلاك تسعة فالسبعة هي هذه التي ذكرناها والفلك الثامن هو الذي حصلت هذه الكواكب الثابتة فيه وأما الفلك التاسع فهو الفلك الأعظم وهو يتحرك في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب واحتجوا على إثبات الفلك الثامن بأنا وجدنا لهذه الكواكب الثابتة حركات بطيئة وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة فلكها والأَفلاك الحاملة لهذه السيارات تتحرك حركات سريعة فلا بدّ من جسم آخر يتحرك حركة بطيئة ويكون هو الحامل لهذه الثوابت وهذه الدلالة ضعيفة من وجوه أولها لم لا يجوز أن يقال الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر وهذا الاحتمال لا يفسد إلا بإفساد المختار ودونه خرط القتاد وثانيها سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذه الكواكب مركوزة في ممثلات السيارات والسيارات مركوزة في حواملها وعند ذلك لا يحتاج إلى إثبات الفلك الثامن وثالثها لم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك تحت فلك القمر فيكون تحت كرات السيارات لا فوقها فإن قيل إنا نرى هذه السيارات تكسف هذه الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة قلنا هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة فأما الثوابت القريبة من القطبين فلا فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرة زحل وهذه الثوابت القريبة من القطبين التي لا يمكن انكسافها بالسيارات مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر وهذا الاحتمال لا دافع له ثم نقول هب أنكم أثبتم هذه الأفلاك التسعة فما الذي دلكم على نفي الفلك العاشر أقصى ما في الباب أن الرصد ما دل(2/144)
إلا على هذا القدر إلا أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول والذي يحقق ذلك أنه قال بعض المحققين منهم إنه ما تبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطو بعضها على بعض وأقول هذا الاحتمال واقع لأن الذي يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متشابهة ومتى كان الأمر كذلك كانت مركوزة في كرة واحدة ولكتا المقدمتين غير يقينتيني أما الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في الحس واحدة ولكن لعلها لا تكون في الحقيقة واحدة لأنا لو قدرنا أن واحداً منها يتمم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتمم الدورة في مثل هذه المدة بنقصان سنة واحدة فإذا وزعنا ذلك النقصان على هذه السنين كان الذي هو حصة السنة الواحدة ثلاثة عشر جزءاً من ألف ومائتي جزء من واحد وهذا القدر مما لا يحس به بل العشر سنين والمائة والألف مما لا يحس به البتة وإذا كان ذلك محتملاً سقط القطع البتة عن استواء حركات الثوابت وأما الثانية فلأن استواء حركات الثوابت في مقادير حركاتها لا يوجب كونها بأسرها مركوزة في كرة واحدة لاحتمال كونها مركوزة في كرات متباينة وإن كانت مشتركة في مقادير حركاتها وهذا كما يقولون في ممثلات أكثر الكواكب فإنها في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا ههنا وأقول إن هذا الاحتمال الذي ذكره هذا القائل غير مختص بفلك الثوابت فلعل الجرم المتحرك بالحركة اليومية ليس جرماً واحداً بل أجراماً كثيرة إما مختلفة الحركات لكن بتفاوت قليل لا تفي بإدراكها أعمارنا وأرصادنا وإما متساوية على الإطلاق ولكن تساويها لا يوجب وحدتها ومن أصحاب الهيئة من قطع بإثبات أفلاك أخر غير هذه التسعة فإن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل عليه من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار فكل من كان رصده أقدم وجد مقدار الميل أعظم فإن بطليموس وجده ( لح يا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كح له ) ثم وجد بعد المأمون قد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن المنطقتين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل وتكون كرة الثوابت يدور قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب عندما يرتفع قطب فلك الثوابت إلى الجنوب وتارة إلى الشمال كما هو الآن الثاني أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار سير الشمس على ما هو مشروح في ( كتب النجوم ) حتى أن بطليموس حكى عن أبرخيس أنه كان شاكاً في أن هذه العودة تكون في أزمنة متساوية أو مختلفة وأنه يقول في بعض أقاويله إنها مختلفة وفي بعضها إنها متساوية في إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطة الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله الثاني قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء الروم ومصر والشام إن السبب فيه انتقال فلك(2/145)
البروج وارتفاع قطبه وانحطاطه وحكي عن أبرخيس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر بارياء الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك وأن نقطة فلك البروج تتقدم عن موضعها وتتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل واعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الاقتصار فيه على الدلائل السمعية فإن قال قائل فهل يدل التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلياتها وذلك يدل على أمور أحدها فساد قول الفلاسفة الذين قالوا إنه لا يعلم الجزئيات وصحة قول المتكلمين و ذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الأحكام والاتقان وكل فاعل على هذا الوجه فإن لا بدّ وأن يكون عالماً بما فعله وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات والأرض ثم فرع على ذلك كونه عالماً فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا الاستدلال مطابق للقرآن وثانيها فساد قول المعتزلة وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بدّ وأن يكون عالماً به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر والتخصيص بقدر معين لا بدّ وأن يكون بإرادة وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح والإرادة مشروطة بالعلم فثبت أن خالق الشيء لا بدّ وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه وثالثها قالت المعتزلة إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ظهر أنه تعالى عالم بذاته والجواب قوله تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ عام وقوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ خاص والخاص مقدم على العام والله تعالى أعلم
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَة ً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقة آدم عليه السلام وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه فيكون ذلك إنعاماً عاماً على جميع بني آدم فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامة التي أوردها في هذا الموضع ثم فيه مسائل(2/146)
المسألة الأولى في إذ قولان أحدهما أنه صلة زائدة إلا أن العرب يعتادون التكلم بها والقرآن نزل بلغة العرب الثاني وهو الحق أنه ليس في القرآن ما لا معنى له وهو نصب بإضمار اذكر والمعنى أذكر لهم قال ربك للملائكة فأضمر هذا لأمرين أحدهما أن المعنى معروف والثاني أن الله تعالى قد كشف ذلك في كثير من المواضع كقوله وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ ( الأحقاف 21 ) وقال وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ( ص 17 ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَة ِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ( يس 13 14 ) والقرآن كله كالكلمة الواحدة ولا يبعد أن تكون هذه المواضع المصرحة نزلت قبل هذه السورة فلا جرم ترك ذلك ههنا اكتفاء بذلك المصرح قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن ينتصب ( إذ ) بقالوا
المسألة الثانية الملك أصله من الرسالة يقال ألكني إليه أي أرسلني إليه والمألكة والألوكة الرسالة وأصله الهمزة من ( ملأكة ) حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها طلباً للخفة لكثرة استعمالها قال صاحب ( الكشاف ) الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمائل في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع
المسألة الثالثة من الناس من قال الكلام في الملائكة ينبغي أن يكون مقدماً على الكلام في الأنبياء لوجهين الأول أن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالرسل في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( المؤمنون 285 ) ولقد قال عليه السلام ( ابدؤا بما بدأ الله به ) الثاني أن الملك واسطة بين الله وبين الرسول في تبليغ الوحي والشريعة فكان مقدماً على الرسول ومن الناس من قال الكلام في النبوات مقدم على الكلام في الملائكة لأنه لا طريق لنا إلى معرفة وجود الملائكة بالعقل بل بالسمع فكان الكلام في النبوات أصلاً للكلام في الملائكة فلا جرم وجب تقديم الكلام في النبوات والأولى أن يقال الملك قبل النبي بالشرف والعلية وبعده في عقولنا وأذهاننا بحسب وصولنا إليها بأفكارنا واعلم أنه لا خلاف بين العقلاء في أن شرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه كما أن شرف الرتبة للعالم السفلى هو وجود الإنسان فيه إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتهم وطريق ضبط المذاهب أن يقال الملائكة لا بدّ وأن تكون ذوات قائمة بأنفسها ثم إن تلك الذوات إما أن تكون متحيزة أولا تكون أما الأول وهو أن تكون الملائكة ذوات متحيزة فهنا أقوال أحدها أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهذا قول أكثر المسلمين وثانياً قول طوائف من عبدة الأوثان وهو أن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والأنحاس فإنها بزعمهم أحياء ناطقة وأن المسعدات منها ملائكة الرحمة والمنحسات منها ملائكة العذاب وثالثها قول معظم المجوس والثنوية وهو أن هذا العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة وهما في الحقيقة جوهران شفافان مختاران قادران متضادا النفس والصورة مختلفا الفعل والتدبير فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى وجوهر الظلمة على ضد ذلك ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح فهذه أقوال من جعل الملائكة(2/147)
أشياء متحيزة جسمانية القول الثاني أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فههنا قولان أحدهما قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين وثانيهما قول الفلاسفة وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة البتة وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية وأنها أكمل قوة منها وأكثر علماً منها وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء ثم إن هذه الجواهر على قسمين منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة ومن الناس من ذكر في ذلك وجوهاً عقلية اقناعية ولنشر إليها أحدها أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتاً فنقول القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة فإن الحي إما أن يكون ناطقاً وميتاً معاً وهو الإنسان أو يكون ميتاً ولا يكون ناطقاً وهو البهائم أو يكون ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق وأوسطها الناطق الميت وأشرفها الناطق الذي ليس بميت فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى وثانياً أن الفطرة تشهد بأن عالم السموات أشرف من هذا العالم السفلي وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها فيبعد في العقل أن تحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني ولا تحصل البتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف وثالثها أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة التريقات ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها وأما الدلائل النقلية فلا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم والله أعلم
المسألة الرابعة في شرح كثرتهم قال عليه الصلاة والسلام ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها(2/148)
موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ) وروي أن بني آدم عشر الجن والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر وهؤلاء كلهم عشر الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثالثة وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام وهم كلهم سامعون مطيعون لا يفترون مشتغلون بعبادته سبحانه وتعالى رطاب الألسن بذكره وتعظيمه يتسابقون في ذلك مذ خلقهم لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار ولا يسألمون لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى وهذا تحقيق حقيقة ملكوته جل جلاله على ما قال وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وأقول رأيت في بعض كتب التذكير أنه عليه الصلاة والسلام حين عرج به رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيهم إلى أين يذهبون فقال جبريل عليه السلام لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألوا واحداً منهم وقيل له مذ كم خلقت فقال لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكباً في كل أربعمائة ألف سنة فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجل كماله واعلم أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أصنافهم وأوصافهم أما الأصناف فأحدها حملة العرش وهو قوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) وثانيها الحافون حول العرش على ما قال سبحانه وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) وثالثها أكابر الملائكة فمنهم جبريل وميكائيل صلوات الله عليهما لقوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( البقرة 98 ) ثم إنه سبحانه وتعالى وصف جبريل عليه السلام بأمور الأول أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) الثاني أنه تعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ ( البقرة 97 ) ولأن جبريل صاحب الوحي والعلم وميكائيل صاحب الأرزاق والأغذية والعلم الذي هو الغذاء الروحاني أشرف من الغذاء الجسماني فوجب أن يكون جبريل عليه السلام أشرف من ميكائيل الثالث أنه تعالى جعله ثاني نفسه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ الرابع سماه روح القدس قال في حق عيسى عليه السلام إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) الخامس ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه مع ألف من الملائكة مسومين السادس أنه تعالى مدحه بصفات ست في قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 ) فرسالته أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جميع الأنبياء فجميع(2/149)
الأنبياء والرسل أمته وكرمه على ربه أنه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء وقوته أنه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلبها ومكانته عند الله أنه جعله ثاني نفسه في قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وكونه مطاعاً أنه إمام الملائكة ومقتداهم وأما كونه أميناً فهو قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 193 ) ومن جملة أكابر الملائكة إسرافيل وعزرائيل صلوات الله عليهما وقد ثبت وجودهما بالأخبار وثبت بالخبر أن عزرائيل هو ملك الموت على ما قال تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ( السجدة 11 ) وأما قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فذلك يدل على وجود ملائكة موكلين بقبض الأرواح ويجوز أن يكون ملك الموت رئيس جماعة وكلوا على قبض الأرواح قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( الأنفال 50 ) وأما إسرافيل عليها السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور على ما قال تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) ورابعها ملائكة الجنة قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وخامسها ملائكة النار قال تعالى عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ ( المدثر 30 ) وقوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) ورئيسهم مالك وهو قوله تعالى وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) وأسماء جملتهم الزبانية قال تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 17 18 ) وسادسها الموكلون ببني آدم لقوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 17 18 ) وقوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 ) وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً ( الأنعام 61 ) وسابعها كتبة الأعمال وهو قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( اونفطار 10 12 ) وثامنها الموكلون بأحوال هذا العالم وهم المرادون بقوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ( الصافات 1 ) وبقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إلى قوله فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 1 4 ) وبقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ( النازعات 1 ) وعن ابن عباس قال إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الأشجار فإذا أصاب أحدكم حركة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله يرحمكم الله وأما أوصاف الملائكة فمن وجوه أحدها أن الملائكة رسل الله قال تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) أما قوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( الحج 75 ) فهذا يدل على أن بعض الملائكة هم الرسل فقط وجوابه أن من للتبيين لا للتبعيض وثانيها قربهم من الله تعالى وذلك يمتنع أن يكون بالمكان والجهة فلم يبق إلا أن يكون ذلك القرب هو القرب بالشرف وهو المراد من قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وقوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وقوله يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) وثالثها وصف طاعاتهم وذلك من وجوه الأول قوله تعالى حكاية عنهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وقال في موضع آخر(2/150)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 166 ) والله تعالى ما كذبهم في ذلك فثبت بها مواظبتهم على العبادة الثاني مبادرتهم إلى امتثال أمر الله تعظيماً له وهو قوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ) الثالث أنهم لا يفعلون شيئاً إلا بوحيه وأمره وهو قوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) ورابعها وصف قدرتهم وذلك من وجوه الأول أن حملة العرش وهم ثمانية يحملون العرش والكرسي ثم إن الكرسي الذي هو أصغر من العرش أعظم من جملة السموات السبع لقوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) فانظر إلى نهاية قدرتهم وقوتهم الثاني أن علو العرش شيء لا يحيط به الوهم ويدل عليه قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ( المعارج 4 ) ثم إنهم لشدة قدرتهم ينزلون منه في لحظة واحدة الثالث قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فصاحب الصور يبلغ في القوة إلى حيث أن بنفخة واحدة منه يصعق من في السموات والأرض وبالنفخة الثانية منه يعودون أحياء فاعرف منه عظم هذه القوة والرابع أن جبريل عليه السلام بلغ في قوته إلى أن قلع جبال آل لوط وبلادهم دفعة واحدة وخامسها وصف خوفهم ويدل عليه وجوه الأول أنهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على الزلات البتة يكونون خائفين وجلين حتى كأن عبادتهم معاصي قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وقال وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 ) الثاني قوله تعالى حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ ( سبأ 23 ) روي في التفسير أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمعه أهل السموات مثل صوت السلسلة على الصفوان ففزعوا فإذا انقضى الوحي قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير الثالث روى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن ابن عباس قال بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بناحية ومعه جبريل إذ انشق أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً قال عليه السلام فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع فعرفت أنه لي ناصح فقلت عبداً نبياً فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل فقال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه وبين الرب وبينه سبعون نوراً ما منها نور يدنو منه إلا احترق وبين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله له في شيء من السماء أو من الأرض ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فينظر فيه فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به قلت يا جبريل على أي شيء أنت قال على الرياح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل قال على النبات قلت على أي شيء ملك الموت قال على قبض الأنفس وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفاً من قيام الساعة واعلم أنه ليس بعد كلام الله وكلام رسوله كلام في وصف الملائكة أعلى وأجل من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام قال في بعض خطبه ثم فتق ما بين السموات العلى فملأهن أطواراً من ملائكة فمنهم سجود لا يركعون وركوع لا ينتصبون وصافون لايتزايلون ومسبحون لا يسأمون لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ومنهم الثابتة في الأرضين(2/151)
السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفعون بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر
المسألة الخامسة اختلفوا في أن المراد من قوله وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً كل الملائكة أو بعضهم فروى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه وتعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين أنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص لأن لفظ الملائكة يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل
المسألة السادسة جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله فِى الارْضِ خَلِيفَة ً فكانا مفعولين ومعناه مصير في الأرض خليفة
المسألة السابعة الظاهر أن الأرض التي في الآية جميع الأرض من المشرق إلى المغرب وروى عبد الرحمن بن سابط عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت وهم أول من طاف به وهو في الأرض التي قال الله تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً والأول أقرب إلى الظاهر
المسألة الثامنة الخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه قال الله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ ( يونس 14 ) وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء ( الأعراف 69 ) فأما أن المراد بالخليفة من ففيه قولان أحدهما أنه آدم عليه السلام وقوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا المراد ذريته لا هو والثاني أنه ولد آدم أما الذين قالوا المراد آدم عليه السلام فقد اختلفوا في أنه تعالى لم سماه خليفة وذكروا فيه وجهين الأول بأنه تعالى لما نفى الجن من الأرض وأسكن آدم الأرض كان آدم عليه السلام خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه يروى ذلك عن ابن عباس الثاني إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي وهذا الرأي متأكد بقوله إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) أما الذين قالوا المراد ولد آدم فقالوا إنما سماهم خليفة لأنهم يخلف بعضهم بعضاً وهو قول الحسن ويؤكده قوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى وقرىء خليقة بالقاف فإن قيل ما الفائدة في أن قال الله تعالى للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً مع أنه منزه عن الحاجة إلى المشورة والجواب من وجهين الأول أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أوردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب الوجه الثاني أنه تعالى علم عباده المشاورة وأما قوله تعالى قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا إلى آخر الآية ففيه مسائل
المسألة الأولى الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب ومن الحشوية من خالف في ذلك ولنا وجوه(2/152)
الأول قوله تعالى لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) إلا أن هذه الآية مختصة بملائكة النار فإذا أردنا الدلالة العامة تمسكنا بقوله تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) فقوله ويفعلون ما يؤمرون يتناول جميع فعل المأمورات وترك المنهيات لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه فإن قيل ما الدليل على أن قوله ويفعلون ما يؤمرون يفيد العموم قلنا لأنه لا شيء من المأمورات إلا ويصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل على ما بيناه في أصول الفقه والثاني قوله تعالى بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 26 27 ) فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي والثالث أنه تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في البشر بالمعصية ولو كانوا من العصاة لما حسن منهم ذلك الطعن الرابع أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه واحتج المخالف بوجوه الأول أنه تعالى حكيى عنهم أنهم قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وهذا يقتضي صدور الذنب عنهم ويدل على ذلك وجوه أحدها أن قولهم أتجعل فيها هذا اعتراض على الله تعالى وذلك من أعظم الذنوب وثانيها أنهم طعنوا في بني آدم بالفساد والقتل وذلك غيبة والغيبة من كبائر الذنوب وثالثها أنهم بعد أن طعنوا في بني آدم مدحوا أنفسهم بقولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وأنهم قالوا وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 165 166 ) وهذا للحصر فكأنهم نفوا كون غيرهم كذلك وهذا يشبه العجب والغيبة وهو من الذنوب المهلكة قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات وذكر فيها إعجاب المرء بنفسه ) وقال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) ورابعها أن قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا يشبه الاعتذار فلولا تقدم الذنب وإلا لما اشتغلوا بالعذر وخامسها أن قوله أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 31 ) يدل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه أو لا وسادسها أن قوله أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( البقرة 33 ) يدل على أن الملائكة ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة وأنهم كانوا شاكين في كون الله تعالى عالماً بكل المعلومات وسابعها أن علمهم يفسدون ويسفكون الدماء إما أن يكون قد حصل بالوحي إليهم في ذلك أو قالوه استنباطاً والأول بعيد لأنه إذا أوحى الله تعالى ذلك إليهم لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة فثبت أنهم قالوه عن الاستنباط والظن والقدح في الغير على سبيل الظن غير جائز لقوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وقال إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( يونس 36 ) وثامنها روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة الذين كانوا جند إبليس في محاربة الجن إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً فقالت الملائكة مجيبين له سبحانه أَتَجْعَلُ(2/153)
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ثم علموا غضب الله عليهم فَقَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا وروي عن الجن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق فلن يخلق خلقاً إلا كنا أعظم منه وأكرم عليه فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 31 ) في أني لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ففزع القوم عند ذلك إلى التوبة و قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا وفي بعض الروايات أنهم لما قالوا أتجعل فيها أرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم الشبهة الثانية تمسكوا بقصة هاروت وماروت وزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض فأوحى الله تعالى إليهما إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني فقالا يا رب لو ابتليتنا لم نفعل فجربنا فأهبطهما إلى الأرض وابتلاهما الله بشهوات بني آدم فمكثا في الأرض وأمر الله الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض فجعلت الزهرة في صورة امرأة والملك في صورة رجل ثم إن الزهرة اتخذت منزلاً وزينت نفسها ودعتهما إلى نفسها ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا إلى منزلها ودعواها إلى الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا خمراً فقالا لا نشرب الخمر ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها قالا وما هي قالت تسجدان لهم الصنم فقالا لا نشرك بالله ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا نفعل ثم نستغفر فسجدا للصنم فارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذٍ أنه إنما أصابهما ذلك بسبب تعيير بني آدم وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض وإنما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت المرأة بذلك الاسم وعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة ثم إن الله تعالى عرفت هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين عذاب الدنيا عاجلاً فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ( البقرة 102 ) الشبهة الثالثة أن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم إنه عصى الله تعالى وكفر وذلك يدل على صدور المعصية من جنس الملائكة الشبهة الرابعة قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) قالوا فدل هذا على أن الملائكة يعذبون لأن أصحاب النار لا يكونون إلا ممن يعذب فيها كما قال أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والجواب عن الشبهة الأولى أن نقول أما الوجه الأول وهو قولهم أنهم اعترضوا على الله تعالى وهذا من أعظم الذنوب فنقول إنه ليس غرضهم من ذلك السؤال تنبيه الله على شيء كان غافلاً عنه فإن من اعتقد ذلك في الله فهو كافر ولا الإنكار على الله تعالى في فعل فعله بل المقصود من ذلك السؤال أمور(2/154)
أحدها أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رأى أن ذلك الغير يفعل فعلاً لا يقف على وجه الحكمة فيه فيقول له أتفعل هذاا كأنه يتعجب من كمال حكمته وعلمه ويقول إعطاء هذه النعم لمن يفسد من الأمور التي لا تهتدي العقول فيها إلى وجه الحكمة فإذا كنت تفعلها وأعلم أنك لا تفعلها إلا لوجه دقيق وسر غامض أنت مطلع عليه فما أعظم حكمتك وأجل علمك فالحاصل أن قوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا كأنه تعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء وثانيها أن إيراد الإشكال طلباً للجواب غير محذور فكأنهم قالوا إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه البتة ونحن نرى في العرف أن تمكين السفيه من السفه سفه فإذا خلقت قوماً يفسدون ويقتلون وأنت مع علمك أن حالهم كذلك خلقتهم ومكنتهم وما منعتهم عن ذلك فهذا يوهم السفه وأنت الحكيم المطلق فكيف يمكن الجمع بين الأمرين فكأن الملائكة أوردوا هذا السؤال طلباً للجواب وهذا جواب المعتزلة قالوا وهذا يدل على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى وكانوا على مذهب أهل العدل قالوا والذي يؤكد هذا الجواب وجهان أحدهما أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق والثاني أنهم قالوا وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لأن التسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه وثالثها أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه وخيراتها غالبة على شرورها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا تلك الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء ورابعها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه وخامسها أن قول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً فكأنهم قالوا يا إلهنا إجعل الأرض لنا لا لهم كما قال موسى عليه السلام أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ( الأعراف 155 ) والمعنى لا تهلكنا فقال تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من صلاحكم وصلاح هؤلاء الذين أجعلهم في الأرض فبين ذلك أنه اختار لهم السماء خاصة ولهؤلاء الأرض خاصة لعلمه بصلاح ذلك في أديانهم ليرضى كل فريق بما اختاره الله له وسادسها أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل وسابعها قال القفال يحتمل أن الله تعالى لما أخبرهم أنه يجعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها أي ستفعل ذلك فهو إيجاب خرج مخرج الاستفهام قال جرير فألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك ولو كان استفهاماً لم يكن مدحاً ثم قالت الملائكة إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك ونقدس لما أنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فلما قالوا ذلك قال الله تعالى لهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ كأنه قال والله أعلم نعم ما فعلتم حيث لم تجعلوا ذلك قادحاً في حكمتي فإني أعلم ما لا تعلمون فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل وما علمتم باطنهم وأنا أعلم ظاهرهم وباطنهم(2/155)
فأعلم من بواطنهم أسراراً خفية وحكماً بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم أما الوجه الثاني وهو أنهم ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو الغيبة فالجواب أن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال أما الوجه الثالث وهو أنهم مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس فالجواب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً لقولاه وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ وأيضاً فيحتمل أن يكون قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ليس المراد مدح النفس بل المراد بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنا نسبح بحمدك ونعترف لك بالإلهية والحكمة فكأن الغرض من ذلك بيان أنهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة والإلهية بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل أما الوجه الرابع وهو أن قولهم لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا يشبه الاعتذار فلا بدّ من سبق الذنب قلنا نحن نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال فلما تركوا هذا الأولى كان ذلك الاعتذار اعتذاراً من ترك الأولى فإن قيل أليس أنه تعالى قال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) فهذا السؤال وجب أن يكون بإذن الله تعالى وإذا كانوا مأذونين في هذا السؤال فكيف اعتذروا عنه قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص أما الوجه الخامس وهو أن إخبار الملائكة عن الفساد وسفك الدماء إما أن يكون حصل عن الوحي أو قالوه استنباطاً وظناً قلنا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال إنهم ذكروا ذلك ظناً ثم ذكروا فيه وجهين الأول وهو مروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض الثاني أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بّد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهو مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وثانيها أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء وثالثها قال ابن زيد لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا ربنا لمن خلقت هذه النار قال لمن عصاني من خلقي ولم يكن لله يومئذٍ خلق إلا الملائكة ولم يكن في الأرض خلق البتة فلما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً عرفوا أن المعصية تظهر منهم ورابعها لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك وخامسها إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً لله تعالى في الحكم والقضاء والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الأخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق(2/156)
الالتزام قال أهل التحقيق والقول بأنه كان هذا الأخبار عن مجرد الظن باطل لأنه قدح في الغير بما لا يأمن أن يكون كاذباً فيه وذلك ينافي العصمة والطهارة أما الوجه السادس هو الأخبار التي ذكروها فهي من باب أخبار الآحاد فلا تعارض الدلائل التي ذكرناها
أما الشبهة الثانية وهي قصة هاروت وماروت فالجواب عنها أن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه أحدها أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب لله تعالى وتجهيل له وذلك من صريح الكفر والحشوية سلموا أنهما كانا قبل الهبوط إلى الأرض معصومين وثانيها في القصة أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وذلك فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره وبالغ في إيذاء أنبيائه وثالثها في القصة أنهما يعلمان السحر حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما معاقبان على المعصية ورابعها أن المرأة الفاجرة كيف يعقل أنها لما فجرت صعدت إلى السماء وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً وعظم قدره بحيث أقسم به حيث قال فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ( التكوير 15 ) فهذه القصة قصة ركيكة يشهد كل عقل سليم بنهاية ركاكتها وأما الكلام في تعليم السحر فسيأتي في تفسير تلك الآية في موضعها إن شاء الله تعالى
وأما الشبهة الثالثة فسنتكلم في بيان أن إبليس ما كان من الملائكة
وأما الشبهة الرابعة وهي قوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) فهذا لا يدل على كونهم معذبين في النار وقوله أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يدل أيضاً على كونهم معذبين بالنار بمجرد هذه الآية بل إنما عرف ذلك بدليل آخر فقوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً يريد به خزنة النار والمتصرفين فيها والمدبرين لأمرها والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أن الملائكة هل هم قادرون على المعاصي والشرور أم لا فقال جمهور الفلاسفة وكثير من أهل الجبر إنهم خيرات محض ولا قدرة لهم البتة على الشرور والفساد وقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنهم قادرون على الأمرين واحتجوا على ذلك بوجوه أحدها أن قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا إما أن يكون معصية أو ترك الأولى وعلى التقديرين فالمقصود حاصل وثانيها قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) وذلك يقتضي كونهم مزجورين ممنوعين وقال أيضاً لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) والمدح بترك الاستكبار إنما يجوز له كان قادراً على فعل الاستكبار وثالثها أنهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأن الملجأ إلى الشيء ومن لا يقدر على ترك الشيء لا يكون ممدوحاً بفعل ذلك الشيء ولقد استدل بهذا بعض المعتزلة فقلت له أليس أن الثواب والعوض واجبان على الله تعالى ومعنى كونه واجباً عليه أنه لو تركه للزم من تركه إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان والمفضي إلى المحال محال فيكون ذلك الترك محالاً من الله تعالى وإذا كان الترك محالاً كان الفعل واجباً فيكون الله تعالى فاعلاً للثواب والعوض واجب وتركه محال مع أنه تعالى ممدوح على فعل ذلك فثبت أن امتناع الترك لا يقدح في(2/157)
حصول المدح فانقطع وما قدر على الجواب
المسألة الثالثة الواو في وَنَحْنُ للحال كما تقول أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان والتسبيح تبعيد الله تعالى من السوء وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد واعلم أن التبعيد إن أريد به التبعيد عن السوء فهو التسبيح وإن أريد به التبعيد عن الخيرات فهو اللعن فنقول التبعيد عن السوء يدخل فيه التبعيد عن السوء في الذات والصفات والأفعال أما في الذات فأن لا تكون محلاً للإمكان فإن منع السوء وإمكانه هو العدم ونفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة والوجوب الذاتي وأما في الصفات فأن يكون منزهاً عن الجهل فيكون محيطاً بكل المعلومات وقادراً على كل المقدورات وتكون صفاته منزهة عن التغييرات وأما في الأفعال فأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار وأن لا يستكمل بشيء منها ولا ينتقص بعدم شيء منها فيكون مستغنياً عن كل الموجودات والمعدومات مستولياً بالإعدام والإيجاد على كل الموجودات والمعدومات وقال أهل التذكير التسبيح جاء تارة في القرآن بمعنى التنزيه وأخرى بمعنى التعجب أما الأول فجاء على وجوه ( ا ) أنا المنزه عن النظير والشريك هو الله الواحد القهار ( ب ) أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ( ج ) أنا المدبر لكل العالمين سبحان الله رب العالمين ( د ) أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( ه ) أنا المستغني عن الكل سبحانه هو الغني ( و ) أنا السلطان الذي كل شيء سوائي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ( ز ) أنا العالم بكل شيء سبحان الله عما يصفون عالم الغيب ( ح ) أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ( ط ) أنا المنزه عن وصفهم وقولهم سبحانه وتعالى عما يشركون عما يقولون عما يصفون أما التعجب فكذلك ( ا ) أنا الذي سخرت البهائم القوية للبشر الضعيف سبحان الذي سخر لنا هذا ( ب ) أنا الذي خلقت العالم وكنت منزهاً عن التعب والنصب سبحانه إذا قضى أمراً ( ج ) أنا الذي أعلم لا بتعليم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( د ) أنا الذي أزيل معصية سبعين سنة بتوبة ساعة فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ثم يقول إن أردت رضوان الله فسبح وسبحوه بكرة وأصيلاً وإن أردت الفرج من البلاء فسبح لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وإن أردت رضا الحق فسبح ومن الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وإن أردت الخلاص من النار فسبح سبحانك فقنا عذاب النار أيها العبد واظب على تسبيحي فسبحان الله فسبح وسبحوه فإن لم تفعل تسبيحي فالضرر عائد إليك لأن لي من يسبحني ومنهم حملة العرش فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ ( فصلت 38 ) ومنهم المقربون قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا ( سبأ 41 ) ومنهم سائر الملائكة قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( الفرقان 18 ) ومنهم الأنبياء كما قال ذو النون لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( يونس 1 ) وقال موسى سُبْحَانَكَ إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) والصحابة يسبحون في قوله سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) والكل يسبحون ومنهم الحشرات والدواب والذرات وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وكذا الحجر والمدر والرمال والجبال والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام على ما قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ ( الحديد 1 ) ثم يقول(2/158)
أيها العبد أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح فقد صار ثواب هذه التسبيحات ضائعاً وذلك لا يليق بي وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك ليعرف كل أحد أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته والنكتة الأخرى أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ ( الصافات 180 ) فإنك إذا ذكرتني بالتسبيح طهرتك عن المعاصي وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 42 ) أقرضني وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( الحديد 18 ) وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( البقرة 245 ) كن معيناً لي وإن كنت غنياً عن إعانتك وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) وأيضاً فلا حاجة بي إلى العسكر وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ لكنك إذا نصرتني نصرتك إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( محمد 7 ) كن مواظباً على ذكرى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) ولا حاجة بي إلى ذكرك لأن الكل يذكروني وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) لكنك إذا ذكرتني ذكرتك فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 ) اخدمني قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 189 ) وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الرعد 15 ) ولكن انصرف إلى خدمتي هذه الأيام القليلة لتنال الراحات الكثيرة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 )
المسألة الرابعة قوله بِحَمْدِكَ قال صاحب ( الكشاف ) بحمدك في موضع الحال أي نسبح لك حامدين لك ومتلبسين بحمدك وأما المعنى ففيه وجهان الأول أنا إذا سبحناك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحنا تسبيحاً من غير استحقاق بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح الثاني أنا نسبحك بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك كما قال داود عليه السلام يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إلا بنعمتك فأوحى الله تعالى إليه ( الآن قد شكرتني حيث عرفت أن كل ذلك مني ) واختلف العلماء في المراد من هذا التسبيح فروي أنا أبا ذر دخل بالغداة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو بالعكس فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أي الكلام أحب إلى الله قال ما اصطفاه الله لملائكته سبحان الله وبحمد رواه مسلم وروى سعيد بن جبير قال ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له رسول الله يصلي وأنت جالس لا تصلي فقال له امضِ إلى عملك إن كان لك عمل فقال ما أظن إلا سيمر بك من ينكر عليك فمر عليه عمر بن الخطاب قال يا فلان إن رسول الله يصلي وأنت جالس فقال له مثلها فوثب عليه فضربه وقال هذا من عملي ثم دخل المسجد وصلى مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال يا نبي الله مررت آنفاً على فلان وأنت تصلي وهو جالس فقلت له نبي الله يصلي وأنت جالس فقال لي مر إلى عملك فقال عليه الصلاة والسلام هلا ضربت عنقه فقام عمر مسرعاً ليلحقه فيقتله فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا عمر إرجع فإن غضبك عز ورضاك حكم إن لله في السموات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان فقال عمر يا رسول الله وما صلاتهم فلم يرد عليه شيئاً فأتاه جبريل فقال يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء قال نعم قال أقرئه مني السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم(2/159)
القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزة والجبروت وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي لا يموت فهذا هو تسبيح الملائكة )
القول الثاني أن المراد بقوله نُسَبّحُ أي نصلي والتسبيح هو الصلاة وهو قول ابن عباس وابن مسعود
المسألة الخامسة التقديس التطهير ومنه الأرض المقدسة ثم اختلفوا على وجوه أحدها نطهرك أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وثانيها قول مجاهد نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك وثالثها قول أبي مسلم نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك ورابعها نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك قالت المعتزلة هذه الآية تدل على العدل من وجوه أحدها قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم فلو كانت أفعالاً لله تعالى لما حسن التمدح بذلك ولا فضل لذلك على سفك الدماء إذ كل ذلك من فعل الله تعالى وثانيها لو كان الفساد والقتل فعلاً لله تعالى لكان يجب أن يكون الجواب أن يقول إني مالك أفعل ما أشاء وثالثها أن قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يقتضي التبري من الفساد والقتل لكن التبري من فعل نفسه محال ورابعها إذا كان لا فاحشة ولا قبح ولا جور ولا ظلم ولا فساد إلا بصنعه وخلقه ومشيئته فكيف يصح التنزيه والتقديس وخامسها أن قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يدل على مذهب العدل لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا فلما لم يرضى بهذا الجواب سقط هذا المذهب وسادسها لو كان الفساد والقتل من فعل الله تعالى لكان ذلك جارياً مجرى ألوانهم وأجسامهم وكما لا يصح التعجب من هذه الأشياء فكذا من الفساد والقتل والجواب عن هذه الوجوه المعارضة بمسألة الداعي والعلم والله أعلم
المسألة السادسة إن قيل قوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ كيف يصلح أن يكون جواباً عن السؤال الذي ذكروه قلنا قد ذكرنا أن السؤال يحتمل وجوهاً أحدها فيكون قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ جواباً له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعاً من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون وثانيها أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتقين ومن لم أقسم علي لأبره وثالثها أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم ورابعها أنه التماس لأن يتركهم في الأرض وجوابه إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض وفيه وجه خامس وهو أنهم لما قالوا نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهو أن معكم إبليس وأن في قلبه حسداً وكبراً و نفاقاً ووجه سادس وهو أني أعلم ما لاتعلمون فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وبقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى وبقوله وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(2/160)
وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَاؤُلا ءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الأجمال بقوله تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصل لهم ذلك المجمل فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوماً لهم وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الأشعري والجبائي والكعبي اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني واحتجوا عليه بقوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاْرْضِ أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم ورابعها أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بدّ وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات وإلا لم يحصل العلم بصدقه وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدماً على ذلك التعليم والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعاً وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل فلم لا يجوز أن(2/161)
يقال إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد وعن الثاني لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها وعن الثالث لا شك إن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء وعن الرابع ماسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم
المسألة الثانية من الناس من قال قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها فصح أن يكون المراد من الأسماء الصفات وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول فكان الدليل أسمى في الحقيقة فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره لوجوه أحدها أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة أولى من حمله على ما ليس كذلك وثانيها أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة فإن من كان عالماً باللغة والفصاحة يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي تكلم بلغتي وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم فإن حصل التعليم حصل العلم به وإلا فلا أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل متمكن من تحصيله فصحَّ وقوع التحدي فيه القول الثاني وهو الشمهور أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات فغلب عليه ذلك اللسان فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام قال أهل المعاني قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء لا بدّ فيه من إضمار فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء قالوا لكن الأول أولى لقوله أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء وقوله تعالى فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم فإن قيل فلما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات وكان في المسميات ما لا يكون عاقلاً فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها قلنا لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء فغلب الأكمل لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا
المسألة الثالثة من الناس من تمسك بقوله تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ويدل على ذلك قوله تعالى إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(2/162)
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة وأيضاً فأما أن يقال الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذٍ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسماً لكل واحد من تلك المسميات واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين الأول ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزاً الثاني لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزاً سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذٍ يصير الكلام في هذه المسألة فرعاً على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت بوجوه أحدها أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة وذلك غير جائز فوجب أن لا يكون نبياً في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة وثانيها لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثاً إلى أحد فإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضاً فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء وأن حواء إنماعرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( الأعراف 19 ) شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن(2/163)
في جعله رسولاً فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة وثالثها قوله تعالى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولاً لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولاً فقد خصه بذلك لقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
المسألة الخامسة ذكروا في قوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وجوهاً أحدها معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الأعلام وثانيها معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم وثالثها إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود ورابعها إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء
المسألة السادسة هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول أما الكتاب فوجوه الأول أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل أنه قال تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها مواعظ القرآن قال في البقرة وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ ( البقرة 231 ) يعني مواعظ القرآن وفي النساء وَأَنزَلَ عَلَيْكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ يعني المواعظ ومثلها في آل عمران وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وفي لقمان وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ ( لقمان 12 ) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ( الأنعام 89 ) وثالثها الحكمة بمعنى النبوة في النساء فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ يعني النبوة وفي ص وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ يعني النبوة وفي البقرة وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ورابعها القرآن في النحل ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النساء 54 ) وفي البقرة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وسمى الدنيا بأسرها قليلاً قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) فما سماه قليلاً لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيراً ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة والعلم لا نهاية لقدره وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه وذلك ينبهك على فضيلة العلم الثاني قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) وقد فرق بين سبع نفر(2/164)
في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ ( المائدة 100 ) يعني الحلال والحرام وفرق بين الأعمى والبصير فقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( الأنعام 50 ) وفرق بين النور والظلمة فقال أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( الرعد 16 ) وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل الثالث قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( النساء 59 ) والمراد من أولى الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) وقال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ( آل عمران 7 ) وقال قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) الرابع يَرْفَعُ لِلَّهِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ( المجادلة 11 ) واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف وألها للمؤمنين من أهل بدر قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الأنفال 2 ) إلى قوله لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الأنفال 4 )
والثانية للمجاهدين قال وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ ( النساء 95 ) والثالثة للصالحين قال وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً وَقَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى الرابعة للعلماء قال وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس الخامس قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب أحدها الإيمان وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وثانيها التوحيد والشهادة شَهِدَ اللَّهُ إلى قوله وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ وثالثها البكاء وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ ( الإسراء 109 ) ورابعها الخشوع إن الذين أوتوا العلم من قبله ( الإسراء 107 ) الآية وخامسها الخشية ( الإسراء 107 ) الآية وخامسها الخشية إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء أما الأخبار فوجوه أحدها روى ثابت عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنّة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفوراً له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار ) وثانيها عن أنس قال قال عليه السلام ( من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير من(2/165)
أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله ) وثالثها عن الحسن مرفوعاً ) من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة ) ورابعها أبو موسى الأشعري مرفوعاً ( يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم ) وخامسها قال عليه السلام ( معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور ) وسادسها أبو هريرة مرفوعاً ( من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء ) وسابعها ابن عمر مرفوعاً ( فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاماً وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها ) وثامنها الحسن مرفوعاً قال عليه السلام ( رحمة الله على خلفائي فقيل من خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنّتي ويعلمونها عباد الله ) وتاسعها قال عليه السلام ( من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى حق أو ضلالاً إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاماً ) وعاشرها قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب ) الحادي عشر ابن مسعود مرفوعاً ( من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبياً ) الثاني عشر عامر الجهني مرفوعاً ( يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر ) وفي رواية فيرجح مداد العلماء الثالث عشر أبو وافد الليثي أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فإنه رجع وفر فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال أخبركم عن النفر الثلاثة أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني فاستحيا من الله فاستحيا الله منه وأما الثالث فأعرض عن الله فأعرض الله عنه ) رواه مسلم وأما الآثار فمن وجوه ( ا ) العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم لأن الآباء والأمهات يحفظونه من نار الدنيا وآفاتها والعلماء يحفظونه من نار الآخرة وشدائدها ( ب ) قيل لابن مسعود بم وجدت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول ( ج ) قال بعضهم سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس ( د ) مصعب بن الزبير قال لابنه يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان العلم لك جمالاً وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً ( ه ) قال علي بن أبي طالب لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل ( و ) قال بعض المحققين العلماء ثلاثة عالم(2/166)
بالله غير عالم بأمر الله وعالم بأمر الله غير عالم بالله وعالم بالله وبأمر الله أما الأول فهو عبد قد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال وصفحات الكبرياء فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بدّ منه الثاني هو الذي يكون عالماً بأمر الله وغير عالم بالله وهو الذي عرف الحلال والحرام وحقائق الأحكام لكنه لا يعرف أسرار جلال الله أما العالم بالله وبأحكام الله فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات فهو تارة مع الله بالحب له وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق فهذا سبيل المرسلين والصديقين وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء ) فالمراد من قوله عليه السلام سائل العلماء أي العلماء بأمر الله غير العالمين بالله فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الله استفتاء منهم وأما الحكماء فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله فأمر بمخالطتهم وأما الكبراء فهم العالمون بالله وبأحكام الله فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة ثم قال شقيق البلخي لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاث علامات أما العالم بأمر الله فله ثلاث علامات أن يكون ذاكراً باللسان دون القلب وأن يكون خائفاً من الخلق دون الرب وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السر وأما العالم بالله فإنه يكون ذاكراً خائفاً مستحيياً أما الذكر فذكر القلب لا ذكر اللسان وأما الخوف فخوف الرياء لا خوف المعصية وأما الحياء فحياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر وأما العالم بالله وبأمر الله فله ستة أشياء الثلاثة التي ذكرناها للعالم بالله فقط مع ثلاثة أخرى كونه جالساً على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة وكونه معلماً للقسمين الأولين وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو يستغني عنهما ثم قال مثل العالم بالله وبأمر الله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص ومثل العالم بالله فقد كمثل القمر يكمل تارة وينقص تارة أخرى ومثل العالم بأمر الله فقد كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره ( ز ) قال فتح الموصلي أليس المريض إذا امتنع عنه الطعام والشراب والدواء يموت فكذا القلب إذا امتنع عنه العلم والفكر والحكمة يموت ( ح ) قال شقيق البليح الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف كافر محض ومنافق محض ومؤمن محض وذلك لأني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول فمن لا يصدقني فهو كافر محض ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً وقال أيضاً ثلاثة من النوم يبغضها الله تعالى وثلاثة من الضحك النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة والنوم في الصلاة والنوم عند مجلس الذكر والضحك خلف الجنازة والضحك في المقابر والضحك في مجلس الذكر ( ط ) قال بعضهم في قوله تعالى فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ( الرعد 17 ) السيل ههنا العلم شبهه الله تعالى بالماء لخمس خصال أحدها كما أن المطر ينزل من السماء كذلك العلم ينزل من السماء والثاني كما أن إصلاح الأرض بالمطر فإصلاح الخلق بالعلم الثالث كما أن الزرع والنبات لا يخرج بغير المطر كذلك الأعمال والطاعات لا تخرج بغير العلم والرابع كما أن المطر فرع الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرغ الوعد والوعيد الخامس كما أن المطر نافع وضار كذلك العلم نافع(2/167)
وضار نافع لمن عمل به ضار لمن لم يعمل به ( ي ) كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من مقرب إلى الله بعيد عن الله وكم من داع إلى الله فار من الله وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله ( يا ) الدنيا بستان زينت بخمسة أشياء علم العلماء وعدل الأمراء وعبادة العباد وأمانة التجار ونصيحة المحترفين فجاء إبليس بخمسة أعلام فأقامها بجنب هذه الخمس جاء بالحسد فركزه في جنب العلم وجاء بالجور فركزه بجنب العدل وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة ( يب ) فضل الحسن البصري على التابعين بخمسة أشياء أولها لم يأمر أحداً بشيء حتى عمله والثاني لم ينه أحداً عن شيء حتى انتهى عنه والثالث كل من طلب منه شيئاً مما رزقه الله تعالى لم يبخل به من العلم والمال والرابع كان يستغني بعلمه عن الناس والخامس كانت سريرته وعلانيته سواء ( يج ) إذا أردت أن تعلم أن علمك ينفعك أم لا فاطلب من نفسك خمس خصال حب الفقر لقلة المؤنة وحب الطاعة طلباً للثواب وحب الزهد في الدنيا طلباً للفراغ وحب الحكمة طلباً لصلاح القلب وحب الخلوة طلباً لمناجاة الرب ( يد ) اطلب خمسة في خمسة الأول أطلب العز في التواضع لا في المال والعشيرة والثاني أطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة والثالث أطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا والرابع اطلب الراحة في القلة لا في الكثرة والخامس أطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية ( يه ) قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة العلماء والغزاة والزهاد والتجار والولاة أما العلماء فهم ورثة الأنبياء وأما الزهاد فعماد أهل الأرض وأما الغزاة فجند الله في الأرض وأما التجار فأمناء الله في أرضه وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعاً وللمال رافعاً فبمن يقتدي الجاهل وإذا كان الزاهد في الدنيا راغباً فبمن يقتدي التائب وإذا كان الغازي طامعاً مرائياً فكيف يظفر بالعدو وإذا كان التاجر خائنا فكيف تحصل الأمانة وإذا كان الراعي ذئباً فكيف تحصل الرعاية ( يو ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلم أفضل من المال بسبعة أوجه أولها العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة الثاني العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص والثالث يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه والرابع إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره والخامس المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن والسادس جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال السابع العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه ( يز ) قال الفقيه أبو الليث إن من يجلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات أولها ينال فضل المتعلمين والثاني ما دام جالساً عنده كان محبوساً عن الذنوب والثالث إذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه والرابع إذا جلس في حلقة العلم فإذا نزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب والخامس ما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة والسادس إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغم وسيلة له إلى حضرة الله تعالى لقوله عزّ وجّل ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) والسابع يرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه(2/168)
عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم فلهذا أمر عليه الصلاة والسلام بمجالسة الصالحين ( يح ) قيل من العلماء من يضن بعلمه ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من حقه غضب فذاك في الدرك الثاني من النار ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى الفقراء له أهلاً فذاك في الدرك الثالث من النار ومن العلماء من كان معجباً بنفسه إن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذاك في الدرك الرابع من النار ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ فذاك في الدرك الخامس من النار ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار ( يط ) قال الفقيه أبو الليث من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها ومن جلس مع الفقراء جعل الله له الشكر والرضا بقسمة الله ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع ( يي ) إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء ( ا ) علم آدم الأسماء وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( ب ) علم الخضر الفراسة وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) ( ج ) وعلم يوسف علم التعبير رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 ) ( د ) علم داود صنعة الدرع وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ ( الأنبياء 80 ) ( ه ) علم سليمان منطق الطير وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( النمل 16 ) ( و ) علم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 48 ) ( ز ) وعلم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الشرع والتوحيد وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( البقرة 129 ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ الرحمن 1 ) فعلم آدم كان سبباً له في حصول السجدة والتحية وعلم الخضر كان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع عليهما السلام وعلم يوسف كان سبباً لوجدان الأهل والمملكة وعلم داود كان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة وعلم سليمان كان سبباً لوجدان بلقيس والغلبة وعلم عيسى كان سبباً لزوال التهمة عن أمه وعلم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان سبباً لوجود الشفاعة ثم نقول من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل يجد تحية الرب سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ ( النساء 69 ) ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشهوات وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 ) فأنت يا عالم أما تذكر منة الله على نفسك حيث علمك تفسير كتابه فأي نعمة أجل مما أعطاك الله حيث جعلك مفسراً لكلامه وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه وزاجراً لهم عن ناره وعقابه كما جاء في الحديث العلماء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة ( كا ) المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خاصل من نفسه أحدها أن يقول إن الله(2/169)
أمرني بأداء الفرائض وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم الثانية أن يقول نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم الثالثة أنه تعالى أوجب على شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والرابعة أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم والخامسة أن الله أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والسادسة إن الله أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم ( كب ) طريق الجنة في أيدي أربعة العالم والزاهد والعابد والمجاهد فالزاهد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الأمن والعابد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الخوف والمجاهد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الثناء والحمد والعالم إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الحكمة ( كج ) أطلب أربعة من أربعة من الموضع السلامة ومن الصاحب الكرامة ومن المال الفراغة ومن العلم المنفعة فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه ( كد ) لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء لا يتم الدين إلا بالتقوى ولا يتم القول إلا بالفعل ولا تتم المروءة إلا بالتواض عولا يتم العلم إلا بالعمل فالدين بلا تقوى على الخطر والقول بلا فعل كالهدر والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر ( كه ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لجابر بن عبد الله الأنصاري قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه وجاهل لا يستنكف من تعلمه وغني لا يبخل بماله وفقير لا يبيع آخرته بدنياه فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه فالويل لهم والثبور سبعين مرة ( كو ) قال الخليل الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه ( كز ) أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه وخدمته للعالم الذي يتعلم منه والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه ( كح ) إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال حار العوام آكلين للشبهات وإذا صال العالم آكلاً للشبهات صار العامي آكلاً للحرام وإذا صار العالم آكلاً للحرام صار العامي كافراً يعني إذا استحلوا أما الوجوه العقلية فأمور أحدها أن الأمور على أربعة أقسام قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة وقسم ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل وقسم يرضاه العقل والشهوة معاً وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة أما الأول فهو الأمراض والمكاره في الدنيا وأما الثاني فهو المعاصي أجمع وأما الثالث فهو العلم وأما الرابع فهو الجهل فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة فكل من اختار العلم(2/170)
يقال له تعودت المقام في الجنة فأدخل الجنة ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فأدخل النار والذي يدل على أن العلم جنة والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب وكمال الألم في البعد عن المحبوب والجراحة إنما تؤلم لأنها تبعد جزءاً من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده فلا جرم كان ذلك مؤلماً والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاماً من الجرح لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزا فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن وكذلك لذة النظر إنما تحصل لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب والألم عبارة عن إدراك المكروه وإذا عرفت هذا فنقول كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل والمدرك أنقى وأبقى وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأيُّ معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء واعلم أن ههنا وجوهاً أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا الوجه الأول أن أول ما نزل قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 1 5 ) فقيل فيه إنه لا بدّ من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ وبين قوله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالماً وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى الثاني أنه قال اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره(2/171)
الثالث قوله سبحانه إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم أحدها دلالتها على أمم من أهل الجنة وذلك لأن العلماء من أهل الخشية ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البينة 8 ) إلى قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى ( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ) واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه الدلالة بالعقل أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه فذلك لأن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بدّ له من العلم بأمور ثلاثة منها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها ومنها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ومنها العلم بكونه حكيماً فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل المقدورات غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله وإنما قلنا أن الخوف سبب الفوز بالجنة وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة وكانت تلك اللذة على خلاف أمر الله وفعل ذلك الشيء يكون مشتملاً على منفعة ومضرة فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل صار ذلك الإيمان سبباً لفراره عن تلك اللذة العاجلة وذلك هو الخشية وإذا صار تاركاً للمحظور فاعلاً للواجب كان من أهل الثواب فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف والخائف من أهل الجنة وثانيها أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء وذلك لأن كلمة إنما للحصر فهذا يدل على أن خشية الله لا تحصل إلا للعلماء والآية الثانية وهي قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ دالة على أن الجنة لأهل الخشية وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد وذلك لأنه ثبت أن الخشية من الله تعالى من لوازم العلم بالله فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بالله وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم(2/172)
وثالثها قرىء إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء برفعه الأول ونصب الثاني ومعنى هذه القراءة أنه تعالى لو جازت الخشية عليه لما خشي العلماء لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه ففي هذه القراءة نهاية النصب للعلماء والتعظيم الرابع قوله تعالى وَقُلْ رَبّى زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره وقال قتادة لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام ولم يقل هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً ( الكهف 66 ) الخامس كان لسليمان عليه السلام من ملك الدنيا ما كان حتى أنه قال رَبّ هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ثم إنه لم يفتخر بالمملكة وافتخر بالعلم حيث قال وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 16 ) فافتخر بكونه عالماً بمنطق الطير فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن ولأنه قدم ذلك على قوله وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء وأيضاً فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولاً وقال وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ ( الأنبياء 78 ) إلى قوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ( الأنبياء 79 ) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف السادس قال بعضهم الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين وما ذاك إلا ببركة العلم السابع قال عليه الصلاة والسلام ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ) وفي التفضيل وجهان أحدها أن التفكر يوصلك إلى الله تعالى والعبادة توصلك إلى ثواب الله تعالى والذي يوصلك إلى الله خير مما يوصلك إلى غير الله والثاني أن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) جعل الصلاة وسيلة إلى ذكر القلب والمقصود أشرف من الوسيلة فدل ذلك على أن العلم أشرف من غيره الثامن قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) فسمى العلم عظيماً وسمي الحكمة خيراً كثيراً فالحكمة هي العلم وقال أيضاً الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 ) فجعل هذه النعمة مقدمة على جميع النعم فدل على أنه أفضل من غيره التاسع أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام ( عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بها كرامتي في الدنيا والآخرة ) وأما الزبور فقال سبحانه وتعالى ( يا داود قل لأحبار(2/173)
بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقاء فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مرات بما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد إهلاكه ) وأقول إنما قدم الله تعالى التقي على العلم لأن التقي لا يوجد بدون العلم كما بينا أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد وهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بدّ وأن يكون عاقلاً أما العاقل فقد لا يكون عالماً فالعقل كالبذر والعلم كالشجرة والتقوى كالثمر وأما الإنجيل قال الله تعالى في السورة السابعة عشر منه ( ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم وإن لم يرفعكم لم يضعكم وإن لم يغنكم لم يفقركم وإن لم ينفعكم لم يضركم ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجوا أن نعلم فنعمل ) والعلم شفيع لصاحبه وحق على الله تعالى أن لا يخزيه إن الله تعالى يقول يوم القيامة ( يا معاشر العلماء ما ظنكم بربكم يقولون ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا فيقول فأني قد فعلت إني قد استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي ) وقال مقاتل بن سليمان وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى بن مريم عليهما السلام يا عيسى عظم العلماء واعرف فضلهم لأني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب وكفضل الآخرة على الدنيا وكفضلي على كل شيء أما الأخبار ( ا ) عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للعلماء ( إني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم ادخلوا الجنة على ما كان منكم ) ( ب ) قال أبو هريرة وابن عباس خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبة بليغة قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة فقال من تعلم العلم وتواضع في العلم وعلمه عباد الله يريد ما عند الله لم يكن في الجنة أفضل ثواباً منه ولا أعظم منزلة ولم يكن في الجنة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل ) ( ج ) ابن عمر مرفوعاً إذا كان يوم القيامة صفت منابر من ذهب عليها فباب من فضة منضدة بالدر والياقوت والزمرد جلالها السندس والاستبرق ثم ينادي منادى الرحمن أين من حمل إلى أمة محمد علماً يريد به وجه الله اجلسوا على هذه المنابر فلا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة ( د ) عن عيسى ابن مريم عليهما السلام أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل ويدخلون الجنة بلا إله إلا الله ( ه ) قال عليه السلام ( من اغبرت قدماه في طلب العلم حرم الله جسد على النار واستغفر له ملكاه وإن مات في طلبه مات شهيداً وكان قبره روضة من رياض الجنة ويوسع له في قبره مد بصره وينور على جيرانه أربعين قبراً عن يمينه وأربعين قبراً عن يساره وأربعين عن خلفه وأربعين أمامه ونوم العالم عبادة ومذاكرته تسبيح ونفسه صدقة وكل قطرة نزلت من عينيه تطفىء بحراً من جهنم فمن أهان العالم فقد أهان العلم ومن أهان العلم فقد أهان النبي ومن أهان النبي فقد أهان جبريل ومن أهان جبريل أهان الله ومن أهان الله أهانه الله يوم القيامة ) ( و ) قال عليه الصلاة والسلام ( ألا أخبركم بأجود الأجواد قالوا نعم يا رسول الله قال الله تعالى ( أجود الأجواد وأنا أجود ولد آدم وأجودهم من بعدي رجل عالم ينشر علمه فيبعث يوم القيامة أمة وحده ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل ) ( ز ) عن أبي(2/174)
هريرة مرفوعاً ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ومن سلك طريقاً يبتغي به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) رواه مسلم في الصحيح ( ح ) قال عليه الصلاة والسلام ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) قال الراوي فأعظم مرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة ( ط ) معاذ بن جبل قال عليه الصلاة والسلام ( تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل الجنة والأنيس من الوحشة والصاحب في الوحدة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والدين عند الاختلاف يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة هداة يهتدى بهم وأئمة في الخير يقتفى بآثارهم ويقتدى بأفعالهم وينتهى إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلقتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتها تستغفر لهم حتى كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف يبلغ بالبعيد منازل الأحرار ومجالس الملوك والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله ويعبد وبه يمجد ويوحد وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام ) ( ي ) أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير ) ( يا ) قال عليه الصلاة والسلام ( إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس قيل يا رسول الله ومن الناس قال أهل القرآن قيل ثم من قال أهل العلم قيل ثم من قال الصباح الوجوه ) قال الراوي والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه ( يب ) قال عليه الصلاة والسلام ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله والدنيا سم الله القتال لعباده فخذوا منها بقدر السم في الأدوية لعلكم تنجون ) قال الراوي والعلماء داخلون فيه لأنهم يقولون هذا حرام فاجتنبوه وهذا حلال فخذوه ( يج ) في الخبر العالم نبي لم يوح إليه ( يد ) قال عليه الصلاة والسلام ( كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامس فتهلك ) قال الراوي وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام ( الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم ) إن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم وما أحسن قول بعض الأعراب لولده كن سبعاً خالساً أو ذئباً خانساً أو كلباً حارساً وإياك وأن تكون إنساناً ناقصاً ( يه ) قال عليه الصلاة والسلام ( من اتكأ على يده عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة ومن قبل رأس عالم كتب الله له بكل شعرة حسنة ) ( يو ) قال عليه الصلاة والسلام برواية أبي هريرة ( بكت السموات السبع ومن فيهن ومن عليهن والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن لعزيز ذل وغني افتقر وعالم يلعب به الجهال ) ( يز ) وقال عليه السلام ( حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والشهداء قواد أهل الجنة والأنبياء سادة أهل الجنة ( يح ) وقال عليه السلام ( العلماء مفاتيح الجنة وخلفاء الأنبياء )(2/175)
قال الراوي الإنسان لا يكون مفتاحاً إنما المعنى أن عندهم من العلم مفتاح الجنان والدليل عليه أن من رأى في النوم أن بيده مفاتيح الجنة فإنه يؤتى علماً في الدين ( يط ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن لله تعالى في كل يوم وليلة ألف رحمة على جميع خلقه الغافلين والبالغين وغير البالغين فتسعمائة وتسعة وتسعون رحمة للعلماء وطالبي العلم والمسلمين والرحمة الواحدة لسائر الناس ) ( ك ) وقال عليه الصلاة والسلام ( قلت يا جبريل أي الأعمال أفضل لأمتي قال العلم قلت ثم أي قال النظر إلى العالم قلت ثم أي قال زيارة العالم ثم قال ومن كسب العلم لله وأراد به صلاح نفسه وصلاح المسلمين ولم يرد به عرضاً من الدنيا فأنا كفيله بالجنة ) ( كا ) وقال عليه الصلاة والسلام ( عشرة تستجاب لهم الدعوة العالم والمتعلم وصاحب حسن الخلق والمريض واليتيم والغازي والحاج والناصح للمسلمين والولد المطيع لأبويه والمرأة المطيعة لزوجها ) ( كب ) ( سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما العلم فقال دليل العمل قيل فما العقل قال قائد الخير قيل فما الهوى قال مركب المعاصي قيل فما المال قال رداء المتكبرين قيل فما الدنيا قال سوق الآخرة )
( كج ) أنه عليه الصلاة والسلام كان يحدث إنساناً فأوحى الله إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة وكان هذا وقت العصر فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة قال اشتغل بالتعلم فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب قال الراوي فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به في ذلك الوقت ( كد ) قال عليه الصلاة والسلام ( الناس كلهم موتى إلا العالمون ) والخبر مشهور ( كه ) عن أنس قال عليه الصلاة والسلام ( سبعة للعبد تجري بعد موته من علم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً صالحاً يدعو له بالخير أو صدقة تجري له بعد موته ) فقدم عليه الصلاة والسلام التعليم على جميع الانتفاعات لأنه روحاني والروحاني أبقى من الجسمانيات ( كو ) قال عليه الصلاة والسلام ( لا تجالسوا العلماء إلا إذا دعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ) ( كز ) أوصى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا علي احفظ التوحيد فأنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي وأقم الصلاة فإنها قرة عيني واذكر الرب فإنه بصيرة فؤادي واستعمل العلم فإنه ميراثي ( كح ) أبو كبشة الأنصاري قال ضرب لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل الدنيا مثل أربعة رهط رجل آتاه الله علماً وآتاه مالاً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل ورجل لم يؤته الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء
الآثار ( ا ) كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق وصنيع المال يزول بزواله يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب(2/176)
به الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته والعلم حاكم والمال محكوم عليه ( ب ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء ( ج ) عنم ابن عباس خير سليمان بين الملك والمال وبين العلم فاختار العلم فأعطي العلم والملك معاً ( د ) سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه لما روي عن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر ( ه ) قال أبو سعيد الخدري تقسم الجنة على عشرة آلاف جزء تسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعون منها للذين عقلوا عن الله أمره فكان هذا ثوابهم على قدر ما قسم الله لهم من العقول يقتسمون المنازل فيها وجزء للمؤمنين الضعفاء الفقراء الصالحين ( و ) قال ابن عباس لولده يا بني عليك بالأدب فإنه دليل على المروءة وأنس في الوحشة وصاحب في الغربة وقرين في الحضر وصدر في المجلس ووسيلة عند انقضاء الوسائل وغنى عند العدم ورفعة للخسيس وكمال للشريف وجلالة للملك ( ز ) عن الحسن البصري صرير قلم العلماء تسبيح وكتابة العلم والنظر فيه عبادة وإذا أصاب من ذلك المداد ثوبه فكأنما أصابه دم الشهداء وإذا قطر منها على الأرض تلألأ نوره وإذا قام من قبره نظر إليه أهل الجمع فيقال هذا عبد من عباد الله أكرمه الله وحشر مع الأنبياء عليهم السلام ( ح ) في ( كتاب كليلة ) ودمنة أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة العالم والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعالم أهلك دينه ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته ( ط ) قال سقراط من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحدكما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ولا يقدر أحد على سلبه عنك ( ي ) قيل لبعض الحكماء لا تنظر فأغمض عينيه فقيل لا تسمع فسد أذنيه فقيل لا تتكلم فوضع يده على فيه فقيل له لا تعلم فقال لا أقدر عليه ( يا ) إذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول كان المال وديعة لي وكذا الشارب يقول حسبته خلا وكذا الزاني يقول تزوجتها فإنه لا يحد ( يب ) قال بعضهم أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر بيانكم كما تحيون الموات بالنبات والنواة فإن نفساً تبعد من الشهوات والشبهات أفضل من أرض تصلح للنبات قال الشاعر فوفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميت
وليس له حتى النشور نشور
وَأَمَّا فمن وجوه ( ا ) المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها وعند الشهورة يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى وبقي في غيه أبداً لأن ذلك كان بسبب الجهل ( ب ) إن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى زير فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً فرآه يوسف في أسوإ الأحوال فقال لجبريل إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله فقال جبريل إن ربك عينه لذلك لأنه كان ذب عنك حيث قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( يوسف 27 ) والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من الله الإحسان والتحسين ( ج ) أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم(2/177)
حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب ( د ) تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً ( ه ) قال حكيم القلب ميت وحياته بالعالم والعلم ميت وحياته بالطلب والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له ( و ) قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) إلى قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كانت رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ إشارة إلى تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين ( ز ) الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهراً والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهراً فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهراً ههنا والمردود مقبولاً ( ح ) القلب رئيس الأعضاء ثم تلك الرياسة ليست للقوة فإن العظم أقوى منه ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه ولا للحدة فإن الظفر أحد منه وإنما تلك الرياسة بسبب العلم فدل على أن العلم أشرف الصفات
أما الحكايات ( ا ) حكي أن هرون الرشيد كان معه فقهاء وكان فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالاً بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده فقال أبو يوسف لا قطع عليه قالوا لم قال لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لا بدّ من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في قوله ثم قالوا للآخذ أسرقتها قال نعم فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع لأنه أقر بالسرقة فقال أبو يوسف لاقطع لأنه وإن أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك ( ب ) عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان مع بلخ مكبلاً بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال بلى فقال الحجاج لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج قال فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال له ولا تأتني بهذه الآية نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ( آل عمران 61 ) فقال آتيك بها واضحة من كتاب الله وهو قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح قال فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا ( ج ) يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في(2/178)
القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال هذا أعلمكم قالوا نعم قال والمناظرة معه كالمناظرة معكم قالوا نعم قال والإلزام عليه كالإلزام عليكم قالوا نعم قال وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة قالوا نعم قال كيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام ( د ) هجا الفرزدق واحداً فقال فلقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع در على خالصة
وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلاً مقيداً فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك أنت القائل فلقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع در على خالصة
فقال ما قلته هكذا وإنما غيره على من أراد بي مكروهاً وإنما قلت وخالصة من وراء الستر تسمع فلقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء در على خالصة
فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلى من الفرزدق بما ألف ورده على خالصة ( ه ) دعا المنصور أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه يا أمير المؤمنين هذا يعني أبا حنيفة يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره فقال أبو حنيفة هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس فقال كيف قال أنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم فضحك المنصور وقال إياك يا ربيع وأبا حنيفة فلما خرج فقال الربيع يا أبا حنيفة سعيت في دمي فقال أبو حنيفة كنت البادي وأنا المدافع ويحكى أن مسلماً قتل ذمياً عمداً فحكم أبو يوسف بقتل المسلم به فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت إياك وأن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيء بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد أحكم بقتله فقال يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه ( ز ) دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاح وقال قاتلك الله يا غضبان أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما والله لولا الوفاء والكرم لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فلله در العلم ومن به تردى وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى ( ح ) بلغ عبد الملك بن مروان قول الشاعر(2/179)
فومنا سويد والبطين وقعنب
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فأمر به فأدخل عليه فقال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب بنصب الراء فناديتك واستغثت بك فسرى عن عبد الملك وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه وهو أنه حول الضمة فتحة ( ط ) قال أبو مسلم صاحب الدولة لسليمان بن كثير بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكرى فقلت اللهم سود وجهه واقطع عنقه وأسقني من دمه فقال نعم قلته ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى الحصرم فاستحسن قوله وعفا عنه ( ي ) قال رجل لأبي حنيفة إني حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال سفيان من كلم صاحبه حنث فقال أبو حنيفة إذهب وكلمها ولا حنث عليكما فذهب إلى سفيان وأخبره بما قال أبو حنيفة فذهب سفيان إلى أبي حنيفة مغضباً وقال تبيح الفروجا فقال أبو حنيفة وما ذاك قال سفيان أعيدوا على أبي حنيفة السؤال فأعادوا وأعاد أبو حنيفة الفتوى فقال من أين قلت قال لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما قال سفيان إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل ( يا ) دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه فقال لهم أبو حنيفة هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه قالوا نعم قال فاجمعوا كلاً منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحداً واحداً وقولوا أهذا لصك فإن كان ليس بلصه قال لا وإن كان لصه فليسكت وإذا سكت فاقبضوا عليه ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة فرد الله عليه جميع ما سرق منه ( يب ) كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة فقال يوماً لأبي حنيفة إني أريد أن أتزوج ابنة فلان وقد خطبتها إلا أنهم قد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي فقال احتل واقترض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك ثم أقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد وأنك تسافر بأهلك معك فأظهر الرجل ذلك فاشتد ذلك على أهل المرأة وجاؤا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم أبو حنيفة له ذلك فقالوا وكيف الطريق إلى دفع ذلك فقال أبو حنيفة الطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه منه فأجابوه إليه فذكر أبو حنيفة ذلك للزوج فقال الزوج فأنا أريد منهم شيئاً آخر فوق ذلك فقال أبو حنيفة أيما أحب إليك أن ترضى بهذا القدر وإلا أقرت لرجل بدين فلا تملك المسافرة بها حتى تقضي ما عليها من الدين فقال الرجل الله الله لا يسمعوا بهذا فلا آخذ منهم شيئاً ورضي بذلك القدر فحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين ( يج ) عن الليث بن سعد قال قال رجل لأبي حنيفة لي ابن ليس بمحمود السيرة أشتري له الجارية بالمال العظيم فيعتقها وأزوجه المرأة بالمال العظيم فيطلقها فقال له أبو حنيفة إذهب به معك إلى سوق النخاسين فإذا وقعت عينه على جارية فابتعها لنفسك ثم زوجها إياه فإن طلقها عادت إليك مملوكة وإن أعتقها لم يجز عتقه إياها قال الليث فوالله ما أعجبني جوابه كما أعجبني سرعة جوابه ( يد ) سئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته نهاراً في رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب فقال أبو حنيفة يسافر مع امرأته(2/180)
فيطؤها نهاراً في رمضان ( يه ) جاء رجل إلى الحجاج فقال سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج من تتهم فقال لا أتهم أحداً قال لعلك أتيت من قبل أهلك قال سبحان الله امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيباً ذكياً ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال الحجاج لحرسه اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الذهن قال اشتريته قال أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل وردها إلى صاحبها ( يو ) قال الرشيد يوماً لأبي يوسف عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إليّ وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق وهو الآن يطلب حل يمينه فقال يهب النصف ويبيع النصف ولايحنث ( يز ) قال محمد بن الحسن كنت نائماً ذات ليلة فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت انظروا من ذاك فقالوا رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال دعوتك في مسألة إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل والإمام العدل في الجنة فقالت لي إنك ظالم عاصٍ فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على الله وحرمت عليك فقلت له يا أمير المؤمنين إذاوقعت في معصية هل تخاف الله في تلك الحالة أو بعدها فقال إي والله أخاف خوفاً شديداً فقلت أنا أشهد أن لك جنتين لا جنة واحدة قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي ( يح ) يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله فخاف أبو يوسف على نفسه فلبس إزاره ومشى خائفاً إلى دار الخليفة فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه فعند ذلك هدأ روعه قال الرشيد إن حلياً لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة فحلفت لتصدقيني أولأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجهاً فقال أبو يوسف فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر فأخلى المجلس ثم قال لها أمعك الحلى فقالت لا والله فقال لها احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلى فقولي نعم فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت فقال للخليفة سلها عن الحلى فقال لها الخليفة أسرقت الحلى قالت نعم قال لها فهاتها قالت لم أسرقها والله قال أبو يوسف قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت مناليمين فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم فقالوا إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد فقال إن القاضي أعتقنا الليلة فلا نؤخر صلته إلى الغد فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله ( يط ) قال بشر المريسي للشافعي كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد فقال الشافعي هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس فأقر به خوفاً وانقطع ( ك ) أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما فسلم عليه وسأله حاجة وقال سمعت جدك يقول إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة إما عربي شريف أو مولى كريم أو حامل القرآن(2/181)
أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم وأما القرآن ففي بيوتكم نزل وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين فقال الحسين ما حاجتك فكتبها على الأرض فقال الحسين سمعت أبي علياً يقول قيمة كل امرىء ما يحسنه وسمعت جدي يقول المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إليّ صرة مختومة من العراق فقال سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال أي الأعمال أفضل قال الأعرابي الإيمان بالله قال فما نجاة العبد من الهلكة قال الثقة بالله قال فما يزين المرء قال علم معه حلم قال فإن أخطأه ذلك قال فمال معه كرم قال فإن أخطأه ذلك قال ففقر معه صبر قال فإن أخطأه ذلك قال فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه
أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فأنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضاً فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلاً منهم وأغزر فضلاً فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعاً فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيراً ممن كانوا يعاندون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى الله في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له ( صلى الله عليه وسلم ) ولهذا قال الشاعر فلو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بداهتة تنبيك عن خبر
وأيضاً فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيراً من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( ) وأيضاً الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئاً البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسبباً للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا(2/182)
روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضاً فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) إلى آخره وقال قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ث ( يوسف 108 ) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قال سبحانه إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فأجابهم سبحانه بكونه عالماً فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجود والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جواباً لهم وموجباً لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جواباً لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضاً على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقاً والنفاق أخس المراتب قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) أو تقليداً والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجباً للافتخار ببركة العلم ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) وقال أخرى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) وتارة مع قومه فقال مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( الأنبياء 52 ) وأخرى مع ملك زمانه فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ ( البقرة 258 ) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) فقدم الامتنان(2/183)
بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضاً مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 ) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) ثم قال وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبداً يقول أرنا الأشياء كما هي فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلاً وأيضاً فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة فمنها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وثانيها الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وثالثها النور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأيضاً قال تعالى في صفة طالوت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية وقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55 ) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح وأيضاً فقد جاء في الخبر ( المرء بأصغريه قلبه ولسانه ) إن تكلم تكلم بلسانه وإن قاتل قاتل بجنانه قال الشاعر لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأيضاً فإن الله تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) وقال بعضهم العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه قلب متفكر ولسان معبر وبيان مصور قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( عين العلم من العلو ولامه من اللطف وميمه من المروءة ) وأيضاً قيل العلوم عشرة علم التوحيد للأديان وعلم السر لرد الشيطان وعلم المعاشرة للإخوان وعلم الشريعة للأركان وعلم النجوم للأزمان وعلم المبارزة للفرسان وعلم السياسة للسلطان وعلم الرؤيا للبيان وعلم الفراسة للبرهان وعلم الطب للأبدان وعلم الحقيقة للرحمن وأيضاً قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء ( البقرة 22 ) والمياه أربعة ماء المطر وماء السيل وماء القناة وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية الله عزّ وجلّ لئلا يحصل الكفر وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع والله أعلم
المسألة السابعة في أقوال الناس في حد العلم قال أبو الحسن الأشعري العلم ما يعلم به وربما قال ما يصير الذات به عالماً واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته علم ضروري والعلم بكونه عالماً بهذه الأشياء علم بأصل العلم لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علماً علم ضروري فكان الدور ساقطاً وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء الله تعالى وقال القاضي أبو بكر العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه وربما قال العلم هو المعرفة والاعتراض على الأول أن قوله معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضاً فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هو(2/184)
عليه بعد ذكر المعرفة يكون حشواً أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل أحدها أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال وثانيها أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلاناً والآن فقد عرفته وثالثها أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني العلم تبيين المعلوم وربما قال إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال العلم هو التبيين وهو أيضاً ضعيف أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء وذلك لا يطرد في علم الله وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو به فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي قال الأستاذ أبو بكر بن فورك العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الأحكام وقال القفال العلم إثبات المعلوم على ما هو به وربما قيل العلم تصور المعلوم على ما هو به والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة وقال إمام الحرمين الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء فنقول اعتقادنا في الشيء إما أن يكون جازماً أو لا يكون فإن كان جازماً فأما أن يكون مطابقاً أو غير مطابق فإن كان مطابقاً فأما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري أولاً لموجب وهو اعتقاد المقلد وأما الجزم الذي لا يكون مطابقاً فهو الجهل والذي لا يكون جازماً فأما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه أحدها أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي وثانيها أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفاً للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى وثالثها أن العلم قد يكون تصوراً وقد يكون تصديقاً والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف قالت المعتزلة العلم هو الاعتقاد المقتضى سكون النفس وربما قالوا العلم ما يقتضي سكون النفس قالوا ولفظ السكون وإن كان مجازاً ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهراً لم يكن ذكره قادحاً في المقصود واعلم أن الأصحاب قالوا الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدراً مشتركاً فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر قال الأصحاب وهذا التعريف يخرج عنه أيضاً علم الله تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه إنه يقتضي سكون النفس قالت الفلاسفة العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم وفي هذا التعريف عيوب أحدها إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بدّ في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف لأنا(2/185)
إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذٍ يكون المعلوم هو الصورة فالشيء الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوماً وإن قيل حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذٍ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن وثانيها أن قوله مطابقة للمعلوم يقتضي الدور وثالثها أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول ورابعها أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمراً ثبوتياً والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلاً فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جداً أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه أحدها أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور وثانيها أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة وثالثها أنا نرى المرئي حيث هو ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه وأما قوله فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حاراً عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جداً وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفاً له والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصوراً بديهياً جلياً فلا حاجة في معرفته إلى معرف والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر والعلم الضروري بكونه عالماً بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم(2/186)
بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلاً كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلاً وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعاً فهذا القدر كافٍ ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في ( الكتب العقلية ) والله أعلم
المسألة الثامنة في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون أحدها الإدراك وهو اللقاء والوصول يقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً من هذه الجهة وثانيها الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ولهذا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال إنه يعلم كذا وثالثها التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل ورابعها الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظاً ولما كان الحفظ مشعراً بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم الله حفظاً ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله تعالى محالاً لا جرم لا يسمى ذلك حفظاً وخامسها التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر واعلم أن للتذكر سراً لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعوراً بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذٍ استرجاعها وإن لم تكن مشعوراً بها كان الذهن غافلاً عنها وإذا كان غافلاً عنها استحال أن يكون طالباً لاسترجاعها لأن طلب ما لا يكون متصوراً محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعاً مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان وسادسها الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكراً فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقاً بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكراً ولهذا قال الشاعر فالله يعلم أني لست أذكره
وكيف أذكره إذ لست أنساه
فجعل حصول النسيان شرطاً لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 52 ) فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد(2/187)
زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضاً متوجه على قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكناً كان ما ذكرته تشكيكاً في الضروريات فلا يستحق الجواب بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذٍ يطالع شيئاً من مبادىء مقادير أسرار كونه ظاهراً باطناً وسابعها المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفاً ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال وآخرون قالوا من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي أدركه أولاً فهذا هو المعرفة فيقال عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفاناً وثامنها الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع وتاسعها الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ( الكهف 93 ) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي وعاشرها العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعياً لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال(2/188)
الناقة ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى الحادي عشر الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى الثاني عشر الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ومنها يقال أحكم العمل إحكاماً إذا أتقنه وحكم بكذا حكماً والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضاً كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة فأما إدراك الماهية فإنه باقٍ مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه الثالث عشر علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة وإما نظر العقل الرابع عشر الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خالياً عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر اتْلُ مَا لِذِكْرِى ( طه 14 ) فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لا بدّ منه على كل حال فلا بدّ وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) وقال في البصر سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ فصلت 53 ) وقال في الفكر وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالماً وهو معنى قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 ) فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن الخامس عشر الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده السادس عشر الحدس ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بدّ لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكم أنه(2/189)
لا بدّ في الشرع من شاهدين فكذا لا بدّ في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس السابع عشر الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين الثامن عشر الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز التاسع عشر الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلاً لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطراً إطلاقاً لاسم الحال على المحل العشرون الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي الحادي والعشرون الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل أنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضاً على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) قالوا إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين أحدهما التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم والثاني أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( الحجرات 15 ) واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى عَنْ الْحَقّ شَيْئاً ( النجم 28 ) وقوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( الحجرات 12 ) الثاني والعشرون الخيال وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالاً والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم الثالث والعشرون البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين الرابع والعشرون الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولاً لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر فذاك المتوسط هو المحمول أولاً الخامس والعشرون الروية وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير وهي من روى السادس والعشرون الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال عليه الصلاة(2/190)
والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ) من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت السابع والعشرون الخبرة وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة يقال خبرته قال أبو الدرداء وجدت الناس أخبر تقله وقيل هو من قولهم ناقة خبرة أي غزيرة اللبن فكان الخبر هو غزارة المعرفة ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة هي المخبر عنها بغزارتها الثامن والعشرون الرأي وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي والرأي للفكر كالآلة للصانع ولهذا قيل إياك والرأي الفطير وقيل دع الرأي تصب التاسع والعشرون الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ ( الحجر 75 ) وقوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ( البقرة 273 ) وقوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) واشتقاقها من قولهم فرس السبع الشاة فكأن الفراسة اختلاس المعارف وذلك ضربان ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي وإياه عنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم ) ويسمى ذلك أيضاً النفث في الروع والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ ( هود 17 ) إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال
المسألة التاسعة قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا وقوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا وقوله الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقاً حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(2/191)
اعلم أن الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قالوا إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين الأول أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سئلوا عنه وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه الثاني أن الملائكة إنما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها وههنا مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا على أن المعارف مخلوقة لله تعالى وقالت المعتزلة المراد أنه لا علم لنا إلا من جهته إما بالتعليم وإما بنصب الدلالة والجواب أن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد فإنه عبارة عن تحصيل السواد في الغير لا يقال التعليم عبارة عن إفادة الأمر الذي يترتب عليه العلم لو حصل الشرط وانتفى المانع ولذلك يقال علمته فما تعلم والأمر الذي يترتب عليه العلم هو وضع الدليل والله تعالى قد فعل ذلك لأنا نقول المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل وذلك النظر فعل العبد فلم يكن حصول ذلك العلم بتعليم الله تعالى وأنه يناقص قوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا
المسألة الثانية احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن 26 27 ) وللمنجم أن يقول للمعتزلي إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضاً بتعليم الله تعالى ويمكن أن يقال أيضاً إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى
المسألة الثالثة العليم من صفات المبالغة التامة في العلم والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو فلذلك قال إنك أنت العليم الحكيم على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ(2/192)
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالماً بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها فإن قيل الإيمان هو العلم فقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والأشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أما قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ففيه وجوه أحدها ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أراد به قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وقوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد وثانيها إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها وثالثها أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان ورابعها وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو ممتزجاً وعلى تقدير الامتزاج فأما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالباً أو يكون الشر غالباً أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالباً فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم
المسألة السادسة اعلم أن في هذه الآية خوفاً عظيماً وفرحاً عظيماً أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك أحدها روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال ( يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع حرمتكم من النعيم ( وثانيها قال سليمان بن علي لحميد الطويل عظني فقال إن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت وثالثها قال حاتم الأصم طهر نفسك في ثلاثة أحوال إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك وإذا كنت ساكتاً عاملاً بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول(2/193)
إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ورابعها اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبداً في الخوف والوجل فقوله تعالى إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أنه ما ترونه عابداً مطيعاً سيكفر ويبعد عن حضرتي ومن ترونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاًّدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولاً ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة وههنا مسائل
المسألة الأولى الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ( ص 71 72 ) وظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حياً صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله فَقَعُواْ للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال الأول أن ذلك السجود كان لله تعالى وآدم عليه السلام كان كالقبلة ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة الثاني أن إبليس قال أرأيتك هذا الذي كرمت على أي أن كونه مسجوداً يدل على أنه أعظم حالاً من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب عن الأول أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة والدليل(2/194)
عليه القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) والصلاة لله لا للدلوك فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة وأما الشعر فقول حسان فما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود والجواب عن الثاني أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر فهذا ما في القول الأول أما القول الثاني فهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية له كالسلام منهم عليه وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام وقال قتادة في قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ( يوسف 100 ) كانت تحية الناس يومئذٍ سجود بعضهم لبعض وعن صهيب أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا معاذ ما هذا قال إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت ما هذا قالوا تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم وعن الثوري عن سماك بن هاني قال دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له عليّ اسجد لله ولا تسجد لي وقال عليه الصلاة والسلام لو أمرت أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها القول الثالث أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر
( ترى الأكم فيها سجداً للحوافر )
أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) واعلم أن القول الأول ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وأما القول الثالث فضعيف أيضاً لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك لأن الأصل عدم التغيير فإن قيل السجود عبادة والعبادة لغير الله لا تجوز قلنا لا نسلم أنه عبادة بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيداً كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الأعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيداً ضرباً من التعظيم وإن لم يكن ذلك عبادة وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته
المسألة الثالثة اختلفوا في أن إبليس هل كان من الملائكة قال بعض المتكلمين ولا سيما المعتزلة إنه لم يكن منهم وقال كثير من الفقهاء إنه كان منهم واحتج الأولون بوجوه
أحدها أنه كان من الجن فوجب أن لا يكون من الملائكة وإنما قلنا إنه كان من الجن لقوله تعالى في سورة الكهف إلا إبليس كان من الجن الكهف 50 واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من(2/195)
الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنينا لاجتنابه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا ومن دونهم بل كانوا يعبدون الجن سبأ 41 وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك فإن قيل لا نسلم أنه كان من الجن أما قوله تعالى كان من الجن الكهف 50 فلم يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روي عن ابن مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون قوله من الجن أي صار من الجن كما أن قوله وكان من الكافرين أي صار من الكافرين سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن فلم قلت إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 وذلك لأن قريشا قالت الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنا والجواب لا يجوز أن يكون المراد منه قوله كان من الجن الكهف 50 أنه كان خازن الجنة لأن قوله إلا إبليس كان من الجن يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنيا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنا للجنة فيبطل ذلك قوله كان من الجن أي صار من الجن قلنا هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وأما قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنا بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة اصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث
وثانيها أن ابليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم إنما قلنا أن ابليس له ذرية لقولع تعالى في صفته أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الكهف 50 وهذا صريح في إثبات الذرية له وإنما قلنا إن الملائكة لا ذريو لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم الزخرف 19 أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى الولد لا محالة فانتفت الذرية
وثالثها أن الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة
ورابعها أن ابليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك إنما قلنا إن ابليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس خلقتني من نار الأعراف 12 وأيضا فلأنه كان من الجن لقوله تعالى كان من الجن الكهف 50 والجن مخلوق من النار لقوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم الحجر 27 وقال خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار الرحمن 15 وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور فلما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال خلقت(2/196)
الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ولأن من المشهور الذي يدفع أن الملائكة روحانيون وقيل إنما سموا بذلك لأنهم خلقوا من الريح أو الروح
وخامسها أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ورسل الله معصومون لقوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الأنعام 124 فلما لم يكن ابليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين
الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة لا يقال الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب قال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الزخرف 27 وقال تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأئيما إلا قيلا سلاما سلاما الواقعة 25 وقال تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض النساء 29 وقال تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ النساء 92 وأيضا فلأنه كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة فغلبوا عليه في قوله فسجدوا ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم لأنا نقول كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل فذلك إنما صار إليه عند الضرورة والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات فلو حعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ولو قلنا إنه ليس من الملائكة لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثنناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى أيضا فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه وأما قوله أنه جني واحد بين الملائكة فنقول إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه
الحجة الثانية قالوا لو لم يكن ابليس من الملائكة لما كان قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم متناولا له ولو يكن متناولا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبار ومعصية ولما استحق الذم والعقاب وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضا فلم لا يجوز أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله وما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك الأعراف 12 لأنا نقول أما الأول فجوابه أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين وأيضا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين ابليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على ابليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور(2/197)
المسألة الرابعة اعلم أن جماعة من أصحابنا يحتجون بأمر الله تعالى للملائكة بسجود آدم عليه السلام على أن آدم أفضل من الملائكة فرأينا أن نذكر ههنا هذه المسألة فنقول قال أكثر أهل السنة الأنبياء أفضل من الملائكة وقالت المعتزلة بل الملائكة أفضل من الأنبياء وهو قول جمهور الشيعة وهذا القول اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني من المتكلمين منا وأبي عبد الله الحليمي من فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد احتجوا بأمور أحدها قوله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته الأنبياء 19 إلى قوله يسبحون الليل والنهار ولا يفترون الأنبياء 20 والاستدلال بهذه الآية من وجهين
الأول أنه ليس المراد من هذه العندية المكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم ولقائل أن يقول إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيا عنه سبحانه { أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي } وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم لأن هذا الحديث يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى ولا شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله تعالى
الوجه الثاني في الاستدلال بالآية أن الله تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له يقول الملوك لا يستكبرون عن طاعتي فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي وبالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف ولقائل أن يقول لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر من التفاوت فإنه تعالى يقول إن الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم لا يتركون العبودية لحظة واحدة والبشر مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات أولى أن لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كاف في صحة هذا الاستدلال ولا نزاع في حصول التفاوت في هذا المعنى إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح إلا إذا كان الملك أكثر ثوابا من البشر ولا بد فيه من دليل مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي ذكرناه وثانيها أنهم قالوا عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر فتكون أكثر ثوابا من عبادات البشر وإنما قلنا إنها أشق لوجوه
أحدها أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم أشق وإنما قلنا إن ميلهم إلى التمرد أشد لأن العبد السليم من الآفات المستغني عن طلب الحاجات يكون أميل إلى النعم والالتذاذ من المغمور في الحاجات فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه ولهذا قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون العنكبوت 65 ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وهي جنات وبساتين ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون(2/198)
من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون بالخوف الشديد ولافزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما وادحا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام فإنه أطلق له جميع مواضع الجنة بقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما البقرة 35 ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر
وثانيها أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قال سبحانه يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وقال وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون الصافات 165 166 وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة إذا ثبت وجب أن تكون عباداتهم أفضل عليه الصلاة والسلام { أفضل الأعمال أحمزها } أي أشقها وقوله لعائشة رضي الله عنها { إنما أجرك على قدر نصبك } والقياس أيضا يقتضي ذلك فإن العبد كلما كان تحمله المشاق لأجل رضا مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم
والقائل أن يقول على الوجهين هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكبر وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ومن أمثاله بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالأفعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما والآخر لا يستحق به ثوالا قليلا لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق
أما قوله في الوجه الأول السموات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة أكثر ما في الباب أن يقال إنه قد يهيأ له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيتها له أشق ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمهة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصبر أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص فما ذكروه بالعكس أولى أما قوله والمواظبة على نوع واحد من العبادة شاق قلنا هذا معارض بوجه آخر وهو أنهم لما(2/199)
اعتادوا نوعا واحدا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشيء الذي لا يقدرون على خلافه على ما قيل العادة طبيعة خامسة فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم ولذلك فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الوصال في الصوم وقال { أفضل الصوم صوم داود عليه السلام } وهو أن يصوم يوما ويفطر يوما
وثالثها قالوا عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفات الملائكة وعلى هذه الآية سؤال روي في شعب الإيمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون ثم قال جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضا قال أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين البقرة 161 فكيف يكونون مشتغلين باللعن حال اشتغالهم باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح أجاب كعب الأحبار فقال التسبيح لهم كالتنفس لنا فكلما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالنا بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال
وأقول لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة محال والجواب الأول أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسن كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر والجواب الثاني اللعن هو الطرد والتبعيد والتسبيح هو الخوض في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يسلتزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه والجواب الثالث قوله لا يفترون الأنبياء 20 معناه أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه ابدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن عبادتهم أدوم وجب أن تكون أفضل أما أولا فلأن الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق تقريره في الحجة الثانية وأما ثانيا فلقوله عليه السلام أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارا وأحسنهم أعمالا فوجب أن يكونوا أفضل العباد لأنه عليه السلام قال { الشيخ في قومه كالنبي في أمته } وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر
ولقائل أن يقول إن نوحا عليه السلام وكذا لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرا من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرا وأشد اجتهادا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى والتحقيق فيه ما بينا أن كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع من الإنسان على وجه يستحق بها ثوابا كثيرا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها إلا ثوابا قليلا
ورابعها أنهم أسبق السابقين في كل العبادات لا خصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقدمون فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين والسبق في العبادة جهة تفضيل وتعظيم أما أولا(2/200)
فبالاجماع وأما ثانيا فلقوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون الواقعة 10 وأما ثالثا فلقوله عليه السلام { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة } فهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر ولقائل أن يقول فهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أول من سن عبادة الله تعالى من البشر وأول من سن دعوة الكفار إلى الله تعالى ولما كان ذلك باطلا بالاجماع بطل ما ذكروه والتحقيق فيه ما قدمناه أن كثرة الثواب تكون بأمر يرجع إلى النية فيجوز أن تكون نية المتأخر أصفى فيستحق من الثواب أكثر ما يستحقه المتقدم
وخامسها أن الملائكة رسل الأنبياء والرسول أفضل من الأمة فالملائكة أفضل من الأنبياء أما أن الملائكة رسل إلى الأنبياء فلقوله تعالى علمه شديد القوى النجم 5 وقوله نزل به الروح الأمين على قلبك الشعراء 193 وأما أن الرسول أفضل من الأمة فالبقياس على أن الأنبياء من البشر أفضل من أممهم فكذا ههنا فإن قيل العرف أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون حاكما فيهم ومتوليا لأمورهم فذلك الرسول يكون أشرف من ذلك الجمع أما إذا أرسل واحدا إلى واحد فقد لا يكون الرسول أشرف من المرسل إليه كما إذا أرسل واحدا من عبيده إلى وزيره في مهم فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير قلنا لكن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر فلزم على هذا القانون الذي ذكره السائل أن يكون جبريل عليه السلام أفضل منهم
واعلم أن هذه الحجة يمكن تقريرها على وجه آخر وهو أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ثم لا يخلو الحال من أحد أمرين إما أن يكون الملك رسولا إلى ملك آخر أو إلى واحد من الأنبياء الذين هم من البشر وعلى التقدير فالملك رسول وأمته رسل وأما الرسول البشري فهو رسول لكن أمته ليسوا برسل والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي لا يكون كذلك فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة ولأن إبراهيم عليه السلام كان رسولا إلى لوط عليه السلام فكان أفضل منه وموسى عليه السلام كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم فكذا ههنا ولقائل أن يقول الملك إذا أرسل رسولا إلى بعض النواحي قد يكون ذلك لأنه جعل ذلك الرسول حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم ومتصرفا في أحوالهم وقد لا يكون لأنه يبعثه إليهم ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم فالرسول في القسم الأول يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه أما في القسم الثاني فظاهر أنه لا يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه فالأنبياء المبعوثون إلى أممهم من القسم الأول فلا جرم كانوا أفضل من الأمم فلم قلتم إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأول حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء
وسادسها أن الملائكة أتقى من البشر فوجب أن يكونوا أفضل من البشر أنا أنهم أتقى فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها لأن خوفهم دائم وإشفاقهم دائم لقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم النحل 50 وقوله وهم من خشيته مشفقون الأنبياء 28 والخوف والاشفاق ينافيان العزم على المعصية وأما الأنبياء عليهم السلام فهم مع أنهم أفضل البشر ما خلا منهم عن نوع زلة وقال عليه(2/201)
الصلاة والسلام ما منا من أحد إلا عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا عليهما السلام فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات 13 فإن قيل إن قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم خطاب مع الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل تحقق التقوى في حقهم والجواب عن الأول أن ترتيب الكرامة على التقوى يدل على أن الكرامة معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر وعن الثاني لا نسلن عدم الشهوة في حقهم لكن لا شهوة لهم إلا الأكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقال تعالى ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الأنبياء 29 ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من محمد وذلك باطل بالاجماع فعلمنا أنه لا يلزم من زيادة التقوى زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه المعصية ثم أتى بطاعة استحق بها ألف جزء من الثواب فليقابل مائة جزء من الثواب بمئة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة جزء من الثواب فهذا الإنسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الإنسان الذي لمتصدر المعصية عنه قط وأيضا فلا نسلن أن تقوى الملائكة أشد وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية والمقتضى للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر قوله إن الملائكة لهم شهوة الرياسة قلنا هذا لا يضرنا لأن هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضا وقد حصلت لهم أنواع أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد
وسابعها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة النقربون النساء 172 وجه الاستدلال أن قوله تعالى ولا الملائكة المقربون خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب ولقائل هذه الآية إذا دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح لكن لا يلزم منه فضل الملائكة النقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلا فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لا سيما وقد أجمع المسلمون على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من المسيح عليه السلام وما رأينا أحد من المسلمين قطع بفضل المسيح على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله ولا الملائكة المقربون ليس فيه إلا واو العطف والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فأما أن يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى الكلية ثم إن المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام المائدة 2 ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال(2/202)
هذه الخشبة لا يقدر على حملها الواحد ول العشرة فنحن بعقولنا أن العشرة أقوى من الواحد فلا جرم عرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا من مجرد اللفظ فههنا في الآية إنما يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله ولا الملائكة المقربون النساء 172 بيان المبالغة لو عرفنا قبل ذلك ان الملائكة المقربين أفضل من المسيح وحينئذ تتوقف صحة الاستدلال بهذه الآية على ثبوت الملطوب قبل هذا الدليل ويتوقف ثبوت المطلوب على دلالة هذه الآية عليه فيلزم الدور وأنه باطل سلمنا أنه يفيد التفاوت لكنه لا يفيد التفاوت في كل الدرجات بل في بعض دون آخر بيانه أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف عن خدمته القاضي ولا السلطان ولا يدل على كونه أفضل من القاضي في العلم والزهد والخضوع لله تعالى إذا ثبت هذا فنحن نقول بموجبه وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والبطش فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن لوط والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخضزع والعبودية وتمام التحقيق فيه أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب وكثرة الثواب لا تحصل إلا بالعبودية والعبودية عبارة عن نهاية التواضع والخضوع وكون العبد موضوفا بنهاية التواضع لله تعالى لا يناسب الاستنكاف عن عبودية الله ولا يلائمها البتة بل يناقضها وينافيها وإذا كان هذا الكلام ظاهرا جليا كان حمل كلام الله تعالى عليه مخرجا له عن الفائدة أنا اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والاستيلاء العظيم فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية فالنصارى لما شاهدوا من المسيح عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه عن العبودية بسبب هذا القدر من القدرة فقال الله تعالى إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي بل ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والقوة والبطش والاستيلاء على عوالم السموات والأرضين وعلى هذا الوجه ينتظم وجه دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في لبشدة والبطش لكنها لا تدل البتة على أنه أفضل من البشر في كثرة الثواب أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه حصل من غير أب فقيل لهم الملك ما حصل من أب ولا من أم فكانوا أعجب من عيسى في ذلك مع لأنهم لا يستنكفون عن العبودية
فإن قيل في الآية ما يدل على أن المراد وقوع التفاوت بين المسيح والملائكة في العبودية لا في القدرة والقوة والبطش وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم مقربين والقرب من الله تعالى لا يكون بالمكان والجهة بل بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم ههنا بكونهم مقربين علمنا أن المراد وقوع التفاوت بينهم وبين المسيح في درجات الفضل لا في الشدة والبطش قلنا إن كان مقصودك من هذا السؤال أنه تعالى وصف الملائكة بكونهم مقربين فوجب أن لا يكون المسيح كذلك فهذا باطل لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه وإن كان مقصودك أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مقربين وجب أن يكون التفاوت واقعا في ذلك فهذا باطل أيضا لاحتمال أن يكون المسيح والمقربون مع اشتراكهم في صفة القرب في الطاعة يتباينون بأمور أخر فيكون المراد بيان التفاوت في تلك الأمور سؤال آخر وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلن أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل سؤال آخر لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله وهو أهون عليه الروم 27(2/203)
وثامنها قوله تعالى حكاية عن إبليس ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الأعراف 20 ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغريهما بذلك ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك ولقائل أن يقول هذا قول إبليس فلا يكون حجة ولا يقال إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر واعتقاد آدم حجة لأنا نقول لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيا قلم يلزم من فضل الملك عليعه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيا وأيضا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة وفي باب الحسن والجمال وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم مخلوق من التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه وأيضا فقوله إلا أن تكونا ملكين الأعراف 20 يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما هذا كما يقال أحدنا لغيره ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانا ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا وإنما المنهي غيرهما وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت أنها تدل على أن الملك أفضل من محمد وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل
وتاسعها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك الأنعام 50 ولقائل أن يقول يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم وشدة القدرة والذي يدل على صحبة هذا الاحتمال وجوه الأول وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال وإحضار الأموال العظيمة وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة الثاني أن قوله قل لا أقول لكم عندي خزائن الله هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدورات وقوله ولا أعلم بالغيب يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله ولا أقول لكم إني ملك معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على مل المقدروات والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم الثالث قوله ولا أقول لكم إني ملك لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير وحصول الاختلاف في الكل غير
وعاشرها قوله تعالى ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال قلنا الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في(2/204)
الصورة لأنه قال إن هذا إلا ملك كريم فشبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد صورته فثبت أن المراد تشبيه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى وإثبات ضد ذلك وهي حالة الملك وهي غض البصر وقمع عن الميل إلى المحرمات فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء والمؤمن والكافر على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر ولقائل أن يقول إن قول المرأة فذلكن الذي لمتنني فيه كالصريح في أن مراد النساء بقولهن إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة لأن ظهور عذرها في شدة عشقها إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإعراض عن المشتهيات فلم يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابا من الملائكة وذلك أنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح اقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء لكن لم قلتم إن ذلك يوجب المزيد في الفضل بمعنى كثرة الذنوب فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل فقد سبق الكلام عليه
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإنس والجن والشياطين ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 فائدة بل كان ينبغي أن يقال وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلا ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب وأيضا فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارا فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول فكذا ههنا وأيضا فقوله وفضلناهم الإسراء 70 يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية وهي قوله ولقد كرمنا بني آدم الإسراء 70 ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة والمبالغة في النظافة والطهارة وإذا كان كذلك فنحن نسلن أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم إن الملك أكثر ثوابا من البشر وأيضا فقوله خلق السموات بغير عمد ترونها لقمان 10 لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي وكذلك قوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به المؤمنون 117 يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا
الحجة الثانية عشرة الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا بدأوا بالاستغفار لأنفسهم ثم بعد ذلك(2/205)
لغيرهم من المؤمنين قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 وقال نوح عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا نوح 28 وقال إبراهيم عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي نوح 28 وقال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين الشعراء 83 وقال موسى رب اغفر لي ولأخي الأعراف 151 وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات محمد 19 وقال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الفتح 2 أما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر يدل عليه تعالى حكاية عنهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم غلفر 7 وقال ويستغفرون للذيم آمنوا غافر 7 فلو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير وقال عليه الصلاة والسلام { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر عنهم الزلة البتة وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك لا يوجب التفاوت في الفضيلة ومن الناس من قال استغفارهم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها
الحجة الثالثة عشرة قوله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين الانفطار 11 وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء غيرهم وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين الأول أنه تعالى جعلهم لبني آدم والحافظ للمكلف من المعصية لا بد وأن يكون أبعد عن الخطأ والزلل من المحفوظ وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضي مزيد الفضل والثاني أنه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الأمر بالعكس ولقائل أن يقول أما قوله الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فإن الملك قد يوكل بعض عبيده على ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك أما قوله جعل شهادتهم نافذة على البشر فضعيف لأن الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود عليه
الحجة الرابعة عشرة قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا النبأ 38 والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجاله ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى من الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى في هذا المقام ثم كما أنه سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكا بين عظمته في الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم الزمر 75 ولقائل أن يقول كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور فلم يجوز أن تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين فإن عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ثم إن هذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا ههنا
الحجة الخامسة عشرة قوله تعالى والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله البقرة 285(2/206)
فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان بهذه الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب وربع بالرسل وكذا في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم آل عمران 18 وقال إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا فوجب أن يكون قبيحا شرعا أما أنه قبيح عرفا فلأن الشاعر قال عميرة ودع إن تجهزت غاديا
كفى الشيب والإسلام للمء ناهيا
قال عمر بن الخطاب لو قدمت السلام لأجزتك ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو فالواو لا تفيد الترتيب وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد الحجة السادسة عشرة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة الحجة السابعة عشرة أن نتكلم في جبريل ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فنقول إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( التكوير 19 22 ) وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال أحدها كونه رسولاً لله وثانيها كونه كريماً على الله تعالى وثالثها كونه ذا قوة عند الله وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره ورابعها كونه مكيناً عند الله وخامسها كونه مطاعاً في عالم السموات وسادسها كونه أميناً في كل الطاعات مبرءاً عن أنواع الخيانات ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ولو كان محمد مساوياً لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارناً له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصاً من منصب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحقيراً لشأنه وإبطالاً لحقه وذلك غير جائز على الله فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام قلنا لأن قوله وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ يبطل ذلك ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعاً على أنه قد كان لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئاً من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن(2/207)
عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل ههنا لا يدل على عدمها بالإجماع أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة ههنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمداً عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة ههنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام ههنا بهذه الصفات الست وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً بصفات ست وهي قوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 45 46 ) فالوصف الأول كونه نبياً والثاني كونه رسولاً والثالث كونه شاهداً والرابع كونه مبشراً والخامس كونه نذيراً والسادس كونه داعياً إلى الله تعالى بإذنه والسابع كونه سراجاً والثامن كونه منيراً وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني الحجة الثامنة عشرة الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلماً لمحمد عليه السلام بدليل قوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى والمعلم لا بدّ وأن يكون أعلم من المتعلم وأيضاً فالعلوم قسمان أحدهما العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها لأنه عليه السلام أطول عمراً وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم وثانيها العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالماً بكل الشرائع الماضية والحاضرة وهو أيضاً عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بذلك فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علماً من محمد عليه الصلاة والسلام وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علماً منهم بدليل قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب فإنا نرى الرجل المبتدع محيطاً بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئاً من الثواب فضلاً عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مراراً عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر الحجة التاسعة عشرة قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) فهذه(2/208)
الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم أما قوله إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثواباً من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك الحجة العشرون قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى ( وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه ) وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضاً فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى الحجة الأولى قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه الاعتراض عليه لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعاً للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجوداً للملائكة ومن جه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم الحجة الثانية الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به الاعتراض لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضاً فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضاً فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا أكمل من درجاتهم حين قالت أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة 30 ) وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى ( لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين )(2/209)
الحجة الثالثة الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة الاعتراض لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل الحجة الرابعة الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك الاعتراض المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدىء الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في ( كتاب كليلة ودمنة ) الحجة الخامسة الروحانيات نورانية علوية لطيفة والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة والعلوي خير من السفلي واللطيف أكمل من الكثيف الاعتراض هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سببب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل الحجة السادسة الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور وأيضاً فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة وعلوم البشر على الضد في كل ذلك وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائماً يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآحر الاعتراض لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن ههنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أياماً كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن(2/210)
كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر الحجة السابعة الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليباً وتصريفاً لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) والعقول أيضاً دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر الاعتراض لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس الحجة الثامنة الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عزّ وجلّ متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها البتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه الاعتراض هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادىء لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذٍ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لاسيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة الاعتراض كل ما ذكرتموه(2/211)
منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باقٍ بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر الحجة العاشرة قالوا الروحانيات الفلكية مبادىء لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالاً من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضاً فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية الاعتراض هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد الحجة الحادية عشرة أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور الحجة الثانية عشرة التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضاً فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران أحدهما الناطق الذي لا يكون مائتاً وهو الملك والآخر المائت الذي لا يكون ناطقاً وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود الاعتراض أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثواباً فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور أحدهما أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة وثانيها أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مقامه في الولاية والتصرف وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 12 ) ثم أكد هذا التعميم بقوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة(2/212)
لجزائه وصارت الشياطين معلونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال وثالثها أن آدم عليه السلام كان أعلم والعلم أفضل أم إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( البقرة 32 ) فعند ذلك قال الله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ورابعها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علماً على الله ودالاً عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ منعاه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة فإن قيل يشكل هذا بقوله تعالى راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذا ههنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( آل عمران 42 ) ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا ههنا قلنا الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجوداً في ذلك الزمان ولما لم يكن موجوداً لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجوداً حين قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضاً فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم وخامسها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم وسادسها أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه الأول أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوى أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة(2/213)
واحدة الثاني أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص الثالث أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسباباً لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السموات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع الرابع أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا ههنا وسابعها أن الله تعالى خلق الملائكة عقولاً بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئاً بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر وثامنها أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة وتاسعها ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام ( إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر ) فدل هذا الخبر على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمداً أفضل من الملك هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا قد سبق بيان أن من الناس من قال المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيراً من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك وأيضاً أليس(2/214)
من مذهبنا أنه ( يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ) وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وأما الحجة الثالثة فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالماً بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالماً بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان عالماً بهذه اللغات بأسرها وأيضاً فإن إبليس كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم عليه السلام لم يكن عالماً ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر أما الحجة الرابعة فهي أقوى الوجوه المذكورة أما الحجة الخامسة وهي قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلا يلزم من كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر وأما الحجة السادسة وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر أما الحجة السابعة فهي جمع بين الطرفين من غير جامع وأما الحجة الثامنة وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند وأما الوجهان الآخران فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق
المسألة الخامسة اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذوراً في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع(2/215)
الاختيار أما من لم يكن قادراً على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه أحدها أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه وثانيها أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه وثالثها قال تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لا يفعل ما لا يقدرعليه ورابعها أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضاً صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذٍ يلزمك كل ما أوردته علينا أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه فيا أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذٍ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا
المسألة السادسة للعقلاء في قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قولان أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً وفي تقرير هذاالقول وجهان أحدهما حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى ( بالملل والنحل ) عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة الأولى ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالماً بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام الثاني ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف الثالث هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم الرابع ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر الخامس ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم(2/216)
وإضلالهم السابع ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً قال شارح الأناجيل فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء يا إبليس إنك ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا عتراض على في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصاً وكان الكل لازماً أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات إذ لو افتقر لكان فقيراً لا غنياً فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات ومن عنده نيل الطلبات وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته وما أحسن ما قال بعضهم جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال فهذا القائل أجرى قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ على ظاهره وقال إنه كان كافراً منافقاً منذ كان الوجه الثاني في تقرير أنه كان كافراً أبداً قول أصحاب الموافاة وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر فأما أن يبقى الاستحقاقان معاً وهو محال على ما بيناه أو يكون الطارىء مزيلاً للسابق وهو أيضاً محال لأن القول بالإحباط باطل فلم يبق إلا أن يقال إن هذا الفرض محال وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أن الذي صدر عنه أولاً ما كان إيماناً إذا ثبت هذا فنقول لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فمنهم من قال معناه وكان من الكافرين في علم الله تعالى أي كان عالماً في الأزل بأنه سيكفر فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم والوجه الثاني أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً قبل ذلك فبعد مضى كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة الوجه الثالث المراد من كان صار أي وصار من الكافرين وههنا أبحاث البحث الأول اختلفوا في أن قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين قال قوم إنه يدل عليه لأن كلمة من للتبعيض فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضاً لهم والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال ( إن الله تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فقالوا لا نفعل ذلك فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا ) وقال آخرون هذه الآية لا تدل على ذلك ثم لهم في تفسير الآية وجهان أحدهما معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم وذكر في مثاله قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا(2/217)
لما كان الكفر ظاهراً من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله وكان من الكافرين وثانيها أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة واعلم أنه يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله
البحث الثاني أن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر وأما عند الخوارج فكل معصية كفر وهم تمسكوا بهذه الآية قالوا إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية فدل على أن المعصية كفر الجواب إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل وإن قلنا إنه كان مؤمناً فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ والله أعلم
المسألة السابعة قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين الأول أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الثاني هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلاً في ذلك الحكم ومن الناس من أنكر ذلك وقال المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات(2/218)
بداية الجزء الثالث من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(3/2)
وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله اسْكُنْ أمرتكليف أو إباحة فالمروي عن قتاده أنه قال إن الله تعالى ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنة يأكل منها حيث شاء ونهاه عن شجرة واحدة إن يأكل منها فما زالت به البلايا حتى وقع فيم نهى عنه فبدت سوأته عند ذلك وأهبط من الجنة وأسكن موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع أن منعه من تناوله من أشد التكاليف وقال آخرون إن ذلك إباحة لأن الاستقرار في المواضع الطيبة النزهة التي يتمتع فيها يدخل تحت التعبد كما أن أكل الطيبات لا يدخل تحت التعبد ولا يكون قوله كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( الأعراف 16 ) أمراً وتكليفاً بل إباحة والأصح أن ذلك الإسكان مشتمل على ما هو إباحة وعلى ما هو تكليف أما الإباحة فهو أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في الانتفاع بجميع نعم الجنة وأما التكليف فهو أن المنهى عنه كان حاضراً وهو كان ممنوعاً عن تناوله قال بعضهم لو قال رجل لغيره أسكنتك داري لا تصير الدار ملكاً له فههنا لم يقل الله تعالى وهبت منك الجنة بل قال أسكنتك الجنة وإنما لم يقل ذلك لأنه خلقه لخلافة الأرض فكان إسكان الجنة كالتقدمة على ذلك
المسألة الثانية أن الله تعالى لما أمر الكل بالسجود لآدم وأبى إبليس السجود صيره الله ملعوناً ثم أمر آدم بأن يسكنها مع زوجته واختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه فذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فبقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها من أنت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إليّ فقالت الملائكة ما اسمها قالوا حواء ولم سميت حواء قال لأنها خلقت من شيء حي وعن(3/3)
عمر وابن عباس رضي الله عنهما قال بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخال آدم الجنة والخبر الأول يدل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بالحقيقة
المسألة الثالثة أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك وأنها مخلوقة منه كما قال الله تعالى في سورة النساء الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وفي الأعراف وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) وروى الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت )
المسألة الرابعة اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى قعة كما في قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 ) واحتجا عليه بوجوه أحدها أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 120 ) ولما صح قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وثانيها أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ( الحجر 48 ) وثالثها أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد ورابعها أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) ولقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا إلى أن قال عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( هود 108 ) أي غير مقطوع فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت لكنها تفنى لقوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات وخامسها أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد وسادسها لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم فدل ذلك على أنه لم يحصل وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ جنة أخرى غير جنة الخلد القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى اهْبِطُواْ مِنْهَا ( البقرة 38 ) ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى والإهباط الثاني كان من السماء إلى(3/4)
الأرض القول الثالث وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ إليها والقول الرابع أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار و ( أنت ) تأكيد للمستكن في ( اسكن ) ليصح العطف عليه و ( رغداً ) وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و ( حيث ) للمكان المبهم أي أي مكان من الجنة شئتما فالمراد من الآية إطلاق الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من بين أشجارها الكثيرة
المسألة السادسة لقائل أن يقول إنه تعالى قال ههنا وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وقال في الأعراف فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ( الأعراف 19 ) فعطف كَلاَّ على قوله اسْكُنْ في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة والجواب كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط وذلك الشيء بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى وَإِذَا قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ( البقرة 58 ) فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها فالدخول موصل إلى الأكل والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ( الأعراف 161 ) فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه وإن كان مجتازاً فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء إذا ثبت هذا فنقول إن اسْكُنْ يقال لمن دخل مكاناً فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه ويقال أيضاً لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه ففي سورة البقرة هذه الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم
المسألة السابعة قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ لا شبهة في أنه نهى ولكن فيه بحثان الأول أن هذا نهي تحريم أو نهي تنزيه فيه خلاف فقال قائلون هذه الصيغة لنهي التنزيه وذلك لأن هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه وأخرى في التحريم والأصل عدم الاشتراك فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وما ذلك إلا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل أو على الإطلاق فيه لكن الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل فإن الأصل في المنافع الإباحة فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه قالوا وهذا هو الأولى بهذا المقام لأن على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى ومعلوم أن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول وقال آخرون بل هذا النهي نهي(3/5)
تحريم واحتجوا عليه بأمور أحدها أن قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ كقوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( البقرة 222 ) وقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول وثانيها أنه قال فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وثالثها أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه والجواب عن الأول نقول إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ولكنه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة وعن الثاني أن قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ أي فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان إلى موضع ليس لكما فيه شيء من هذا وعن الثالث أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنة كان لهذا السبب وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
البحث الثاني قال قائلون قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ يفيد بفحواه النهي عن الأكل وهذا ضعيف لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا ( الأعراف 22 ) ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة
المسألة الثامنة اختلفوا في الشجرة ما هي فروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها البر والسنبلة وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الشجرة فقال هي الشجرة المباركة السنبلة وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود أنها الكرم وعن مجاهد وقتادة أنها التين وقال الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضاً إلى بيانه لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً في الكلام لا يجب على الحكيم أن يبينه بل ربما كان بيانه عبثاً لأن أحدنا لو أراد أن يقيم العذر لغيره في التأخر فقال شغلت بضرب علماني لإساءتهم الأدب لكان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين هذا الغلام ويذكر اسمه وصفته فليس لأحد أن يظن أنه وقع ههنا تقصير في البيان ثم قال بعضهم الأقرب في لفظ الشجرة أن يتناول ماله ساق وأغصان وقيل لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ ( الصافات 146 ) مع أنها كالزرع والبطيخ فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً قال المبرد وأحسب أن كل ما تفرعت له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً في وقت تشعبه وأصل هذا أنه كل ما شجر أي أخذ يمنه ويسرة يقال رأيت فلاناً في شجرته الرماح وقال تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) وتشاجر الرجلان في أمر كذا
المسألة التاسعة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره(3/6)
فظلم النفس أعم وأعظم ثم اختلف الناس ههنا على ثلاثة أقوال الأول قول الحشوية الذين قالوا إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلماً الثاني قوله المعتزلة الذين قالوا إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان أحدهما قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي وثانيهما قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصاً فيما قد استحقه الثالث قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقاً وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة فإنه يقال له يا ظالم نفسه لم فعلت ذلك فإن قيل هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم والجواب أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
قال صاحب الكشاف فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة عَنْ في هذه الآية كهي في قوله تعالى وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ( الكهف 82 ) قال القفال رحمه الله هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولاً عن ذلك الموضع ومن قرأ فأزالهما فهو من الزوال عن المكان وحكي عن أبي معاذ أنه قال يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد أي حولتك عنه وقال بعض العلماء أزلهما الشيطان أي استنزلهما فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه واعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما يقع في باب الاعتقاد وثانيها ما يقع في باب التبليغ وثالثها ما يقع في باب الأحكام والفتيا ورابعها ما يقع في أفعالهم وسيرتهم أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة وقالت الفضيلية من الخوارج إنهم قد وقعت منهم الذنوب والذنب عندهم كفر وشرك فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية
أما النوع الثاني وهو ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً كما لا يجوز أيضاً سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن
وأما النوع الثالث وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون(3/7)
وأما النوع الرابع وهو الذي يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال أحدها قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية والثاني قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة القول الثالث أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي القول الرابع أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم القول الخامس أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ وهو مذهب الرافضة واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال أحدها قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة وثانيها قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة وهو قول كثير من المعتزلة وثالثها قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة أما قبل النبوة فجائز وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة لا الكبيرة ولا الصغيرة ويدل عليه وجوه أحدها لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذاك بالإجماع وثانيها أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ( الحجرات 6 ) لكنه مقبول الشهادة وإلا كان أقل حالاً من عدول الأمة وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك وأيضاً فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثالثها أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها فلم يكن إيذاؤه محرماً لكنه محرم لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( الأحزاب 57 ) ورابعها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى فَاتَّبِعُونِى فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال وإذا ثبت ذلك حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثبت أيضاً في سائر الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق وخامسها أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحاً للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده هذا معلوم القبح بالضرورة وسادسها أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ(3/8)
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ( الجن 23 ) ولا استحقوا اللعن لقوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وأجمعت الأمة على أن أحداً من الأنبياء لم يكن مستحقاً للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه وسابعها أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( البقرة 44 ) وقال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ( هود 88 ) فما لا يلق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام وثامنها قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وتاسعها قوله تعالى وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 ) وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال فلاناً من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته فثبت أنهم كانوا أخياراً في كل الأمور وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وقال اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وقال في إبراهيم وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) وقال في موسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) وقال وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 45 47 ) فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالأصطفاء والخيرية وذلك ينافي صدور الذنب عنهم عاشرها أنه تعالى حكى عن إبليس قوله فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( ص 46 ) وقال في يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق والحادي عشر قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال إنه ما صدر الذنب عنهم إلا فقد كانوا متبعين له وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنيباء أو غيرهم فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق فيكون غير النبي أفضل من النبي وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم الثاني عشر أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ وقال في الصنف الآخر أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه(3/9)
من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله وأنهم من المفلحين فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول وهذا لا يقوله مسلم الثالث عشر أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لايصدر الذنب من الرسول وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر وإنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) وقال لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
الرابع عشر روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وفق دعواه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف شهدت لي ) فقال يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات أفلا أصدقك في هذا القدر فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة
الخامس عشر قال في حق إبراهيم عليه السلام إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض
السادس عشر قوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ويقتدى به والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنباً أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناه بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة أولها تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) إلى آخر الآية قالوا لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عما يشركون هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى يقتضي صدور الشرك عنهما والجواب لا نسلن أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول الخطاب لقريش وهم آل قصي والمعنى خلقكم من تفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاها ما طلبا من الولد الصالح سيما أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد(3/10)
وثانيها قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر أما الأول فلأنه قال في الكواكب هذا ربي الأنعام 77 وأما الثاني فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي ( البقرة 260 ) والجواب أما قوله هَاذَا رَبّى فهو استفهام على سبيل الإنكار وأما قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة وثالثها تمسكوا بقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( يونس 94 ) فدلت الآية على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان في شك مما أوحى إليه والجواب أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل
أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة أحدها قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 8 ) فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي الجواب ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى وثانيها قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء وثالثها قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( الجن 26 28 ) قالوا فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة والجواب لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة أحدها قوله وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ ( الأنبياء 78 ) وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء وثانيها ( قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ ( الأنفال 67 ) فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب وثالثها قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) والجواب عن الكل أنا نحمله على ترك الأولى
أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة أولها قصة آدم عليه السلام تمسكوا بها من سبعة أوجه الأول أنه كان عاصياً والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة وإنما قلنا إنه كان عاصياً لقوله تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين الأول أن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك الثاني أن صاحب الكبيرة الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاوياً لقوله تعالى فَغَوَى العاصي اسم ذم فوجب أن لا يتناول إلا والغي ضد الرشد لقوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) فجعل الغي مقابلاً للرشد الوجه الثالث أنه تائب والتائب مذنب وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) وقال ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ ( طه 122 ) وإنما قلنا التائب مذنب لأن التائب(3/11)
هو النادم على فعل الذنب والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً الذنب فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب الوجه الرابع أنه ارتكب المنهي عنه في قوله أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ ( الأعراف 22 ) وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( الأعراف 19 ) وارتكاب المنهى عنه عين الذنب الوجه الخامس سماه ظالماً في قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) وهو سمى نفسه ظالماً في قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والظالم معلون لقوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة الوجه السادس أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسراً في قوله وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة وسابعها أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة ثم قالوا هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلاً للكبيرة لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعاً في الدلالة عليه ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالاً على الشيء والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال إن آدم عليه السلام حالما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبياً ثم بعد ذلك صار نبياً ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات ولنذكر ههنا كيفية تلك الزلة ليظهر مراد الله تعالى من قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فنقول لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم عليه السلام بعد النبوة فإقدامه على ذلك الفعل إما أن يكون حال كونه ناسياً أو حال كونه ذاكراً أما الأول وهو أنه فعله ناسياً فهو قول طائفة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهياً عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو ( لا ) عن قصد لا يقال هذا باطل من وجهين الأول أن قوله تعالى مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ وقوله وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 20 21 ) يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام وروى عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى أفراراً مني فقال بل حياء منك فقال له أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك قال بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحداً يحلف بك كاذباً فقال وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كداً الثاني وهو أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 276 ) وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث ) فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل(3/12)
النسيان لأنا نقول أما الجواب عن الأول فهو أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة لأن إبليس لما قال لهما مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحاً لهما وأن الرب تعالى قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد وأيضاً كان آدم عليه السلام عالماً بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضاً له وحاسداً له على ما آتاه الله من النعم فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده ويدل على أن آدم كان عالماً بعداوته لقوله تعالى إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) وأما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد فكيف يعارض القرآن وأما الجواب عن الثاني فهو أن العتاب إنما حصل على ترك التحفظ من أسباب النسيان وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى كَرِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 ) ثم قال مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وقال أيضاً ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم قلنا أما سمعت ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ولقد كان على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة فإذا حملنا الشجرة على البر كان مأذوناً في تناول الخمر ولقائل أن يقول إن خمر الجنة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) أما القول الثاني وهو أنه عليه السلام فعله عامداً فههنا أربعة أقوال أحدها أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته الثاني أنه كان ذلك عمداً من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبياً وقد عرفت فساد هذا القول الثالث أنه عليه السلام فعله عمداً لكن كان معه من الوجل والفزع والأشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة وهذا القول أيضاً باطل بالدلائل المتقدمة لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصياً مستحقاً للعن والذم والخلود في النار ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وذلك ينافي العمدية القول الرابع وهو اختيار أكثر المعتزلة أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فلفظ هَاذِهِ(3/13)
قد يشار به إلى الشخص وقد يشار به إلى النوع وروي أنه عليه السلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال ( هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم ) وأراد به نوعهما وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وأراد نوعه فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( البقرة 35 ) ( الأعراف 19 ) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع إلا أنه كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة هَاذِهِ كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا فإن قيل الكلام على هذا القول من وجوه أحدها أن كلمة هَاذَا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئاً معيناً فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع فذاك على خلاف الأصل وأيضاً فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا محالة إذا ثبت هذا فنقول المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته فآدم عليه السلام لما حمل لفظ هَاذَا على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين أحدهما أن قوله وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ( البقرة 35 ) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل والثاني أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذوناً له في الانتفاع بسائر الأشجار وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتاباً وأن يحكم عليه بكونه مخطئاً فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيباً لا مخطئاً وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل الوجه الثاني في الاعتراض على هذا التأويل هب أن لفظ هَاذَا متردد بين الشخص والنوع ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك فإن كان الأول فأما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان فحينئذ يكون قد أتى بالذنب وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداماً على الذنب قصداً الوجه الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية الوجه الرابع هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيراً وحينئذ يعود الإشكال وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلاً وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطىء فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض والجواب عن الأول(3/14)
أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع والجواب عن الثاني هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال أو يقال إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج والجواب عن الثالث أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد فأنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها لكنه قد نسيها وهو المراد من قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً والجواب عن الرابع يمكن أن يقال كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذراً في أن لا يصير الذنب كبيراً أو يقال كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة فكذا ههنا واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ونهاهما معاً فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها لأن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الإنفراد فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه فهذا جملة ما يقال في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة وذكروا فيه وجوهاً أحدها قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها وجعل رزقها في التراب وصارت عدواً لبني آدم واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة وثانيها أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة وهذا القول أقل فساداً من الأول وثالثها قال بعض أهل الأصول إن آدم وحواء عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما ورابعها هو قول الحسن أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة قال بعضهم هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفي والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء واختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه(3/15)
حجة القول الأول قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) وذلك يقتضي المشافهة وكذا قوله فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( الأعراف 22 ) وحجة القول الثاني أن آدم وحواء عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس بقي ههنا سؤالان السؤال الأول أن الله تعالى قد أضاف هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل قلنا معنى قوله فَأَزَلَّهُمَا أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) فقال تعالى حاكياً عن إبليس وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) هذا ما قاله المعتزلة والتحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مراراً أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدراً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحة فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلاً بالفعل فلهذا المعنى انضاف الفعل ههنا إلى الوسوسة وما أحسن ما قال بعض العارفين إن زلة آدم عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس فمعصية إبليس حصلت بوسوسة منا وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( الأعراف 155 ) السؤال الثاني كيف كانت تلك الوسوسة الجواب أنها هي التي حكى الله تعالى عنها في قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) فلم يقبلا ذلك منه فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) فلم يصدقاه أيضاً والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي فعند ذلك حصل ما حصل والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت
أما قوله تعالى وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من قال إن جنة آدم كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل ومن قال إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره كقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 )
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم وحواء عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوهاً الأول وهو قول الأكثرين أن إبليس داخل فيه أيضاً قالوا لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا
وأما قوله تعالى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهذا تعريف لأدم وحواء عليهما السلام أن إبليس عدو لهما ولذريتهما كما عرفهما ذلك قبل الأكل من الشجرة فقال فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فإن قيل إن إبليس لما أبى من السجود صار كافراً وأخرج من الجنة وقيل له(3/16)
فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ( الأعراف 13 ) وقال أيضاً فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( ص 77 ( الحجر 34 ) وإنما اهبط منها لأجل تكبره فزلة آدم عليه السلام إنما وقعت بعد ذلك بمدة طويلة ثم أمر بالهبوط بسبب الزلة فلما حصل هبوط إبليس قبل ذلك كيف يكون قوله اهْبِطُواْ متناولاً له قلنا إن الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض فلعله عاد إلى السماء مر أخرى لأجل أن يوسوس إلى آدم وحواء فحين كان آدم وحواء في الجنة قال الله تعالى لهما اهْبِطَا فلما خرجا من الجنة واجتمع إبليس معهما خارج الجنة أمر الكل فقال اهْبِطُواْ ومن الناس من قال ليس معنى قوله اهْبِطُواْ أنه قال ذلك لهم دفعة واحدة بل قال ذلك لكل واحد منهم على حدة في وقت الوجه الثاني أن المراد آدم وحواء والحية وهذا ضعيف لأنه ثبت بالإجماع أن المكلفين هم الملائكة والجن والإنس ولقائل أن يمنع هذا الإجماع فإن من الناس من يقول قد يحصل في غيرهم جمع من المكلفين على ما قال تعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وقال سليمان للهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 ) الثالث المراد آدم وحواء وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم والدليل عليه قوله اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا ( البقرة 36 38 ) ويدل عليه أيضاً قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 38 39 ) وهذا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض واعلم أن هذا القول ضعيف لأن الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب أما من زعم أن أقل الجمع اثنان فالسؤال زائل على قوله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله اهْبِطُواْ أمر أو إباحة والأشبه أنه أمر لأن فيه مشقة شديدة لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا تحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف وإذا ثبت هذا بطل ما يظن أن ذلك عقوبة لأن التشديد في التكليف سبب للثواب فكيف يكون عقاباً مع ما فيه من النفع العظيم فإن قيل ألستم تقولون في الحدود وكثير من الكفارات إنها عقوبات وإن كانت من باب التكاليف قلنا أما الحدود فهي واقعة بالمحدود من فعل الغير فيجوز أن تكون عقاباً إذا كان الرجل مصراً وأما الكفارات فإنما يقال في بعضها إنه يجري مجرى العقوبات لأنها لا تثبت إلا مع المأثم فأما أن تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب العظيم فلا
المسألة الرابعة أن قوله تعالى اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أمر بالهبوط وليس أمراً بالعداوة لأن عداوة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام بسبب الحسد والاستكبار عن السجود واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة وعداوته لذريتهما بإلقاء الوسوسة والدعوة إلى الكفر والمعصية وشيء من ذلك لا يجوز أن يكون مأموراً به فأما عداوة آدم لإبليس فإنها مأمور بها لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) وقال تعالى يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 ) إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو
المسألة الخامسة المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 12 ) وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً(3/17)
( الفرقان 24 ) وقال تعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ( الأنعام 98 ) إذا عرفت هذا فنقول الأكثرون حملوا قوله تعالى وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ ( البقرة 36 ) ( الأعراف 24 ) على المكان والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المستقر هو القبر أي قبوركم تكونون فيها والأول أولى لأنه تعالى قدر المتاع وذلك لا يليق إلا بحال الحياة ولأنه تعالى خاطبهم بذلك عند الإهباط وذلك يقتضي حال الحياة واعلم أنه تعالى قال في سورة الأعراف في هذه القصة قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( الأعراف 24 25 ) فيجوز أن يكون قوله فِيهَا تَحْيَوْنَ إلى آخر الكلام بياناً لقوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ويجوز أن يكون زيادة على الأول
المسألة السادسة اختلفوا في معنى الحين بعد اتفاقهم على أنه اسم للزمان والأولى أن يراد به الممتد من الزمان لأن الرجل يقول لصاحبه ما رأيتك منذ حين إذا بعدت مشاهدته له ولا يقال ذلك مع قرب المشاهدة فلما كانت أعمار الناس طويلة وآجالهم عن أوائل حدوثهم متباعدة جاز أن يقول وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
المسألة السابعة اعلم أن في هذه الآيات تحذيراً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه أحدها أن من تصور ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر يا ناظراً يرنو بعيني راقد
ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى
درك الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدما
منها إلى الدنيا بذنب واحد
وعن فتح الموصلي أنه قال كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها وثانيها التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص عن قتادة في قوله تعالى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) قال حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال أنا ناري وهذا طيني ثم ألقى الحرص في قلب آدم حتى حمله على ارتكاب المنهى عنه ثم ألقى الحسد في قلب قابيل حتى قتل هابيل وثالثها أنه سبحانه وتعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وإبليس وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر
فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قال القفال أصل التلقي هو التعرض للقاء ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي ثم يوضع موضع القبول والأخذ قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( النمل 6 )(3/18)
أي تلقنه ويقال تلقينا الحجاج أي استقبلناهم ويقال تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه وإذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوصف بذلك فيقال كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وجاز أن يقال تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وفي قراءة ابن مسعود ( الظالمون )
المسألة الثانية اعلن أنه لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يجب حمله على أحد الأمور أحدها التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين وثانيها أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه قال الله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ أي أخذها وقبلها وعمل بها وثالثها أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة ورابعها أنه تعالى علمه كلاماً لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سبباً لكمال حال التوبة
المسألة الثالثة اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة قال بلى قال يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك قال بلى قال ألم تسكني جنتك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة قال بلى فهو قوله فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ وزاد السدي فيه يا رب هل كنت كتبت علي ذنباً قال نعم وثانيها قال النخعي أتيت ابن عباس فقلت ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه قال علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما وثالثها قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) ورابعها قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم وخامسها قالت عائشة لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعاً والبيت يومئذ ربوة حمراء فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي فأوحى الله تعالى إلى آدم يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها
المسألة الرابعة قال الغزالي رحمه الله التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة علم وحال وعمل فالعلم أول والحال ثان والعمل ثالث والأول موجب للثاني والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضته سنة الله(3/19)
في الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر بفوات المحبوب تألم فإذا كان فواته يفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندماً ثم إن ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول ( على التوبة ) ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال عليه السلام ( الندم توبة ) إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفاً بطرفيه أعني مثمره وثمرته فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن وقال القفال لا بد في التوبة من ترك ذلك الذنب ومن الندم على ما سبق ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله ومن الاشفاق فيما بين ذلك كله أما أنه لا بد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلاً له فلا يكون تائباً وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضياً بكونه فاعلاً له والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائباً عنه وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية والعزم على المعصية معصية وأما الأشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفاً ولهذا قال تعالى يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وقال عليه السلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) واعلم أن كلام الغزالي رحمه الله أبين وأدخل في التحقيق إلا أنه يتوجه عليه إشكال وهو أن العلم بكون الفعل الفلاني ضرراً مع العلم بأن ذلك الفعل صدر منه يوجب تألم القلب وذلك التألم يوجب إرادة الترك في الحال والاستقبال وإرادة تلافي ما حصل منه في الماضي وإذا كان بعض هذه الأشياء مرتباً على البعض ترتباً ضرورياً لم يكن ذلك داخلاً تحت قدرته فاستحال أن يكون مأموراً به والحاصل أن الداخل في الوسع ليس إلا تحصيل العلم فأما ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل لكن لقائل أن يقول تحصيل العلم ليس أيضاً في الوسع لأن تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلا بواسطة معلومات متقدمة على ذلك المجهول فتلك العلوم الحاضرة المتوسل بها إلى اكتساب ذلك المجهول إما أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول أو لم تكن مستلزمة فإن كان الأول كان ترتب المتوسل إليه على المتوسل به ضرورياً فلا يكون ذلك داخلاً في القدرة والاختيار وإن كان الثاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة لأن المقدمات القريبة لا بد وأن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذهن تسليم المطلوب فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدمات منتجة لتلك النتيجة فإن(3/20)
قيل لم لا يجوز أن يقال تلك المقدمات وإن كانت حاضرة في الذهن إلا أن كيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة غير حاضرة في الذهن فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدمات العلم بتلك النتيجة لا محالة قلنا العلم بكيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة إما أن يكون من البديهيات أو من الكسبيات فإن كان من البديهيات لم يكن في وسعه وإن كان من الكسبيات كان القول في كيفية اكتسابه كما في الأول فإما أن يفضي إلى التسلسل وهو محال أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور والله أعلم
المسألة الخامسة سأل القاضي عبد الجبار نفسه فقال إذا كانت هذه المعصية صغيرة فكيف تلزم التوبة وأجاب بأن أبا علي قال إنها تلزمه لأن المكلف متى علم أنه قد عصى لم يحد فيما بعد وهو مختار ولا مانع من أن يكون نادماً أو مصراً لكن الإصرار قبيح فلا تتم مفارقته لهذا القبيح إلا بالتوبة فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة وسواء ذكرها وقد تاب عنها من قبل أو لم يتب أما أبو هاشم فإنه يجوز أن يخلو العاصي من التوبة والإصرار ويقول لا يصح أن تكون التوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال فإما أن تجب لأن بالصغيرة قد نقص ثوابهم فيعود ذلك النقصان بالتوبة وإما لأن التوبة نازلة منزلة الترك فإذا كان الترك واجباً عند الإمكان فلا بد من وجوب التوبة مع عدم الإمكان وربما قال تجب التوبة عليهم من جهة السمع وهذا هو الأصح على قوله لأن التوبة لا يجوز أن تجب لعود الثواب الذي هو المنافع فقط لأن الفعل لا يجوز أن يجب لأجل جلب المنافع كما لا تجب النوافل بل الأنبياء عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى صار أحد أسباب عصمتهم التشديد عليهم في التوبة حالاً بعد حال وإن كانت معاصيهم صغيرة
المسألة السادسة قال القفال أصل التوبة الرجوع كالأوبة يقال توب كما يقال أوب قال الله تعالى وَقَابِلِ التَّوْبِ فقولهم تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً فهو تائب وتواب كقولهم آب يؤوب أوباً وأوبة فهو آيب وأواب والتوبة لفظة يشترك فيها الرب والعبد فإذا وصف بها العبد فالمعنى رجع إلى ربه لأن كل عاصٍ فهو في معنى الهارب من ربه فإذا تاب فقد رجع عن هربه إلى ربه فيقال تاب إلى ربه والرب في هذه الحالة كالمعرض عن عبده وإذا وصف بها الرب تعالى فالمعنى أنه رجع على عبده برحمته وفضله ولهذا السبب وقع الاختلاف في الصلة فقيل في العبد تاب إلى ربه وفي الرب على عبده وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفه عنده ثم يراجع خدمته فيقال فلان عاد إلى الأمير والأمير عاد عليه بإحسانه ومعروفه إذا عرفت هذا فنقول قبول التوبة يكون بوجهين أحدهما أن يثيب عليها الثواب العظيم كما أن قبول الطاعة يراد به ذلك والثاني أنه تعالى يغفر ذنوبه بسبب التوبة
المسألة السابعة المراد من وصف الله تعالى بالتواب المبالغة في قبول التوبة وذلك من وجهين الأول أن واحداً من ملوك الدنيا متى جنى عليه إنسان ثم اعتذر إليه فإنه يقبل الاعتذار ثم إذا عاد إلى الجناية وإلى الاعتذار مرة أخرى فإنه لا يقبله لأن طبعه يمنعه من قبول العذر أما الله سبحانه وتعالى فإنه بخلاف(3/21)
ذلك فإنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرر بل إنما يقبلها لمحض الإحسان والتفضل فلو عصى المكلف كل ساعة ثم تاب وبقي على هذه الحالة العمر الطويل لكان الله تعالى يغفر له ما قد سلف ويقبل توبته فصار تعالى مستحقاً للمبالغة في قبول التوبة فوصف بأنه تعالى تواب الثاني أن الذين يتوبون إلى الله تعالى فإنه يكثر عددهم فإذا قبل توبة الجميع استحق المبالغة في ذلك ولما كان قبول التوبة مع إزالة العقاب يقتضي حصول الثواب وكان الثواب من جهته نعمة ورحمة وصف نفسه مع كونه تواباً بأنه رحيم
المسألة الثامنة في هذه الآية فوائد إحداها أنه لا بد وأن يكون العبد مشتغلاً بالتوبة في كل حين وأوان لما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار أما الأحاديث ( أ ) روي أن رجلاً سأل أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه عن الرجل يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر فقال أمير المؤمنين يستغفر أبداً حتى يكون الشيطان هو الخاسر فيقول لا طاقة لي معه وقال علي كلما قدرت أن تطرحه في ورطة وتتخلص منها فافعل ( ب ) وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ( ج ) وعن ابن عمر قال عليه الصلاة والسلام توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة ( د ) وأبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام حين أنزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً ) أخرجاه في الصحيح ( ه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم مائة مرة )
واعلم أن الغين شيء يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الجو فلا يحجب عن الشمس ولكن يمنع كمال ضوئها ثم ذكروا لهذا الحديث تأويلات أحدها أن الله تعالى أطلع نبيه على ما يكون في أمته من بعده من الخلاف وما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غيماً في قلبه فاستغفر لأمته وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فكان الاستغفار لذلك وثالثها أن الغيم عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية فإذا عاد إلى الصحو كان الاستغفار من ذلك الصحو وهو تأويل أرباب الحقيقة ورابعها وهو تأويل أهل الظاهر أن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات وأنواع الميل والإرادات فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر ( و ) أبو هريرة قال قال عمر رضي الله عنه في قوله تعالى تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) إنه هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو أن يهجر الذنب ويعزم على أن لا يعود إليه أبداً ( ز ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاكياً عن الله تعالى يقول لملائكته ( إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها وإذا هم بالسيئة فعملها فاكتبوها سيئة واحدة فإن تركها فاكتبوها له حسنة ) رواه مسلم ( ح ) روي أن جبريل عليه السلام سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول يا كريم العفو فقال جبريل أو تدري ما كريم العفو فقال لا يا جبريل(3/22)
قال أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة ( ط ) أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام ( من استفتح أول نهاره بالخير وختمه بالخير قال الله تعالى للملائكة لا تكتبوا على عبدي ما بين ذلك من الذنوب )
( ي ) عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه الصلاة والسلام ( كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قد قتل تسعة وتسعين نفساً فهل للقاتل من توبة فقال لا فقتله فكمل المائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه فقال إنه قتل مائة نفس فهل من توبة فقال نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناساً يعبدون الله تعالى فاعبده معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى أتى نصف الطريق فأتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي وتوسط بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ) رواه مسلم ( يا ) ثابت البناني بلغنا أن إبليس قال يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه وعلى ولده فقال الله سبحانه وتعالى ( جعلت صدورهم مساكن لك ) فقال رب زدني فقال لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة قال رب زدني قال تجري منه مجرى الدم قال رب زدني قال وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ ( الإسراء 6 ) قال فعندها شكا آدم إبليس إلى ربه تعالى فقال يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطه علي وعلى ذريتي وأنا لا أطيقه إلا بك فقال الله تعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها قال رب زدني قال لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ) ( يب ) أبو موسى الأشعري قال قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وبالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم ( يج ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر له ) ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ إلى قوله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( البقرة 135 ) ( يد ) أبو إمامة قال بينا أنا قاعد عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي قال فأعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك وأقيمت الصلاة فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى ثم خرج قال أبو أمامة فكنت أمشي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرجل يتبعه ويقول يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال عليه السلام ( أليس حين خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء قال بلى يا رسول قال وشهدت معنا هذه الصلاة قال بلى يا رسول الله قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذبنك ) رواه مسلم ( يه ) عبد الله قال جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال يا رسول الله إني عالجت امرأة من أقصى المدينة وإني أصبت ماء دون أن أمسها فها أنا ذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك فلم يرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فقام الرجل فانطلق فدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليه هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) فقال واحد من القوم يا نبي الله هذا له خاصة قال بل للناس عامة رواه(3/23)
مسلم ( يو ) أبو هريرة قال قال عليه السلام ( إن عبداً أصاب ذنباً فقال يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه إن عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فقال له ربه غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) أخرجاه في الصحيح ( يز ) أبو بكر قال قال عليه الصلاة والسلام ( لم يصر من استغفر الله ولو عاد في اليوم سبعين مرة ( يح ) أبو أيوب قال قد كنت كتمتكم شيئاً سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لولا أنكم تذنبون فتستغفرون لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم ( يط ) قال عبد الله بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه فقال يا رسول الله إني مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن أمهن فلففتهن جميعاً في كسائي فهن معي فقال عليه الصلاة والسلام ضعهن عنك فوضعتهن فأبت أمهن إلا لزومهن فقال عليه السلام أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها قالوا نعم يا رسول الله فقال والذي نفس محمد بيده أو قال فوالذي بعثني بالحق نبياً لله عز وجل أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن ) ( ك ) عن أبي مسلم الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى قال ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أتقى رجل منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منكم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) قال وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه إعظاماً له وأما الآثار فسئل ذو النون عن التوبة فقال إنها اسم جامع لمعان ستة أولهن الندم على ما مضى الثاني العزم على ترك الذنوب في المستقبل الثالث أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله تعالى الرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم الخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرم السادس إذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية وكان أحمد بن حارس يقول يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب
الفائدة الثانية من فوائد الآية أن آدم عليه السلام لما لم يستغن عن التوبة مع علو شأنه فالواحد منا أولى بذلك(3/24)
الفائدة الثالثة أن ما ظهر من آدم عليه السلام من البكاء على زلته تنبيه لنا أيضاً لأنا أحق بالبكاء من آدم عليه السلام روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح عليهما السلام إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر )
المسألة التاسعة إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك وقد ذكرها في قوله قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 )
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
المسألة الأولى ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين الأول قال الجبائي الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى سماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض وهذا ضعيف من وجهين أحدهما أنه قال في الهبوط الأول وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ( البقرة 36 ) عقيب الهبوط الثاني أولى وثانيهما أنه قال في الهبوط الثاني اهْبِطُواْ مِنْهَا والضمير في ( منها ) عائد إلى الجنة وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة الوجه الثاني أن التكرير لأجل التأكيد وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها بل الأمر بالهبوط باقٍ بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فإن قيل ما جواب الشرط الأول قلنا الشرط الثاني مع جوابه كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك
المسألة الثانية روي في الأخبار أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة وإبليس بموضع من البصرة على أميال والحية بأصفهان
المسألة الثالثة في ( الهدي ) وجوه أحدها المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي وفيه تنبيه على عظم نعمة الله تعالى على آدم وحواء فكأنه قال وإن أهبطنكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع قال الحسن(3/25)
لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه يا آدم أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت نلت أجرتك وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين الناس فإن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به وثانيها ما روي عن أبي العالية أن المراد من الهدى الأنبياء وهذا إنما يتم لو كان المخاطب بقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى غير آدم وهم ذريته وبالجملة فهذا التأويل يوجب تخصيص المخاطبين بذرية آدم وتخصيص الهدي بنوع معين وهو الأنبياء من غير دليل دل على هذا التخصيص
المسألة الرابعة أنه تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علماً وعملاً بالإقدام على ما يلزم والاحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني لأن قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى ( البقرة 38 ) ( طه 123 ) دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن وجميع قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( البقرة 38 ) تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف وجمع قوله فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 38 ) جميع ما أعد الله تعالى لأولياءه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات وقدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) وقال قوم من المتكلمين إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكفار والفساق تصل أيضاً إلى المؤمنين لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وأيضاً فإذا انكشفت تلك الأهوال وصاروا إلى الجنة ورضوان الله صار ما تقدم كأن لم يمكن بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم وهذا ضعيف لأن قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ أخص من قوله يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ والخاص مقدم على العام وقال ابن زيد لا خوف عليهم أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت فأمنهم الله تعالى منه ثم سلاهم عن الدنيا فقال وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا فإن قيل قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقاً في الدنيا والآخرة وليس الأمر كذلك لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصلاة والسلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي فخوف التقصير حاصل وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل قلنا قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( فاطر 43 ) أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن
المسألة الخامسة قال القاضي قوله تعالى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يدل(3/26)
على أمور أحدها أن الهدى قد يثبت ولا اهتداء فلذلك قال فَمَن تَبِعَ هُدَايَ وثانيها بطلان القول بأن المعارف ضرورية وثالثها أن باتباع الهدى تستحق الجنة ورابعها إبطال التقليد لأن المقلد لا يكون متبعاً للهدى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قوله تبارك وتعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم
وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن أم لا وبتقدير حسنه فهل يحسن دائماً أم لا فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ( البقرة 7 ) وههنا آخر الآيات الدالة على النعم التي أنعم الله بها على جميع بني آدم وهي دالة على التوحيد من حيث إن هذه النعم أمور حادثة فلا بد لها من محدث وعلى النبوة من حيث إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عنها موافقاً لما كان موجوداً في التوراة والإنجيل من غير تعلم ولا تلمذة لأحد قدر وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء على خلقها إعادة وبالله التوفيق
القول في النعم الخاصة ببني إسرائيل
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسراً لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيهاً على ما يدل على نوبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث كونها إخباراً عن الغيب واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولاً على سبيل الإجمال فقال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانياً بقوله مرة أخرى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تنبيهاً على شدة غفلتهم ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 41 ) مقروناً بالترهيب البالغ بقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) إلى آخر الآية ثم شرع(3/27)
بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع وإذ قد حققنا هذه المقدمة فلنتكلم الآن في التفير بعون الله
يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد الله لأن ( إسرا ) في لغتهم هو العبد و ( إيل ) هو الله وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله قال القفال قيل إن ( إسرا ) بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك ولنرجع إلى تفيسر الحد فنقول أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة وقولنا المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعاً وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصاً مسموماً ليهلكه لم يكن ذلك نعمة فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعاً الفرع الأول اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه أحدها نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق وثانيها نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الأنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه فهذه النعمة في الحقيقة أيضاً من الله تعالى إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكوراً ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ( لقمان 14 ) فبدأ بنفسه وقال عليه السلام ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) وثالثها نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضاً من الله تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ(3/28)
الفرع الثاني أن نعم الله تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق الله تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالباً للنفع الحاضر ولا دافعاً للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم فصح بهذا معنى قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فإن قيل فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين ولهذا قال في ذم الأصنام هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( الشعراء 72 73 ) وقال تعالى وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ( الفرقان 55 ) وقال أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ( يونس 35 ) الفرع الثالث أن أول ما أنعم الله به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 28 29 ) إلى آخر الآية وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به هذا قول المعتزلة وقال أهل السنة إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه ولهذا سمى نفسه ( النافع الضار ) ولا يسأل عما يفعل الفرع الرابع قالت المعتزلة إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب وقال أهل السنة إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا فمنهم من قال هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما(3/29)
كان ذلك سبيلاً إلى الضرر العظيم ولهذا قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ومنهم من قال إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 21 22 ) فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق ثانيها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا ( البقرة 28 ) إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك وثالثها قوله راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ وقوله وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( البقرة 53 ) وكل ذلك عد للنعم على العبيد ورابعها قوله أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ( الأنعام 6 ) وخامسها قوله قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ ( الأنعام 63 ) إلى قوله ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ وسادسها قوله وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( الأعراف 10 ) وقال في قصة إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة وسابعها قوله وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الارْضِ ( الأعراف 86 ) الآية وقال حاكياً عن شعيب وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وقال حاكياً عن موسى قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الأعراف 140 ) وثامنها قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ ( الأنفال 53 ) وهذا صريح وتاسعها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) وعاشرها قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ الحادي عشر قوله ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها إلى قوله إلى قوله فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ( يونس 21 23 )(3/30)
الثاني عشر قوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً ( الفرقان 47 ) وقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) الثالث عشر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( إبراهيم 28 29 ) الرابع عشر اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ( إبراهيم 32 ) الخامس عشر قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( إبراهيم 34 ) وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور أحدها قوله تعالى في سورة أتى أمر الله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله ثم إنه تعالى قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( النحل 2 4 ) فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيماً مبيناً ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ إلى قوله هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 ) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح ثم قال وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( إبراهيم 33 ) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وثانيها قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ(3/31)
بِأَنْعُمِ اللَّهِ ( النحل 112 ) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سبباً للتبديل وثالثها قوله في قصة قارون وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) وقال أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً ( لقمان 20 ) وقال أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 58 ) وقال فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( يس 14 ) ( الرحمن 16 ) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب
المسألة الثالثة في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرهم بالمنعم فقال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فدل ذلك على فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سائر الأمم
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة ( أ ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 5 6 ) ( ب ) جعلهم أنبياء وملوكاً بعد أن كانوا عبيداً للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 59 ) ( ج ) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ ( المائدة 20 ) ( د ) روى هشام عن ابن عباس أنه قال من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عموداً من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه أحدها أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوراة والإنجيل والزبور وثانيها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن وثالثها أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة ورابعها أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة فإن قيل هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعماً عليهم وسبباً لعظم معصيتهم والجواب من وجوه أحدها لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء(3/32)
وثانيها أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد وثالثها الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعياً إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور
أما قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فاعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً وذكروا في هذا العهد قولين الأول أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات إحداها أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهداً له عليهم من حيث يلزمهم القايم بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق وقوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أراد به الثواب والمغفرة فجعل الوعد بالثواب شبيهاً بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به ثانيها قال الحسن المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ إلى قوله وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده وثالثها وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ إلى قوله تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 )
القول الثاني أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ إلى قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) وقال في سورة الأعراف وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 156 ) وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم وقال وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ ( آل عمران 81 ) الآية وقال وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وقال ابن عباس إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل وأجراً باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( القصص 52 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ( القصص 54 ) وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى فَاسِقُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن(3/33)
رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) وتصديقه أيضاً فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فله أجران ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران ) بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده والجواب من وجهين الأول أن هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه الثاني أن ذلك النص كان نصاً خفياً لا جلياً فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه
السؤال الثاني الشخص المبشر به في هذه الكتب إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك فإن كان ذلك النص نصاً جلياً وارداً في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لاحتمال أن يقولوا إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصاً عليه نصاً جلياً يعرفه كل أحد بل كان منصوصاً عليه نصاً خفياً فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالأول جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك ( من قبل ) الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت قالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجو الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة فلو لم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية لله تعالى وخروجاً عن طاعته إلى طاعة الشيطان والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله والثاني جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس ( إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً مثلي من بينكم(3/34)
ومن إخوانكم ) وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى ( إني مقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه ) وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم إنه سيكون من إخوانكم إمام عقل أنه لا يكون من بني هاشم ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشراً به وأما اسماعيل فإنه كان أخاً لإسحق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحق عليهم السلام فإن قيل قوله ( من بينكم ) يمنع من أن يكون المراد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل قلنا بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم وأيضاً فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام فإذا قام محمد بالحجاز فقد قام من بينهم وأيضاً فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم والثالث قال في الفصل العشرين من هذا السفر ( إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة وجه الاستدلال أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن اسماعيل تعلم الرمي في برية فاران ومعلوم أنه إنما سكن بمكة إذا ثبت هذا فنقول إن قوله ( فمنحهم العز ) لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام قالت اليهود المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضاً ومن جبل فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق ناراً في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع وأيضاً ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقاً ونزعاً وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيراً ورعباً ورفعت أيديها وجلاً وفرقاً وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضباً وتدوس الأمم زجراً لأنك ظهرت بخلاص(3/35)
أمتك وإنقاذ تراب آبائك ) هكذا نقل عن ابن رزين الطبري أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم ( وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوى السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك ) فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة ( ظهر الرب من جبال فاران ) ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام ( وإنقاذ مسيحك ) قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة أما قوله ( وإنقاذ مسيحك ) فإن محمداً عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى والرابع ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه ( قومي فأزهري مصباحك يريد مكة فقد دناوقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقاً ويظهر كرامته عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً ) فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله ( وأحدث لبيت محمدتي حمداً ) معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكة وما ملك ثم صار في الإسلام لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته فإن قيل المراد بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم ( قد دنا وقتك ) مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضاً فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها وذلك يبطل قولهم والخامس روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال ( قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جداً جداً وسيلد اثني عشر عظيماً واجعله لأمة عظيمة ) والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( البقرة 129 ) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) وهو قوله وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون والسادس قال المسيح للحواريين ( أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له ) وتصديق ذلك إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقوله قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَى َّ ( يونس 15 ) أما ( الفارقليط ) ففي تفسيره وجهان أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضاً صفته عليه الصلاة والسلام الثاني قال بعض النصارى الفار قليط هو(3/36)
الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما ( ليط ) فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضاً صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل والسابع قال دانيال ليختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه رأيت أيها الملك منظراً هائلاً رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها من خزف ورأيت حجراً يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقاً شديداً فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتاً وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلاً عالياً امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزاً وبعضها يكون ذليلاً وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف والله أعلم بما يكون في آخر الزمان فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله تعالى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فقالت المعتزلة ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن الله تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين وقال أصحابنا إنه لا يجب للعبد على الله شيء وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة بل التفسير الحق من وجهين الأول أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذباً والكذب عليه محال والمفضي إلى المحال محال فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر الثاني أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأموراً إلا أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مأموراً لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وأما قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ فاعلم أن الرهبة هي الخوف قال المتكلمون الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين أحدهما مع العلم والآخر مع الظن أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به واحترز عن كل ما نهى عنه فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وأما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل(3/37)
المأمورات واحترز عن المنهيات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس روى ( أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ) وقال العارفون الخوف خوفان خوف العقاب وخوف الجلال والأول نصيب أهل الظاهر والثاني نصيب أهل القلب والأول يزول والثاني لا يزول واعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم تعظم المعصية ودلالة على ما تقدم العهد يعظم المخالفة ودلالة على أن الرسول كما كان مبعوثاً إلى العرب كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وقوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره إذ لو كان العبد مستقلاً بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف الله ألبتة وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها والله أعلم
وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ
اعلم أن المخاطبين بقوله وَءامَنُواْ هم بنوا اسرائيل ويدل عليه وجهان الأول أنه معطوف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كأنه قيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت الثاني أن قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ يدل على ذلك
أما قوله بِمَا أَنزَلْتُ ففيه قولان الأقوى أنه القرآن وعليه دليلان أحدهما أنه وصفه بكونه منزلاً وذلك هو القرآن لأنه تعالى قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) والثاني وصفه بكونه مصدقاً لما معهم من الكتب وذلك هو القرآن وقال قتادة المراد بِمَا أَنزَلَ أُنزِلَتِ من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل
أما قوله مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ ففيه تفسيران أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق وأن التوراة والإنجيل حق وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً(3/38)
للتوراة والإنجيل وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام لأنه بمجرد كونه مخبراً عن كون التوراة والإنجيل حقاً لا يجب الإيمان بنبوته أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقاً لا محالة ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن هذا التفسير أولى واعلم أن هذا التفسير الثاني يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجهين الأول أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقاً والثاني أنه عليه السلام أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي أما قوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به ثم فيه سؤلان الأول كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب والجواب من وجوه أحدها أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( البقرة 89 ) وثانيها يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له وثالثها ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك ورابعها ولا تكونوا أول كافر به يعني بكتابكم يقول ذلك ولعلمائهم أي كذب لا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب تكذيبكم بكتابكم وخامسها أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله عليه السلام ( من سن سيئة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة وسادسها المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة وسابعها أول كافر به من اليهود لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 122 ) أي على عالمي زمانهم وثامنها ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه وتاسعها أن لفظ ( أول ) صلة والمعنى ولا تكونوا كافرين به وهذا ضعيف السؤال الثاني أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولاً والجواب من وجوه أحدها أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه وثانيها أن في قوله وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور وثالثها أن قوله رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ( الرعد 2 ) لا يدل على وجود عمد لا يرونها وقوله وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ( النساء 155 ) لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق وقوله عقيب هذه الآية وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير فكذا ههنا بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول(3/39)
الله ( صلى الله عليه وسلم ) صفته ورابعها قال المبرد هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران أحدهما السبق إلى الكفر والثاني التفرد به ولا شك في أنه منقصة عظيمة فقوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ إشارة إلى هذا المعنى
أما قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً فقد بينا في قوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء والعوض عنه فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمناً عند فاعله قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمداً لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جداً فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا فالقليل جداً من القليل جداً أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين وأما قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ فيقرب معناه مما تقدم من قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم
وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
أعلم أن قوله سبحانه وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ أمر بترك الكفر والضلال وقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أمر بترك الإغراء والإضلال واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها فقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل واعلم أن الأظهر في الباء التي في قوله بِالْبَاطِلِ أنها باء الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ثم إنهم(3/40)
كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات فهذا هو المراد بقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فهو المذكور في قوله وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ( غافر 5 ) أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفاً للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعياً لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم وهذا الخطاب وإن ورد فيهم فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى ثم ههنا بحثان
البحث الأول قوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا أو منصوب بإضمار أن
البحث الثاني أن النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أ وباطل وما لا يعرف كونه حقاً أو باطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات بل يجب التوقف فيه وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه والله أعلم
وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَآتُواْ الزَّكَواة َ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أمرهم بالإيمان أولاً ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانياً ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع وذكر من جملة الشرائع ما كان كالمقدم والأصل فيها وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا إنما جاء الخطاب في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا بعد أن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها فكأنه تعالى قال وأقيموا الصلاة التي عرفتموها والقائلون بجواز التأخير قالوا يجوز أن يراد الأمر بالصلاة وإن كانوا لا يعرفون أن الصلاة ما هي ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما أنه لا نزاع في أن يحسن من السيد أن يقول لعبده إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله ويكون غرضه منه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني
المسألة الثانية قالت المعتزلة الصلاة من الأسماء الشرعية قالوا لأنها أمر حدث في الشرع فاستحال أن يكون الاسم الموضوع قد كان حاصلاً قبل الشرع ثم اختلفوا في وجه التشبيه فقال بعضهم أصلها في اللغة الدعاء قال الأعشى(3/41)
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي
عينا فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال آخر وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
وقال بعضهم الأصل فيها اللزوم قال الشاعر لم أكن من جناتها علم الله
وإني بحرها اليوم صالي
أي ملازم وقال آخرون بل هي مأخوذة من المصلي وهو الفرس الذي يتبع غيره والأقرب أنها مأخوذة من الدعاء إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه وقد تكون صلاة ولا يحصل فيها متابعة الغير وإذا حصل في وجه التشبيه ما عم كل الصور كان أولى أن يجعل وجه التشبيه شيئاً يختص ببعض الصور وقال أصحابنا من المجازات المشهورة في اللغة إطلاق اسم الجزء على الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء لا جرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز فإن كان مراد المعتزلة من كونها اسماً شرعياً هذا فذلك حق وإن كان المراد أن الشرع ارتجل هذه اللفظة ابتداء لهذا المسمى فهو باطل وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية وذلك ينافي قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا ( يوسف 20 ) أما الزكاة فهي في اللغة عبارة عن النماء يقال زكا الزرع إذا نما وعن التطهير قال الله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً ( الكهف 74 ) أي طاهرة وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) أي تطهر وقال وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ( النور 21 ) وقال وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ( فاطر 18 ) أي تطهر بطاعة الله ولعل إخراج نصف دينار من عشرين ديناراً سمي بالزكاة تشبيهاً بهذين الوجهين لأن في إخراج ذلك القدر تنمية للبقية من حيث البركة فإن الله يرفع البلاء عن ذلك المال بسبب تزكية تلك العطية فصار ذلك الإعطاء نماء في المعنى وإن كان نقصاناً في الصورة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بالصدقة فإن فيها ست خصال ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق وتكثر المال وتعمر الديار وأما التي في الآخرة فتستر العورة وتصير ظلاً فوق الرأس وتكون ستراً في النار ) ويجوز أن تسمى الزكاة بالوجه الثاني من حيث إنها تطهر مخرج الزكاة عن كل الذنوب ولهذا قال تعالى لنبيه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 )
المسألة الثالثة قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة خطاب مع اليهود وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع أما قوله تعالى وأركعوا مع الراكعين ففيه وجوه أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم فخص الله الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين وثانيها أن المراد صلوا مع المصلين وعلى هذا يزول التكرار لأن في الأول أمر تعالى بإقانتها وأمر في الثاني بفعلها في الجماعة وثالثها أن يكون المراد من الأمر بالركوع هو الأمر بالخضوع لأن الركوع والخضوع في اللغة سواء فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم وأمرا بالتذلل كما قال للمؤمنين فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة 54 وكقوله تأديبا لرسوله عليه السلام { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } الشعراء 215 وكمدحه له بقوله فبما رحمة منك لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب القلب لانفضوا من حولك آل عمران 159 وهكذا في قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون المائدة 55(3/42)
فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد والخضوع وترك التمرد وحكى الأصم عن بعضهم أنه إنما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالزكاة لأنهم كانوا لا يؤتون الزكاة وهو المراد بقوله تعالى وأكلهم السحت المائدة 62 وبقوله وأكلهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل النساء 166 فأظهر الله تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوما ليحذروا أن يفضحهم في سائر أسرارهم ومعاصيهم فيصير هذا كالإخبار عن الغيب الذي هو أحد دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قوله تعالى
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
اعلم أن الهمزة في أتأمرون الناس بالبر للتقرير مع التقرير والتعجب من حالهم وأما البر فهو اسم جامع لأعمال الخير ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما ومنه عمل مبرور أي قد رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث ويقال صدقت وبررت وقال تعالى ولكن البر من اتقى البقرة 189 فأخبر أن البر جامع للتقوى واعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناه على مأخذ آخر وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه
أحدها وهو قول السدي أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونه عن معصية الله وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية
وثانيها قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما
وثالثها إنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه وهم كانوا لا يتبعونه لطعمهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم
ورابعها أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه وهذا اختيار أبي مسلم
وخامسها هو قول الزجاج كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة وكانوا يشحون بها لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت(3/43)
وسادسها لهل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه
وسابعها أن اليهود كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم ما آمنوا به أما قوله وتنسون أنفسكم فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله وتنسون أنفسكم أنكم تغفولن عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع أما قوله وأنتم تتلون الكتاب فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم
وأما قوله أفلا تعقلون فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون الأنبياء 67 وسبب التعجب وجوه الأول أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون الثاني أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا اصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين وذلك لا يليق بأفعال العقلاء فلهذا قال أفلا تعقلون الثالث أن نت وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء ولهذا قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك وبقي ههنا مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا بالآية والمعقول أما الآية فقوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم وقال أيضا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون الصف 3 وأما المعقول فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها في أثناء الزنا على كشفها عن وجهها ومعلوم أن ذلك مستنكر والجواب أن المكلف مأمور بشيئين أحدهما ترك المعصية والثاني منع الغير عن فعل المعصية والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر أما قوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فهو نهي عن الجمع بينهما والنهي عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين أحدهما أن يكون المراد هو النهي عن نسيان النفس مطلقا والآخر أن يكون المراد هو النهي عن ترغيب الناس في(3/44)
البر حال كونه ناسيا للنفس وعندنا المراد من الآية هو الأول لا الثاني وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم وأما المعقول الذي ذكروه فليزمهم
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود لم لا تبيض لما كان السواد مخلوق فيه والجواب أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه وإن حصل فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا ثم الجواب الحقيقي عن الكل أنه لا يسأل عما يفعل
المسألة الثالثة ( أ ) عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام { مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقلت يا أخي جبريل من هؤلاء ؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم } ( ب ) وقال عليه الصلاة والسلام { إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هو يا رسول الله ؟ قال عالم لا ينتفع بعلمه } ( ج ) وقال عليه الصلاة والسلام { مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه } ( د ) وعن الشعبي يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون لم دخلتم النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم فقالوا إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله كما قيل من وعظ بقوله ضاع كلامه ومن وعظ بفعله نفذت سهامه وقال الشاعر يا أيها المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إذا وعظت ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
قيل عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل وأما من وعظ واتعظ فمحله عند الله عظيم
روي أن يزيد بن هارون مات وكان واعظا زاهدا فرؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي وأول ما سالني منكر ونكير فقالا من ربك فقلت أما تستحيان من شيخ دعا إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك وقيل للشبلي عند النزع قل لا إله إلا الله فقال إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج(3/45)
قوله سبحانه وتعالى
( واستيعنوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون
المسألة الأولى اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى واستعينوا بالصبر والصلاة فقال قوم هم المؤمنون بالرسول قال لأن من ينكر الصلاة أصلا والصبر على دين محمد صلى الله عليه سلم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يمتنع أن يكون الخطاب أولا في بني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم فإن قيل كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما قلنا لا نسلم كونهم منكرين لهما وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها وإنما الاختلاف في الكيفية فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور وعلى هذا نقول إنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال واستعينوا بالصبر والصلاة
المسألة الثانية ذكروا في الصبر والصلاة وجوها
أحدها كأنه قيل واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر أي يحبس النفس عن اللذات فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر لأن المشتغل بالصلاة لا بد وأن يكون مشتغلا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره وذكر رحمته وفضله فإذا تذكر رجمته صار مائلا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية
وثانيها المراد من الصبر ههنا هو الصوم لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب ومن حبس نفسه عن قضاء شهورة البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات ولأنه عليه الصلاة والسلام قال { الصوم جنة من النار } وقال الله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر العنكبوت 45 لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استيعنوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين البقرة 153(3/46)
أما قوله تعالى وإنها ففي هذا الضمير وجوه أحدها الضمير عائد إلى الصلاة أي صلاة ثقيلة إلا على الخاشعين وثانيها الضمير عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله واستعينوا وثالثها أنه عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إلى قوله واستعينوا والعرب قد تضمر الشيء اختصارا أو تقتصر فيه على الإيماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل ما عليها أفضل من فلان يعني الأرض ويقلون ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة وقال تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة النحل 61 ولا ذكر للأرض أما قوله لكبيرة أي لشاقة ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين فيجب أن يكون ثوابهم أكثر وثواب الخاشع أقل وذلك منكر من القول قلنا ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع وكيف يكون ذلك والخاشع يستعمل عند الصلاة جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ولا يغفل عن تدبر ما يأتي به من الذكر والتذلل والخشوع وإذ تذكر الوعيد لم يخل من حسرة وغم وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه بفعل الصلاة أعظم وإنما المراد بقوله وإنها ثقيلة على من لم يخشع أنه من حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ولا في تركها عقابا فيصعب عليه فعلها
فالحاصل أن الملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله والذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه مثاله إذا قيل للمريض كل هذا الشيء المر فإن اعتقد أنه له فيه شفاء سهل ذلك عليه وإن لم يعتقد ذلك فيه صعب الأمر عليه وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام { وجعلت قرة عيني في الصلاة } وصف الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت تثقل عليه وكيف وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تورمت قدماه وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع أما قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم فللمفسرين فيه قولان
القول الأول أن الظن بمعنى العلم قالوا لأن الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز فوجب أن يكون المراد من الظن ههنا العلم وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجح مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر قال أوس بن حجر فأرسلته مستيقن الظن أنه
مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه الحاقة 20 وقال ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون المطففين 4 ذكر الله تعالى ذلك إنكارا عليهم وبعثا على الظن ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت أن المراد بالظن ههنا العلم(3/47)
القول الثاني أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي ثم ههنا وجوه الأول أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت فأطلق المسبب والمراد منه السبب وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقي ربه إذ ثبت هذا فنقول وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان متوقعا للموت في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة مع خشوعه لا بد في كل حال من أن لا يأمن تقصيرا جرى منه فيلزمه التلافي فإذا كان حاله ما ذكرنا كان ذلك داعيا له إلى المبادرة إلى التوبة الثاني أن تفسر ملاقاة ثواب الرب وذلك مظنون لا معلوم فإن الزهد العابد لا يقطع بكونه ملاقيا لثواب الله بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع الثالث المعنى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح بقي هنا مسألتان
المسألة الأولى استدل بعض الأصحاب بقوله ملاقوا ربهم على جواز رؤية الله تعالى وقالت المعتزلة لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية والدليل عليه الآية والخبر والعرف أما الآية فقوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه الفرقان 68 والمنافق لا يرى ربه وقال ومن يفعل ذلك يلق آثاما الفرقان 68 وقال تعالى في معرض التهديد واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه البقرة 223 فهذا يتناول الكافر والمؤمن والرؤية لا تثبت للكافر فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية وأما الخبر فقوله عليه السلام { من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } وليس المراد رأى الله تعالى لأن ذلك وصف أهل النار وأما العرف فهو قول المسلمين فيمن مات لقي الله ولا يعنون أنه رأى الله عز وجل وأيضا فاللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على زجه يزول الحجاب بينهما ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير ما لقيته بعد وإن كان قد رآه وإذا أذن له في الدخول عليه يقول لقيته وإن كان ضريرا ويقال لقي فلان جهدا شديدا ولقيت من فلان الداهية ولاقى فلان حمامه وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية ويدل عليه أيضا قوله تعالى فالتقى الماء على أمر قد قدر القمر 12 وهذا إنما يصح في حق الجسم ولا يصح على الله تعالى
قال الأصحاب اللقاء في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بمسطحة يقال لقي هذا ذاك إذا ماسه واتصل به ولما كانت الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإدراك فحيث يمتنع إجراء اللفظ على المماسة وجب حمله على الإدراك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمله لفظ اللقاء على الإدراك أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصه فوجب إجراؤه على الإدراك في البواقي وعلى هذا التقرير زالت السؤالات أما قوله فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه التوبة 77 والمنافق لا يرى ربه قلنا فلأجل هذه الضرورة ففي هذا الموضع لما اضطررنا إليه اعتبرناه وأما في قوله تعالى أنهم ملاقوا ربهم لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ولا في إضمار هذه الزيادة فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله(3/48)
تعالى لا بحكم الله فإن اشتغلوا بذكر الدلائل العقلية التي تمنع من جواز الرؤية بينا ضعفها وحينئذ يستقيم التمسك بالظاهر من هذا الوجه
المسألة الثانية المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى حيث يكون لهم مالك سواه وأن لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا غيره كما كانوا كذلك في أول الخلق فجعل مصيرهم إلى مثل ما كانوا عليه أولا رجوعا إلى الله من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم ويملك أن يضرهم وينفعهم وإن كان الله تعالى مالكا لهم في جميع أحوالهم وقد احتج بهذه الآية فريقان من المبطلين الأول المجسمة فإنهم قالوا الرجوع إلى غير الجسم محال فلما ثبت الرجوع إلى الله وجب كون الله جسما الثاني التناسخية فإنهم قالوا الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت هذه الآية على كون الأرواح قديمة وأنها كانت موجودة في عالم الروحانيات والجواب عنها قد حصل بناء على ما تقدم
قوله تبارك وتعالى
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
اعلم أنه تعالى إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قرنه بالوعيد وهو قوله وتقوا يوما البقرة 48 كأنه قال إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل أما قوله وأني فضلتكم على العالمين ففيه سؤال وهو أنه يلزم أنم يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل بالاتفاق والجواب عنه من وجوه
أحدها قال قوم العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس كقولك رأيت عالما من الناس والمراد منه الكثير لا الكل وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما فكان من العلم وهذا تحقيق قول المتكلمين العالم كل موجود سوى الله وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ ببعض المحدثات
ثانيها المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لأن شرط العالم أن يكون موجودا والشيء حال عدمه لا يكون موجودا فالشيء حال عدمه لا يكون من العالمين وأن محمد عليه السلام ما كان موجودا في ذلك الوقت فما كان ذلك الوقت من العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك الوقت وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحد من العالمين المائدة 20 وقال ولقد أخترناهم على علم على العالمين الدخان 32 وأراد به عالمي ذلك الزمان وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية(3/49)
وثالثها أن قوله وأني فضلتكم على العالمين عام في العالمين لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه واحدة فالآية تدل على أن بني إسرائيل فضلوا على العالمين في أمرها وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر وعند ذلك يظهر أنه لا يصلح الاستدلال بقوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين آل عمران 33 على أن الأنبياء أفضل من الملائكة بقي ههنا أبحاث
البحث الأول قال ابن زيد أراد به المؤمنون منهم لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير على ما قال تعالى وجعل منهم القردة والخنازير المائدة 60 وقال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل المائدة 78
البحث الثاني أن جميع ما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد قال الله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 وقال واتبعوا ما أحسن ما أنزل إليكم كم ربكم الزمر 55 وقال لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف 111 ولذلك روى قتادة قال ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول قد مضى والله بنو إسرائيل وما يغني ما تسمعون عن غيركم
البحث الثالث قال القفال النعمة بكسر النون المنة وما ينعم به الرجل على صاحبه قال تعالى وتلك نعمة تمنها علي الشعراء 22 وأما النعمة بفتح النون فهو ما يتنعم به في العيش قال تعالى ونعمة كانوا فيها فاكهين الدخان 27
البحث الرابع قوله تعالى وأني فضلتكم على العالمين يدل على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله تعالى لا في الدنيا ولا في الدين لأن قوله وأني فضلتكم على العالمين يتناول جميع نعم الدنيا والدين فذلك التفضيل إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان واجبا لم يجز جعله منة عليهم لأن من أدى واجبا فلا منة له على أحد وإن كان غير واجب مع أنه تعالى خصص البعض بذلك دون البعض فهذا يدل على أن رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا ولا في الدين فإن قيل لما خصهم بالنعم العظيمة في الدنيا فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة كما قيل إتمام المعروف خير من إبتدائه فلم اردف ذلك التخويف الشديد في قوله واتقوا يوما والجواب لأن المعصية مع عظم النعمة تكون أقبح وأفحش فلهذا حذرهم عنها
البحث الخامس في بيان أن أي فرق العالم أفضل يعني أن ايهم أكثر استجماعا لخصال الخير اعلم أن هذا مما وقع فيه النزاع الشديد بين سكان النواحي فكل طائفة تدعي أنها أفضل وأكثر استجماعا لصفات الكمال ونحن نشير إلى معاقد الكلام في هذا الباب بتوفيق الله تعالى وعونه(3/50)
وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعاً فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلاً وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة بقي على هذا الترتيب سؤالان
السؤال الأول الفائدة من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا هي الفائدة من قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فما المقصود من هذا التكرار والجواب المراد من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقاً آخر إن شاء الله تعالى
السؤال الثاني أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه الجواب أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين ولنذكر الآن تفسير الألفاظ أما قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا فقال القفال الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي بردة بن يسار ( تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك ) هكذا يرويه أهل العربية ( تجزيك ) بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئاً ولا تحمل عنها شيئاً مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجباً عليه وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات روى أبو هريرة قال قال عليه السلام ( رحم الله عبداً كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته ) قال صاحب الكشاف(3/51)
و ( شيئاً ) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء كقوله تعالى وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) ومن قرأ ( لا يجزي ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئاً من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوماً فإن قيل فأين العائد منها إلى الموصوف قلنا هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع أما قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فالشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار الشفيع له شفعاً أي صارا زوجاً واعلم أن الضمير في قوله وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل ومعنى لا يقبل منها شفاعة إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئاً أما قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فدية وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول ما أعدل بفلان أحداً أي لا أرى له نظيراً قال تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( المائدة 36 ) ونظيره هذه الآية قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا ( المائدة 36 ) وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 70 )
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة وقد أخير الله تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته قال القفال والنصر يراد به المعونة كقوله ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ومنه معنى الإغاثة تقول العرب أرض منصورة أي ممطورة والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها فكأنه أغاث أهلها وقيل في قوله تعالى مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ( الحج 15 ) أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد ويسمى الانتقام نصرة وانتصاراً قال تعالى وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) قالوا معناه فانتقمنا له فقوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد فأخبر الله تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه بقي في الآية مسألتان
المسألة الأولى أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذراً خائفاً في كل حال والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم
المسألة الثانية أجمعت الأمة على أن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفاعة في الآخرة وحمل على ذلك قوله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون أتكون للمؤمنين المستحقين(3/52)
للثواب أم تكون لأهل الكبائر المستحقين للعقاب فذهبت المعتزلة على أنها للمستحقين للثواب وتأثير الشفاعة في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه وقال أصحابنا تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار وإن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة واتفقوا على أنها ليست للكفار واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه أحدها هذه الآية قالوا إنها تدل على نفي الشفاعة من ثلاثة أوجه
الأول قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئاً الثاني قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وهذه نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الشفاعة والثالث قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ولو كان محمد شفيعاً لأحد من العصاة لكان ناصراً له وذلك على خلاف الآية لا يقال الكلام على الآية من وجهين الأول أن اليهود كانوا يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فأيسوا من ذلك فالآية نزلت فيهم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعة مطلقاً إلا أنا أجمعنا على تطرق التخصيص إليه في حق زيادة الثواب لأهل الطاعة فنحن أيضاً نخصه في حق المسلم صاحب الكبيرة بالدلائل التي نذكرها لأنا نجيب عن الأول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعن الثاني أنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية نفي الشفاعة في زيادة المنافع لأنه تعالى حذر من ذلك اليوم بأنه لا تنفع فيه شفاعة وليس يحصل التحذير إذا رجع نفي الشفاعة إلى تحصيل زيادة النفع لأن عدم حصول زيادة النفع ليس فيه خطر ولا ضرر يبين ذلك أنه تعالى لو قال اتقوا يوماً لا أزيد فيه منافع المستحق للثواب بشفاعة أحد لم يحصل بذلك زجر عن المعاصي ولو قال اتقوا يوماً لا أسقط فيه عقاب المستحق للعقاب بشفاعة شفيع كان ذلك زجراً عن المعاصي فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط العقاب لا نفي تأثيرها في زيادة المنافع وثانيها قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) والظالم هو الآتي بالظلم وذلك يتناول الكافر وغيره لا يقال إنه تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع يطاع ولم ينف شفيعاً يجاب ونحن نقول بموجبه فإنه لا يكون في الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع يكون فوق المطيع وليس فوقه تعالى أحد يطيعه الله تعالى لأنا نقول لا يجوز حمل الآية على ما قلتم من وجهين الأول أن العلم بأنه ليس فوقه تعالى أحد يطيعه متفق عليه بين العقلاء أما من أثبته سبحانه فقد اعترف أنه لا يطيع أحداً وأما من نفاه فمع القول بالنفي استحال أن يعتقد فيه كونه مطيعاً لغيره فإذا ثبت هذا كان حمل الآية على ما ذكرتم حملاً لها على معنى لا يفيد الثاني أنه تعالى نفى شفيعاً يطاع والشفيع لا يكون إلا دون المشفوع إليه لأن من فوقه يكون آمراً له وحاكماً عليه ومثله لا يسمى شفيعاً فأفاد قوله ( شفيع ) كونه دون الله تعالى فلم يمكن حمل قوله يُطَاعُ على من فوقه فوجب حمله على أن المراد به أن لا يكون لهم شفيع يجاب وثالثها قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعات بأسرها(3/53)
ورابعها قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) ولو كان الرسول يشفع للفاسق من أمته لوصفوا بأنهم منصورون لأنه إذا تخلص بسبب شفاعة الرسول عن العذاب فقد بلغ الرسول النهاية في نصرته وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) أخبر تعالى عن ملائكته أنهم لا يشفعون لأحد إلا أن يرتضيه الله عز وجل والفاسق ليس بمرتضى عند الله تعالى وإذا لم تشفع الملائكة له فكذا الأنبياء عليهم السلام لأنه لا قائل بالفرق وسادسها قوله تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت الشفاعة قد تنفعهم وذلك ضد الآية وسابعها أن الأمة مجمعة على أنه ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام ويقولون في جملة أدعيتهم واجعلنا من أهل شفاعته فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر لا يقال لم لا يجوز أن يقال إنهم يرغبون إلى الله تعالى في أن يجعلهم من أهل شفاعته إذا خرجوا مصرين لا أنهم يرغبون في أن يختم لهم مصرين كما أنهم يقولون في دعائهم اجعلنا من التوابين وليسوا يرغبون في أن يذنبوا ثم يتوبوا وإنما يرغبون في أن يوفقهم للتوبة إذا كانوا مذنبين وكلتا الرغبتين مشروطة بشرط وهو تقدم الإصرار وتقدم الذنب لأنا نقول الجواب عنه من وجهين الأول ليس يجب إذا شرطنا شرطاً في قولنا اللهم اجعلنا من التوابين أن نزيد شرطاً في قولنا اجعلنا من أهل الشفاعة الثاني أن الأمة في كلتا الرغبتين إلى الله تعالى يسألون منه تعالى أن يفعل بهم ما يوصلهم إلى المرغوب فيه ففي قولهم اجعلنا من التوابين أن يرغبون في أن يوفقهم للتوبة من الذنوب وفي الثاني يرغبون في أن يفعل بهم ما كانوا عنده أهلاً لشفاعته عليه السلام فلو لم تحصل أهلية الشفاعة إلا بالخروج من الدنيا مصراً على الكبائر لكان سؤال أهلية الشفاعة سؤالاً للاخراج من الدنيا حال الإصرار على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج من الدنيا مستحقاً للثواب كان سؤال أهلية الشفاعة حسناً فظهر الفرق وثانيها أن قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الانفطار 14 16 ) يدل على أن كل الفجار يدخلون النار وأنهم لا يغيبون عنها وإذا ثبت أنهم لا يغيبون عنها ثبت أنهم لا يخرجون منها وإذا كان كذلك لم يكن للشفاعة أثر لا في العفو عن العقاب ولا في الإخراج من النار بعد الإدخال فيها وتاسعها قوله تعالى يُدَبّرُ الاْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ( يونس 3 ) فنفى الشفاعة عمن لم يأذن في شفاعته وكذا قوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) وكذا قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( سبأ 38 ) وإنه تعالى لم يأذن في الشفاعة في حق أصحاب الكبائر لأن هذا الإذن لو عرف لعرف إما بالعقل أو بالنقل أما العقل فلا مجال له فيه وأما النقل فأما بالتواتر أو بالآحاد والآحاد لا مجال له فيه لأن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن والمسألة علمية والتمسك في المطالب العلمية بالدلائل الظنية غير جائز وأما بالتواتر فباطل لأنه لو حصل ذلك لعرفه جمهور المسلمين ولو كان كذلك لما أنكروا هذه(3/54)
الشفاعة فحيث أطبق الأكثرون على الأنكار علمنا أنه لم يوجد هذا الإذن وعاشرها قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى الحادي عشر الأخبار الدالة على أنه لا توجد الشفاعة في حق أصحاب الكبائر وهي أربعة الأول ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام دخل المقبرة فقال ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت اخواننا قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال أرأيت إن كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم فهل لا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فانهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأما فرطهم على الحوض ألا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقاً فسحقاً ) والاستدلال بهذا الخبر على نفي الشفاعة أنه لو كان شفيعاً لهم لم يكن يقول فسحقاً فسحقاً لأن الشفيع لا يقول ذلك وكيف يجوز أن يكون شفيعاً لهم في الخلاص من العقاب الدائم وهو يمنعهم شربة ماء الثاني روى عبد الرحمن ابن ساباط عن جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لكعب بن عجرة ( يا كعب بن عجرة أعيذك بالله من إمارة السفهاء إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفيء الماء النار يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ) والاستدلال بهذا الحديث من ثلاثة أوجه أحدها أنه إذا لم يكن من النبي ولا النبي منه فكيف يشفع له وثانيها قوله ( لم يرد على الحوض ) دليل على نفي الشفاعة لأنه إذا منع من الوصول إلى الرسول حتى لا يرد عليه الحوض فبأن يمتنع الرسول من خلاصه من العقاب أولى وثالثها أن قوله ( لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت ) صريح في أنه لا أثر للشفاعة في حق صاحب الكبيرة الثالث عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وهذا صريح في المطلوب لأنه إذا لم يملك له من الله شيئاً فليس له في الشفاعة نصيب الرابع عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصيمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجرته ) والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيماً لهؤلاء استحال أن يكون شفيعاً لهم فهذا مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه(3/55)
أحدها قوله سبحانه وتعالى حكاية عن عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة والقسم الأول باطل لأن قوله تعالى وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) لا يليق بالكفار والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لأن المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلاً عند الخصم وإذا كان كذلك لم يكن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ لائقاً بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة في حق عيسى عليه السلام صح القول بها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق وثانيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فقوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 36 ) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلاً للمغفرة بالإجماع ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة ومما يؤكد دلالة هاتين الآيتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان أنه عليه الصلاة والسلام تلا قوله تعالى في إبراهيم وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وقول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ الآية ثم رفع يديه وقال ( اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قال فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) رواه مسلم في الصحيح وثالثها قوله تعالى في سورة مريم يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 85 87 ) فنقول ليس في ظاهر الآية أن المقصود من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لأن المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى لأن حملها على الوجه الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات فإن كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم ورداً لا يملكون الشفاعة لغيرهم فتعين حملها على الوجه الثاني إذا ثبت هذا فنقول الآية تدل على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند الرحمن عهداً فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإسلام فوجب أن يكون داخلاً تحته أقصى ما في الباب أن يقال واليهودي اتخذ عند الرحمن عهداً وهو الإيمان بالله فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه لضرورة الإجماع فوجب أن يكون معمولاً به فيما وراءه ورابعها قوله تعالى في صفة الملائكة وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) وجه الاستدلال(3/56)
به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى وكل من كان مرتضى عند الله تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة إنما قلنا إن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى لأنه مرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه أنه مرتضى عند الله بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند الله تعالى لأن المرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا مرتضى عند الله بحسب إيمانه ومتى صدق المركب صدق المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة لقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى نفي الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي إثبات فوجب أن يكون المرتضى أهلاً لشفاعتهم وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق فإن قيل الكلام على هذا الاستدلال من وجهين الأول أن الفاسق ليس بمرتضى فوجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة وإذا لم يكن أهلاً لشفاعة الملائكة وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قلنا إنه ليس بمرتضى لأنه ليس بمرتضى بحسب فسقه وفجوره ومن صدق عليه أنه ليس بمرتضى بحسب فسقه صدق عليه أنه ليس بمرتضى بعين ما ذكرتم من الدليل وإذا ثبت أنه ليس بمرتضى وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة لأن قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى يدل على نفي الشفاعة عن الكل إلا في حق المرتضى فإذا كان صاحب الكبيرة غير مرتضى وجب أن يكون داخلاً في النفي الوجه الثاني أن الاستدلال بالآية إنما يتم لو كان قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى محمولاً على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أما لو حملناه على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله منه شفاعته فحينئذ لا تدل الآية إلا إذا ثبت أن الله تعالى ارتضى شفاعة صاحب الكبيرة وهذا أول المسألة
والجواب عن الأول أنه ثبت في العلوم المنطقية أن المهملتين لا يتناقضان فقولنا زيد عالم زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال أن يكون المراد زيد عالم بالفقه زيد ليس بعالم بالكلام وإذا ثبت هذا فكذا قولنا صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة ليس بمرتضى لا يتناقضان لاحتمال أن يقال إنه مرتضى بحسب دينه ليس بمرتضى بحسب فسقه وأيضاً فمتى ثبت أنه مرتضى بحسب إسلامه ثبت مسمى كونه مرتضى وإذا كان المستثنى هو مجرد كونه مرتضى ومجرد كونه مرتضى حاصل عند كونه مرتضى بحسب إيمانه وجب دخوله تحت الاستثناء وخروجه عن المستثنى منه ومتى كان كذلك ثبت أنه من أهل الشفاعة وأما السؤال الثاني فجوابه أن حمل الآية على أن يكون معناها ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أولى من حملها على أن المراد ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله شفاعته لأن على التقدير الأول تفيد الآية الترغيب والتحريض على طلب مرضاة الله عز وجل والاحتراز عن معاصيه وعلى التقدير الثاني لا تفيد الآية ذلك ولا شك أن تفسير كلام الله تعالى بما كان أكثر فائدة أولى وخامسها قوله تعالى في صفة الكفار فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) خصهم بذلك فوجب أن يكون حال المسلم بخلافه بناء على مسألة دليل الخطاب وسادسها قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ(3/57)
( محمد 19 ) دلت الآية على أنه تعالى أمر محمداً بأن يستغفر لكل المؤمنين والمؤمنات وقد بينا في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان كذلك ثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لهم وإذا كان كذلك ثبت أن الله تعالى قد غفر لهم وإلا لكان الله تعالى قد أمره بالدعاء ليرد دعاءه فيصير ذلك محض التحقير والايذاء وهو غير لائق بالله تعالى ولا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فدل على أن الله تعالى لما أمر محمداً بالاستغفار لكل العصاة فقد استجاب دعاءه وذلك إنما يتم لو غفر لهم ولا معنى للشفاعة إلا هذا وسابعها قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) فالله تعالى أمر الكل بأنهم إذا حياهم أحد بتحية أن يقابلوا تلك التحية بأحسن منها أو يردوها ثم أمرنا بتحية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) الصلاة من الله رحمة ولا شك أن هذا تحية فلما طلبنا من الله الرحمة لمحمد عليه الصلاة والسلام وجب بمقتضى قوله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن يفعل محمد مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين الرحمة من الله تعالى وهذا هو معنى الشفاعة ثم توافقنا على أنه عليه الصلاة والسلام غير مردود الدعاء فوجب أن يقبل الله شفاعته في الكل وهو المطلوب وثامنها قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ( النساء 64 ) وليس في الآية ذكر التوبة والآية تدل على أن الرسول متى استغفر للعصاة والظالمين فإن الله يغفر لهم وهذا يدل على أن شفاعة الرسول في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة لأنه لا قائل بالفرق وتاسعها أجمعنا على وجوب الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتأثيرها إما أن يكون في زيادة المنافع أو في إسقاط المضار والأول باطل وإلا لكنا شافعين للرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلبنا من الله تعالى أن يزيد في فضله عند ما نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو المطلوب فإن قيل إنما لا يطلق علينا كوننا شافعين لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجهين الأول أن الشفيع لا بد أن يكون أعلى رتبة من المشفوع له ونحن وإن كنا نطلب الخير له عليه الصلاة والسلام ولكن لما كنا أدنى رتبة منه عليه الصلاة والسلام لم يصح أن نوصف بكوننا شافعين له الثاني قال أبو الحسين سؤال المنافع للغير إنما يكون شفاعة إذا كان فعل تلك المنافع لأجل سؤاله ولولاه لم تفعل أو كان لسؤاله تأثير في فعلها فأما إذا كانت تفعل سواء سألها أو لم يسألها وكان غرض السائل التقرب بذلك إلى المسؤول وإن لم يستحق المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة فإن ذلك لا يكون شفاعة له ألا ترى أن السلطان إذا عزم على أن يعقد لابنه ولاية فحثه بعض أوليائه على ذلك وكان يفعل ذلك لا محالة سواء حثه عليه أو لم يحثه وقصد بذلك التقرب إلى السلطان ليحصل له بذلك منزلة عنده فإنه لا يقال إنه يشفع لابن السلطان وهذه حالتنا في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما نسأله له من الله تعالى فلم يصح أن نكون شافعين والجواب على الأول لا نسلم أن الرتبة معتبرة في الشفاعة والدليل عليه أن الشفيع إنما سمي شفيعاً مأخوذاً من الشفع وهذا المعنى لا تعتبر فيه الرتبة فسقط قولهم وبهذا الوجه يسقط السؤال الثاني(3/58)
وأيضاً فنقول في الجواب عن السؤال الثاني إنا وإن كنا نقطع بأن الله تعالى يكرم رسوله ويعظمه سواء سألت الأمة ذلك أم لم تسأل ولكنا لا نقطع بأنه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأمة ذلك على وجه لولا سؤال الأمة لما حصلت تلك الزيادة وإذا كان هذا الاحتمال يجوز وجب أن يبقى تجويز كوننا شافعين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولما بطل ذلك باتفاق الأمة بطل قولهم وعاشرها قوله تعالى في صفة الملائكة الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وصاحب الكبيرة من جملة المؤمنين فوجب دخوله في جملة من تستغفر الملائكة لهم أقصى ما في الباب أنه ورد بعد ذلك قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص الحادي عشر الأخبار الدالة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر ولنذكر منها ثلاثة أوجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) قالت المعتزلة الإعتراض عليه من ثلاثة وجوه أحدها أنه خبر واحد ورد على مضادة القرآن فإنا بينا أن كثيراً من الآيات يدل على نفي هذه الشفاعة وخبر الواحد إذا ورد على خلاف القرآن وجب رده وثانيها أنه يدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر وهذا غير جائز لأن شفاعته منصب عظيم فتخصيصه بأهل الكبائر فقط يقتضي حرمان أهل الثواب عنه وذلك غير جائز لأنه لا أقل من التسوية وثالثها أن هذه المسألة ليست من المسائل العملية فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلا يجوز التمسك في هذه المسألة بهذا الخبر ثم إن سلمنا صحة الخبر لكن فيه احتمالات أحدها أن يكون المراد منه الاستفهام بمعنى الانكار يعني أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما أن المراد من قوله هَاذَا رَبّى أي أهذا ربي وثانيها أن لفظ الكبيرة غير مختص لا في أصل اللغة ولا في عرف الشرع بالمعصية بل كما يتناول المعصية بل كما يتناول المعصية يتناول الطاعة قال تعالى في صفة الصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ وإذا كان كذلك فقوله لأهل الكبائر لا يجب أن يكون المراد منه أهل المعاصي الكبيرة بل لعل المراد منه أهل الطاعات الكبيرة فإن قيل هب أن لفظ الكبيرة يتناول الطاعات والمعاصي ولكن قوله أهل الكبائر صيغة جمع مقرونة بالألف واللام فيفيد العموم فوجب أن يدل الخبر على ثبوت الشفاعة لكل من كان من أهل الكبائر سواء كان من أهل الطاعات الكبيرة أو المعاصي الكبيرة قلنا لفظ الكبائر وإن كان للعموم إلا أن لفظ ( أهل ) مفرد فلا يفيد العموم فيكفي في صدق الخبر شخص واحد من أهل الكبائر فنحمله على الشخص الآتي بكل الطاعات فإنه يكفي في العمل بمقتضى الحديث حمله عليه وثالثها هب أنه يجب حمل أهل الكبائر على أهل المعاصي الكبيرة لكن أهل المعاصي الكبيرة أعم من أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليه بما انحبط من ثواب طاعته المتقدمة على فسقه سلمنا دلالة الخبر على قولكم لكنه معارض بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) ذكره(3/59)
مع همزة الاستفهام على سبيل الإنكار وروى الحسن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي ) واعلم أن الإنصاف أنه لا يمكن التمسك في مثل هذه المسألة بهذا الخبر وحده ولكن بمجموع الأخبار الواردة في باب الشفاعة وإن سائر الأخبار دالة على سقوط كل هذه التأويلات الثاني روى أبو هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ) رواه مسلم في الصحيح والاستدلال به أن الحديث صريح في أن شفاعته ( صلى الله عليه وسلم ) تنال كل من مات أمته لا يشرك بالله شيئاً وصاحب الكبيرة كذلك فوجب أن تناله الشفاعة والثالث عن أبي هريرة قال ( أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون لم ذلك قالوا لا يا رسول الله قال يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلّغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تذهبون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون أنت إبراهيم نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى ويقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسلاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم موسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم فيأتون عيسى فيقولون أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فأنطلق واستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني ثم(3/60)
يقول لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي تبارك وتعالى وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول أرفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم ارجع فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود ) وأكثر هذا الخبر مخرج بلفظه في الصحيحين قالت المعتزلة الكلام على هذا الخبر وأمثاله من وجوه أحدها أن هذه الأخبار أخبار طويلة فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجة وثانيها أنها خبر عن واقعة واحدة وأنها رويت على وجوه مختلفة مع الزيادات والنقصانات وذلك أيضاً مما يطرق التهمة إليها وثالثها أنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل أيضاً يطرق التهمة إليها ورابعها أنها وردت على خلاف ظاهر القرآن وذلك أيضاً بطرق التهمة إليها وخامسها أنها خبر عن واقعة عظيمة تتوافر الدواعي على نقلها فلو كان صحيحاً لوجب بلوغه إلى حد التواتر وحيث لم يكن كذلك فقد تطرقت التهمة إليها وسادسها أن الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل القطعية غير جائز أجاب أصحابنا عن هذه المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان مروياً بالآحاد إلا أنها كثيرة جداً وبينها قدر مشترك واحد وهو خروج أهل العقاب من النار بسبب الشفاعة فيصير هذا المعنى مروياً على سبيل التواتر فيكون حجة والله أعلم والجواب على جميع أدلة المعتزلة بحرف واحد وهو أن أدلتهم على نفي الشفاعة تفيد نفي جميع أقسام الشفاعات وأدلتنا على إثبات الشفاعة تفيد إثبات شفاعة خاصة والعام والخاص إذا تعارضا قدم الخاص على العام فكانت دلائلنا مقدمة على دلائلهم ثم إنا نخص كل واحد من الوجوه التي ذكروها بجواب على حدة
أما الوجه الأول وهو التمسك بقوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فهب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص مثل هذا العام بذلك السبب المخصوص يكفي فيه أدنى دليل فإذا قامت الدلائل الدالة على وجود الشفاعة وجب المصير إلى تخصيصها
وأما الوجه الثاني وهو قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) فالجواب عنه أن قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ نقيض لقولنا للظالمين حميم وشفيع لكن قولنا للظالمين حميم وشفيع موجبة كلية ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية والسالبة يكفي في صدقها تحقق ذلك السلب في بعض الصور ولا يحتاج فيه إلى تحقق ذلك السلب في جميع الصور وعلى هذا فنحن نقول بموجبه لأن عندنا أنه ليس لبعض الظالمين حميم ولا شفيع يجاب وهم الكفار فأما أن يحكم على كل واحد منهم بسلب الحميم والشفيع فلا
وأما الوجه الثالث وهو قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) فالجواب عنه ما تقدم في الوجه الأول
وأما الوجه الرابع وهو قوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) فالجواب عنه أنه نقيض لقولنا للظالمين أنصار وهذه موجبة كلية فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ سالبة جزئية فكيون مدلوله سلب العموم وسلب العموم لا يفيد عموم السلب(3/61)
وأما الوجه الخامس وهو قوله فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) فهذا وارد في حق الكفار وهو يدل بسبب التخصيص على ضد هذا الحكم في حق المؤمنين
وأما الوجه السادس وهو قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) فقد تقدم القول فيه
وأما الوجه السابع وهو قول المسلمين اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجواب عنه أن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً فاندفع السؤال
وأما الوجه الثامن وهو التمسك بقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الانفطار 14 ) فالكلام عليه سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الوعيد
وأما الوجه التاسع وهو قوله لم يوجد ما يدل على إذن الله عز وجل في الشفاعة لأصحاب الكبائر فجوابه أن هذا ممنوع والدليل عليه ما أوردنا من الدلائل الدالة على حصول هذه الشفاعة
وأما الوجه العاشر وهو قوله في حق الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ ( غافر 7 ) فجوابه ما بينا أن خصوص آخر هذه الآية لا يقدح في عموم أولها
وأما الأحاديث فهي دالة على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشفع لبعض الناس ولا يشفع في بعض مواطن القيامة وذلك لا يدل على أنه لا يشفع لأحد ألبتة من أصحاب الكبائر ولا أنه يمتنع من الشفاعة في جميع المواطن والذي نحققه أنه تعالى بين أن أحداً من الشافعين لا يشفع إلا بإذن الله فلعل الرسول لم يكن مأذوناً في بعض المواضع وبعض الأوقات فلا يشفع في ذلك المكان ولا في ذلك الزمان ثم يصير مأذوناً في موضع آخر وفي وقت آخر في الشفاعة فيشفع هناك والله أعلم
قالت الفلاسفة في تأويل الشفاعة إن واجب الوجود عام الفيض تام الجود فحيث لا يحصل فإنما لا يحصل لعدم كون القابل مستعداً ومن الجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض عن واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود فيكون ذلك الشيء كالمتوسط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأول ومثاله في المحسوس أن الشمس لا تضيء إلا للقابل المقابل وسقف البيت لما لم يكن مقابلاً لجرم الشمس لا جرم لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس إلا أنه إذا وضع طست مملوء من الماء الصافي ووقع عليه ضوء الشمس انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف فيكون ذلك الماء الصافي متوسطاً في وصول النور من قرص الشمس إلى السقف الذي هو غير مقابل للشمس وأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق في وصول فيض واجب الوجود إلى أرواح العامة فهذا ما قالوه في الشفاعة تفريعاً على أصولهم(3/62)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالاً بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فكأنه قال اذكروا نعمتي واذكروا إذ نجيناكم واذكروا إذ فرقنا بكم البحر وهي إنعامات والمذكور في هذه الآية هو الإنعام الأول أما قوله وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم فقرىء أيضاً أنجيناكم ونجيتكم قال القفال أصل الأنجاء والتنجية التخليص وأن بيان الشيء من الشيء حتى لا يتصلا وهما لغتان نجى وأنجى ونجا بنفسه وقالوا لمكان العالي نجوة لأن من صار إليه نجا أي تخلص ولأن الموضع المرتفع بائن عما انحط عنه فكأنه متخلص منه قال صاحب الكشاف أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم ولا يقال آل الحجام والإسكاف قال عيسى الأهل أعم من الآل يقال أهل الكوفة وأهل البلد وأهل العلم ولا يقال آل الكوفة وآل البلد وآل العلم فكأنه قال الأهل هم خاصة الشيء من جهة تغليبه عليهم والآل خاصة الرجل من جهة قرابة أو صحبة وحكى عن أبي عبيدة أنه سمع فصيحاً يقول أهل مكة آل الله أما فرعون فهو علم لمن ملك مصر من العمالقة كقيصر وهرقل لملك الروم وكسرى لملك الفرس وتبع لملك اليمن وخاقان لملك الترك واختلفوا في فرعون من وجهين أحدهما أنهم اختلفوا في اسمه فحكى ابن جريج عن قوم أنهم قالوا مصعب بن ريان وقال ابن اسحق هو الوليد ابن مصعب ولم يكن من الفراعنة أحد أشد غلظة ولا أقسى قلباً منه وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط الثاني قال ابن وهب إن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى وهذا غير صحيح إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة وقال محمد بن اسحق هو غير فرعون يوسف وأن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد أما آل فرعون فلا شك أن المراد منه ههنا من كان من قوم فرعون وهم الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل ليكون تعالى منجياً لهم منهم بما تفضل به من الأحوال التي توجب بقاءهم وهلاك فرعون وقومه أما قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ فهو من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً قال عمرو بن كلثوم إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونه بكم والسوء مصدر ساء بمعنى السيىء يقال أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ومعنى سوء العذاب والعذاب(3/63)
كله سيىء أشده وأصعبه كأن قبحه ( زاد ) بالإضافة إلى ساء واختلف المفسرون في المراد من ( سوء العذاب ) فقال محمد بن إسحق إنه جعلهم خولاً وخدماً له وصنفهم في أعماله أصنافاً فصنف كانوا يبنون له وصنف كانوا يحرثون له وصنف كانوا يزرعون له فهم كانوا في أعماله ومن لم يكن في نوع من أعماله كان يأمر بأن يوضع عليه جزية يؤديها وقال السدي كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة مثل لنس المبرز وعمل الطين ونحت الجبال وحكى الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم قالوا لموسى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ( الأعراف 129 ) وقال موسى لفرعون ( وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني اسرائيل ) واعلم أن كون الإنسان تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب حتى أن من هذه حالته ربما تمنى الموت فبين الله تعالى عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك ثم إنه تعالى أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها فقال يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ومعناه يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث وههنا أبحاث
البحث الأول أن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه أحدها أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال وذلك يقتضي انقطاع النسل لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن ألبتة في ذلك وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء وثانيها أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت لما قد يقع إليها من نكد العيش بالإنفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن والنجاة منها في العظم تكون بحسبها وثالثها أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعاً به مسروراً بأحواله فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه ورابعها أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم ولذلك قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ ( النحل 58 ) الآية ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور وخامسها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان
البحث الثاني ذكر في هذه السورة يُذَبّحُونَ بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو والوجه فيه أنه إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ لم يحتج إلى الواو وأما إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئاً آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو وفي الموضعين يحتمل الوجهين إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال إنه تعالى قال قبل تلك الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ( إبراهيم ) والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى فوجب أن يكون المراد من قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ نوعاً من العذاب والمراد من قوله وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ نوعاً آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة فلهذا وجب ذكر العطف هناك وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ(3/64)
عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 47 122 ) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلاً فظهر الفرق
البحث الثالث قال بعضهم أراد بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ الرجال دون الأطفال ليكون في مقابلة النساء إذ النساء هن البالغات وكذا المراد من الأبناء هم الرجال البالغون قالوا إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين وهذا هو الأولى لوجوه الأول حملاً للفظ الأبناء على ظاهره الثاني أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم الثالث أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة الرابع أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى أما قوله وجب حمله على الرجال ليكون في مقابلة النساء ففيه جوابان الأول أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولية لم يصيروا رجالاً فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم أما البنات لما لم يقتلن بل وصلن إلى حد النساء جاز إطلاق اسم النساء عليهن الثاني قال بعضهم المراد بقوله وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ أي يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا وأبطل ذلك بأن ما في بطونهن إذا لم يكن للعيون ظاهراً لم يعلم بالتفتيش ولم يوصل إلى استخراجه باليد
البحث الرابع في سبب قتل الأبناء ذكروا فيه وجوهاً أحدها قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة فصاروا يتقلون عاماً دون عام وثانيها قول السدي إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده وثالثها أن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة والأقرب هو الأول لأن الذي يستفاد من علم التعبير وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً بل يكون أمراً مجملاً والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه فإن قيل إن فرعون كان كافراً بالله فكان بأن يكون كافراً بالرسل أولى وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه السلام عنه قلنا لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوز صدق إبراهيم عليه السلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً
البحث الخامس اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه أحدها أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعاً لعذرهم(3/65)
وثانيها أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلاً لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين فكأنه تعالى قال لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال فإنه محق لا بد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه وثالثها أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة أما قوله تعالى وَفِي ذالِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ قال القفال أصل الكلمة من الابتلاء وهو الاختيار والامتحان قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وقال وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( الأعراف 168 ) والبلوى واقعة على النوعين فيقال للنعمة بلاء وللمحنة الشديدة بلاء والأكثر أن يقال في الخير إبلاء وفي الشر بلاء وقد يدخل أحدهما على الآخر قال زهير جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
إذ عرفت هذا فنقول البلاء ههنا هو المحنة إن أشير بلفظ ( ذلكم ) إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
هذا هو النعمة الثانية وقوله فَرَقْنَا أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرىء فَرَقْنَا بالتشديد بمعنى فصلنا يقال فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط فإن قلت ما معنى ( بكم ) قلنا فيها وجهان أحدهما أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما الثاني فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط وذلك لغرضين أحدهما ليخرجوا خلفهم لأجل المال والثاني أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى أخرج قومك ليلاً وهو المراد من قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى ( طه 77 ) وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً كل سبط خمسون ألفاً فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال لا تتبعوهم حتى يصيح الديك قال الراوي فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط وقال قتادة اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله تعالى فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( الشعراء 60 ) أي بعد طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَال(3/66)
َ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعرا 61 ) فقال موسى كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون أين أمرك ربك فقال موسى إلى أمامك وأشار إلى البحر فأقحم يوشع بن نون فرسه في البحر فكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر فسبح الفرس وهو عليه ثم رجع وقال له يا موسى أين أمرك ربك فقال البحر فقال والله ما كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( الشعراء 67 ) فانشق البحر اثني عشر جبلاً في كل واحد منها طريق فقال له ادخل فكان فيه وحل فهبت الصبا فجف البحر وكل طريق فيه حتى صار طريقاً يابساً كما قال تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ( طه 77 ) فأخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه فقالوا لموسى إن بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ وكوى فرأى بعضهم بعضاً ثم أتبعهم فرعون فلما بلغ شاطىء البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهم بأن لا يدخل البحر فجاء جبريل عليه السلام على حجرة فتقدم فرعون وهو كان على فحل فتبعه فرس فرعون ودخل البحر فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم في ذلك قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وقيل كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى
البحث الثاني اعلم أن هذه الواقعة تضمنت نعماً كثيرة في الدين والدنيا أما نعم الدنيا في حق موسى عليه السلام فهي من وجوه أحدها أنهم لما وقعوا في ذلك المضيق الذي من ورائهم فرعون وجنوده وقدامهم البحر فإن توقفوا أدركهم العدو وأهلكهم بأشد العذاب وإن ساروا غرقوا فلا خوف أعظم من ذلك ثم إن الله نجاهم بفلق البحر فلا فرج أشد من ذلك وثانيها أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة وذلك سبب لظهور كرامتهم على الله تعالى وثالثها أنهم شاهدوا أن الله تعالى أهلك أعداءهم ومعلوم أن الخلاص من مثل هذا البلاء من أعظم النعم فكيف إذا حصل معه ذلك الإكرام العظيم وإهلاك العدو ورابعها أن أورثهم أرضهم وديارهم ونعمهم وأموالهم وخامسها أنه تعالى لما أغرق آل فرعون فقد خلص بني إسرائيل منهم وذلك نعمة عظيمة لأنه كان خائفاً منهم ولو أنه تعالى خلص موسى وقومه من تلك الورطة وما أهلك فرعون وقومه لكان الخوف باقياً من حيث إنه ربما اجتمعوا واحتالوا بحيلة وقصدوا إيذاء موسى عليه السلام وقومه ولكن الله تعالى لما أغرقهم فقد حسم مادة الخوف بالكلية وسادسها أنه وقع ذلك الإغراق بمحضر من بني إسرائيل وهو المراد من قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وأما نعم الدين في حق موسى عليه السلام فمن وجوه أحدها أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات فإن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى عليه السلام تقرب من العلم الضروري فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق وثانيها أنهم لما عاينوا ذلك صار داعياً لهم إلى الثبات على تصديق موسى والإنقياد له وصار ذلك داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون وثالثها أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا والإقبال بالكلية على(3/67)
خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور وأما النعم الحاصلة لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر هذه القصة فكثيرة أحدها أنه كالحجة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل الكتاب لأنه كان معلوماً من حال محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط أهل الكتاب فإذا أورد عليهم من أخبارهم المفصلة ما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي وأنه صادق فصار ذلك حجة له عليه السلام على اليهود وحجة لنا في تصديقه وثانيها أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من خالف الله شقي في الدنيا والآخرة ومن أطاعه فقد سعد في الدنيا والآخرة فصار ذلك مرغباً لنا في الطاعة ومنفراً عن المعصية وثالثها أن أمة موسى عليه السلام مع أنهم خصوا بهذه المعجزات الظاهرة والبراهين الباهرة فقد خالفوا موسى عليه السلام في أمور حتى قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمع أن معجزتهم هي القرآن الذي لا يعرف كونه معجزاً إلا بالدلائل الدقيقة انقادوا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما خالفوه في أمر ألبتة وهذا يدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من أمة موسى عليه السلام وبقي على الآية سؤالان
السؤال الأول أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع القادر وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري فكيف يجوز فعله في زمان التكليف والجواب أما على قولنا فظاهر وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي الجواب الكلي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء ويختص بالبلادة وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) وأما العرب فحالهم بخلاف ذلك لأنهم كانوا في نهاية الكمال في العقول فلا جرم اقتصر الله تعالى معهم على الدلائل الدقيقة والمعجزات اللطيفة
السؤال الثاني أن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك ما كان من فعله بل لا بد من قادر عالم مخالف لسائر القادرين فكيف بقي على الكفر مع ذلك فإن قلت إنه كان عارفاً بربه إلا أنه كان كافراً على سبيل العناد والجحود قلت فإذا عرف ذلك بقلبه فكيف استخار توريط نفسه في المهلكة ودخول البحر مع أنه كان في تلك الساعة كالمضطر إلى العلم بوجود الصانع وصدق موسى عليه السلام والجواب حب الشيء يعمي ويصم فحبه الجاه والتلبيس حمله على اقتحام تلك المهلكة
وأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ففيه وجوه أحدها أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وثانيها أن قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى حالهم فسأل موسى عليه السلام ربه أن يريهم إياهم فلفظهم البحر ألف ألف ومائتي ألف نفس وفرعون معهم فنظروا إليهم طافين وإن البحر لم يقبل واحداً منهم لشؤم كفرهم فهو قوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ( يونس 92 ) أي نخرجك من مضيق البحر إلى سعة الفضاء ليراك الناس وتكون عبرة لهم وثالثها أن المراد وأنتم بالقرب منهم حيث توجهونهم وتقابلونهم وإن كانوا لا يرونهم بأبصارهم قال الفراء وهو مثل قولك لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم(3/68)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثالث فأما قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا فقرأ أبو عمرو ويعقوب وإذ وعدنا موسى بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه وقرأ الباقون واعدنا بالألف في المواضع الثلاثة فأما بغير ألف فوجهه ظاهر لأن الوعد كان من الله تعالى والمواعدة مفاعلة ولا بد من اثنين وأما بالألف فله وجوه أحدها أن الوعد وإن كان من الله تعالى فقبوله كان من موسى عليه السلام وقبول الوعد يشبه الوعد لأن القابل للوعد لا بد وأن يقول أفعل ذلك وثانيها قال القفال لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ويكون معناه يعاهد الله وثالثها أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا ورابعها وهو الأقوى أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور أما موسى ففيه وجوه أحدها وزنه فعلي والميم فيه أصلية أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وكان موسى عليه السلام كذلك وثانيها وزنه مفعل فالميم فيه زائدة وهو من أوسيت الشجرة إذا أخذت ما عليها من الورق وكأنه سمي بذلك لصلعه وثالثها أنها كلمة مركبة من كلمتين بالعبرانية فمو هو الماء بلسانهم وسى هو الشجر وإنما سمي بذلك لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون فألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر واعلم أن الوجهين الأولين فاسدان جداً أما الأول فلأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب فلا يجوز أن يكون مرادهم ذلك وأما الثاني فلأن هذه اللفظة اسم علم واسم العلم لا يفيد معنى في الذات والأقرب هو الوجه الثالث وهو أمر معتاد بين الناس فأما نسبه ( صلى الله عليه وسلم ) فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام أما قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه أبحاث
البحث الأول أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم من عند الله بكتاب بين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك فلما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل وأغرق الله فرعون قالوا يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود فذهب إلى ربه ووعدهم أربعين ليلة وذلك قوله تعالى وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ( الأعراف 142 ) واستخلف عليهم هارون ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله التوراة عليه في الألواح وكانت الألواح من زبرجد فقربه الرب نجياً وكلمه من غير واسطة وأسمعه صرير القلم قال أبو العالية وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور
البحث الثاني إنما قال أربعين ليلة لأن الشهور تبدأ من الليالي(3/69)
البحث الثالث قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً معناه واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان أي تمام الأربعين والحاصل أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان بل أربعين معيناً وهو الثلاثون من ذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة لأن موسى عليه السلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون وأيضاً فقوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين حتى تنزل عليه التوراة ويحتمل أن يكون المراد أنه أمر بأن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين ووعد بأنه ستنزل عليه بعد ذلك التوراة وهذا الاحتمال الثاني هو المتأيد بالأخبار
البحث الرابع قوله ههنا وَإِذَا واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين وقوله في الأعراف وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما أجاب الحسن البصري فقال ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً وهو كقوله ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ ( البقرة 196 )
أما قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول إنما ذكر لفظه ( ثم ) لأنه تعالى وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين وأظهر في ذلك درجة موسى عليه السلام وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيهاً للحاضرين على علو درجتهم وتعريفاً للغائبين وتكملة للدين كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء
البحث الثاني قال أهل السير إن الله تعالى لما أغرق فرعون ووعد موسى عليه السلام إنزال التوراة عليه قال موسى لأخيه هارون اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط قال لهم هارون إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها فجمعوا ناراً وأحرقوها وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدم على فرعون في دخول البحر فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصور منه عجلاً وألقى ذلك التراب فيه فخرج منه صوت كأنه الخوار فقال للقوم هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) فاتخذه القوم إلهاً لأنفسهم فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل وهذه الحكاية كذلك لوجوه أحدها أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السموات والأرض وهب أنه ظهر من خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلهاً وثانيها أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في(3/70)
الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً والجواب هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد وهو أن يقال إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات فقال السامري للقوم وأنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحث خرج منه صوت عجيب فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى عليه السلام في الإتيان بالخوارق أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة
البحث الثالث هذه القصة فيها فوائد أحدها أنها تدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خير الأمم لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك البراهين القاهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة جداً وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فانهم مع أنهم محتاجون في معرفة كون القرآن معجزاً إلى الدلائل الدقيقة لم يعتروا بالشبهات القوية العظيمة وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلاً وأزكى خاطراً منهم وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علماً وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي وثالثها فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري ورابعها في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى وخامسها أن أشد الناس مجادلة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف
أما قوله تعالى وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ففيه أبحاث
البحث الأول في تفسير الظلم وفيه وجهان الأول قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 ) والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا والثاني أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالماً ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعاً ولذة كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا ( وكان الشرك مؤدياً إلى النار سمي ظلماً
البحث الثاني استدلت المعتزلة بقوله وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى(3/71)
من وجوه أحدها أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها وثانيها أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد وثالثها لو كان العصيان مخلوقاً لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلاً وقصيراً والجواب هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مراراً
البحث الثالث في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الاتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء
أما قوله تعالى ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ فقالت المعتزلة المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتوبة وهي قتل بعضهم بعضاً وهذا ضعيف من وجهين الأول أن قبول التوبة واجب عقلاً فلو كان المراد ذلك لما جاز عده في معرض الأنعام لأن أداء الواجب لا يعد من باب الأنعام والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله تعالى عليهم الثاني أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحق فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذاك لا يسمى عفواً ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم فإذا ترك ذلك العذاب لايسمى ذلك الترك عفواً فكذا ههنا وإذا ثبت هذا فنقول لا شك في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وإذا كان كذلك دلت هذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى قد أسقط عقاب من يجوز عقابه عقلاً وشرعاً وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة وإذا ثبت أنه تعالى عفا عن كفار قوم موسى فلأن يعفو عن فساق أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم ( خير أمة أخرجت للناس ) كان أولى
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فاعلم أن الكلام في تفسير ( لعل ) قد تقدم في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الأنعام 153 ) ( الأعراف 17 ) ( البقرة 21 33 ) وأما الكلام في حقيقة الشكر وماهيته فطويل وسيجيء إن شاء الله تعالى ثم قالت المعتزلة إنه تعالى بين أنه إنما عفا عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر والجواب لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك إما بشرط أن يحصل للشاكر داعية الشكر أولاً بهذا الشرط فإن كان هذا الشرط من العبد لزم افتقار الداعية إلى داعية أخرى وإن كان من الله فحيث خلق الله الداعي حصل الشكر لا محالة وحيث لم يخلق الداعي استحال حصول الشكر وذلك ضد قول المعتزلة وإن أراد حصول الشكر منه من غير هذه الداعية فقد أراد منه المحال لأن الفعل بدون الداعي محال فثبت أن الإشكال وارد عليهم أيضاً والله أعلم
وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الرابع والمراد من الفرقان يحتمل أن يكون هو التوراة وأن يكون شيئاً داخلاً في(3/72)
التوراة وأن يكون شيئاً خارجاً عن التوراة فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها وتقرير الاحتمال الأول أن التوراة لها صفتان كونها كتاباً منزلاً وكونها فرقاناً تفرق بين الحق والباطل فهو كقولك رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً ( الأنبياء 48 ) وأما تقرير الاحتمال الثاني فهو أن يكون المراد من الفرقان ما في التوراة من بيان الدين لأنه إذا أبان ظهر الحق متميزاً من الباطل فالمراد من الفرقان بعض ما في التوراة وهو بيان أصول الدين وفروعه وأما تقرير الاحتمال الثالث فمن وجوه أحدها أن يكون المراد من الفرقان ما أوتي موسى عليه السلام من اليد والعصا وسائر الآيات وسميت بالفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل وثانيها أن يكون المراد من الفرقان النصر والفرج الذي آتاه الله بني إسرائيل على قوم فرعون قال تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الأنفال 41 ) والمراد النصر الذي آتاه الله يوم بدر وذلك لأن قبل ظهور النصر يتوقع كل واحد من الخصمين في أن يكون هو المستولي وصاحبه هو المقهور فإذا ظهر النصر تميز الراجح من المرجوح وانفرق الطمع الصادق من الطمع الكاذب وثالثها قال قطرب الفرقان هو انفراق البحر لموسى عليه السلام فإن قلت فهذا قد صار مذكوراً في قوله تعالى وَإِذَا فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) وأيضاً فقوله تعالى بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لا يليق إلا بالكتاب لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى قلت الجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص وعن الثاني أن فرق البحر كان من الدلائل فلعل المراد أنا لما آتينا موسى فرقان البحر استدلوا بذلك على وجود الصانع وصدق موسى عليه السلام وذلك هو الهداية وأيضاً فالهدى قد يراد به الفوز والنجاة كما يراد به الدلالة فكأنه تعالى بين أنه آتاهم الكتاب نعمة في الدين والفرقان الذي حصل به خلاصهم من الخصم نعمة عاجلة واعلم أن من الناس من غلط فظن أن الفرقان هو القرآن وأنه أنزل على موسى عليه السلام وذلك باطل لأن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكل دليل كذلك فلا وجه لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن وقال آخرون المعنى وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وآتينا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وقد مال إلى هذا القول من علماء النحو الفراء وثعلب وقطرب وهذا تعسف شديد من غير حاجة ألبتة إليه
وأما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فقد تقدم تفسير لعل وتفسير الاهتداء واستدلت المعتزلة بقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ على أن الله تعالى أراد الاهتداء من الكل وذلك يبطل قول من قال أراد الكفر من الكافر وأيضاً فإذا كان عندهم أنه تعالى يخلق الاهتداء فيمن يهتدي والضلال فيمن يضل فما الفائدة في أن ينزل الكتاب والفرقان ويقول لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو خلق الاهتداء ولا كتاب لحصل الاهتداء ولو أنزل بدلاً من الكتاب الواحد ألف كتاب ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء فكيف يجوز أن يقول أنزلت الكتاب لكي تهتدوا واعلم أن هذا الكلام قد تقدم مراراً لا تحصى مع الجواب والله أعلم(3/73)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
اعلم أن هذا الإنعام الخامس قال بعض المفسرين هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وذلك لأنها أمر بالقتل لا يكون نعمة وهذا ضعيف من وجوه أحدها أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً في تمام النعمة فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدوداً في نعم الله فجاز التذكير بها وثانيها أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثالثها أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم قبل الله إيمانكم منكم فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيهاً على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة ورابعها أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم
وأما قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ أي واذكروا إذ قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد اتخذوا العجل يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ وللمفسرين في الظلم قولان أحدهما أنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام والثاني أن الظلم هو الإصرار الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع ولا دفع مضرة لا علماً ولا طباً فلما عبدوا العجل كانوا قد أضروا بأنفسهم لأن ما يؤدي إلى ضرر الأبد من أعظم الظلم ولذلك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) لكن هذا الظلم من حقه أن يقيد لئلا يوهم إطلاقه إنه ظلم الغير لأن الأصل في الظلم ما يتعدى فلذلك قال إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ
أما قوله تعالى بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ففيه حذف لأنهم لم يظلموا أنفسهم بهذا القدر لأنهم لو اتخذوه(3/74)
ولم يجعلوه إلهاً لم يكن فعلهم ظلماً فالمراد باتخاذكم العجل إلهاً لكن لما دلت مقدمة الآية على هذا المحذوف حسن الحذف
أما قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يقتضي كون التوبة مفسرة بقتل النفس كما أن قوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ) يقتضي أن وضع الطهور مواضعه مفسر بغسل الوجه واليدين ولكن ذلك باطل لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل القبيح الذي مضى والعزم على أن لا يأتي بمثله بعد ذلك وذلك مغاير لقتل النفس وغير مستلزم له فكيف يجوز تفسيره به والجواب ليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن شرط توبتهم قتل النفس كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه فلا يمتنع أن يكون من شرع موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل إذا ثبت هذا فنقول شرط الشيء قد يطلق عليه اسم ذلك الشيء مجازاً كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة أن توبتك ردماً غصبت يعني أن توبتك لا تتم إلا به فكذا ههنا
السؤال الثاني ما معنى قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ والتوبة لا تكون إلا للبارىء والجواب المراد منه النهي عن الرياء في التوبة كأنه قال لهم لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله الذي هو مطلع على ضميركم وإنما تبتم إلى الناس وذلك مما لا فائدة فيه فإنكم إذا أذنبتم إلى الله
السؤال الثالث كيف اختص هذا الموضع بذكر البارىء والجواب البارىء هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة فكان ذلك تنبيهاً على أن من كان كذلك فهو أحق بالعبادة من البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة
السؤال الرابع ما الفرق بين الفاء في قوله فَتُوبُواْ والفاء في قوله فَاقْتُلُواْ الجواب أن الفاء الأولى للسبب لأن الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأن القتل من تمام التوبة فمعنى قوله فَتُوبُواْ أي فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم
السؤال الخامس ما المراد بقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أهو ما يقتضيه ظاهره من أن يقتل كل واحد نفسه أو المراد غير ذلك الجواب اختلف الناس فيه فقال قوم من المفسرين لا يجوز أن يكون المراد أمر كل واحد من التائبين بقتل نفسه وهو اختيار القاضي عبد الجبار واحتجوا عليه بوجهين الأول وهو الذي عول عليه أهل التفيسر أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك الثاني وهو الذي عول عليه القاضي عبد الجبار أن القتل هو نقض البنية التي عندها يجب أن يخرج من أن يكون حياً وما عدا ذلك مما يؤدي إلى أن يموت قريباً أو بعيداً إنما سمي قتلاً على(3/75)
طريق المجاز إذا عرفت حقيقة القتل فنقول إنه لا يجوز أن يأمر الله تعالى به لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ولا تكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه وهذا بخلاف ما يفعله الله تعالى من الإماتة لأن ذلك من فعل الله فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر ويعوض ذلك المكلف بالعوض العظيم وبخلاف أن يأمر الله تعالى بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه ولا يحصل الموت عقبه لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأفعال المستقبلة ولقائل أن يقول لا نسلم أن القتل اسم للفعل المزهق للروح في الحال بل هو عبارة عن الفعل المؤدي إلى الزهوق إما في الحال أو بعده والدليل عليه أنه لو حلف أن لا يقتل إنساناً فجرحه جراحة عظيمة وبقي بعد تلك الجراحة حياً لحظة واحدة ثم مات فإنه يحنث في يمينه وتسميه كل أهل هذه اللغة قاتلاً والأصل في الاستعمال الحقيقة فدل على أن اسم القتل اسم الفعل المؤدي إلى الزهوق سواء أدى إليه في الحال أو بعد ذلك وأنت سلمت جواز ورود الأمر بالجراحة التي لا تستعقب الزهوق في الحال وإذا كان كذلك ثبت جواز أن يراد الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه سلمنا أن القتل اسم الفعل المزهق للروح في الحال فلم لا يجوز ورود الأمر به قوله لا بد في ورود الأمر به من مصلحة استقبالية قلنا أولاً لا نسلم أنه لا بد فيه من مصلحة والدليل عليه أنه أمر من يعلم كفره بالإيمان ولا مصلحة في ذلك إذ لا فائدة من ذلك التكليف إلا حصول العقاب سلمنا أنه لا بد من مصلحة ولكن لم قلت إنه لا بد من عود تلك المصلحة إليه ولم لا يجوز أن قتله نفسه مصلحة لغيره فالله تعالى أمره بذلك لينتفع به ذلك الغير ثم إنه تعالى يوصل العوض العظيم إليه سلمنا أنه لا بد من عود المصلحة إليه لكن لم لا يجوز أن يقال إن علمه بكونه مأموراً بذلك الفعل مصلحة له مثل أنه لما أمر بأن يقتل نفسه غداً فإن علمه بذلك يصير داعياً له إلى ترك القبائح من ذلك الزمان إلى ورود الغد وإذا كانت هذه الاحتمالات ممكنة سقط ما قال القاضي بل الوجه الأول الذي عول عليه المفسرون أقوى وعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها ثم فيه وجهان الأول أن يقال أمر كل واحد من أولئك التائبين بأن يقتل بعضهم بعضاً فقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضاً وهو كقوله في موضع آخر وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) ومعناه لا يقتل بعضكم بعضاً وتحقيقه أن المؤمنين كالنفس الوحدة وقيل في قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) أي إخوانكم من المؤمنين وفي قوله لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً ( النور 12 ) أي بأمثالهم من المسلمين وكقوله فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) أي ليسلم بعضكم على بعض ثم قال المفسرون أولئك التائبون برزوا صفين فضرب بعضهم بعضاً إلى الليل الوجه الثاني أن الله تعالى أمر غير أولئك التائبين بقتل أولئك التائبين فيكون المراد من قوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي استسلموا للقتل وهذا الوجه الثاني أقرب لأن في الوجه الأول تزداد المشقة لأن الجماعة إذا اشتركت في الذنب كان بعضهم أشد عطفاً على البعض من غيرهم عليهم فإذا كلفوا بأن يقتل بعضهم بعضاً عظمت المشقة في ذلك ثم اختلفت الروايات فالأول أنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم وكان المقتولون سبعين ألفاً فما تحركوا حتى قتلوا على ثلاثة(3/76)
أيام وهذا لقول ذكره محمد بن إسحاق الثاني أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة وأتاهم هارون بالإثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف فقال التائبون إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل يقولون أمين فجعلوا يقتلونهم إلى المساء وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله ويقولان البقية البقية يا إلهنا فأوحى الله تعالى إليهما قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي قال وكان القتلى سبعين ألفاً هذه رواية الكلبي الثالث أن بني إسرائيل كانوا قسمين منهم من عبد العجل ومنهم من لم يعبده ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة ثم قال المفسرون إن الرجل كان يبصر والده وولده وجاره فلم يمكنه المضي لأمر الله فأرسل الله تعالى سحابة سوداء ثم أمر بالقتل فقتلوا إلى المساء حتى دعا موسى وهارون عليهما السلام وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فانكشفت السحابة ونزلت التوراة وسقطت الشفار من أيديهم
السؤال السادس كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل الجواب ذلك مما يختلف بالشرائع فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة إما عاماً في حق الكل أو كان خاصاً بذلك القوم
السؤال السابع هل يصح ما روي أن منهم من لم يقتل ممن قبل الله توبته الجواب لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عاماً فالعام قد يتطرق إليه التخصيص
أما قوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ففيه تنبيه على ما لأجله يمكن تحمل هذه المشقة وذلك لأن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وضرر الآخرة والأول أولى بالتحمل لأنه متناه وضرر الآخرة غير متناه ولأن الموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقدم والتأخير وأما الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم
أما قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ ففيه محذوف تم فيه وجهان أحدهما أن يقدر من قول موسى عليه السلام كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم والآخر أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم
وأما معنى قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(3/77)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السادس بيانه من وجوه أحدها كأنه تعالى قال اذكروا نعمتي حين قلتم لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة ثم أحييتكم لتتوبوا عن بغيكم وتتخلصوا عن العقاب وتفوزوا بالثواب وثانيها أن فيها تحذيراً لمن كان في زمان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك وثالثها تشبيههم في جحودهم معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأسلافهم في جحود نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات الظاهرة وتنبيهاً على أنه تعالى إنما لا يظهر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ولو جحدوها لاستحقوا العقاب مثل ما استحقه أسلافهم ورابعها فيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يلاقي منهم وتثبيت لقلبه على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وخامسها فيه إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب لما أنهم عرفوا خبره وذلك لأنه تعالى بين أن أسلافهم مع مشاهدتهم تلك الآيات الباهرة على نبوة موسى عليه السلام كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ويخالفونه فلا يتعجب من مخالفتهم لمحمد عليه الصلاة والسلام وإن وجدوا في كتبهم الأخبار عن نبوته وسادسها لما أخبر محمد عليه الصلاة والسلام عن هذه القصص مع أنه كان أمياً لم يشتغل بالتعلم ألبتة وجب أن يكون ذلك عن الوحي
البحث الثاني للمفسرين في هذه الواقعة قولان الأول أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل قال محمد بن اسحاق لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وحرق العجل وألقاه في البحر اختار من قومه سبعين رجلاً من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى سل ربك حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم ادخلوا وعوا وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له افعل ولا تفعل فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فارجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون فيّ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى رد الله إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم(3/78)
القول الثاني أن هذه الواقعة كانت بعد القتل قال السدي لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل فاختار موسى سبعين رجلاً فلما أتوا الطور قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا فقام موسى يبكي ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد فماذا أقول لهم فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً فقال موسى إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) إلى قوله إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 56 ) ثم إنه تعالى أحياهم فقاموا ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى فقالوا يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً إلا أعطاك فادعه يجعلنا أنبياء فدعاه بذلك فأجاب الله دعوته واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم
أما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ فمعناه لا نصدقك ولا نعترف بنبوتك حتى نرى الله جهرة ( أي ) عياناً قال صاحب الكشاف وهي مصدر من قولك جهرت بالقراءة وبالدعاء كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقب مخافت بها وانتصار بها على المصدر لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما ينصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال بمعنى ذوي جهرة وقرىء جهرة بفتح الهاء وهي إما مصدر كالغلبة وإما جمع جاهر وقال القفال أصل الجهرة من الظهور يقال جهرت الشيء ( إذا ) كشفته وجهرت البئر إذا كان ماؤها مغطى بالطين فنقيته حتى ظهر ماؤه ويقال صوت جهير ورجل جهوري الصوت إذا كان صوته عالياً ويقال وجه جهير إذا كان ظاهر الوضاءة وإنما قالوا جهرة تأكيداً لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ( نحو ) ما يراد النائم
أما قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ففيه أبحاث
البحث الأول استدلت المعتزلة بذلك على أن رؤية الله ممتنعة قال القاضي عبد الجبار إنها لو كانت جائزة لكانوا قد التمسوا أمراً مجوزاً فوجب أن لا تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم العقوبة لما التمسوا النقل من قوت إلى قوت وطعام إلى طعام في قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ ( البقرة 61 ) وقال أبو الحسين في كتاب التصفح إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا استعظمه وذلك في آيات أحدها هذه الآية فإن الرؤية لو كانت جائزة لكان قولهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) كقول الأمم لأنبيائهم لن نؤمن إلا باحياء ميت في أنه لا يستعظم ولا تأخذهم الصاعقة وثانيها قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فسمي ذلك ظلماً وعاقبهم في الحال فلو كانت الرؤية جائزة لجرى سؤالهم لها مجرى من يسأل معجزة زائدة فإن قلت أليس إنه سبحانه وتعالى قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كل واحد منهما عتوا فكما أن إنزال الكتاب غير ممتنع في نفسه فكذا سؤال الرؤية قلت الظاهر يقتضي كون كل واحد منهما ممتنعاً ترك العمل به في إنزال الكتاب فيبقى معمولاً به في الرؤية وثالثها قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى(3/79)
رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ( الفرقان 21 ) فالرؤية لو كانت جائزة وهي عند مجزيها من أعظم المنافع لم يكن التماسها عتواً لأن من سأل الله تعالى نعمة في الدين أو الدنيا لم يكن عاتياً وجرى ذلك مجرى ما يقال لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت
واعلم أن هذه الوجوه مشتركة في حرف واحد وهو أن الرؤية لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً ومنكراً وذلك ممنوع ( و ) قوله إن طلب سائر المنافع من النقل من طعام إلى طعام لما كان ممكناً لم يكن طالبه عاتياً وكذا القول في طلب سائر المعجزات قلنا ولم قلت إنه لما كان طالب ذلك الممكن ليس بعات وجب أن يكون طالب كل ممكن غير عات والاعتماد في مثل هذا الموضع على ضروب الأمثلة لا يليق بأهل العلم وكيف وأن الله تعالى ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئاً ممكناً حكمنا بجوازه بالاتفاق وهو إما نزول الكتاب من السماء أو نزول الملائكة وأثبت صفة العتو على مجموع الأمرين وذلك كالدلالة القاطعة في أن صفة العتو ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعاً أما قوله أبي الحسين الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً ترك العمل به في البعض فيبقى معمولاً به في الباقي قلنا إنك ما أقمت دليلاً على أن الاستعظام لا يتحقق إلا إذا كان المطلوب ممتنعاً وإنما عولت فيه على ضروب الأمثلة والمثال لا ينفع في هذا الباب فبطل قولك الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً فظهر بما قلنا سقوط كلام المعتزلة فإن قال قائل فما السبب في استعظام سؤال الرؤية الجواب في ذلك يحتمل وجوهاً أحدها أن رؤية الله تعالى لا تحصل إلا في الآخرة فكان طلبها في الدنيا مستنكراً وثانيها أن حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف وهذا على قول المعتزلة أولى لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري والعلم الضروري ينافي التكليف وثالثها أنه لما تمت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتاً والمتعنت يستوجب التعنيف ورابعها لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في منع الخلق عن رؤيته سبحانه في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء وإنزال الملائكة من السماء مفسدة عظيمة فلذلك استنكر طلب ذلك والله أعلم
البحث الثاني للمفسرين في الصاعقة قولان الأول أنها هي الموت وهو قول الحسن وقتادة واحتجوا عليه بقوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وهذا ضعيف لوجوه أحدها قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة وثانيها أنه تعالى قال في حق موسى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( الأعراف 143 ) أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً لأنه قال فَلَمَّا أَفَاقَ والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الغشي وثالثها أن الصاعقة وهي التي تصعق وذلك إشارة إلى سبب الموت ورابعها أن ورودها وهم مشاهدون لها أعظم في باب العقوبة منها إذا وردت بغتة وهم لا يعلمون ولذلك قال وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ منبهاً على عظم العقوبة القول الثاني وهو قول المحققين إن الصاعقة هي سبب الموت ولذلك قال في سورة الأعراف فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ واختلفوا في أن ذلك السبب أي شيء كان على ثلاثة أوجه أحدها أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم وثانيها صيحة جاءت من السماء وثالثها أرسل الله تعالى جنوداً سمعوا بخسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة(3/80)
أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لأن البعث قد ( لا ) يكون إلا بعد الموت كقوله تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( اكلهف 11 12 ) فإن قلت هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام قلت لا لوجهين الأول أنه خطاب مشافهة فلا يحب أن يتناول موسى عليه السلام الثاني أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى فَلَمَّا أَفَاقَ مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت وقال ابن قتيبة إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم أما أنه كلفهم فلقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً ( سبأ 13 ) فإن قيل كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت قلنا الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الأحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلاً لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلاً لحياتهم
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مراراً فلا حاجة إلى الإعادة
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في سورة الأعراف وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه تعالى قال ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ بعضه معطوف على بعض وإن كان لا يمتنع خلاف ذلك لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها(3/81)
قال المفسرون وَظَلَّلْنَا وجعلن الغمام تظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه كُلُواْ على إرادة القول وَمَا ظَلَمُونَا يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وَمَا ظَلَمُونَا عليه
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل ( عليهم ) من المن والسلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة
واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين
النوع الأول ما يتعلق بالتفسير فنقول أما قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) فاعلم أنه أمر تكليف ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى أمر بدخول الباب سجداً وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفاً ودخول الباب سجداً مشروط بدخول القرية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة الثاني أن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) دليل على ما ذكرناه أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار وفيه أقوال أحدها وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد وثانيها أنها نفس مصر وثالثها وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت(3/82)
المقدس لأن الفاء في قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال وأما قوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة
أما قوله تعالى وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ففيه بحثان
الأول اختلفوا في الباب على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة إنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس وثانيهما حكى الأصم عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القرية ومدخلاً إليها
الثاني اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن أراد به نفس السجود الذي هو الصاق الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك ومنهم من حمله على غير السجود وهؤلاء ذكروا وجهين الأول رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً فما كان يحتاج فيه إلى الأمر الثاني أراد به الخضوع وهو الأقرب لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعاً مستكيناً أما قوله تعالى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ففيه وجوه أحدها وهو قول القاضي المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه وكذلك من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق ثانيها قول الأصم إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية وثالثها قال صاحب الكشاف ( حطة ) فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله
صبر جميل فكلانا مبتلي
والأصل صبراً على تقدير اصبر صبراً وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها وزيف القاضي ذلك بأن قال لو كان(3/83)
المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به ولكن قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ( البقرة 58 ) يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع كان الغفران متعلقاً به وخامسها قول القفال معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك فحط عنا ذنوبنا فإن قال قائل هل كان التكليف وارداً بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين أحدهما أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بالعربية وثانيهما وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على لتوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم حِطَّة ٌ اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً لأن المقصود من التوبة إما القلب وإما اللسان أما القلب فالندم وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها
أما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ فالكلام في المغفرة قد تقدم ثم ههنا بحثان
الأول أن قوله نَّغْفِرْ لَكُمْ ذكره الله تعالى في معرض الامتنان ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
الثاني ههنا قراءات أحدها قرأ أبو عمرو وابن المنادي بالنون وكسر الفاء وثانيها قرأ نافع بالياء وفتحها وثالثها قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء ورابعها قرأ الحسن وقتادة وأبو حيوة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء قال القفال والمعنى في هذه القراءات كلها واحد لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد أما قوله تعالى خَطَايَاكُمْ ففيه قراءات أحدها قرأ الجحدري ( خطيئتكم ) بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة وثانيها الأعمش ( خطيئاتكم ) بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء وثالثها الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء ورابعها الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء وخامسها ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف وسادسها الكسائي بكسر الطاء والتاء والباقون بإمالة الياء فقط
أما قوله تعالى وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسناً بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسناً بطاعات أخرى في سائر التكاليف أما على التقدير الأول فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين أما الاحتمال الأول وهو أن تكون من منافع الدنيا فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية وأما الاحتمال الثاني وهو أن تكون من منافع الآخرة فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) أي نجازيهم بالإحسان إحساناً وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشراً وأكثر من ذلك وأما إن كان المراد من ( المحسنين ) من كان محسناً بطاعات أخرى بعد هذه التوبة فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم(3/84)
الباب سجداً وقولكم حطة مؤثراً في غفران الذنوب ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة وفي الآية تأويل آخر وهو أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ومن لم يكن خاطئاً بل كان محسناً زدنا في إحسانه أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين
أما قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ففيه قولان الأول قال أبو مسلم قوله تعالى فَبَدَّلَ يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لا على أنهم أتوا له ببدل والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مّنَ الاْعْرَابِ ( الفتح 11 ) إلى قوله يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ ( الفتح 15 ) ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه الثاني وهو قول جمهور المفسرين إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل فلا بد من حصول البدل وهذا كما يقال فلان بدل دينه يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر ويؤكد ذلك قوله تعالى قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً زاحفين على أستاههم قائلين حنطة من شعيرة وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة استهزاء وقال ابن زيد استهزاء بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة
أما قوله تعالى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم وذلك ظلم على ما تقدم
أما قوله تعالى فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ففيه بحثان
الأول أن في تكرير الَّذِينَ ظَلَمُواْ زيادة في تقبيح أمرهم وإيذاناً بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم الثاني أن الرجز هو العذاب والدليل عليه قوله تعالى وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ أي العقوبة وكذا قوله تعالى لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب
وأما قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ( الأنفال 11 ) فمعناه لطخه وما يدعوا إليه من الكفر ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه فقال ابن عباس مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة وقال ابن زيد بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفاً ولم يبق منهم أحد
أما قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فالفسق من الخروج المضر يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته قال أبو مسلم هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفائدة التكرار التأكيد والحق أنه غير مكرر لوجهين الأول أن الظلم قد يكون من الصغائر وقد يكون من الكبائر ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم في قوله تعالى رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) ولأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) ولو لم يكن الظلم إلا عظيماً لكان ذكر العظيم تكريراً والفسق لا بد وأن يكون من(3/85)
الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولاً وصفهم بالفسق ثانياً ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر الثاني يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار
النوع الثاني من الكلام في هذه الآية اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ( الأعراف 161 162 ) واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول فلا جرم استوجبوا الذم فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك والجواب أن ظاهر قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا وقال في الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) ثم أخذ يعدد ( نعمه ) نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول وَإِذْ قُلْنَا أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة
السؤال الثاني لم قال في البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ وفي الأعراف اسْكُنُواْ الجواب الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة
السؤال الثالث لم قال في البقرة فَكُلُواْ بالفاء وفي الأعراف وَكُلُواْ بالواو والجواب ههنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وفي الأعراف فَكُلاًّ
السؤال الرابع لم قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وفي الأعراف نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ الجواب الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة ( ة ) وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة
السؤال الخامس لم ذكر قوله رَغَدًا في البقرة وحذفه في الأعراف الجواب عن هذا السؤال كالجواب(3/86)
في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه
السؤال السادس لم ذكر في البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي الأعراف قدم المؤخر الجواب الواو للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ يحتمل أن يقال إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدماً على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولاً ( حطة ) ثم يدخلوا الباب سجداً وأما الذي لا يكون مذنباً فالأولى به أن يشتغل أولاً بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ثم يقولوا حطة ثانياً فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى
السؤال السابع لم قال وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في البقرة مع الواو وفي الأعراف سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ من غير الواو الجواب أما في الأعراف فذكر فيه أمرين أحدهما قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة وثانيها دخول الباب سجداً وهو إشارة إلى العبادة ثم ذكر جزأين أحدهما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وهو واقع في مقابلة قول الحطة والآخر قوله سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجداً فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحداً لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة
السؤال الثامن قال الله تعالى في سورة البقرة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً وفي الأعراف فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً فما الفائدة في زيادة كلمة ( منهم ) في الأعراف الجواب سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ ( من ) لأنه تعالى قال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم فلما انتهت القصة قال الله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فذكر لفظة مِنْهُمْ في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة وههنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق
السؤال التاسع لم قال في البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا وقال في الأعراف فَأَرْسَلْنَا الجواب الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية وذلك إنما يحدث بالآخرة
السؤال العاشر لم قال في البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وفي الأعراف بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ الجواب أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم(3/87)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
قراءة العامة اثنتا عشرة بسكون الشين على التخفيف وقراءة أبي جعفر بكسر الشين وعن بعضهم بفتح الشين والوجه هو الأول لأنه أخف وعليه أكثر القراء واعلم أن هذا هو الإنعام التاسع من الإنعامات المعدودة على بني إسرائيل وهو جامع لنعم الدنيا والدين أما في الدنيا فلأنه تعالى أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا في التيه كما لولا إنزاله المن والسلوى لهلكوا فقد قال تعالى وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الأنبياء 8 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) بل الإنعام بالماء في التيه أعظم من الإنعام بالماء المعتاد لأن الإنسان إذا اشتدت حاجته إلى الماء في المفازة وقد انسدت عليه أبواب الرجاء لكونه في مكان لا ماء فيه ولا نبات فإذا رزقه الله الماء من حجر ضرب بالعصا فانشق واستقى منه علم أن هذه النعمة لا يكاد يعدلها شيء من النعم وأما كونه من نعم الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ومن أصدق الدلائل على صدق موسى عليه السلام وههنا مسائل
المسألة الأولى جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال بل هو كلام مفرد بذاته ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه ويدل عليه وجهان أحدهما أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر الثاني ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معداً لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه
المسألة الثانية اختلفوا في العصا فقال الحسن كانت عصا أخذها من بعض الأشجار وقيل كانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة والذي يدل عليه القرآن أن مقدارها كان مقداراً يصح أن يتوكأ عليها وأن تنقلب حية عظيمة ولا تكون كذلك إلا ولها قدر من الطول والغلظ وما زاد على ذلك فلا دلالة عليه(3/88)
واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها
المسألة الثالثة اللام في ( الحجر ) إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم فروي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل اهبط مع آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ففر به فقال له جبريل يقول الله تعالى ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وعن الحسن لم يأمروه أن يضرب حجراً بعينه قال وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة وروي أنهم قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة فحمل حجراً في مخلاته فحينما نزلوا ألقاه وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك واختلفوا في صفة الحجر فقيل كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان والمختار عندنا تفويض علمه إلى الله تعالى
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَانفَجَرَتْ متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت بقي هنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف الجواب لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل إنه أبلغ في قيل إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصياً ولأنه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثاً كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) من أن المراد فضرب فانفلق
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر ههنا فَانفَجَرَتْ وفي الأعراف فَانبَجَسَتْ ( الأعراف 16 ) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلاً الجواب من ثلاثة أوجه أحدها الفجر الشق في الأصل والانفجار الانشقاق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق والانبجاس اسم للشق الضيق القليل فهما مختلفان اختلاف العام والخاص فلا يتناقضان وثانيها لعله انبجس أولاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون يظهر الماء منها قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه وثالثها لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر أي يخرج الماء كثيراً ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلاً
السؤال الثالث كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير الجواب هذا السائل إما أن يسلم وجود الفاعل المختار أو ينكره فإن سلم فقد زال السؤال لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء كما خلق البحار وغيرها وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن والنظر في تفسيره وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله تعالى في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه(3/89)
والأبرص وأيضاً فالفلاسفة لا يمكنهم القطع بفساد ذلك لأن العناصر الأربعة لها هيولى مشتركة عندهم وقالوا إنه يصح الكون والفساد عليها وإنه يصح انقلاب الهواء ماء وبالعكس وكذلك قالوا ( الهواء ) إذا وضع في الكوز الفضة جمد فإنه يجتمع على أطراف الكوز قطرات الماء فقالوا تلك القطرات إنما حصلت لأن الهواء انقلب ماء فثبت أن ذلك ممكن في الجملة والحوادث السفلية مطيعة للاتصالات الفلكية فلم يكن مستبعداً أن يحدث اتصال فلكي يقتضي وقوع هذا الأمر الغريب في هذا العالم فثبت أن الفلاسفة لا يمكنهم الجزم بفساد ذلك
أما المعتزلة فإنهم لما اعتقدوا كون العبد موجداً لأفعاله لا جرم قلنا لهم لم لا يجوز أن يقدر العبد على خلق الجسم فذكروا في ذلك طريقين ضعيفين جداً سنذكرهما إن شاء الله تعالى في تفسير آية السحر ونذكر وجه ضعفهما وسقوطهما وإذا كان كذلك فلا يمكنهم القطع بأن ذلك من فعل الله تعالى فتنسد عليهم أبواب المعجزات والنبوات أما أصحابنا فإنهم لما اعتقدوا أنه لا موجد إلا الله تعالى لا جرم جزموا أن المحدث لهذه الأفعال الخارقة للعادات هو الله تعالى فلا جرم أمكنهم الاستدلال بظهورها على يد المدعي على كونه صادقاً
السؤال الرابع أتقولون إن ذلك الماء كان مستكناً في الحجر ثم ظهر أو قلب الله الهواء ماء أو خلق الماء ابتداء والجواب أما الأول فباطل لأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم إلا على سبيل التداخل وهو محال أما الوجهان الأخيران فكل واحد منهما محتمل فإن كان على الوجه الأول فقد أزال الله تعالى اليبوسة عن أجزاء الهواء وخلق الرطوبة فيها وإن كان على الوجه الثاني فقد خلق تلك الأجزاء وخلق الرطوبة فيها واعلم أن الكلام في هذا الباب كالكلام فيما كان من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا
السؤال الخامس معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد عليه السلام الجواب كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة لكن التي لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ألبتة فكان ذلك أقوى
السؤال السادس ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً والجواب أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معيناً لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين
السؤال السابع من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز والجواب من وجوه أحدها أن نفس ظهور الماء معجز وثانيها خروج الماء العظيم من الحجر الصغير وثالثها خروج الماء بقدر حاجتهم ورابعها خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا وخامسها انقطاع الماء عند الاستغناء عنه فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى(3/90)
أما قوله تعالى قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ فنقول إنما علموا ذلك لأنه أمر كل إنسان أن لايشرب إلا من جدول معين كيلا يختلفوا عند الحاجة إلى الماء وأما إضافة المشرب إليهم فلأنه تعالى لما أباح لكل سبط من الأسباط ذلك الماء الذي ظهر من ذلك الشق الذي يليه صار ذلك كالملك لهم وجازت إضافته إليهم
أما قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللَّهِ ففيه حذف والمعنى فقلنا لهم أو قال لهم موسى كلوا واشربوا وإنما قال كلوا لوجهين أحدهما لما تقدم من ذكر المن والسلوى فكأنه قال كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب واشربوا من هذا الماء والثاني أن الأغذية لا تكون إلا بالماء فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا لأن أقل درجات قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ الإباحة وهذا يقتضي كون الرزق مباحاً فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز
أما قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ فالعثي أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه فكأنه تعالى قال إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع والله أعلم
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
اعلم أن القراءة المعروفة يخرج لنا بضم الياء وكسر الراء تنبت بضم التاء وكسر التاء وقرأ زيد بن علي بفتح الياء وضم الراء تنبت بفتح التاء وضم الباء ثم اعلم أن أكثر الظاهريين من المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية وعندنا أنه ليس الأمر كذلك والدليل عليه أن قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ من(3/91)
قبل هذه الآية عند إنزال المن والسلوى ليس بإيجاب بل هو إباحة وإذا كان كذلك لم يكن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ معصية لأن من أبيح له ضرب من الطعام يحسن منه أن يسأل غير ذلك إما بنفسه أو على لسان الرسول فلما كان عندهم أنهم إذا سألوا موسى أن يسأل ذلك من ربه كان الدعاء أقرب إلى الإجابة جاز لهم ذلك ولم يكن فيه معصية
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض الأول أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره الثاني لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفاً الثالث لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة الرابع أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ كالإجابة لما طلبوا ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية وهي غير جائزة على الأنبياء لا يقال إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ( الشورى 20 ) لأنا نقول هذا خلاف الظاهر واحتجوا على أن ذلك السؤال كان معصية بوجوه الأول أن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم كرهوا إنزال المن والسلوى وتلك الكراهة معصية الثاني أن قول موسى عليه السلام أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ استفهام على سبيل الإنكار وذلك يدل على كونه معصية الثالث أن موسى عليه السلام وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير وذلك يدل على ما قلناه والجواب عن الأول أنه ليس تحت قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم ما كانوا راضين به فقط بل اشتهوا شيئاً آخر ولأن قولهم لَن نَّصْبِرَ إشارة إلى المستقبل لأن كلمة لن للنفي في المستقبل فلا يدل على أنهم سخطوا الواقع وعن الثاني أن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة وعن الثالث بقريب من ذلك فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضراً متيقناً ومن حيث إنه يحصل عفواً بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر فقد يقال في الغائب المشكوك فيه إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد فلا يمتنع أن يكون مراده أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ هذا المعنى أو بعضه فثبت بما ذكرنا أن ذلك السؤال ما كان معصية بل كان سؤالاً مباحاً وإذا كان كذلك فقوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ(3/92)
وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ لا يجوز أن يكون لما تقدم بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فبين أنه إنما ضرب الذلة والمسكنة عليهم وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون لا لأنهم سألوا ذلك
المسألة الثانية قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ليس المراد أنه واحد في النوع بل أنه واحد في النهج وهو كما يقال إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير عن نهجه
المسألة الثالثة القراءة المعروفة وَقِثَّائِهَا بكسر القاف وقرأ الأعمش وطلحة وقثائها بضم القاف والقراءة المعروفة وَفُومِهَا بالفاء وعن علقمة عن ابن مسعود وثومها وهي قراءة ابن عباس قالوا وهذا أوفق لذكر البصل واختلفوا في الفوم فعن ابن عباس أنه الحنطة وعنه أيضاً أن الفوم هو الخبز وهو أيضاً المروي عن مجاهد وعطاء وابن زيد وحكي عن بعض العرب فوموا لنا أي اخبزوا لنا وقيل هو الثوم وهو مروي أيضاً عن ابن عباس ومجاهد واختيار الكسائي واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه في حرف عبد الله بن مسعود وثومها الثاني أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ لأن الحنطة أشرف الأطعمة الثالث أن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة
المسألة الرابعة القراءة المعروفة أَتَسْتَبْدِلُونَ وفي حرف أبي بن كعب ( أتبدلون ) بإسكان الباء وعن زهير الفرقبي ( أدنأ ) بالهمزة من الدناءة واختلفوا في المراد بالأدنى وضبط القول فيه أن المراد إما أن يكون أدنى في المصلحة في الدين أو في المنفعة في الدنيا والأول غير مراد لأن الذي كانوا عليه لو كان أنفع في باب الدين من الذي طلبوه لما جاز أن يجيبهم إليه لكنه قد أجابهم إليه بقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ فبقي أن يكون المراد منه المنفعة في الدنيا ثم لا يجوز أن يكون المراد أن هذا النوع الذي أنتم عليه أفضل من الذي تطلبونه لما بينا أن الطعام الذي يكون ألذ الأطعمة عند قوم قد يكون أخسها عند آخرين بل المراد ما بينا أن المن والسلوى متيقن الحصول وما يطلبونه مشكوك الحصول والمتيقين خير من المشكوك أو لأن هذا يحصل من غير كد ولا تعب وذلك لا يحصل إلا مع الكد والتعب فيكون الأول أولى فإن قيل كان لهم أن يقولوا هذا الذي يحصل عفواً صفواً لما كرهناه بطباعنا كان تناوله أشق من الذي لا يحصل إلا مع الكد إذا اشتهته طباعنا قلنا هب أنه وقع التعارض من هذه الجهة لكنه وقع الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع على الغائب المشكوك
المسألة الخامسة القراءة المعروفة اهْبِطُواْ بكسر الباء وقرىء بضم الباء القراءة المشهورة مِصْرًا بالتنوين وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله وَنُوحاً هَدَيْنَا وَلُوطاً ( الأنعام 84 86 ) وفيهما العجمة والتعريف وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كقوله أَدْخِلُواْ مِصْرًا واختلف المفسرون في قوله اهْبِطُواْ مِصْرًا روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب ترك التنوين وقال الحسن الألف في مصراً زيادة من الكاتب فحينئذ تكون معرفة فيجب أن تحمل على ما هو المختص بهذا الاسم وهو البلد الذي كان فيه فرعون وهو مروي عن أبي العالية والربيع وأما الذين قرؤوا بالتنوين وهي القراءة المشهورة فقد اختلفوا فمنهم من قال المراد البلد الذي كان فيه فرعون ودخول التنوين فيه كدخوله في نوح ولوط وقال آخرون المراد الأمر بدخول أي بلد كان كأنه قيل لهم ادخلوا بلداً أي بلد كان لتجدوا فيه هذه الأشياء وبالجملة فالمفسرون قد اختلفوا في أن المراد من مصر هو البلد الذي كانوا فيه أولاً أو بلد آخر(3/93)
فقال كثير من المفسرين لا يجوز أن يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون واحتجوا عليه بقوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ إيجاب لدخول تلك الأرض وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى والثاني أن قوله كِتَابِ اللَّهِ يقتضي دوام كونهم فيه والثالث أن قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس الرابع أنه تعالى بعد أن أمر بدخول الأرض المقدسة قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ فإذا تقدم هذا الأمر ثم بين تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدة فعند زوال العذر وجب أن يلزمهم دخولها وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها فإن قيل هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ أمر والأمر للندب فلعلهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة مع أنهم ما منعوا من دخول مصر أما الثاني فهو كقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فذلك يدل على دوام تلك الندبية وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فلا نسلم أن معناه ولا ترجعوا إلى مصر بل فيه وجهان آخران الأول المراد لا تعصوا فيما أمرتم به إذ العرب تقول لمن عصى فيما يؤمر به ارتد على عقبه والمراد من هذا العصيان أن ينكر أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى الثاني أن يخصص ذلك النهي بوقت معين فقط قلنا ثبت في أصول الفقه أن ظاهر الأمر للوجوب فيتم دليلنا بناء على هذا الأصل وأيضاً فهب أنه للندب ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب وذلك لا يليق بالأنبياء قوله لا نسلم أن المراد من قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا لا ترجعوا قلنا الدليل عليه أنه لما أمر بدخول الأرض المقدسة ثم قال بعده وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ تبادر إلى الفهم أن هذا النهي يرجع إلى ما تعلق به ذلك الأمر قوله أن يخصص ذلك النهي بوقت معين قلنا التخصيص خلاف الظاهر أما أبو مسلم الأصفهاني فإنه جوز أن يكون المراد مصر فرعون واحتج عليه بوجهين الأول أنا إن قرأنا اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كان لا محالة علماً لبلد معين وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سوى هذه البلدة المعينة فوجب حمل اللفظ عليه ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علماً وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى من حمله على الصفة مثل ظالم وحادث فإنهما لما جاءا علمين كان حملهما على العلمية أولى أما إن قرأناه بالتنوين فإما أن نجعله مع ذلك اسم علم ونقول إنه إنما دخل فيه التنوين لسكون وسطه كما في نوح ولوط فيكون التقرير أيضاً ما تقدم بعينه وأما إن جعلناه اسم جنس فقوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا يقتضي التخيير كما إذ قال أعتق رقبة فإنه يقتضي التخيير بين جميع رقاب الدنيا الوجه الثاني أن الله تعالى ورث بني إسرائيل أرض مصر وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها بيان أنها موروثة لهم قوله تعالى فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ إلى قوله كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 57 59 ) ولما ثبت أنها موروثة لهم وجب أن لا يكونوا ممنوعين من دخولها لأن الإرث يفيد الملك والملك مطلق للتصرف فإن قيل الرجل قد يكون مالكاً للدار وإن كان ممنوعاً عن دخولها بوجه آخر كحال من أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد فإن داره وإن(3/94)
كانت مملوكة له لكنه يحرم عليه دخولها فلم لا يجوز أن يقال إن الله ورثهم مصر بمعنى الولاية والتصرف فيها ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها من حيث أوجب عليهم أن يسكنوا الأرض المقدسة بقوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ قلنا الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل أجاب الفريق الأول عن هاتين الحجتين اللتين ذكرهما أبو مسلم فقالوا أما الوجه الأول فالجواب عنه أنا نتمسك بالقراءة المشهورة وهي التي فيها التنوين قوله هذه القراءة تقتضي التخيير قلنا نعم لكنا نخصص العموم في حق هذه البلدة المعينة بما ذكرناه من الدليل
أما الوجه الثاني فالجواب عنه أنا لا ننازع في أن الملك مطلق للتصرف ولكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمناه من الدلالة
أما قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ فالمعنى جعلت الذلة محيطة بهم حتى مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه والأقرب في الذلة أن يكون المراد منها ما يجري مجرى الاستحقاق كقوله تعالى فيمن يحارب ويفسد ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا فأما من يقول المراد به الجزية خاصة على ما قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( التوبة 29 ) فقوله بعيد لأن الجزية ما كانت مضروبة عليهم من أول الأمر
أما قوله تعالى وَالْمَسْكَنَة ُ فالمراد به الفقر والفاقة وتشديد المحنة فهذا الجنس يجوز أن يكون كالعقوبة ومن العلماء من عد هذا من باب المعجزات لأنه عليه السلام أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ووقع الأمر كذلك فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
أما قوله تعالى وَبَاءوا ففيه وجوه أحدها البوء الرجوع فقوله باءو أي رجعوا وانصرفوا بذلك ولا يقال باء إلا بشر وثانيها البوء التسوية فقوله باءو أي استوى عليهم غضب الله قال الزجاج وثالثها باؤ أي استحقوا ومنه قوله تعالى الْعَالَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ ( المائدة 29 ) أي تستحق الإثمين جميعاً وأما غضب الله فهو إرادة الانتقام
أما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فهو علة لما تقدم ذكره من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وإلحاق الغضب بهم قالت المعتزلة لو كان الكفر حصل فيهم بخلق الله تعالى كما حصلت الذلة والمسكنة فيهم بخلقه لما كان جعل أحدهما جزاء الثاني أولى من العكس وجوابه المعارضة بالعلم والداعي وأما حقيقة الكفر فقد تقدم القول فيها
أما قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضاً وفيه سؤالات
السؤال الأول أن قوله تعالى يَكْفُرُونَ دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى الجواب المذكور ههنا الكفر بآيات الله وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء
السؤال الثاني لم قال بِغَيْرِ الْحَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه الجواب من وجهين الأول أن الإتيان بالباطل قد يكون حقاً لأن الآتي به اعتقده حقاً لشبهة وقعت في قلبه وقد يأتي به(3/95)
مع علمه بكونه باطلاً ولا شك أن الثاني أقبح فقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقاً في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه وثانيها أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان وثالثها أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا أليس أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ فهو تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول وهو بمنزلة أن يقول الرجل لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها هذا بما عصيتني وخالفت أمري هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي هذا بكذا فيعد عليه ذنوبه بألفاظ مختلفة تبكيتاً أما قوله تعالى وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ فالمراد منه الظلم أي تجاوزوا الحق إلى الباطل واعلم أنه تعالى لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين علة ذلك فبدأ أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ثم ربع بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية حسن الترتيب فإن قيل قال ههنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذكر الحق بالألف واللام معرفة وقال في آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) نكرة وكذلك في هذه السورة وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَاء ( آل عمران 112 113 ) فما الفرق الجواب الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه السلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث ( كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القراءة المشهورة هَادُواْ بضم الدال وعن الضحاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو والقراءة المعروفة الصابئين والصابئون بالهمزة فيهما حيث كانا وعن نافع وشيبة والزهري والصابين بياء ساكنة من غير همز والصابون بباء مضمومة وحذف الهمزة وعن العمري يجعل الهمزة فيهما وعن أبي جعفر بياءين خالصتين فهما بدل الهمزة فأما ترك الهمزة فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء فأحبه والآخر قلب الهمزة فنقول الصابيين والصابيون والاختيار الهمز لأنه قراءة الأكثر وإلى معنى التفسير أقرب لأن أهل العلم قالوا هو الخارج من دين إلى دين واعلم أن عادة الله إذا ذكر(3/96)
وعداً أو وعيداً عقبه بما يضاده ليكون الكلام تاماً فههنا لما ذكر حكم الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الكريم دالاً على أنه سبحانه وتعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ واختلف المفسرون في المراد منه وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ غير المراد منه في قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ونظيره في الإشكال قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ ( النساء 136 ) فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوهاً أحدها وهو قول ابن عباس المراد الذين آمنوا قبل مبعث محمد بعيسى عليهما السلام مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل قس بن ساعدة وبحيرى الراهب وحبيب النجار وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ووفد النجاشي فكأنه تعالى قال إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والذين كانوا على الدين الباطل الذي للنصارى كل من آمن منهم بعد مبعث محمد عليه السلام بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم وثانيها أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري وثالثها المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة وهو عائد إلى الماضي ثم قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ هَادُواْ فقد اختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها إنما سموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 156 ) أي تبنا ورجعنا وهو عن ابن عباس وثانيها سموا به لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب وإنما قالت العرب بالدال للتعريب فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها وثالثها قال أبو عمرو بن العلاء سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة وأما النصارى ففي اشتقاق هذا الاسم وجوه أحدها أن القرية التي كان ينزلها عيسى عليه السلام تسمى ناصرة فنسبوا إليها وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج وثانيها لتناصر هم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً وثالثها لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله قال صاحب الكشاف النصارى جمع نصران يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري لأنهم نصروا المسيح
أما قوله تعالى وَالصَّابِئِينَ فهو من صبأ إذا خرج من دينه إلى دين آخر وكذلك كانت العرب(3/97)
يسمون النبي عليه السلام صابئاً لأنه أظهر ديناً بخلاف أديانهم وصبأت النجوم إذا أخرجت من مطلعها وصبأنا به إذا خرجنا به وللمفسرين في تفسير مذهبهم أقوال أحدها قال مجاهد والحسن هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وثانيها قال قتاد هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات وقال أيضاً الأديان خمسة منها للشيطان أربعة وواحد للرحمن الصابئون وهم يعبدون الملائكة والمجوس وهم يعبدون النار والذين أشركوا يعبدون الأوثان واليهود والنصارى وثالثها وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان الأول أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه سبحانه أمربتعظيم هذه الكواكب واتخاذه قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم والثاني أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم ثم إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم إذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فإن الله سبحانه وتعالى يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته ألبتة واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ فليس المراد العندية المكانية فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا الحفظ كالودائع بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم
وأما قوله تعالى وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقيل أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب وهذا أصح لأن قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عام في النفي وكذلك وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصاً في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً عن الخوف والحزن وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً لأنهم لو جوزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الحزن العظيم فإن قال قائل إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ ( المائدة 69 ) وفي سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى ( الحج 17 ) فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع ( الصابئين ) في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك والجواب لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم(3/98)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم
أما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه بحثان
الأول اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة والمفسرون ذكروا في تفسير الميثاق وجوهاً أحدها ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه ألبتة وهو قول الأصم وثانيها ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم إن فيها كتاب الله فقالوا لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علماً لموسى عليه السلام علماً مضافاً إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهداً موثقاً جعلوه لله على أنفسهم وهذا هو اختيار أبي مسلم وثالثها أن لله ميثاقين فالأول حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم والثاني أنه ألزم الناس متابعة الأنبياء والمراد ههنا هو هذا العهد هذا قول ابن عباس وهو ضعيف الثاني قال القفال رحمه الله إنما قال ( ميثاقكم ) ولم يقل مواثيقكم لوجهين أحدهما أراد به الدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي كل واحد منكم والثاني أنه كان شيئاً واحداً أخذ من كل واحد منهم كما أخذ على غيره فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً ولو قيل مواثيقكم لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد والله أعلم
وأما قوله تعالى وَرَفَعْنَا بِجَانِبِ الطُّورِ فنظيره قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ ( الأعراف 171 ) وفيه أبحاث
البحث الأول الواو في قوله تعالى وَرَفَعْنَا واو عطف على تفسير ابن عباس والمعنى أن أخذ(3/99)
الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل وأما على تفسير أبي مسلم فليست واو عطف ولكنها واو الحال كما يقال فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم الثاني قيل إن الطور كل جبل قال العجاج داني جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر
أما الخليل فقال في كتابه إن الطور اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضاً على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد وقال ابن عباس أمر تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجوداً يلاحظون الجبل فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم الثالث من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادراً عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول الرابع قال بعضهم إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف أجاب القاضي بأنه لا يلجيء لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز ههنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف
أما قوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل قال الجبائي هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال اكتب بالقلم ولا قلم وأجاب أصحابنا بأن المراد خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل
وأما قوله تعالى وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه فإن قيل هلا حملتموه على نفس الذكر قلنا لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل وجوابه ما تقدم
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أنهم(3/100)
فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذاً للميثاق ولا صح قوله من بعد ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فدل ذلك منهم على القبول والالتزام
أما قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به قال القفال رحمه الله قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب وجحودهم لحقه وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ ففيه بحثان
الأول ذكر القفال في تفسيره وجهين الأول لولا ما تفضل الله به عليكم من إمهالكم وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم فدل هذا القول على أنهم إنما خرجوا عن هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليهم بالإمهال حتى تابوا الثاني أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ ثم قيل فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رجوعاً بالكلام إلى أوله أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم
البحث الثاني أن لقائل أن يقول كلمة لَوْلاَ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم حصول فضل الله تعالى فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله تعالى وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية وذلك خلاف قول المعتزلة أجاب الكعبي بأنه تعالى سوى بين الكل في الفضل لكن انتفع بعضهم دون بعض فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك فضلك لكنت فقيراً وهذا الجواب ضعيف لأن أهل اللغة نصوا على أن ( لولا ) تفيد اتنفاء الشيء لثبوت غيره وبعد ثبوت هذه المقدمة فكلام الكعبي ساقط جداً
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ(3/101)
اعلم أنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولاً ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات وهذا هو النوع الأول وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة وهي القرية المذكورة في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ ( الأعراف 163 ) فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة فلما طال العهد استسن الأبناء بسنة الآباء واتخذوا الأموال فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً فقيل لهم لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الثانية المقصود من ذكر هذه القصة أمران الأول إظهار معجزة محمد عليه السلام فإن قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي الثاني أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت فكأنه يقول لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم ونظيره قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ( النساء 47 )
المسألة الثالثة الكلام فيه حذف كأنه قال ولقد علمتم اعتداء من اعتدى منكم في السبت لكي يكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك ولفظ الاعتداء يدل على أن الذي فعلوه في السبت كان محرماً عليهم وتفصيل ذلك غير مذكور في هذه الآية لكنه مذكور في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ ثم يحتمل أن يقال إنهم إنما تعدوا في ذلك الاصطياد فقط وأن يقال إنما تعدوا لأنهم اصطادوا مع أنهم استحلوا ذلك الاصطياد
المسألة الرابعة قال صاحب الكشاف السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت فإن قيل لما كان الله نهاهم عن الإصطيات يوم السبت فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام كما قال تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذالِكَ نَبْلُوهُم ( الأعراف 163 ) وهل هذا إلا إثارة الفتنة وإرادة الاضلال قلنا أما على مذهب أهل السنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب
أما قوله تعالى فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف ( قردة خاسئين ) خبر أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد(3/102)
المسألة الثانية قوله تعالى كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ليس بأمر لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة بل المراد منه سرعة التكوين كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 4 ) وكقوله تعالى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء بل لما قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ كذلك أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد وهو كقوله نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( النساء 47 ) ولا يمتنع أيضاً أن يتكلم الله بذلك عند هذا التكوين إلا أن المؤثر في هذا التكوين هو القدرة والإرادة فإن قيل لما لم يكن لهذا القول أثر في التكوين فأي فائدة فيه قلنا أما عندنا فأحكام الله تعالى وأفعاله لا تتوقف على رعاية المصالح ألبتة وأما عند المعتزلة فلعل هذا القول يكون لفظاً لبعض الملائكة أو لغيرهم
المسألة الثالثة المروي عن مجاهد أنه سبحانه وتعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله تعالى كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ( الجمعة 5 ) ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تعليمه كن حماراً واحتج على امتناعه بأمرين الأول أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المحسوسة فإذا أبطلها وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله كان ذلك إعداماً للإنسان وإيجاداً للقرد فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنساناً وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قرداً فهذا يكون إعداماً وإيجاداً لا أنه يكون مسخاً والثاني إن جوزنا ذلك لما آمنا في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات وأجيب عن الأول بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سميناً بعد أن كان هزيلاً وبالعكس فالأجزاء متبدلة والإنسان المعين هو الذي كان موجوداً والباقي غير الزائل فالإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس وذلك الأمر إما أن يكون جسماً سارياً في البدن أو جزءاً في بعض جوانب البدن كقلب أو دماغ أو موجوداً مجرداً على ما يقوله الفلاسفة وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ وبهذا التقدير يجوز في المالك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول عليه السلام وعن الثاني أن الأمان يحصل بإجماع الأمة ولما ثبت بما قررنا جواز المسخ أمكن إجراء الآية على ظاهرها ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله وإن كان ما ذكره غير مستبعد جداً لأن الإنسان إذا أصر على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور ألبتة بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول أنه بعد أن يصير قرداً لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم فلا يعلم ما نزل به من العذاب ومجرد القردية غير مؤلم بدليل أن القرود حال سلامتها غير متألمة فمن أين يحصل العذاب بسببه الجواب لم لا يجوز أن يقال أن الأمر الذي به يكون الإنسان إنساناً عاقلاً فاهماً كان باقياً إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة لا جرم أنها ما كانت تقدر على النطق والأفعال الإنسانية إلا أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصية وكانت في نهاية الخوف والخجالة فربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة العرضية(3/103)
السؤال الثاني أولئك القردة بقوا أو أفناهم الله وإن قلنا إنهم بقوا فهذه القردة التي في زماننا هل يجوز أن يقال إنها من نسل أولئك الممسوخين أم لا الجواب الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الخاسىء الصاغر المبعد المطرود كالكلب إذا دنا من الناس قيل له اخسأ أي تباعد وانطرد صاغراً فليس هذا الموضع من مواضعك قال الله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) يحتمل صاغراً ذليلاً ممنوعاً عن معاودة النظر لأنه تعالى قال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ فكأنه قال ردد البصر في السماء ترديد من يطلب فطوراً فإنك وإن أكثرت من ذلك لم تجد فطوراً فيرتد إليك طرفك ذليلاً كما يرتد الخائب بعد طول سعيه في طلب شيء ولا يظفر به فإنه يرجع خائباً صاغراً مطروداً من حيث كان يقصده من أن يعاوده
أما قوله فَجَعَلْنَاهَا فقد اختلفوا في أن هذا الضمير إلى أي شيء يعود على وجوه أحدها قال الفراء ( جعلناها ) يعني المسخة التي مسخوها وثانيها قال الأخفش أي جعلنا القردة نكالاً وثالثها جعلنا قرية أصحاب السبت نكالاً رابعها جعلنا هذه الأمة نكالاً لأن قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ يدل على الأمة والجماعة أو نحوها والأقرب هو الوجهان الأولان لأنه إذا أمكن رد الكناية إلى مذكور متقدم فلا وجه لردها إلى غيره فليس في الآية المتقدمة إلا ذكرهم وذكر عقوبتهم أما النكال فقال القفال رحمه الله إنه العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية وأصله من المنع والحبس ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها ويقال للقيد النكل وللجام الثقيل أيضاً نكل لما فيهما من المنع والحبس ونظيره قوله تعالى إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ( المزمل 12 ) وقال الله تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( النساء 84 ) والمعنى أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رادعة لغيرهم أي لم نقصد بذلك ما يقصده الآدميون من التشفي لأن ذلك إنما يكون ممن تضره المعاصي وتنقص من ملكه وتؤثر فيه وأما نحن فإنما نعاقب لمصالح العباد فعقابنا زجر وموعظة قال القاضي اليسير من الذم لا يوصف بأنه نكال حتى إذ عظم وكثر واشتهر يوصف به وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في السارق المصر القطع جزاء ونكالاً وأراد به أن يفعل على وجه الإهانة والاستخفاف فهو بمنزلة الخزي الذي لا يكاد يستعمل إلا في الذم العظيم فكأنه تعالى لما بين ما أنزله بهؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت واستحلوا من اصطياد الحيتان وغيره ما حرمه عليهم ابتغاء الدنيا ونقضوا ما كان منهم من المواثيق فبين أنه تعالى أنزل بهم عقوبة لا على وجه المصلحة لأنه كان لا يمتنع أن يقلل مقدار مسخهم ويغير صورهم بمنزلة ما ينزل بالمكلف من الأمراض المغيرة للصورة ويكون محنة لا عقوبة فبين تعالى بقوله فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً أنه تعالى فعلها عقوبة على ما كان منهم
أما قوله تعالى لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ففيه وجوه أحدها لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغ إليه خبر هذه الواقعة من الآخرين وثانيها أريد بما بين يديها ما يحضرها من القرون والأمم وثالثها المراد أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما(3/104)
ارتكبوه من هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن
أما قوله تعالى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ ففيه وجهان أحدهما أن من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم وإن لم ينزل عاجلاً فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم وأما تخصيصه المتقين بالذكر فكمثل ما بيناه في أول السورة عند قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بالاتعاظ والانزجار والانتفاع بذلك صلح أن يخصوا به لأنه ليس بمنفعة لغيرهم الثاني أن يكون معنى قوله وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ أن يعظ المتقون بعضهم بعضاً أي جعلناها نكالاً وليعظ به بعض المتقين بعضاً فتكون الموعظة مضافة إلى المتقين على معنى أنهم يتعظون بها وهذا خاص لهم دون غير المتقين والله أعلم
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِى َ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَة ٌ لاَّ شِيَة َ فِيهَا قَالُواْ اأانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التشديدات روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلاً من بني(3/105)
إسرائيل قتل قريباً لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له سل لنا ربك حتى يبينه فسأله فأوحى الله إليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حياً وسمي لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى أن الإيلام والذبح حسن وإلا لما أمر الله به ثم عندنا وجه الحسن فيه أنه تعالى مالك الملك فلا اعتراض لأحد عليه وعند المعتزلة إنما يحسن لأجل الأعواض
المسألة الثانية أنه تعالى أمر بذبح بقرة من بقر الدنيا وهذا هو الواجب المخير فدل ذلك على صحة قولنا بالواجب المخير
المسألة الثالثة الاقئلون بالعموم اتفقوا على أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه اذبحوا أي بقرة شئتم فهذه الصيغة تفيد هذا العموم وقال منكروا العموم إن هذا لا يدل على العموم واحتجوا عليه بوجوه الأول أن المفهوم من قول القائل اذبح بقرة يمكن تقسيمه إلى قسمين فإنه يصح أن يقال اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت ويصح أيضاً أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت فأذن المفهوم من قولك ( اذبح ) معنى مشترك بين هذين القسمين والمشترك بين القسمين لا يستلزم واحداً منهما فأذن قوله اذبحوا بقرة لا يستلزم معناه معنى قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم فثبت أنه لا يفيد العموم لأنه لو أفاد العموم لكان قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريراً ولكان قوله اذبحوا بقرة معينة نقضاً ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول الثاني أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد فأذن قوله اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفاداً من اللفظ الثالث أن قوله تعالى بَقَرَة ٌ لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فرداً معيناً في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فرداً أي فرد كان بدليل أنه إذا قال رأيت رجلاً فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك واحتج القائلون بالعموم بأنه لو ذبح أي بقرة كانت فإنه يخرج عن العهدة فوجب أن يفيد العموم والجواب أن هذا مصادرة على المطلوب الأول فإن هذا إنما يثبت لو ثبت أن قوله اذبح بقرة معناه اذبح أي بقرة شئت وهذا هو عين المتنازع فيه فهذا هو الكلام في هذه المسألة إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ هل هو أمر بذبح بقرة معينة مبينة أو هو أمر بذبح بقرة أي بقرة كانت فالذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا إنه كان أمراً بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة وقال المانعون منه هو وإن كان أمراً بذبح أي بقرة(3/106)
كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك وذلك لأن التكليف الأول كان كافياً لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقر إذ ذاك هو الصلاح فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختياراً فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا ههنا واحتج الفريق الأول بوجوه الأول قوله تعالى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ و مَا لَوْنُهَا وقول الله تعالى إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما أن يقال إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولاً أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجباً عليهم قبل ذلك والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخراً وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل أما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة فلم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لبقي ما بعد هذه الكنايات غير مفيد لأنه لا فائدة في قوله بَقَرَة ٌ صَفْرَاء بل لا بد من إضمار شيء آخر وذلك خلاف الأصل أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولاً لم يلزم هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكناية إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فبقي ما عداه على الأصل وثالثها أن الضمير في قوله مَا لَوْنُهَا وَمَا هِى َ لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء عائداً إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقاً للسؤال الثالث أنهم لو كانوا سائلين معاندين لم يكن في مقدار ما أمرهم به موسى ما يزيل الاحتمال لأن مقدار ما ذكره موسى أن تكون بقرة صفراء متوسطة في السن كاملة في القوة وهذا القدر موضع للاحتمالات الكثيرة فلما سكتوا ههنا واكتفوا به علمنا أنهم ما كانوا معاندين واحتج الفريق الثاني بوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه يأمركم أن تذبحوا بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي العموم وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفاً جديداً وثانيها لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم الله تعالى في قوله فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ وفي قوله فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولاً ذبح بقرة معينة الثالث ما روي عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت منهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم(3/107)
ورابعها أن الوقت الذي فيه أمروا بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو كان المأمور به ذبح بقرة معينة مع أن الله تعالى ما بينها لكان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز والجواب عن الأول ما بينا في أول المسألة أن قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً لا يدل على أن المأمور به ذبح بقرة أي بقرة كانت وعن الثاني أن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة وأنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلونه وعن الثالث أن هذه الرواية عن ابن عباس من باب الآحاد وبتقدير الصحة فلا تصلح أن تكون معارضة لكتاب الله تعالى وعن الرابع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يلزم أن لو دل الأمر على الفور وذلك عندنا ممنوع
واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت فلا بد وأن نقول التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول أي بقرة كانت وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث ثم اختلف القائلون بهذا المذهب منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع ومنهم من يقول إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدل على أن الأسهل قدينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام وله أيضاً تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا ويدل على حسن وقوع التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً
أما قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء هُزُواً بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤاً وكفء وقرأ حفص ( هزواً ) بالضمتين والواو وكذلك كفواً
المسألة الثانية قال القفال قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال كان هذا في علم الله أي في معلومه والله رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ( المؤمنون 110 ) قال صاحب ( الكشاف ) ( أتتخذنا هزؤاً ) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء
المسألة الثالثة القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حياً فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حياً بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء(3/108)
المسألة الرابعة قال بعضهم إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام أتتخذنا هزؤاً لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله تعالى فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي وذلك أيضاً كفر ومن الناس من قال إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين الأول أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة وذلك لايوجب الكفر الثاني أن معنى قوله تعالى أَتَتَّخِذُنَا أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء
أما قوله تعالى هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ففيه وجوه أحدها أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازاً هذا هو الوجه الأقوى وثانيها أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء وثالثها قال بعضهم إن نفس الهزء قد يسمى جهلاً وجهالة فقد روي عن بعض أهل اللغة إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم
واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 )
واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة
السؤال الأول ما حكى الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ فأجاب موسى عليه السلام بقوله إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ واعلم أن في الآية أبحاثاً
الأول أنا إذا قلنا إن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام أما على قول من يقول إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار وفيه وجوه أحدها أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً تعجبوا من أمر تلك البقرة وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام وثانيها لعل القوم أرادوا بقرة أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة لما وقعت المنازعة فيه رجعوا عند ذلك إلى موسى وثالثها أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه فسألوا طلباً لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة(3/109)
البحث الثاني أن سؤال ( ما هي ) طلب لتعريف الماهية والحقيقة لأن ( ما ) سؤال و ( هي ) إشارة إلى الحقيقة فما هي لا بد وأن يكون طلباً للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقاً لهذا السؤال والجواب عنه أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جواباً عن هذا السؤال
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الفارض المسنة وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها والبكر الفتية والعوان النصف قال القاضي أما البكر فقيل إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد وقيل إنها التي ولدت مرة واحدة قال المفضل بن سلمة ( الضبي ) إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطناً واحداً قال القفال البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل وقال بعضهم العوان التي ولدت بطناً بعد بطن وحرب عوان إذا كانت حرباً قد قوتل فيها مرة بعد مرة وحاجة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة
البحث الرابع احتج العلماء بقوله تعالى عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان
الأول لفظة ( بين ) تقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك الجواب لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر
السؤال الثاني كيف جاز أن يشار بلفظه ( ذلك ) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر الجواب جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام
أما قوله تعالى فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ففيه تأويلان الأول فافعلوا ما تؤمرون به من قولك أمرتك الخير والثاني أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال فأما المتوسطة فهي التي تكوى في حالة الكمال ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثاني وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا واعلم أنهم لما عرفوا حال السن شرعوا بعده في تعرف حال اللون فأجابهم الله تعالى بأنها صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا والفقوع أشدها يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع وأسود حالك وأبيض يقق وأحمر قانٍ وأخضر ناضر وههنا سؤالان
الأول ( فاقع ) ههنا واقع خبراً عن اللون فكيف يقع تأكيداً لصفراء الجواب لم يقع خبراً عن اللون إنما وقع تأكيداً لصفراء إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون سببها وملتبس بها فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها(3/110)
السؤال الثاني فهلا قيل صفراء فاقعة وأي فائدة في ذكر اللون الجواب الفائدة فيه التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده وجنون مجنون وعن وهب إذ نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها
أما قوله تعالى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها قال الحسن الصفراء ههنا بمعنى السوداء لأن العرب تسمي الأسود أصفر نظيره قوله تعالى في صفة الدخان كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ ( المرسلات 33 ) أي سود واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود ألبتة فلم يكن حقيقة فيه وأيضاً السواد لا ينعت بالفقوع إنما يقال أصفر فاقع وأسود حالك والله أعلم وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً ) واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله ولذلك قال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وفيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة
المسألة الثالثة احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله إِن شَاء اللَّهُ من وجهين الأول أن دخول كلمة ( أن ) عليه يقتضي الحدوث والثاني وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء فلما لم يكن حصول الاهتداء أزلياً وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية ولنرجع إلى التفسير فأما قوله تعالى يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا ما هو طلب بيان الحقيقة والمذكور ههنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف يكون هذا الجواب مطابقاً للسؤال وقد تقدم جوابه
أما قوله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح وقرىء تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و ( قرىء ) تشابهت ومتشابهة ومتشابه
أما قوله تعالى وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ففيه وجوه ذكرها القفال أحدها وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عدها وثانيها وإنا إن شاء الله تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها وثالثها وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ورابعها إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ وقوله لاَّ ذَلُولٌ صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض(3/111)
ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقى الحرث و ( لا ) الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص
أما قوله تعالى مُّسَلَّمَة ٌ ففيه وجوه أحدها من العيوب مطلقاً وثانيها من آثار العمل المذكور وثالثها مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس ورابعها مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا تكراراً غير مفيد بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله مُّسَلَّمَة ٌ إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر
أما قوله تعالى وَأَنزَلْنَا فِيهَا فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون والوشي خلط لون بلون ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل قال القاضي قوله تعالى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً
أما قوله تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها وههنا بحث وهو أن النحويين ذكروا ( لكاد ) تفسيرين الأول قالوا إن نفيه إثبات وإثباته نفي فقولنا كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله والثاني وهو اختيار الشيخ عبد القاهر ( الجرجاني ) النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية وههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان براً بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر واسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة(3/112)
البحث الثاني روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر قال فتلوت الآية عليه فقال الذبح والنحر سواء وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحاً والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبح فالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي
البحث الثالث اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيخة وعلى كلا الوجهين فالاحجام عن المأمور به غير جائز أما الأول فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثيرو جب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقاً وأما الثاني وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف فإن القود إذا كان واجباً عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سبباً للتثاقل في هذا الفعل
البحث الرابع احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه وذلك يدل على أن الأمر للوجوب قال القاضي إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجباً وأيضاً فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر وأقول حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول إنه ينافي الوجوب أيضاً فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر وذلك السبب المنفصل إما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعاً إلا على وجه الوجوب والجواب أن المذكور مجرد قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا إن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم
البحث الخامس احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قالوا لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور
أما قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا فاعلم أن وقوع ذلك القتل لا بد وأن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح أما الإخبار عن وقوع ذلك القتل وعن أنه لا بد وأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأول في الوجود فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يتقدم ذكر السبب على ذكر الحكم وأخرى على العكس من ذلك فكأنه لما وقعت(3/113)
لهم تلك الواقعة أمرهم تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال وإذ قتلتم نفساً من قبل واختلفتم وتنازعتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة وذلك مستقيم فإن قيل هب أنه لا خلل في هذا النظم ولكن النظم الآخر كان مستحسناً فما الفائدة في ترجيح هذا النظم قلنا إنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من بينية التفريع
أما قوله تعالى فَادرَأْتُمْ فِيهَا ففيه وجوه أحدها اختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدافعه ويزاحمه وثانيها ( أدارأتم ) أي يغي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره وثالثها دفع بعضكم بعضاً عن البراءة والتهمة وجملة القول فيه أن الدرء هو الدفع فالمتخاصمون إذا تخاصموا فقد دفع كل واحد منهم عن نفسه تلك التهمة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه عن تلك الفعلة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه في إسناد تلك التهمة إلى غيره وحجة صاحبه في براءته عنه قال القفال والكناية في ( فيها ) للنفس أي فاختلفتم في النفس ويحتمل في القتلة لأن قوله قُتِلْتُمْ يدل على المصدر
أما قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل فإن قيل كيف اعمل ( مخرج ) وهو في معنى المضي قلنا قد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارء كما حكى الحاضر في قوله بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ( ادارأتم فقلنا ) ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي لا بد وأن يفعل ذلك وإنما حكم بأنه لا بد وأن يفعل ذلك لأن الاختلاف والتنازع في باب القتل يكون سبباً للفتن والفساد والله لا يحب الفساد فلأجل هذا قال لا بد وأن يزيل هذا الكتمان ليزول ذلك الفساد فدل ذلك على أنه سبحانه لا يريد الفساد ولا يرضى به ولا يخلقه
المسألة الثانية الآية تدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وإلا لما قدر على إظهار ما كتموه
المسألة الثالثة تدل الآية على أن ما يسره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فإن الله سيظهره قال عليه الصلاة والسلام ( إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس ) وكذلك المعصية وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ( قل لبني إسرائيل يخفون إلى أعمالهم وعلي أن أظهرها لهم )
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجوز ورود العام لإرادة الخاص لأن قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ يتناول كل المكتومات ثم إن الله تعالى أراد هذه الواقعة
أما قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس أن صاحب بقرة بني إسرائيل طلبها أربعين سنة حتى وجدها ثم ذبحت إلا أن هذه الرواية على خلاف ظاهر القرآن لأن الفاء في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا للتعقيب وذلك يدل على أن قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا حصل عقيب قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً(3/114)
المسألة الثانية الهاء في قوله تعالى اضْرِبُوهُ ضمير وهو إما أن يرجع إلى النفس وحينئذ يكون التذكير على تأويل الشخص والإنسان وإما إلى القتيل وهو الذي دل عليه قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
المسألة الثالثة يجوز أن يكون الله تعالى إنما أمر بذبح البقرة لأنه تعلق بذبحها مصلحة لا تحصل إلا بذبحها ويجوز أن يكون الحال فيها وفي غيرها على السوية والأقرب هو الأول لأنه لو قام غيرها مقامها لما وجبت على التعيين بل على التخير بينها وبين غيرها وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء الجواب الفائدة فيه لتكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد فقد كان يجوز لملحد أن يوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإنه إذا حيي عندما يضرب بقطعة من البقرة المذبوحة انتفت الشبهة في أنه لم يحي بشيء انتقل إليه من الجسم الذي ضرب به إذا كان ذلك إنما حيي بفعل فعلوه هم فدل ذلك على أن إعلام الأنبياء إنما يكون من عند الله لا بتمويه من العباد وأيضاً فتقديم القربان مما يعظم أمر القربان
السؤال الثاني هلا أمر بذبح غير البقرة وأجابوا بأن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيه ثم ذكروا فيها فوائد منها التقرب بالقربان الذي كانت العادة به جارية ولأن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة على غلاء ثمنها ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن ذلك البعض الذي ضربوا القتيل به ما هو والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به فإنهم كانوا ممتثلين لمقتضى قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة على ما ثبت في أصول الفقه وذلك يقتضي التخيير واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل لسانها وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلى الغضروف وهو أصل الآذان وقيل البضعة بين الكتفين ولا شك أن القرآن لا يدل عليه فإن ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه
المسألة الخامسة في الكلام محذوف والتقدير فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وعليه هو كقوله تعالى اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) أي فضرب فانفجرت روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً وقتلاً
أما قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما أن يكون إشارة إلى نفس ذلك الميت والثاني أنه احتجاج في صحة الإعادة ثم هذا الاحتجاج أهو على المشركين أو على غيرهم فيه وجهان الأول قال الأصم إنه على المشركين لأنه إن ظهر لهم بالتواتر أن هذا الإحياء قد كان على هذا الوجه علموا صحة الإعادة وإن لم يظهر ذلك بالتواتر فإنه يكون داعية لهم إلى التفكر قال القاضي وهذا هو الأقرب لأنه تقدم منه تعالى ذكر الأمر(3/115)
بالضرب وأنه سبب إحياء ذلك الميت ثم قال كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى فجمع الْمَوْتَى ولو كان المراد ذلك القتيل لما جمع في القول فكأنه قال دل بذلك على أن الإعادة كالابتداء في قدرته الثاني قال القفال ظاهر الكلام يدل على أن الله تعالى قال لبني إسرائيل إحياء الله تعالى لسائر الموتى يكون مثل هذا الإحياء الذي شاهدتم لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال ولم يشاهدوا شيئاً منه فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم وانتفت عنهم الشبهة التي لا يخلو منها المستدل وقد قال إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى إلى قوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فأحيا الله تعالى لبني إسرائيل القتيل عياناً ثم قال لهم كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى أي كالذي أحياه في الدنيا يحيي في الآخرة من غير احتياج في ذلك الإيجاد إلى مادة ومدة ومثال وآلة
المسألة الثانية من الناس من استدل بقوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى على أن المقتول ميت وهو ضعيف لأنه تعالى قاس على إحياء ذلك القتيل إحياء الموتى فلا يلزم من هذا كون القتيل ميتاً
أما قوله تعالى وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فلقائل أن يقول إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات والجواب أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع وعلى صدق موسى عليه السلام وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ففيه بحثان
الأول أن كلمة ( لعل ) قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الثاني أن القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم وإذا كان العقل حاصلاً امتنع أن يقال إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً فإذن لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها بل لا بد من التأويل وهو أن يكون المراد لعلكم تعملون على قضية عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا البعث هذا آخر الكلام في تفسير الآية واعلم أن كثيراً من المتقدمين ذكر أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا قالوا لا لأنه روي عن عبيدة السلماني أن الرجل الذي كان قاتلاً في هذه الواقعة حرم من الميراث لأجل كونه قاتلاً قال القاضي لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية لأنه ليس في الظاهر أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا وبتقدير أن يكون وارثاً له فهل حرم الميراث أم لا وليس يجب إذا روي عن أبي عبيدة أن القاتل حرم لمكان قتله الميراث أن يعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدل عليه لا مجملاً ولا مفصلاً وإذا كان لم يثبت أن شرعهم كشرعنا وأنه لا يلزم الاقتداء بهم فإدخال هذا الكلام في أحكام القرآن تعسف
واعلم أن الذي قاله القاضي حق ومع ذلك فلنذكر هذه المسألة فنقول اختلف المجتهدون في أن القاتل هل يرث أم لا فعند الشافعي رضي الله عنه لا يرث سواء كان القتل غير مستحق عمداً كان أو خطأ أو كان مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا(3/116)
قتل الباغي فإنه يرثه وكذا القاتل إذا كان صبياً أو مجنوناً يرثه لا من ديته ولا من سائر أمواله وهو قول علي وعمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وقال عثمان البتي قاتل الخطأ يرث وقاتل العمد لا يرث وقال مالك لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله وهو قول الحسن ومجاهد والزهري والأوزاعي واحتج الشافعي رضي الله عنه بعموم الخبر المشهور المستفيض أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليس للقاتل من الميراث شيء ) إلا أن الاستدلال بهذا الخبر إنما يصح لو جوزنا تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ثم ههنا دقيقة وهي أن تطرق التخصيص إلى العام يفيد نوع ضعف فلو خصصنا هذا الخبر ببعض الصور فحينئذ يتوالى عليه أسباب الضعف فإن كونه خبر واحد يوجب الضعف وكونه على مصادمة الكتاب سبب آخر وكونه مخصوصاً سبب آخر فلو خصصنا عموم الكتاب به لكنا قد رجحنا الضعيف جداً على القوي جداً أما إذا لم يخصص هذا الخبر ألبتة اندفع عنه بعض أسباب الضعف فحينئذ لا يبعد تخصيص عموم الكتاب به واحتج أبو بكر الرازي على أن العادل إذا قتل الباغي فإنه لا يصير محروماً عن الميراث بأنا لا نعلم خلافاً أن من وجب له القود على إنسان فقتله قوداً أنه لا يحرم من الميراث واعلم أن الشافعية يمنعون هذه الصورة والله أعلم
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فيه مسائل
المسألة الأولى الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل إنه صار صلباً غليظاً قاسياً فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع لله والخوف من الله تعالى فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيهاً بالحجر فيقال قسا القلب وغلظ ولذلك كان الله تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 )
المسألة الثانية قال القفال يجوز أن يكون المخاطبون بقوله قُلُوبُكُمْ أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم(3/117)
والأمور التي جرت عليهم والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم فاخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب وهذا أولى لأن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ خطاب مشافهة فحمله على الحاضرين أولى ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم
المسألة الثالثة قوله تعالى مِن بَعْدِ ذالِكَ يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع فعنده قال تعالى واصفاً لهم إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة ويحتمل أن يكون قوله مِن بَعْدِ ذالِكَ إشارة إلى جميع ما عدد الله سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها
أما قوله تعالى أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً فيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( أو ) للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب فلا بد من التأويل وهو وجوه أحدها أنها بمعنى الواو كقوله تعالى إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) بمعنى ويزيدون وكقوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( النور 31 ) والمعنى وآبائهن وكقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ ( النور 61 ) يعني وبيوت آبائكم ومن نظائره قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( النجم 9 ) أي في نظركم واعتقادكم وخامسها أن كلمة ( أو ) بمعنى بل وأنشدوا فوالله ما أدري أسلمى تغولت
أم القوم أو كل إلي حبيب
قالوا أراد بل كل وسادسها أنه على حد قولك ما آكل إلا حلواً أو حامضاً أي طعامي لا يخرج عن هذين بل يتردد عليهما وبالجملة فليس الغرض إيقاع التردد بينهما بل نفي غيرهما وسابعها أن ( أو ) حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقاً كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيباً ولو جالستهما معاً كنت مصيباً أيضاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( أشد ) معطوف على الكاف إما على معنى أو مثل ( أشد قسوة ) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما على أو هي أنفسها أشد قسوة(3/118)
المسألة الثالثة إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه أحدها أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كما قال لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) وثانيها أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) إلى قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 39 ) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم وثالثها أو أشد قسوة لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ويظهر منها الماء في بعض الأحوال أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه
المسألة الرابعة قال القاضي إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريراً وتفريعاً مراراً وأطواراً
المسألة الخامسة إنما قال أَشَدُّ قَسْوَة ً ولم يقل أقسى لأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة وقرىء ( قساوة ) وترك ضمير المفضل عليه لعدم الالباس كقولك زيد كريم وعمرو أكرم ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع فأولها قوله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( وإن ) بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة ومنها قوله تعالى وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( يس 32 )
المسألة الثانية التفجر التفتح بالسعة والكثرة يقال انفجرت قرحة فلان أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور وقرأ مالك بن دينار ( ينفجر ) بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار قالت الحكماء إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجرياً اجتمعت تلك الأبخرة ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهاراً وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عيناً لا نهراً جارياً أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار وقد تقل وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى يَشَّقَّقُ أي يتشقق فأدغم التاء كقوله يُذْكَرِ أي يتذكر وقوله عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ(3/119)
( المزمل 1 ) يا أيها المدثر ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ
واعلم أن فيه إشكالاً وهو أن الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوهاً أحدها قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا راجع إلى القلوب فإنه يجوز عليها الخشية والحجارة لا يجوز عليها الخشية وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلا أن هذا الوصف لما كان لائقاً بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة واعترضوا عليه من وجهين الأول أن قوله تعالى فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً جملة تامة ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ فيجب في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أن يكون راجعاً إليها الثاني أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية وثانيها قول جمع من المفسرين إن الضمير عائد إلى الحجارة لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاملة بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك وهذا غير مستبعد في قدرة الله ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء ( فصلت 21 ) فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل فكذلك الجبل وصفه بالخشية وقال أيضاً لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك وروي أنه حن الجزع لصعود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار فكلها كانت تقول السلام عليك يا رسول الله قالوا فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد فوجب أن لا يلتفت إليهم وثالثها قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم وذكروا على هذا القول أنواعاً من التأويل الأول أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر فكأن الهبوط من العلو جعل مثلاً للانقياد وقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشياً لله وهو كقوله فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ( الكهف 77 ) أي جداراً قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريداً للانقضاض ونحو هذا قول بعضهم بخيل تضل البلق من حجراته
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وقول جرير
لما أتى خبر الزبير تضعضعت
سور المدينة والجبال الخشع
فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر وكذلك الثاني جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع وعلى هذا الوجه تأول أهل(3/120)
النظر قوله تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسرا 44 ) وقوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) الآية وقوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) الوجه الثاني في التأويل أن قوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط فكلمة ( من ) لابتداء الغاية فقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب الوجه الثالث ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده ليزجرهم به قال وقوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي خشية الله أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس قال القاضي هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا فإن قيل هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل قلنا قال القاضي لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه بدليل قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ والله أعلم
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى ههنا شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القفال رحمه الله إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقصد أحدها الدلالة بها على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلاً علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار وثانيها تعديد النعم على بني إسرائيل وما(3/121)
منّ الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكاً وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة وثالثها إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة فدل على بلادتهم ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة فكأن الله تعالى يقول إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه السلام فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق ورابعها تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة وخامسها تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود وسادسها أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء وهو المراد من قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) إذا عرفت هذا فنقول إنه عليه السلام كان شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم فقص الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة فقال تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وجهان الأول وهو قول ابن عباس أنه خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ وإن كان للعموم لكنا حملناه على الخصوص لهذه القرينة روي أنه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني وهو قول الحسن أنه خطاب مع الرسول والمؤمنين قال القاضي وهذا أليق بالظاهر لأنه عليه السلام وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ويظهر لهم الدلائل وينبههم عليها فصح أن يقول تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ويريد به الرسول ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحاً فلا وجه لترك الظاهر
المسألة الثانية المراد بقوله أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع(3/122)
المسألة الثالثة ذكروا في سبب الاستبعاد وجوهاً أحدها أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه السلام وكان هو السبب في أن الله خلصهم من الذل وفضلهم على الكل ومع ظهور المعجزات المتوالية على يده وظهور أنواع العذاب على المتمردين الثاني أفتطمعون أن يؤمنوا ويظهروا التصديق ومن علم منهم الحق لم يعترف بذلك بل غيره وبدله الثالث أفتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء من طريق النظر والاستدلال وكيف وقد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ويعلمون أنه حق ثم يعاندونه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول القوم مكلفون بأن يؤمنوا بالله فما الفائدة في قوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ الجواب أنه يكون إقراراً لهم بما دعوا إليه ولو كان الإيمان لله كما قال تعالى فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ لما أقر بنبوته وبتصديقه ويجوز أن يراد بذلك أن يؤمنوا لأجلكم ولأجل تشددكم في دعائهم إليه فيكون هذا معنى الإضافة
أما قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ فقد اختلفوا في ذلك الفريق منهم من قال المراد بالفريق من كان في أيام موسى عليه السلام لأنه تعالى وصف هذا الفريق بأنهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات ومنهم من قال بل المراد بالفريق من كان في زمن محمد عليه الصلاة والسلام وهذا أقرب لأن الضمير في قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ راجع إلى ما تقدم وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وقد بينا أن الذين تعلق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فإن قيل الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات قلنا لا نسلم بل قد يجوز فيمن سمع التوراة أن يقال إنه سمع كلام الله كما يقال لأحدنا سمع كلام الله إذا قرىء عليه القرآن
أما قوله تعالى ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال التحريف التغيير والتبديل وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه قال تعالى إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ ( الأنفال 16 ) والتحريف هو إمالة الشيء عن حقه يقال قلم محرف إذا كان رأسه قط مائلاً غير مستقيم
المسألة الثانية قال القاضي إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى وحمل التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى لأن كلام الله تعالى إذا كان باقياً على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام المسموع فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه ونقصوا فهو أولى وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل ثابتاً وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن فأما قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه لكن ذلك ينظر فيه فإن كان تغييرهم له يؤثر في قيام الحجة به فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه وإن لم يؤثر في ذلك صح وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها(3/123)
المسألة الثالثة اعلم أنا إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن قوماً من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه ثم قالوا سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس وأما إن قلنا المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد عليه الصلاة والسلام وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا
المسألة الرابعة لقائل أن يقول كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين أجاب القفال عنه فقال يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل كيف تفلح وأستاذك فلانا أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله أَفَتَطْمَعُونَ فقال قائلون آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم وقال آخرون لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد قالوا وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك ولقائل أن يقول إن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ استهفام على سبيل الإنكار فكان ذلك جزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع فحينئذ تعود الوجوه المقررة للخبر على ما تقدم
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ فالمراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( آل عمران 187 ) وقال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( البقرة 146 ) ( الأنعام 20 ) ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد
أما قوله تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ فلقائل أن يقول قوله تعالى عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكرار لا فائدة فيه أجاب القفال عنه من وجهين الأول من بعد ما عقلوه مراد الله فأولوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى الثاني أنهم عقلوا مراد الله تعالى وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم الوزر والعقوبة من الله تعالى ومتى تعمدوا التحريف مع العلم بما فيه من الوزر كانت قسوتهم أشد وجراءتهم أعظم ولما كان المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قال القاضي قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ على ما تقدم تفسيره يدل على أن إيمانهم من قبلهم لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغير حال الطمع فيهم بصفة الفريق(3/124)
الذي تقدم ذكرهم ولما صح كون ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين لأن على هذا القول أمرهم في الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك وزواله موقوف على أن لا يخلقه فيهم ومن وجه آخر وهو أعظامه تعالى لذنبهم في التحريف من حيث فعلوه وهم يعلمون صحته ولو كان ذلك من خلقه لكان بأن يعلموا أو لا يعلموا لا يتغير ذلك وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم تدل على ذلك واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قال أبو بكر الرازي تدل الآية على أن العالم المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل لأن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لهم آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا حجة أقوى من ذلك فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قال القفال قوله فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه
أما قوله عِندَ رَبّكُمْ ففيه وجوه أحدها أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد وثانيها قال الحسن أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه وثالثها قال الأصم المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائداً في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة ورابعها قال(3/125)
القاضي أبو بكر إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب وخامسها قال القفال يقال فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام أي في حكمهما وقوله لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله وتأول بعض العلماء قوله تعالى فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( النور 13 ) أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً
أما قوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ففيه وجوه أحدها أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم وهو قول الحسن وثانيها أنه راجع إليهم فكأن عند ما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم
أما قوله تعالى أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ففيه قولان الأول وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به الثاني أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم رباً يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم وعلى القولين جميعاً فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر أولا يعلم كيت وكيت إلا وهو عالم بذلك الشيء ويكون ذلك الشيء زاجراً له عن ذلك الفعل وقال بعضهم هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ليسوا كالمنافين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالماً بالسر والعلانية فشأنهم من هذه الجهة أعجب قال القاضي الآية تدل على أمور أحدها أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال وثانيها أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين وأن ذلك كان ظاهراً عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه وثالثها أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة ورابعها أنها تدل على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً ووزراً والله أعلم
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِى َّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ(3/126)
اعلم أن المراد بقوله وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه والفرقة الثانية المنافقون والفرقة الثالثة الذين يجادلون المنافقين والفرقة الرابعة هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحداً بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطاً وفيهم من يكون عامياً محضاً مقلداً وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الأمي فقال بعضهم هو من لا يقر بكتاب ولا برسول وقال آخرون من لا يحسن الكتابة والقراءة وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود وكانوا مقرين بالكتاب والرسول ولأنه عليه الصلاة والسلام قال ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذلك يدل على هذا القول ولأن قوله لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لا يليق إلا بذلك
المسألة الثانية ( الأماني ) جمع أمنية ولها معانٍ مشتركة في أصل واحد أحدها ما تخيله الإنسان فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه ومن هذا قولهم فلان يعد فلاناً ويمنيه ومنه قوله تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ( النساء 12 ) فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله ( إلا أماني إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم ) وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة وثانيها إِلاَّ أَمَانِى َّ إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته وثالثها إِلاَّ أَمَانِى َّ أي إلا ما يقرأون من قوله تمنى كتاب الله أول ليلة قال صاحب ( الكشاف ) والاشتقاق منى من إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا قال أبو مسلم حمله على تمنى القلب أولى بدليل قوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ( البقرة 111 ) أي تمنيهم وقال الله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة 111 )(3/127)
وقال تعالى وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ ( الجاثية 24 ) بمعنى يقدرون ويخرصون وقال الأكثرون حمله على القراءة أولى كقوله تعالى إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً
المسألة الثالثة قوله تعالى إِلاَّ أَمَانِى َّ من الاستثناء المنقطع قال النابغة حلفت يميناً غير ذي مثنوية
ولا علم إلا حسن ظن بغائب
وقرىء ( إلا أماني ) بالتخفيف أما قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها فهي ظن ويكون ذلك تكراراً ولقائل أن يقول حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه فكأنه تعالى قال ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق وفي الآية مسائل أحدها أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن وثانيها بطلان التقليد مطلقاً وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا وثالثها أن المضل وإن كان مذموماً فالمغتر بإضلال المضل أيضاً مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة ورابعها أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم أما قوله تعالى فَوَيْلٌ فقالوا الويل كلمة يقولها كل مكروب وقال ابن عباس إنه العذاب الأليم وعن سفيان الثوري إنه مسيل صديد أهل جهنم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ) قال القاضي ( ويل ) يتضمن نهاية الوعيد والتهديد فهذا القدر لا شبهة فيه سواء كان الويل عبارة عن وادٍ في جهنم أو عن العذاب العظيم
أما قوله تعالى يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ففيه وجهان الأول أن الرجل قد يقول كتبت إذا أمر بذلك ففائدة قوله بِأَيْدِيهِمْ أنه لم يقع منهم إلا على هذا الوجه الثاني أنه تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه يا هذا كتبته بيمينك أما قوله تعالى ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ فالمراد أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا وباعوا آخرتهم بدنياهم فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم فإن المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها ويضم إليها أنه مهد طريقاً في الإضلال باقياً على وجه الدهر فلذلك عظم تعالى ما فعلوه فإن قيل إنه تعالى حكى عنهم أمرين أحدهما كتبة الكتاب والآخر إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب فهذا الوعيد مرتب على الكتبة أو على إسناد المكتوب إلى الله أو عليهما معاً قلنا لا شك أن كتبة الأشياء الباطلة لقصد الإضلال من المنكرات والكذب على الله تعالى أيضاً كذلك والجمع بينهما منكر عظيم جداً أما قوله تعالى لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فهو تنبيه على أمرين الأول أنه تنبيه على نهاية شقاوتهم لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر(3/128)
العظيم في الدنيا فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا الثاني أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلباً للمال والجاه وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه
أما قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فالمراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده وكذلك أخذهم المال عليه فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما فأزال الله تعالى هذه الشبهة واختلفوا في قوله تعالى مِّمَّا يَكْسِبُونَ هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره قال القاضي دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها إنها من عند الله ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى والجواب أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضاً تكون كذلك والله أعلم
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً قليلة وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل ألبتة أما على قولنا فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك وههنا مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير الأيام المعدودة وجهين الأول أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة(3/129)
فما دونها ولا تضاف إلى ما فوقها فيقال أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 183 184 ) هي أيام الشهر كله وهي أزيد من العشرة ثم قال القاضي إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها فالأشبه أن يقال إنه الأقل أو الأكثر لأن من يقول ثلاثة يقول أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ومن يقول عشرة يقول أحمله على الأكثر وله وجه فأما حمله على الواسطة أعني على ما هو أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له لأنه ليس عدد أولى من عدد اللهم إلا إذا جاءت في تقديرها رواية صحيحة فحينئذ يجب القول بها وجماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام قال مجاهد إن اليهود كانت تقول الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان كل ألف سنة يوماً فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وهذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة ألبتة وأما الثاني فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو فإن قيل أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية قلنا إن المعصية تزداد بقدر النعمة فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جداً
الوجه الثاني روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها والكلام عليه أيضاً كالكلام على السبعة
الوجه الثالث قيل في معنى ( معدودة ) قليلة كقوله تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ ( يوسف 20 ) والله أعلم
المسألة الثانية ذهبت الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة واحتجوا عليه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعي الصلاة أيام إقرائك ) فمدة الحيض ما يسمى أياماً وأقل عدد يسمى أياماً ثلاثة وأكثره عشرة على ما بيناه فوجب أن يكون أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة والإشكال عليه ما تقدم
المسألة الثالثة ذكر ههنا وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ولقائل أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو ( أياماً ) والجواب أن الاسم إن كان مذكراً فالأصل في صفة جمعه التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادراً نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ و فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران بما هو الفرع
أما قوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ففيه مسائل(3/130)
المسألة الأولى العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر وإنما سمي خبره سبحانه عهداً لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فلن يخلف الله ) متعلق بمحذوف وتقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده
المسألة الثالثة قوله تعالى اتَّخَذْتُمْ ليس باستفهام بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده قال أصحابنا لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال وقالت المعتزلة لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنياً عنه والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنياً عنه يستحيل أن يفعله فدل على أن الكذب منه محال فلهذا قال فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فإن قيل العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز ثم العقل يطابق ذلك لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم قلنا الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب
المسألة الخامسة قال الجبائي دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على اليهود هذا القول وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب فقد وجب أن يكون عذابهم دائماً على ما هو قول الوعيدية وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول لا نسلم أنه تعالى ما وعد موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار قوله لو وعدهم بذلك لما أنكر على اليهود قولهم قلنا لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على اليهود ذلك وما الدليل على هذه الملازمة ثم إنا نبين شرعاً أن ذلك غير لازم من وجوه أحدها لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب فإن قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً يدل على أيام قليلة جداً فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب وثانيها أن المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك وثالثها أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع سلمنا أنه تعالى ما وعد موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار بيانه أنه فرق بين أن يقال إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه فإنه تعالى ربما(3/131)
لم يقل ذلك لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة وإنما رد على اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم موسى من النار فلم قلت إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار وأما قول الجبائي لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم فهو تحكم محض فإن العقاب حق الله تعالى فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين فثبت أن هذا الاستدلال ضعيف أما قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فهو بيان لتمام الحجة المذكورة فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع وثبت أنه لم يوجد السمع كان الجزم بذلك التقدير قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً لا محالة وهذه الآية تدل على فوائد أحدها أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل وثانيها أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي وثالثها أن منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية قالوا لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم فوجب أن لا يكون التمسك به جائزاً لقوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ذكر ذلك في معرض الإنكار والجواب أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم لا بغير المعلوم
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِي أتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قال صاحب الكشاف ( بلى ) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله تعالى لَن تَمَسَّنَا النَّارُ أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار لا جرم بين تعالى أن الذي يستحق به الخلود أن يكون سيئة محيطة به ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد والكوز بالماء وذلك ههنا ممتنع فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين أحدهما أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالساترة لتلك الطاعات فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة والثاني أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات فكأنها استولت على تلك الطاعات وأحاطت بها كما يحيط عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه فكأنه تعالى قال بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فإن قيل هذه الآية وردت في حق اليهود قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هذا هو الوجه الذي استدلت المعتزلة به في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر(3/132)
واعلم أن هذه المسألة من معظمات المسائل ولنذكرها ههنا فنقول اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر فمن الناس من قطع بوعيدهم وهم فريقان منهم من أثبت الوعيد المؤبد وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً وهو قول بشر المريسي والخالد ومن الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم وهو قول شاذ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر والقول الثالث أنا نقطع بأنه سبحانه وتعالى يعفو عن بعض المعاصي ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا ونقطع بأنه تعالى إذا عذب أحداً منهم مدة فإنه لا يعذبه أبداً بل يقطع عذابه وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة وأكثر الإمامية فيشتمل هذا البحث على مسألتين إحداهما في القطع بالوعيد والأخرى في أنه لو ثبت الوعيد فهل يكون ذلك على نعت الدوام أم لا
المسألة الأولى في الوعيد ولنذكر دلائل المعتزلة أولاً ثم دلائل المرجئة الخالصة ثم دلائل أصحابنا رحمهم الله أما المعتزلة فإنهم عولوا على العمومات الواردة في هذا الباب وتلك العمومات على جهتين بعضها وردت بصيغة ( من ) في معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع أما النوع الأول فآيات إحداها قوله تعالى في آية المواريث تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( البقرة 187 ) إلى قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) وقد علمنا أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وارتكب شرب الخمر والزنا وقتل النفس المحرمة فهو متعد لحدود الله فيجب أن يكون من أهل العقاب وذلك لأن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر دون المؤمن كان ذلك على خلاف الدليل ثم الذي يبطل قوله وجهان أحدهما أنه تعالى بين حدوده في المواريث ثم وعد من يطيعه في تلك الحدود وتوعد من يعصيه فيها ومن تمسك بالإيمان والتصديق به تعالى فهو أقرب إليها إلى الطاعة فيها ممن يكون منكراً لربوبيته ومكذباً لرسله وشرائعه فترغيبه في الطاعة فيها أخص ممن هو أقرب إلى الطاعة فيها وهو المؤمن ومتى كان المؤمن مراداً بأول الآية فكذلك بآخرها الثاني أنه قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولا شبهة في أن المراد به الحدود المذكورة ثم علق بالطاعة فيها الوعد وبالمعصية فيها الوعيد فاقتضى سياق الآية أن الوعيد متعلق بالمعصية في هذه الحدود فقط دون أن يضم إلى ذلك تعدي حدود أخر ولهذا كان مزجوراً بهذا الوعيد في تعدي هذه الحدود فقط ولو لم يكن مراداً بهذا الوعيد لما كان مزجوراً به وإذا ثبت أن المؤمن مراد بها كالكافر بطل قول من يخصها بالكافر فإن قيل إن قوله تعالى وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( النساء 14 ) جمع مضاف والجمع المضاف عندكم يفيد العموم كما لو قيل ضربت عبيدي فإنه يكون ذلك شاملاً لجميع عبيده وإذا ثبت ذلك اختصت هذه الآية بمن تعدى جميع حدود الله وذلك هو الكافر لا محالة دون المؤمن قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم نظراً إلى اللفظ لكنه وجدت قرائن تدل على أنه ليس المراد ههنا تعدي جميع الحدود أحدها أنه تعالى قدم على قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فانصرف قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إلى تلك الحدود وثانيها أن الأمة متفقون على أن المؤمن مزجور بهذه الآية عن المعاصي ولو صح ما ذكرتم لكان المؤمن غير مزجور بها وثالثها أنا لو حملنا الآية على تعدي جميع الحدود لم يكن للوعيد بها فائدة لأن أحداً من المكلفين لا يتعدى(3/133)
جميع حدود الله لأن في الحدود ما لا يمكن الجمع بينها في التعدي لتضادها فإنه لا يتمكن أحد من أن يعتقد في حالة واحدة مذهب الثنوية والنصرانية وليس يوجد في المكلفين من يعصي الله بجميع المعاصي ورابعها قوله تعالى في قاتل المؤمن عمداً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) دلت الآية على أن ذلك جزاؤه فوجب أن يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وخامسها قوله تعالى النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلى قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ( الأنفال 15 16 ) وسادسها قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وسابعها قوله تعالى ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلى قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 29 30 ) وثامنها قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ( طه 74 75 ) فبين تعالى أن الكافر والفاسق من أهل العقاب الدائم كما أن المؤمن من أهل الثواب وتاسعها قوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ( طه 111 ) وهذا يوجب أن يكون الظالم من أهل الصلاة داخلاً تحت هذا الوعيد وعاشرها قوله تعالى بعد تعداد المعاصي وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ( الفرقان 68 69 ) بين أن الفاسق كالكافر في أنه من أهل الخلود إلا من تاب من الفساق أو آمن من الكفار والحادية عشرة قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ ( النمل 89 90 ) الآية وهذا يدل على أن المعاصي كلها متوعد عليها كما أن الطاعات كلها موعود عليها والثانية عشرة قوله تعالى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 37 ) والثالثة عشرة قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) الآية ولم يفصل بين الكافر والفاسق والرابعة عشرة قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الآية فحكي في أول الآية قول المرجئة من اليهود فقال وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) ثم إن الله كذبهم فيه ثم قال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فهذه هي الآيات التي تمسكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة ( من ) في معرض الشرط واستدلوا على أن هذه اللفظة تفيد العموم بوجوه أحدها أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص أو مشتركة بينهما والقسمان باطلان فوجب كونها موضوعة للعموم أما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلم أن يعطي الجزاء لكل من أتى بالشرط لأن على هذا التقدير لايكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كل من دخل داره فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص وأما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للاشتراك أما أولاً فلأن الاشتراك خلاف الأصل وأما ثانياً فلأنه لو كان كذلك لما عرف كيفية ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال من دخل داري أكرمته فيقال له أردت الرجال أو النساء فإذا قال أردت الرجال يقال له أردت العرب أو العجم فإذا قال أردت العرب يقال له أردت ربيعة أو(3/134)
مضر وهلم جراً إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل وثانيها أنه إذا قال من دخل داري أكرمته حسن استثناء كل واحد من العقلاء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يعتبر مع الصحة الوجوب أو لا يعتبر والأول باطل أما أولاً فلأنه يلزم أن لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً فرق لصحة دخول زيد في الكلامين لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة وأما ثانياً فلأن الاستثناء من العدد يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته فوجب أن يكون هذا فائدة الاستثناء في جميع المواضع لأن أحداً من أهل اللغة لم يفصل بين الاستثناء الداخل على العدد وبين الداخل على غيره من الألفاظ فثبت بما ذكرنا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم وثالثها أنه تعالى لما أنزل قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) الآية قال ابن الزبعري لأخصمن محمداً ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى ابن مريم فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه ذلك فدل على أن هذه الصيغة تفيد العموم النوع الثاني من دلائل المعتزلة التمسك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام وهي في آيات إحداها قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 14 ) واعلم أن القاضي والجبائي وأبا الحسن يقولون إن هذه الصيغة تفيد العموم وأبو هاشم يقول إنها لا تفيد العموم فنقول الذي يدل على أنها للعموم وجوه أحدها أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام ( الأئمة من قريش ) والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قولنا بعض الأئمة من قريش لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين أما كون كل الأئمة من قريش ينافي كون بعض الأئمة من غيرهم وروي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) احتج على أبي بكر بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال ( إلا بحقها ) وإن كان الزكاة من حقها وثانيها أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد الاستغراق أما أنه يؤكد فلقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( ص 73 ) وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالاجماع وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد في أصله للاستغراق لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلاً في الأصل وإنما حصل(3/135)
بهذه الألفاظ ابتداء لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية الحكم بل في إعطاء حكم جديد وكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلاً في الأصل وثالثها أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار الاسم معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بصرفه إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب وأما صرفه إلى ما دون الكل فإنه لا يفيد المعرفة لأنه ليس بعض الجمع أولى من بعض فكان يبقى مجهولاً فإن قلت إذا أفاد جمعاً مخصوصاً من ذلك الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالاً أفاد تعريف ذلك الجنس وتميزه عن غيره فدل على أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق ورابعها أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم وخامسها الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رأيت رجالاً من الرجال ولا يقال رأيت الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع إذا ثبت هذا فنقول إن المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد علمت أن المنتزع منه أكثر فوجب أن يكون الجمع المعرف مفيداً للكل والله أعلم أما على طريقة أبي هاشم وهي أن الجمع المعرف لا يفيد العموم فيمكن التمسك بالآية من وجهين آخرين الأول أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يقتضي أن الفجور هي العلة وإذا ثبت ذلك لزم عموم الحكم لعموم علته وهو المطلوب وفي هذا الباب طريقة ثالثة يذكرها النحويون وهي أن اللام في قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ ليست لام تعريف بل هي بمعنى الذي ويدل عليه وجهان أحدهما أنها تجاب بالفاء كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وكما تقول الذي يلقاني فله درهم الثاني أنه يصح عطف الفعل على الشيء الذي دخلت هذه اللام عليه قال تعالى إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( الحديد 18 ) فلولا أن قوله إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ بمعنى إن الذين أصدقوا لما صح أن يعطف عليه قوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ وإذا ثبت ذلك كان قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ معناه إن الذين فجروا فهم في الجحيم وذلك يفيد العموم الآية الثانية في هذا الباب قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 85 86 ) ولفظ المجرمين صيغة جمع معرفة بالألف واللام وثالثها قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ( مريم 72 ) ورابعها قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ ( النحل 61 ) بين أنه يؤخر عقابهم إلى يوم آخر وذلك إنما يصدق أن لو حصل عقابهم في ذلك اليوم
النوع الثالث من العمومات صيغ الجموع المقرونة بحرف الذي فأحدها قوله تعالى وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( المطففين 1 2 ) وثانيها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وثالثها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) فبين ما يستحق على ترك الهجرة وترك النصرة وإن كان معترفاً بالله(3/136)
ورسوله ورابعها قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ( يونس 27 ) ولم يفصل في الوعيد بين الكافر وغيره وخامسها قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 ) وسادسها قوله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) ولو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد والعذاب لم يكن لهذا القول معنى بل لم يكن به إلى التوبة حاجة وسابعها قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) فبين ما على الفاسق من العذاب في الدنيا والآخرة وثامنها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( آل عمران 77 )
النواع الرابع من العمومات قوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) توعد على منع الزكاة
النوع الخامس من العمومات لفظة ( كل ) وهو قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ( يونس 54 ) فبين ما يستحق الظالم على ظلمه
النوع السادس ما يدل على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ق 28 29 ) بين أنه لا يبدل قوله في الوعيد والاستدلال بالآية من وجهين أحدهما أنه تعالى جعل العلة في إزاحة العذر تقديم الوعيد أي بعد تقديم الوعيد لم يبق لأحد علة ولا مخلص من عذابه والثاني قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وهذا صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دل اللفظ عليه فهذا مجموع ما تمسكوا به من عمومات القرآن أما عمومات الأخبار فكثيرة
فالنوع الأول المذكور بصيغة ( من ) أحدها ما روى وقاص بن ربيعة عن المسور بن شداد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله من نار جهنم ومن أخذ بأخيه كسوة كساه الله من نار جهنم ومن قام مقام رياء وسمعة أقامه الله يوم القيامة مقام رياء وسمعة ) وهذا نص في وعيد الفاسق ومعنى أقامه أي جازاه على ذلك وثانيها قال عليه السلام ( من كان ذا لسانين وذا وجهين كان في النار ذا لسانين وذا وجهين ) ولم يفصل بين المنافق وبين غيره في هذا الباب وثالثها عن سعيد بن زيد قال عليه السلام ( من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ورابعها عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هاجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه ) وهذا الخبر يدل على وعيد الفاسق الظالم ويدل على أنه غير مؤمن ولا مسلم على ما يقوله المعتزلة من المنزلة بين المنزلتين وخامسها عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جاء يوم القيامة بريئاً من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وهذا يدل على أن صاحب هذه الثلاثة لا يدخل الجنة وإلا لم يكن لهذا الكلام معنى والمراد من الدين من مات عاصياً مانعاً ولم يرد التوبة ولم يتب عنه وسادسها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً من طرق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وهذا نص في أن الثواب لا يكون إلا بالطاعة والخلاص من النار لا يكون إلا بالعمل الصالح وسابعها عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مسكر خمر(3/137)
وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ) وهو صريح في وعيد الفاسق وأنه من أهل الخلود لأنه إذا لم يشربها لم يدخل الجنة لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وثامنها عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( إنما أنا بشر مثلكم ولعلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما قطعت له قطعة من النار ) وتاسعها عن ثابت بن الضحاك قال قال عليه السلام ( من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء يعذب به في نار جهنم ) وعاشرها عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام في الصلاة ( من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة ولا ثواباً وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف ) وهذا نص في أن ترك الصلاة يحبط العمل ويوجب وعيد الأبد الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن ) ولما ثبت أنه لا يكفر علمنا أن المراد منه إحباط العمل الثاني عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يهوي في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل متعمداً فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) الثالث عشر عن أبي ذر قال عليه السلام ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت يا رسول الله من هم خابوا وخسروا قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف كاذباً ) يعني بالمسبل المتكبر الذي يسبل إزاره ومعلوم أن من لم يكلمه الله ولم يرحمه وله عذاب أليم فهو من أهل النار ووروده في الفاسق نص في الباب الرابع عشر عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ومن لم يجد عرف الجنة فلا شك أنه في النار لأن المكلف لا بد وأن يكون في الجنة أو في النار ) الخامس عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة ) السادس عشر عن ابن مسعود قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين كاذباً ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان ) وذلك لأن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا ( آل عمران 77 ) إلى آخر الآية وهذا نص في الوعيد ونص في أن الآية واردة في الفساق كورودها في الكفار السابع عشر عن أبي أمامة قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين فاجرة ليقطع بها مال امرىء مسلم بغير حقه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قيل يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال وإن كان قضيباً من أراك ) الثامن عشر عن سعيد بن جبير قال كنت عند ابن عباس فأتاه رجل وقال إني رجل معيشتي من هذه التصاوير فقال ابن عباس سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من صور فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيه الروح وليس بنافخ ومن استمع إلى حديث قوم يفرون منه صب في أذنيه الآنك ومن يرى عينيه في المنام ما لم يره كلف أن يعقد بين شعرتين ) التاسع عشر عن معقل بن يسار قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) العشرون عن ابن عمر في مناظرته مع عثمان حين أراد أن يوليه القضاء قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان قاضياً يقضي بالجهل كان من أهل النار ومن كان قاضياً يقضي بالجور كان من أهل النار ) الحادي والعشرون قال عليه السلام ( من ادعى أباً في الإسلام وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) الثاني والعشرون عن الحسن عن أبي بكرة قال عليه السلام ( من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ) وإذا(3/138)
كان في قتل الكفار هكذا فما ظنك بقتل أولاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث والعشرون عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) وإذا لم يلبسه في الآخرة وجب أن لا يكون من أهل الجنة لقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ ( الزخرف 71 )
النوع الثاني من العمومات الإخبارية الواردة لا بصيغة ( من ) وهي كثيرة جداً الأول عن نافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال قال عليه السلام ( لا يدخل الجنة مسكين متكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله ومن لم يدخل الجنة من المكلفين فهو من أهل النار بالإجماع ) الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد وعبد نصح سيده وأحسن عبادة ربه وعفيف متعفف وثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله وفقير فخور ) الثالث عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( إن الله خلق الرحم فلما فرغ من خلقه قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فهو ذاك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاقرؤوا إن شئتم ) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( محمد 33 ) وهذا نص في وعيد قاطع الرحم وتفسير الآية وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال الله تعالى ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وفي حديث أبي بكرة أنه عليه السلام قال ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) الرابع عن معاذ بن جبل قال قال عليه السلام لبعض الحاضرين ( ما حق الله على العباد قالوا الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً قال فما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك قال أن يغفر لهم ولا يعذبهم ) ومعلوم أن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فيلزم أن لا يغفر لهم إذا لم يعبدوه الخامس عن أبي بكرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقال يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) رواه مسلم السادس عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) السابع عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لا يبغض أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار ) وإذا استحقوا النار ببعضهم فلأن يستحقوها بقتلهم أولى الثامن في حديث أبي هريرة أنا خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عام خيبر إلى أن كنا بوادي القرى فبينما يحفظ رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه سهم وقتله فقال الناس هنيئاً له الجنة قال رسول الله ( كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم حنين من الغنائم لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ) فلما سمع الناس بذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين إلى رسول الله فقال عليه السلام شراك من نار أو شراكين من النار التاسع عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق السحر ) العاشر عن أبي هريرة قال عليه السلام ( ما من عبد له مال لا يؤدي زكاته إلا جمع الله له يوم القيامة عليه صفائح من نار جهنم يكوي بها جبهته وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) هذا مجموع استدلال المعتزلة بعمومات القرآن والأخبار أجاب أصحابنا عنها من وجوه أولها أنا لا نسلم أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم ولا نسلم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة باللام للعموم والذي يدل عليه أمور(3/139)
الأول أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللفظتين كل من دخل داري أكرمته وبعض من دخل داري أكرمته ويقال أيضاً كل الناس كذا وبعض الناس كذا ولو كانت لفظة ( من ) للشرط تفيد الاستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقضاً وكذلك في لفظ الجمع المعرف فثبت أن هذه الصيغ لا تفيد العموم الثاني وهو أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله والمراد منها تارة الاستغراق وأخرى البعض فإن أكثر عمومات القرآن مخصوصة والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيد الثالث وهو أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها لأنها تحصيل الحاصل محال فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة سلما أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية الأول ممنوع وباطل قطعاً لأن من المعلوم بالضرورة أن الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجميع على سبيل المبالغة كقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) فإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية لم يجز التمسك فيها بهذه العمومات سلمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ولكن لا بد من اشتراط أن لا يوجد شيء من المخصصات فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام فلم قلتم إنه لم يوجد شيء من المخصصات أقصى ما في الباب أن يقال بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات لكنك تعلم أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ لمعنى الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات وهذا الشرط غير معلوم كانت الدلالة موقوفة على شرط غير معلوم فوجب أن لا تحصل الدلالة ومما يؤكد هذا المقام قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى إلا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعلمون لأجلها أن مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله ههنا سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها والرجحان معنا لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام والخاص مقدم على العام لا محالة سلمنا أنه لم يوجد المخصص ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ولا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه الأول أن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد والثاني أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه فكان ترجيح عمومات الوعد أولى الثالث وهو أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى سلمنا أنه لم يوجد المعارض ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفار فلا تكون قاطعة في العمومات فإن قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلنا هب أنه كذلك ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة(3/140)
وردت في الأسباب الخاصة والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أن إفادتها للعموم لا يكون قوياً والله أعلم
أما الذين قطعوا بنفي العقاب عن أهل الكبائر فقد احتجوا بوجوه الأول قوله تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وقوله تعالى إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) دلت هذه الآية على أن ماهية الخزي والسوء والعذاب مختصة بالكافر فوجب أن لا يحصل فرد من أفراد هذه الماهية لأحد سوى الكافرين الثاني قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) حكم تعالى بأنه يغفر كل الذنوب ولم يعتبر التوبة ولا غيرها وهذا يفيد القطع بغفران كل الذنوب الثالث قوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( الرعد 6 ) وكلمة ( على ) تفيد الحال كقولك رأيت الملك على أكله أي رأيته حال اشتغاله بالأكل فكذا ههنا وجب أن يغفر لهم الله حال اشتغالهم بالظلم وحال الاشتغال بالظلم يستحيل حصول التوبة منهم فعلمنا أنه يحصل الغفران بدون التوبة ومقتضى هذه الآية أن يغفر للكافر لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) إلا أنه ترك العمل به هناك فبقي معمولاً به في الباقي والفرق أن الكفر أعظم حالاً من المعصية الرابع قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( الليل 14 16 ) وكل نار فإنها متلظية لا محالة فكأنه تعالى قال إن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي هو المكذب المتولي الخامس قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( الملك 8 9 ) دلت الآية على أن جميع أهل النار مكذب لا يقال هذه الآية خاصة في الكفار ألا ترى أنه يقول قبله وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِى َ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ وهذا يدل على أنها مخصوصة في بعض الكفار وهم الذين قالوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء ( الملك 6 9 ) وليس هذا من قول جميع الكفار لأنا نقول دلالة ما قبل هذه الآية على الكفار لا تمنع من عموم ما بعدها
أما قوله إن هذا ليس من قول الكفار قلنا لا نسلم فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون ما نزل الله من شيء على محمد وإذا كان كذلك فقد صدق عليهم أنهم كانوا يقولون ما نزل الله من شيء السادس قوله تعالى وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( سبأ 17 ) وهذا بناء المبالغة فوجب أن يختص بالكفر الأصلي السابع أنه تعالى بعدما أخبر أن الناس صنفان بيض الوجوه وسودهم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( آل عمران 106 ) فذكر أنهم الكفار و الثامن أنه تعالى بعدما جعل الناس ثلاثة أصناف السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة بين أن السابقين وأصحاب الميمنة في الجنة وأصحاب المشأمة في النار ثم بين أنهم كفار بقوله وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الواقعة 47 ) التاسع إن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من أدخل النار فإنه يخزى فإذن صاحب الكبيرة لا يدخل النار وإنما قلنا إن صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى وإنما قلنا إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) من أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لوجوه(3/141)
أحدها قوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) وثانيها قوله إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وثالثها قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) ثم إنه تعالى قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة وإنما قلنا إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل عمران 192 ) فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار العاشر العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 4 5 ) فحكم بالفلاح على كل من آمن وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فقوله وَعَمِلَ صَالِحَاً نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) وإنها كثيرة جداً ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة والجواب عن هذه الوجوه أنها معارضة بعمومات الوعيد والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات الحجة الأولى الآيات الدالة على كون الله تعالى عفواً غفوراً كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( الشورى 25 ) وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 30 ) وقوله وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشورى 32 ) إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 34 ) وأيضاً أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه وهذا القسم الثاني باطل لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال إنه عفا ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحداً لا يقال أنه عفا عنع إنما يقال له عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ولأنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريراً من غير فائدة فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا الحجة الثانية الآيات الدالة على كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ( غافر 3 ) وقال وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ ( الكهف 58 ) وقال وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ ( طه 82 ) وقال غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن(3/142)
عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وإنما قلنا إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب فإن قيل لم يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ ( البقرة 52 ) والمراد ليس إسقاط العقاب بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها وكذا قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب والجواب العفو أصله من عفا أثره أي أزاله وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) وليس المراد منه التأخير بل الإزالة وكذا قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم بل الإسقاط المطلق ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير الحجة الثالثة الآيات الدالة على كونه تعالى رحماناً رحيماً والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب والأول باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم والأول باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهراً وتكليفاً لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة والثاني باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى ألبتة رحمة ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى فإنه لا يقال إن السلطان رحمه بل يقال زاد في الإنعام عليه فكذا ههنا أما القسم الثاني وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيماً علينا لأجل أنه ما ظلمنا فبقي أنه إنما يكون رحيماً لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن ترك عقابهم واجب فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة فإن قيل لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة قلنا أما الأول فإنه يفيد كونه رحيماً في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا وأما الثاني فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا(3/143)
قول المعتزلة الوعيدية إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر
الحجة الرابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) فنقول ( لمن يشاء ) لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة وإنما قلنا لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ معناه أنه لا يغفره تفضلاً لا أنه لا يغفره استحقاقاً دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاماً منتظماً ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقاً امتنع كونهما مرادين بالآية وثانيها أنه لو كان قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة وثالثها أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون للمغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما نحن فلا نقول ذلك ورابعها أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى الشرك وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبل التوبة إلا أن غفران كل هذه الثلاثة يحمل قسمين لأنه يحتمل أن يغفر كلها لكل أحد وأن يغفر كلها للبعض دون البعض فقوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة ثم قوله لِمَن يَشَاء يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا فإن قيل لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم إذا ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء لا يقال كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيداً للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة أما الوجوه الثلاثة الأول فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما الوجه الرابع فلا نسلم أن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ(3/144)
( كل ) و ( بعض ) على البدل عليه مثل أن يقال ويغفر كل ما دون ذلك ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم لما صح ذلك سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية والجواب عن الأول أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( النساء 48 116 ) الآية قوله لم قلتم إن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم قلنا لأن قوله ( ما ) تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهية ماهية واحدة وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم أما قوله آيات الوعيد أخص من هذه الآية قلنا لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو
الحجة الخامسة أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن ثم نقول لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق والترجيح معناه من وجوه أحدها أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع وقد دللنا على صحته في أصول الفقه و ثانيها أن قوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولاً به في الباقي وثالثها قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 165 ) ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ثم زاد عليه فقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( البقرة 261 ) وأما في جانب السيئة فقال وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة و رابعها أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ فقوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( النساء 122 ) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقاً
أما قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) الآية يتناول الوعد والوعيد و خامسها قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( النساء 110 111 ) والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له ولم يقل ومن يكسب إثماً فإنه يجد الله معذباً معاقباً بل قال فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ(3/145)
أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) ولم يقل وإن أسأتم أسأتم لها فكأنها تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح و سادسها أنا قد دللنا على أن قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد ولم يذكر شيئاً من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد لا في سورة واحدة ولا في سورتين فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم و سابعها أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد و ثامنها أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً غفاراً وأن له الغفران والمغفرة وأنه تعالى رحيم كريم وأن له العفو والإحسان والفضل والإفضال والأخبار الدالة على هذه الأشياء قد بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك مما يؤكد جانب الوعد وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد وتاسعها أن هذا الإنسان أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد الذي له عبد ثم أتى عبده بأعظم الطاعات وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع المولى تلك المعصية المتوسطة على الطاعة العظيمة لعد ذلك السيد لئيماً مؤذياً فكذا ههنا فلما لم يجز ذلك على الله ثبت أن الرجحان لجانب الوعد وعاشرها قال يحيى بن معاذ الرازي إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ا إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي وإلا فالكفر أعظم من الإيمانا فإن يكن كذلك فلا أقل من رجاء العفو وهو كلام حسن الحادي عشر أنا قد بينا بالدليل أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل قالت المعتزلة ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه أولها هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقاً للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقاً للثواب وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحاً على جانب الوعد أما بيان أنه يلعن فالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ( النساء 93 ) وكذا قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الأعراف 44 ) وأما الإجماع فظاهر وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( المائدة 33 ) وإذا ثبت كون الفاسق موصوفاً بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم ومن كان مستحقاً لهما دائماً ومتى استحقهما دائماً امتنع أن يبقى مستحقاً للثواب لأن(3/146)
الثواب والعقاب متنافيان فالجمع بين استحقاقهما محال وإذا لم يبق مستحقاً للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد وثانيها أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام وثالثها أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد فكان جانب الوعيد أولى قلنا الجواب عن الأول من وجوه الأول كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضاً وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم قال الله تعالى وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا الثاني فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس الثالث أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالاً ولكن امتحاناً فثبت أن قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( المائدة 38 ) مشروط بعدم التوبة فلم لا يجوز أيضاً أن يكون مشروطاً بعدم العفو والرابع أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافياً وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزياً وكافياً فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما فأما أن يقال العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة أو يقال العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لا يتناول الكفر وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) ( الأحزاب 36 ) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم
الحجة السادسة أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وهو نص في المسألة فإن قيل هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة وأنتم لا تقولون بهذا المذهب فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه سلمنا ذلك لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين أحدهما أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص الثاني أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ( الزمر 54 ) والإنابة هي التوبة فدل على أن التوبة شرط فيه والجواب عن الأول أن قوله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة فيكون هذا قطعاً بالغفران لا محالة وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها والاعتراض عليه من وجوه(3/147)
الأول أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل الثاني أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفاً بالمعصية وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصياً لله بقلبه ولسانه وجوارحه فأما المسلم الذي يكون مطيعاً لله بقلبه ولسانه ويكون عاصياً لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحق إحاطة الخطيئة بالعبد ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال إنه محيط به وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافراً إذا ثبت هذا فنقول قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار الثالث أن قوله تعالى فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل فوجب حمله على أنهم يستحقون النار ونحن نقول بموجبه لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية وهي أن الشرط ههنا أمران أحدهما اكتساب السيئة والثاني إحاطة تلك السيئة بالعبد والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصل أحدهما وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد وذلك لفوائد أحدها ليظهر بذلك عدله سبحانه لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان وثانيها أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق وثالثها أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان وههنا مسائل
المسألة الأولى العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان فلهذا حسن أن يقول وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والجواب أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله آمن دليلاً على صدور كل تلك الأعمال منه والله أعلم(3/148)
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فإن قيل قوله تعالى وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات فلا يندرج تحت الآية قلنا قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات لكن قولنا آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات والمعتبر في الآية هو القدر المشترك فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد بقي قولهم إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلاً لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ للحصر فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلاً لم يدخل تحت هذا الحكم والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة فهذا التكليف لا محالة من النعم ثم إنه تعالى بين ههنا أنه كلفهم بأشياء التكليف الأول قوله تعالى لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( يعبدون ) بالياء والباقون بالتاء ووجه الياء أنهم غيب أخبر عنهم ووجه التاء أنهم كانوا مخاطبين والاختيار التاء قال أبو عمرو ألا ترى أنه جل ذكره قال وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا فدلت المخاطبة على التاء
المسألة الثانية اختلفوا في موضع ( يعبدون ) من الأعراب على خمسة أقوال(3/149)
القول الأول قال الكسائي رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت ( أن ) رفع الفعل كما قال طرفة ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه ( أن ) وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم
القول الثاني موضعه رفع على أنه جواب القسم كأنه قيل وإذا أقسمنا عليهم لا يعبدون وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش
القول الثالث قول قطرب أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصباً كأنه قال أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله
القول الرابع قول الفراء أن موضع ( لا تعبدون ) على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا ( البقرة 233 ) بالرفع والمعنى على النهي والذي يؤكد كونه نهياً أمور أحدها قوله أَقِيمُواْ وثانيها أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي لاَّ تَعْبُدُواْ وثالثها أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه
القول الخامس التقدير أن لا تعبدوا تكون ( أن ) مع الفعل بدلاً عن الميثاق كأنه قيل أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم
المسألة الثالثة هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة فقوله لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها
التكليف الثاني قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال بم يتصل الباء في قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وعلام انتصب قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول قال الزجاج انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحساناً والثاني قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان وإلى الوالدين كأنه قيل وأحسنوا إلى الوالدين الثالث قيل بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا
المسألة الثانية إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه أحدها أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود بل بالتربية فقط فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى(3/150)
وثانيها أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر وثالثها أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضاً ألبتة بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً مالياً ولا ثواباً فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى الرابع أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين الخامس كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد كما قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) السادس أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى
المسألة الثالثة اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله في هذه الآية وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم وهكذا الاستدلال بقوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وثانيها قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا الآية وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما ثم إنه تعالى قال في آخر الآية وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ( الإسراء 23 24 ) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم وثالثها أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 )
المسألة الرابعة اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما ألبتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين
التكليف الثالث قوله تعالى وَذِى الْقُرْبَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم وغير المحرم ولا يدخل الأب والابن لأنهما لا يعرفان بالقريب ويدخل الأحفاد والأجداد وقيل لا يدخل الأصول والفروع وقيل بدخول الكل وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية فيتسع نسلهم وكلهم(3/151)
أقارب فلو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا فلهذا قال الشافعي رضي الله عنه يرتقي إلى أقرب جد ينتسب هو إليه ويعرف به وإن كان كافراً وذكر الأصحاب في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي رضي الله عنه فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطلب وبني عبد مناف وإن كانوا أقارب لأن الشافعي ينتسب في المشهور إلى شافع دون عبد مناف قال الشيخ الغزالي وهذا في زمان الشافعي أما في زماننا فلا ينصرف إلا إلى أولاد الشافعي رضي الله عنه ولا يرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا أما قرابة الأم فإنها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر لأنهم لا يعدون ذلك قرابة أما لو قال لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم
المسألة الثانية اعلم أن حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى فلهذا أخر الله ذكره عن الوالدين وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الرحم سجنة من الرحمن فإذا كان يوم القيامة يقول أي رب إني ظلمت إني أسيء إلي إني قطعت قال فيجيبها ربها ألا ترضين أني أقطع من قطعك وأصل من وصلك ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب
التكليف الرابع قوله تعالى وَالْيَتَامَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليتيم الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وجمعه أيتام ويتامى كقولهم نديم وندامى ولا يقال لمن ماتت أمه إنه يتيم قال الزجاج هذا في الإنسان أما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه
المسألة الثانية اليتيم كالتالي لرعاية حقوق الأقارب وذلك لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه والإنسان قلما يرغب في صحبة مثل هذا وإذا كان هذا التكليف شاقاً على النفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين
التكليف الخامس قوله تعالى وَالْمَسَاكِينُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( والمساكين ) واحدها مسكين أخذ من السكون كأن الفقر قد سكنه وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه واحتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وعند الشافعي رضي الله عنه الفقير أسوأ حالاً لأن الفقير اشتقاقه من فقار الظهر كأن فقاره انكسر لشدة حاجته وهو قول ابن الأنباري واحتجوا عليه بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ ( الكهف 79 ) جعلهم مساكين مع أن السفينة كانت ملكاً لهم
المسألة الثانية إنما تأخرت درجتهم عن اليتامى لأن المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى ولأن المسكين أيضاً يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته واليتيم ليس كذلك فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين(3/152)
المسألة الثالثة الإحسان إلى ذي القربى واليتامى لا بد وأن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير
التكليف السادس قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي ( حسناً ) بفتح الحاء والسين على معنى الوصف للقول كأنه قال قولوا للناس قولاً حسناً والباقون بضم الحاء وسكون السين واستشهدوا بقوله تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) وبقوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء ( النحل 11 ) وفيه أوجه الأول قال الأخفش معناه قولاً ذا حسن الثاني يجوز أن يكون حسناً في موضع حسناً كما تقول رجل عدل الثالث أن يكون معنى قوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا أي ليحسن قولكم نصب على مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام الأول الرابع حسناً أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه
المسألة الثانية يقال لم خوطبوا بقولوا بعد الإخبار والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) وثانيها فيه حذف أي قلنا لهم قولوا وثالثها الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل قلت لا تعبدوا وقولوا
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المخاطب بقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا من هو فيحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسناً ويحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله ثم قال لموسى وأمته قولوا للناس حسناً والكل ممكن بحسب اللفظ وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه
المسألة الرابعة منهم من قال إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين أما مع الكفار والفساق فلا والدليل عليه وجهان الأول أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً والثاني قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم ثم إن القائلين بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القتال ومنهم من قال إنه دخله التخصيص وعلى هذا التقدير يحصل ههنا احتمالان أحدهما أن يكون التخصيص واقعاً بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسناً والثاني أن يقع بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف فعلى الوجه الأول يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب وعلى الثاني يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره وأنه لا حاجة إلى التخصيص وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهرون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون وكذلك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) وقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقوله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) أما الذي تمسكوا به أولاً من أنه يجب لعنهم وذمهم فلا يمكنهم القول الحسن معهم قلنا أولاً لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنعام 108 ) سلمنا أنه يجب لعنهم لكن(3/153)
لا نسلم أن اللعن ليس قولاً حسناً بيانه أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعاً في حقهم فكان ذلك اللعن قولاً حسناً ونافعاً كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسناً ونافعاً من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح سلمنا أن لعنهم ليس قولاً حسناً ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن بيانه أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقاً للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ومستحقاً للتحقير بسبب كفره وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم وأما الذي تمسكوا به ثانياً وهو قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فالجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه وهو المراد بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس )
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن كما قال تعالى لموسى وهارون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) الآية وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا
المسألة السادسة ظاهر الآية يدل على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً عليهم في دينهم وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ولأنه تعالى ذمهم على التولي عنه وذلك يفيد الوجوب والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه وروي عن ابن عباس أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق وهذا ضعيف لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزكاة كان التصدق واجباً ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون به
التكليف السابع والثامن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى وقد تقدم تفسيرهما
واعلم أنه تعالى لما شرح أنه أخذ الميثاق عليهم في هذه التكاليف الثمانية بين أنه مع إنعامه عليهم بأخذ الميثاق عليهم بكل ذلك ليقبلوا فتحصل لهم المنزلة العظمى عند ربهم تولوا وأساءوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الدلائل والمواثيق عليهم وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي لأن الإقدام على مخالفة الله تعالى بعد أن بلغ الغاية في البيان والتوثق يكون أعظم من المخالفة مع الجهالة واختلفوا فيمن المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ على ثلاثة أوجه أحدها أنه من تقدم من بني(3/154)
إسرائيل وثانيها أنه خطاب لمن كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم وثالثها المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ من تقدم بقوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ومن تأخر أما وجه القول الأول أنه إذا كان الكلام الأول في المتقدمين منهم فظاهر الخطاب يقتضي أن آخره فيهم أيضاً إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلاً منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه أما وجه القول الثاني أن قوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق وما تقدم حكاية وهو بسلفهم الغائبين أليق فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأسلموا فهذا محتمل وأما وجه القول الثالث فهو أنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالاً على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ مختصاً بمن في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعرضتم عنه وكفرتم به فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه
وأما قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه وجوه أحدها أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أنه خطاب مع أسلافهم وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم وثالثها أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه
أما قوله تعالى لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ففيه إشكال وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه والجواب عنه من أوجه أحدها أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان وثقل عليه أمر من الأمور فيقتل نفسه فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفاً به وثانيها المراد لا يقتل بعضكم بعضاً وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسباً وديناً وهو كقوله تعالى فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وثالثها أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه(3/155)
ورابعها لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم وخامسها لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم
أما قوله تعالى وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ ففيه وجهان الأول لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم الثاني المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك
أما قوله تعالى ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ففيه وجوه أحدها وهو الأقوى أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها وثانيها اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً وثالثها وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ورابعها الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته فإن قيل لم قال أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ والمعنى واحد قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم الثاني أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون الثالث أنه للتأكيد
ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلا ءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْى ٌ فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء ففيه إشكال لأن قوله أَنتُمْ للحاضرين و هَؤُلاء للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب وجوابه من وجوه أحدها تقديره ثم أنتم يا هؤلاء وثانيها تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين وثالثها أنه بمعنى الذي وصلته ( تقتلون ) وموضع تقتلون رفع إذا كان خبراً ولا موضع له إذا كان صلة قال الزجاج ومثله في الصلة قوله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) يعني وما تلك التي بيمينك ورابعها هؤلاء تأكيد لأنتم والخبر ( تقتلون ) وأما قوله تعالى تَقْتُلُونَ(3/156)
أَنفُسَكُمْ فقد ذكرنا فيه الوجوه وأصحها أن المراد يقتل بعضكم بعضاً وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو
أما قوله تعالى تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( تظاهرون ) بتخفيف الظاء والباقون بالتشديد فوجه التخفيف الحذف لإحدى التاءين كقوله وَلاَ تَعَاوَنُواْ ووجه التشديد إدغام التاء في الظاء كقوله تعالى اثَّاقَلْتُمْ ( التوبة 38 ) والحذف أخف والادغام أدل على الأصل
المسألة الثانية اعلم أن التظاهر هو التعاون ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان
المسألة الثالثة الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة فإن قيل أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى والجواب أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق
المسألة الرابعة الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة
أما قوله تعالى وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم والكسائي ( أسارى تفادوهم ) بالألف فيهما وقرأ حمزة وحده بغير ألف فيهما والباقون ( أسارى ) بالألف و ( تفدوهم ) بغير ألف و ( الأسرى ) جمع أسير كجريح وجرحى وفي أسارى قولان أحدهما أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى والثاني جمع أسير وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى وقال الأسارى الذين في وثاق والأسرى الذين في اليد كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة وأنكر ثعلب ذلك وقال علي ابن عيسى الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز
المسألة الثانية تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له يقال فداه فدية وتفادوهم من المفاداة
المسألة الثالثة جمهور المفسرين قالوا المراد من قوله تُفَادُوهُمْ وصف لهم بما هو طاعة وهو(3/157)
التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرماً عليكم ثم عنده تخرجونه من الأسر قال أبو مسلم والمفسرون إنما أتوا من جهة قوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليهم والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض وكلا القولين يحتمل لفظ المفادة لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه والأخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب لأن عود قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات
المسألة الرابعة قال بعضهم الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالوا كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا وقال آخرون ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ففي قوله وَهُوَ وجهان الأول أنه ضمير القصة والشأن كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم الثاني أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيداً لأنه فصل بينهما بكلام فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم ثم أعيد ذكر إخراجهم مبيناً للأول
أما قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فقد اختلف العلماء فيه على وجهين أحدهما أخراجهم كفر وفداؤهم إيمان وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج ولم يذمهم على الفداء وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية فلم سماها كفراً مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه وثالثهما المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ فأصل الخزي الذل والمقت يقال أخزاه الله إذا مقته وأبعده وقيل أصله الاستحياء فإذا قيل أخزاه الله كأنه قيل أوقعه موقعاً يستحيا منه وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم واختلفوا في هذا الخزي على وجوه أحدها قال الحسن المراد الجزية والصغار وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صح هذا الوجه لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم وثانيها إخراج بني النضير من ديارهم وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في(3/158)
زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله ( خزي ) يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى
أما قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ ففيه سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود فكيف قال في حق اليهود يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ والجواب المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا فلفظ ( الأشد ) وإن كان مطلقاً إلا أن المراد أشد من هذه الجهة
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبية وجه الأول البناء على أول الكلام أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ووجه الثاني البناء على أنه آخر الكلام واختيار الخطاب لأن عليه الأكثر ولأنه أدل على المعنى لتغليب الخطاب على الغيبة إذا اجتمعا
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها
أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى
أما قوله تعالى فَلا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في دخول الفاء في قوله فَلاَ يُخَفَّفُ قولان أحدهما العطف على اشْتَرَوُاْ والقول الآخر بمعنى جواب الأمر كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم والأول أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار
المسألة الثانية بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم لأنه لو انقطع لكان قد خف وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في(3/159)
كل وقت أو في بعض الأوقات فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ففيه وجهان الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحداً لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا والأول أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم ولذلك قال فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل أنفسهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها
وأما قوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ الرُّسُلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قفينا أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء أي بعد نحو ذنبه من الذنب ونظيره قوله ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ( المؤمنون 44 )
المسألة الثانية روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها قال القاضي إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولاً لا شريعة معه أصلاً تبين العقليات لهذه العلة فكذا القول في مسألتنا فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة(3/160)
جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى والجواب لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله وبالجملة فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى فلم قال إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا
المسألة الثالثة هؤلاء الرسل هم يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزيز وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له وليس كذلك عيسى لأن شرعة نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام
المسألة الثانية قيل عيسى بالسريانية أيشوع ومريم بمعنى الخادم وقيل مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة قلت لزير لم تصله مريمة
المسألة الثالثة في البينات وجوه أحدها المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس وثانيها أنها الإنجيل وثالثها وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى
أما قوله تعالى تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وأيدناه قرأ ابن كثير ( القدس ) بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهما لغتان مثل رعب ورعب
المسألة الثانية اختلفوا في الروح على وجوه أحدها أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه الأول أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلو مرتبته عند الله تعالى الثاني سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولى لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم الثالث أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل الرابع سمي جبريل عليه السلام روحاً لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات وثانيها المراد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله وثالثها أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورابعها أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه(3/161)
تعظيماً له وتشريفاً كما يقال بيت الله وناقة الله عن الربيع وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان
واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الانجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخلوق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم والانجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه أحدها لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراً لطيف فكانت المشابهة أتم فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى وثانيها أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه وثالثها أن قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني قويناه والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز فكان ذلك أولى ورابعها وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء
أما قوله تعالى أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فهو نهاية الذم لهم لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم
أما قوله تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ فلقائل أن يقول هلا قيل وفريقاً قتلتم وجوابه من وجهين أحدهما أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب الثاني أن يراد فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة وقال عليه السلام عند موته ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ) والله أعلم
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة(3/162)
بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها وثانيها روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام وثالثها غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك أما المعتزلة فإنهم اختاروا الوجه الأول ثم قالوا هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول فكان لا يكذبهم الله بقوله بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور قالوا وهذا يدل على أن معنى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً وقوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ( يس 8 9 ) ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر قالوا ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هئلاء القوم صادقين في ذلك ولو كانوا صادقين لما ذمهم بل كان الذي حكاه عنهم إظهاراً لعذرهم ومسقطاً للومهم
واعلم أنا بينا في تفسير الغلف وجوهاً ثلاثة فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلت إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم
أما قوله تعالى بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ففيه أجوبة أحدها هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولاً ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم وثانيها المراد من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد فلم يجد منها شيئاً قوياً فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول وثالثها لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( الأنعام 20 ) ( البقرة 146 ) إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر
أما قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره ثلاثة أوجه أحدها أن القليل صفة المؤمن أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم وثانيها أنه صفة الإيمان أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل وثالثها معناه لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال قليلاً ما يفعل بمعنى لا يفعل ألبتة قال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قليلاً ما تنبت يريدون ولا تنبت شيئاً والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم
المسألة الثانية في انتصاب ( قليلاً ) وجوه أحدها فإيماناً قليلاً ما يؤمنون ( وما ) مزيدة وهو إيمانهم(3/163)
ببعض الكتاب وثانيها انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون وثالثها فصاروا قليلاً ما يؤمنون
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا نوع من قبائح اليهود أما قوله تعالى كِتَابٌ فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن أما قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات
المسألة الثانية قرىء مُصَدّقاً على الحال فإن قيل كيف جاز نصبها عن النكرة قلنا إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف كِتَابٌ بقوله مِنْ عِندِ اللَّهِ
المسألة الثالثة في جواب ( لما ) ثلاثة أوجه أحدها أنه محذوف كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) فإن جوابه محذوف وهو لكان هذا القرآن عن الأخفش والزجاج وثانيها أنه على التكرير لطول الكلام والجواب كفروا به كقوله تعالى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إلى قوله تعالى أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 35 ) عن المبرد وثالثها أن تكون الفاء جواباً للما الأولى وَكَفَرُواْ بِهِ جواباً للما الثانية وهو كقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) ( طه 133 ) الآية عن الفراء
أما قوله تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي سبب النزول وجوه أحدها أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي وثانيها كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم عن ابن عباس وثالثها كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب عن أبي مسلم ورابعها نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث عن ابن عباس وقتادة والسدي وخامسها نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمداً في التوراة وأنه(3/164)
مبعوث وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث
أما قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته وفيه سؤال وهو أن التوراة نقلت نقلاً متواتراً فأما أن يقال إنه حصل فيها نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل أعني بيان أن الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظره في السنة الفلانية في المكان الفلاني أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً فكيف قال الله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ والجواب أن الوصف المذكور في التوراة كان وصفاً إجمالياً وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار
المسألة الثانية يحتمل أن يقال كفروا به لوجوه أحدها أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله تعالى محمداً من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول وثانيها اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار وثالثها لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به
المسألة الثالثة أنه تعالى كفرهم بعد ما بين كونهم عالمين بنبوته وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط
أما قوله تعالى فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فالمراد الإبعاد من خيرات الآخرة لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعوناً فإن قيل أليس أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) وقال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص على أنا بينا فيما قبل أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن والله أعلم
بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أن البحث عن حقيقة بئسما لا يحصل إلا في مسائل
المسألة الأولى أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا ( علم ) إلا أن ما كان ثانيه(3/165)
حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات الأول على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني والثاني اتباع الأول للثاني وهو أن يكون بكسر النون والعين وكذا يقال فخذ بكسر الفاء والخاء وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه ههنا لكون الحرف الحلقي مستتبعاً لما يجاوره الثالث إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء الرابع أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء
واعلم أن هذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازماً لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد ففداء لبني قيس على
ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم
نعم الساعون في الأمر المبر
المسألة الثانية أنهما فعلان من نعم ينعم وبئس ويبأس والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما فيقال نعمت وبئست والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء ويحتج بقول حسان ابن ثابت رضي الله عنه ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته
من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابياً بشر بمولودة فقيل له نعم المولود مولودتك فقال والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية
المسألة الثالثة اعلم أن ( نعم وبئس ) أصلان للصلاح والرداءة ويكون فاعلهما اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً والمظهر على وجهين الأول نحو قولك نعم الرجل زيد لا تريد رجلاً دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق والثاني نحو قولك نعم غلام الرجل زيد أما قوله فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل كان ذلك لأجل أن قوله ( وصاحب الركب ) قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم وأما المضمر فكقولك نعم رجلاً زيد الأصل نعم الرجل رجلاً زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه ورجلاً نصب على التمييز مثله في قولك عشرون رجلاً والمميز لا يكون إلا نكرة ألا ترى أن أحداً لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا نعم الرجل بالنصب لكان نقضاً للغرض إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار إذ كان ( نعم رجلاً ) يدل على الجنس الذي فضل عليه(3/166)
المسألة الرابعة إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ مؤخراً كأنه قيل زيد نعم الرجل أخرت زيداً والنية به التقديم كما تقول مررت به المسكين تريد المسكين مررت به فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلاً تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه والوجه الآخر أن يكون زيد في قولك نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل نعم الرجل قيل من هذا الذي أثنى عليه فقيل زيد أي هو زيد
المسألة الخامسة المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأعراف 177 ) محذوفاً وتقديره ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وإذ قد لخصنا هذه المسائل فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ( ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم ( أن يكفروا )
المسألة الثانية في الشراء ههنا قولان أحدهما أنه بمعنى البيع وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته قيل نعم ما اشترى ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك يملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك الوجه الثاني وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها فذمهم الله تعالى وقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ثم إنه تعالى بين تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال بَغِيّاً وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلاناً حسداً تنبيهاً بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلاً لا بغياً
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد
أما قوله تعالى فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ففيه مسائل(3/167)
المسألة الأولى في تفسير الغضبين وجوه أحدها أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين أحدهما ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولاً في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة الثاني ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ ( المائدة 64 ) إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وغير ذلك من أنواع كفرهم وهو قول عطاء وعبيد بن عمير الثالث أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظم وهو قول أبي مسلم الرابع الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي
المسألة الثانية الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك
المسألة الثالثة أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة
أما قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم
المسألة الثانية العذاب في الحقيقة لا يكون مهيناً لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه فإن قيل العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف قلنا كون العذاب مقروناً بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلاً عليه
المسألة الثالثة قال قوم قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه لا عذاب إلا للكافرين ثم بعد تقرير هذه المقدمة احتج بهذه الآية فريقان أحدهما الخوارج قالوا ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر فيلزم أن يقال الفاسق كافر وثانيها المرجئة قالوا ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر وثبت أن الفاسق ليس بكافر فوجب القطع بأنه لا يعذب وفساد هذين القولين لا يخفى(3/168)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من قبائح أفعالهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ يعني به اليهود بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ أي بكل ما أنزل الله والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة ( ما ) بمعنى الذي تفيد العموم قالوا لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة ( ما ) تفيد العموم لما حسن هذا الذم ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض
أما قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول ما دل عليه قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ أنه لما ثبتت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات التي ظهرت عليه إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجباً لا محالة وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال الثاني ما دل عليه قوله مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ وتقريره من وجهين الأول أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علماً ولا استفاد من أستاذ فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل الثاني أن القرآن يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته وإلا لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة بل مكذباً لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
أما قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه سبحانه وتعالى بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقاً في(3/169)
ادعاء النبوة فإن قتله كفر وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز
المسألة الثالثة قوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه أحدها أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين وثانيها أنهم ما أقدموا على ذلك وثالثها أنه لا يتأتى فيه من قبل فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه فإن قيل قوله ءامَنُواْ خطاب لهؤلاء الموجودين وَلَمْ تَقْتُلُونَ حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما قلنا معناه أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين
المسألة الرابعة يقال كيف جاز قوله لم تقتلون من قبل ولا يجوز أن يقال أنا أضربك أمس والجواب فيه قولان أحدهما أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله ويحك لم تكذب كأنك قلت لم يكن هذا من شأنك قال الله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ( البقرة 102 ) ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة والثاني كأنه قال لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ
اعلم أن تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووصفهم بالعناد والتكذيب ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم بل يزيد عليه أعاد ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البينات وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التكذيب والإنكار
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(3/170)
اعلم أن في الإعادة وجوهاً أحدها أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب وثانيها أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وذلك يدل على نهاية لجاجهم
أما قوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول قال أبو مسلم وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 177 ) وكقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز
أما قوله تعالى وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى واشربوا في قلوبهم حب العجل وفي وجه هذا الاستعارة وجهان الأول معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب وقوله فِى قُلُوبِهِمْ بيان لمكان الإشراف كقوله وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) الثاني كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال
المسألة الثانية قوله وَاشْرَبُواْ يدل على أن فاعلاً غيرهم فعل بهم ذلك ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان معجب بنفسه الثاني أن المراد من أشرب أي زينة عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر
أما قوله تعالى بِكُفْرِهِمْ فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى
أما قوله قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ ( هود 87 ) وكذلك إضافة الإيمان إليهم
المسألة الثانية الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 )
أما قوله تعالى إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم(3/171)
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه أحدها أنه لا يجوز أن يقال على طريق الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح الزام الثاني عليه وثانيها ما حكى الله عنهم في قوله وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وفي قوله نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وفي قوله وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 89 ) وثالثها اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون لأن النسخ غير جائز في شرعهم وأن سائر الفرق مبطلون ورابعها اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الله احتج على فساد قولهم بقوله قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنازعته معهم بالجدال والقتال ومن كان في النعم القليلة المنغصة ثم إن تيقن أنه بعد الموت لا بد وأن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة فإنه لا بد وأن يكون راغباً في الموت لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوباً فوجب أن يكون هذا الإنسان راضياً بالموت متمنياً له فثبت أن الدار الآخرة لو كانت لهم خالصة لوجب أن يتمنوا الموت ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا الموت بل لن يتمنوه أبداً وحينئذ يلزم قطعاً بطلان ادعائهم في قولهم إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس
فإن قيل لا نسلم أنه لو كانت لهم الدار الآخرة خالصة لوجب أن يتمنوا الموت قوله لأن نعيم الآخرة مطلوب ولا سبيل إليه إلا بالموت والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوباً قلنا قلنا الذي يتوقف عليه المطلوب يجوز أن يكون مطلوباً نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب إلا أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة وما كانوا يطيقونها فلا جرم ما تمنوا الموت(3/172)
السؤال الثاني أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقولوا إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر فإن كان الأمر كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك ونرى أمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال وبعد الموت فإنكم تتخلصون إلى نعيم الجنة فوجب أن ترضوا بقتلكما
السؤال الثالث لعلهم كانوا يقولون الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً لأنهم كانوا وعيدية أو لأنهم جوزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً فلأجل هذا ما تمنوا الموت وليس لأحد أن يدفع هذا السؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة لأن كل يوم من أيام القيامة كألف سنة مما تعدون فكانت هذه الأيام وإن كانت قليلة بحسب العدد لكنها طويلة بحسب المدة فلا جرم ما تمنوا الموت بسبب هذا الخوف
السؤال الرابع أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن تمني الموت فقال ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي ) وأيضاً قال الله تعالى في كتابه يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( الشورى 18 ) فكيف يجوز أن ينهي عن الاستعجال ثم إنه يتحدى القوم بذلك
السؤال الخامس أن لفظ التمني مشترك بين التمني الذي هو المعنى القائم بالقلب وبين اللفظ الدال على ذلك المعنى وهو قول القائل ليتني مت لليهود أن يقولوا إنك طلبت منا التمني والتمني لفظ مشترك فإن ذكرناه باللسان فله أن يقول ما أردت به هذا اللفظ وإنما أردت به المعنى الذي في القلب وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب فله أن يقول كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه
السؤال السادس هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنوا الموت فلم قلتم إنهم ما تمنوا الموت والاستدلال بقوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ضعيف لأن الاستدلال بهذا إنما يصح لو ثبت كون القرآن حقاً والنزاع ليس إلا فيه الجواب قوله ( أولاً ) كون الموت متضمناً للألم يكون كالصارف عن تمنيه قلنا كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل بأن المنفعة الحاصلة بسبب الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر ههنا كذلك قوله ثانياً إنهم لو قلبوا الكلام على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمه أن يرضى بالقتل قلنا الفرق بين محمد عليه السلام وبينهم أن محمداً كان يقول إني بعثت لتبليغ الشرائع إلى أهل التواتر وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق قوله ثالثاً كانوا خائفين من عقاب الكبائر قلنا القوم ادعوا كون الآخرة خالصة لهم وذلك يؤمنهم من امتزاج ثوابها بالعقاب قوله رابعاً نهى عن تمني الموت قلنا هذا النهي طريقة الشرع فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات روي أن علياً رضي الله عنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بزي المحاربين فقال يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه يسقط الموت وقال عمار رضي الله عنه بصفين(3/173)
الآن ألاقي الأحبة < / 1 }
محمداً وحزبه
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الأوقات تمنى الموت على أن هذا النهي مختص بسبب مخصوص فإنه عليه الصلاة والسلام حرم أن يتمنى الإنسان الموت عند الشدائد لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضاء بما قسم الله فأين هذا من التمني الذي يدل على صحة النبوة قوله خامساً إنهم ما عرفوا أن المراد هو التمني باللسان أو بالقلب قلنا التمني في لغة العرب لا يعرف إلا ما يظهر ( منه ) كما أن الخبر لا يعرف إلا ما يظهر بالقول والذي في القلب من ذلك لا يسمى بهذا الاسم وأيضاً فمن المحال أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لهم تمنوا الموت ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره قوله سادساً ما الدليل على أنه ما وجد التمني قلنا من وجوه أحدها أنه لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً لأنه أمر عظيم فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهراً والموافق طوعاً لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه وثالثها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً ) وقال ابن عباس لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة فهذا آخر الكلام في تقرير هذا الاستدلال ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فالمراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة
وأما قوله تعالى عَندَ اللَّهِ فليس المراد المكان بل المنزلة ولا بعد أيضاً في حمله على المكان فلعل اليهود كانوا مشبهة فاعتقدوا العندية المكانية فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها
وأما قوله تعالى خَالِصَة ٌ فنصب على الحال من الدار الآخرة أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى و ( الناس ) للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله إلا من كان هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد ههنا معهود
وأما قوله مّن دُونِ النَّاسِ فالمراد به سوى لا معنى المكان كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً هذا لك من دون الناس
وأما قوله تعالى فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ففيه مسألتان(3/174)
المسألة الأولى هذا أمر معلق على شرط مفقود وهو كونهم صادقين فلا يكون الأمر موجوداً والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم
المسألة الثانية في هذا التمني قولان أحدهما قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب والثاني أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ
أما قوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ فخبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر بأنهم لا يأتون بذلك فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي
وأما قوله تعالى أَبَدًا فهو غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان
وأما قوله تعالى بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فبيان للعلة التي لها لا يتمنون ( الموت ) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلَيْهِ بِالظَّالِمينَ فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر فإن قيل إنه تعالى قال ههنا وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا وقال في سورة الجمعة وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً فلم ذكر ههنا ( لن ) وفي سورة الجمعة ( لا ) قلنا إنهم في هذه السورة ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ ( لن ) لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ ( لا ) لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى(3/175)
الحياة فقال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ
أما قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ فهو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله وجدت زيداً ذا حفاظ ومفعولاه ( هم ) و ( أحرص ) وإنما قال عَلَى حَيَواة ٍ بالتنكير لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي ( على الحياة ) أما الواو في قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ففيه ( ثلاثة أقول )
أحدها أنها واو عطف والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك هو أسخى الناس ومن حاتم هذا قول الفراء والأصم فإن قيل ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس قلنا بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقياً باعظم التوبيخ فإن قيل ولم زاد حرصهم على حرص المشركين قلنا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك
القول الثاني أن هذه الواو واو استئناف وقد تم الكلام عند قوله ( على حياة ) ( و ) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لاَ مُقَامَ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 )
القول الثالث أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ثم فسر هذه المحبة بقوله يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وهو قول أبي مسلم والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ على ثلاثة أقوال قيل المجوس لأنهم كانوا يقولون لملكهم عش ألف نيروز وألف مهرجان وعن ابن عباس هو قول الأعاجم زي هزارسال وقيل المراد مشركوا العرب وقيل كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لأنا بينا أن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب
أما قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ فالمراد أنه تعالى بين بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت
أما قوله تعالى وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في أن قوله وَمَا هُوَ كناية عماذا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه كناية عن ( أحدهم ) الذي جرى ذكره أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره وثانيها أنه ضمير لما دل عليه ( يعمر ) من مصدره و ( أن يعمر ) بدل منه وثالثها أن يكون مبهماً و ( أن يعمر ) موضحه(3/176)
المسألة الثانية الزحزحة التبعيد والإنحاء قال القاضي والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ولو قال تعالى وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فاعلم أن البصر قد يراد به العلم يقال إن لفلان بصراً بهذا الأمر أي معرفة وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها وكلاً الوصفين يصحان عليه سبحانه إلا أن من قال إن في الأعمال ما لا يصح أن يرى هذا البصر على العلم لا محالة والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله تعالى قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أموراً أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان فقال عليه السلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) قال صدقت يا محمد فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة فقال صدقت فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه فقال أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له قال صدقت فقال أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه فقال عليه السلام ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان الإبل وألبانها فقالوا نعم فقال له بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله قال جبريل قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر وما مبدأ هذه العداوة فقال ابن صوريا مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس فلا فائدة في قتله ثم إنه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا فلذلك نتخذه عدواً وأما ميكائيل(3/177)
فإنه عدو جبريل فقال عمر فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وثانيها روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأرى آثاره في كتابكم ثم سألهم عن جبريل فقالوا ذاك عدونا يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم وما منزلتهما من الله قالوا أقرب منزلة جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدواً لجبريل فقال عمر لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو لأحدهما كان عدواً للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدواً الله ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد وافقك ربك يا عمر ) قال عمر لقد رأيتني في دين بعد ذلك أصلب من الحجر وثالثها قال مقاتل زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات
واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة وتقرير هذا من وجوه أولها أن الذي نزله جبريل من القرآن بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله وعداوة الله كفر فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر وثانيها أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة وثالثها أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نقرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه
المسألة الثانية من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود إن جبريل عدوهم قالوا لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحداً من سلفهم لم يقل بذلك واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق ولأن جهلهم كان شديداً وهم الذين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 )
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير ( جبريل ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزاً والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة(3/178)
المسألة الرابعة قال بعضهم جبريل معناه عبد الله ف ( جبر ) عبد و ( إيل ) الله وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم قال أبو علي السوسي هذا لا يصح لوجهين أحدهما أنه لا يعرف من أسماء الله ( أيل ) والثاني أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً
أما قوله تعالى فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ففيه سؤالات
السؤال الأول الهاء في قوله تعالى ( فإنه ) وفي قوله ( نزله ) إلى ماذا يعود الجواب فيه قولان أحدهما أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ( فاطر 45 ) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله قال صاحب ( الكشاف ) إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته وثانيهما المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه
السؤال الثاني القرآن إنما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فما السبب في قوله نزله على قلبك الجواب هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أداه إلى أمته فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظاً جاز أن يقال نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه
السؤال الثالث كان حق الكلام أن يقال على قلبي والجواب جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل قل ما تكلمت به من قولي من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك
السؤال الرابع كيف استقام قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جزاء للشرط والجواب فيه وجهان الأول أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكوراً فكيف تليق به العداوة والثاني أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك لأنه نزل عليك الكتاب برهاناً على نبوتك ومصداقاً لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه
أما قوله تعالى بِإِذُنِ اللَّهِ فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيرة بالعلم لوجوه أولها أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن وثانيها أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم وثالثها أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة
أما قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن(3/179)
القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قيل أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب فلم صار بأن يكون مصدقاً لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها قلنا الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع
أما قوله تعالى وَهَدَى فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ولما كان الأول مقدماً على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى فإن قيل ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل الجواب من وجهين الأول أنه تعالى إنما خصهم بذلك لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ والثاني أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين فلهذا خصهم الله به
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد وجب أن يكون عدواً لله تعالى بين في هذه الآية أن من كان عدواً لله كان عدواً له فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو وذلك محال على الله تعالى والجواب أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به وذلك محال على الله تعالى بل المراد منه أحد وجهين إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الأحزاب 57 ) لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم
السؤال الثاني لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة الجواب لوجهين الأول أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة الثاني أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما فلا جرم نص على اسميهما واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل وإذا ثبت هذا فنقول يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه أحدها أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً فوجب أن يكون مستقبحاً شرعاً(3/180)
لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وثانيها أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل وثالثها قوله تعالى في صفة جبريل مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ذكره يوصف المطاع على الإطلاق وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل وفيه لغة أخرى ميكئيل على وزن ميكعيل وميكئيل كميكعيل قال ابن جنى العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه
المسألة الثالثة الواو في جبريل وميكال قيل واو العطف وقيل بمعنى أو يعني من كان عدواً لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين
المسألة الرابعة عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر
وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم قال ابن عباس إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى الأظهر أن المراد من الآيات البينات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وقال بعضهم لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة ومن تمنى الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ونبوع الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر قال القاضي الأولى تخصيص ذلك بالقرآن لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل كانت أخص بالقرآن والله أعلم
المسألة الثانية الوجه في تسمية القرآن بالآيات وجوه أحدها أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات وثانيها أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب وثالثها أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة فإن قيل الدليل لا يكون إلا بيناً فما معنى وصف الآيات بكونها بينة وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها(3/181)
أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علماً وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه قلنا التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة
المسألة الثالثة الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً
أما قوله وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكفر بها من وجهين أحدهما جحودها مع العلم بصحتها والثاني جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه
المسألة الثانية الفسق في اللغة خروج الإنسان عما حد له قال الله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد ( إذا صار إليه ) فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد فإن قيل أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور قلنا إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر وكذلك الفسق إنما يقال إذا عظم التعدي إذا ثبت هذا فنقول في قوله إِلاَّ الْفَاسِقُونَ وجهان أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى الثاني أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا واو عطف دخلت عليه همزة الاستفهام وقيل الواو زائدة وليس بصحيح لأنه مع صحة معناه لا يجوز أن يحكم بالزيادة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات والبينات(3/182)
وكلما عاهدوا وقرأ أبو السماك بسكون الواو على أن الفاسقون بمعنى الذين فسقوا فكأنه قيل وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة وقرىء عوهدوا وعهدوا
المسألة الثالثة المقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت ودل بقول أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك
المسألة الرابعة في العهد وجوه أحدها أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى وثانيها أن العهد هو الذي كانوا يقولون قبل مبعثه عليه السلام لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وثالثها أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه ورابعها أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحداً من الكافرين فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق قال القاضي إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية لكن لا يجوز قصر الآية عليه بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى
المسألة الخامسة إنما قال نَّبَذَهُ فَرِيقٌ لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه قولان الأول أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم والثاني لا يؤمنون أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه
وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة أو مصدقاً لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة(3/183)
أما قوله تعالى نَبَذَ فَرِيقٌ فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه
أما قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ففيه قولان أحدهما أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه قال هذا القائل الدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم عند قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الثاني المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه
أما قوله تعالى كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ فقيل إنه التوراة وقيل إنه القرآن وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه الثاني أنه قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن فإن قيل كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به قلنا إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة
أما قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فدلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة لأنه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(3/184)
اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه
أما قوله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَاتَّبِعُواْ حكاية عمن تقدم ذكره وهم اليهود ثم فيه أقوال أحدها أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثانيها أنهم الذين تقدموا من اليهود وثالثها أنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر ورابعها أنه يتناول الكل وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره إذ لا دليل على التخصيص قال السدي لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحر
المسألة الثانية ذكروا في تفسير تَتْلُواْ وجوهاً أحدها أن المراد منه التلاوة والإخبار وثانيها قال أبو مسلم ( تتلوا ) أي تكذب على ملك سليمان يقال تلا عليه إذا كذب وتلا عنه إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران والأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر إلا أن المخبر يقال في خبره إذا كان كذباً إنه تلا فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال فيه روي عن فلان بل يقال روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن فلان وذلك لا يليق إلا بالأخبار والتلاوة ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف
المسألة الثالثة اختلفوا في الشياطين فقيل المراد شياطين الجن وهو قول الأكثرين وقيل شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقيل هم شياطين الإنس والجن معاً أما الذين حملوه على شياطين الجن قالوا إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره وأما الذين حملوه على شياطين الإنس قالوا روي في الخبر أن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى ( ما تتلوا الشياطين ) واحتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف محققاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان فإن قيل إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله على شياطين الجن قلنا الفرق أن الذي يفعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن نزيد في(3/185)
كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفياً فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان
المسألة الرابعة أما قوله عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ فقيل في ملك سليمان عن ابن جريج وقيل على عهد ملك سليمان والأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان
المسألة الخامسة اختلفوا في المراد بملك سليمان فقال القاضي إن ملك سليمان هو النبوة أو يدخل فيه النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة وإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر وقد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولاً على ملكه في الحقيقة والأصح عندي أن يقال إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان
المسألة السادسة السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه أحدها أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم وثانيها أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر وثالثها أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسراراً عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم
أما قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر قيل فيه أشياء أحدها ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً فأنزل الله هذه الآية وثانيها أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه وثالثها أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولاً بالسحر فقال تعالى يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه
المسألة الأولى في البحث عنه بحسب اللغة فنقول ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد
ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع والآخر نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال(3/186)
فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ويحتمل أيضاً أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر والسحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها ( توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين سحري ونحري ) وقوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( الشعراء 153 ) يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( الشعراء 154 ) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) وقال فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ( الأعراف 116 ) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة
المسألة الثانية اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 66 ) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( طه 66 ) وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد روي أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال لعمرو خبرني عن الزبرقان فقال مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان هو والله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من البيان لسحراً ) فسمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته فإن قيل كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبيء عنه سحراً وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفى لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر قلنا إنما سماه سحراً لوجهين الأول أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب فمن هذا الوجه سمي سحراً لا من الوجه الذي ظننت الثاني أن المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً فذلك يشبه السحر من هذا الوجه
المسألة الثالثة في أقسام السحر اعلم أن السحر على أقسام الأول سحر الكلدانيين والكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم في مذهبهم أما المعتزلة فقد اتفقت كلمتهم على أن غير الله تعالى لا يقدر على خلق الجسم والحياة واللون والطعم واحتجوا بوجوه ذكرها القاضي ولخصها في تفسيره وفي سائر كتبه ونحن ننقل تلك الوجوه وننظر فيها أولها وهو النكتة العقلية التي عليها يعولون أن كل ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فلو كان غير الله فاعلاً للجسم والحياة لكان ذلك الغير متحيزاً وذلك المتحيز لا بد وأن يكون قادراً بالقدرة إذ لو كان قادراً لذاته لكان كل جسم كذلك بناء على أن الأجسام متماثلة لكن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم(3/187)
والحياة ويدل عليه وجهان الأول أن العلم الضروري حاصل بأن الواحد منا لا يقدر على خلق الجسم والحياة ابتداء فقدرتنا مشتركة في امتناع ذلك عليها فهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك ههنا إلا كوننا قادرين بالقدرة وإذا ثبت هذا وجب فيمن كان قادراً بالقدرة أن يتعذر عليه فعل الجسم والحياة الثاني أن هذه القدرة التي لنا لا شك أن بعضها يخالف بعضاً فلو قدرنا قدرة صالحة لخلق الجسم والحياة لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدرة للبعض فلو كفى ذلك القدر من المخالفة في صلاحيتها لخلق الجسم والحياة لوجب في هذه القدرة أن يخالف بعضها بعضاً وأن تكون صالحة لخلق الجسم والحياة ولما لم يكن كذلك علمنا أن القادر بالقدرة لا يقدر على خلق الجسم والحياة وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى بل يجوز فيها أنهم أتوا بها من طريق السحر وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه وثالثها أنا لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر على خلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب لكنا نرى من يدعي السحر متوصلاً إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد فعلمنا كذبه وبهذا الطريق نعلم فساد ما يدعيه قوم من الكيمياء لأنا نقول لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذهب ذهباً لكان إما أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال فكان ينبغي أن يغنوا أنفسهم بذلك عن المشقة والذلة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكنين من ذلك بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك لأنه أنفع لهم من فتح البلاد الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز وفي علمنا بانصراف النفوس والهمم عن ذلك دلالة على فساد هذا القول قال القاضي فثبت بهذه الجملة أن الساحر لا يصح أن يكون فاعلاً لشيء من ذلك واعلم أن هذه الدلائل ضعيفة جداً أما الوجه الأول فنقول ما الدليل على أن كل ما سوى الله إما أن يكون متحيزاً وإما قائماً بالمتحيز أما علمتم أن الفلاسفة مصرون على إثبات العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة وزعموا أنها في أنفسها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز فما الدليل على فساد القول بهذا فإن قالوا لو وجد موجود هكذا لزم أن يكون مثلاً لله تعالى قلنا لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في الأسلوب لا يقتضي الاشتراك في الماهية سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يقدر على ذلك لذاته قوله الأجسام متماثلة فلو كان جسم كذلك لكان كل جسم كذلك قلنا ما الدليل على تماثل الأجسام فإن قالوا إنه لا معنى للجسم إلا الممتد في الجهات الشاغل للأحياز ولا تفاوت بينها في هذا المعنى قلنا الامتداد في الجهات والشغل للأحياز صفة من صفاتها ولازم من لوازمها ولا يبعد أن تكون الأشياء المختلفة في الماهية مشتركة في بعض اللوازم سلمنا أنه يجب أن يكون قادراً بالقدرة فلم قلتم إن القادر بالقدرة لا يصح منه خلق الجسم والحياة قوله لأن القدرة التي لنا مشتركة في هذا الامتناع وهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك سوى كوننا قادرين بالقدرة قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة فلا نسلم أن الامتناع حكم معلل وذلك لأن الامتناع عدمي والعدم لا يعلل سلمنا أنه أمر وجودي ولكن من مذهبهم أن كثيراً من الأحكام لا يعلل فلم(3/188)
لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك سلمنا أنه معلل فلم قلتم إن الحكم المشترك لا بد له من علة مشتركة أليس أن القبح حصل في الظلم معللاً بكونه ظلماً وفي الكذب بكونه كذباً وفي الجهل بكونه جهلاً سلمنا أنه لا بد من علة مشتركة لكن لا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة فلم لا يجوز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم تكون خارجة عن ذلك الوصف فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك وأما الوجه الأول وهو أنه ليست مخالفة تلك القدرة لبعض القدر أشد من مخالفة بعض هذه القدر للبعض فنقول هذا ضعيف لأنا لا نعلل صلاحيتها لخلق الجسم بكونها مخالفة لهذه القدر بل لخصوصيتها المعينة التي لأجلها خالفت سائر القدر وتلك الخصوصية معلوم أنها غير حاصلة في سائر القدر ونظير ما ذكروه أن يقال ليست مخالفة الصوت للبياض بأشد من مخالفة السواد للبياض فلو كانت تلك المخالفة مانعة للصوت من صحة أن يرى لوجب لكون السواد مخالفاً للبياض أن يمتنع رؤيته
ولما كان هذا الكلام فاسداً فكذا ما قالوه والعجب من القاضي أنه لما حكى هذه الوجوه عن الأشعرية في مسألة الرؤية وزيفها بهذه الأسئلة ثم إنه نفسه تمسك بها في هذه المسألة التي هي الأصل في إثبات النبوة والرد على من أثبت متوسطاً بين الله وبيننا أما الوجه الثاني وهو أن القول بصحة النبوات لا يبقى مع تجويز هذا الأصل فنقول إما أن يكون القول بصحة النبوات متفرعاً على فساد هذه القاعدة أو لا يكون فإن كان الأول امتنع فساد هذا الأصل بالبناء على صحة النبوات وإلا وقع الدور وإن كان الثاني فقد سقط هذا الكلام بالكلية وأما الوجه الثالث فلقائل أن يقول الكلام في الإمكان غير ونحن لا نقول بأن هذه الحالة حاصلة لكل أحد بل هذه الحالة لا تحصل للبشر إلا في الأعصار المتباعدة فكيف يلزمنا ما ذكرتموه فهذا هو الكلام في النوع الأول من السحر
النوع الثاني من السحر سحر أصحاب الأوهام والنفس القوية قالوا اختلف الناس في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا ) ما هو فمن الناس من يقول إنه هو هذه البنية ومنهم من يقول إنه جسم صار في هذه البنية ومنهم من يقول بأنه موجود وليس بجسم ولا بجسماني أما إذا قلنا إن الإنسان هو هذه البنية فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة فلم لا يجوز أن يتفق في بعض الأعصار الباردة أن يكون مزاجه مزاجاً من الأمزجة في ناحية من النواحي يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا والمتعذرة وهكذا الكلام إذا قلنا الإنسان جسم سار في هذه البنية أما إذا قلنا إن الإنسان هو النفس فلم لا يجوز أن يقال النفوس مختلفة فيتفق في بعض النفوس إن كانت لذاتها قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغائبة فهذا الاحتمال مما لم تقم دلالة على فساده سوى الوجوه المتقدمة وقد بان بطلانها ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أولها أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه وثانيها اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام و ثالثها حكى صاحب الشفاء عن ( أرسطو ) أن طبائع الحيوان أن الدجاجة إذ تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ثم قال صاحب الشفاء وهذا يدل(3/189)
على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية ورابعها أجمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثاراً وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وحكمة مخصوصة وخامسها أنك لو أنصفت لعلمت أن المبادىء القريبة للأفعال الحيوانية ليست إلا التصورات النفسانية لأن القوة المحركة المغروزة في العضلات صالحة للفعل وتركه أو ضده ولن يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح وما ذاك إلا تصور كون الفعل جميلاً أو لذيذاً أو تصور كونه قبيحاً أو مؤلماً فتلك التصورات هي المبادىء لصيرورة القوى العضلية مبادىء للفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت كذلك بالقوة وإذا كانت هذه التصورات هي المبادىء لمبادىء هذه الأفعال فأي استبعاد في كونها مبادىء لأفعال أنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار وسادسها التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادىء قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى أنه يفيده سخونة قوية
يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة وإذا جاز كون التصورات مبادىء لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادىء لحدوث الحوادث خارج البدن وسابعها أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضاً يحقق إمكان ما قلناه إذا عرفت هذا فنقول النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم ( السماء ) كانت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذه البدن فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظراً إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشعلت بالجانب الأول اشتغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال تتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين فإن ( ذا الفن ) الواحد يكون أقوى من ذي الفنين ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لا بد وأن يفرغ خاطره عما عداها فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى(3/190)
الثاني فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فإنى تلتفت إلى الجانب الآخر فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح وأما الرقى فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضاً بالأمور المناسبة لذلك الغرض فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض وهكذا القول في الدخن قالوا فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير بل ههنا نوعان آخران الأول أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير الثاني أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى
النوع الثالث من السحر الاستعانة بالأرواح الأرضية واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم ثم قال الخلف منهم هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة والبحر بالنسبة إلى القطرة والسلطان بالنسبة إلى الرعية قالوا وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد فهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن
النوع الرابع من السحر التخيلات والأخذ بالعيون وهذا الأخذ مبني على مقدمات إحداها أن أغلاط البصر كثيرة فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً وذلك يدل على(3/191)
أن الساكن يرى متحركاً والمتحرك يرى ساكناً والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً والذبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة والشخص الصغير يرى في الضباب عظيماً وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيماً فإذا فارقته وارتفعت عنه صغرت وأما رؤية العظيم من البعيد صغيراً فظاهر فهذه الأشياء قد هدت العقول إلى أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة وثانيها أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ما فأما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً ثم أدركت بعده محسوساً آخر وهكذا فإنه يختلط البعض بالبعض ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض وذلك فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارات فإن الحس يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان وثالثها أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان آخر ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما هو أكبر منها إن كان بوجهه أثر أو بجبهته أو بسائر أعضائه التي تقابل المرآة وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئاً مما في المرآة إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة فيبقى ذلك العمل خفياً لتفاوت الشيئين أحدهما اشتغالهم بالأمر الأول والثاني سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله فهذا هو المراد من قولهم إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً فإن البصر يفيد البصر كلالاً واختلالاً وكذا الظلمة الشديدة وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالاً واختلالاً والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر
النوع الخامس من السحر الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى مثل فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر وكفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه أحد ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية حتى يفرق فيها ضحك السرور وبين ضحك الخجل وضحك الشامت فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال وهو أن يجر ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسباباً(3/192)
معلومة نفيسة من اطلع عليها قدر عليها إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيراً شديداً لا يصل إليه إلا الفرد بعد الفرد لا جرم عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر ومن هذا الباب عمل ( أرجعيانوس ) الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه وذلك أنه اتفق له أنه كان مجتازاً بفلاة من الأرض فوجد فيها فرخاً من فراخ البراصل والبراصل هو طائر عطوف وكان يضمر صغيراً حزيناً بخلاف سائر البراصل وكانت البراصل تجيئه بلطائف الزيتون فتطرحها عنده فيأكل بعضها عند حاجته ويفضل بعضها عن حاجته فوقف هذا الموسيقار هناك وتأمل حال ذلك الفرخ وعلم أن في صفيره المخالف لصفير البراصل ضرباً من التوجع والاستعطاف حتى رقت له الطيور وجاءته بما يأكله فتلطف بعمل آلة تشبه الصفارة إذا استقبل الريح بها أدت ذلك الصفير ولم يزل يجرب ذلك حتى وثق بها وجاءته البراصل بالزيتون كما كانت تجيء إلى ذلك الفرخ لأنها تظن أن هناك فرخاً من جنسها فلما صح له ما أراد أظهر النسك وعمد إلى هيكل أورشليم وسأل عن الليلة التي دفن فيها ( أسطرخس ) الناسك القيم بعمارة ذلك الهيكل فأخبر أنه دفن في أول ليلة من آب فاتخذ صورة من زجاج مجوف على هيئة البرصلة ونصبها فوق ذلك الهيكل وجعل فوق تلك الصورة قبة وأمرهم بفتحها في أول آب وكان يظهر صوت البرصلة بسبب نفوذ الريح في تلك الصورة وكانت البراصل تجيء بالزيتون حتى كانت تمتلىء تلك القبة كل يوم من ذلك الزيتون والناس اعتقدوا أنه من كرامات ذلك المدفون ويدخل في الباب أنواع كثيرة لا يليق شرحها في هذا الموضع
النوع السادس من السحر الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية البلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله وقلت فطنته واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب والباطل بالحق
النوع السابع من السحر تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل حينئذ ما يشاء وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار
النوع الثامن من السحر السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس فهذا جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه والله أعلم
المسألة الرابعة في أقوال المسلمين في أن هذه الأنواع هل هي ممكنة أم لا أما المعتزلة فقد اتفقوا على إنكارها إلا النوع المنسوب إلى التخيل والمنسوب إلى إطعام بعض الأدوية المبلدة والمنسوب إلى التضريب والنميمة فأما الأقسام الخمسة الأول فقد أنكروها ولعلهم كفروا من قال بها وجوز وجودها وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا وأما الفلاسفة والمنجمون والصابئة فقولهم على ما سلف تقريره(3/193)
واحتج أصحابنا على فساد قول الصابئة إنه قد ثبت أن العالم محدث فوجب أن يكون موجده قادراً والشيء الذي حكم العقل بأنه مقدور إنما يصح أن يكون مقدوراً لكونه ممكناً والإمكان قدر مشترك بين كل الممكنات فأذن كل الممكنات مقدور لله تعالى ولو وجد شيء من تلك المقدورات بسبب آخر يلزم أن يكون ذلك السبب مزيلاً لتعلق قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحادث سبباً لعجز الله وهو محال فثبت أنه يستحيل وقوع شيء من الممكنات إلا بقدرة الله وعنده يبطل كل ما قاله الصابئة قالوا إذا ثبت هذا فندعي أنه يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة فقد احتجوا على وقوع هذا النوع من السحر بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في هذه الآية وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه وأما الأخبار فهي واردة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) متواترة وآحاداً أحدها ما روي أنه عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال ( إنه ليخيل إلى أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله ) وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر تحت راعوفة البئر فلما استخرج ذلك زال عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك العارض وأنزل المعوذتان بسببه وثانيها أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت لها إني ساحرة فهل لي من توبة فقالت وما سحرك فقالت صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت فقالا لي اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعل وجئت إليهما فقلت قد فعلت فقالا لي ما رأيت لما فعلت فقلت ما رأيت شيئاً فقالا لي أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت فرأيت كأن فارساً مقنعاً بالحديد قد خرج من فرجي فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا إيمانك قد خرج عنك وقد أحسنت السحر فقلت وما هو قالا ما تريدين شيئاً فتصوريه في وهمك إلا كان فصورت في نفسي حباً من حنطة فإذا أنا بحب فقلت أنزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلاً فقلت انطحن فانطحن من ساعته فقلت أنخبز فانخبز وأنا لا أريد شيئاً أصوره في نفسي إلا حصل فقالت عائشة ليس لك توبة وثالثها ما يذكرونه من الحكايات الكثيرة في هذا الباب وهي مشهورة أما المعتزلة فقد احتجوا على إنكاره بوجوه أحدها قوله تعالى وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( الفرقان 8 ) وثانيها قوله تعالى في وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ولو صار عليه السلام مسحوراً لما استحقوا الذم بسبب هذا القول وثالثها أنه لو جاز ذلك من السحر فكيف يتميز المعجز عن السحر ثم قالوا هذه الدلائل يقينية والأخبار التي ذكرتموها من باب الآحاد فلا تصلح معارضة لهذه الدلائل
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لعموم قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً
المسألة السادسة في أن الساحر قد يكفر أم لا اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا روي(3/194)
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق وأيضاً قال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ وهذا أيضاً يقتضي أن يكون السحر على الإطلاق كفراً وحكي عن الملكين أنهما لا يعلمان أحداً السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو يدل على أن السحر كفر على الإطلاق قلنا حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فتحملها على سحر من يعتقد إلهية النجوم
المسألة السابعة في أنه هل يجب قتلهم أم لا أما النوع الأول وهو أن يعتقد في الكواكب كونها آلهة مدبرة والنوع الثاني وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفاً بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال فلا شك في كفرهما فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) أما النوع الثالث وهو أن يعتقد أن الله تعالى أجرى عادته بخلق الأجسام والحياة وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقي وتدخين بعض الأدوية فالساحر يعتقد أنه يمكن الوصول إلى استحداث الأجسام والحياة وتغيير الخلقة بهذا الطريق وقد ذكرنا عن المعتزلة أنه كفر قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه الاستدلال بالمعجز على صدق الأنبياء وهذا ركيك لأنه يقال الفرق هو أن مدعي النبوة إن كان صادقاً في دعواه أمكنه الإتيان بهذه الأشياء وإن كان كاذباً تعذر عليه ذلك فبهذا يظهر الفرق إذا ثبت أنه ليس بكافر وثبت أنه ممكن الوقوع فإذا أتى الساحر بشيء من ذلك فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر لأنه حكم على المحظور بكونه مباحاً وإن اعتقد حرمته فعند الشافعي رضي الله عنه أن حكمه حكم الجناية إن قال إني سحرته وسحري يقتل غالباً يجب عليه القود وإن قال سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد وإن قال سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله لأنه ثبت بإقراره إلا أن تصدقه الكاملة فحينئذ العاقلة تجب عليهم هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه وروى الحسن بن زياد عن(3/195)
أبي حنيفة رحمه الله أنه قال يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد شهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن كان كذلك إذا قتل قتل واحتج أصحابنا بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر فهو فسق فإن لم يكن جناية على حق الغير كان الحق هو التفصيل الذي ذكرناه الثاني أن ساحر اليهود لا يقتل لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ( لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأخبار أحدها ما روى نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير إذنه وثانيها ما روى عمرو بن دنيار أنه ورد كتاب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر وثالثها قال علي بن أبي طالب إن هؤلاء العرافين كهان العجم فمن أتى كاهناً يؤمن له بما يقول فقد برىء مما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة فإن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة وأما سائر أنواع السحر أعني الإتيان بضروب الشعبذة والآلات العجيبة المبنية على ضروب الخيلاء والمبنية على النسب الهندسية وكذلك القول فيمن يوهم ضروباً من التخويف والتقريع حتى يصير من به السوداء محكم الاعتقاد فيه ويتمشى بالتضريب والنميمة ويحتال في إيقاع الفرقة بعد الوصلة ويوهم أن ذلك بكتابة يكتبها من الاسم الأعظم فكل ذلك ليس بكفر وكذلك القول في دفن الأشياء الوسخة في دور الناس وكذا القول في إيهام أن الجن يفعلون ذلك وكذا القول فيمن يدس الأدوية المبلدة في الأطعمة فإن شيئاً من ذلك لا يبلغ حد الكفر ولا يوجب القتل ألبتة فهذا هو الكلام الكلي في السحر والله الكافي والواقي ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر وعلى أن السحر أيضاً كفر ولمن منع ذلك أن يقول لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر فإن قيل هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر فلو كان تعليم السحر كفراً لزم تكفير الملكين وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضاً فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحراً فهو كفر قلنا اللفظ المشترك لا يكون عاماً في جميع مسمياته فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات فهذا السحر كفر والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام(3/196)
وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على ما قال تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ وأيضاً فبتقدير أن يقال إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفراً إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيقته وكونه صواباً فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفراً وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزاً عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق
المسألة الثامنة قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد ( لكن ) و ( الشياطين ) بالنصب على أنه اسم ( لكن ) والباقون ( لكن ) بالتخفيف و ( الشياطين ) بالرفع والمعنى واحد وكذلك في الأنفال وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ( الأنفال 17 ) والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن والوجه فيه أن ( لكن ) بالتخفيف يكون عطفاً فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام والمشددة لا تكون عطفاً لأنها تعمل عمل ( إن )
أما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله وَمَا أَنَزلَ فيه وجهان الأول أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول أنه عطف على ( السحر ) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضاً وثانيها أنه عطف على قوله مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ أي واتبعوا الذي تلته الشياطين ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما وثالثها أن موضعه جر عطفاً على ( ملك سليمان ) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلاً عليهما واحتج عليه بوجوه الأول أن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزله هو الله تعالى وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك الثاني أن قوله وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ يدل على أن تعليم السحر كفر فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر وذلك باطل الثالث كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى الرابع أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجاً آخر يخالف قول أكثر المفسرين فقال كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ توكيداً لبعثهم على القبول والتمسك وكانت طائفة تتمسك وأخرى(3/197)
تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه فهذا تقرير مذهب أبي مسلم الوجه الثاني أن يكون ( ما ) بمعنى الجحد ويكون معطوفاً على قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ كأنه قال لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فرد الله عليهم في القولين قوله وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ جحد أيضاً أي لا يعلمان أحداً بل ينهيان عنه أشد النهي
أما قوله تعالى حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلاناً بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا أي ما أمرت به بل حذرته عنه
وأعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها وذلك لأن عطف قوله وَمَا أَنَزلَ على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل أما قوله لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى قلنا تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانياً إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فالجواب أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق قوله ثالثاً إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة قلنا لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله قوله رابعاً إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه قلنا فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهياً عنه وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأموراً به
المسألة الثانية قرأ الحسن ( ملكين ) بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلفوا فقال الحسن كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر وقيل كانا رجلين صالحين من الملوك والقراءة المشهورة بفتح اللام وهما كانا ملكين نزلا من السماء وهاروت وماروت اسمان لهما وقيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام وقيل غيرهما أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه أحدها أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر وثانيها كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( الأنعام 8 ) وثالثها لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو غير جائز ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنساناً بل ملكاً من الملائكة وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) والجواب في الأصل أنا سنبين وجه الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر وعن(3/198)
الثاني أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام وعن الثالث أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنساناً كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه
المسألة الثالثة إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما فروي عن ابن عباس أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة فقال لهم اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما فاختاروا هاروت وماروت وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم وإلا بعد أن يشربا الخمر فامتنعا أولاً ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا فإن اردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر ثم لهم في الزهرة قولان أحدهما أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض إلى أن كان ما كان فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما والقول الثاني أن المرأة فاجرة من أهل الأرض وواقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت به وعرجت إلى السماء وكان اسمها ( بيدخت ) فمسخها الله وجعلها هي الزهرة واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مبقولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك بل فيه ما يبطلها من وجوه الأول ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي وثانيها أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره فكيف يبخل عليهما بذلك وثالثها أن من أعجب الأمور قولهم إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول السبب في إنزالهما وجوه أحدها أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة في السحر وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد وثانيها أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر(3/199)
متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر والناس كانوا جاهلين بماهية السحر فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض وثالثها لا يمتنع أن يقال السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم أو مندوباً فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله ورابعها أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً لأن الذي لا يكون متصوراً امتنع النهي عنه وخامسها لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن وسادسها يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكاً
المسألة الخامسة ( هاروت وماروت ) عطف بيان للملكين علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع على هما هاروت وماروت
أما قوله تعالى وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي كقولهم فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له ( إنما نحن فتنة ) أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة
أما قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين الأول أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافراً وإذا صار كافراً بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما الثاني أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر لكن ذكر هذه الصورة تنبيهاً على سائر الصور فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة فنبه(3/200)
الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى
أما قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه
أما قوله تعالى إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل وفيه وجوه أحدها قال الحسن المراد منه التخلية يعني السحر إذا سحر إنساناً فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر وثانيها قال الأصم المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذاناً لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذناً لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن وكذلك قوله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ ( التوبة 3 ) أي إعلام وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) معناه فاعلموا وقوله عَلَى سَوَاء سَوَّاهُ ( الأنبياء 109 ) يعني أعلمتكم وثالثها أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ورابعها أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً والكفر يقتضي التفريق فإن هذا حكم شرعي وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى
أما قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه أحدها أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله وثانيها أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا وثالثها أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال
المسألة الثانية قال الأكثرون ( الخلاق ) النصيب قال القفال يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ومعناه التقدير ومنه خلق الأديم ومنه يقال قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا وقال آخرون الخلاق الخلاص ومنه قول أمية بن أبي الصلت يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم
إلا سرابيل قطران وأغلال
بقي في الآية سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله وَلَقَدْ عَلِمُواْ ثم نفاه عنهم في قوله لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ والجواب من وجوه أحدها أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون وهذا جواب الأخفش وقطرب وثانيها لو سلمنا كون القوم واحداً ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر(3/201)
علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها وثالثها لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار صُمّاً إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه صنعت ولم تصنع
وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَة ٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ ( البقرة 102 ) أتبعه بالوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية
أما قوله تعالى ءامَنُواْ فاعلم أنه تعالى لما قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر قال من بعد وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ يعني بما نبذوه من كتاب الله فإن حملت ذلك على القرآن جاز وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز وإن حملته على الأمرين جاز والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات
أما قوله تعالى لَمَثُوبَة ٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ففيه وجوه أحدها أن الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الإسمية لما في الجملة الإسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها فإن قيل هلا قيل لمثوبة الله خير قلنا لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم وثانيها يجوز أن يكون قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن قال ابن عباس وكان يخاطب في التوراة بقوله يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ(3/202)
( البقرة 61 ) وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة وأيضاً فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات
المسألة الثانية أنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ويأذن في الأخرى ولذلك فإن عند الشافعي رضي الله عنه لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية فلا يبعد أن يمنع الله من قوله راعِنَا ويأذن في قوله انظُرْنَا وإن كانتا مترادفتين ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله راعِنَا لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها كان المسلمون يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا تلا عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي ( راعينا ) ومعناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا المؤمنين يقولون راعنا إفترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله انظُرْنَا ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 ) وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه فقالوا أولستم تقولونها فنزلت هذه الآية وثانيها قال قطرب هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية فلا جرم نهى الله عنها وثالثها أن اليهود كانوا يقولون راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها ورابعها أن قوله ( راعنا ) مفاعلة من الرعي بين اثنين فكان هذا اللفظ موهماً للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهاهم الله تعالى عنه وبين أن لا بد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ( النور 63 ) وخامسها أن قوله ( راعنا ) خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره وليس في ( انظرنا ) إلا سؤال الانتظار كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه وسادسها أن قوله ( راعنا ) على وزن عاطنا من المعاطاة ورامنا من المراماة ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحق فالراعن اسم فاعل من الرعونة فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم عياذاً بك أي أعوذ عياذاً بك فقولهم راعنا أي فعلت رعونة ويحتمل أنهم أرادوا به صرت راعنا أي صرت ذا رعونة فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة وسابعها أن يكون المراد لا تقولوا قولاً راعنا أي قولاً منسوباً إلى الرعونة بمعنى راعن كتامر ولابن
أما قوله تعالى وَقُولُواْ انظُرْنَا ففيه وجوه أحدها أنه من نظره أي انظره قال تعالى انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( الحديد 13 ) فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعاذة فإن قيل أفكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعجل عليهم حق يقولون هذا فالجواب من وجهين أحدهما أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه اسمع أو سمعت الثاني أنهم فسروا قوله تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوحي وأخذ القرآن فقيل له لا(3/203)
تحرك به لسانك لتعجل به فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام وثانيها ( انظرنا ) معناه ( انظر ) إلينا إلا أنه حذف حرف ( إلى ) كما في قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) والمعنى من قومه والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى وثالثها قرأ أبي بن كعب ( أنظرنا ) من النظرة أي أمهلنا
أما قوله تعالى وَاسْمَعُواْ فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر فلا يجوز وقوع الأمر به فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة أحدها فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وثانيها اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا وثالثها اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول ومعنى ( العذاب الأليم ) قد تقدم
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وههنا مسألتان
المسألة الأولى ( من ) الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشكرون والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( البينة 1 ) والثانية مزبده لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية
المسألة الثانية الخير الوحي وكذلك الرحمة يدل عليه قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء
مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام فقالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه(3/204)
بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه فنزلت هذه الآية والكلام في الآية مرتب على مسائل
المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء وقال القفال إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت ونسخت الشمس الظل إذا عدم لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه وقال تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ( الحج 52 ) أي يزيله ويبطله والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول وقال تعالى هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعاً للاشتراك والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضاً ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير والثاني أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين والباقون بفتحهما أما قراءة ابن عامر ففيها وجهان أحدهما أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد والثاني أنسخته جعتله ذا نسخ كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلاً أقبروا فلاناً أي اجعلوه ذا قبر قال تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( عبس 21 ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخير ومنه إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ ( التوبة 37 ) ومنه سمي بيع الأجل نسيئة وقال أهل اللغة أنسأ الله أجله ونسأ في أجله أي أخر وزاد وقال عليه الصلاة والسلام ( من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه ) والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 155 ) أي فترك وقال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) أي نتركهم كما تركوا والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز لأن المنسي يكون متروكاً فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقرىء ننسها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول وقرأ عبد الله ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة ما ننسخ من آية أو ننسكها(3/205)
المسألة الثالثة ( ما ) في هذه الآية جزائية كقولك ما تصنع أصنع وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين فقوله ( ننسخ ) شرط وقوله ( نأت ) جزاء وكلاهما مجزومان
المسألة الرابعة اعلم أن التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله والفعل المنقول عنهما ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخاً لحكم العقل لأن العقل ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخاً للحكم الشرعي لأن المعجز ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخاً لم يكن مثل حكم الأمر ثابتاً
المسألة الخامسة النسخ عندنا جائز عقلاً واقع سمعاً خلافاً لليهود فإن منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوزه عقلاً لكنه منع منه سمعاً ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه لأن الدلائل دلت على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ وأيضاً قلنا على اليهود إلزامان الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك ( إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلاً بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين واحتج منكروا النسخ بأن قالوا إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام فاللفظ الدال على تلك الشريعة إما أن يقال إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام فإن بين فيها ثبوتها على الدوام ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً وإنه غير جائز على الشرع وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط ألبتة ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلاً في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما زال الوثوق عنه في كل الصور فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ذكر اللفظ الدال على الدوام ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة قلنا هذا ضعيف لوجوه(3/206)
أحدها أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه سفه وعبث وثانيها على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاً لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر وإلا فلعل القرآن عورض ولم تنقل معارضته ولعل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر فنقول لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى عليهما السلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر ومعلوماً لهم بالضرورة ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً بل يكون ذلك انتهاء للغاية
وأما القسم الثالث وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ولم يبين فيه كونه دائماً أو كونه غير دائم فنقول قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار وإنما يفيد المرة الواحدة فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخاً للأمر الأول فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا والاستدلال به أيضاً ضعيف لأن ( ما ) ههنا تفيد الشرط والجزاء وكما أن قولك ومن جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ( النحل 101 ) وقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 ) والله تعالى أعلم
المسألة السادسة اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن وقال أبو مسلم بن بحر إنه لم يقع واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أجاب أبو مسلم عنه بوجوه الأول أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية الوجه الثاني المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب الوجه الثالث أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد(3/207)
بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن بل هو عام في جميع الدلائل وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً وذلك في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ( البقرة 240 ) ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلاً بالكلية
الحجة الثالثة أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 ) ثم نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد والجواب لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى فَإِذَا لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ( المجادلة 13 )
الحجة الرابعة أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 65 66 )
الحجة الخامسة قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر الجواب أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخاً
الحجة السادسة قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ( النحل 101 ) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل والجواب أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله
المسألة السابعة المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معاً أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما(3/208)
يروى عن عمر أنه قال كنا نقرأ آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) وروي ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معاً فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم ويروى أيضاً أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه
المسألة الثامنة اختلف المفسرون في قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا فمنهم من فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوهاً أحدها ما ننسخ من آية وأنتم تقرءونه أو ننسها أي من القرآن ما قرىء بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معاً فإن قيل وقوع هذا النسيان ممنوع عقلاً وشرعاً أما العقل فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع وأما النقل فلقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) والجواب عن الأول من وجهين الأول أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسياً عن الصدور الجواب الثاني أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام ويروى فيه خبر أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها والجواب عن الثاني أنه معارض بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 ) وبقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ( الكهف 24 )
القول الثاني ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما أما قوله تعالى أَوْ نُنسِهَا فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله
القول الثالث ما ننسخ من آية أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة
القول الرابع ما ننسخ من آية وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معاً أو ننسها أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة بل هي باقية في التلاوة فأما من قال بالقول الثاني ما ننسخ من آية أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها نؤخرها وأما قراءة ( ننسها ) فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها
وأما قوله مّنْ ءايَة ٍ فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه(3/209)
أما قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ففيه قولان أحدهما أنه الأخف والثاني أنه الأصلح وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه فإن قيل لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به قلنا الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول والثاني بالعكس منه فزال السؤال واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ
المسألة الأولى قال قوم لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله وذلك صريح في وجوب البدل والجواب لم لا يجوز أن يقال المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا إلى البدل
المسألة الثانية قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ينافي كونه أثقل لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر إذا عرفت هذا فنقول أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال الإنسان ما آخذ منك من ثواب آتيك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نَأْتِى بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أن المأتي به خير من الآية والسنة لا تكون خيراً من القرآن ورابعها أنه قال أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها أن قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث ) وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم قال الشافعي رضي الله عنه أما الأول فضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) كان قرآناً فلعل النسخ إنما وقع به وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم(3/210)
أما قوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فتنبيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه أحدها أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين لكن ذلك محال لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المنسوخ والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديماً وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق وثانيها أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض وما كان كذلك لا يكون قديماً وثالثها أن قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلاً من الأول وما كان داخلاً تحت القدرة وكان فعلاً كان محدثاً أجاب الأصحاب عنه بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث قالت المعتزلة ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات وما لا ينفك عن هذه التعلقات ( محدث ) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثاً أجاب الأصحاب أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه وكذلك علم الله كان متعلقاً بأن العالم سيوجد فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلاً وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثاً لأنه لو كان قديماً لما زال وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثاً فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام
المسألة العاشرة احتجوا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ عقبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره(3/211)
وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق وهذا هو مذهب أصحابنا وإنه إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل أو لعقاب يندفع قال القفال ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة وأما الولي والنصير فكلاهما فعيل بمعنى فاعل على وجه المبالغة ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن الملك غير القدرة فقال إنه تعالى قال أولاً أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم قال بعده أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة والكلام في حقيقة الملك والقدرة قد تقدم في قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْألُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
المسألة الأولى ( أم ) على ضربين متصلة ومنقطعة فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة لما جمعته أي كما أن ( أو ) مفرقة لما جمعته تقول اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً فإذا قلت اضرب أحدهم قلت اضرب زيداً أو عمراً والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام لأنها بمعنى بل والألف كقول العرب إنها الإبل أم شاء كأنه قال بل هي شاء ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( الأحقاف 8 ) أي بل يقولون قال الأخطل كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب به على وجوه أحدها أنهم المسلمون وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم واستدلوا عليه بوجوه الأول أنه قال في آخر الآية وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين الثاني أن قوله أَمْ تُرِيدُونَ يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله لاَ تَقُولُواْ راعِنَا ( البقرة 104 ) فكأنه قال وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم الثالث أن المسلمين كانوا يسألون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه الرابع سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة القول الثاني أنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد قال إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من قريش فقال يا محمد والله ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى(3/212)
عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه وقال له بقية الرهط فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك فنؤمن بك عند ذلك فأنزل الله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً أن يأتيكم الآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا أرنا الله جهرة وعن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه السلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة فقال نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا
القول الثالث المراد اليهود وهذا القول أصح لأن هذه السورة من أول قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ( البقرة 40 47 ) حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأن الآية مدنية ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله فإذا سأله كا متبدلاً كفراً بالإيمان
المسألة الثالثة ليس في ظاهر قوله أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال بل المرجع فيه إلى الروايات التي ذكرناها في أنهم سألوا والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ولم يكن ذلك كفراً فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال
المسألة الخامسة ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة وثانيها لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله عن أبي مسلم وثالثها لما أمر ونهى قال أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى
المسألة السادسة سَوَاء السَّبِيلِ وسطه قال تعالى فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ أي وسط الجحيم والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه إنه ضل سواء السبيل
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من كيد اليهود مع المسلمين وذلك لأنه روي أن فنحاص ابن(3/213)
عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبراه فقال أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية واعلم أنا نتكلم أولاً في الحسد ثم نرجع إلى التفسير
المسألة الأولى في ذم الحسد ويدل عليه أخبار كثيرة الأول قوله عليه السلام ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) الثاني قال أنس ( كنا يوماً جالسين عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار ينظف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه في شماله فسلم فلما كان الغد قال عليه السلام مثل ذلك فطلع ذلك الرجل وقال في اليوم الثالث مثل ذلك فطلع ذلك الرجل فلما قام النبي عليه السلام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني تأذيت من أبي فأقسمت لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تذهب بي إلى دارك فعلت قال نعم فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله ولا يقوم حتى يقوم لصلاة الفجر غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مرت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذاك قال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لم أجد على أحد من المسلمين في نفسي عيباً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هي التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ) الثالث قال عليه السلام ( دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين ) الرابع قال ( إنه سيصيب أمتي داء الأمم قالوا ما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج ) الخامس أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغبط بمكانه وقال إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال أحدثك من عمله ثلاثاً كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة السادس قال عليه السلام ( إن لنعم الله أعداء قيل وما أولئك قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) السابع قال عليه السلام ( ستة يدخلون النار قبل الحساب الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد )
أما الآثار فالأول حكي أن عوف بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال إني أريد أن أعظك بشيء إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أسكنه الله في جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم قرأ اهْبِطَا مِنْهَا ( طه 123 ) وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) الثاني(3/214)
قال ابن الزبير ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار الثالث قال رجل للحسن هل يحسد المؤمن قال ما أنساك بني يعقوب إلا أنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولساناً الرابع قال معاوية كل الناس أقدر على رضاه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة الخامس قيل الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً ولا ينال عند الفزع إلا شدة وهولاً وعند الموقف إلا فضيحة ونكالاً
المسألة الثانية في حقيقة الحسد إذا أنعم الله على أخيك فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة أما الأول فحرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر يستعين بها على الشر والفساد فلا يضرك محبتك لزوالها فإنك ما تحب زوالها من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها يتوسل بها إلى الفساد والشر والأذى والذي يدل على أن الحسد ما ذكرنا آيات أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فأخبر أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 ) وثالثها قوله تعالى إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ( آل عمران 120 ) وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة متلازمان ورابعها ذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف وعبر عما في قلوبهم بقوله قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ( يوسف 8 9 ) فبين تعالى أن حسدهم له عبارة عن كراهتهم حصول تلك النعمة له وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مّمَّا أُوتُواْ ( الحشر 9 ) أي لا تضيق به صدورهم ولا يغتمون فأثنى الله عليهم بعدم الحسد وسادسها قال تعالى في معرض الإنكار مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 54 ) وسابعها قال الله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ ( البقرة 213 ) إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( الشورى 14 ) قيل في التفسير حسداً وثامنها قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فأنزل الله العلم ليؤلف بينهم على طاعته فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد أن ينفرد بالرياسة وقبول القول وتاسعها قال ابن عباس كانت اليهود قبل مبعث النبي عليه السلام إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا تنصرنا فكانوا ينصرون فلما جاء النبي عليه السلام من ولد إسماعيل عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ( البقرة 19 ) إلى قوله أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا ( البقرة 90 ) أي حسداً وقالت صفية بنت حيي للنبي عليه السلام جاء أبي وعمي من عندك فقال أبي لعمي ما تقول فيه قال أقول إنه النبي الذي بشر به موسى عليه السلام قال فما ترى قال أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد أما المنافسة فليست بحرام وهي مشتقة من النفاسة والذي يدل على أنها ليست بحرام وجوه أولها قوله تعالى وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 26 ) وثانيها قوله تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها وثالثها قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه(3/215)
الله مالاً فأنفقه في سبيل الله ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ) وهذا الحديث يدل على أن لفظ الحسد قد يطلق على المنافسة ثم نقول المنافسة قد تكون واجبة ومندوبة ومباحة أما الواجبة فكما إذا كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فههنا يجب عليه أن يكون له مثل ذلك لأنه إن لم يحب ذلك كان راضياً بالمعصية وذلك حرام وأما إن كانت تلك النعمة من الفضائل المندوبة كالإنفاق في سبيل الله والتشمير لتعليم الناس كانت المنافسة فيها مندوبة وأما إن كانت تلك النعمة من المباحات كانت المنافسة فيها من المباحات وبالجملة فالمذموم أن يحب زوالها عن الغير فأما أن يحب حصولها له وزوال النقصان عنه فهذا غير مذموم لكن ههنا دقيقة وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان أحدهما أن يحصل له مثل ما حصل للغير والثاني أن يزول عن الغير ما لم يحصل له فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر فههنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشخص لأزالها فهو صاحب الحسد المذموم وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك ولعل هذا هو المراد من قوله عليه السلام ( ثلاث لا ينفك المؤمن منهن الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهم مخرج إذا حسدت فلا تبغ ) أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به فهذا هو الكلام في حقيقة الحسد وكله من كلام الشيخ الغزالي رحمة الله عليه
المسألة الثالثة في مراتب الحسد قال الغزالي رحمه الله هي أربعة الأولى أن يحب زوال تلك النعمة وإن كان ذلك لا يحصل له وهذا غاية الحسد والثانية أن يحب زوال تلك النعمة عنه إلا وذلك مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جملة أو ولاية نافذة نالها غيره وهو يحب أن تكون له فالمطلوب بالذات حصوله له فأما زواله عن غيره فمطلوب بالعرض الثالثة أن لا يشتهي عنها بل يشتهي لنفسه مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها لكي لا يظهر التفاوت بينهما الرابعة أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين والثالثة منها مذمومة وغير مذمومة والثانية أخف من الثالثة والأول مذموم محض قال تعالى وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم
المسألة الرابعة ذكر الشيخ الغزالي رحمة الله عليه للحسد سبعة أسباب
السبب الأول العداوة والبغضاء فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وذلك الغضب يولد الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عن التشفي بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان فمهما أصاب عدوه آفة وبلاء فرح ومهما أصابته نعمة ساءته وذلك لأنه ضد مراده فالحسد من لوازم البغض والعداوة ولا يفارقهما وأقصى الإمكان في هذا الباب أن لا يظهر تلك العداوة من نفسه وأن يكره تلك الحالة من نفسه فأما أن يبغض إنساناً ثم تستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله الكفار به إذ قال هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 120 ) وكذا قال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل(3/216)
السبب الثاني التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً ترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك فيريد زوال ذلك المنصب عنه وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد يرضى بمساواته ولكنه لا يرضى بترفعه عليه
السبب الثالث أن يكون في طبيعته أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض ومن هذا الباب كان حسد أكثر الكفار للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطيء له رؤوسنا فقالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وقال تعالى يصف قول قريش أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ( الأنعام 53 ) كالاستحقار بهم والأنفة منهم
السبب الرابع التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ قالوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( إبراهيم 10 ) وقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( المؤمنون 47 ) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) وقالوا متعجبين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ ( الفرقان 21 ) وقال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ( الأعراف 63 69 )
السبب الخامس الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده ومن هذا الباب تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد المال والكرامة وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذ كان غرضهما نيل المال والقبول عندهم
السبب السادس حب الرياسة وطلب الجاه نفسه من غير توسل به إلى مقصوده وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته وزوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة من شجاعة أو علم أو زهد أو ثروة ويفرح بسبب تفرده
السبب السابع شح النفس بالخير على عباد الله فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا بكبر ولا بطلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته ويقال البخيل من بخل بمال غيره فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه لا عداوة ولا رابطة وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث النفس ورذالة جبلته في الطبع لأن سائر أنواع الحسد يرجى زواله لإزالة سببه وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد ويقوى قوة لا يقوى صاحبها معها على الإخفاء والمجاملة بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد واحد منها
المسألة الخامسة في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ولأنه يتكبر ولأنه(3/217)
عدو لغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض والمنازعة مظنة المنافرة والمنافرة مؤدية إلى الحسد فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم والتاجر يحسد التاجر بل الاسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسريَّة زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق وبالجملة فأصل الحسد العداوة وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل لا يجمع إلا متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهم نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها أقول والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات وضد المحبوب مكروه ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضاً لكونه منازعاً في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا الله سبحانه ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة أحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله وهي بحر واسع لا ضيق فيها وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملء القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أما إذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله لم يمنع ذلك أن يمتلىء قلب غيره وأن يفرح به فلذلك وصفهم الله تعالى بعدم الحسد فقال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( الحجر 47 )
المسألة السادسة في الدواء المزيل للحسد وهو أمران العلم والعمل أما العلم ففيه مقامان إجمالي وتفصيلي أما الإجمالي فهو أن يعلم أن كل ما دخل في الوجود فقد كان ذلك من لوازم قضاء الله وقدره لأن الممكن ما لم ينته إلى الواجب لم يقف ومتى كان كذلك فلا فائدة في النفرة عنه وإذا حصل الرضا بالقضاء زال الحسد وأما التفصيلي فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا وأنه ليس فيه على المحسود ضرر في الدين والدنيا بل ينتفع به في الدين والدنيا أما أنه ضرر عليك في الدين فمن وجوه أحدها أنك بالحسد كرهت حكم الله ونازعته في قسمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في خلقه بخفي حكمته وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وثانيها أنك إن غششت رجلاً من المؤمنين فارقت أولياء الله في حبهم الخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وثالثها العقاب العظيم المرتب عليه في الآخرة وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك بسبب الحسد لا تزال تكون في الغم والكمد وأعداؤك لا يخليهم الله من أنواع النعم فلا تزال تتعذب بكل نعمة(3/218)
تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى أبداً مغموماً مهموماً فقد حصل لك ما أردت حصوله لأعدائك وأراد أعداؤك حصوله لك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فسعيت في تحصيل المحنة لنفسك ثم إن ذلك الغم إذا استولى عليك أمرض بدنك وأزال الصحة عنك وأوقعك في الوساوس ونغص عليك لذة المطعم والمشرب وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد وأن يدوم إلى أجل قدرة الله فإن كان كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت لي وتزول عن المحسود بحسدي وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك فلو زالت النعمة بالحسد لم يبق لله عليك نعمة لا في الدين ولا في الدنيا وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا أيضاً جهل فإن كل واحد من حمقى الحساد يشتهي أن يختص بهذه الخاصية ولست أولى بذلك من الغير فنعمة الله عليك في أن لم يزل النعمة بالحسد مما يجب شكرها عليك وأنت بجهلك تكرهها وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه فهي هدايا يهديها الله إليه أعني أنك تهدي إليه حسناتك فإنك كلما ذكرته بسوء نقل إلى ديوانه حسناتك وازدادت سيئاتك فكأنك اشتهيت زوال نعم الله عنه إليك فأزيلت نعم الله عنك إليه ولم تزل في كل حين وأوان تزداد شقاوة وأما منفعته في الدنيا فمن وجوه الأول أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وكونهم مغمومين معذبين ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد بل العاقل لا يشتهي موت عدوه بل يريد طول حياته ليكون في عذاب الحسد لينظر في كل حين وأوان إلى نعم الله عليه فيتقطع قلبه بذلك ولذلك قيل لا مات أعداؤك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
الثاني أن الناس يعلمون أن المحسود لا بد وأن يكون ذا نعمة فيستدلون بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من عند الله بأنواع الفضائل والمناقب وأعظم الفضائل مما لا يستطاع دفعه وهو الذي يورث الحسد فصار الحسد من أقوى الدلائل على اتصاف المحسود بأنواع الفضائل والمناقب الثالث أن الحاسد يصير مذموماً بين الخلق ملعوناً عند الخالق وهذا من أعظم المقاصد للمحسود الرابع وهو أنه سبب لازدياد مسرة إبليس وذلك لأن الحاسد لما خلا عن الفضائل التي اختص المحسود بها فإن رضي بذلك استوجب الثواب العظيم فخاف إبليس من أن يرضى بذلك فيصير مستوجباً لذلك الثواب فلما لم يرض به بل أظهر الحسد فاته ذلك الثواب واستوجب العقاب فيصير ذلك سبباً لفرح إبليس وغضب الله تعالى الخامس أنك عساك تحسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطىء في دين الله وتكشف خطأه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك وأي مرتبة أخس من هذه وقد ظهر من هذه الوجوه أيها الحاسد أنك بمثابة من يرمي حجراً إلى عدوه ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزداد غضبه فيعود ويرميه ثانياً أشد من الأول فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ويعود ثالثاً فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل الأحوال والوبال راجع إليه دائماً(3/219)
وأعداؤه حواليه يفرحون به ويضحكون عليه بل حال الحاسد أقبح من هذا لأن الحجر العائد لم يفوت إلا العين ولو بقيت لفاتت بالموت وأما حسده فإنه يسوق إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن يبقى له عين ويدخل بها النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فما أزالها عنه ثم أزال نعمة الحاسد تصديقاً لقوله تعالى وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأ من قلبه نار الحسد وأما العمل النافع فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له وإن حمله على قطع أسباب الخير عنه كلف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه فمهما عرف المحسود ذلك طاب قلبه وأحب الحاسد وذلك يفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين الأول أن المسحود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد فحينئذ يصير الحاسد محباً للمحسود ويزول الحسد حينئذ الثاني أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على سبيل التكلف يصير ذلك بالآخرة طبعاً له فيزول الحسد عنه
المسألة السابعة اعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه فكيف يعاقب عليه وأما الذي في وسعه أمران أحدهما كونه راضياً بتلك النفرة والثاني إظهار آثار تلك النفرة من القدح فيه والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجر أسباب المحبة إليه فهذا هو الداخل تحت التكليف ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا فالمراد أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا بشبهة يلقيها إليه لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء والثاني في باب الدين بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة
أما قوله تعالى حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان إنما كان لأجل الحسد قال الجبائي عني بقوله كَفَّارٌ حَسَدَ مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى وإن كفرهم هو فعلهم لا من خلق الله فيهم والجواب أن قوله مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فيه وجهان أحدهما أنه متعلق ب ( ود ) على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق الثاني أنه متعلق بحسد أي حسد عظيم منبعث من عند أنفسهم أما قوله تعالى فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان(3/220)
احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا لأن ذلك كفر فوجب حمله على أحد أمرين الأول أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) وقوله وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً ( المزمل 10 ) ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وذكروا فيه وجوه أحدها أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن وثانيها أنه قوة الرسول وكثرة أمته وثالثها وهو قول أكثر الصحابة والتابعين إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين إما الإسلام وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار فلهذا قال العلماء إن هذه الآية منسوخة بقوله تعلاى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ( الحج 39 ) وقلده سيف فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر وههنا سؤالان السؤال الأول كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً فكذا ههنا الجواب أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ويحل محل قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ إلى أن أنسحه عنكم السؤال الثاني كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة والجواب أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شراً وقتالاً
القول الثاني في التفسير قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حسن الاستدعاء واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره(3/221)
بداية الجزء الرابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(4/2)
وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َوَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود ثم عقبه بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى تنبيهاً على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات ثم قال بعده وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه ثم قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير وتحذير من خلافه الذي هو الشر وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة وجب أن يوصف بذلك وعلى هذا الوجه قال تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الحج 77 )
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين واعلم أن اليهود لا تقول في النصارى إنها تدخل الجنة ولا النصارى في اليهود فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال(4/3)
وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ولا يصح في الكلام سواه مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ونظيره قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) والهود جمع هائد كعائذ وعوذ وبازل وبزل فإن قيل كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر قلنا حمل الاسم على لفظ ( من ) والخبر على معناه كقراءة الحسن إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقرأ أبي بن كعب إِلاَّ مَن كَانَ يَهُودِيّا أَوْ نَصْرَانِيّا أما قوله تعالى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ فالمراد أن ذلك متمنياتهم ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقاً في نفسه فإن قيل لم قال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ أمنية واحدة قلنا أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم وقوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ متصل بقوله لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى و تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ اعتراض قال عليه الصلاة والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وقال علي رضي الله عنه ( لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي )
أما قوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى هات صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر
المسألة الثانية دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفياً أو إثباتاً فلا بد له من الدليل والبرهان وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر من ادعى شيئاً بلا شاهد
لا بد أن تبطل دعواه
أما قوله تعالى بَلَى ففيه وجوه الأول أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة الثاني أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً الثالث كأنه قيل لهم أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإسلام وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة فأما معنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فهو إسلام النفس لطاعة الله وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه أحدها لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى وثانيها أن الوجه قد يكنى به عن النفس قال الله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 20 ) وثالثها أن اعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذباً زلالا
فيكون المرء واهباً نفسه لهذا الأمر باذلالها وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه ومعنى ( لله ) أي خالصاً لله لا يشوبه شرك(4/4)
فلا يكون عابداً مع الله غيره أو معلقاً رجاءه بغيره وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة وموضع قوله وَهُوَ مُحْسِنٌ موضع حال كقولك جاء فلان وهو راكب أي جاء فلان راكباً ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه يعني به الثواب العظيم ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل واعلم أنه تعالى وحد أولاً ثم جمع ومثله قوله وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ ( النجم 26 ) ثم قال شَفَاعَتُهُمْ وقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( الأنعام 25 ) وقال في موضع آخر يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ( يونس 42 ) ( الإسراء 47 ) وقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ( محمد 16 ) ولم يقل خرج واعلم أنا لما فسرنا قوله مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بالإخلاص فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل
المسألة الأولى في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وقال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم ) وفي الإسرائيليات أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له إن الله قبل صدقتك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به
المسألة الثانية الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه وهي الإرادة فهذه الإرادة هي النية والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن إذا عرفت هذا فنقول الباعث على الفعل إما أن يكون أمراً واحداً وإما أن يكون أمرين وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلاً بالبعث أو لا يكون واحد منهما مستقلاً بذلك أو يكون أحدهما مستقلاً بذلك دون الآخر فهذه أقسام أربعة الأول أن يكون الباعث واحداً وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع فلما رآه قام من مكانه فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع وما في ترك الهرب من الضرر فهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً الثاني أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها لكونه رفيقاً له وكونه فقيراً مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء واسم هذا موافقة الباعث الثالث أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد لكن المجموع مستقل واسم هذا مشاركة الرابع أن يستقل أحدهما ويكون الآخر معاضداً مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم واسم هذا معاونة(4/5)
المسألة الثالثة في تفسير قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن النية سر والعمل علن وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيراً من نفس الصلاة وثانيها النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم والدائم خير من المنقطع وهذا ليس بشيء لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل وأيضاً فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة والأعمال تدوم وثالثها أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده وهو ضعيف إذ العمل بلا نية لا خير فيه وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية ورابعها أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله وهو ضعيف لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور لا تكون نية جازمة ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق وإذا كان كذلك ثبت أن النية لا تنفك البتة عن الفعل فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل وبيانه من وجوه أولها أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله وتطهيره عما سوى الله والنية صفة القلب والفعل ليس صفة القلب وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب فلا جرم نية المؤمن خير من عمله وثانيها أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقياداً له وإنما يراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة وثالثها أن القلب أشرف من الجسد ففعله أشرف من فعل الجسد فكانت النية أفضل من العمل
المسألة الرابعة اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام طاعات ومعاصي ومباحات أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية كالذي يطعم فقيراً من مال غيره أو يبني مسجداً من مال حرام الثاني الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى فإن نوى الرياء صارت معصية وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة أولها أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من قعد في المسجد فقد زار الله وحق على المزور إكرام زائره ) وثانيها أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون حال الإنتظار كمن هو في الصلاة وثالثها إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء كما لا ينبغي فإن الإعتكاف كف وهو في معنى الصوم وهو نوع ترهب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( رهبانية أمتي القعود في المساجد ) ورابعها صرف القلب ولاسر بالكلية إلى الله تعالى وخامسها إزالة ما سوى الله عن القلب وسادسها أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر وسابعها أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة أهل الدين وثامنها أن يترك الذنوب حياء من الله فهذا طريق تكثير النيات وقس به سائر الطاعات
القسم الثالث سائر المباحات ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات فما أعظم خسران من يغفل عنها ولا يصرفها إلى القربات وفي الخبر من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا أو إظهار التفاخر بكثرة المال أو(4/6)
رياء الخلق أو ليتودد به إلى قلوب النساء فكل ذلك يجعل التطيب معصية وإن كان القصد إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب
المسألة الخامسة اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام أو كقول الفارغ نويت أن أعشق بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضاً صحيحاً لا عاجلاً ولا آجلاً لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات وقد يتعذر في بعضها
المسألة السادسة اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حباً لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى ْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية وبين قول كل فريق منهم في الآخر وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى وههنا مسائل(4/7)
المسألة الأولى قوله لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم أقل من لا شيء ونظيره قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ ( المائدة 68 ) فإن قيل كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى وذلك قول فيه فائدة قلنا الجواب من وجهين الأول أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولاً باطلاً يحبط ثواب الأول فكأنهم ما أتوا بذلك الحق الثاني أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه وهي ما يتصل بباب النبوات
المسألة الثانية روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل وقالت النصارى لهم نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة
المسألة الثالثة اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام ولا يجب لما نقل في سبب الآية أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر
أما قوله تعالى وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ قالوا وللحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام
أما قوله تعالى كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالماً لكي يصح هذا الفرق فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف فكيف حال من لايعلم واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن ثم اختلفوا فيمن هم الذين لا يعلمون على وجوه أولها أنهم كفار العرب الذين قالوا إن المسلمين ليسوا على شيء فبين تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنصارى وهم يقرأون الكتب لا ينبغي أن يقبل ويلتفت إليه فقول كفار العرب أولى أن لا يلتفت إليه وثانيها أنه إذا حملنا قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على الذين كانوا حاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حملنا قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على المعاندين وعكسه أيضاً محتمل وثالثها أن يحمل قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على علمائهم ويحمل قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على عوامهم فصلا بين خواصهم وعوامهم والأول أقرب لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يجب أن يكون غيرهم
أما قوله تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ففيه أربعة أوجه أحدها قال الحسن يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار وثانيها حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب وثالثها يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً وهو قول الزجاج ورابعها يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه والله أعلم(4/8)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء أعني مجرد بيان أن من فعل كذا فإن الله يفعل به كذا بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد وسعى في خرابها ثم أن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية إلا أنهم اختلفوا في أن الذين منعوا من عمارة المسجد وسعوا في خرابه من هم وذكروا فيه أربعة أوجه أولها قال ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى البقية وأحرق التوراة ولم يزل بيت المقدس خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر وثانيها قال الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وبعض النصارى أعانه على ذلك بغضاً لليهود
قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن هذان الوجهان غلطان لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر فكيف أعانوا على تخريبه وثالثها أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله بمكة وألجؤه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجداً عند داره فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم وقيل إن قوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( الإسراء 110 ) نزلت في ذلك فمنع من الجهر لئلا يؤذى وطرح أبو جهل العذرة على ظهر لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقيل ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئاً ويصلون له تذللاً وخشوعاً ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه وألسنتهم بالذكر له وجميع جسدهم بالتذلل لعظمته وسلطانه ورابعها قال أبو مسلم المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية واستشهد بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الفتح 25 ) وبقوله وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الأنفال 34 ) وحمل قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بما يعلى الله من يده ويظهر من كلمته كما قال في المنافقين لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم وهو أن يقال أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة(4/9)
ولعلهم سعوا أيضاً في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه وهذا التأويل أولى مما قبله وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود والنصارى وذكر أيضاً بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرازي فلم يبق إلا ما قلناه
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط فقيل لهم كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال جرى ذكر مشركي العرب في قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ( البقرة 113 ) وقيل جرى ذكر جميع الكفار وذمهم فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين
المسألة الثالثة قوله مَسَاجِدَ اللَّهِ عموم فمنهم من قال المراد به كل المساجد ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة وقالوا قد كان لأبي بكر رضي الله عنه مسجد بمكة يدعو الله فيه فخربوه قبل الهجرة ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية فإن قيل كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد قلنا فيه وجوه أحدها هذا كمن يقول لمن آذى صالحاً واحداً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وثانيها أن المسجد موضع السجود فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجداً واحداً بل مساجد
المسألة الرابعة قوله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في محل النصب واختلفوا في العامل فيه على أقوال الأول أنه ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ الثاني قال الأخفش يجوز أن يكون على حذف ( من ) كأنه قيل منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه الثالث أن يكون على البدل من مساجد الله الرابع قال الزجاج يجوز أن يكون على معنى كراهة أن يذكر فيها اسمه والعامل فيه ( منع )
المسألة الخامسة السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين أحدهما منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريباً والثاني بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه التخريب لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريباً له وقيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر
المسألة السادسة ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم وفيه إشكال لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل وكذا الزنا وقتل النفس أعظم من هذا الفعل والجواب عنه أقصى ما في الباب أنه عام دخله التخصيص فلا يقدح فيه
أما قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ فاعلم أن في الآية مسائل(4/10)
المسألة الأولى ظاهر الكلام أن الذين آمنوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلا خائفين وأما من يجعله عاماً في الكل فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً أحدها ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال الهيبة وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليهم ويمنعوا المؤمنين منها والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم وثانيها أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لايدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل أن لم يسلم وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه ألا لا يحجن بعد العام مشرك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب فحج من العام الثاني ظاهراً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام وهذا هو تفسير أبي مسلم في حمل المنع من المساجد على صدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسجد الحرام عام الحديبية ويحمل هذا الخوف على ظهور أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وغلبته لهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته وثالثها أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصغار والذل بالجزية والإذلال ورابعها أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجة لأن كل ذلك يتضمن الخوف والدليل عليه قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وخامسها قال قتادة والسدي قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بمعنى أن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضرباً وهذا التأويل مردود لأن بيت المقدس بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا وسادسها أن قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 53 )
أما قوله تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ فقد اختلفوا في الخزي فقال بعضهم ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد وقال آخرون بالجزية في حق أهل الذمة وبالقتل في حق أهل الحرب واعلم أن كل ذلك محتمل فإن الخزي لا يكون إلا ما يجري مجرى العقوبة من الهوان والإذلال فكل ما هذه صفته يدخل تحته وذلك ردع من الله تعالى عن ثباتهم على الكفر لأن الخزي الحاضر يصرف عن التمسك بما يوجبه ويقتضيه وأما العذاب العظيم فقد وصفه الله تعالى بما جرى مجرى النهاية في المبالغة لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم فبين أنهم يستحقون العقاب العظيم وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في أحكام المساجد وفيه وجوه الأول في بيان فضل المساجد ويدل عليه القرآن والأخبار والمعقول أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) أضاف المساجد إلى ذاته يلزم الاختصاص ثم أكد ذلك الاختصاص بقوله فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وثانيها قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ(4/11)
مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل عمارة المسجد دليلاً على الإيمان بل الآية تدل بظاهرها على حصر الإيمان فيهم لأن كلمة إنما للحصر وثالثها قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( النور 36 ) ورابعها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالاً من المشرك لأن قوله ومن أظلم يتناول المشرك لأنه تعالى قال يتناول المشرك لأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان وأما الأخبار فأحدها ما روى الشيخان في صحيحيهما أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه فقال عثمان رضي الله عنه سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من بنى لله مسجداً بنى الله له كهيئته في الجنة ) وفي رواية أخرى ( بنى الله له بيتاً في الجنة ) وثانيها ما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) واعلم أن هذا الخبر تنبيه على ما هو السر العقلي في تعظيم المساجد وبيانه أن الأمكنة والأزمنة إنما تتشرف بذكر الله تعالى فإذا كان المسجد مكاناً لذكر الله تعالى حتى أن الغافل عن ذكر الله إذا دخل المسجد اشتغل بذكر الله والسوق على الضد من ذلك لأنه موضع البيع والشراء والإقبال على الدنيا وذلك مما يورث الغفلة عن الله والأعراض عن التفكر في سبيل الله حتى أن ذاكر الله إذا دخل السوق فإنه يصير غافلاً عن ذكر الله لا جرم كانت المساجد أشرف المواضع والأسواق أخس المواضع الثاني في فضل المشي إلى المساجد ( أ ) عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والأخرى ترفع درجته ) رواه مسلم ( ب ) أبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح ) أخرجاه في الصحيح ( ج ) أبي بن كعب قال كان رجل ما أعلم أحداً من أهل المدينة ممن يصلى إلى القبلة أبعد منزلاً منه من المسجد وكان لا تخطئه الصلوات مع الرسول عليه السلام فقيل له لو اشتريت حماراً لتركبه في الرمضاء والظلماء فقال والله ما أحب أن منزلي بلزق المسجد فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فسأله فقال يا رسول الله كيما يكتب أثري وخطاي ورجوعي إلى أهلي وإقبالي وإدباري فقال عليه الصلاة والسلام ( لك ما احتسبت أجمع ) أخرجه مسلم ( د ) جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم ( أنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد فقالوا نعم قد أردنا ذلك قال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ) رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في حقهم إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( يس 12 ) ( ه ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إلى المسجد مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجراً ممن يصليها ثم ينام ) أخرجاه في الصحيح ( و ) عقبة بن عامر الجهني أنه عليه السلام قال ( إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والقاعد الذي يرعى الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع ) ( ز ) عن سعيد بن المسيب قال حضر رجلاً من الأنصار الموت فقال لأهله من في البيت فقالوا(4/12)
أهلك وأما أخوتك وجلساؤك ففي المسجد فقال ارفعوني فأسنده رجل منهم إليه ففتح عينيه وسلم على القوم فردوا عليه وقالوا له خيراً فقال إني مورثكم اليوم حديثاً ما حدثت به أحداً منذ سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) احتساباً وما أحدثكموه اليوم إلا احتساباً سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد يصلي في جماعة المسلمين لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة ولم يضع رجله اليسرى إلا حط الله عنه بها خطيئة حتى يأتي المسجد فإذا صلى بصلاة الإمام انصرف وقد غفر له فإن هو أدرك بعضها وفاته بعض كان كذلك ) ( ح ) عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال ( من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ولم ينقص ذلك من أجرهم شيئاً ) ( ط ) أبو هريرة قال عليه السلام ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه أبو مسلم ( ي ) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لداود بن صالح هل تدري فيم نزلت الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) قال قلت لا يا ابن أخي قال سمعت أبا هريرة يقول لم يكن في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة ( يا ) بريدة قال عليه السلام ( بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة ) قال النخعي كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة موجبة ( يب ) قال الأوزاعي كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد عليه السلام والتابعون بإحسان لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله ( يج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( من بنى لله بيتاً يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتاً في الجنة من دور ياقوت ( يد ) أبو ذر قال عليه السلام ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ) ( يه ) أبو سعيد الخدري قال عليه السلام ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ) ( التوبة 18 ) ( يو ) عن بعض أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم قالوا إن المساجد بيوت الله وأنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها ( يز ) أنس قال عليه السلام ( إن عمار بيوت الله هم أهل بيوت الله ) ( يح ) أنس قال عليه السلام ( يقول الله تعالى كأني لأهم بأهل الأرض عذاباً فإذا نظرت إلى عمار بيوتي والمتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت عنهم ) ( يط ) عن أنس قال عليه السلام ( إذا أنزلت عاهة من السماء صرفت عن عمار المساجد ) ( ك ) كتب سلمان إلى أبي الدرداء يا أخي ليكن بيتك المساجد فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( المسجد بيت كل تقي وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله تعالى ) ( كا ) قال سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام إن المساجد أوتاداً من الناس وإن لهم جلساء من الملائكة فإذا فقدوهم سألوا عنهم وإن كانوا مرضى عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم ( كب ) الحسن قال عليه السلام ( يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة ) ( كج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( إن للمنافقين علامات يعرفون بها تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول لا يقربون المساجد إلا هجراً ولا الصلاة إلا دبراً لا يتألفون ولا يؤلفون خشب بالليل سحب بالنهار ) ( كد ) أبو سعيد الخدري وأبو هريرة قال عليه السلام ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا(4/13)
في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) هذا حديث أخرجه الشيخان في الصحيحين ( كه ) عقبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من خرج من بيته إلى المسجد كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها عشر حسنات والقاعد في المسجد ينتظر الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين حتى يرجع إلى بيته ) ( كو ) روى عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق بن الحكم قال سمعت سعيد بن المسيب وسأله أبي أحضور الجنازة أحب إليك أم القعود في المسجد قال من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان والجلوس في المسجد أحب إلي تسبح الله وتهلل وتستغفر والملائكة تقول آمين اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإذا فعلت ذلك فقل اللهم اغفر لسعيد بن المسيب الثالث في تزيين المساجد ( أ ) ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام ( ما أمرت بتشييد المساجد ) والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ ( النساء 78 ) وهي التي يطول بناؤها ( ب ) أمر عمر ببناء مسجد وقال للبناء أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ( ج ) روى أن عثمان رأى أثرجة من جص معلقة في المسجد فأمر بها فقطعت ( د ) قال أبو الدرداء إذا حليتم مصاحفكم وزينتم مساجدكم فالدمار عليكم ( ه ) قال أبو قلابة غدونا مع أنس بن مالك إلى الزواية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس لو صلينا في هذا المسجد فقال بعض القوم حتى نأتي المسجد الآخر فقال أنس أي مسجد قالوا مسجد أحدث الآن فقال أنس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد ولا يعمرونها إلا قليلاً ) الرابع في تحية المسجد في الصحيحين عن أبي قتادة السلمي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) واعلم أن القول بذلك مذهب الحسن البصري ومكحول وقول الشافعي وأحمد وإسحق وذهب قوم إلى أنه يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي الخامس فيما يقول إذا دخل المسجد روت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبيها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال قال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ) السادس في فضيلة القعود في المسجد لانتظار الصلاة ( أ ) أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث ) وروي أن عثمان بن مظعون أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال ائذن لي في الاختصاء فقال عليه الصلاة والسلام ( ليس منا من خصي أو اختصى إن خصاء أمتي الصيام ) فقال يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) فقال يا رسول الله ائذن لي في الترهب فقال ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة ) السابع في كراهية البيع والشراء في المسجد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيه وعن أن يتحلق الناس في المساجد(4/14)
يوم الجمعة قبل الصلاة واعلم أنه كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد وبه يقول أحمد وإسحق وعطاء بن يسار وكان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة وكان لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم رحبة إلى جنب المسجد سماها البطحاء وقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوتاً فليخرج إلى هذه الرحبة واعلم أن الحديث الذي رويناه يدل على كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك ) قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من أمور معاملات الناس واقتضاء حقوقهم وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد وكان بعضهم يرى أن لا يتصدق على السائل المتعرض في المسجد وورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال عمر فيمن لزمه حد أخرجاه من المسجد ويذكر عن علي رضي الله عنه مثله وقال معاذ بن جبل إن المساجد طهرت من خمس من أن يقام فيها الحدود أو يقبض فيها الخراج أو ينطق فيها بالأشعار أو ينشد فيها الضالة أو تتخذ سوقاً ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ولاعن عمر عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد الثامن في النوم في المسجد في الصحيحين عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وعن ابن شهاب قال كان ذلك من عمر وعثمان وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد مثل جوازها في البيت إلا الانبطاح فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه وقال أنها ضجعة يبغضها الله وعن نافع أن عبد الله كان شاباً أعزب لا أهل له فكان ينام في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد وقال ابن عباس لا تتخذوه مبيتاً أو مقيلاً التاسع في كراهية البزاق في المسجد عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) وفي الصحيح عن أبي ذر قال عليه الصلاة والسلام ( عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساويء أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن ) وفي الحديث ( إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار ) أي ينضم وينقبض فقال بعضهم المراد أن كونه مسجداً يقتضي التعظيم والقاء النخامة يقتضي التحقير وبينهما منافاة فعبر عليه الصلاة والسلام عن تلك المنافاة بقوله لينزوي وقال آخرون أراد أهل المسجد وهم الملائكة وفي الصحيحين عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه(4/15)
فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجليه فيدفنه ) وعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده وقال ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبزقن أحدكم في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه قال ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) أخرجه البخاري في صحيحه العاشر في الثوم والبصل في الصحيحين عن أنس وابن عمر وجابر قال عليه الصلاة والسلام ( من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس ) وعن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا ) وأن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بقدر فيه خضر فوجد لها ريحاً فسأل فأخبر بما فيه من البقول فقال ( قربوها إلى بعض من كان حاضراً وقال له كل فإني أناجي من لا تناجي ) أخرجاه في الصحيحين الحادي عشر في المساجد في الدور عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببناء المسجد في الدور وأن ينظف ويطيب أنس بن مالك قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد ومعه أصحابه إذ جاء أعرابي فبال في المسجد فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مه مه فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تزرموه ) ثم دعاه فقال ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من العذرة والبول والخلاء إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة ) ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدلو من ماء فصبوا عليه
المسألة الثانية اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد فجوزه أبو حنيفة مطلقاً وأباه مالك مطلقاً وقال الشافعي رضي الله عنه يمنع من دخول الحرم والمسجد الحرام احتج الشافعي بوجوه أولها قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) قال الشافعي قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة إما على المسجد فقط أو على الحرم كله وعلى التقديرين فالمقصود حاصل لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً فإن قيل المراد به الحج ولهذا قال بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا لأن الحج إنما يفعل في السنة مرة واحدة قلنا هذا ضعيف لوجوه أحدها إنه ترك للظاهر من غير موجب الثاني ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام الثالث أنه تعالى لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو عرفة الرابع الدليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( التوبة 28 ) فأراد به الدخول للتجارة وثانيها قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المسجد وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلا ما قام عليه الدليل فإن قيل هذه الآية مخصوصة بمن خرب بيت المقدس أو بمن منع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العبادة في الكعبة وأيضاً فقوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ليس المراد منه خوف الإخراج بل خوف الجزية والإخراج قلنا الجواب عن الأول أن قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ظاهر في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف(4/16)
الظاهر وعن الثاني أن الظاهر قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ يقتضي أن يكون ذلك الخوف إنما حصل من الدخول وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول بل من شيء آخر فسقط كلامهم وثالثها قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وعمارتها تكون بوجهين أحدهما بناؤها وإصلاحها والثاني حضورها ولزومها كما تقول فلان يعمر مسجد فلان أي يحضره ويلزمه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) وذلك لقوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل حضور المساجد عمارة لها ورابعها أن الحرم واجب التعظيم لقوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة ) فصونه عما يوجب تحقيره واجب وتمكين الكفار من الدخول فيه تعريض للبيت للتحقير لأنهم لفساد اعتقادهم فيه ربما استخفوا به وأقدموا على تلويثه وتنجيسه وخامسها أن الله تعالى أمر بتطهير البيت في قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) والمشرك نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والتطهير على النجس واجب فيكون تبعيد الكفار عنه واجباً وسادسها أجمعنا على أن الجنب يمنع منه فالكافر بأن يمنع منه أولى إلا أن هذا مقتضى مذهب مالك وهو أن يمنع عن كل المساجد واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأمور الأول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قدم عليه وفد يثرب فأنزلهم المسجد الثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ) وهذا يقتضي إباحة الدخول الثالث الكافر جاز له دخول سائر المساجد فكذلك المسجد الحرام كالمسلم والجواب عن الحديثين الأولين أنهما كانا في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالآية وعن القياس أن المسجد الحرام أجل قدراً من سائر المساجد فظهر الفرق والله أعلم
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في سبب نزول هذه الآية الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة أما القول الأول فهو أقوى لوجهين أحدها أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة وثانيهما أن ظاهر قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) إلا هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه
أحدها أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبين تعالى أن(4/17)
المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن الله تعالى جعلها قبلة فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة وثانيها أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت الآية رداً عليهم وهو قول ابن عباس وهو نظير قوله قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وثالثها قول أبي مسلم وهو أن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال إن الجنة له لا لغيره فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ورابعها قال بعضهم إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة وهو قول قتادة وابن زيد وخامسها أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد وسادسها ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس وسابعها أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يوميء برأسه نحو المدينة فمعنى الآية فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقد صادفتم المطلوب إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الفضل غني فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج فإن قيل فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب قلنا إن قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مشعر بالتخيير والتخيير لا يثبت إلا في صورتين أحدهما في التطوع على(4/18)
الراحلة وثانيهما في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها لأن في هذين الوجهين المصلي مخير فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير وقول من يقول إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية وهم كانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم بل لأنه أفضل وأولى بعيد لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصاً في الشريعة ولو كان الأمر كما قالوا لم يثبت ذلك الاختصاص وأيضاً فكان يجب أن يقال إن بيت المقدس صار منسوخاً بالكعبة فهذه الدلالة تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله قالوا وحمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه يعم كل مصل وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولاً على التطوع دون الفرض وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص وأقصى ما في الباب أن يقال إن على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ من الجهات المأمور بها فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال لأنه من المحال أن يقول تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بحسب ميل أنفسكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا
القول الثاني وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضاً وجوه أولها أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نظير قوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( الرحمن 33 ) فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم وهو نظير وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ( غافر 7 ) وقوله وَسِعَ كُلَّ شَى ْء عِلْماً ( طه 98 ) أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه وثانيها قال قتادة إن النبي عليه السلام قال ( إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ) فنزل قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ ( آل عمران 199 ) فقالوا إنه كان يصلي إلى غير القبلة أنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق وهو نحو قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) وثالثها(4/19)
لما نزل قوله تعالى ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) قالوا أين ندعوه فنزلت هذه الآية وهو قول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله المشرق والمغرب والجهات كلها وهو قول علي بن عيسى وخامسها من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب
المسألة الثانية إن فسرنا الآية بأنها تدل على تجويز التوجه إلى أي جهة أريد فالآية منسوخة وإن فسرناها بأنها تدل على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة وإن فسرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة
المسألة الثالثة اللام في قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لام الاختصاص أي هو خالقهما ومالكهما وهو كقوله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( الرحمن 17 ) وقوله بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَرَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ثم أنه سبحانه أشار بذكرهما إلى ذكر من بينهما من المخلوقات كما قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )
المسألة الرابعة الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولاً وعرضاً وعمقاً وكل ما كان كذلك فهو منقسم وكل منقسم فهو مؤلف مركب وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها أعني الفوق والتحت فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها والخالق متقدم على المخلوق لا محالة فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزهاً عن الجهات والأحياز فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات الوجه الثاني أنه تعالى قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ولو كان الله تعالى جسماً وله وجه جسماني لكان وجهه مختصاً بجانب معين وجهة معينة فما كان يصدق قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية واحتج الخصم بالآية من وجهين الأول أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى والوجه لا يحصل إلا من كان جسماً الثاني أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعاً والسعة من صفة الأجسام والجواب عن الأول أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لأن الوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف فقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة الثاني أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر(4/20)
استغفر الله ذنباً لست أحصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) الثالث أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( الإنسان 9 ) يعني لرضوان الله وقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) يعني ما كان لرضا الله ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه الرابع أن الوجه صلة كقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئاً آخر غيره إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى فإنه يقال لهذا القائل فما معنى قوله تعالى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد فثم قبلته التي يعبد بها أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته والجواب عن الثاني وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعاً فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئاً متبعضاً فيفتقر إلى الخالق بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك أو على أنه واسع العطاء والرحمة أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه ولعل هذا الوجه بالكلام أليق ولا يجوز حمله على السعة في العلم وإلا لكان ذكر العليم بعده تكراراً فأما قوله عَلِيمٌ في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن وما يخفي على الله من شيء فيكون متحذراً عن التساهل ويحتمل أن يكون قوله تعالى واسِعٌ عَلِيمٌ أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها وتوفية عقاب من يتكاسل عنها
المسألة الخامسة ولى إذا أقبل وولى إذا أدبر وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال وقرأ الحسن فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بفتح التاء من التولي يريد فأينما توجهوا القبلة
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين واعلم أن الظاهر قوله تعالى وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أن يكون راجعاً إلى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ( البقرة 114 ) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى ومنهم من تأوله على مشركي العرب ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى لأن اليهود قالوا عزيز ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله ومشركو العرب قالوا الملائكة بنات الله فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات قال ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت(4/21)
في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيزاً ابن الله أما قوله تعالى سُبْحَانَهُ فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه كما قال تعالى في موضع آخر سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( النساء 171 ) فمرة أظهره ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه واحتج على هذا التنزيه بقوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه الأول أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته محدث وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود والمخلوق لا يكون ولداً أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه من غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته هذا خلف ثم نقول إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه ويقضي إلى كونه مركباً من أجزاء غير متناهية وذلك محال ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل لأن كل كثرة فلا بد فيها من الواحد فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت فالبسيط مركب هذا خلف وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول فذلك الممكن محدث وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثاً فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولداً له وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع والثاني أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً فإن كان أزلياً لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس فيكون ذلك الحكم حكماً مجرداً من غير دليل وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له والثالث أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه وممتازاً عنه من وجه آخر وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك محال فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة الرابع أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وقال في مريم ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا(4/22)
كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( مريم 34 35 ) وقال أيضاً في آخر هذه السورة وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 88 93 ) فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكاً لما في السموات والأرض وفي سورة مريم بكونه مالكاً لمن في السموات والأرض على ما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً قلنا قوله تعالى في هذه السورة بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أتم لأن كلمة ( ما ) تتناول جميع الأشياء وأما قوله تعالى كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( الروم 26 ) ففيه مسائل
المسألة الأولى القنوت أصله الدوام ثم يستعمل على أربعة أوجه الطاعة كقوله تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ ( آل عمران 43 ) وطول القيام كقوله عليه السلام لما سئل أي الصلاة أفضل قال ( طول القنوت ) وبمعنى السكوت كما قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) فأمسكنا عن الكلام ويكون بمعنى الدوام إذا عرفت هذا فنقول قال بعض المفسرين كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس فقيل لهؤلاء الكفار ليسوا مطيعين فعند هذا قال آخرون المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة وهو قول السدي فقيل لهؤلاء هذه صفة المكلفين وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ يتناول من لا يكون مكلفاً فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر الأول بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية الثاني كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء وهو قول أبي مسلم وعلى هذين الوجهين الآية عامة الثالث أراد به الملائكة وعزيزاً والمسيح أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه فقال النصراني كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله فقال علي رضي الله عنه فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني
المسألة الثانية لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه
المسألة الثالثة يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله قَانِتُونَ جوابه كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم
أما قوله تعالى بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسائل
المسألة الأولى البديع والمبدع بمعنى واحد قال القفال وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع والإبداع الإنشاء ونقيض(4/23)
الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً
المسألة الثانية اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول لأنه تعالى قال بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات والأرض ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعض الأدباء القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية وفي معناه القضية وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب ( ق ض ى ) وأصله ( قضاي ) إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظاً ومن نظائره المضاء والأتاء من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء من سقيت وشفيت والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول قضيت وقضينا وقضيت إلى قضيتن وقضيا وقضين وهما يقضيان وهي وأنت تقضي والمرأتان وأنتما تقضيان وهن يقضين وأما أنت تقضين فالياء فيه ضمير المخاطبة وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع من ذلك قولهم قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم لأنه فصل للدعوى ولهذا قيل حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع وقولهم قضى حاجته معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه وقولهم قضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ومنه قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له وفراغاً منه ومنه درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها وأما قولهم قضى المريض وقضى نحبه إذا مات وقضى عليه قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق أما الأول فيقال قاضه فانقاض أي شقه فانشق ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع فأولها قضيه إذا قطعه ومنه القضبة المرطبة لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر والقضيب الغصن فعيل بمعنى مفعول والمقضب ما يقضب به كالمنجل وثانيها القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان لأن فيه قطعاً للمأكول وسيف قضيم في طرفه تكسر وتفلل وثالثها القضف وهو الدقة يقال رجل قضيف أي نحيف لأن القلة من مسببات القطع ورابعها القضأة فعلة وهي الفساد يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة
المسألة الثانية في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا أنه يستعمل على وجوه أحدها بمعنى الخلق قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ يعني خلقهن وثانيها بمعنى الأمر قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) وثالثها بمعنى الحكم ولهذا يقال للحاكم القاضي(4/24)
ورابعاً بمعنى الإخبار قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) أي أخبرناهم وهذا يأتي مقروناً بإلى وخامسها أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( الأحقاف 29 ) يعني لما فرغ من ذلك وقال تعالى وَقُضِى َ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ( الحج 29 ) بمعنى ليفرغوا منه إذا عرفت هذا فنقول قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا ( آل عمران 47 ) قيل إذا خلق شيئاً وقيل حكم بأنه يفعل شيئاً وقيل أحكم أمراً قال الشاعر وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق نعم وهو المراد بالأمر ههنا وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران كُنْ فَيَكُونُ الْحَقّ ( آل عمران 59 60 ) وفي الأنعام كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ( الأنعام 73 ) فإنه رفعهما وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن والباقون بالرفع في كل القرآن أما النصب فعلى جواب الأمر وقيل هو بعيد والرفع على الاستئناف أي فهو يكون
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) هو أنه تعالى يقول له كُنَّ فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه الأول أن قوله كُنْ فَيَكُونُ إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على كُنَّ إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه الأول أن كلمة كُنَّ لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً الثاني أن كلمة إِذَا لا تدخل إلا على سبيل الإستقبال فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف إِذَا وقوله كُنَّ مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ والمتأخر عن المحدث محدث فاستحال أن يكون كُنَّ قديماً الثالث أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله كُنَّ بفاء التعقيب فيكون قوله كُنَّ مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً فقوله كُنَّ لا يجوز أن يكون قديماً ولا جائز أيضاً أن يكون قوله كُنَّ محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله كُنَّ وقوله كُنَّ أيضاً محدث فيلزم افتقار كُنَّ آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله كُنَّ
الحجة الثانية أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود والأول باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه والثاني أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً وذلك أيضاً لا فائدة فيه
الحجة الثالثة أن المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم
الحجة الرابعة أن القادر هوالذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات فإذا فرضنا القادر المريد(4/25)
منفكاً عن قوله كُنَّ فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله كُنَّ وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ
الحجة الخامسة أن كُنَّ لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة
الحجة السادسة أن كُنَّ كلمة مركبة من الكاف والنون بشرط كون الكاف متقدماً على النون فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما فإن كان الأول لم يكن لكلمة كُنَّ أثر البتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين وإن كان الثاني فهو محال لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلاً وحين جاء الثاني فقد فات الأول وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) بين أن قوله كُنَّ متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه فعلمنا أنه لا تأثير لقوله كُنَّ في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه
الأول وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني قال سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) الثاني أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل الثالث أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( البقرة 65 ) ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم الرابع أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَة ٌ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ففيه مسائل(4/26)
المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة وقال أكثر المفسرين هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقالوا بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ( الأنبياء 5 ) وقالوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) هذا قول أكثر المفسرين إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك والدليل عليه قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ ( النساء 153 ) فإن قيل الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون وأهل الكتاب أهل العلم قلنا المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي وأهل الكتاب كانوا كذلك
المسألة الثانية تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة وأيضاً فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه الأول أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( العنكبوت 50 51 ) فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية وثانيها لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) وثالثها إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفساد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهياً إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة
أما قوله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل كقولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وقوله أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) وقولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً(4/27)
( النساء 153 ) فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العناد واللجاج وطلب الباطل
أما قوله تعالى قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالمراد أن القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة وكلام الذئب وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل آيات قاهرة ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد واللجاج الباطل واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بين الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة وكما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ والتنبيه لكي لايكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم وفي قوله بِالْحَقّ وجوه أحدها أنه متعلق بالإرسال أي أرسلناك إرسالاً بالحق وثانيها أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به وثالثها أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيراً لمن أطاع الله بالثواب ونذيراً لمن كفر بالعقاب والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى قال إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشراً لمن اتبعك واهتدى بدينك ومنذراً لمن كفر بك وضل عن دينك
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ففيه قراءتان
الجمهور برفع التاء واللام على الخبر وأما نافع فبالجزم وفتح التاء على النهي
أما على القراءة الأولى ففي التأويل وجوه أحدها أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عن ذلك وهو كقوله فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( الرعد 40 ) وقوله عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 ) والثاني أنك هاد وليس لك من الأمر شيء فلا تأسف ولا تغتم لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ونظيره قوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثالث لا تنظر إلى المطيع والعاصي في الوقت فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه وفي الآية دلالة على أن أحداً لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريباً أو كان بعيداً
أما القراءة الثانية ففيها وجهان الأول روي أنه قال ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن الكفرة وهذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفرهم وكان عالماً بأن الكافر معذب فمع(4/28)
هذا العلم كيف يمكن أن يقول ليت شعري ما فعل أبواي والثاني معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ووجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره أو أنت مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره فلا تسأل والقراءة الأولى يعضدها قراءة أبي ( وما تسأل ) وقراءة عبد الله ( ولن تسأل )
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله بما تقدم من الآية وبين أن العلة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في تشددهم في باطلهم وثباتهم على كفرهم أنهم يريدون مع ذلك أن يتبع ملتهم ولا يرضون منه بالكتاب بل يريدون منه الموافقة لهم فيما هم عليه فبين بذلك شدة عداوتهم للرسول وشرح ما يوجب اليأس من موافقتهم والملة هي الدين ثم قال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى بمعنى أن هدى الله هو الذي يهدي إلى الإسلام وهو الهدي الحق والذي يصلح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله وَلَئِنِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ أي معين يعصمك ويذب عنك بل الله يعصمك من الناس إذا أقمت على الطاعة والاعتصام بحبله قالوا الآية تدل على أمور منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله فإن في هذه الصورة علم الله أنه لا يتبع أهواءهم ومع ذلك فقد توعده عليه ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وإنما حسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هذا الوعيد أحد صوارفه وثانيها أن قوله بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة وإذا صح ذلك فبأن لا يجوز الوعيد إلا بعد القدرة أولى فبطل به قول من يجوز تكليف ما لا يطاق وثالثها فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد ورابعها فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعاً ونصيراً لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف لأن اتباع أهوائهم(4/29)
كفر وعندنا لا شفاعة في الكفر
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
شا المسألة الأولى الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء و أُوْلَائِكَ ابتداء ثان و يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره
المسألة الثانية المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ من هم فيه قولان
القول الأول أنهم المؤمنون الذين آتاهم الله القرآن واحتجوا عليه من وجوه أحدها أن قوله يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ حث وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ومدح على تلك التلاوة والكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة والإنجيل فإن قراءتهما غير جائزة وثانيها أن قوله تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يدل على أن الإيمان مقصود عليهم ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك وثالثها قوله وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن
القول الثاني أن المراد بالذين آتاهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام
أما قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ فالتلاوة لها معنيان أحدهما القراءة الثاني الإتباع فعلاً لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلاً قال الله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ( الشمس 2 ) فالظاهر أنه يقع عليهما جميعاً ويصح فيهما جميعاً المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه فأولها أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما وثانيها أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا إذا قرأوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم وثالثها أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه ورابعها يقرؤنه كما أنزل الله ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولونه على غير الحق وخامسها أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد وهو تعظيمها والانقياد لها لفظاً ومعنى فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم(4/30)
يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى َ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ شرع سبحانه ههنا في نوع آخر من البيان وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيفية أحواله والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخادمي بيته وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضاً مقرين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أموراً توجب على المشركين وعلى اليهود والنصارى قبول قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه وبيانه من وجوه
أحدها أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف فلما وفى بها وخرج عن عهدتها لا جرم نال النبوة والإمامة وهذا مما ينبه اليهود والنصارى والمشركين على أن الخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بترك التمرد والعناد والانقياد لحكم الله تعالى وتكاليفه وثانيها أنه تعالى حكى عنه أنه طلب الإمامة لأولاده فقال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل وثالثها أن الحج من خصائص دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك ورابعها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود والنصارى فبين الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ووجوب الاقتداء به فكان ذلك مما يوجب زوال ذلك الغضب عن قلوبهم وخامسها أن من المفسرين من فسر الكلمات التي ابتلى الله تعالى إبراهيم بها بأمور يرجع حاصلها إلى تنظيف البدن وذلك مما يوجب على المشركين اختيار هذه الطريقة لأنهم كانوا معترفين بفضل إبراهيم عليه السلام ويوجب عليهم ترك ما كانوا عليه من التلطخ بالدماء وترك النظافة ومن المفسرين من فسر تلك الكلمات بما أن إبراهيم عليه السلام صبر على ما ابتلى به في دين الله تعالى وهو النظر في الكواكب والقمر والشمس ومناظرة عبدة الأوثان ثم الانقياد لأحكام الله تعالى في ذبح الولد والإلقاء في النار وهذا يوجب على هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين الذين يعترفون بفضله أن يتشبهوا به في ذلك ويسلكوا طريقته في(4/31)
ترك الحسد والحمية وكراهة الانقياد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذه الوجوه التي لأجلها ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أموراً يرجع بعضها إلى الأمور الشاقة التي كلفه بها وبعضها يرجع إلى التشريفات العظيمة التي خصه الله بها ونحن نأتي على تفسيرها إن شاء الله تعالى وهذه الآية دالة على تكليف حصل بعده تشريف
أما التكليف فقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف العامل في إِذَا إما مضمر نحو واذكر إذ ابتلى إبراهيم أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت وإما قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ
المسألة الثانية أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعاً لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازاً لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقال هشام بن الحكم إنه كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط فأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها واحتج عليه بالآية والمعقول أما الآية فهي هذه الآية قال إنه تعالى صرح بأنه يبتلي عباده ويختبرهم وذكر نظيره في سائر الآيات كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقال لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقال في هذه السورة بعد ذلك وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) وذكر أيضاً ما يؤكد هذا المذهب نحو قوله فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وكلمة لَعَلَّ للترجي وقال قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) فهذه الآيات ونظائرها دالة على أنه سبحانه وتعالى لا يعلم وقوع الكائنات قبل وقوعها أما العقل فدل على وجوه أحدها أنه تعالى لو كان عالماً بوقوع الأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق وعن الخلق وذلك محال فما أدى إليه مثله بيان الملازمة أن ما علم الله تعالى وقوعه استحال أن لا يقع لأن العلم بوقوع الشيء وبلا وقوع ذلك الشيء متضادان والجمع بين الضدين محال وكذلك ما علم الله أنه لا يقع كان وقوعه محالاً لعين هذه الدلالة فلو كان الباري تعالى عالماً بجميع الأشياء الجزئية قبل وقوعها لكان بعضها واجب الوقوع وبعضها ممتنع الوقوع ولا قدرة البتة لا على الواجب ولا على الممتنع فيلزم نفي القدرة على هذه الأشياء عن الخالق تعالى وعن الخلق وإنما قلنا إن ذلك محال أما في حق الخالق فلأنه ثبت أن العالم محدث وله مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون قادراً إذ لو كان موجباً لذاته لزم من قدمه قدم العالم أو من حدوث العالم حدوثه وأما في حق الخلق فلأنا نجد من أنفسنا وجداناً ضرورياً كوننا متمكنين من الفعل والترك على معنى أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه وإن شئنا الترك قدرنا على الترك فلو كان أحدهما واجباً والآخر ممتنعاً لما حصلت هذه المكنة التي يعرف ثبوتها بالضرورة وثانيها أن تعلق العلم بأحد المعلومين مغاير لتعلقه بالمعلوم الآخر ولذلك فإنه يصل منا تعقل أحد(4/32)
التعلقين مع الذهول عن التعلق الآخر ولو كان التعلقان تعلقاً واحداً لاستحال ذلك لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون معلوماً مذهولاً عنه وإذا ثبت هذا فنقول لو كان تعالى عالماً بجميع هذه الجزئيات لكان له تعالى علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية وعلى التقديرين فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منه فالناقص متناه والزائد زاد على المتناهي بتلك العشرة والمتناهي إذا ضم إليه غير المتناهي كان الكل متناهياً فإذاً وجود أمور غير متناهية محال فإن قيل الموجود هو العلم فأما تلك التعلقات فهي أمور نسبية لا وجود لها في الأعيان قلنا العلم إنما يكون علماً لو كان متعلقاً بالمعلوم فلو لم يكن ذلك التعلق حاصلاً في نفس الأمر لزم أن لا يكون العلم علماً في نفس الأمر وذلك محال وثالثها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها أو لا يعلم فإن علم عددها فهي متناهية لأن كل ما له عدد معين فهو متناه وإن لم يعلم الله تعالى عددها لم يكن عالماً بها على سبيل التفصيل وكلامنا ليس إلا في العلم التفصيلي ورابعها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه وكل متميز عما عداه فإن ما عداه خارج عنه وكل ما خرج عنه فهو متناه فإذن كل معلوم فهو متناه فإذن كل ما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً وخامسها أن الشيء إنما يكون معلوماً لو كان للعلم تعلق به ونسبة إليه وانتساب الشيء إلى الشيء يعتبر تحققه في نفسه فإنه إذا لم يكن للشيء في نفسه تعين استحال أن يكون لغيره إليه من حيث هو هو نسبة والشيء المشخص قبل دخوله في الوجود لم يكن مشخصاً البتة فاستحال كونه متعلق العلم فإن قيل يبطل هذا بالمحالات والمركبات قبل دخولها في الوجود فإنا نعلمها وإن لم يكن لها تعينات البتة قلنا هذا الذي أوردتموه نقض على كلامنا وليس جواباً عن كلامنا وذلك مما لا يزيل الشك والشبهة قال هشام فهذه الوجوه العقلية تدل على أنه لا حاجة إلى صرف هذه الآيات عن ظواهرها واعلم أن هشاماً كان رئيس الرافضة فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء أما الجمهور من المسلمين فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات قبل وقوعها واحتجوا عليها بأنها قبل وقوعها تصح أن تكون معلومة لله تعالى إنما قلنا أنها تصح أن تكون معلومة لأنا نعلمها قبل وقوعها فإنا نعلم أن الشمس غداً تطلع من مشرقها والوقوع يدل على الإمكان وإنما قلنا أنه لما صح أن تكون معلومة وجب أن تكون معلومة لله تعالى لأن تعلق علم الله تعالى بالمعلوم أمر ثبت له لذاته فليس تعلقه ببعض ما يصح أن يعلم أولى من تعلقه بغيره فلو حصل التخصيص لافتقر إلى مخصص وذلك محال فوجب أن لا يتعلق بشيء من المعلومات أصلاً وإن تعلق بالبعض فإنه يتعلق بكلها وهو المطلوب
أما الشبهة الأولى فالجواب عنها أن العلم بالوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للقدرة فالتابع لا ينافي المتبوع فالعلم لازم لا يغني عن القدرة
وأما الشبهة الثانية فالجواب عنها أنها منقوضة بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها
وأما الشبهة الثالثة فالجواب عنها أن الله تعالى لا يعلم عددها ولا يلزم منه إثبات الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم أن الله تعالى لا يعلم عددها فأما إذا لم يكن في نفسها عدد لم(4/33)
يلزم من قولنا أن الله تعالى لا يعلم عددها إثبات الجهل
وأما الشبهة الرابعة فالجواب عنها أنه ليس من شرط المعلوم أن يعلم العلم تميزه عن غيره لأن العلم بتميزه عن غيره يتوقف على العلم بذلك الغير فلو كان توقف العلم بالشيء على العلم بتميزه عن غيره وثبت أن العلم بتميزه من غيره يوقف على العلم بغيره لزم أن لا يعلم الإنسان شيئاً واحداً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها
وأما الشبهة الخامسة فالجواب عنها بالنقض الذي ذكرناه وإذا انتقضت الشبهة سقطت فيبقى ما ذكرناه من الدلالة على عموم عالمية الله تعالى سالماً عن المعارض وبالله التوفيق
المسألة الثالثة اعلم أن الضمير لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فالضمير إما أن يكون متقدماً على المذكور لفظاً ومعنى وإما أن يكون متأخراً عنه لفظاً ومعنى وإما أن يكون متقدماً لفظاً ومتأخراً معنى وإما أن يكون بالعكس منه أما القسم الأول وهو أن يكون متقدماً لفظاً ومعنى فالمهشور عند النحويين أنه غير جائز وقال ابن جنى بجوازه واحتج عليه بالشعر والمعقول أما الشعر فقوله جزى ربه عني عدي بن حاتم
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز القسم الثاني وهو أن يكون الضمير متأخراً لفظاً ومعنى وهذا لا نزاع في صحته كقولك ضرب زيد غلامه القسم الثالث أن يكون الضمير متقدماً في اللفظ متأخراً في المعنى وهو كقولك ضرب غلامه زيد فههنا الضمير وإن كان متقدماً في اللفظ لكنه متأخر في المعنى لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير فيصير كأنك قلت زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزاً القسم الرابع أن يكون الضمير متقدماً في المعنى متأخراً في اللفظ وهو كقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب فيصير التقدير وإذ ابتلى ربه إبراهيم إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدماً في اللفظ بل كان متأخراً لا جرم كان جائزاً حسناً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر ( إبراهام ) بألف بين الهاء والميم والباقون ( إبراهيم ) وهما لغتان وقرأ ابن عباس وأبو حيوة رضي الله عنه ( إبراهيم ربه ) برفع إبراهيم ونصب ربه والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا
المسألة الخامسة اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا فقال بعضهم اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن هذه الأشياء أمور شاقة أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة وأن لا يخون في أداء شيء منها ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق ولهذا قلنا إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف(4/34)
شدة البلوى فيه ثم أنه يتضمن إقامة المناسك وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر الزمان فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى وإزالة الحسد عن القلب بالكلية فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية تكاليف شاقة شديدة فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل وقال إني جاعلك للناس إماماً بل قال ءانٍ جَاعِلُكَ فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة واعترض القاضي على هذا القول فقال هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن إلا أنه ليس كذلك بل ذكر قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا بعد قوله فَأَتَمَّهُنَّ وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال ثم أخبر عنه أنه أتمها ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل وهذا مما لا يعد فيه القول الثاني أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين أحدهما بكلمات كلفه الله بهن وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ مما شاء كلفه بالأمر بها والوجه الثاني بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه أي يبلغهم إياها والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال أحدها قال ابن عباس هي عشر خصال كانت فرضاً في شرعه وهي سنة في شرعنا خمس في الرأس وخمس في الجسد أما التي في الرأس فالمضمضة والإستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وثانيها قال بعضهم ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها في سورة براءة التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) إلى آخر الآية وعشر منها في سورة الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 ) إلى آخر الآية وعشر منها في المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ( المؤمنون 10 ) وروى عشر في سَأَلَ سَائِلٌ ( المعارج 1 ) إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( المعارج 34 ) فجعلها أربعين سهماً عن ابن عباس وثالثها أمره بمناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس ورابعها ابتلاه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والكواكب والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفي بالكل فلهذا قال الله تعالى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) عن الحسن وخامسها أن المراد ما ذكره في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وسادسها المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمرود والصلاة والزكاة والصوم وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها قال القفال رحمه الله وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة شدة ومشقة فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ولو ثبتت الرواية(4/35)
في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات فوجب التوقف والله أعلم
المسألة السادسة قال القاضي هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماماً والسبب مقدم على المسبب فوجب كون هذا الابتلاء متقدماً في الوجود على صيرورته إماماً وهذا أيضاً ملائم لقضايا العقول وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً من أمته وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة وقال آخرون إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة فلما تمم ذلك جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق إذا عرفت هذه المسألة فنقول ما قال القاضي يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة وكذا الختان فإنه عليه السلام يروي أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة ثم قال فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله أتمهن أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة
المسألة السابعة الضمير المستكن في بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان ونحوه وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى وفي الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً
أما قوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فالإمام اسم من يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينك وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل التحقيق المراد من الإمام ههنا النبي ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاً بالشرع لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له فحينئذ يبطل العموم وثانيها أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبياً وثالثها أن الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ( الأنبياء 73 ) والخلفاء أيضاً أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى والذي يصلي بالناس يسمى أيضاً إماماً لأن من دخل في صلاته لزمه الائتمام به قال عليه الصلاة والسلام ( إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ولا تختلفوا على إمامكم ) فثبت بهذ أن اسم الإمام لمن استحق الاقتداء به في الدين وقد يسمى بذلك أيضاً من يؤتم به في الباطل قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( القصص 41 ) إلا أن(4/36)
اسم الإمام لا يتناوله على الإطلاق بل لا يستعمل فيه إلا مقيداً فإنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله تعالى يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كما أن اسم الإله لا يتناول إلا المعبود الحق فأما المعبود الباطل فإنما يطلق عليه اسم الإله مع القيد قال الله تعالى فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء ( هود 101 ) وقال وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) إذا ثبت أن اسم الإمام يتناول ما ذكرناه وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان فلا بد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة
المسألة الثانية أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام وقال الله تعالى في كتابه ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) وقال مِنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقال في آخر سورة الحج مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ( الحج 78 ) وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
المسألة الثالثة القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية فقالوا إنه تعالى بين أنه إنما صار إماماً بسبب التنصيص على إمامته ونظيره قوله تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فبين أنه لا يحصل له منصب الخلافة بالتنصيص عليه وهذا ضعيف لأنا بينا أن المراد بالإمامة ههنا النبوة ثم إن سلمنا أن المراد منها مطلق الإمامة لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل تثبت الإمامة بغير النص وليس في هذه الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات
المسألة الرابعة قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه عليه السلام كان معصوماً عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعاً من فعله وكونه واجباً عبارة عن كونه ممنوعاً من تركه والجميع محال
أما قوله مِن ذُرّيَّتِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الذرية الأولاد وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ الله الخلق وتركوا همزها للخفة كما تركوا في البرية وفيه وجه آخر وه وأن تكون منسوبة إلى الذر
المسألة الثانية قوله وَمِن ذُرّيَتِى عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك سأكرمك فتقول وزيداً
المسألة الثالثة قال بعضهم إنه تعالى أعلمه أن في ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لهذا الأمر فأعلمه الله تعالى أن فيهم ظالماً لا يصلح لذلك وقال(4/37)
آخرون إنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل الاستعلام ولما لم يعلم على وجه المسألة فأجابه الله تعالى صريحاً بأن النبوة لا تنال الظالمين منهم فإن قيل هل كان إبراهيم عليه السلام مأذوناً في قوله وَمِن ذُرّيَتِى أو لم يكن مأذوناً فيه فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم رد دعاءه وإن لم يأذن له فيه كان ذلك ذنباً قلنا قوله وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أنه عليه السلام طلب أن يكون بعض ذريته أئمة للناس وقد حقق الله تعالى إجابة دعائه في المؤمنين من ذريته كاسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهرون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وجعل آخرهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من ذريته الذي هو أفضل الأنبياء والأئمة عليهم السلام
أما قوله تعالى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحفص عن عاصم عَهْدِي بإسكان الياء والباقون بفتحها وقرأ بعضهم لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ أي من كان ظالماً من ذريتك فإنه لا ينال عهدي
المسألة الثانية ذكروا في العهد وجوهاً أحدها أن هذا العهد هو الإمامة المذكورة فيما قبل فإن كان المراد من تلك الإمامة هو النبوة فكذا وإلا فلا وثانيها عَهْدِي أي رحمتي عن عطاء وثالثها طاعتي عن الضحاك ورابعها أماني عن أبي عبيد والقول الأول أولى لأن قوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب لتلك الإمامة التي وعده بها بقوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا يكون جواباً عن ذلك السؤال إلا إذا كان المراد بهذا العهد تلك الإمامة
المسألة الثالثة الآية دالة على أنه تعالى سيعطي بعض ولده ما سأل ولولا ذلك لكان الجواب لا أو يقول لا ينال عهدي ذريتك فإن قيل أفما كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظالمين قلنا بلى ولكن لم يعلم حال ذريته فبين الله تعالى أن فيهم من هذا حاله وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم
المسألة الرابعة الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه الأول أن أبا بكر وعمر كانا كافرين فقد كانا حال كفرهما ظالمين فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شيء من الأوقات ثبت أنهما لا يصلحان للإمامة الثاني أن من كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين فإذن ما لم يعرف أن أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما وذلك إنما يثبت في حق من تثبت عصمته ولما لم يكونا معصومين بالإتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة الثالث قالوا كانا مشركين وكل مشرك ظالم والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة أما أنهما كانا مشركين فبالاتفاق وأما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأما أن الظالم لا يناله عهد الإمامة فلهذه الآية لا يقال إنهما كانا ظالمين حال كفرهما فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول الظالم من وجد منه الظلم وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد(4/38)
منه الظلم في الماضي أو في الحال بدليل أن هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين وما كان مشتركاً بين القسمين لايلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين فلا يلزم من نفى كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً والذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية أن النائم يسمى مؤمناً والإيمان هو التصديق والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً فدل على أنه يسمى مؤمناً لأن الإيمان كان حاصلاً قبل وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل وأيضاً فالكلام عبارة عن حروف متوالية والمشي عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة فمجموع تلك الأشياء البتة لا وجود لها فلو كان حصول المشتق منه شرطاً في كون الإسم المشتق حقيقة وجب أن يكون اسم المتكلم والماشي وأمثالهما حقيقة في شيء أصلاً وأنه باطل قطعاً فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة والجواب كل ما ذكرتموه معارض بما أنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث فدل على ما قلناه ولأن التائب عن الكفر لا يسمى كافراً والتائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا القول في نظائره ألا ترى إلى قوله وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( هود 113 ) فإنه نهى عن الركون إليهم حال إقامتهم على الظلم وقوله مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) معناه ما أقاموا على الإحسان على أنا بينا أن المراد من الإمامة في هذه الآية النبوة فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة
المسألة الخامسة قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له واختلفوا في أن الفسق الطارىء هل يبطل الإمامة أم لا واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين الأول ما بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جواب لقوله وَمِن ذُرّيَتِى وقوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ليكون الجواب مطابقاً للسؤال فتصير الآية كأنه تعالى قال لا ينال الإمامة الظالمين وكل عاص فإنه ظالم لنفسه فكانت الآية دالة على ما قلناه فإن قيل ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة قلنا أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً وأما نحن فنقول مقتضى الآية ذلك إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة فإن قيل أليس أن يونس عليه السلام قال سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) وقال آدم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) قلنا المذكور في الآية هو الظلم المطلق وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام الوجه الثاني أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر قال الله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ( ي س 60 ) يعني ألم آمركم بهذا وقال الله تعالى قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( آل عمران 183 ) يعني أمرنا ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول لا يخلو قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى(4/39)
لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق قال عليه السلام ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فتياه إذا أفتى ولا يقدم للصلاة وإن كان هو بحيث لو اقتدي به فإنه لا تفسد صلاته قال أبو بكر الرازي ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً قال وهذا خطأ ولم يفرق أبو حنيفة بين الخليفة والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلح ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً فلما خيف عليه قال له الفقهاء تول له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب فتولي له عد أحمال التبن التي تدخل فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة المنصور إلى مثل ذلك وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ثم قال وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولي القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة فلا اعتبار في ذلك بمن ولاه لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه وليس شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذاً وأن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان والله أعلم
المسألة السادسة الآية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين الأول أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد الإمامة ولا شك أن كل نبي إمام فإن الإمام هو الذي يؤتم به والنبي أولى الناس وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى الثاني قال وَلاَ يَنَالُونَ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذا العهد إن كان هو النبوة وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به وكل فاسق ظالم لنفسه فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أنه سبحانه بين أن له معك عهداً ولك معه عهداً وبين أنك متى تفي بعهدك فإنه سبحانه يفي أيضاً بعهده فقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) ثم في سائر الآيات فإنه أفرد عهدك بالذكر وأفرد عهد نفسه أيضاً بالذكر أما عهدك فقال فيه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 32 ) وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ( التوبة 111 ) م بين كيفية عهده إلى أبينا آدم فقال وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ثم بين كيفية عهده إلينا فقال أَلَمْ(4/40)
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) ثم بين كيفية عهده مع بني إسرائيل فقال إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ( آل عمران 183 ) ثم بين كيفية عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 125 ) ثم بين في هذه الآية أن عهده لا يصل إلى الظالمين فقال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذه المبالغة الشديدة في هذه المعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه المعاهدة فنقول العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد ومن ربه إلا الوفاء بالعهد فلنشرع في معاقد هذا الباب فنقول أول إنعامه عليك إنعام الخلق والإيجاد والإحياء وإعطاء العقل والآلة والمقصود من كل ذلك اشتغالك بالطاعة والخدمة والعبودية على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ونزه نفسه عن أن يكون هذا الخلق والإيجاد منه على سبيل العبث فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وقال أيضاً وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وقال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ( المؤمنون 115 ) ثم بين على سبيل التفصيل ما هو الحكمة في الخلق والإيجاد فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فهو سبحانه وفى بعهد الربوبية حيث خلقك وأحياك وأنعم عليك بوجوه النعم وجعلك عاقلاً مميزاً فإذا لم تشتغل بخدمته وطاعته وعبوديته فقد نقضت عهد عبوديتك مع أن الله تعالى وفى بعهد ربوبيته وثانيها أن عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وأنت ما وفيت البتة بعهد الطاعة والعبودية وثالثها أن نعمة الله بالإيمان أعظم النعم والدليل عليه أن هذه النعمة لو فاتتك لكنت أشقى الأشقياء أبد الآبدين ودهر الداهرين ثم هذه النعمة من الله تعالى لقوله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم مع أن هذه النعمة منه فإنه يشكرك عليها وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فإذا كان الله تعالى يشكرك على هذه النعمة فبأن تشكره على ما أعطى من التوفيق والهداية كان أولى ثم إنك ما أتيت إلا بالكفران على ما قال قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) فهو تعالى وفى بعهده وأنت نقضت عهدك ورابعها أن تنفق نعمه في سيبل مرضاته فعهده معك أن يعطيك أصناف النعم وقد فعل وعهدك معه أن تصرف نعمه في سبيل مرضاته وأنت ما فعلت ذلك كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وخامسها أنعم عليك بأنواع النعم لتكون محسناً إلى الفقراء وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثم إنك توسلت به إلى إيذاء الناس وإيحاشهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( الحديد 24 ) ( النساء 37 ) وسادسها أعطاك النعم العظيمة لتكون مقبلاً على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إلى السلطان العظيم لو أنعم عليك بخلعة نفيسة ثم إنك في حضرته تعرض عنه وتبقى مشغولاً بخدمة بعض الأسقاط كيف تستوجب الأدب والمقت فكذا ههنا واعلم أنا لو اشتغلنا بشرح كيفية وفائه سبحانه بعهد الإحسان والربوبية(4/41)
وكيفية نقضنا لعهد الإخلاص والعبودية لما قدرنا على ذلك فإنا من أول الحياة إلى آخرها ما صرنا منفكين لحظة واحدة من أنواع نعمه على ظاهرنا وباطننا وكل واحدة من تلك النعم تستدعي شكراً على حدة وخدمة على حدة ثم أنا ما أتينا بها بل ما تنبهنا لها وما عرفنا كيفيتها وكميتها ثم إنه سبحانه على تزايد غفلتنا وتقصيرنا يزيد في أنواع النعم والرحمة والكرم فكنا من أول عمرنا إلى آخره لا نزال نتزايد في درجات النقصان والتقصير واستحقاق الذم وهو سبحانه لا يزال يزيد في الإحسان واللطف والكرم واستحقاق الحمد والثناء فإنه كلما كان تقصيرنا أشد كان إنعامه علينا بعد ذلك أعظم وقعاً وكلما كان إنعامه علينا أكثر وقعاً كان تقصيرنا في شكره أقبح وأسوأ فلا تزال أفعالنا تزداد قبائح ومحاسن أفعاله على سبيل الدوام بحيث لا تفضي إلى الانقطاع ثم إنه قال في هذه الآية لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهذا تخويف شديد لكنا نقول إلهنا صدر منك ما يليق بك من الكرم والعفو والرحمة والإحسان وصدر منا ما يليق بنا من الجهل والغدر والتقصير والكسل فنسألك بك وبفضلك العميم أن تتجاوز عنا يا أرحم الراحمين
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِى َ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
اعلم أنه تعالى بين كيفية حال إبراهيم عليه السلام حين كلفه بالإمامة وهذا شرح التكليف الثاني وهو التكليف بتطهير البيت ثم نقول أما البيت فإنه يريد البيت الحرام واكتفى بذكر البيت مطلقاً لدخول الألف واللام عليه إذا كانتا تدخلان لتعريف المعهود أو الجنس وقد علم المخاطبون أنه لم يرد به الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة ثم نقول ليس المراد نفس الكعبة لأنه تعالى وصفه بكونه ( أمناً ) وهذا صفة جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط والدليل على أنه يجوز إطلاق البيت والمراد منه كل الحرم قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام وكذلك قوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) المراد والله أعلم منعهم من الحج حضور مواضع النسك وقال في آية أخرى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال الله تعالى في آية أخرى مخبراً عن إبراهيم رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( إبراهيم 35 ) فدل هذا على أنه وصف البيت بالأمن فاقتضى جميع الحرم والسبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت
أما قوله تعالى مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة أصله من ثاب يثوب مثابة وثوباً إذا رجع يقال ثاب الماء إذا رجع إلى النهر بعد انقطاعه وثاب إلى فلان عقله أي رجع وتفرق عنه الناس ثم ثابوا أي عادوا مجتمعين والثواب من(4/42)
هذا أخذ كأن ما أخرجه من مال أو غيره فقد رجع إليه والمثاب من البئر مجتمع الماء في أسفلها قال القفال قيل إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة وهو قول الفراء والزجاج وقيل الهاء إنما دخلت في مثابة مبالغة كما في قولهم نسابة وعلامة وأصل مثابة مثوبة مفعلة
المسألة الثانية قال الحسن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام وعن ابن عباس ومجاهد أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه قال الله تعالى فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ( إبراهيم 37 ) وقيل مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه فإن قيل كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى فما معنى قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ قلنا أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع وأيضاً فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى وإظهار العبودية له والمواظبة على العمرة والطواف وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه يستوجب بذلك ثواباً عظيماً عند الله تعالى
المسألة الثانية تمسك بعض أصحابنا في وجوب العمرة بقوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ووجه الاستدلال به أن قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفاً بصفة كونه مثابة للناس لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف فوجب تحققه في الطواف هذا وجه الاستدلال بهذه الآية وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه
أما قوله تعالى وَأَمْناً أي موضع أمن ثم لا شك أن قوله جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً خبر فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر
أما القول الأول فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء ( القصص 57 ) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه قال الله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ( البقرة 191 ) فأخبر عن وقوع القتل فيه
القول الثاني أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى وكانت الجاهلية متمسكين(4/43)
بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه وكانوا يسمون قريشاً أهل الله تعظيماً له ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كما كانت ) فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز واحتج الشافعي رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه قال الشافعي رحمه الله وهذا في الوقت الذي كانت مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية والجواب عنه أن قوله وَأَمْناً ليس فيه بيان أنه جعله أمناً فيماذا فيمكن أن يكون أمناً من القحط وأن يكون أمناً من نصب الحروب وأن يكون أمناً من إقامة الحدود وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك فكان قول الشافعي رحمه الله أولى
أما قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي وَاتَّخَذُواْ بكسر الخاء على صيغة الأمر وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر
أما القراءة الأولى فقوله وَاتَّخَذُواْ عطف على ماذا وفيه أقوال الأول أنه عطف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 122 ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى الثاني إنه عطف على قوله الثاني إنه عطف على قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات وأتمهن قال له جزاء لما فعله من ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا وقال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال ونظيره قوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ ( الأعراف 171 ) الثالث أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكأن وجهه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ أنتم من مقام إبراهيم مصلى والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الوضع وإن كانت الفاء أوضح أما من قرأ وَاتَّخَذُواْ بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى فيكون هذا عطفاً على جَعَلْنَا الْبَيْتَ واتخذوه مصلى ويجوز أن يكون عطفاً على وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وإذ اتخذوه مصلى
المسألة الثانية ذكروا أقوالاً في أن مقام إبراهيم عليه السلام أي شيء هو
القول الأول إنه موضع الحجر قام عليه إبراهيم عليه السلام ثم هؤلاء ذكروا وجهين أحدهما(4/44)
أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحته وقد غاصت رجله في الحجر فوضعته تحت الرجل الأخرى فغاصت رجله أيضاً فيه فجعله الله تعالى من معجزاته وهذا قول الحسن وقتادة والربيع بن أنس وثانيها ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 127 ) فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام
القول الثاني أن مقام إبراهيم الحرم كله وهو قول مجاهد الثالث أنه عرفة والمزدلفة والجمار وهو قول عطاء الرابع الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس واتفق المحققون على أن القول الأولى أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر وثانيها أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع وثالثها ما روي أنه عليه السلام مر بالمقام ومعه عمر فقال يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم قال بلى قال أفلا نتخذه مصلى قال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية ورابعها أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى وخامسها أنه تعالى قال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع وسادسها أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ولم يثبت قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ أعني مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى قال القفال ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على مجاز قول الرجل اتخذت من فلان صديقاً وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ووهب الله لي منك ولياً مشفقاً وإنما تدخل ( من ) لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم
المسألة الثالثة ذكروا في المراد بقوله مُصَلًّى وجوهاً أحدها المصلى المدعى فجعله من الصلاة التي هي الدعاء قال الله تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) وهو قول مجاهد وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله إن كل الحرم مقام إبراهيم وثانيها قال الحسن أراد به قبلة وثالثها قال قتادة والسدي أمروا أن يصلوا عنده قال أهل التحقيق هذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر وهو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال عليه السلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة وقد دل(4/45)
عليه أيضاً فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للصلاة عنده بعد تلاوة الآية ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية بها وههنا بحث فقهي وهو أن ركعتي الطواف فرض أم سنة ينظر إن كان الطواف فرضاً فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما فرض لقوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى والأمر للوجوب والثاني سنة لقوله عليه السلام للأعرابي حين قال هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع وإن كان الطواف نفلاً مثل طواف القدوم فركعتاه سنة والرواية عن أبي حنيفة مختلفة أيضاً في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الرابعة في فضائل البيت روى الشيخ أحمد البيهقي كتاب شعب الإيمان عن أبي ذر قال ( قلت يا رسول الله أي مسجد وضع على الأرض أولاً قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة فأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ) أخرجاه في الصحيحين وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال خلق البيت قبل الأرض بألفي عام ثم دحيت الأرض منه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض وأن أول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال ) وعن وهب بن منبه قال إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري فقال الله تعالى إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري فيسبحني فيها خلقي وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي واسميه بيتي أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكري وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً آمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ومن أحله فقد أباح حرمتي ومن آمن أهله استوجب بذلك أماني ومن أخافهم فقد أخافني ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ومن تهاون به فقد صغر في عيني سكانها جيراني وعمارها وفدي وزوارها أضيافي اجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء والأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ( الحج 27 ) يعجون بالتكبير عجاً إلي ويثجون بالتلبية ثجاً فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ونزل بي ووفد علي فحق لي أن أتحفه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد عليه السلام وهو خاتم النبيين فأجعله من سكانه وعماره وحماته وولاته فيكون أميني عليه ما دام حياً فإذا انقلب إلي وجدني قد ادخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلى الوسيلة عندي واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه وتكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته وأعلمه مشاعره ومناسكه وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ويدعوني فأستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدامه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا أو يغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت(4/46)
وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الجن والإنس وعن عطاء قال أهبط آدم بالهند فقال يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة قال بخطيئتك يا آدم فانطلق إلى مكة فابن بها بيتاً تطوف به كما رأيتهم يطوفون فانطلق إلى مكة فبنى البيت فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهاراً وعمارة وما بين خطاه مفاوز فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة وسأل عمر كعباً فقال أخبرني عن هذا البيت فقال إن هذا البيت أنزله الله تعالى من السماء ياقوته مجوفة مع آدم عليه السلام فقال يا آدم إن هذا بيتي فطف حوله وصل حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلي ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله وبقيت قواعده وعن علي رضي الله عنه قال البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً وذكر علي رضي الله عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ومر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم ومر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم ترفعه جميع القبائل فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه وعن الزهري قال بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السلام ثلاث صفوح في كل صفح منها كتاب في الصفح الأول أنا الله ذوبكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حفاً وباركت لأهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها اسماً من إسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته وفي الثالث أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه
المسألة الخامسة في فضائل الحجر والمقام عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( إنه كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انتهى إلى الحجر الأسود فقال إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك أخرجاه في الصحيح
أما قوله تعالى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فالأولى أن يراد به ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً وثقناً عليهما فيه وقد تقدم من قبل معنى العهد والميثاق
أما قوله أَن طَهّرَا بَيْتِى َ فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله وكل ذلك داخل تحت الكلام ثم إن المفسرين ذكروا وجوهاً أحدها أن معنى طَهّرَا بَيْتِى َ ابنياه وطهراه من الشرك وأسساه على التقوى كقوله تعالى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى(4/47)
مِنَ اللَّهِ ( التوبة 109 ) وثانيها عرفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا به ومجازه اجعلاه طاهراً عندهم كما يقال الشافعي رضي الله عنه يطهر هذا وأبو حنيفة ينجسه وثالثها ابنياه ولا تدعا أحداً من أهل الريب والشرك يزاحم الطائفين فيه بل أقراه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال طهر الله الأرض من فلان وهذه التأويلات مبنية على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك وهو كقوله تعالى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) فمعلوم أنهن لم يطهرن من نجس بل خلقن طاهرات وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً والله أعلم ورابعها معناه نظفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ليقتدي الناس بكما في ذلك وخامسها قال بعضهم إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار فأمر الله تعالى إبراهيم بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك وهذا ضعيف لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيراً للبيت ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً ولكنه مجاز
أما قوله تعالى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى العكف مصدر عكف يعكف بضم الكاف وكسرها عكفاً إذا لزم الشيء وأقام عليه فهو عاكف وقيل إذا أقبل عليه لا يصرف عنه وجهه
المسألة الثانية في هذه الأوصاف الثلاثة قولان الأول وهو الأقرب أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف فالمراد بالطائفين من يقصد البيت حاجاً أو معتمراً فيطوف به والمراد بالعاكفين من يقيم هناك ويجاور والمراد بالركع السجود من يصلي هناك والقول الثاني وهو قول عطاء أنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين وإذا كان جالساً فهو من العاكفين وإذا كان مصلياً فهو من الرجع السجود
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أمور أحدها أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لأنه تعالى كما خصهم بالطواف دل على أن لهم به مزيد اختصاص وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل وثانيها تدل الآية على جواز الاعتكاف في البيت وثالثها تدل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت فإن قيل لا نسلم دلالة الآية على ذلك لأنه تعالى لم يقل والركع السجود في البيت وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دلت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجهاً إليه قلنا ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت سواء كان ذلك في البيت أو خارجاً عنه وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن يطوف بالبيت ولا يسمى طائفاً بالبيت من طاف في جوفه والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه لقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه واحتج مالك(4/48)
بقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه والجواب أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كل المسجد بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية ورابعها أن قوله لِلطَّائِفِينَ يتناول مطلق الطواف سواء كان منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى كقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أو ثبت حكمه بالسنة أو كان من المندوبات
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا قال القاضي في هذه الآيات تقديم وتأخير لأن قوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود والذي ذكره من بعد وهو قوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ( البقرة 128 ) وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى وههنا مسائل
المسألة الأولى المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وههنا سؤالان
السؤال الأول أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك
الجواب لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها بل كان مقصوده شيئاً آخر
السؤال الثاني المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك وثانيها أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة وثالثها لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة(4/49)
المسألة الثانية بَلَدًا آمِنًا يحتمل وجهين أحدهما مأمون فيه كقوله تعالى فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( القارعة 7 ) أي مرضية والثاني أن يكون المراد أهل البلد كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد
المسألة الثالثة اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه أحدها سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع وثانيها سأله الأمن من الخسف والمسخ وثالثها سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولاً ثم سأله الرزق ثانياً ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكراراً فقال في هذه الآية رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ وقال في آية أخرى رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ثم قال في آخر القصة رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ إلى قوله وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ أو لعله الأمن من القحط ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون إنها كانت كذلك أبداً لقوله عليه السلام ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) وأيضاً قال إبراهيم رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ( إبراهيم 37 ) وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء وقال آخرون إنها إنما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام ( اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) والقول الثالث إنها كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة فالأول يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم والثاني بالأمر على ألسنة الرسل
المسألة الخامسة إنما قال في هذه السورة بَلَدًا آمِنًا على التنكير وقال في سورة إبراهيم هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا على التعريف لوجهين الأول أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً كأنه قال اجعل هذا الوادي بلداً آمناً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( إبراهيم 37 ) فقال ههنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً فكأنه قال اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة كقولك جعلت هذا الرجل آمناً الثاني أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً فقوله اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا تقديره اجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك كان اليوم يوماً حاراً وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا معناه اجعله من البلدان الكاملة في الأمن وأما قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة وأما قوله وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم فاستجاب الله(4/50)
تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء أما قوله مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ فهو يدل من قوله أَهْلِهِ يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة وهو كقوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوماً كفاراً بقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس أما النص فقوله تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( المائدة 124 ) وأما القياس فمن وجهين
الوجه الأول أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته قال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) فصار ذلك تأديباً في المسألة فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً الفرق بين النبوة ورزق الدنيا لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه ومن كفر فالنار مستقره ومأواه
الوجه الثاني يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب أما قوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر فَأُمَتّعُهُ بسكون الميم خفية من أمتعت والباقون بفتح الميم مشددة من متعت والتشديد يدل على التكثير بخلاف التخفيف
المسألة الثانية أمتعه قيل بالرزق وقيل بالبقاء في الدنيا وقيل بهما إلى خروج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر والمعنى أن الله تعالى كأنه قال إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلاً إذ كان واقعاً في مدة عمره وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد وهو بالنسبة إليهما قليل جداً والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة أما قوله ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ فاعلم أن في الإضطرار قولين أحدهما أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك كما قال الله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا و يَوْمٍ يَسْبَحُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) يقال اضطررته إلى الأمر أي الجأته وحملته عليه من حيث كان كارهاً له وقالوا إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها والثاني أن الإضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) ( الأنعام 145 ) ( النحل 115 ) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والإستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور وبئس المصير ضده(4/51)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ يَرْفَعُ حكاية حال ماضية والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات والله أعلم
المسألة الثانية الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل كان إسماعيل عليه السلام شريكاً لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه قال الأكثرون إنه كان شريكاً له في ذلك والتقدير وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفاً على إبراهيم في ذلك ثم ان اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يشتركا في البناء ورفع الجدران والثاني أن يكون أحدهما بانياً للبيت والآخر يرفع إليه الحجر والطين ويهيىء له الآلات والأدوات وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة ومن الناس من قال إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلاً صغيراً وروي معناه عن علي رضي الله عنه وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا إلى من تكلنا فقال إبراهيم إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله مِنَ الْبَيْتِ ثم ابتدؤا وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكاً(4/52)
في الدعاء لا في البناء وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تَقَبَّلْ مِنَّا ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده والله أعلم
المسألة الرابعة إنما قال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى واعلم أن الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء
النوع الأول في قوله تعالى تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تفسير قوله تَقَبَّلْ مِنَّا فقال المتكلمون كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه فشبه الفعل من العبد بالعطية والرضا من الله بالقبول توسعاً وقال العارفون فرق بين القبول والتقبل فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل واعتراف بالعجز والانكسار وأيضاً فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه وتمام تحقيقه سيأتي في تفسير المحبة في قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والله أعلم
المسألة الثانية إنهم بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجباً على الله تعالى لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول يا إلهي اجعل النار حارة والجمد بارداً بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة والجمد حال بقائه على صورته في الإنجماد والبياض حاراً ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلاً والله أعلم
المسألة الثانية إنما عقب هذا الدعاء بقوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كأنه يقول تسمع دعاءنا وتضرعنا وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك فإن قيل قوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك فإن غيره قد يكون سميعاً قلنا إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره
النوع الثاني من الدعاء قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما فإن الجعل عبارة عن الخلق قال الله(4/53)
تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى فإن قيل هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل وإنه باطل لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا مسلمين وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق أحدها جعل بمعنى صير قال الله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ( الفرقان 47 ) وثانيها جعل بمعنى وهب نقول جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس وثالثها جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وقال وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 10 ) ورابعها جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً ( الأنبياء 73 ) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم وقال إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) فهو بالأمر وخامسها أن يجعله بمعنى التعليم كقوله جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك وسادسها البيان والدلالة تقول جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك إذا ثبت ذلك فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال جعلني فلان لصاً وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سلمنا أن المراد من الجعل الخلق لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له ومثاله من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال صيرتك أديباً وجعلتك أديباً وفي خلاف ذلك يقال جعل ابنه لصاً محتالاً سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به وإنما قلنا أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم وبيانه من وجوه الأول أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائماً وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال الثاني أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( الفتح 4 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال إبراهيم وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال الثالث أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله مُسْلِمَيْنِ لَكَ فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما(4/54)
بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر قوله يحمل الجعل على الحكم بذلك قلنا هذا مدفوع من وجوه
أحدها أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة ولا يقال وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه قلنا نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به فكان حمله على الأول أولى وثانيها أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب فكان ذلك الوصف حاصلاً وأي فائدة في طلبه بالدعاء وثالثها أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال جعله مسلماً أما قوله يحمل ذلك على فعل الألطاف قلنا هذا أيضاً مدفوع من وجوه أحدها أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر وثانيها أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز وثالثها أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع فإن وجب فهو المطلوب وإن امتنع فهو مانع لا مرجح وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول قوله الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم قلنا إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مراراً وأطواراً والله أعلم
واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الإسلام قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلان الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر فإذن لا قدرة إلا على الوجود فالقدرة غير صالحة إلا للوجود وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل(4/55)
الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل فثبت أن قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية
المسألة الثانية قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لاحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ههنا قولان أحدهما رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك والثاني قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه
المسألة الثالثة أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) في شرائط الدعاء
أما قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ فالمعنى واجعل من أولادنا و ( من ) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) ومن الناس من قال أراد به العرب لأنهم من ذريتهما و ( أمة ) قيل هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وههنا سؤالات
السؤال الأول قد بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالماً فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً فاذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى
الجواب تلك الدلالة ما كانت قاطعة والشفيق بسوء الظن مولع
السؤال الثاني لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء
والجواب الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم
السؤال الثالث الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه وحينئذ يتوجه الإشكال فإن في زمان أجداد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن أحد من العرب مسلماً ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
والجواب قال القفال أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب ويوحدون الله تعالى ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان
أما قوله تعالى وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى في أَرِنَا قولان الأول معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا(4/56)
الناس إلى حجه فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( الفرقان 45 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( الفيل 1 ) الثاني أظهرها لأعيننا حتى نراها قال الحسن إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك قال نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معاً وهو قول القاضي لأن الحج لايتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان فمن قال بالقول الثاني قال إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ومن قال بالأول قال إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف
المسألة الثانية النسك هو التعبد يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة وسمي أعمال الحج مناسك قال عليه السلام ( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى مناسك أيضاً ويقال المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى المواضع كالمسجد والمشرق والمغرب قال الله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ( الحج 67 ) قرىء بالفتح والكسر وظاهر الكلام يدل على الفعل وكذلك قوله عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول إن حملنا المناسك على مناسك الحج فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط وهو خطأ لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً وهو كونه عملاً من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات أَرِنَا بإسكان الراء في كل القرآن ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد في حم السجدة أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا ( فصلت 29 ) وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن والباقون بالكسرة مشبعة وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم فخذ وكبد وأما(4/57)
الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة
أما قوله وَتُبْ عَلَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلباً للمحال وأما المعتزلة فقالوا إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة ولقائل أن يقول إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها وهي من وجوه أولها يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدداً في الإنصراف عن المعصية لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد كان أقرب إلى ترك المعاصي فيكون ذلك لطفاً داعياً إلى ترك المعاصي وثانيها أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لاينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك وثالثها أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال وَتُبْ عَلَيْنَا أي على المذنبين من ذريتنا والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده إن ولدي أذنب فاقبل عذره لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه والذي يقوي هذا التأويل وجوه الأول ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَّبّ إِنَّهُمْ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 35 36 ) فيحتمل أن يكون المعنى ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب وتغفر له ما سلف من ذنوبه الثاني ذكر أن في قراءة عبد الله وأرهم مناسكهم وتب عليهم الثالث أنه قال عطفاً على هذا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ الرابع تأولوا قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذ كانوا منه فكذلك لا يبعد أن يكون قوله أَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي أر ذريتنا
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله وَتُبْ عَلَيْنَا على أن فعل العبد خلق لله تعالى قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد لكان طلبها من الله تعالى محالاً وجهلاً قالت المعتزلة هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا فقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) ولو كانت فعلاً لله تعالى لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً وإذا ثبت ذلك حمل قوله وَتُبْ عَلَيْنَا على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد قال الأصحاب الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه أولها أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة وثانيها أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة علم(4/58)
وحال وعمل فالعلم أول والحال ثانٍ وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابساً له وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضاً ضروري فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالباً للمضار ودفعاً للمنافع أيضاً أمر ضروري فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف
بقي أن يقال الداخل تحت التكليف هو العلم إلا أن فيه أيضاً إشكالاً لأن ذلك العلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً لم يكن داخلاً تحت الاختبار والتكليف أيضاً وإن كان نظرياً فهو مستنتج عن العلوم الضرورية فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول إما أن يكون كافياً في ذلك الانتاج أو غير كاف فإن كان كافياً كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولاً على تلك العلوم الضرورية واجباً والذي يجب ترتبه على ما يكون خارجاً عن الاختيار كان أيضاً خارجاً عن الاختيار وإن لم يكن كافياً فلا بد من شيء آخر فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلاً فالذي فرضناه غير كاف وقد كان كافياً هذا خلف وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولاً للعلوم النظرية وهذا خلف ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال فثبت بما ذكرنا آخراً أن قوله تعالى وَتُبْ عَلَيْنَا محمول على ظاهره وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل
أما قوله إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم ذكره
النوع الثالث قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ واعلم أنه لا شبهة في أن قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً يريد من أراد بقوله وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعطف عليه بقوله تعالى رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين أحدهما أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام والثاني أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه أحدها ليكون محلهم ورتبتهم في(4/59)
العز والدين أعظم لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها وثانيها أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته وثالثها أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم إذا ثبت هذا فنقول إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة وأما إن الرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدل عليه وجوه أحدها إجماع المفسرين وهو حجة وثانيها ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ) وأراد بالدعوة هذه الآية وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله مُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وثالثها أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
وههنا سؤال وهو أنه يقال ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في باب الصلاة حيث يقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
وأجابوا عنه من وجوه أولها أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة وثانيها أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته وثالثها أن إبراهيم كان أب الملة لقوله مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ومحمد كان أب الرحمة وفي قراءة ابن مسعود ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ) وقال في قصته بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه السلام ( إنما أنا لكم مثل الوالد ) يعني في الرأفة والرحمة فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة ورابعها أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ( الحج 27 ) وكان محمد عليه السلام منادي الدين سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ ( آل عمران 193 ) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم ذكر لذلك الرسول صفات أولها قوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ وفيه وجهان الأول أنها الفرقان الذي أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك فوجب حمله عليه الثاني يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها وثانيها قوله وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً عن التحريف(4/60)
والتصحيف ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونوراً لما فيه من المعاني والحكم والأسرار فلما ذكر الله تعالى أولاً أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ الصفة الثالثة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( والحكمة ) أي ويعلمهم الحكمة واعلم أن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران وقيل أصلها من أحكمت الشيء أي رددته فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل ووضع كل شيء موضعه قال القفال وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه أحدها قال ابن وهب قلت لمالك ما الحكمة قال معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له وثانيها قال الشافعي رضي الله عنه الحكمة سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول قتادة قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام فإن قيل لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة قلنا لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى وثالثها الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل وهو مصدر بمعنى الحكم كالقعدة والجلسة والمعنى يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها ومثال هذا الخبر والخبرة والعذر والعذرة والغل والغلة والذل والذلة ورابعها ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة ( والحكمة ) أراد بها الآيات المتشابهات وخامسها يَعْلَمُهُمْ الْكِتَابِ أي يعلمهم ما فيه من الأحكام ( والحكمة ) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع ومن الناس من قال الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات وبأنه كتاب وبأنه حكمة الصفة الرابعة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( ويزكيهم ) واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين أحدهما أن يعرف الحق لذاته والثاني أن يعرف الخير لأجل العمل به فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص ولم يكن زكياً عنها فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص فقال ( ويزكيهم ) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلاً فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار فإذن هذه التزكية لها تفسيران الأول ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير وتكرير ذلك عليهم ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها(4/61)
دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق الثاني يزكيهم يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت كتزكية المزكي الشهود والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية وللمفسرين فيه عبارات أحدها قال الحسن يزكيهم يطهرهم من شركهم فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب وأن الشرك ينجسهم وأنه تعالى يبعث فيهم رسولاً منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم وثانيها التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس وثالثها ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 57 ) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ والعزيز هو القادر الذي لا يغلب والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل ولا إنزال الكتاب واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام فهو عزيز لا محالة وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه أحدها أن صفات الذات أزلية وصفات الفعل ليست كذلك وثانيها أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات وصفات الفعل ليست كذلك وثالثها أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل وصفات الذات ليست كذلك واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال الإله يجب أن يكون حكيماً لذاته وإذا كان حكيماً لذاته لم يكن القبيح مقدوراً والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح فالإله يستحيل منه فعل القبيح وما كان محال لم يكن مقدوراً إنما قلنا الإله يجب أن يكون حكيماً لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلهاً مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضاً معلوم بالبديهة وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه وأما أن المحال غير مقدور فبين فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح
والجواب عنه أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفهاً منه فزال السؤال والله أعلم
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّة ِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(4/62)
اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعة التي ابتلاه بها ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه من نسب إسرائيل والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه
أما قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى يقال رغبت من الأمر إذا كرهته ورغبت فيه إذا أردته ( ومن ) الأول استفهام بمعنى الإنكار والثانية بمعنى الذي قال صاحب الكشاف ( من سفه ) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك هل جاءك أحد إلا زيد
المسألة الثانية لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع أو يقال هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال
أما الأول فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع
وأما الثاني فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب
وسؤال آخر وهو أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم
وجوابه أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام(4/63)
قال السائل إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته فيفضي إلى الدور وهو ساقط سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولاً من ذريته وذرية إسماعيل فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين
والجواب عن السؤال الأول لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى وعن الثاني أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام ظهور المعجز على يده وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم
المسألة الثالثة في انتصاب ( نفسه ) قولان الأول لأنه مفعول قال المبرد سفه لازم وسفه متعد وعلى هذا القول وجوه الأول امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة ومنه زمام سفيه والدليل عليه ما جاء في الحديث ( الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ) وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة والثاني قال الحسن إلا من جهل نفسه وخسر نفسه وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة والرابع أضل نفسه القول الثاني أن نفسه ليست مفعولاً وذكروا على هذا القول وجوهاً الأول أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه والثاني أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه وذكر النفس تأكيد كما يقال هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه الثالث قرىء إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال وَلَقَدْ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والأمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى قال الحسن من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى(4/64)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى موضع ( إذ ) نصب وفي عامله وجهان الوجه الأول أنه نصب باصطفيناه أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به فإن قيل قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ إخبار عن النفس وقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً قلنا هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مراراً الثاني أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله
المسألة الثانية اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارات الحدوث فيها وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث فلما عرف ربه قال له تعالى أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضاً أن يكون قوله أَسْلَمَ كان قبل الاستدلال فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وأصدق دلالة منه قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( الروم 35 ) فجعل دلالة البرهان كلاماً ومن الناس من قال هذا الأمر كان بعد النبوة وقوله أَسْلَمَ ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر أحدها الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الإعراض بالقلب واللسان وهو المراد من قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) وثانيها قال الأصم ( أسلم ) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار وثالثها استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) ورابعها أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله ( أسلم )(4/65)
وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِى َّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر ( وأوصى ) بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في ( وصى ) دليل مبالغة وتكثير
المسألة الثانية الضمير في ( بها ) إلى أي شيء يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى قوله أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) على تأويل الكلمة والجملة ونحوه رجوع الضمير في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً ( الزخرف 28 ) إلى قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى ( الزخرف 26 ) وقوله كَلِمَة ً بَاقِيَة ً دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة القول الثاني أنه عائد إلى الملة في قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ ( البقرة 130 ) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين الأول أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم الثاني أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين أحدها أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر لأن الوصية عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه كان القول إلى قبوله أقرب وثانيها أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم فلما خصهم بذلك في آخر عمره علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره وثالثها أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر وخامسها أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمال بهذا الأمر ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام وأجراها بالرعاية فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين
أما قوله وَيَعْقُوبَ ففيه قولان الأول وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم والمعنى أنه وصى(4/66)
كوصية إبراهيم والثاني قرىء وَيَعْقُوبَ بالنصب عطفاً على بنيه ومعناه وصى إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب أما قوله أَوْ بَنِى فهو على إضمار القول عند البصريين وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول وفي قراءة أبي وابن مسعود أن يا بني
أما قوله اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره
أما قوله فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فالمراد بعثهم على الإسلام وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلاً نفسه في الخطر والغرور
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ( أم ) معناها حرف الاستفهام أو حرف العطف وهي تشبه من حروف العطف ( أو ) وهي تأتي على وجهين متصلة بما قبلها ومنقطعة منه أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت أزيد عندك أم عمرو فأنت لا تعلم كون أحدهماعنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت أزيد عندك أم عمرو أي اعلم أن أحدهما عندك لكن من هذا أو ذاك وأما المنقطعة فقالوا إنها بمعنى ( بل ) مع همزة الاستفهام مثاله إذا قال إنها لا بل أم شاء فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا فالإضراب عن الأول هو معنى ( بل ) والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام فقولك إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك إنها لا بل أهي شاء فقولك أي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله إنها لا بل وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك أزيد عندك أم عمرو بمعنى أيهما عندك ولم يكن ( ما ) بعد ( أم ) منقطعاً عما قبله بدليل أن عمراً قرين زيد وكفى دليلاً على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول أيهما عندك وقد جاء في كتاب الله تعالى(4/67)
من النوعين كثير أما المتصلة فقوله تعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 27 ) أي أيكما أشد وأما المنقطعة فقوله تعالى الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 1 3 ) والله أعلم بل يقولون افتراه فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده إذ ليس في الكلام معنى أي كما كان في قولك أزيد عندك أم عمرو ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن ( أم ) ههنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن ( أم ) هذه المنقطعة تتضمن معنى بل إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ( أم ) في هذه الآية منفصلة أم متصلة ( والشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت والخطاب مع أهل الكتاب كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو نفس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده
فإن قيل الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل والمحكى عن يعقوب في هذه الآية ليس كلاً ما باطلاً بل حقاً فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه قلنا الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى فأما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية
القول الثاني في أن ( أم ) في هذه الآية متصلة وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت يعني إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء
أما قوله إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال القفال قوله إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ أن ( إذ ) الأولى وقت الشهداء والثانية وقت الحضور
المسألة الثانية الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره
أما قوله مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى ففيه مسألتان
المسألة الأولى لفظة ( ما ) لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق
وجوابه من وجهين الأول أن ( ما ) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون والثاني قوله مَا تَعْبُدُونَ كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان(4/68)
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِى أما قوله قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل الأول المقلدة قالوا إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف الثاني التعليمية قالوا لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية فإنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل عليه العقل بل قالوا نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم
والجواب كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي فليس فيها أيضاً دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلاً على سبيل الاستدلال أقصى ما في الباب أن يقال فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال
والجواب عنه من وجوه أولها أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله وثانيها أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له وثالثها لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) وههنا مرادهم بقولهم نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ أي نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد
المسألة الثانية قال القفال وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى وحكى القاضي عن ابن عباس أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران فقال يا بني ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إهلك وإله آبائك ثم قال القاضي هذا بعيد لوجهين الأول أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين الثاني أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوماً صالحين وذلك لا يليق بحالهم
المسألة الثالثة قوله إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عطف بيان لآبائك قال القفال وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق
المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه الأخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد رضي الله عنهم وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بكر الصديق وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ومن التابعين قول الحسن وطاوس وعطاء أما الأولون وهم الذين يقولون إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان أحدهما أن الجد خير الأمرين إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال ثم الباقي بين الأخوة والأخوات(4/69)
للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب زيد ابن ثابت وقول الشافعي رضي الله عنه والثاني أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطى السدس ولم ينقص منه شيء واحتج أبو حنيفة على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والأخوة فيلزم أن يحجبهم الجد وإنما قلنا إن الجد أب للآية والأثر أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فأطلق لفظ الأب على الجد
فإن قيل فقد أطلقه في العم وهو إسماعيل مع أنه بالاتفاق ليس بأب
قلنا الاستعمال دليل الحقيقة ظاهراً ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( يوسف 38 )
وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال من شاء لاعنته عند الحجر الأسود إن الجد أب وقال أيضاً ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ ( النساء 11 ) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقياً قال الشافعي رضي الله عنه لا نسلم أن الجد أب والدليل عليه وجوه أحدها أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ( البقرة 132 ) فإن الله تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم فلو كان الصاعد في الأبوة أباً لكان النازل في البنوة ابناً في الحقيقة فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب وثانيها لو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أباً كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة
فإن قيل اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي
قلنا لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه وثالثها لو كان الجد أباً على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أماً وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير ورابعها لو كان الجد أباً ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أماً ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب وخامسها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) فلو كان الجد أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه أولها أنه قرأ أبي وَإِلَاهَ إِبْرَاهِيمَ بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة بل الجواب أن يقال إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس ( هذا بقية آبائي ) وقال ( ردوا على أبي ) فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل(4/70)
المجاز والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد ولو كان حقيقة لما كان كذلك وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم
أما قوله تعالى إِلَهاً واحِداً فهو بدل إِلَهٍ آبَائِكَ كقوله بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ ( العلق 15 16 ) أو على الاختصاص أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه أحدها أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في ( له ) وثانيها يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد وثالثها أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون
أما قوله تعالى تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون و ( الأمة ) الصنف ( خلت ) سلفت ومضت وانقرضت والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم والآية دالة على مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على بطلان التقليد لأن قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع فكأنه قال إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق
المسألة الثانية الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان واتباع محمد عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم من مخالفته
المسألة الثالثة الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وقال ( ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وقال الله تعالى فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) وقال تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 )
المسألة الرابعة الآية تدل على بطلان قول من يقول الأبناء يعذبون بكفر آبائهم وكان اليهود يقولون إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل وهو قوله تعالى وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك
المسألة الخامسة الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسباً دخول شيء من الأعراض بقدرته(4/71)
من العدم إلى الوجود ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات أحدها وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب وثانيها أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة وهو قول أبي بكر الباقلاني وثالثها أن القدرة الحادثة والقدرة القديمة إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين
أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة فهم فريقان الأول الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به
الفريق الثاني من المعتزلة وهم الذين يقولون القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا الفعل والكسب قالت المعتزلة للأشعري إذا كان مقدور العبد واقعاً بخلق الله تعالى فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل وإذا لم يخلقه فيه استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكناً من الفعل والترك ولا معنى للقادر إلا ذلك فالعبد ألبتة غير قادر وأيضاً فهذا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله أو لم يقع ألبتة بقدرة الله أو وقع بالقدرتين معاً فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثراً فكيف يكون مكتسباً له وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب وإن وقع بالقدرتين معاً فهذا محال لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع فعند تعلق قدرة الله تعالى به فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر وأما قول الباقلاني فضعيف لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة قال أهل السنة كون العبد مستقلاً بالإيجاد والخلق محال لوجوه أولها أن العبد لو كان موجداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وهو غير عالم بتلك التفاصيل فهو غير موجد لها وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لكان كونه موجداً لذلك الفعل زائداً على ذات ذلك الفعل(4/72)
وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجداً له والمعقول غير المغفول عنه ثم تلك الموجدية حادثة فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى ولزم التسلسل وهو محال وإن كان الله تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم فكانت موجديته قديمة فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقن في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي
وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام
الشبهة الأولى حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة بل أصروا على التقليد فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد فكأنه سبحانه قال إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر فقد قدمنا الدلائل وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى
فإن قيل أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام
قلنا لما ثبت أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث واليهود يقولون بالتشبيه فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد كان هو على دين إبراهيم
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ أما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى فلا يجوز أن يكون المراد به التخيير إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية بل تزعم أنه كفر والمعلوم من حال النصارى أيضاً ذلك بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية فكل فريق يدعو إلى دينه ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله تَهْتَدُواْ أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة أما قوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ففي اتنصاب ملة أربعة أقوال الأول لأنه عطف في المعنى على قوله كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى وتقديره قالوا اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم الثاني على الحذف تقديره بل نتبع ملة إبراهيم الثالث تقديره بل نكون أهل ملة إبراهيم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 92 ) أي أهلها الرابع التقدير بل اتبعوا ملة إبراهيم وقرأ(4/73)
الأعرج ( ملة إبراهيم ) بالرفع أي ملته ملتنا أو ديننا ملة إبراهيم وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبراً
أما قوله حَنِيفاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى لأهل اللغة في الحنيف قولان الأول أن الحنيف هو المستقيم ومنه قيل للأعرج أحنف تفاؤلاً بالسلامة كما قالوا للديغ سليم والمهلكة مفازة قالوا فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف وهو مروي عن محمد بن كعب القرطي الثاني أن الحنيف المائل لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها وتحنف إذا مال فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله أي مال إليه فقوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا أي مخالفاً لليهود والنصارى منحرفاً عنهما وأما المفسرون فذكروا عبارات أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد أن الحنيفية حج البيت وثانيها أنها اتباع الحق عن مجاهد وثالثها اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام ورابعها إخلاص العمل وتقديره بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم قال القفال وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات وأصله من إبراهيم عليه السلام
المسألة الثانية في نصب حنيفاً قولان أحدهما قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك رأيت وجه هند قائمة الثاني أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب قاله نحاة الكوفة
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود(4/74)
والنصارى شركاء على ما بيناه لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله وذلك شرك وثانيها أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة من حج البيت والختان وغيرهما فمن دان بذلك فهو حنيف وكان العرب تدين بهذه الأشياء ثم كانت تشرك فقيل من أجل هذا حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ونظيره قوله حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ( الحج 31 ) وقوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ( يوسف 106 ) قال القاضي الآية تدل على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله إفحاً ماله وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه فقال إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع ولقائل أن يقول اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى
والجواب أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام
قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولاً ذكر بعده جواباً برهانياً في هذه الآية وهو أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلاً فهذا هو المراد من قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا إلى آخر الآية وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية فإن قيل كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة قلنا نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه وأنكروا نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قيام المعجز على يده فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق ثم نقول في الآية مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( البقرة 135 ) ثم قال لأمته قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وهذا قول الحسن وقال القاضي قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ يتناول جميع المكلفين أعني النبي عليه السلام وأمته والدليل عليه وجهان أحدهما أن قوله قُولُواْ خطاب عام فيتناول الكل الثاني أن قوله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا لا يليق إلا به ( صلى الله عليه وسلم ) فلا أقل من أن يكون هو داخلاً فيه واحتج الحسن على قوله بوجهين الأول أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ الثاني أنه في نهاية الشرف والظاهر إفراده بالخطاب
والجواب أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ أما قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى الكتاب والسنة
أما قوله وَالاسْبَاطَ قال الخليل السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب وقال صاحب ( الكشاف ) السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأسباط الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر(4/75)
أما قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ففيه وجهان الأول أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز الثاني لا نفرق بين أحد منهم أي لا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانات بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال الله تعالى شَرَعَ لَكُم فِى الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ الوجه الأول أليق بسياق الآية
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول والبعض بالرد فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له بل اتباع الهوى والميل
فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته وأن يحترز في ذلك عن المناقضة رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ
من وجوه أحدها أن المقصود منه التثبيت والمعنى إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وإنما قلنا إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة والمتناقض يستحيل أن يكون مساوياً لغير المتناقض في السداد والصحة وثانيها أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) أي ليس كهو شيء وقال الشاعر وصاليات ككما يؤثفين وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول والله لولا حنف برجله
ودقة في ساقه من هزله
ما كان منكم أحد كمثله(4/76)
وثالثها أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورابعها أن يكون قوله فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به قال القاضي لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهباً لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد
أما قوله فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه ومن هذا حاله يكون ولياً لله داخلاً في أهل رضوانه فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ وفي الشقاق بحثان
البحث الأول قال بعض أهل اللغة الشقاق مأخذو من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها ونظيره المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر وقال آخرون إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر
البحث الثاني قوله وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة ثم للمفسرين عبارات أولها قال ابن عباس رضي الله عنهما فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله وثانيها قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاتل أي في ضلال وثالثها قال ابن زيد في منازعة ومحاربة ورابعها قال الحسن في عداوة قال القاضي ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به قال المتكلمون هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدقة وإنما قلنا إنه إخبار عن الغيب وذلك لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون ألبتة(4/77)
على التخلص من أيديهم وإنما قلنا إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل قال الملحدون لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضاً للعادة وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له اصبر فإن الله يكفيك شره ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى وإذا كان هذا معتاداً فكيف يقال إنه معجز وأيضاً لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها وذلك مما لاسبيل إلى دفعه فإن المنجمين يقولون من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبياً والجواب أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الإخبار وحده معجز بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه وجهان الأول أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه الثاني أنه وعد للرسول عليه السلام يعني يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرداك واحتج الأصحاب بقوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله عَلِيمٌ بناء مبالغة فيتناول كونه عالماً بجميع المعلومات فلو كان كونه سميعاً عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عليماً والله أعلم بالصواب
أما قوله بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ ففيه إشكال وهو أن الذي آمن به المؤمنون ليس له مثل وجوابه
صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الجواب الثاني وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال صِبْغَة َ اللَّهِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى الصبغ ما يلون به الثياب ويقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها لغتان ( والصبغة ) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال الأول أنه دين الله وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوهً أحدها أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً فقال الله تعالى اطلبوا صبغة الله وهي الدين والإسلام لا صبغتهم والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً مواظباً على الكرم ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ(4/78)
( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ( هود 38 ) وثانيها اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم عن قتادة قال ابن الأنباري يقال فلان يصبغ فلاناً في الشيء أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثواب وأنشد ثعلب دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا
إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وثالثها سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ورابعها قال القاضي قوله صِبْغَة َ اللَّهِ متعلق بقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( البقرة 136 ) إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( العنكبوت 46 ) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم القول الثاني أن صبغة الله فطرته وهو كقوله فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة قال القاضي من حمل قوله صِبْغَة َ اللَّهِ على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع وهو الدين أيضاً لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فكأنه تعالى قال في ذلك إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا كظهور حسن الصبغة وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه ولنذكر الآن بقية أقوال المفسرين
القول الثالث أن صبغة الله هي الختان الذي هو تطهير أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية
القول الرابع إنه حجة الله عن الأصم وقيل إنه سنة الله عن أبي عبيدة والقول الجيد هو الأول والله أعلم
المسألة الثانية في نصب صبغة أقوال أحدها أنه بدل من ملة وتفسير لها الثاني اتبعوا صبغة الله الثالث قال سيبويه إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله بِاللَّهِ فَإِذَا كما انتصب وعد الله عما تقدمه
أما قوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً فالمراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته
أما قوله تعالى وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ فقال صاحب ( الكشاف ) إنه عطف على بِاللَّهِ فَإِذَا وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام(4/79)
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهاً أحدها أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا وثانيها قولهم نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان وثالثها قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) عن الحسن ورابعها أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ أي أتحاجوننا في دين الله
المسألة الثانية هذه المحاجة كانت مع من ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه خطاب لليهود والنصارى وثانيها أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا لَوْلا أُنزِلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) والعرب كانوا مقرين بالخالق وثالثها أنه خطاب مع الكل والقول الأول أليق بنظم الآية
أما قوله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ففيه وجهان الأول أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له الثاني أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم فلم ترجحون أنفسكم علينا بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية ولستم كذلك وهو المراد بقوله وَنَحْنُ لَهُ وهذا التأويل أقرب
أما قوله تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق وأما معنى الإخلاص فقد تقدم
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(4/80)
اعلم أن في الآية مسألتين
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم أَمْ تَقُولُونَ بالتاء على المخاطبة كأنه قال أتحاجوننا أم تقولون والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى فعلى الأول يحتمل أن تكون ( أم ) متصلة وتقديره بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا أبالتوحيد فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون وأن تكون منقطعة بمعنى بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضاً وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول كأنه قيل أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى
المسألة الثانية إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه أحدها لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ثبتت نبوته بسائر المعجزات وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه وثانيها شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية وثالثها أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم ورابعها أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون
أما قوله تعالى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية فإن قيل إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام قلنا من قال إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم
أما قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب علمنا أنه ليس الأمر كذلك وثانيها ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله مِنَ اللَّهِ تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها وثالثها أن يكون مِنْ في قوله مِنَ اللَّهِ صلة الشهادة والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك
أما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فهو الكلام الجامع لكل وعيد ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيراً فخير وإن شراً فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول(4/81)
تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء بهذه الآية لوجوه أحدها ليكون وعظاً لهم وزجراً حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله وثانيها أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ملة إلى ملة أخرى وثالثها أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد فإن قيل لم كررت الآية قلنا فيه قولان أحدهما أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه والثانية أسلاف اليهود قال الجبائي قال القاضي هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هوداً فكأنهم قالوا إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله تِلْكَ أُمَّة ٌ يجب أن يكون عائداً إليهم والقول الثاني أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثاً فكأنه تعالى قال ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم
سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وكلاهما لا يليق بالحكيم وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد وإما أن يكون مقيداً بلا دوام وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له وإن كان مقيداً بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً ثم إنه رفعه بعد ذلك فههنا كان جاهلاً ثم بدا له ذلك وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى فكان النسخ منه محالاً فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن(4/82)
يكون مبطلاً فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثاً والعبث لا يليق بالحكيم فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم
أما قوله سَيَقُولُ السُّفَهَاء ففيه قولان الأول وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى فصح على هذا التأويل أن يقال سيقول السفهاء من الناس ذلك وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية القول الثاني إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد أحدها أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً وثانيها أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً وثالثها أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضراً فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ( البقرة 13 ) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره يوصف بالخفة والسفه ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود وعلى المشركين وعلى المنافقين وعلى جملتهم ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين فأولها قال ابن عباس ومجاهد هم اليهود وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا قد عاد إلى طريقة آبائه واشتاق إلى دينهم ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة فقالوا ما حكى الله عنهم في هذه الآية وثالثها قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم إنهم مشركو العرب وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى بيت المقدس حين كان بمكة والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه لكان أولى به وثالثها أنهم المنافقون وهو قول السدي وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض(4/83)
الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم قال الله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ( البقرة 13 ) ورابعها أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضاً يدل عليه وهو قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فوجب أن يتناول الكل قال القاضي المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً قلنا هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ألبتة
أما قوله تعالى مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) وقوله مَا وَلَّاهُمْ استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب
المسألة الثانية في هذا التولي وجهان الأول وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله مَا وَلَّاهُمْ للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهراً وعن قتادة بعد ستة عشر شهراً وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً من مقدمه قال الواقدي صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً وقال آخرون بل سنتان الوجه الثاني قول أب مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوجهاً نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكراً فقالوا كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين فقال الله تعالى راداً عليهم قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم
المسألة الثالثة قال القفال القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وهي من المقابلة وإنما سميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله وقال قطرب يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة أي ليس له جهة يأوي إليها وهو أيضاً مأخوذ من الإستقبال وقال غيره إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر وقال بعض المحدثين(4/84)
جعلت مأواك لي قرارا
وقبلة حيثما لجأت
أما قوله تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى فإن قيل ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة قلنا أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة أما أهل السنة فإنهم يقولون لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده وإما أن لا يكون كذلك بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان فإن كان الأول كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وذلك على الله محال وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء أو ليس الأمر كذلك وحينئذ يعود التقسيم وثانيها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة أو لا يكون قادراً عليه فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال وثالثها أنه تعالى إن فعل فعلاً لغرض فذلك الغرض وإن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر ولزم الدور أو التسلسل وهو محال ورابعها أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض وخامسها ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر والكفر والإيمان والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته وذلك يبطل القول بالغرض لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد وسادسها أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل إما أن يكون جائزاً أو وجباً فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل ولأنه يلزم صحة العدم على القديم وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله(4/85)
تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب والملك يرجع حاصله إلى القدرة ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا أما المعتزلة فقد قالوا لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا وتارة مستورة خفية عنا وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا وإذا كان الأمر كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام
المسألة الرابعة في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً أحدها أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير وضع له صورة معينة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه وأن لا يكون معرضاً عنه وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ويبالغ في الخدمة والتضرع له فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة وثانيها أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام كان استقبال تلك الجهة أولى وثالثها أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( المائدة 7 ) إلى قوله إِخْوَانًا ولو توجه كل واحد في صلاته إلى ناحية أخرى لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً فعين الله تعالى لهم جهة معلومة وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير ورابعها أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله بَيْتِى َ وخص المؤمنين باضافتهم بصفة العبودية إليه وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال يا مؤمن أنت عبدي والكعبة بيتي والصلاة خدمتي فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي وبقلبك إلي وخامسها قال بعض المشايخ إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه وذلك قوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) الآية والنصارى استقبلوا المغرب لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق لقوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله ومولد حبيب(4/86)
الله وهي موضع حرم الله وكان بعضهم يقول استقبلت النصارى مطلع الأنوار وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً وسادسها قالوا الكعبة سرة الأرض ووسطها فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق وسابعها أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود فأنزل الله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( البقرة 144 ) الآية وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق وقال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة 144 ) ولم يقل قبلة أرضاها والإشارة فيه كأنه تعالى قال يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنعام 52 ) وقال في الإعراض عن القبلة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فكأنه تعالى قال الكعبة قبلة وجهك والفقراء قبلة رحمتي فإعراضك عن قبلة وجهك يوجب كونك ظالماً فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون وثامنها العرش قبلة الحملة والكرسي قبلة البررة والبيت المعمور قبلة السفرة والكعبة قبلة المؤمنين والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين قال الله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وثبت أن العرش مخلوق من النور والكرسي من الدر والبيت المعمور من الياقوت والكعبة من جبال خمسة من طور سينا وطور زيتا والجودي ولبنان وحراء والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب والتحقيق هو الأول
المسألة الخامسة في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث فلا يكون ذلك من فعل الحكيم
والجواب عنه أما على قول أهل السنة إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان الأول أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات وبيانه من وجوه أحدها أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً وذلك مصلحة مطلوبة وثانيها أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد وثالثها أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر وذلك مخل بالخضوع والخشوع فهذا يناسب(4/87)
الصرف عن تلك القبلة ورابعها أن الكعبة منشأ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل والمفضي إلى المطلوب مطلوب فكان تحويل القبلة مناسباً وخامسها أن الله تعالى بين ذلك في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود
أما قوله يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فالهداية قد تقدم القول فيها قالت المعتزلة إنما هي الدلالة الموصلة والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة قال أصحابنا هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه والأولان باطلان لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى
وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الكاف في كَذالِكَ كاف التشبيه والمشبه به أي شيء هو وفيه وجوه أحدها أنه راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً وثانيها قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطاً وثالثها أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً ورابعها يحتمل عندي أن يكون التقدير وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 115 ) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلاً منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً وخامسها أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً
المسألة الثانية اعلم أنه إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله أُمَّة ً وَسَطًا والظرف مخفف تقول جلست وسط القوم واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور أحدها أن الوسط هو العدل(4/88)
والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما الآية فقوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( القلم 28 ) أي أعدلهم وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمة وسطاً قال عدلاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الأمور أوسطها ) أي أعدلها وقيل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أوسط قريش نسباً وقال عليه الصلاة والسلام ( عليكم بالنمط الأوسط ) وأما الشعر فقول زهير هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في ( الصحاح ) وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا أي عدلاً وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب وأما المعنى فمن وجوه أحدها أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً وثانيها إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين وثالثها لا شك أن المراد بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله ( وسطاً ) ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة ورابعها أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة
القول الثاني أن الوسط من كل شيء خياره قالوا وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه الأول أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب ( الكشاف ) اكتريت جملاً من أعرابي بمكة للحج فقال أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى الثاني أنه مطابق لقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 )
القول الثالث أن الرجل إذا قال فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلاً وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى
القول الرابع يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب قالت المعتزلة المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل أجاب الأصحاب عنه من وجوه الأول أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل(4/89)
على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب وقد بينا مراراً كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي والكلام المنقوض لا التفات إليه ألبتة الوجه الثاني أنه تعالى قال قبل هذه الآية يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى الوجه الثالث أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة الوجه الرابع وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
المسألة الرابعة احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين الأول أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله تعالى وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال الثاني أن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلال الأصل سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك لا نزاع فيه لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع(4/90)
والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم فإن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع لأن قوله جَعَلْنَاكُمْ خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلاً لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم مثاله أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحداً من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف ولهذا قال كثير من العلماء إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطىء قوله لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى قلنا هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه قوله لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا خبر الله تعالى صدق والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه وفعل الصغيرة ليس بخير فالجمع بينهما متناقض ولقائل أن يقول الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور أو في بعض الأمور ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض يصدق عليه أنه خير فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) يتناول الكل ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قلنا لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال أُمَّة ً وَسَطًا فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر
المسألة الخامسة اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ(4/91)
تحصل في الآخرة أو في الدنيا فالقول الأول إنها تقع في الآخرة والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه
أولها أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون وهذا باطل عند القاضي إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 23 24 )
وثانيها أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء وجوابه الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهاراً لعدالتهم وكشفاً عن فضيلتهم ومنقبتهم
وثالثها أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه
الوجه الثاني قالوا معنى الآية لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد الأشهاد أربعة أولها الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد قال تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) وقال مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الإنفطار 10 12 ) وثانيها شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( المائدة 117 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته في هذه الآية لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وقال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وثالثها شهادة أمة محمد خاصة قال تعالى وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الز ( مر 69 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ ( غافر 51 ) ورابعها شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه قال تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ( النور 24 ) الآية وقال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( يس 65 ) الآية القول الثاني أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو(4/92)
الرؤية يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة إذا عرفت هذا فنقول إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة لأن الله تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا إنما قلنا إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال وإنما قلنا إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا فإن قيل تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة قلنا الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء لا التحمل فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضاً واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به فالحاصل أن قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم عند الإجماع يبين للناس الحق ويؤكد ذلك قوله تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا يعني مؤدياً ومبيناً ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم
المسألة السادسة دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل
المسألة السابعة إنما قال شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ولم يقل شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال فإن قيل لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً قلنا لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم(4/93)
قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ
اعلم أن قوله وَمَا جَعَلْنَا معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ ( المائدة 103 ) أي ما شرعها ولا جعلها ديناً وقوله كُنتَ عَلَيْهَا أي كنت معتقداً لاستقبالها كقول القائل كان لفلان على فلان دين وقوله كُنتَ عَلَيْهَا ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة التي كنت عليها ثم ههنا وجهان الأول أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل القبلة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة فنقول وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أولاً يعني وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء الثاني يجوز أن يكون قوله الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه وههنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها لأنه قد يقال كنت بمعنى صرت كقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وقد يقال كان في معنى لم يزل كقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( النساء 158 ) فلا يمتنع أن يراد بقوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا
أما قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم
المسألة الثانية وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلاً فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ونظيره في الإشكال قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) وقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ( الأنفال 66 ) وقوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ ( العنكبوت 3 ) وقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاْخِرَة ِ ( سبأ 21 ) والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله وَإِذِ ابْتَلَى والمفسرون أجابوا عنه من وجوه(4/94)
أحدها أن قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا البلدة الفلانية بمعنى فتحها أولياؤنا ومنه يقال فتح عمر السواد ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه ( استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وادهراه وأنا الدهر ) وفي الحديث ( من أهان لي ولياً فقد أهانني ) وثانيها معناه ليحصل المعدوم فيصير موجوداً فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنعلمه موجوداً فإن قيل فهذا يقتضي حدوث العلم قلنا اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور وثالثها إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ورابعها إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنرى ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية والرؤية مكان العلم كقوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ( الفجر 6 ) ( الفيل 1 ) ( إبراهيم 19 ) ورأيت وعلمت وشهدت ألفاظ متعاقبة وخامسها ما ذهب إليه الفراء وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل الحطب يحرق النار ويقول العاقل بل النار تحرق الحطب وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه لنعلم أينا الجاهل فكذلك قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ( سبأ 24 ) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب فكذا قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ وسادسها نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك وسابعها أن العلم صلة زائدة فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ معناه إلا ليحصل اتباع المتبعين وانقلاب المنقلبين ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى أنه لو كان لعلمه الله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها فمن الناس من قال إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه روى القفال عن ابن جريح أنه قال بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا وقال السدي لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها وقال المسلمون لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس وقال آخرون اشتاق إلى بلد أبيه ومولده وقال المشركون تحير في دينه(4/95)
واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكان حمله عليه أولى
المسألة الرابعة قوله مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ استعارة ومعناه من يكفر بالله ورسوله ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( المدثر 23 ) وكما قال كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) وكل ذلك تشبيه
أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( إن ) المكسورة الخفيفة معناها على أربعة أوجه جزاء ومخففة من الثقيلة وجحد وزائدة أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك إن جئتني أكرمتك وأما الثانية وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة ءانٍ المشددة كقولك إن زيداً لقائم قال الله تعالى إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( الطارق 4 ) وقال إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ( الإسراء 108 ) ومثله في القرآن كثير والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ ( الملك 20 ) وقوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأحقاف 9 ) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الإسم والفعل جميعاً كما وصفنا وأما الثالثة وهي التي للجحد كقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقال إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) وقال وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا ( فاطر 41 ) أي ما يمسكهما وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك ما إن رأيت زيداً
إذا عرفت هذا فنقول ءانٍ في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً ( البقرة 143 ) هي المخففة التي تلزمها اللام والغرض منها توكيد المعنى في الجملة
المسألة الثانية الضمير في قوله كَانَتْ إلى أي شيء يعود فيه وجهان
الأول أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا ( البقرة 143 ) الثاني أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة والتأنيث للتولية لأنه قال مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ثم قال عطفاً على هذا وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً أي وإن كانت التولية لأن قوله وَمَا وَلَّاهُمْ يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) ويحتمل أن يكون المعنى وإن كانت هذه الفعلة نظيره قوله فيها ونعمت واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة أو بتحويل القبلة وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً
أما قوله تعالى لَكَبِيرَة ٌ فالمعنى لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ(4/96)
( الكهف 5 ) أي عظمت الفرية بذلك وقال الله تعالى سُبْحَانَكَ هَاذَا عَذَابٌ عظِيمٌ ( النور 16 ) وقال إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ( الأحزاب 53 ) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة قلنا إن تركها ثقيل عليهم لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة
أما قوله إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة والوجهان الأولان ههنا باطلان وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه والهداية بمعنى الدعوة ووضع الدلائل عامة في حق الكل فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب قالت المعتزلة الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك وثانيها أراد به الاهتداء وثالثها أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم
والجواب عن الكل أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة وسعد بن زرارة والبراء بن عازب والبراء بن معرور وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
واعلم أنه لا بد من هذا السبب وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلاً فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ومن تكليف إلى تكليف والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ( المائدة 93 ) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى فإن قيل إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة قلنا الجواب من وجوه أحدها أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق وثانيها لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك فذكر الله(4/97)
تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك وثالثها لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم
القول الثاني وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك
القول الثالث أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن
القول الرابع كأنه تعالى قال وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ خطاب مع من على قولين الأول أنه مع المؤمنين وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة الأول أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ وذلك جواب عما سألوه من قبل الثاني أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ الثالث يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) الرابع يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل إيمانكم للأحياء والأموات إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم
القول الثاني قول أبي مسلم وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا
المسألة الثالثة استدلت المعتزلة بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة والجواب لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة
المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد(4/98)
انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ ( آل عمران 195 )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) لأنه إفضال من الله وإنعام فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً
المسألة الثانية ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً أحدها أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( الحج 65 ) والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة وثانيها أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا وثالثها قال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكأنه تعالى قال وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم
المسألة الثالثة قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ مهموزاً غير مشبع على وزن رعف والباقون رؤف مثقلاً مهموزاً مشبعاً على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضاً كحزر ورأف على وزن فعل
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفاً رحيماً بهم وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفاً رحيماً فلعى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفاً رحيماً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً والله أعلم
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(4/99)
اعلم أن قوله رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فيه قولان
القول الأول وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس ويحب التوجه إلى الكعبة إلا أنه ما كان يتكلم بذلك فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى روى عن ابن عباس أنه قال ( يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها ) فقال له جبريل ( أنا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أموراً الأول أن اليهود كانوا يقولون إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم الثاني أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم الثالث أنه عليه السلام كان يقدر أن يصير ذلك سبباً لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام الرابع أنه عليه السلام أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر واعترض القاضي على هذا الوجه وقال أنه لا يليق به عليه السلام أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ويميل إليها بحسب شهوته لأنه عليه السلام علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل واعلم أن هذا التأويل قليل التحصيل لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه فذلك مما لا إنكار عليه لا سيما إذا لم ينطق به أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه
الوجه الثاني أنه عليه السلام قد استأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة
الوجه الثالث قال الحسن إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ولم يبين له إلى أي موضع يحولها ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي لأنه عليه السلام علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة والقائلون بهذا الوجه اختلفوا فمنهم من قال إنه عليه السلام منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم وقال آخرون بل وعد بذلك وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية نحو رغبة العرب في الإسلام والمباينة عن اليهود وتمييز الموافق من المنافق فلهذا كان يقلب وجهه وهذا الوجه أولى وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة والمفسرة أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ولأنه لا يجوز أن(4/100)
يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه الرابع أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء
القول الثاني وهو قول أبي مسلم الأصفهاني قالوا لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
المسألة الثانية اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس فقال قوم كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وقال قوم بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها وقال قوم بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولاً سبعة عشر شهراً ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح
المسألة الثالثة اختلفوا في توجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره فقال الربيع بن أنس قد كان مخيراً في ذلك وقال ابن عباس كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخاً واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ(4/101)
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب ( أحكام القرآن ) أن نفراً قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة وكان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة
المسألة الرابعة المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة ومن الناس من قال التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واحتجوا عليه بالقرآن والأثر أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم ذكر بعد سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم ذكر بعده فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فلزم أن يكون قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل فثبت ما قلناه وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن إنما المذكور في القرآن وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فوجب أن يكون قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ناسخاً لذلك لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس
أما قوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس
المسألة الثانية قوله تَرْضَاهَا فيه وجوه أحدها ترضاها تحبها وتميل إليها لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع قال القاضي هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك وثانيها قِبْلَة ً تَرْضَاهَا أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية وثالثها قال الأصم أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا فلما تحولت القبلة ارتدوا ورابعها تَرْضَاهَا أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه
أما قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه
المسألة الثانية قال أهل اللغة الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه والثاني نحوه وتلقاءه وجهته واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب ( الرسالة ) على هذا بأبيات أربعة قال خقاف بن ندبة ألا من مبلغ عمراً رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة أقول لأم زنباع أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي وقد أظلكم من شطر شعركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا(4/102)
وقال آخر إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه يريد تلقاءها بصر العينين مسحور إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
الأول وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه قرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام
القول الثاني وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني النصف من كل جهة وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة قال القاضي ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان الأول أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته الثاني أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة فإنه لو قيل فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة فلما قيل فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حصلت هذه الفائدة الزائدة فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة وهي أنه لو قال فول وجهك المسجد الحرام لزم تكليف ما لا يطاق لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد أما إذا قال فول وجهك شطر المسجد الحرام أي جانب المسجد دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا هذه الفائدة مستفادة من قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فلا يبقى لقوله شطر المسجد الحرام زيادة فائدة هذا تقرير هذا الوجه وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني إلا أن اللفظ لا يدل عليه وقد اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو فحكي في كتاب ( شرح السنة ) عن ابن عباس أنه قال البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك وقال آخرون القبلة هي الكعبة والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أخبرني أسامة بن زيد قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة قال القفال وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة وفي خبر البراء بن عازب ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء فأتاهم آت فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس جاء منادي رسول الله فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات وقال آخرون بل المراد المسجد الحرام كله قالوا لأن الكلام(4/103)
يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع وقال آخرون المراد من المسجد الحرام الحرم كله والدليل عليه قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسرى به خارج المسجد فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام
المسألة الثالثة قال صاحب التهذيب الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام والقوم يقفون مستديرين بالبيت فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة وعند أبي حنيفة تصح لأن عنده الجهة كافية وهذا اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء حجة الشافعي رضي الله عنه القرآن والخبر والقياس أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له وواقعاً في سمته والدليل عليه أنه إنما يقال إن زيداً ولى وجهه إلى جانب عمرو ولو قابل بوجهه وجهه وجعله محاذياً له حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخر لا يقال إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب
وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشورعاً ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وكون غيرها قبلة أمر مكشوك والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة واحتج أبو حنيفة بأمور الأول ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلاً للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل الصحابة فمن وجهين الأول أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة لأن المدينة بينهما فقيل لهم ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ولم ينكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم وسمي مسجدهم بذي القبلتين ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل الثاني أن الناس من عهد(4/104)
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة
وأما القياس فمن وجوه الأول لو كان استقبال عين الكعبة واجباً إما علماً أو ظناً وجب أن لا تصح صلاة أحد قط لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب والنادر ملحق به فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة فإن قيل الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها بل نرى كل قطعة منها شبيهاً بالخط المستقيم فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة قلنا هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطأ مستقيماً وكل ذلك محال فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة لا يمكن أن يكون في محل التكليف وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلاً بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكل والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكاً في صحة صلاته وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظناً وهذا كلام بين الثاني أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل أحد ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب فإن قيل عندنا استقبال عين الجهة واجب ظناً لا يقيناً والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظناً قلنا لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب(4/105)
الثالث لو كان استقبال العين واجباً إما علماً أو ظناً ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الإمارات وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الامارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب
المسألة الرابعة في دلائل القبلة اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال والقرى والأنهار أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح أو سماوية وهي النجوم
أما الأرضية والهوائية غير مضبوطة ضبطاً كلياً فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية أما التقريبية فقد قالوا هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين أم هي على العين اليمنى أم اليسرى أو تميل إلى الجبين ميلاً أكثر من ذلك فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر وأما وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب وهو أن يعرف بأن الشمس تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه وكذلك يعرف وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق ويعرف وقت الصبح بمشرق الشمس فكان الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف فإن المشارق والمغارب كثيرة وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد وأما الليليلة فهو أن يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس وموقع القطر وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها
وأما الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رؤسنا ورؤوس أهل مكة وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف قالوا ويحتاج في معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول مكة وعرضها فإن كان طول البلد مساوياً لطول مكة وعرضها مخالف لعرض مكة كان سمت قبلتها على خط نصف النهار فإن كان البلد شمالياً فإلى الجنوب وإن كان جنوبياً فإلى الشمالي وأما إذا كان عرض البلد مساوياً لعرض مكة وطوله مخالفاً لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ وقد يمكن أيضاً في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول مكة وعرضها أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومعربه وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رؤس أهل مكة من فلك البروج وهو ( زيح ) من الجوزاء ( وكج ح ) من(4/106)
السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الاسطرلاب المعمول لعرض البلد ويعلم على المرئي علامة ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقياً عن مكة كما في بلاد خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رؤوس أهل مكة ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أهل مكة فينصب مقياساً ويخط على ظل المقياس خطاً من مركز العمود إلى طرف الظل فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب فهذا هو الكلام في دلائل القبلة
المسألة الخامسة معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ففيه وجهان أصحهما فرض على العين لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب
المسألة السادسة اعلم أن قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عام في الأشخاص والأحوال إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب بل أنه طاعة لقوله عليه السلام ( خير المجالس ما استقبل به القبلة ) فيبقى أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة ثم نقول الرجل إما أن يكون معايناً للقبلة أو غائباً عنها أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال وأما الغائب فإما أن يكون قادر على تحصيل اليقين أو لا يقدر عليه لكنه يقدر على تحصيل الظن أو لا يقدر على تحصيل اليقين ولا على تحصيل الظن فهذه أقسام ثلاثة
القسم الأول القادر على تحصيل العلم وفيه بحثان
البحث الأول قد عرفت أن الغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل الهندسية وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل الهندسية فرض عين على كل أحد إلا أن الفقهاء قالوا إن تعلمها غير واجب بل ربما قالوا إن تعلمها مكروه أو محرم ولا أدري ما عذرهم فيه هذا
البحث الثاني المصلي إذا كان بأرض مكة وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه فهل له أن يجتهد قال صاحب ( التهذيب ) نظر إن كان الحائل أصلياً كالجبال فله الاجتهاد وإن لم يكن أصلياً كالأبنية فعلى وجهين أحدهما له الاجتهاد لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة كما في الحائل الأصلي والثاني ليس له الاجتهاد لأن فرضه الرجوع إلى اليقين وهو قادر على تحصيل اليقين فوجب أن لا يكتفي فيه بالظن وهذا الوجه هو اللائق بمساق الآية لأنها لما دلت على وجوب التوجه إلى الكعبة والمكلف إذا كان قادراً على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن فوجب عليه طلب اليقين
القسم الثاني القادر على تحصيل الظن دون اليقين واعلم أن لتحصيل هذا الظن طرقاً
الطريق الأول الاجتهاد وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه يقتضي أن الاجتهاد يقدم على الرجوع إلى قول الغير وهو الحق والذي يدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 )(4/107)
أمر بالاعتبار والرجل قادر على الاعتبار في هذه الصورة فوجب أن يتناوله الأمر وثانيها أن ذلك الغير إنما وصل إلى جهة القبلة بالاجتهاد لأنه لو عرف القبلة بالتقليد أيضاً لزم إما التسلسل أو الدور وهما باطلان فلا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى الاجتهاد فيرجع حاصل الكلام إلى أن الاجتهاد أولى أم تقليد صاحب الاجتهاد ولا شك أن الأول أولى لأنه إذا أتى بالاجتهاد فلا يتطرق إليه احتمال الخطأ من جهة واحدة فإذا قلد صاحب الاجتهاد فقد تطرق إلى عمله احتمال الخطأ من وجهين ولا شك أنه متى وقع التعارض بين طريقين فأقلهما خطأ أولى بالرعاية وثالثها قوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فههنا أمر بالاستقبال وهو قادر على الاجتهاد في الطلب فوجب أن يجب عليه ذلك
فإن قيل أليس أن صاحب ( التهذيب ) ذكر أنه إذا كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة واحدة أو وجد محراباً أو علامة للقبلة في طريق هي جادة للمسلمين يجب عليه أن يتوجه إليها ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة قال لأن هذه العلامات كاليقين أما في الانحراف يمنة أو يسرة فيجوز أن يجتهد مع هذه العلامات وكان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه من الحج تياسروا يا أهل مرو وكذلك لو أخبره مسلم بأن قال رأيت غالب المسلمين أو جماعة المسلمين اتفقوا على هذه الجهة فعليه قبوله وليس هذا بتقليد بل هو قبول الخبر من أهله كما في الوقت وهو ما إذا أخبره عدل إني رأيت الفجر قد طلع أو الشمس قد زالت يجب قبول قوله هذا كله لفظ صاحب ( التهذيب ) واعلم أن هذا الكلام مشكل من وجوه أحدها أنه لا معنى للتقليد إلا قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة فإذا قبلنا قول الغير أو فعله في تعيين القبلة من غير حجة ولا شبهة كان هذا تقليداً ونحن قد ذكرنا الدليل على أن القادر على الاجتهاد لا بد وأن يكون مأموراً بالاجتهاد وثانيها أنه جوز المخالفة في اليمين واليسار بناء على الاجتهاد فنقول هو قادر على تحصيل الظن بناء على الاجتهاد الذي يتولاه بنفسه فوجب أن تجوز له المخالفة كما في اليمين واليسار وثالثها إما أن يكون ممنوعاً من الاجتهاد أو من العمل بمقتضى الاجتهاد والأول باطل لأن معاذاً لما قال اجتهد برأي مدحه الرسول عليه السلام على ذلك فدل على أن الاجتهاد غير ممنوع عنه والثاني أيضاً باطل لأنه لما علم أو ظن أن القبلة ليست في الجهة التي فيها المحاريب فلو وجب عليه التوجه إلى ذلك المحراب لكان ذلك ترجيحاً للتقليد على الاستدلال وأنه خطأ ورابعها أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد فالقادر على تحصيل جهة القبلة بالامارات كيف يجوز له تقليد محاريب البلاد واحتج القائلون بترجيح محاريب الأمصار على البلاد من وجوه الأول أنها كالتواتر مع الاجتهاد فوجب رجحانه عليه والثاني أن الرجل إذا رأى المؤذن فرغ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام فههنا لا يحتاج إلى تعرف الوقت فكذا ههنا الثالث أن أهل البلد رضوا به والظاهر أنه لو كان خطأ لتنبهوا له ولو تنبهوا له لما رضوا به فهذا ما يمكن أن يقال في الجانبين
الطريق الثاني الرجوع إلى قول الغير مثل ما إذا أخبره عدل عن كون القبلة في هذه الجهة فهذا يفيد ظن أن القبلة هناك واتفقوا على أنه لا بد من شرطين الإسلام والعقل فلا عبرة في هذا الباب بقول الكافر والمجنون ولا بعلمهما واختلفوا في شرائط ثلاثة أولها البلوغ حكى الخيضري نصاً عن الشافعي أنه لا يقبل قول الصبي وحكى أبو زيد أيضاً عن الشافعي أنه يقبل وثانيها العدالة قالوا لا يقبل خبر الفاسق(4/108)
لأنه كالشهادة وقيل يقبل وثالثها العدد فمنهم من اعتبره كما في الشهادة لاسيما الذين اعتبروا العدد في الرواية أيضاً ومنهم من لم يعتبر العدد ويتفرع على ما قلناه أحكام أولها أن كل من كان الأخذ بقوله يفيد ظناً أقوى كان الأخذ بقوله مقدماً على الأخذ بقول من يفيد ظناً أضعف مثاله أن تقليد المتيقن راجح على تقليد الظان بالاجتهاد وتقليد المجتهد الظان أولى من تقليد من قلد غيره وهلم جرا وثانيها أنه إذا علم أن الاجتهاد لا يتم إلا بعد انقضاء الوقت فالأولى له تحصيل الاجتهاد حتى تصير الصلاة قضاء أو تقليد الغير حتى تبقى الصلاة أداء فيه تردد وثالثها أن من لا يعرف دلائل القبلة فله الرجوع إلى قول الغير حين الصلاة بل يجب
الطريق الثالث إن شاهد في دار الإسلام محراباً منصوباً جاز له التوجه إليه على التفصيل الذي تقدم أما إذا رأى القبلة منصوبة في طريق يقل فيه مرور الناس أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها أو رأى محراباً في قرية ولا يدري بناه المسلمون أو المشركون أو كانت قرية صغيرة للمسلمين لا يغلب على الظن كون أهلها مطلعين على دلائل القبلة وجب عليه الاجتهاد
الطريق الرابع ما يتركب من الاجتهاد وقول الغير وهو أن يخبره إنسان بمواقع الكواكب وكان هو عالماً بالاستدلال بها على القبلة فههنا يجب عليه الاستدلال بما يسمع إذا كان عاجزاً عن رؤيتها بنفسه
القسم الثالث الذي عجز عن تحصيل العلم والظن وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره أو تعارضت الأمارات لديه وعجز عن الترجيح وفيه أبحاث
البحث الأول أن هذا الشخص يستحيل أن يكون مأموراً بالاجتهاد لأن الاجتهاد من غير دلالة ولا أمارة تكليف ما لا يطاق وهو منفي فلم يبق إلا أحد أمور ثلاثة إما أن يقال التكاليف بالصلاة مشروط بالاستقبال وتعذر الشرط يوجب سقوط التكليف بالمشروط فههنا لا تجب عليه الصلاة أو يقال شرط الاستقبال قد سقط عن المكلف بعذر أقل من هذا وهو حال المسابقة فيسقط ههنا أيضاً فيجب عليه أن يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء ويسقط عنه شرط الاستقبال أو يقال إنه يأتي بتلك الصلاة إلى جميع الجهات ليخرج عن العهدة بيقين فهذه هي الوجوه الممكنة أما سقوط الصلاة عنه فذلك باطل بالإجماع وأيضاً فلأنا رأينا في الشرع في الجملة أن الصلاة صحت بدون الاستقبال كما في حال المسايفة وفي النافلة وأما إيجاب الصلاة إلى جميع الجهات فهو أيضاً باطل لقيام الدلالة على أن الواجب عليه صلاة واحدة ولقائل أن يقول أليس أن من نسي صلاة من صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يجب عليها قضاء تلك الصلوات بأسرها ليخرج عن العهدة باليقين فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك قالوا ولما بطل القسمان تعين الثالث وهو التخيير في جميع الجهات
البحث الثاني أنه إذا مال قلبه إلى أن هذه الجهة أولى بأن تكون قبلة من سائر الجهات من غير أن يكون ذلك الترجيح مبنياً على استدلال بل يحصل ذلك بمجرد التشهي وميل القلب إليه فهل يعد هذا اجتهاداً وهل المكلف مكلف بأن يعول عليه أم لا الأولى أن يكون ذلك معتبراً لقوله عليه السلام ( المؤمن ينظر بنور الله ) ولأن سائر وجوه الترجيح لما انسدت وجب الاكتفاء بهذا القدر(4/109)
البحث الثالث إذا أدى هذه الصلاة فالظاهر يقتضي أن لا يجب القضاء لأنه أدى وظيفة الوقت وقد صحت منه فوجب أن لا تجب عليه الإعادة وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه
المسألة السابعة تجوز الصلاة في جوف الكعبة عند عامة أهل العلم ويتوجه إلى أي جانب شاء وقال مالك يكره أن يصلى في الكعبة المكتوبة لأن من كان داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إلى كل الكعبة بل يكون متوجهاً إلى بعض أجزائها ومستدبراً عن بعض أجزائها وإذا كان كذلك لم يكن مستقبلاً لكل الكعبة فوجب أن لا تصح صلاته لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت قال وأما النافلة فجائزة لأن استقبال القبلة فيها غير واجب حجة الجمهور ما أخرجه الشيخان في الصحيحين ورواه الشافعي رضي الله عنه أيضاً عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن أبي طلحة وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها قال عبد الله بن عمر فسألت بلالاً حين خرج ماذا صنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى واعلم أن الاستدلال بهذا الخبر ضعيف من وجوه أحدها أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن وثانيها لعل تلك الصلاة كانت نافلة وذلك عند مالك جائز وثالثها أن مالكاً خالف هذا الخبر ومخالفة الراوي وإن كانت لا توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد نوع مرجوحية بالنسبة إلى خبر واحد حلى عن هذا الطعن فكيف بالنسبة إلى القرآن ورابعها أن الشيخين أوردا في الصحيحين عن ابن جريح عن عطاء سمعت ابن عباس قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال ( هذه القبلة ) والتعارض حاصل من وجهين الأول أن النفي والإثبات يتعارضان والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه القبلة ) يدل على أنه لا بد من توجه ذلك الموضع ومن جوز الصلاة داخل البيت لا يوجب عليه استقبال ذلك الموضع بل جوز استدباره والجواب عن استدلال مالك رحمه الله أن نقول قوله ( وحيثما كنتم ) إما أن يكون صيغة عموم أو لا يكون فإن كان صيغة عموم فقد تناول الإنسان الذي يكون في البيت فكأنه تعالى أمر من كان في البيت أن يتوجه إليه فالآتي به يكون خارجاً عن العهدة وإن لم يكن صيغة عموم لم تكن الآية متناولة لهذه المسألة ألبتة فلا تدل على حكمها لا بالنفي ولا بالأثبات ثم المعتمد في المسألة أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يتوجه إلى كل البيت بل إنما يمكنه أن يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت والذي في البيت يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت فقد كان آتياً بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة
المسألة الثامنة اعلم أن الكعبة عبارة عن أجسام مخصوصة هي السقف والحيطان والبناء ولا شك أن تلك الأجسام حاصلة في أحياز مخصوصة فالقبلة إما أن تكون تلك الأحياز فقط أو تلك الأجسام فقط أو تلك الأجسام بشرط حصولها في تلك الأحياز لا جائز أن يقال أنها تلك الأجسام فقط لأنا أجمعنا على أنه لو نقل تراب الكعبة وما في بنائها من الأحجار والخشب إلى موضع آخر وبني به بناء وتوجه إليه أحد في الصلاة لم يجز ذلك ولا جائز أن يقال إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب وبقيت العرصة خالية فإن أهل المشرق والمغرب إذا(4/110)
توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة فلم يبق إلا أن يقال القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام وهذا المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه فهو أيضاً مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء إذا ثبت هذا فنقول قال أصحابنا لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلاً للقبلة وذكر ابن سريج أنه يصح وهو قول أبي حنيفة والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلاً للقبلة فوجب أن تصح صلاته وقالوا أيضاً الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته
المسألة التاسعة لما دلت الآية على وجوب الاستقبال وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنياً على الظن فكانت الآية دالة على التكليف بالظن فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة العاشرة الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب
المسألة الحادية عشرة استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة ويلحق به الخوف على النفس من العدو أو من السبع أو من الجمل الصائل أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر أو في أداء النوافل وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ
المسألة الثانية عشرة إذا توجه إلى جهة ثم تغير اجتهاده وهو في الصلاة فعليه أن ينحرف ويتحول ويبني لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق فكذلك فيمن صدق مخبراً ثم جاء آخر نفسه إليه أسكن فأخبره بخلافه فهذا ما يتعلق بالمسائل المستنبطة من هذه الآية في حكم الاستقبال والله أعلم
قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى هذا ليس بتكرار وبيانه من وجهين أحدهما أن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة وقوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خطاب مع الكل وثانيهما أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة(4/111)
المسألة الثانية قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني وأينما كنتم وموضع ( كنتم ) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل حيثما تكونوا والفاء جواب
أما قوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ اليهود خاصة والكتاب هو التوراة عن السدي وقيل بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل ولا بد أن يكونوا عدداً قليلاً لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان
المسألة الثانية الضمير في قوله أَنَّهُ الْحَقُّ راجع إلى مذكور سابق وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة وأنهم يعلمون أنه الحق وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين وثانيها أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وثالثها أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما ظهر عليه من المعجزات ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقاً
وأما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب للمسلمين والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود
المسألة الثانية إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين فلا أخل بثوابكم وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يعجلها لهم كقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 42 )
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَة ٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة وفي الآية مسائل(4/112)
المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فقال الأصم المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ( البقرة 144 ) واحتج عليه بوجوه أحدها قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ثم ينكرون بألسنتهم فهم المتبعون للهوى وثانيها أن ما قبل هذه الآية وهو قوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لِيَعْلَمُواْ أَنَّهُ الْحَقُّ لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء وما بعدها وهو قوله الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ( الأنعام 20 ) مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة وثالثها أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ومستمرون على باطلهم وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات وهذا شأن المعاند اللجوج لا شأن المعاند المتحير ورابعها أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتبع قبلته
وقال آخرون بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى واحتجوا عليه بأن قوله الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ صيغة عموم فيتناول الكل ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم وفي الآية الثانية كلهم وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلاً في الكل وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون وقولنا كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم قال لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع
المسألة الثالثة احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال فكان ذلك محالاً وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة بل هو محض المكابرة والعناد والحسد وذلك لا يزول بإيراد الدلائل
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ قال الحسن والجبائي أراد جميعهم كأنه قال لا يجتمعون على اتباع قبلتك على نحو قوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( الأنعام 35 ) وقال(4/113)
الأصم وغيره بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن قال القاضي إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضاً ذلك التأويل وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وبين قوله ما تبع أحد منهم قبلتك
المسألة السادسة لَئِنْ بمعنى لَوْ وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا ( الروم 51 ) ثم قال لَّظَلُّواْ على جواب لَوْ وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتَّقَوْا ( البقرة 103 ) ثم قال لَمَثُوبَة ٌ على جواب لَئِنْ وذلك أن أصل لَوْ للماضي وَلَئِنِ للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه إن كل واحدة منهما على موضعها وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم فجاء الجواب كجواب القسم
المسألة السابعة الآية وزنها فعلة أصلها أية فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها والآية الحجة والعلامة وآية الرجل شخصه وخرج القوم بآيتهم جماعتهم وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف وقيل لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها وقيل لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى
المسألة الثامنة روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أئتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ففيه أقوال الأول أنه دفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة والثاني حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم الثالث المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك الرابع أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية الخامس وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق فالزم قبلتك ودع أقوالهم
أما قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ قال القفال هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال أما على الحال فمن وجوه الأول أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها الثاني أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون الثالث أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن(4/114)
أحداً منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص
أما قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ففيه مسألتان
المسألة الأولى الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب قال بعضهم الرسول وقال بعضهم الرسول وغيره وقال آخرون بل غيره لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح والالجاء عنه مرتفع فهو منهى عنه وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل وثانيها لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير وثالثها أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا ورابعاً قوله تعالى في حق الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النمل 50 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( المائدة 67 ) وقال تعالى وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وقال بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 ) وقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال فلم خصه بالنهي دون غيره فنقول فيه وجوه أحدها أن كل من كان نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب منه أقبح ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص وثانيها أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير وثالثها أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام(4/115)
طمعاً منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية على ما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 )
القول الثالث إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة
أما قوله تعالى مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات لأن ذلك من طرق العلم فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة
المسألة الثانية دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على ذلك
أما قوله تعلاى إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل والله أعلم
المسألة الثانية الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ إلى ماذا يرجع ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه عائد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعرفونه معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أنا أعلم به مني بإبني قال ولم قال لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه وجاز(4/116)
الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة
السؤال الأول أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة
الجواب أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن اتباع اليهود والنصارى بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( البقرة 145 ) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم
السؤال الثاني هذه الآية نظيرها قوله تعالى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 157 ) وقال وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك
وأما القسم الثاني فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول هب أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبياً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حد اليقين لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والجواب عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين فلا جرم كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء
السؤال الثالث فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علماً برهانياً غير محتمل للغلط أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علماً يقينياً بل ظن ومحتمل للغلط فلم شبه اليقين بالظن
والجواب ليس المراد أن العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشبه العلم بنبوة الأبناء بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة
السؤال الرابع لم خص الأبناء الذكور
الجواب لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق
القول الثاني الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ راجع إلى أمر القبلة أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر(4/117)
القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه أحدها أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق وأقرب المذكورات العلم في قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) والمراد من ذلك العلم النبوة فكأنه تعالى قال إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة وثانيها أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل وأخبر فيه أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والإنجيل فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى وثالثها أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى
أما قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ومنهم من بقي على كفره ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره لا جرم قال الله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فوصف البعض بذلك ودل بقوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ على سبيل الذم على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره واختلفوا في المكتوم فقيل أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة
أما قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون ( الحق ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق وقوله مِن رَبّكَ يجوز أن يكون خبراً بغير خبر وأن يكون حالاً ويجوز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره مِن رَبّكَ وقرأ علي رضي الله عنه ( الحق من ربك ) على الإبدال من الأول أي يكتمون الحق من ربك
المسألة الثانية الألف واللام في قوله الْحَقّ فيه وجهان الأول أن يكون للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو إلى الحق الذي في قوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك وأن يكون للجنس على معنى الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل
أما قوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في ماذا اختلفوا فيه على أقوال أحدها فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك وأن بعضهم عاند وكتم قاله الحسن وثانيها بل يرجع إلى أمر القبلة وثالثها إلى صحة نبوته وشرعه وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة فقوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وجب أن يكون راجعاً إليه
المسألة الثانية أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكاً فيه وقد تقدم القول في بيان هذه المسألة والله أعلم(4/118)
وَلِكُلٍّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله وَلِكُلّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَلِكُلّ ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 )
المسألة الثانية ذكروا فيه أربعة أوجه أحدها أنه يتناول جميع الفرق أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وهو قول الاصم قال لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وثانيها وهو قول أكثر علماء التابعين أن المراد أهل الكتاب وهم المسلمون واليهود والنصارى والمشركون غير داخلين فيه وثالثها قال بعضهم المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية واحتجوا على هذا القول بوجهين الأول قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة لأن ما عداها تولية الشيطان الثاني أن الله تعالى عقبه بقوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة ورابعها قال آخرون ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش وقبلة الروحانيين الكرسي وقبلة الكروبيين البيت المعمور وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة
أما قوله تعالى وِجْهَة ٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ على الإضافة والمعنى وكل وجهة هو موليها فزيدت لالام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ولزيد أبوه ضارب
المسألة الثانية قال الفاء وجهة وجهة ووجه بمعنى واحد واختلفوا في المراد فقال الحسن المراد المنهاج والشرع وهو كقوله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ( الحج 67 ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ( المائدة 48 ) شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 ) والمراد منه أن للشرائع مصالح فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير وقال الباقون المراد منه أمر القبلة لأنه تقدم قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك
أما قوله هُوَ مُوَلّيهَا ففيه وجهان الأول أنه عائد إلى الكل أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه(4/119)
إليها الثاني أنه عائد إلى اسم الله تعالى أي الله تعالى يوليها إياه وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها أي هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة مع لزوم الأديان المختلفة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعاً في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ومن المصيب منكم ومن المخطىء إنه على ذلك قادر ومن قال بهذا التأويل قال المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها إما بشريعة وإما بهوى فلستم تؤخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله هُوَ مُوَلّيهَا عائداً إلى الله تعالى فههنا وجهان الأول أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحاً فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين فإن انقيادكم خيرات لكم ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ( البقرة 142 ) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعاً في عرصة القيامة فيفصل بينكم الثاني أنا إذا فسرنا قوله وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ بجهات الكعبة ونواحيها كان المعنى ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة أي ناحية من الكعبة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ بالتوجه إليها من جميع النواحي فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم
أما قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه قال الفراء أي مستقبلها وقال أبو معاذ موليها على معنى متوليها يقال قد تولاها ورضيها وأتبعها وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي هُوَ وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين هُوَ مُوَلّيهَا ولقراءة ابن عامر معنيان أحدهما أن ما وليته فقد ولاك لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضاً يلي هذا فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) و لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والظالمون وهذا قول الفراء والثاني هُوَ مُوَلّيهَا أي وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه أي صارت بحيث يحبها ويرضاها
أما قوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل خلافاً لأبي حنيفة واحتج الشافعي بوجوه أولها أن الصلاة خير لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصلاة خير موضوع ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ وظاهر الأمر للوجوب فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب وثانيها قوله سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( الحديد 21 ) ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة(4/120)
وثالثها قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 11 ) ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ولا شك أن الصلاة من الطاعات وقوله تعالى أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يفيد الحصر فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة ورابعها قوله تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) والمعنى وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ولا شك أن الصلاة كذلك فكانت المسارعة بها مأمورة وخامسها أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولا شك أن الصلاة من الخيرات لقوله عليه السلام ( خير أعمالكم الصلاة ) وسادسها أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ( الأعراف 12 ) وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم وسابعها قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( البقرة 238 ) والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال وثامنها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) فثبت أن الاستعجال أولى وتاسعها قوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة وعاشرها ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله ) قال الصديق رضي الله عنه رضوان الله أحب إلينا من عفوه قال الشافعي رضي الله عنه رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان والتقديم موجباً للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا هذا ضعيف من وجوه الأول أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد الثاني أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات وذلك يقتضي العقاب إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء الثالث أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه
الحادي عشر روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا )
الثاني عشر عن ابن مسعود أنه سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لميقاتها الأول
الثالث عشر روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت(4/121)
ما هو خير له من أهله وماله )
الرابع عشر قال عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر
الخامس عشر إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم علياً وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا
السادس عشر قوله عليه السلام في خطبة له ( وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلو ) ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة
السابع عشر أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم
الثامن عشر أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة والولوع بها والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها فيكون الأول أولى
التاسع عشر أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى
العشرون أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 184 ) فوجب أيضاً أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة أو وجود الماء قلنا التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة وكلامنا في مقتضى الأصل
الحادي والعشرون المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )
الثاني والعشرون صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضاً وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ولنذكر كل واحد من الصلوات
أما صلاة الفجر فقال محمد المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ويخرج منها بالإسفار فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل وقال الشافعي رضي الله عنه التغليس أفضل وهو مذهب أبي(4/122)
بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه أحدها ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ) قال محيي السنة في كتاب ( شرح السنة ) متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن والتلفع بالثوب الاشتمال والمروط الأردية الواسعة واحدها مرط والغلس ظلمة آخر الليل فإن قيل كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي بالغلس كيلا يعرفن وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية وثالثها ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قمنا إلى الصلاة قال قلت كم كان قدر ذلك قال قدر خمسين آية وهذا يدل أيضاً على التغليس وثالثها ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى ورابعها أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) ومدح التاركين للنوم فقال تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل وخامسها أن النوم في ذلك الوقت أطيب فيكون تركه أشق فوجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واحتج أبو حنيفة بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) وثانيها روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس ثم قال ابن مسعود ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها وثالثها عن ابن مسعود قال ما رأيت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر ورابعها عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران فقالوا كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وخامسها أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الإنتظار وقال عليه السلام ( المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة ) فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً ثم بها ثانياً ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار وسادسها أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلاً لفضل الجماعة وسابعها أن التغليس يضيق على الناس لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر والحرج منفى شرعاً وثامنها أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق فالفجر إنما يكون فجراً لو كانت الظلمة باقية في الهواء فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً وأما الإسفار فهو(4/123)
عبارة عن الظهور يقال أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه إذا ثبت هذا فنقول ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد فقوله ( أسفروا بالفجر ) يجب أن يكون محمولاً على التغليس أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثواباً وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل فكيف يمكن أن يقول الشارع إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة
والجواب عن الثاني وهو قول ابن مسعود حافظوا على التنوير بالفجر فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجراً وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم
أما قوله تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فهو وعد لأهل الطاعة ووعيد لأهل المعصية كأنه تعالى قال استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى ثم إنه سبحانه حقق بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات فوجب أن يكون قادراً على الإعادة وأما المسائل المستبنطة من هذه الآية فقد ذكرناها في قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( البقرة 20 )
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّ تِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) وذكر ههنا ثانياً قوله تعالى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذكر ثالثاً قوله وَمِنْ(4/124)
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ فهل في هذا التكرار فائدة أم لا وللعلماء فيه أقوال أحدها أن الأحوال ثلاثة أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام وثانيها أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد وثالثها أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى والثانية على الثانية والثالثة على الثالثة لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات
والجواب الثاني أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ
والجواب الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل ثم أنه تعالى قال ثالثاً وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة
والجواب الرابع أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلّيهَا ( البقرة 148 ) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها ثم يقال ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى وهو قوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ثم يقال ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك وهذا التكرار في هذا(4/125)
الموضع كالتكرار في قوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 12 ) وكذلك ما كرر في قوله تعالى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( الشعراء 174 )
والجواب الخامس أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( البقرة 74 ) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه
أما قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة وفي كيفية تلك الحجة روايات أحدها أن اليهود قالوا تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا وثانيها قالوا ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه وثالثها أن العرب قالوا إنه كان يقول أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين لأن قولهم لا يؤثر في المصالح وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة فلهذا قال الله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى وهو قول بعض العرب إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فلا جرم قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ
المسألة الثانية قرأ نافع لَيْلاً يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل
المسألة الثالثة ( لئلا ) موضعه نصب والعامل فيه ( ولوا ) أي ولوا لئلا وقال الزجاج التقدير عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة
المسألة الرابعة قيل الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل هو على العموم
المسألة الخامسة ههنا سؤال وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال الأول أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه(4/126)
الوجه الأول أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة قد تكون أيضاً باطلة قال الله تعالى حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الشورى 16 ) وقال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( آل عمران 61 ) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة وقال بعضهم إنها مأخوذة من محجة الطريق فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً
الوجه الثاني في تقرير أنه استثناء متصل أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق
الوجه الثالث أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله ( حجة ) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها ( حجة ) تهكماً بهم
الوجه الرابع أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فإنهم يحاجونكم بالباطل
القول الثاني أنه استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وهو كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) وقال النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم ونظيره أيضاً قوله تعالى إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( النمل 10 11 ) وقال لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ( هود 43 ) وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب
القول الثالث زعم أبو عبيدة أن ( إلا ) بمعنى الواو كأنه تعالى قال لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان
القول الرابع قال قطرب موضع الَّذِينَ خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار قال علي ابن عيسى هذان الوجهان بعيدان
أما قوله تعالى فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشية عقاب الله وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة وأن لا يكون مشتغل القلب بهم(4/127)
ولا ملتفت الخاطر إليهم
أما قوله تعالى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه أحدها أنه راجع إلى قوله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين إحداهما لانقطاع حجتهم عنه والثانية لتمام النعمة وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ولذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة وثانيها أن متعلق اللام محذوف معناه ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك وثالثها أن يعطف على علة مقدرة كأنه قيل واحشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ قلنا تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به وفي الحديث ( تمام النعمة دخول الجنة ) وعن علي رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه وإن أراد به إنكاره أصلاً فبعيد لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر وعند ذلك يقول لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه بعضها إلزامية وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله وهو المراد بقوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وبعضها برهانية وقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ ( البقرة 136 ) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية شبهتين لهم إحداهما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) والثانية استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة وهو قول سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وأطنب الله(4/128)
تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وختم ذلك الجواب بقوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب
أما قوله كَمَا أَرْسَلْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده فإن قلنا إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه الأول أنه راجع إلى قوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( البقرة 150 ) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول الثاني أن إبراهيم عليه السلام قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُزَكّيهِمْ ( البقرة 129 ) وقال أيضاً وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) فكأنه تعالى قال ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير الثالث قول أبي مسلم الأصفهاني وهو أن التقدير وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً وأما إن قلنا أنّه متعلق بما بعده فالتقدير كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً ولا تعلمون رسولاً ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رجل منكم ليس بصاحب كتاب ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء وفيه الخبر عن أحوالهم وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة والنهي عن أخلاق السفهاء وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي والذي يؤكده قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل ( كما ) هل يجوز أن يكون جواباً قلنا جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين أحدهما كَمَا والثاني أَذْكُرْكُمْ ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ولما سلف من نعمته قال القاضي والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى
المسألة الثانية في وجه التشبيه قولان إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى اذكروني دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة
المسألة الثالثة فِى مَا في قوله كَمَا أَرْسَلْنَا مصدرية كأنه قيل كإرسالنا فيكم ويحتمل أن تكون كافة
أما قوله تعالى فيكُمْ فالمراد به العرب وكذلك قوله مّنكُمْ وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب(4/129)
أما قوله تعالى يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِنَا فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة
أما قوله وَيُزَكِيكُمْ ففيه أقوال أحدها أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن وثانيها يزكيهم بالثناء والمدح أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به كما يقال إن المزكي زكي الشاهد أي وصفه بالزكاء وثالثها أن التزكية عبارة عن التنمية كأنه قال يكثركم كما قال إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا عن أبي مسلم قال القاضي وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم وأما ( الحكمة ) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه ( الحكمة ) هي سنة الرسول عليه السلام
أما قوله وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم
فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين الذكر والشكر أما الذكر فقد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع أحدها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل وثانيها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم وثالثها أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فصار الأمر بقوله اذكروني متضمناً جميع الطاعات فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه أما قوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح وإظهار الرضا والإكرام وإيجاب(4/130)
المنزلة وكل ذلك داخل تحت قوله أَذْكُرْكُمْ ثم للناس في هذه الآية عبارات الأولى اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي الثانية اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وهو قول أبي مسلم قال أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة الثالثة اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة الرابعة اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة الخامسة اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات السادسة اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء السابعة اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي الثامنة اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي التاسعة اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص العاشرة اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله فَاذْكُرُونِى جميع العبادات وبقوله وَاشْكُرُواْ لِي ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ ( البقرة 154 ) وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ ( الأنفال 45 ) وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة
ثم قال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني في النصر لهم كما قال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقاً وتسديداً وألطافاً كما قال وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )(4/131)
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
اعلم أن هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار فمن المهاجرين عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب وعمر بن أبي وقاص وذو الشمالين وعمرو بن نفيلة وعامر بن بكر ومهجع بن عبد الله ومن الأنصار سعيد بن خيثمة وقيس بن عبد المنذر وزيد بن الحرث وتميم بن الهمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة ومعوذ بن عفراء وعوف بن عفراء وكانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا وعن آخرين أن الكفار والمنافقين قالوا إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية أَمْوَاتٌ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات
المسألة الثالثة في الآية أقوال
القول الأول أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور فإن قيل نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور فكيف يصح ما ذهبتم إليه قلنا أما عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا
القول الثاني قال الأصم يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا هم أموات في الدين كما قال الله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فقال ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ولكن قولوا هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد عليه الصلاة والسلام حي في الدين وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلاً قال لرجل ما مات رجل خلف مثلك وحكى عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح
القول الثالث أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء وهؤلاء الذين قالوا ذلك يحتمل أنهم كانوا(4/132)
دهرية ينكرون المعاد ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام فلذلك قالوا هذا الكلام فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا ولكن اعلموا أنهم أحياء أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله أَحْيَاء بأنهم سيحيون غير بعيد قال الله تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 13 14 ) وقال أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ( الكهف 29 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) وقال فَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الحج 56 ) على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني واعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول والذي يدل عليه وجوه أحدها الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 ) والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر وقال الله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) والفاء للتعقيب وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 ) وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر كان ذلك في الثواب أولى وثانيها أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة وأنهم ماتوا على هدى ونور فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم وثالثها أن قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم ( آل عمران 170 ) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ) والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته ( وأعوذ بك من عذاب القبر ) وخامسها أنه لو كان المراد من قوله أنهم أحياء أنهم سيحيون فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فأرادهم بالذكر تعظيماً
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر وسادسها أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وهذه العندية ليست بالمكان بل بالكون في الجنة ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة(4/133)
والجواب لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر واعلم أن في الآية قولاً آخر وهو أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب وهذا القول بناء على معرفة الروح ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين
الوجه الأول أن أجزاء هذا الهيكل أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره والباقي غير ما هو غير باق والمشار إليه عند كل أحد بقوله أَنَاْ وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل
الوجه الثاني أني أكون عالماً بأني أنا حال ما أكون غافلاً عن جميع أجزائي وأبعاضي والمعلوم غير ما هو غير معلوم فالذي أشير إليه بقولي ( أنا ) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو السطح واللون ولا شك أن الإنسان ليس هو مجرد اللون والسطح ثم اختلفوا عند ذلك في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا ) أي شيء هو والأقوال فيه كثيرة إلا أن أشدها تلخيصاً وتحصيلاً وجهان أحدهما أن أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورود والقائلون بهذا القول فريقان أحدهما الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا إن تلك الأجسام مماثلة لسائر الأجزاء التي منها يتألف هذا الهيكل إلا أن القادر المختار سبحانه يبقي بعض الأجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بقوله ( أنا ) ثم أن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله تعالى فيها فإذا زالت الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين وثانيهما الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام وزعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخر العمر أجسام مخالفة بالماهية والحقيقة للأجسام التي يتألف منها هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها مدركة لذاتها فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل مستطيراً بنور ذلك الروح متحركاً بتحركه ثم إن هذا الهيكل أبداً في الذوبان والتحلل والتبدل إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها وإنما لا يعرض لها التحلل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام البالية فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والقدس والطهار إن كانت من جملة السعداء وإلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء
والقول الثاني أن الذي يشير إليه كل احد بقوله ( أنا موجود ) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقاً فوجب أن يكون العلم به فرداً حقاً فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فرداً حقاً وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقاً فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات وجب أن لا يكون جسماً ولا جسمانياً أما أن في المعلومات ما هو فرد حقاً فلأنه لا شك في وجود شيء فهذا الموجود إن كان فرداً حقاً فهو المطلوب وإن كان مركباً فالمركب مركب على الفرد فلا بد من الفرد على كل الأحوال وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسماً فكل واحد من أجزائه أو بعض(4/134)
أجزائه إما أن يكون علماً بذلك المعلوم وهو محال لأنه يلزم أن يكون الجزء مساوياً للكل وهو محال وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علماً بذلك المعلوم فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم بذلك المعلوم الفرد فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضاً كذلك فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفاً به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالاً في أشياء كثيرة وهو محال أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال فحينئذ يكون ذلك المحل خالياً عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفاً به هذا خلف وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد قالوا فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا موجود ) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول هذا الموجود لا بد أن يكون مدركاً للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضاً هو النفس فكل من كان مدركاً للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم قالوا إذا ثبت هذا فنقول هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان يوم القيامة فهناك يحصل الإلتذاذ والتألم للأبدان فهذا قول قال به عالم من الناس قالوا وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول والله هو العالم بحقائق الأمور
قالوا ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها والأول مكابرة لأنا نجد هذه البنية متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها فلم يبق إلا أن يقال إن الله تعالى يحيي بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الاٌّ مَوَالِ وَالاٌّ نفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(4/135)
اعلم أن القفال رحمه الله قال هذا متعلق بقوله وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل إنه تعالى قال وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) والشكر يوجب المزيد على ما قال لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ فكيف أردفه بقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ والجواب من وجهين الأول أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة فكان ذلك موجباً للشكر ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن فلا جرم أمر فيها بالصبر الثاني أنه تعالى أنعم أولاً فأمر بالشكر ثم ابتلى وأمر بالصبر لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر )
المسألة الثانية روي عن عطاء والربيع بن أنس أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهجرة
المسألة الثالثة أما أن الإبتلاء كيف يصح على الله تبارك وتعالى فقد تقدم في تفسير قوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الإبتلاء ففيها وجوه أحدها ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود وثانيها أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن اشتد خوفهم فيصير ذلك الخوف تعجيلاً للابتلاء فيستحقون به مزيد الثواب وثالثها أن الكفار إذا شاهدوا محمداً وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب ورابعها أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً وخامسها أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الإختبار هذه الفائدة وسادسها أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه فكانت الحكمة في هذا الإبتلاء ذلك
المسألة الرابعة إنما قال بشيء على الوحدان ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين الأول لئلا يوهم بأشياء من كل واحد فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشيء من كذا الثاني معناه بشيء قليل من هذه الأشياء
المسألة الخامسة اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجوداً في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكراً وتذكراً وإن كان موجوداً في الحال يسمى ذوقاً ووجداً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمى انتظاراً وتوقعاً فإن كان المنتظر مكروهاً(4/136)
حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقا وإن كان محبوباً سمى ذلك ارتياحاً والإرتياح رجاء فالخوف هو تألم القلب لإنتظار ما هو مكروه عنده والرجاء هو ارتياح القلب لإنتظار ما هو محبوب عنده وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت قال القفال رحمه الله أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان قال الله تعالى هُنَالِكَ ابْتُلِى َ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ( الأحزاب 11 ) وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة لقلة أموالهم حتى أنه عليه السلام كان يشد الحجر على بطنه وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه عليه السلام لما خرج التقى مع أبي بكر قال ما أخرجك قال الجوع قال أخرجني ما أخرجك وأما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( التوبة 41 ) وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 120 ) وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله دولا تقتلوا أنفسكم وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوفود هذا آخر كلام القفال رحمه الله قال الشافعي رضي الله عنه الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوفود هذا آخر كلام القفال رحمه الله قال الشافعي رضي الله عنه الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ( البقرة 155 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة فأما من لم يكن محققاً في الإيمان كان كمن قال فيه وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه مثاله أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب ولو فعله به غيره لكان له أن يمانع بل يحارب وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ليس ذلك إلا حكمة وصواباً بخلاف ما يفعل العباد من الظلم
المسألة الثانية الخطاب في وَبَشّرِ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل من يتأتى منه البشارة
المسألة الثالثة قال الشيخ الغزالي رحمه الله اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والإبتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم يظهر فيه شهوة اللعب ثم شهوة النكاح وليس له قوة الصبر ألبتة إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام(4/137)
القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة والإعراض عن الدار الآخرة وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها وطلب اللذات الروحانية الباقية فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً ثم اعلم أن الصبر ضربان أحدهما بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم والثاني هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ويسمى صاحبه كتوماً وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ويضاده الحرص وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمي الكل صبراً فقال الصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء أي المصيبة وَالضَّرَّاء أي الفقر وَحِينَ الْبَأْسِ أي المحاربة أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( البقرة 177 ) قال القفال رحمه الله ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابراً وإن ظهر دمع عين أو تغير لون قال عليه السلام ( الصبر عند الصدمة الأولى ) وهو كذلك لأن من ظهر منه في الإبتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم
المسألة الرابعة في فضيلة الصبر قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ( السجدة 24 ) وقال وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ ( الأعراف 137 ) وقال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النحل 96 ) وقال أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ( القصص 54 ) وقال إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( الزمر 10 ) فما من طاعة إلا وأجرها مقدراً إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى يَأْذَنَ لِى فإضافة إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( الأنفال 46 ) وعلق النصرة على الصبر فقال بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم فقال أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 157 ) وأما الأخبار فقال عليه الصلاة والسلام ( الصبر نصف الإيمان ) وتقريره أن الإيمان لا يتم إلا بعد ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأعمال والعقائد وبحصول ما ينبغي فالاستمرار على ترك ما لا ينبغي هو الصبر وهو النصف(4/138)
الآخر فعلى مقتضى هذا الكلام يجب أن يكون الإيمان كله صبراً إلا أن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي قد يكون مطابقاً للشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر وقد يكون مخالفاً للشهوة فيحتاج فيه إلى الصبر فلا جرم جعل الصبر نصف الإيمان وقال عليه السلام ( من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ) وقال عليه السلام ( الإيمان هو الصبر ) وهذا شبه قوله عليه السلام ( الحج عرفة )
المسألة الخامسة في بيان أن الصبر أفضل أم الشكر قال الشيخ الغزالي رحمه الله دلالة الأخبار على فضيلة الصبر أشد قال عليه السلام ( من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ) وقال ( يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى لقد أنعمت عليك فشكرت وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين ) وأما قوله عليه السلام ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) فهو دليل على فضل الصبر لأن هذا إنما يذكر في معرض المبالغة وهي لا تحصل إلا إذا كان المشبه به أعظم درجة من المشبه كقوله عليه السلام ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وأيضاً روي أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه وآخر الصحابة دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه وفي الخير أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء وأمامهم أيوب عليه السلام
المسألة السادسة دلت هذه الآية على أمور أحدها أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه وثانيها أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين وثالثها أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها ورابعها أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع وشرب الماء لا يفيد الري بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب لأن قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذاالقول ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة
الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ( البقرة 155 ) بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابراً وأن تلك البشارة كيف هي ثم في الآية مسائل(4/139)
المسألة الأولى اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها والذي من فعل العبد فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما الجوع فلأجل الفقر وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لايتفرغون لعمارة الأراضي ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل
المسألة الثانية قال القاضي إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى وينالها من قبل العباد لأن في الوجهين جميعاً عليه تكليفاً وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركاً للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله إِنَّا لِلَّهِ لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْء ( غافر 20 ) أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه ويدخل أيضاً تحت قوله إِنَّا لِلَّهِ لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول إنا الله يدبر فينا كيف يشاء وفي الثاني يقول إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء
المسألة الثالثة أمال الكسائي في بعض الروايات من أَنَاْ ولام لِلَّهِ والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفراء والكسائي لا يجوز إمالة أَنَاْ مع غير اسم الله تعالى وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة حَتَّى و لَكِنِ
أما قوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو بكر الوراق إِنَّا لِلَّهِ إقرار منا له بالملك وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ إقرار على أنفسنا بالهلاك واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الإنتقال إلى مكان أو جهة فإن ذلك على الله محال بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه وذلك هو الدار الآخرة لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر فجعل الله تعالى هذا رجوعاً إليه تعالى كما يقال إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة
المسألة الثانية هذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم ولا يضيع عنده أجر المحسنين
المسألة الثالثة قوله إِنَّا لِلَّهِ يدل على كونه راضياً بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ يدل على كونه في الحال راضياً بكل ما سينزل به بعد ذلك من إثابته على ما كان(4/140)
منه ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به ومن الإنتصاف ممن ظلمه فيكون مذللاً نفسه راضياً بما وعده الله به من الأجر في الآخرة
المسألة الرابعة الأخبار في هذا الباب كثيرة أحدها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه ) وثانيها روي أنه طفيء سراج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فقيل أمصيبة هي قال نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة وثالثها قالت أم سلمة حدثني أبو سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيراً منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيراً منها ) قالت فلما توفى أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول فعوضني الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام ورابعها قال ابن عباس أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى وخامسها عن عمر رضي الله عنه قال نعم العدلان وهما أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ ونعمت العلاوة وهي قوله وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال ابن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن
أما قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ فاعلم أن الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم وأما رحمته فهي النعم التي أنزلها به عاجلاً ثم آجلاً
وأما قوله وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم المهتدون لهذه الطريقة الموصلة بصاحبها إلى كل خير وثانيها المهتدون إلى الجنة الفائزون بالثواب وثالثها المهتدون لسائر ما لزمهم والأقرب فيه ما يصير داخلاً في الوعد حتى يكون عطفه على ما ذكره من الصلوات والرحمة صحيحاً ولا يكون كذلك إلا والمراد به أنهم الفائزون بالثواب والجنة والطريق إليها لأن كل ذلك داخل في الاهتداء وإن كان لا يمتنع أن يراد بذلك أنهم المتأدبون بآدابه المتمسكون بما ألزم وأمر قال أبو بكر الرازي اشتملت الآية على حكمين فرض ونفل أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرف عنها مصائب الدنيا وأما النفل فإظهاراً لقوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته وحكي عن داود الطائي قال الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبه ثواباً
ولنختم تفسير هذه الآية ببيان الرضا بالقضاء فنقول العبد إنما يصبر راضياً بقضاء الله تعالى بطريقن إما بطريق التصرف أو بطريق الجذب أما طريق التصرف فمن وجوه أحدها أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم عليه السلام لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله ولما استأنس يعقوب بيوسف عليهما السلام أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق ولما طمع محمد عليه السلام من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى(4/141)
قال ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ) وثانيها أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى وثالثها أن العبد متى توقع من جانب شيئاً أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيراً من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله
وأما طريق الجذب فهو كما قال عليه السلام ( جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب لا مغلوب وصفة الرب الربوبية وصفة العبد العبودية والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد وصفة الحق حقيقة وصفة العبد مجاز والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلاً عليه ومشتغلاً به وغافلاً عن غيره فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضياً بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة َ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه أحدها أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية وثانيها أنه تعالى لما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) إلى قوله وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ قال إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة َ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات وثالثها أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة أحدها ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول وثانيها ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به بين الحكمة فيه وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وثالثها الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن(4/142)
المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي ورحا وأرحاء قال الزاجر كأن متنيه من النفي
مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير إنا إذا قرع العدو صفاتنا
لاقوا لنا حجراً أصم صلودا
وفي كتاب الخليل الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس وإذا نعتوا الصخرة قالوا صفاة صفواء وإذا ذكروا قالوا صفا صفوان فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة وقاله غير هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشاعر كل يوم يقرع
وأما شَعَائِرَ اللَّهِ فهي أعلام طاعته وكل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله قال الله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( الحج 36 ) أي علامة للقربة وقال ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( الحج 32 ) وشعائر الحج معالم نسكه ومنه المشعر الحرام ومنه إشعار السنام وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله ومنه الشعائر في الحرب وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك شعرت بكذا أي علمت
المسألة الثالثة الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك أو نحملها على مواضع العبادات والنسك فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا
المسألة الرابعة الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين(4/143)
ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب فمن دعاه فإنه غياث المستغثيثن فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين
المسألة الخامسة ذكر القفال في لفظ الحج أقوالاً الأول الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر الثاني قال قطرب الحج الحلق يقال احجج شجتك وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة فيكون المعنى حج فلان أي حلق قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ ( الفتح 27 ) أي حجاجاً وعماراً فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق الثالث قال قوم الحج القصد يقال رجل محجوج ومكان محجوج إذا كان مقصوداً ومن ذلك محجة الطريق فكان البيت لما كان مقصوداً بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجاً قال القفال والقول الأول أشبه بالصواب لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه
وأما العمرة فقال أهل اللغة الاعتمار هو القصد والزيارة قال الأعشى وجاشت النفس لما جاء جمعهم
وراكب جاء من تثليث معتمر
وقال قطرب العمرة في كلام عبد القيس المسجد والبيعة والكنيسة قال القفال ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر وأما الجناح فهو من قولهم جنح إلى كذا أي مال إليه قال الله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع جوانح لاعوجاجها وجناح الطائر من هذا لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء ومنهم من قال بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به
وقوله أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( المزمل 1 ) أي المتدثر والمتزمل ويقال طاف وأطاف بمعنى واحد
المسألة السادسة ظاهر قوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ أنه لا إثم عليه والذي يصدق عليه أنه لا إثم(4/144)
في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر إذا عرفت هذا فنقول مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن ولا يقوم الدم مقامه وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن ويقوم الدم مقامه وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء أن من تركه فلا شيء عليه حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) فإن قيل هذا الحديث متروك الظاهر لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو ذلك غير واجب قلنا لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الجمعة 9 ) والعدو فيه غير واجب وقال الله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في القصد والنية سلمنا أنه يدل على العدو ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة فيبقى أصل المشي واجباً وثانيها ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته وقال ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به ) فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ وقوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى ( آل عمران 31 ) وقوله لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) والأمر للوجوب وثالثها أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين أحدهما هذه الآية وهي قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وهذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فبين أنه تطوع وليس بواجب وثانيهما قوله ( الحج عرفة ) ومن أدرك عرفة فقد تم حجه وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ترك العمل به في بعض الأشياء فيبقى معمولاً به في السعي والجواب عن الأول من وجوه الأول ما بينا أن قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) والقصر عند أبي حنيفة واجب مع أنه قال فيه فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ فكذا ههنا الثاني أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما وعندنا الأول غير واجب وإنما الثاني هو الواجب الثالث قال ابن عباس كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم أو دم البراغيث عندنا فقيل لا جناح عليك أن تصلي فيه فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة الرابع روي عن عروة أنه قال لعائشة إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما فقالت بئس ما قلت لو كان كذلك لقال أن لا يطوف بهما ثم حكى ما تقدم من الصنمين وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين فإن قالوا قرأ ابن مسعود ( فلا جناح(4/145)
عليه أن لا يطوف بهما ) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) أي أن لا تضلوا وكقوله تعالى أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الأعراف 172 ) معناه أن لا تقولوا قلنا القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً الخامس كما أن قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ لا يطلق على الواجب فكذلك لا يطلق على المندوب ولا شك في أن السعي مندوب فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها
وأما التمسك بقوله فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولاً بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( البقرة 184 ) ثم قال فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ( البقرة 184 ) فأوجب عليهم الطعام ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر وهو من وجهين أحدهما أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر الثاني أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا ففيه مسائل
المسألة الأولى قراءة حمزة وعاصم والكسائي ( يطوع ) بالياء وجزم العين وتقديره يتطوع إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن وأما الباقون من القراء فقرؤا ( تطوع ) على وزن تفعل ماضياً وهذه القراءة تحتمل أمرين أحدهما أن يكون موضع ( تطوع ) جزماً الثاني أن لا يجعل ( من ) للجزاء ولكن يكون بمنزلة ( الذي ) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) فما مبتدأ موصول والفاء مع ما بعدها خبر له ونظيره قوله وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ( النساء 38 ) إلى قوله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ( البقرة 274 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ ( البروج 10 ) إلى قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وقوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً وقوله مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وقوله وَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً ( البقرة 274 )
المسألة الثانية قال أبو مسلم ( تطوع ) تفعل من الطاعة وسواء قول القائل طاع وتطوع كما يقال حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيراً والطوع هو الانقياد والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك
المسألة الثالثة الذين قالوا السعي واجب فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب(4/146)
ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ
أما قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه وذلك في حق الله تعالى محال فالشاكر في حقه تعالى مجاز ومعناه المجازي على الطاعة وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه الأول أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم كما قال تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) وهو تعالى لا يستقرض من عوض ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم الثاني أن الشكر لما كان مقابلاً للأنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه الثالث كأنه يقول أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات
وأما قوله عَلِيمٌ فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى عَلِيمٌ تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه وتحذير من خلاف ذلك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قولان أحدهما أنه كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين والثاني أنه ليس يجري على ظاهره في العموم ثم من هؤلاء من زعم أنه في اليهود خاصة قال ابن عباس إن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفات النبي عليه الصلاة والسلام ومن الأحكام فكتموا فنزلت الآية وقيل نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والسدي والأصم والأول أقرب إلى الصواب لوجوه أحدها أن اللفظ عام والعارض الموجود وهو نزوله عند سبب معين لايقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وثانيها أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم ولا شك أن(4/147)
كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف وثالثها أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فحملت الآية على العموم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة وتلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى واحتج من خص الآية بأهل الكتاب أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فأما القرآن فإنه متواتر فلا يصح كتمانه قلنا القرآن قبل صيرورته متواتراً يصح كتمانه والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية
المسألة الثانية قال القاضي الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً فلما كان ما أنزله الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ونظيره هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) وقريب منهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيهاً للناس وزاجرة عن كتمانها ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( التوبة 122 ) وروى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار )
أما قوله تعالى مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دون أدلة العقول وقوله تعالى وَالْهَدْى َ يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية لأنا بينا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل فإن قيل فقد قال وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فعاد إلى الوجه الأول قلنا الأول هو التنزيل والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد
واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب فكان كتمانه داخلاً تحت الآية فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجاً إليها ثم تركها أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم
المسألة الرابعة هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوماً وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى(4/148)
المسألة الخامسة من الناس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد فقال دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجباً وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ( البقرة 160 ) فحكم بوقوع البيان بخبرهم فإن قيل لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان ومأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر
قلنا هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والاقتراء فلا يكون خبرهم موجباً للعلم
المسألة السادسة احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذاً للأجرة على أداء الواجب وأنه غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) وظاهر ذلك بمنع أخذ الأجرة على الإظهار وعلى الكتمان جميعاً لأن قوله وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) مانع أخذ البدل عليه من جميع الوجوه
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ قبل في التوراة والإنجيل من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الأحكام وقيل أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين والثاني ما في القرآن
أما قوله تعالى أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب
أما قوله تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فيجب أن يحمل على من للعنة تأثير وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة ويؤكده قوله تعالى إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( البقرة 161 ) والناس ذكروا وجوهاً أخر أحدها أن اللاعنين هم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن مجاهد وعكرمة وإنما قال اللَّاعِنُونَ ولم يقل اللاعنات لأنه تعالى وصفها بصفة من يعقل فجمعها جمع من يعقل كقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) و نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) و قَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ( فصلت 21 ) وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) وثانيها كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس فإن قيل كيف يصح اللعن من البهائم والجمادات قلنا على وجهين الأول على سبيل المبالغة وهو أنها لو كانت عاقلة لكانت تلعنهم الثاني أنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه وثالثها أن أهل النار يلعنونهم أيضاً حيث كتموهم الدين فهو على العموم ورابعها قال ابن مسعود إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه وتعالى وخامسها عن ابن عباس إن لهم لعنتين لعنة الله ولعنة الخلائق قال وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك فيقول ما أدري فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك لا دريت ولا تليت كذلك كنت في الدنيا وسادسها قال أبو مسلم ( اللاعنون ) هم الذين آمنوا به ومعنى اللعن منهم مباعدة(4/149)
الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه قال القاضي دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ويدل على أن أحداً من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلاً في الآية
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَائِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم ودخلوا في أهل الوعيد وقد ذكرنا أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لا لغرض سواه لأن من ترك رد الوديعة ثم ندم عليه لأن الناس ذموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً وكذلك لو عزم على رد كل وديعة والقيام بكل واجب لكي تقبل شهادته أو يمدح بالثناء عليه لم يكن تائباً وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلاً لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة ثم بين ثالثاً أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان وهو البيان وهو المراد بقوله وَبَيَّنُواْ فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي قالت المعتزلة الآية تدل على أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصح لأن قوله وَأَصْلَحُواْ عام في الكل والجواب عنه أن اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده قال أصحابنا تدل الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأنه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ولو كان كذلك واجباً لما حسن هذا المدح ومعنى أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أقبل توبتهم وقبول التوبة يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها فإن قيل هلا قلتم أن معنى فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما تقولون في قبول الطاعة قلنا الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها وليس كذلك التوبة لأنها موضوعة لاسقاط العقاب وهو الغرض بفعلها وإن كان لا بد من أن يستحق بها الثواب إذا لم يكن مخطئاً ومعنى قوله وَأَنَا التَّوَّابُ القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب ومعنى الرحيم عقيب ذلك التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده يقبل توبتهم بعد التفريط العظيم منهم
إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
اعلم أن في الآية مسائل(4/150)
المسألة الأولى أن ظاهر قوله تعالى إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ عام في حق كل من كان كذلك فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك وقال أبو مسلم يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم وهم الذين يكتمون الآيات واحتج عليه بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون ثم ذكر حال التائبين منهم ذكر أيضاً حال من يموت منهم من غير توبة وأيضاً أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات والجواب عنه أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى فأما إذا دخلوا تحت الأولى استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف
المسألة الثانية لما ذكر في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازماً من غير شرط ولما كان المعلق على الشرط عدماً عند عدم الشرط علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك
المسألة الثالثة إن قيل كيف يلعنه الناس أجمعون وأهل دينه لا يلعنونه قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة لقوله تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وثانيها قال قتادة والربيع أراد بالناس أجمعين المؤمنين كأنه لم يعتد بغيرهم وحكم بأن المؤمنين هم الناس لا غير وثالثها أن كل أحد يلعن الجاهل والظالم لأن قبح ذلك مقرر في العقول فإذا كان هو في نفسه جاهلاً أو ظالماً وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك كانت لعنته على الجاهل والظالم تتناول نفسه عن السدي ورابعها أن يحمل وقوع اللعن على استحقاق اللعن وحينئذ يعم ذلك
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي في الآية دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافراً وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه لأن قوله وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لوجن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه وكذلك السبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح فإن موت من كان كذلك أو جنونه لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال به
المسألة الخامسة القائلون بالموافاة احتجوا بهذه الآية فقالوا علق تعالى وجوب لعنته بأن يموت على كفره فلو استحق ذلك قبل الموت لم يصح ذلك فعلمنا أن الكفر إنما يفيد استحقاق اللعن لو مات صاحبه عليه وكذا الإيمان إنما يفيد استحقاق المدح إذا مات صاحبه عليه الجواب الحكم المرتب على الذين ماتوا على الكفر مجموع أمور منها اللعن لو مات ومنها الخلود في النار وعندنا أن هذا المجموع وهو اللعن وحده لم قلتم أنه لا يحصل إلا فيه
المسألة السادسة القائلون بأن الكفر من الأسماء الشرعية وما بقي على الوضع الأصلي وهم المعتزلة احتجوا بقوله تعالى وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ والله تعالى وصفهم حال موتهم بأنهم كفار ومعلوم أن الكفر بمعنى الستر والتغطية لا يبقى فيهم حال الموت لأن التغطية لا تحصل إلا في حق الحي الفاهم
المسألة السابعة الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد لأنه تعالى قال وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مع أنه مخصوص على مذهب من قال المراد بالناس بعضهم(4/151)
وأما قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى الخلود اللزوم الطويل ومنه يقال أخلد إلى كذا أي لزمه وركن إليه
المسألة الثانية العامل في ( خالدين ) الظرف من قوله ( عليهم ) لأن فيه معنى الإستقرار للعنة فهو حال من الهاء والميم في عليهم كقولك عليهم المال صاغرين
المسألة الثالثة خَالِدِينَ فِيهَا أي في اللعنة وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) والأول أولى لوجوه الأول أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر الثاني أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى الثالث أن قوله خَالِدِينَ فِيهَا إخبار عن الحال وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال بل لا بد من التأويل فكان ذلك أولى واعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بأمور ثلاثة أحدها الخلود وهو المكث الطويل عندنا والمكث الدائم عند المعتزلة على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وثانيها عدم التخفيف ومعناه أن الذي ينالهم من عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض فإن قيل هذا التشابه ممتنع لوجوه الأول أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب كان ذلك كالتخفيف منه الثاني أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفاً الثالث أنهم حيثما يخاطبون بقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت ( أجابوا عنه ) بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت قالوا ولما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه وجب أن يكون دائماً لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوروه وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته وكلما كانت محنته أعظم كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الإنقطاع أكثر
الصفة الثالثة من صفات ذلك العقاب قوله وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) والمعنى إن عذابهم لا يؤجل بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى وفي الآخرة لا مهلة البتة فإذا استمهلوا لا يمهلون وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون وقيل لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) نعوذ بالله من ذلك والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الإنقطاع والتخفيف والتأخير(4/152)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
اعلم أن الكلام في تفسير لفظ الإله قد تقدم في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما الواحد ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي قولهم واحد اسم جرى على وجهين في كلامهم أحدهما أن يكون اسماً والآخر أن يكون وصفاً فالإسم الذي ليس بصفة قولهم واحد المستعمل في العدد نحو واحد اثنان ثلاثة فهذا اسم ليس بوصف كما أن سائر أسماء العدد كذلك وأما كونه صفة فنحو قولك مررت برجل واحد وهذا شيء واحد فإذا أجرى هذا الإسم على الحق سبحانه وتعالى جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولنا شيء ويقوي الأول قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وأقول تحقيق هذا الكلام في العقل أن الأشياء التي يصدق عليها إنها واحد مشتركة في مفهوم الوحدانية ومختلفة في خصوصيات ماهياتها أعني كونها جوهراً أو عرضاً أو جسماً أو مجرداً ويصح أيضاً فعل كل واحد منهما أعني ماهيته وكونه واحداً مع الذهول عن الآخر فإذن كون الجوهر جوهراً مثلاً غير وكونه واحداً غير والمركب منهما غير فلفظ الواحد تارة يفيد مجرد معنى أنه واحد وهذا هو الاسم وتارة يفيد معنى أنه واحد حين ما يحصل نعتاً لشيء آخر وهذا معنى كونه نعتاً
المسألة الثانية الواحدية هل هي صفة زائدة على الذات أم لا اختلفوا فيها فقال قوم إنها صفة زائدة على الذات واحتجوا عليه بأنا إذا قلنا هذا الجوهر واحد فالمفهوم من كونه جوهراً غير المفهوم من كونه واحداً بدليل أن الجوهر يشاركه العرض في كونه واحداً ولا يشاركه في كونه جوهراً ولأنه يصح أن يعقل كونه جوهراً حال الذهول عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لغير المعلوم ولأنه لو كان كونه واحداً نفس كونه جوهراً لكان قولنا الجوهر واحد جارياً مجرى قولنا الجوهر جوهر ولأن مقابل الجوهر هو العرض ومقابل الواحد هو الكثير فثبت أن المفهوم من كونه واحداً إما أن يكون سلبياً أو ثبوتياً لا جائز أن يكون سلبياً لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة والكثرة إما أن تكون سلبية أو ثبوتية فإن كانت الكثرة سلبية والوحدة سلب الكثرة كانت الوحدة سلباً للسلب وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فلو كانت الوحدة سلبية مع الكثرة كان مجموع المعدومات أمراً موجوداً وهو محال فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية ثم هذه الصفة الزائدة إما أن يقال إنه لا تحقق لها إلا في الذهن أولها تحقق خارج الذهن والأول باطل وإلا لم يكن الذهني مطابقاً لما في الخارج فيلزم أن لا يكون الشيء الواحد في نفسه واحداً وهو محال لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن وجد ذهنياً وفرضياً واعتبارياً فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات واحتج من أبى كون الوحدة صفة ثبوتية بأن قال لو كانت الوحدة صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية كونها واحدة ومتباينة بتعيناتها فيلزم أن يكون للوحدة وحدة أخرى وينجر ذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال(4/153)
المسألة الثالثة الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له إنه واحد فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد فإن العشرة الواحدة من حيث إنها عشرة واحدة قد عرضت الوحدة لها فإن قلت عشرتان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت الوحدة لها من هذه الجهة فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة ولأجل هذا اشتبه على بعضهم الوحدة بالموجود فظن أن كل موجود لما صدق عليه أنه واحد كان وجوده نفس وحدته والحق أنه ليس كذلك لأن الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيء مغاير لما به الانقسام
المسألة الرابعة الحق سبحانه وتعالى واحِدٌ باعتبارين أحدهما أنه ليست ذاته مركبة من اجتماع أمور كثيرة والثاني أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود وفي كونه مبدأ لوجود جميع الممكنات فالجوهر الفرد عند من يثبته واحد بالتفسير الأول وليس واحد بالتفسير الثاني والبرهان على ثبوت الوحدة بالتفسير الأول أنه لو كان مركباً لافتقر تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته واجب لغيره فهو مركب مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فما لا يكون كذلك استحال أن يكون مركباً فإذن حقيقته سبحانه حقيقة أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه لا كثرة مقدارية كما تكون للأجسام ولا كثرة معنوية كما تكون للنوع المتركب من الفصل والجنس أو الشخص المتركب من الماهية والتشخص إلا أنه قد صعب ذلك على أقوام وذلك لأنه سبحانه عالم قادر حي مريد فالمفهوم من هذه الصفات إما هو نفس المفهوم من ذاته أو ليس كذلك والأول باطل لوجوه أحدها أنه يمكننا أن نتعقل ذاته مع الذهول عن كل واحد من هذه الصفات وإن لم يمكن ذلك فلا شك أنه يمكننا تعقل كل واحد من هذه الصفات مع الذهول عن أن نتعقل ذاته المخصوصة بل هذا هو الواجب عند من يقول إن ذاته المخصوصة غير معلومة وصفاته معلومة والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فإذن هذه الصفات أمور زائدة على الذات وثانيها أن هذه الصفات لو كانت هي نفس الذات لكان قولنا في الذات إنها عالمة أو ليست عالمة جارياً مجرى قولنا الذات ذات أو لا ذات ولا استحال أن يكون ذلك في البحث يحتمل أن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال الذات ذات علم كل أحد بالضرورة صدقه ومن قال الذات ليست بذات علم كل أحد بالضرورة كذبه ولما كان قولنا الذات عالمة أو ليست عالمة ليس بمثابة قولنا لذات ذات الذات ليست بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات وثالثها أنه لو كان المرجع بهذه الصفات إلى ذاته فقط وذاته ليست إلا شيئاً واحداً لكان المرجع بهذه الصفات إلى شيء واحد فكان ينبغي أن تكون إقامة الدلالة على كونه قادراً تغني عن إقامة الدلالة على كونه عالماً وعلى كونه حياً فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص علمنا أنه ليس المرجع بها إلى الذات إذا ثبت أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات فنقول هذه الصفات إما أن تكون سلبية أو ثبوتية لا جائز أن تكون سلبية لأن السلب نفي محض والنفي المحض لا تخصص فيه ولأنا جعلنا كونه عالماً قادراً عبارة عن نفي الجهل والعجز فالجهل والعجز إما أن يكون المرجع بهما إلى العدم وأنه ليس بعالم ولا قادر أو يكون المرجع إلى أمر ثبوتي وهو أن الجهل عبارة عن اعتقاد غير مطابق والعجز عبارة عن إخلال حال القدرة فإن كان الأول كان العلم والقدرة عبارة عن سلب السلب فيكون(4/154)
ثبوتياً وإن كان الثاني لم يلزم من انتفاء الجهل والعجز بهذا المعنى تحقق العلم والقدرة فإن الجماد قد انتفى عنه الجهل والعجز بهذا المعنى مع أنه غير موصوف بالعلم والقدرة فثبت أن صفات الله تعالى أمور زائدة على ذاته قائمة بذاته والإله عبارة عن مجموع الذات والصفات فقد عاد القول إلى أن حقيقة الإله تعالى مركبة من أمور كثيرة فكيف القول فيه
وإشكال آخر وهو أنا قد دللنا على أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بالذات فإذا كانت حقيقة الحق واحدة فهناك أمور ثلاثة تلك الحقيقة وتلك الواحدية وموصوفية تلك الحقيقة بتلك الواحدية فذلك ثالث ثلاثة فأين التوحيد
وإشكال ثالث وهو أن تلك الحقيقة هل هي موجودة وواجبة الوجود أم لا فإن كانت موجودة فهي بوجودها تشارك سائر الموجودات وبماهياتها تمتاز عن سائر الموجودات فهناك كثرة حاصلة بسبب الوجود والماهية وإن لم تكن موجودة فهذا إشارة إلى العدم وكذا القول في الوجوب فإنها إن كانت واجبة الوجود لذاتها فوجوب وجودها يستحيل أن يكون عين الذات لأن الوجوب صفة لانتساب الموضوع إلى المحمول بالموصوفية والانتساب مغاير بين الشيئين مغاير لكل واحد منهما من حيث هو فلأن تكون صفة ذلك الإنتساب مغايرة لهما أولى وأيضاً فالذات قائمة بنفسها ويستحيل أن يكون مسمى الواجب أمراً قائماً بالنفس ولأنا نصف الذات بالوجوب ووصف الشيء بنفسه محال فثبت أنه لو وجب موجود واجب الوجود لكان وجوب وجوده زائداً على ذاته فهناك أمران تلك الذات مع ذلك الوجوب ومع الموصوفية بذلك الوجوب فقد عاد التثليث
وإشكال رابع وهو أن هذه الحقيقة البسيطة هل يمكن الإخبار عنها وهل يمكن التعبير عنها أم لا والأول محال لأن الإخبار إنما يكون بشيء عن شيء فالمخبر عنه غير المخبر به فهما أمران لا واحد وإن لم يكن التعبير عنه فهو معلوم ألبتة لا بالنفي ولا بالإثبات فهو مغفول عنه فهذا جملة ما في هذا المقام من السؤال
والجواب عن الأول أنه سبحانه ذات موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها واجبة لذاتها ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات فهذا مما لا امتناع فيه عند العقل
وأما الإشكال الثاني وهو أن الوحدة صفة زائدة على الذات فإذا نظرت إليها من حيث أنها واحدة فهناك أمور ثلاثة لا أمر واحد فالجواب أن الذي ذكرته حق ولكن فرق بين النظر إليه من حيث أنه هو وبين النظر إليه من حيث أنه محكوم عليه بأنه واحد فإذا نظرت إليه من حيث أنه هو مع ترك الإلتفات إلى أنه واحد فهناك تتحقق الوحدة وههنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة فاعتبر هذه الحالة بذهنك اللطيف لعلك تصل إلى سره وهذا أيضاً هو الجواب عن إشكال الوجود وإشكال الوجوب
أما الإشكال الرابع وهو أنه هل يمكن التعبير عنه فالحق أنه لا يمكن التعبير عنه لأنك متى عبرت عنه فقد أخبرت عنه بأمر آخر والمخبر عنه مغاير للمخبر به لا محالة فليس هناك توحيد ولو أخبرت عنه بأنه لا(4/155)
يمكن الإخبار عنه فهناك ذات مع سلب خاص فلا يكون هناك توحيد فأما إذا نظرت إليه من حيث أنه هو من غير أن تخبر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات فهناك تحقق الوصول إلى مبادىء عالم التوحيد ثم الإلتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلا بقوله ( هو ) فلذلك عظم وقع هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد وسنذكر شمة من حقائقها في تفسير هذه الآية بعون الله تعالى أما الوحدة بالمعنى الثاني وهي أنه ليس في الوجود شيء يشاركه في وجوب الوجود فكأن هذه الوحدة هي الوحدة الخاصة بذات الحق سبحانه وتعالى وبراهين ذلك مذكورة في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أم الوحدة بالتفسير الأول فليست من خواص ذات الحق سبحانه وتعالى لأنه لا شك في وجود موجودات توهذه الموجودات إما مفردات أو مركبات فالمركب لا بد فيه من المفردات فثبت أنه لا بد من إثبات المفردات في عالم الممكنات فالواحدية بالمعنى الأول ليست من الأمور التي توحد الحق سبحانه بها أما الواحدية بالمعنى الثاني فالحق سبحانه وتعالى متوحد بها ومتفرد بها ولا يشاركه في ذلك النعت شيء سواه فهذه تلخيص الكلام في هذا المقام بحسب ما يليق بعقل البشر وفكره القاصر مع الاعتراف بأنه سبحانه منزه عن تصرفات الأفكار والأوهام وعلائق العقول والأفهام
المسألة الخامسة قال الجبائي يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة لأنه ليس بذي أبعاض ولا بذي أجزاء ولأنه منفرد بالقدم ولأنه منفرد بالإلهية ولأنه منفرد بصفات ذاته نحو كونه عالماً بنفسه وقادراً بنفسه وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه فجعل تفرده بالقدم وبصفات الذات وجهاً واحداً قال القاضي وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك ولذلك عقبه بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وقال أصحابنا إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشارإليها بقولنا هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه أو لا تكون فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر لا بد وأن يكون بقيد زائد فيكون هو في نفسه مركباً بما به الإشتراك وما به الإمتياز فيكون ممكناً معلولاً مفتقراً وذلك محال وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه أحدها أن كل ما عداه فانٍ لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه بل من غيره وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره وثانيها أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان لأنها حادثة وصفات الحق ليست كذلك وثالثها أن صفات الحق غير متناهية بحسب المتعلقات فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة ورابعها أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلاً لها ولا أيضاً بحسب كون ذاته مستكملة بها لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصاً لذاته مستكملاً بالممكن لذاته وهو محال بل ذاته مستكملة لذاته ومن لوازم ذلك الإستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه إلا أن التقسيم يعود في نفس الإستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به(4/156)
خامسها أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته كما لا خبر عندها من كنه ذاته وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات فالمعلوم من علمه أنه أمر ما لا ندري أنه ما هو ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس وكذا القول في كونه قادراً وحياً فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر لأن الموجود إما واجب وإما ممكن فالواجب هو هو والممكن ما عداه وكل ما كان ممكناً فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات سواء كان ملكاً أو ملكاً أو كان فعلاً للعباد أو كان غير ذلك فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره ويلوح لك شيء من حقائق قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو وما هو له وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة فلو سارت إلى الأبد لم تقف لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء فالشيء الأول متروك والشيء الثاني مطلوب وهما متغايران فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم فهناك تنقطع الحركات وتضمحل العلامات والأمارات ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك
المسألة السادسة إن قيل ما معنى إضافته بقوله وَإِلَاهُكُمْ وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف قلنا لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبوداً والذي يليق به أن يكون معبوداً بهذا الوصف إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى فإن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفاً تقديراً
المسألة السابعة قوله وَإِلَاهُكُمْ يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى وقادركم قادر واحد ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود
المسألة الثامنة قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ معناه أنه واحد في الإلهية لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد وبأنه عالم واحد ولما قال وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول هب أن إلهنا واحد فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال لاَ إله إِلاَّ هُوَ وذلك لأن قولنا لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد فقد حصلت الماهية وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية فثبت أن قولنا لا رجل يقتضي النفي العام الشامل فإذا قيل بعد إلا زيداً أفاد التوحيد التام المحقق وفي هذه الكلمة أبحاث أحدها أن جماعة من النحويين قالوا الكلام فيه حذف وإضمار والتقدير لا إله لنا أو لا إله في الوجود إلا الله واعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق وذلك(4/157)
لأنك لو قلت التقدير أنه لا إله لنا إلاالله لكان هذا توحيداً لألهنا لا توحيد للإله المطلق فحينئذ لا يبقى بين قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وبين قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ فرق فيكون ذلك تكراراً محضاً وأنه غير جائز وأما لو قلنا التقدير لا إله في الوجود فذلك الإشكال زائل إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر وذلك لأنك إذا قلت لا إله في الوجود لا إله إلا هو كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك لا إله إلا الله نفياً لماهية الإله الثاني ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى فإن قيل نفي الماهية كيف يعقل فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد كان ذلك حكماً بأن السواد ليس بسواد وهو غير معقول أما إذا قلت السواد ليس بموجود فهذا معقول منتظم مستقيم قلنا بنفي الماهية أمر لا بد منه فإنك إذا قلت السواد ليس بموجود فقد نفيت الوجود والوجود من حيث هو وجود ماهية فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضاً فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا لا إله إلا الله على ظاهره من غير حاجة إلى الإضمار فإن قلت إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود قلت فموصوفية الماهية بالوجود هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفياً لتلك الماهية فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها وحينئذ يعود التقريب المذكور وإن لم تكن تلك الموصوفية أمراً منفصلاً عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي إما إلى الماهية وإما إلى الوجود وحينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار البتة
البحث الثاني فيما يتعلق بهذه الكلمة أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات فإنك ما لم تتصور الوجود أولاً استحال أن تتصور العدم فأنت لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود فتصور الوجود غني عن تصور العدم وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات
والجواب أن الأمر في العقل على ما ذكرت إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد
البحث الثالث في كلمة هُوَ أعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما الأسرار المعنوية فنقول اعلم أن الألفاظ على نوعين مظهرة ومضمرة أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي كالسواد والبياض والحجر والإنسان وأما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما هو المتكلم والمخاطب والغائب من غير دلالة على ماهية ذلك المعين وهي ثلاثة أنا وأنت وهو وأعرفها أنا ثم أنت ثم هو والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه فإنه من المستحيل أن أصير مشتبهاً بغيري أو يشتبه بي غيري بخلاف أنت فإنك قد تشتبه بغيرك وغيرك يشتبه بك في عقلي وظني وأيضاً فأنت أعرف من هو فالحاصل أن أشد المضمرات عرفاناً أَنَاْ وأشدها بعداً عن العرفان ( هو ) وأما ( أنت ) فكالمتوسط بينهما والتأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية ومما يدل على أن أعرف الضمائر قولاً قولي ( أنا ) أن المتكلم حصل له عند الإنفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الإلتباس وههنا لا يمكن الإلتباس فلا حاجة إلى الفصل وأما عند التثنية والجمع فاللفظ(4/158)
واحد أما في المتصل فكقولك شربنا وأما المنفصل فقولك نحن وإنما كان كذلك للأمن من اللبس وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره ويثني ويجمع لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة وتثنية المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة وأما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري إذا عرفت هذا فنقول ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضراً أو غائباً فالعرفان التام بالله ليس إلا الله لأنه هو الذي يقول لنفسه ( أنا ) ولفظ ( أنا ) أعرف الأقسام الثلاثة فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول ( أنا ) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس الإله
بقي أن هناك قوماً يجوزون الاتحاد الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول أنا الله إلا أن القول بالاتحاد غير معقول لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما فذاك ليس باتحاد وإن بقيا فهما اثنان لا واحد ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران وهو ( أنت ) و ( هو ) أما ( أنت ) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ ( الأنبياء 87 ) وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه وقال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وأما ( هو ) فللغائبين ثم ههنا بحث وهو أن ( هو ) في حقه أشرف الأسماء ويدل عليه وجوه
أحدها أن الإسم إما كلي أو جزئي وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعاً من الشركة وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمراً لا يمنع الشركة وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه فإذن جميع الأسماء المشتقة كالرحمن والرحيم والحكيم والعليم والقادر لا يتناول ذاته المخصوصة ولا يدل عليها بوجه البتة وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم والعلم قائم مقام الإشارة فلا فرق بين قولك يا زيد وبين قولك يا أنت ويا هو وإذا كان العلم قائماً مقام الإشارة فالعلم فرع واسم الإشارة أصل والأصل أشرف من الفرع فقولنا يا أنت يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية إلا أن الفرق أن ( أنت ) لفظ يتناول الحاضر و ( هو ) يتناول الغائب وفيه سر آخر وهو أن ( هو ) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء وقولك ( هو ) يتناول تلك الصورة وهي حاضرة فقد عاد القول إلى أن ( هو ) أيضاً لا يتناول إلا الحاضر وثانيها أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب والفرد المطلق لا يمكن نعته لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف والصفة وعند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية وأيضاً لا يمكن الإخبار عنه لأن الإخبار يقتضي مخبراً عنه ومخبراً به وذلك ينافي الفردانية فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق وأما لفظ ( هو ) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة فهذه اللفظة لوصولها إلى كنة الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ(4/159)
التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة وثالثها أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ثم ماهيات صفة الحق أيضاً غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام والإتقان ومن قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل والترك فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعقلها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده بل تشير إليه وإلى عالم الحدوث معاً والناظر إلى شيئين لا يكون مستكملاً في كل واحد منهما بل يكون ناقصاً قاصراً فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تصير حجاباً بين العبد وبين الاستغراق في معرفة الرب وأما ( هو ) فإنه لفظ يدل عليه من حيث هو هو لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث فكان لفظ ( هو ) يوصلك إلى الحق ويقطعك عما سواه وما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواه فكان لفظ ( هو ) أشرف ورابعها أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال والعزة هو الذات وأن ذاته ما كملت بالصفات بل ذاته لكمالها استلزمت صفات الكمال ولفظ ( هو ) يوصلك إلى ينبوع الرحمة والعزة والعلو وهو الذات وسائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت والصفات فكان لفظ ( هو ) أشرف فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ ( هو ) وإليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا وأسرارنا ويروح بها عقولنا وأرواحنا حتى نتخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم ونرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الأنوار وما ذلك عليه بعزيز
المسألة التاسعة قال النحويون في قوله تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ ارتفع ( هو ) لأنه بدل من موضع ( لا ) مع الاسم ولنتكلم في قوله ما جاءني رجل إلا زيد فقوله إلا زيد مرفوع على البدلية لأن البدلية هي الإعراض عن الأول والأخذ بالثاني فكأنك قلت ما جاءني إلا زيد وهذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد أما قوله جاءني إلا زيداً فههنا البدلية غير ممكنة لأنه يصير في التقدير جاءني خلق إلا زيداً وذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيداً وذلك محال فظهر الفرق والله أعلم
أما ( الرحمن الرحيم ) فقد تقدم القول في تفسيرهما وبينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا ( رحيم ) وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا الرَّحْمَنُ
واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان(4/160)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة ٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولاً وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانياً وقبل الخوض في شرح تلكم الدلائل لا بد من بيان مسائل
المسألة الأولى وهي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره فقال عالم من الناس الخلق هو المخلوق واحتجوا عليه بالآية والمعقول أما الآية فهي هذه الآية وذلك لأنه تعالى قال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلى قول لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور أحدها أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود فهذا الإخراج لو كان أمراً مغايراً للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديماً أو حديثاً فإن كان قديماً فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال وإن كان محدثاً فلا بد له أيضاً من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل وثانيها أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجاً للأشياء من عدمها إلى وجودها ثم في الأزل هل أحدث أمراً أو لم يحدث فإن أحدث أمراً فذلك الأمر الحادث هو المخلوق وإن لم يحدث أمراً فالله تعالى قط لم يخلق شيئاً وثالثها أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى وحصول الأثر إما في الحال أو في الإستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادراً مختاراً بل ملجأ مضطراً إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة وذلك كفر
واحتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه أولها أن قالوا لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء والخالق هو الموصوف بالخلق فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى(4/161)
موصوفاً بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل وثانيها أنا إذا رأينا حادثاً حدث بعد أن لم يكن قلنا لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا إن حق وصواب ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه فالخلق غير المخلوق وثالثها أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب ورابعها أن النحاة قالوا إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم وخامسها أنه يصح أن يقال خلق السواد وخلق البياض وخلق الجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة
المسألة الثانية قال أبو مسلم رحمه الله أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسماً لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صواباً قال تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 ) ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقاً ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض
المسألة الرابعة ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( البقرة 163 ) فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وعن سعيد بن مسروق اقل سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الأيات فحدثوهم بالعصا وباليد البيضاء وسألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنزداد يقيناً وقوة على عدونا فسأل ربه ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ولكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فقال عليه السلام ( ذرني وقومي أدعوهم يوماً فيوماً ) فأنزل الله تعالى هذه الآية مبيناً لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهباً ليزدادوا يقيناً فخلق السموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم
واعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام
القسم الأول في تفصيل القول في كل واحد منها فالنوع الأول من الدلائل الاستدلال بأحوال السموات وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في تفسير قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 22 ) ولنذكر ههنا نمطاً آخر من الكلام(4/162)
روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري فقال بعض الفقهاء يوماً ما الذي تقرؤنه فقال أفسر آية من القرآن وهي قوله تعالى أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ ( ق 6 ) فأنا أفسر كيفية بنيانها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته فنقول الكلام في أحوال السموات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول
الفصل الأول
في ترتيب الأفلاك
قالوا أقر بها إلينا كرة القمر وفوقها كرة عطارد ثم كرة الزهرة ثم كرة الشمس ثم كرة المريخ ثم كرة المشتري ثم كرة زحل ثم كرة الثوابت ثم الفلك الأعظم
واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثاً
البحث الأول ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه الأول السير وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد ويتميز السائر عن المستور بلونه الغالب كصفرة عطارد وبياض الزهرة وحمرة المريخ ودرية المشتري وكمودة زحل ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة وكثيراً من الثوابت في طريقه في ممر البروج وكوكب عطارد يكسف الزهرة والزهرة تكسف المريخ وعلى هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس الثاني اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل وأما في حق الشمس فقليل جداً فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين وهذا الطريق بين جداً لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب وشاهده على الوجه الذي حكيناه فأما من لم يمارسه فإنه يكون مقلداً فيه لا سيما وأن أبا الريحان وهو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر الثالث قال بطليموس إن زحل والمشتري والمريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد وأما عطارد والزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد التسديس فضلاً عن سائر الأبعاد فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين وهذا الدليل ضعيف فإنه منقوض بالقمر فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد مع أنه تحت الكل
البحث الثاني في أعداد الأفلاك قالوا إنها تسعة فقط والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها فأما ما عداها فلما لم يدل الرصد عليه لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها وذكر ابن سينا في الشفاء أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطبق بعضها على بعض وأقول هذا الإحتمال واقع لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متساوية وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة والمقدمتان ضعيفتان(4/163)
أما المقدمة الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة لا شك أن حصة كل يوم بل كل سنة بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت
وأما المقدمة الثانية وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واحتجوا من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم فإن بطليموس وجده ( كج نا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كج له ) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب وثانيها أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله وثانيهما قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام أن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبيه وانحطاطه وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل وثالثها أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه
البحث الثالث احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة(4/164)
فقالوا شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ثم قالوا إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت والكاسف تحت المكسوف فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك وثانيها سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت وثالثها هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل والأخرى دون كرة القمر وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي
البحث الرابع زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف فلم لا يجوز أن يقال إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية فهذا الاحتمال واقع وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان الأول وهو برهاني أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين والحركة(4/165)
إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية وهم لا يرضون بذلك الثاني أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ونهاية السكون حاصلة للأرض والأقرب إلى العقول أن يقال كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك فلا جرم كانت في نهاية السكون فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين أحداهما أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة وأنها لا تبطىء مرة وتسرع أخرى وليس لها رجوع عن متوجهاتها والثانية أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون فإن كان مركزه مركز الأرض فإما أن يكون الكوكب مركوزاً في ثخنه أو مركوزاً في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك أو حركة الكوكب وقد فرضنا أنهما لا يوجدان ألبتة فبقي القسمان الآخران أحدهما أن يكون الكوكب مركوزاً في جرم كري مستدير الحركة مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والإستقامة وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك الميحط بالأرض ليس مركزه موافقاً لمركز الأرض فهو الفلك الخارج المركز ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف وفي نصفه الآخر أقل من النصف فلا جرم يحصل بسببه القرب والبعد من الأرض وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها وسرعتها وبطئها وقربها وبعدها من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين أعني التدوير والفلك الخارج المركز
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك فقالوا هذه الأفلاك التسعة منها ما هو كرة(4/166)
واحدة وهو الفلك الأعظم وفلك الثوابت ومنها ما ينقسم إلى كرتين وهو فلك الشمس وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض وهو البعد الأقرب منه وهما في الحقيقة فلك واحد منفصل عنه فلك آخر إلا أنه يقال فلكان توسعا ويسمى المنفصل عنه الفلك الممثل والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس وفلكاً آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى فلك التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز الفلك الحامل ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجاً عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها
الفصل الثالث
في مقادير الحركات
قال الجمهور إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب أحدها كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة(4/167)
وثانيها السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها وثالثها عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير ورابعها أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين وخامسها الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب
وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا زحل ( ب أ ) المشتري ( دنط ) المريخ بدلالة الشمس ( لاكر ) الزهرة ( نط ج ) عطارد ( نط ح ) والقمر ( يج يج مو ) وتسمى حركة المركز وحركة الوسط وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل ( نرح ) المشتري ( ند ط ) المريخ ( كرمب ) الزهرة ( لونط ) عطارد ( ج وكد ) القمر ( يج ج ند ) وتسمى الحركة الخاصة وحركة الاختلاف وهي حركات مراكز الكواكب واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة أحدها أنه يحصل للقمر مثلاً أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة الأول أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب الثاني أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض الثالث أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض الرابع أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان وثانيها أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطاً ما فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبداً تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارناً للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلاً لها وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبداً يكون مقارناً للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما وهو للزهرة ( مه ) ولعطارد ( كه ) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبداً يكون متوسطاً بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعدمركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد فإما أن يكون مقابلاً للشمس أو مقارناً لها ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب
أما المقدمة الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة لا شك أن حصة كل يوم بل كل سنة بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت
وأما المقدمة الثانية وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واحتجوا من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم فإن بطليموس وجده ( كج نا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كج له ) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب وثانيها أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله وثانيهما قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام أن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبيه وانحطاطه وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل وثالثها أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه
البحث الثالث احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة فقالوا شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ثم قالوا إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت والكاسف تحت المكسوف فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك وثانيها سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت وثالثها هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل والأخرى دون كرة القمر وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي
البحث الرابع زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف فلم لا يجوز أن يقال إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية فهذا الاحتمال واقع وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان الأول وهو برهاني أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية وهم لا يرضون بذلك الثاني أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ونهاية السكون حاصلة للأرض والأقرب إلى العقول أن يقال كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك فلا جرم كانت في نهاية السكون فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك(4/168)
الفصل الرابع
في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع
وهي من وجوه أحدها النظر إلى مقادير هذه الأفلاك فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية اختص كل واحد منها بمقدار خاص مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر وثانيها النظر إلى أحيازها فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكاً آخر فوقه وبمقعره فلكاً آخر تحته ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه الأجزاء وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر فكما صح على محدبه أن يلقى جسماً وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلاً والسافل يمكن وقوعه عالياً ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمراً جائزاً يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى وثالثها أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمراً ممكناً جائزاً فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص ورابعها أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضاً متساوية فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمراً جائراً فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة وخامسها أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير العزيز العليم وسادسها أن الفلك الممثل إذا انفصل عنه الفلك الخارج المركز بقي متممان أحدهما من الخارج والآخر من الداخل وأنه جرم متشابه الطبيعة ثم اختص أحد جوانبهما بغاية الثخن والآخر بغاية الرقة بالنسبة وإذا كان كذلك وجب أن يكون نسبة ذلك الثخن والرقة إلى طبيعته على السوية فاختصاص أحد جانبيه بالرقة والآخر بالثخن لا بد وأن يكون بتخصيص المخصص المختار(4/169)
وسابعها أنها مختلف في جهات الحركات فبعضها من المشرق إلى المغرب وبعضها من المغرب إلى المشرق وبعضها شمالية وبعضها جنوبية مع أن جميع الجهات بالنسبة إليها على السوية فلا بد من الإفتقار إلى المدبر وثامنها أنا نراها الآن متحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة أو ما كانت متحركة ثم ابتدأت بالحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة والأزل ينافي المسبوقية بالغير فالجمع بين الحركة والأزلية محال وإن قلنا إنها ما كانت متحركة أزلاً سواء قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة موجودة أو كانت ساكنة أو قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة معدومة أصلاً فالإبتداء بالحركة بعد عدم الحركة يقتضي الإفتقار إلى مدبر قديم سبحانه وتعالى ليحركها بعد أن كانت معدومة أو بعد أن كانت ساكنة وهذا المأخذ أحسن المآخذ وأقواها وتاسعها أن يقال إن حركاتها إما أن تكون من لوازم جسمانيتها المعينة لكنا نرى جسمانياتها المعينة منفكة عن كل واحد من أجزاء تلك الحركة فإذن كل واحد من أجزاء حركته ليس من لوازمه فافتقرت الأفلاك في حركاتها إلى محرك من خارج وذلك هو محرك المتحركات ومدبر الثوابت والسيارات وهو الحق سبحانه وتعالى وعاشرها أن هذا الترتيب العجيب في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركاتها أترى أنها مبنية على حكمة أم هي واقعة بالجزاف والعبث أما القسم الثاني فباطل وبعيد عن العقل فإن جوز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما لبنات ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال فإنه يقضي عليه بالجنون ونحن نعلم أن تركيب هذه الأفلاك وما فيها من الكوكب وما لها من الحركات ليس أقل من ذلك البناء فثبت أنه لا بد فيها من رعاية حكمة ثم لا يخلو إما أن يقال إنها أحياء ناطقة فهي تتحرك بأنفسها أو يقال إنه يحركها مدبر قاهر والأول باطل لأن حركتها إما أن تكون لطلب استكمالها أو لا لهذا الغرض فإن كانت طالبة بحركتها لتحصيل كمال فهي ناقصة في ذواتها طالبة للاستكمال أو لا لهذا الغرض والناقص بذاته لا بد له من مكمل فهي مفتقرة محتاجة وإن لم تكن طالبة بحركتها للاستكمال فهي عابثة في أفعالها فيعود الأمر إلى أنه يبعد في العقول أن يكون مدار هذه الأجرام المستعظمة والحركات الدائمة على العبث والسفه فلم يبق في العقول قسم هو الأليق بالذهاب إليه إلا أن مدبراً قاهراً غالباً على الدهر والزمان يحركها لأسرار مخفية ولحكم لطيفة هو المستأثر بها والمطلع عليها وليس عندنا إلا الإيمان بها على الإجمال على ما قال جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 )
والحادي عشر أنا نراها مختلفة في الألوان مثل صفرة عطارد وبياض الزهرة وضوء الشمس وحمرة المريخ ودرية المشتري وكمودة زحل واختلاف كل واحد من الكواكب الثابتة بعظم خاص ولون خاص وتركيب خاص ونراها أيضاً مختلفة بالسعادة والنحوسة ونرى أعلى الكواكب السيارة أنحسها ونرى ما دونها أسعدها ونرى سلطان الكواكب سعيداً في بعض الاتصالات تحسساً في بعض ونراها مختلفة في الوجوه والخدود واللثات والذكورة والأنوثة وكون بعضها نهارياً وليلياً وسائراً وراجعاً ومستقيماً وصاعداً وهابطاً مع(4/170)
اشتراكها بأسرها في الشفافية والصفاء والنقاء في الجوهر فيقضي العقل بأن اختصاص كل واحد منها بما اختص به لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص
والثاني عشر وهو أن هذه الكواكب وكان لها تأثير في هذا العالم فهي إما أن تكون متدافعة أو متعاونة أو لا متدافعة ولا متعاونة فإن كانت متدافعة فإما أن يكون بعضها أقوى من بعض أو تكون متساوية في القوة وإن كان بعضها أقوى من بعض كان القوي غالباً أبداً والضعيف مغلوباً أبداً فوجب أن تستمر أحوال العالم على طبيعة ذلك الكوكب لكنه ليس الأمر كذلك وإن كانت متساوية في القوة وهي متدافعة وجب تعذر الفعل عليها بأسرها فتكون الأفعال الظاهرة في العالم صادرة عن غيرها فلا يكون مدبر العالم هو هذه الكواكب بل غيرها وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وإن كانت تارة متعاونة وتارة متدافعة كان انتقالها من المحبة إلى البغضة وبالعكس تغيراً لها في صفاتها فتكون هي مفتقرة في تلك التغيرات إلى الصانع المستولي عليها بالقهر والتسخير
والثالث عشر أنها أجسام وكل جسم مركب وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم هو مفتقر إلى غيره ممكن وكل ممكن مفتقر إلى غيره ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مؤثر فافتقاره إلى مؤثره إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه أو حال عدمه والأول باطل لأنه يقتضي إيجاد الموجود وهو محال فبقي القسمان الآخران وهما يقتضيان الحدوث الدال على وجود الصانع
والرابع عشر أن الأجسام متساوية في الجسمية لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف والحار والبارد والرطب واليابس ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام فالجسمية قدر مشترك بين هذه الصفات والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قالمية الصفات فإذن كل ما صح على جسم صح على غيره فإذن اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار والوضع والشكل والطبع والصفة لا بد وأن يكون من الجائزات وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع القديم جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات والأرض على إثبات الصانع وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 )
النوع الثاني من الدلائل أحوال الأرض وفيه فصلان
الفصل الأول
في بيان أحوال الأرض
اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسباباً
السبب الأول اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك وهي أقسام
القسم الأول المواضع العديمة العرض وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين وتكون حركة الفلك دولابية(4/171)
ولم يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره ولم يتصور كوكب أبدي الظهور ولا أبدي الخفاء بل يكون لكل نقطة سوى القطبين طلوع وغروب ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين وذلك عند بلوغ قطبية دائرة الأفق وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة وذلك عند بلوغها نقطتي الإعتدالين
القسم الثاني المواضع التي لها عرض فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل وفي الجنوبية بالخلاف وتصير الحركة ههنا حمائلية ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره إلا ما كان في معدل النهار وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع
القسم الثالث وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الإنقلاب الصيفي
القسم الرابع وهو أن يزداد العرض على ذلك وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور والآخر أبدي الخفاء
القسم الخامس أن يصير العرض مثل تمام الميل وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي لكنهما يماسان الأفق وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق ثم يطلع من أول الجدي إلى أول السرطان دفعة ويغرب مقابله كذلك ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب والغاربة في الطلوع إلى أن تعود الحالة المتقدمة وينعدم الليل هناك في الإنقلاب الصيفي والنهار في الشتوي
القسم السادس أن يزداد العرض على ذلك فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي بحيث يكون المنقلب في وسطها ومدة قطع الشمس إياها يكون نهاراً ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلاً ويعرض هناك لبعض البروج نكوس فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال ونقطة الإعتدال الربيعي على أفق المشرق فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء والجوزاء قبل الثور والثور قبل الحمل ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك
القسم السابع أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة فيكون هناك معدل النهار منطبقاً على الأفق وتصير الحركة رحوية ويبطل الطلوع والغروب أصلاً ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور والنصف الجنوبي أبدي الخفاء ويصير نصف السنة ليلاً ونصفها نهاراً
السبب الثاني لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة اعلم أن خط الاستواء يقطع(4/172)
الأرض نصفين شمالي وجنوبي فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة انقسمت كرة الأرض بهما أرباعاً والذي وجد معموراً من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز ويقال والله أعلم أن ثلاثة الأرباع ماء فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الإستواء يسمى قبة الأرض ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين فتسمى لأجلها قبة ثم وجد طول العمارة قريباً من نصف الدور وهو كالمجمع عليه واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب إلا أنهم اختلفوا في التعيين فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى جزائر الخالدات زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الإنتهاء أيضاً ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الإستواء إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الإستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة فيكون عرض العمارة قريباً من اثنتين وثمانين درجة ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الإستواء وهي التي تسمى الأقاليم وابتداؤه من خط الإستواء وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الإستواء وآخر الأقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم لقلة ما وجدوا فيه من العمارة
السبب الثالث لاختلاف أحوال الأرض كون بعضها برياً وبحرياً وسهلياً وجبلياً وصخرياً ورملياً وفي غور وعلى نجد ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافاً شديداً وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 22 ) ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولاً وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضاً فنقول طول الأرض إما أن يكون مستقيماً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئاً دفعة واحدة عند طلوع الشمس ولصار جميعه مظلماً دفعة واحدة عند غيبتها لكن ليس الأمر كذلك لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفاً واحداً بعينه واعتبرنا معه حالاً مضبوطاً من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي والثاني أيضاً باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولاً ثم في شرقه ثانياً ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب ثم هذا المحدب إما أن يكون كرياً أو عدسياً والثاني باطل لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة حتى أن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار فثبت أنها كرة في الطول فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحاً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها والثاني أيضاً باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك المقعر ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية(4/173)
الحجة الثانية ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة
بيان الأول أن انخساف القمر نفس ظل الأرض لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم نقول وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديراً وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها وبين القطعة المظلمة منها فإذا كان الظل مستديراً وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديراً فثبت أن الأرض مستديرة ثم إن هذا الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج مع أن شكل الخسوف أبداً على الاستدارة فإذن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب
الحجة الثالثة أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل كرة واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين أحدهما أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها متطبقاً على مركز العالم ولو كان كذلك لكان الماء محيطاً بها من كل الجوانب لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطاً بكل الأرض الثاني ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جداً
أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقراً للحيوانات وأيضاً لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء
وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة قالوا لو اتخذنا كرة من خشب قطرها ذراع مثلاً ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة
الفصل الثاني
في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع
اعلم أن الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع أسهل من الاستدلال بأحوال السموات على ذلك وذلك لأن الخصم يدعى أن اتصاف السموات بمقاديرها وأحيازها وأوضاعها أمر واجب لذاته ممتنع التغير فيستغني عن المؤثر فيحتاج في إبطال ذلك إلى إقامة الدلالة على تماثل الأجسام الأرضية فإنا نشاهد تغيرها في جميع صفاتها أعني حصولها في أحيازها وألوانها وطعومها وطباعها ونشاهد أن كل واحد من أجزاء الجبال والصخور الصم يمكن كسرها وإزالتها عن مواضعها وجعل العالي سافلاً والسافل عالياً وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن اختصاص كل واحد من أجزاء الأرض بما هو عليه من المكان والحيز والمماسة والقرب من بعض الأجسام والبعد من بعضها يمكن التغير والتبدل وإذا ثبت أن اتصاف تلك الأجرام بصفاتها(4/174)
أمر جائز وجب افتقارها في ذلك الاختصاص إلى مدبر قديم عليم سبحانه وتعالى عن قول الظالمين وإذا عرفت مأخذ الكلام سهل عليك التفريع
النوع الثالث من الدلائل اختلاف الليل والنهار وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا للاختلاف تفسيرين أحدها أنه افتعال من قولهم خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء ومنه يقال فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه وبهذا فسر قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً ( الفرقان 62 ) والثاني أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان
وعندي فيه وجه ثالث وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة فهما يختلفان بالأمكنة فإن عند من يقول الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك لساعة في موضع من الأرض صبح وفي موضع آخر ظهر وفي موضع ثالث عصر وفي رابع مغرب وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال أما البلاد المختلفة بالعرض فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ( الحديد 6 ) وقال في القصص قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( القصص 71 73 ) وفي الروم وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( الروم 23 ) وفي لقمان أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ ( لقمان 29 ) وفي الملائكة يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ( فاطر 13 ) وفي يس وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ( ي س 37 ) وفي الزمر يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ( غافر 5 ) وفي حم غافر اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( غافر 62 ) وفي عم وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) والآيات من هذا الجنس كثيرة وتحقيق الكلام أن يقال إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه الأول أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس وهي من الأيات العظام الثاني ما يحصل بسبب طول الأيام تارة وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء وهو من الآيات العظام الثالث أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام الرابع أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل(4/175)
مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح الخامس أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى في الصور وتقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية وهذا أيضاً من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام السادس أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي وهو المراد بقوله تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الأنعام 96 ) السابع أن تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهاراً وستة أشهر ليلاً وهناك لا يتم النضج ولايصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة الثامن أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المحرك لأجرام السموات ملك عظيم الجثة والقوة وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلاً على أنه الصانع قلنا أما على قولنا فلما دل الدليل على أن قدرة العبد غير صالحة للإيجاد فقد زال السؤال وأما على قول المعتزلة فقد نفى أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع
النوع الرابع من الدلائل قوله تعالى وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ( البقرة 164 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك وفلك السماء اسم لا طواق سبعة تجري فيها النجوم وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكاً لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر وإذا أريد به الجمع أنث ومثاله قولهم ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى
المسألة الثانية قال الليث سمي البحر بحراً لاستبحاره وهو سعته وانبساطه ويقال استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي البحر بحراً لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة
المسألة الثالثة ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة أحدها بحر الهند وهو الذي يقال له أيضاً بحر الصين والثاني بحر المغرب والثالث بحر الشام والروم ومصر والرابع بحر نيطش والخامس بحر جرجان
فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى(4/176)
أرض الهند والصين يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل وعرضه ألفي وسبعمائة ميل ويجاوز خط الإستواء ألفاً وسبعمائة ميل وخلجان هذا البحر الأول خليج عند أرض الحبشة ويمتد إلى ناحية البربر ويسمى الخليج البربري طول مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل والثاني خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم طوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه سبعمائة ميل ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر وعلى طرفه القلزم فلذلك سمي به وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن وعلى غربيه أرض الحبشة الثالث خليج بحر أرض فارس ويسمى الخليج الفارسي وهو بحر البصرة وفارس الذي على شرقيه تيز ومكران وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه خمسماية ميل وبين هذين الخليجين أعني خليج أيلة وخليج فارس أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب فيما بين مسافة ألف وخمسائة ميل الرابع يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر طوله ألف وخمسمائة ميل قالوا وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي سرنديب يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ومن جزائر هذا البحر جزيرة كله التي يجلب منها الرصاص القلعي وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور
وأما بحر المغرب فهو الذي يسمى بالمحيط وتسميه اليونانيون أوقيانوس ويتصل به بحر الهند ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال عند محاذاة أرض الروس والصقالبة فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب محاذياً لأرض السودان ماراً على حدود السوس الأقصى وطنجة وتاهرت ثم الأندلس والجلالقة والصقالبة ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى جزائر الخالدات ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين طوله من المشرق إلى المغرب ثلثمائة ميل وعرضه مائة ميل
وأما بحر الروم وأفريقية ومصر والشام فطوله مقدار خمسة آلاف ميل وعرضه ستمائة ميل ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية طوله خمسمائة ميل وعرضه ستمائة ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين طوله مائتا ميل وفي هذا البحر مائة واثنتان وستون جزيرة عامرة منها خمسون جزيرة عظام
وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية في أرض الروس والصقالبة طوله ألف وثلثمائة ميل وعرضه ثلثمائة ميل
وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلثمائة ميل وعرضه ستمائة ميل وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون لأنها على فرضته ثم يمتد إلى طبرستان والديلم والنهروان وباب الأبواب وناحية أران وليس يتصل ببحر آخر فهذه هي البحور العظام وأما غيرها فبحيرات وبطائح كبحيرة خوارزم وبحيرة طبرية(4/177)
وحكي عن أرسطاطاليس أن بحر أوقيانوس ميحط بالأرض بمنزلة المنطقة لها فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور
المسألة الرابعة في كيفية الإستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس وهي من وجوه أحدها أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك وثانيها لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها وثالثها لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت ورابعها لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد وطريقاً لمنافعهم وتجاراتهم وخامسها أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعياً يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه وسادسها تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه وسابعها أن الأودية العظام مثل جيحون وسيحون تنصب أبداً إلى بحيرة خوارزم على صغرها ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد ألبتة ولا تمتد فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها وثامنها ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها ويوصلها إلى سواحل السلامة وتاسعها ما في البحار من هذا الأمر العجيب وهو قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 19 20 ) وقال هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( فاطر 12 ) ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الإختلاط بالبعض وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها
المسألة الخامسة دل قوله على صفة الفلك بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ على إباحة ركوبها وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات
النوع الخامس قوله تعالى وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( البقرة 164 )
واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه أحدها أن تلك الأجسام وما قام بها من صفات الرقة والرطوبة والعذوبة ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى قال سبحانه قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) وثانيها أنه تعالى جعله سبباً لحياة الإنسان ولأكثر منافعه قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنبياء 30 ) وثالثها أنه تعالى كما جعله سبباً لحياة الإنسان جعله سبباً لرزقه قال تعالى وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات 22 ) ورابعها أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام وخامسها أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدراً بمقدار النفع من الآيات العظام قال تعالى حكاية عن نوح فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً ( نوح 10 11 )(4/178)
وسادسها ما قال فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( فاطر 9 ) وقال وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( الحج 5 ) فإن قيل أفتقولون إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر
قلنا بل نقول إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره وإذا كان قادراً على إمساك الماء في السحاب فأي بعد في أن يمسكه في السماء فأما قول من يقول إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار وقدم العالم وذلك كفر لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه
أما قوله فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الجاثية 5 ) فاعلم أن هذه الحياة من جهات أحدها ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما مما لولاه لما عاشت دواب الأرض وثانيها أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد وثالثها أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) ورابعها أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله وخامسها يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم وكذلك الموت إلا أن الجسم إذا صار حياً حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء والنشور والنماء فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة
واعلم أن إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه أحدها نفس الزرع لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه وثانيها اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى وثالثها اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر ورابعها استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة
النوع السادس من الآيات قوله تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان وسائر الحيوانات كقوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ( النساء 1 )
واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد وقد يكون بالتوالد وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات
أما الإنسان فالذي يدل على فتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه أحدها يروي أن واحداً قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني أتعجب من أمر الشطرنج فإن رقعته ذراع في ذراع ولو(4/179)
لعب الإنسان ألف ألف مرة فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد فقال عمر بن الخطاب ههنا ما هو أعجب منه وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير البتة ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها وثانيها أن الإنسان متولد من النطفة فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية والأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله أكثر علماً وقدرة ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفتها لا يقدر على ذلك فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع فهذا المعنى إما أن يكون جسماً متشابه الأجزاء في نفسه أو يكون مختلف الأجزاء فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحماً ودماً وإنساناً من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى وثالثها الإستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن ورابعها ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار لأنها حارة يابسة وأدون منها في اللطافة الهواء ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء وتحت الكل القلب وهو حار يابس على طبع النار فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء ويركبها كيف أراد
ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه وعن الهواء كي لا يزيل طرواته ولطافته وعن النار كيلا تحرقه ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء فقال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) وقال في الهواء فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وقال أيضاً وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا ( المائدة 110 ) وقال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال في النار وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد وخامسها انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً يقطع نفسه لمات في الحال ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة مع تعذر النفس هناك ولم يمت ثم إنه بعد الإنفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم بحيث لا يميز بين الماء والنار(4/180)
وبين المؤذي والملذ وبين الأم وبين غيرها ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة كان أكثر فهماً وقت الإستكمال فلما لم يكن الأمر كذلك بل كان على الضد منه علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم وسادسها اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية شديدة المشابهة بعضها بالبعض ونرى الناس مختلفين جداً في الصورة ولولا ذلك لاختلت المعيشة ولاشتبه كل أحد بأحد فما كان يتميز البعض عن البعض وفيه فساد المعيشة واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له
النوع السابع من الدلائل تصريف الرياح وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه الإستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف وهو الرقة واللطافة ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات وذلك من وجوه أحدها أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضاً شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضاً وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبداً ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين والأدوية النادرة قليلة فلا جرم عزت هذه الأشياء وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جداً فلا جرم كانت في نهاية العزة فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال سبحان من خص القليل بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس لمحتاج إلى أنفاسه
وثانيها لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب أو إذا كان الهواء ساكناً أن يحركه لتعذر
المسألة الثانية قال الواحدي ( وتصريف الرياح ) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير
المسألة الثالثة الرياح جمع الريح قال أبو علي الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الاعلال كالواو في قوم وقول وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو(4/181)
ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري إنما سميت الريح ريحاً لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح
المسألة الرابعة قالوا الرياح أربع الشمال والجنوب والصبا والدبور فالشمال من نقطة الشمال والجنوب من نقطة الجنوب والصبا مشرقية والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولاً لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء
المسألة الخامسة اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر ( الرياح ) على الجمع في عشرة مواضع البقرة والأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم في موضعين والجاثية وفاطر وقرأ نافع في اثني عشر موضعاً هذه العشرة وفي إبراهيم كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيَاحِ ( ابراهيم 18 ) وفي حم عسق إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيَاحِ ( الشورى 33 ) وقرأ ابن كثير ( الرياح ) في خمسة مواضع البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع في الحجر والفرقان والروم الأول منها
واعلم أن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية وأما من وحد فإنه يريد به الجنس كقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( الروم 46 ) وإنما يبشر بالرحمة وقال في موضع الإفراد فِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 41 ) وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَا أَدْرَاكَ ( القارعة 3 10 )
النوع الثامن من الدلائل قوله تعالى الرّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالارْضِ ( البقرة 164 ) سمي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء ومعنى التسخير التذليل وإنما سماه مسخراً لوجوه أحدها أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر الثاني أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأمطار والابتلال ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو كالمسخر لله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة الثالث أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل
وأما قوله تعالى لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( الروم 24 ) ففيه مسائل(4/182)
المسألة الأولى قوله لاَيَاتٍ لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد مما تقدم ذكره فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه أحدها أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة وثانيها أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادراً لأنه لو كان المؤثر موجباً لدام الأثر بدوامه فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ومن حيث أنها وقعت على وجه الأتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع على ما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وثالثها أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلاً لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر ورابعها أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصاً بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهداً على وجود الصانع لا جرم قال إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى وأما المحدث فكل ما عداه وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهداً على وجوده مقراً بوحدانيته معترفاً بلسان الحال بإلهيته وهذا هو المراد من قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 )
أما قوله تعالى لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره وما يلزم عبادته وطاعته
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعماً دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قال القاضي عبد الجبار الآية تدل على أمور أحدها أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك وثانيها لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات وثالثها أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر(4/183)
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّة َ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر وبضدها تتبين الأشياء وقالوا أيضاً النعمة مجهولة فإذا فقدت عرفت والناس لا يعرفون قدر الصحة فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها وكذا القول في جميع النعم فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية وهنا مسائل
المسألة الأولى أما الند فهو المثل المنازع وقد بينا تحقيقه في قوله تعالى في أول هذه السورة فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( البقرة 22 ) واختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال أحدها أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ورجوا من عندها النفع والضر وقصدوها بالمسائل ونذروا لها النذور وقربوا لها القرابين وهو قول أكثر المفسرين وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض أي أمثال ليس إنها أنداداً لله أو المعنى إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة وثانيها إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله عن السدي والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه الأول أن قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ الهاء والميم فيه ضمير العقلاء الثاني أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع الثالث أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الإنقياد لله تعالى
القول الثالث في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين وهو أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى وهو المراد من قوله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الفرقان 43 )
أما قوله تعالى يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ فاعلم أنه ليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف والمراد يحبون عادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم أو جميع ذلك وقوله كَحُبّ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال قيل فيه كحبهم لله وقيل فيه كالحب اللازم عليهم لله وقيل فيه كحب المؤمنين لله وإنما اختلفوا هذا الإختلاف من حيث إنهم اختلفوا في أنهم هل كانوا يعرفون الله أم لا فمن قال كانوا يعرفون مع اتخاذهم الأنداد تأول على أن المراد كحبهم لله ومن قال إنهم ما كانوا عارفين بربهم حمل الآية على أحد الوجهين(4/184)
الباقيين إما كالحب اللازم لهم أو كحب المؤمنين لله والقول الأول أقرب لأن قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ راجع إلى الناس الذين تقدم ذكرهم وظاهر قوله كَحُبّ اللَّهِ يقتضي حباً لله ثابتاً فيهم فكأنه تعالى بين في الآية السالفة أن الإله واحد ونبه على دلائله ثم حكى قول من يشرك معه وذلك يقتضي كونهم مقرين بالله تعالى
فإن قيل العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله وذلك لأنه بضرورة والعقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تعقل وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعاً مدبراً حكيماً ولهذا قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 ) ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى وأيضاً فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وإذا كان كذلك كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى فكيف يعقل الإستواء في الحب مع هذا القول قلنا قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ أي في الطاعة لها والتعظيم لها فالإستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في البحث عن ماهية محبة العبد لله تعالى اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة وهي أن العبد قد يحب الله تعالى والقرآن ناطق به كما في هذه الآية وكما في قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وكذا الأخبار روي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه هل رأيت خليلاً يميت خليله فأوحى الله تعالى إليه هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله فقال يا ملك الموت الآن فاقبض وجاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( يا رسول الله متى الساعة فقال ما أعددت لها فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال عليه الصلاة والسلام المرء مع من أحب ) فقال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك وروي أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر وقد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً فقال لهم ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام قالوا الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرايا من النور فقال كيف بلغتم إلى هذه الدرجة قالوا بحب الله فقال عليه الصلاة والسلام ( أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة ) وعند السدي قال تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين منهم فإنهم ينادون يا أولياء الله وفي بعض الكتب ( عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً )
واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة لكنهم اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين إن المحبة نوع من أنواع الإرادة والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته فإذا قلنا نحب الله فمعناه نحب طاعة الله وخدمته أو نحب ثوابه وإحسانه وأما العارفون فقد قالوا العبد قد يحب الله تعالى لذاته وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة واحتجوا(4/185)
بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها والكمال أيضاً محبوب لذاته أما اللذة فإنه إذا قيل لنا لم تكتسبون قلنا لنجد المال فإن قيل ولم تطلبون المال قلنا لنجد به المأكول والمشروب فإن قالوا لم تطلبون المأكول والمشروب قلنا لتحصل اللذة ويندفع الألم فإن قيل لنا ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم قلنا هذا غير معلل فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوباً لأجل شيء آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوباً لذاته وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها والألم مطلوب الدفع لذاته لا لسبب آخر وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم واستفنديار واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوباً لذاته إذا ثبت هذا فنقول الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته أو على محبة ثوابه فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته أما العارفون الذين قالوا إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى فإنه لوجوب وجوده غنى عن كل ما عداه وكمال كل شيء فهو مستفاد منه وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه والرجل الشجاع لكماله في شجاعته والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى وأنه محبوب في ذاته ولذاته سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب فنقول العبد لا سبيل له إلى الإطلاع على الله سبحانه ابتداء بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم كان علمه بكماله أتم فكان له حبه أتم ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى ثم تحدث هناك حالة أخرى وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى كثر ترقيه في مقام محبة الله فإذا كثر ذلك صار ذلك سبباً لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الإلتفات إلى ما عداه يشغله عن الإلتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله ونفرته عما سواه على القلب ويشتد كل واحد منهما بالآخر إلى أن يصير القلب نفوراً عما سوى الله تعالى والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيراً بأنوار القدس مستضيئاً بأضواء عالم العصمة فانياً عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس(4/186)
فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية
المسألة الثانية في معنى الشوق إلى الله تعالى اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه فإن لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين أحدهما أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ولا سائر محاسنه فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح مشوب بشوائب الخيالات فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات وهي مدركات للمعارف الروحانية ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فبما اتضح اتضاحاً والثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقاً إلى معرفتها والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يكون في الدنيا وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته وحكمته في أفعاله وهي غير متناهية والإطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى واعلم أن ذلك الشوق لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان والحرمان والوصول والصد آلاماً مخلوطة بلذات واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان كانت أقوى فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل والبهائم لا تستعد لها أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو
المسألة الثالثة في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حباً لله أما المتكلمون فقالوا إن حبهم لله يكون من وجهين أحدهما أنه ما يصدر منهم من التعظيم والمدح والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك والثاني أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد وأما العارفون فقالوا المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد فإن قيل كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حباً لله
والجواب من وجوه أحدها أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأنداد قال تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( العنكبوت 6 ) إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء والكافر قد يعرض عن ربه فكان حب المؤمن أقوى وثانيها أن من أحب غيره رضي(4/187)
بقضائه فلا يتصرف في ملكه فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه وذلك في الجهاد وثالثها أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب فالذي فعلوه باطل ورابعها قال ابن عباس إن المشركين كانوا يعبدون صنماً فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن وخامسها أن المؤمنين يوحدون ربهم والكفار يعبدون مع الصنم أصناماً فتنقص محبة الواحد أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه
أما قوله تعالى وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّة َ لِلَّهِ جَمِيعًا ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قراءة هذه الآية أبحاثاً
البحث الأول قرأ نافع وابن عمر ( ولو ترى ) بالتاء المنقوطة من فوق خطاباً للنبي عليه السلام كأنه قال لو ترى يا محمد الذين ظلموا والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد ثم قال بعضهم هذه القراءة أولى لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينون من العذاب يوم القيامة أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك فوجب إسناد الفعل إليهم
البحث الثاني اختلفوا في ( يرون ) فقرأ ابن عامر ( يرون ) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ والباقون ( يرون ) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم
البحث الثاني اختلفوا في ( أن ) فقرأ بعض القراء ( إن ) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها
البحث الرابع لما عرفت أن يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ قرىء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت وقوله أَنَّ الْقُوَّة َ قرىء تارة بفتح الهمزة من ( أن ) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات
الاحتمال الأول أن يقرأ وَلَوْ يَرَى بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من ( أن ) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير ولو يرون أن القوة لله ومعناه ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أنداداً فعلى هذا جواب ( لو ) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله وَلَوْ تَرَى إِذَا وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( الأنعام 27 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ( الأنعام 93 ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) ويقولون لو رأيت فلاناً والسياط تأخذ منه قالوا وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد
الاحتمال الثاني أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من ( إن ) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا إن القوة لله
الاحتمال الثالث أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق مع فتح الهمزة من ( أن ) وهي قراءة نافع وابن(4/188)
عامر قال الفراء الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعاً
الاحتمال الرابع أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق مع كسر الهمزة وتقديره ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعاً وهذا أيضاً تأويل ظاهر جيد
المسألة الثانية إن قيل كيف جاء قوله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وهو مستقبل مع قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ و ( إذ ) للماضي قلنا إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب قال تعالى وَمَا أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ( النحل 77 ) وقال لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 ) وقول المقيم قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ ( الأنعام 27 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ( سبأ 31 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ ( سبأ 51 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ( الأنفال 50 )
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاٌّ سْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أنداداً بقوله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( البقرة 165 ) على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وقال أيضاً الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) وحكى عن إبليس أنه قال إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ وههنا مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذْ تَبَرَّأَ قولان الأول أنه بدل من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( البقرة 165 ) الثاني أن عامل الإعراب في ( إذ ) معنى شديد كأنه قال هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ
المسألة الثانية معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤن من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤن منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ يدخل في معناه(4/189)
أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سبباً والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه أحدها أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة والربيع وعطاء وثانيها أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي وثالثها أنهم شياطين الجن والإنس ورابعها الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام ويجب أيضاً حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء
المسألة الثانية ذكروا في تفسير التبرؤ وجوهاً أحدها أن يقع منهم ذلك بالقول وثانيها أن يكون نزول العذاب بهم وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا وثالثها أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول لأنه هو الحقيقة في اللفظ
أما قوله تعالى وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ الواو للحال أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف
أما قوله تعالى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه عطف على ( تبرأ ) وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال الأول أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها عن مجاهد وقتادة والربيع الثاني الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج الثالث الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي والرابع العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس الخامس ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم السادس المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس السابع أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر
المسألة الثانية الباء في قوله تعالى بِهِمُ الاْسْبَابُ بمعنى ( عن ) كقوله تعالى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً أي عنه قال علقمة بن عبدة فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء
المسألة الثالثة أصل السبب في اللغة الحبل قالوا ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به ومنه قوله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ( الحج 15 ) ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة(4/190)
تريدها سبب يقال ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة وقيل للطريق سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده قال تعالى فَأَتْبَعَ سَبَباً ( الكهف 85 ) أي طريقاً وأسباب السموات أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها قال تعالى مخبراً عن فرعون لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ( غافر 36 37 ) قال زهير ومن هاب أسباب المنايا تناله
ولو رام أسباب السماء بسلم
والمودة بين القوم تسمى سبباً لأنهم بها يتواصلون
أما قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَنقِمُ مِنَّا فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة
أما قوله كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى في قوله كَذالِكَ يُرِيهِمُ وجهان الأول كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد الثاني كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات لأنهم أيقنوا بالهلاك
المسألة الثانية في المراد بالأعمال أقوال الأول الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي الثاني المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها الثالث ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم الرابع أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة وهو كفرهم ومعاصيهم وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم وأيقنوا بالجزاء عليها وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به
المسألة الثالثة حسرات ثالث مفاعيل رأى
المسألة الرابعة قال الزجاج الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه يقال حسر فلان يحسر حسرة وحسراً إذا اشتد ندمه على أمر فاته وأصل الحسر الكشف يقال حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة والحسور الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر قال تعالى وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( الأنبياء 19 ) والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش
أما قوله تعالى وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل(4/191)
القبلة يخرجون من النار فقالوا إن قوله وَمَا هُمْ تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصاً بهم وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الانفطار 14 16 ) وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه(4/192)
بداية الجزء الخامس من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(5/2)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حَلَالاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّو ءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أنداداً ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم فقال النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب الوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج
المسأل الثانية الحلال المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه حل بالمكان إذا نزل به لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة وحل من إحرامه لأنه حل عقدة الإحرام وحلت عليه العقوبة أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء لأنه يحل عن الطي للبس ومن هذا تحلة اليمين لأنه عقدة اليمين تنحل به واعلم أن الحرام قد يكون حراماً لخبثه كالميتة والدم والخمر وقد يكون حراماً لا لخبثه كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين
المسألة الثالثة قوله ( حلالاً طيباً ) إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض وإن شئت فصبته على أنه مفعول
المسألة الرابعة الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ ( المائدة 100 ) والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه(5/3)
والحرام غير مستلذ لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان الأول أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيباً إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراماً وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة والثاني المرادمنه المباح وقوله يلزم التكرار قلنا لا نسلم فإن قوله حَلَالاً المراد منه ما يكون جنسه حلالاً وقوله طَيّباً المراد منه لا يكون متعلقاً به حق الغير فإن أكل الحرام وإن اسطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطاباً كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 )
أما قوله تعالى لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر والكسائي وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم خُطُواتِ بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع كما فعل بالإسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الإسم والصفة وذلك أن ما كان اسماً جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات وما كان نعتاً جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة
المسألة الثانية قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال حثوت حثوة والحثوة اسم لما تحثيت وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فانهما قالا خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك ثم بين العلة في هذا التحذير وهو كونه عدواً مبيناً أي متظاهر بالعداوة وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ( النساء 119 ) وثلاثة منها في قوله تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 16 17 ) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك
وأما قوله تعالى إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فهذا كالتفصيل لجملة عداوته وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها السوء وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك(5/4)
المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها الفحشاء وهي نوع من السوء لأنها أقبح أنواعه وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وكأنه أقبح أنواع الفحشاء لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية وقال الفلاسفة إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه
ولقائل أن يقول صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفاً أولاً تشبهها فإن كان الأول فصور الحروف حروف فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفاً لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج والعربي لا يتكلم في قلبه إلا بالعربية وكذا العجمي وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية وثانيها أن فاعل هذه الخواطر من هو أما على أصلنا وهو أن خالف الحوادث بأسرها هو الله تعالى فالأمر ظاهر وأما على أصل المعتزلة فهم لا يقولون بذلك وأيضاً فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى وفيها ما يكون كذباً وسخفاً لزم كون الله موصوفاً بذلك تعالى الله عنه ولا يمكن أن يقال إن فاعلها هو العبد لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها ألبتة لا تندفع بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال فإذن لا بد ههنا من شيء آخر وهو إما المك وإما الشيطان فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ وفي أقصى القلب حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها غير متحيزة ألبتة لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضاً أن يقال إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر ولا بعد أيضاً أن يقال إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى أقصى قلبه ودماغه ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالاً لا ينفصل فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَة ِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الأنفال 12 ) أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم ويدل عليه من الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ) وفي الحديث أيضاً ( إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه ) ومن صوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية وفسر(5/5)
الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية
المسألة الثاني دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة إِنَّمَا وهي للحصر وقال بعض العارفين إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الاشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية
المسألة الثالثة قوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يتناول جميع المذاهب الفاسدة بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلمه فصار مستحقاً للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية
المسألة الرابعة تمسك نفاة القياس بقوله وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والجواب عنه أنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب كان العمل بالقياس قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ
اعلم أنهم اختلفوا في الضمير في قوله لَهُمْ على ثلاثة أقوال أحدها أنه عائد على مِنْ في قوله مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا ( البقرة 165 ) وهم مشركو العرب وقد سبق ذكرهم وثانيها يعود على النَّاسِ في قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( البقرة 21 ) فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الإلتفات مبالغة في بيان ضلالهم كأنه يقول للعقلاء انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون وثالثها قال ابن عباس نزلت في اليهود وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خير منا وأعلم منا فعلى هذا الآية مستأنفة والكناية في لَهُمْ تعود إلى غير مذكور إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم كما يعود على المذكور ثم حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الكسائي يدغم لام هَلُ و بَلِ في ثمانية أحرف التاء كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ ( الأعلى 16 ) والنون بَلْ نَتَّبِعُ والثاء هَلْ ثُوّبَ ( المصطفين 36 ) والسين بَلْ سَوَّلَتْ ( يوسف 18 ) والزاي بَلْ زُيّنَ ( الرعدة 33 ) والضاد بَلْ ضَلُّواْ ( الأحقاف 28 ) والظاء بَلْ ظَنَنْتُمْ والطاء بَلْ طَبَعَ ( النساء 155 ) وأكثر القراء على الإظهار ومنهم من يوافقه في البعض والإظهار هو الأصل
المسألة الثانية أَلْفَيْنَا بمعنى وجدنا بدليل قوله تعالى في آية أخرى بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( لقمان 21 ) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ( يوسف 25 ) وقوله إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ(5/6)
ءابَاءهُمْ ضَالّينَ ( الصافات 69 )
المسألة الثالثة معنى الآية أن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة فهم قالوا لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد وأجاب الله تعالى عنهم بقوله أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو في أَوْ لَوْ واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه
الثانية تقرير هذا الجواب من وجوه أحدها أن يقال للمقلد هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً فكيف عرفت أنه محق وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل وإن عرفته بالعقل فذاك كاف فلا حاجة إلى التقليد وإن قلت ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً فاذن قد جوزت تقليده وإن كان مبطلاً فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل وثانيها هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه ألبتة مذهباً فأنت ماذا كنت تعمل فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا وثالثها أنك إذا قلدت من قبلك فذلك المتقدم كيف عرفته أعرفته بتقليد أم لا بتقليد فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً
المسألة الثالثة إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابع التقليد وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والإستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل أو على ما يقوله الغير من غير دليل
المسألة الرابعة قوله لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا لفظ عام ومعناه الخصوص لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص
المسألة الخامسة قوله لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا المراد أنهم لا يعلمون شيئاً من الدين وقوله تعالى وَلاَ يَهْتَدُونَ المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(5/7)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر وأخلدوا إلى التقليد وقالو بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( البقرة 170 ) ضرب لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء وقلة الإهتمام بالدين فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك فيكون كسراً لقلبه وتضييقاً لصدره حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد وههنا مسائل
المسألة الأولى نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها وأما نعق الغراب فبالغين المعجمة
المسألة الثانية للعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان أحدهما تصحيح المعنى بالإضمار في الآية والثاني إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار أما الذين أضمروا فذكروا وجوها الأول وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة كأنه قال ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه الثاني مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجرى مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم فإذا كان لا شك أن ههنا المحذوف هو المدعو وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي وفيه سؤال وهو أن قوله إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً الثالث قال ابن زيد مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال يا زيد يسمع من الصدى يا زيد فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعو هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء
الطريق الثاني في الآية وهو إجراؤها على ظاهرها من غير إضمار وفيه وجهان أحدهما أن يقول مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا ههنا الثاني مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائد فكذا التقليد عبث عديم الفائدة
أما قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم فقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها قال النحريون صُمٌّ أي هم صم وهو رفع على الذم أما قوله فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم قال العقل عقلان مطبوع ومسموع
ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الإستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل من فقد حساً فقد علماً(5/8)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة 168 ) ثم نقول إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى ومن هنا شرع في بيان الأحكام اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الأكل قد يكون واجباً وذلك عند دفع الضرر عن النفس وقد يكون مندوباً وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد فهذا الأكل مندوب وقد يكون مباحاً إذا خلا عن هذه العوارض والأصل في الشيء أن يكون خالياً عن العوارض فلا جرم كان مسمى الأكل مباحاً وإذا كان الأمر كذلك كان قوله كُلُواْ في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة
المسألة الثانية احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراماً بقوله تعالى مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالاً لكان قوله مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ معناه من محللات ما أحللنا لكم فيكون تكراراً وهو خلاف الأصل أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه فأباح الله تعالى ذلك بقوله كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى
المسألة الثالثة قوله وَاشْكُرُواْ اللَّهِ أمر وليس بإباحة فإن قيل الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضرورياً فكيف يمكن إيجابه وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار بالسان والعمل بالجوارح فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه وذلك أيضاً غير واجب وإذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة
أما قوله تعالى إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوها أحدها وَاشْكُرُواْ للَّهِ إن كنتم عارفين بالله وبنعمه فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها معناه إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه فإن الشكر رأس العبادات وثالثها وَاشْكُرُواْ للَّهِ الذي رزقكم هذه النعم إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره عن أنس رضي الله عنه عن(5/9)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأزرق ويشكر غيري )
المسألة الثانية احتج من قال إن المعلق بلفظ أن لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة ءانٍ على فعل العباد مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمرنا في الآية السالفة بتناول الحلال فصل في هذه الآية أنواع الحرام والكلام فيها على نوعين النوع الأول ما يتعلق بالتفسير والنوع الثاني ما يتعلق بالأحكام التي استنبطها العلماء من هذه الآية ( فالنوع الأول ) فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن كلمة إِنَّمَا على وجهين أحدهما أن تكون حرفاً واحداً كقولك إنما داري دارك وإنما مالي مالك الثاني أن تكون مَا منفصلة من إن وتكون مَا بمعنى الذي كقولك إن ما أخذت مالك وإن ما ركبت دابتك وجاء في التنزيل على الوجهين أما على الأول فقوله إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وأما على الثاني فقوله إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ ( طه 69 ) ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل إِنَّمَا حرفاً واحداً كان صواباً وقوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ ( العنكبوت 25 ) تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين واختلفوا في حكمها على الوجه الأول فمنهم من قال إِنَّمَا تفيد الحصر واحتجو عليه بالقرآن والشعر والقياس أما القرآن فقوله تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) أي ما هو إلا إله واحد وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ( التوبة 60 ) أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( الكهف 110 ) أي ما أنا إلا بشر مثلكم وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ( الأنعام 145 ) فصارت الآيتان واحدة فقوله إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ في هذه الآية مفسر لقوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا إلا كذا في تلك الآية وأما الشعر فقوله الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقول الفرزق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابه أنا أو مثلى
وأما القياس فهو أن كلمة ءانٍ للإثبات وكلمة مَا للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق أو ثبوت المذكور ونفي غير(5/10)
المذكور وهو المطلوب واحتج من قال إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ولقد كان غيره نذيراً وجوابه معناه ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر ولا ينفي وجود نذير آخر
المسألة الثانية قرىء حَرَّمَ على البناء للفاعل و حَرَّمَ للبناء للمفعول و حَرَّمَ بوزن كرم
المسألة الثالثة قال الواحدي الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها فحرم الله الدم وقوله لَحْمَ الْخِنزِيرِ أراد الخنزير بجميع أجزائه لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قال الأصمعي الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل وقال ابن أحمر يهل بالفدفد ركبانها
كما يهل الراكب المعتمر
هذا معنى الإهلال في اللغة ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام هذا معنى الإهلال يقال أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام والذابح مهل لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه استهل الصبي فمعنى قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يعني ما ذبح للاصنام وهو قول مجاهد والضحاك وقتادة وقال الربيع بن أنس وابن زيد يعني ما ذكر عليه غير اسم الله وهذا القول أولى لأنه أشد مطابقة للفظ قال العلماء لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً وذبيحته ذبيح مرتد وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب أما ذبائح أهل الكتاب فتحل لنا لقوله تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 )
أما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ ففيه مسائل(5/11)
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم النون والباقون بالكسر فالضم للاتباع والكسر على أصل الحركة لإلتقاء الساكنين
المسألة الثانية اضطر أحوج وألجىء وهو افتعل من الضرورة وأصله من الضرر وهو الضيق
المسألة الثالثة لما حرم الله تعالى تلك الأشياء استثنى عنها حال الضرورة وهذه الضرورة لها سببان أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطراً الثاني إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناوله
المسألة الرابعة أن الاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإذن لا بد ههنا من إضمار وهو الأكل والتقدير فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف ههنا كالحذف في قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ ( البقرة 196 ) ومعناه فحلق ففدية وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف ولدلالة الخطاب عليه
أما قوله تعالى غَيْرَ بَاغٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء غَيْرِ ههنا لا تصلح أن تكون بمعنى الاستثناء لأن غير ههنا بمعنى النفي ولذلك عطف عليها لا لأنها في معنى لا وهي ههنا حال للمضطر كأنك قلت فمن اضطر باغياً ولا عادياً فهو له حلال
المسألة الثاني أصل البغي في اللغة الفساد وتجاوز الحد قال الليث البغي في عدو الفرس اختيال ومروح وأنه يبغي في عدوه ولا يقال فرس باغ والبغي الظلم والخروج عن الإنصاف ومنه قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( الشورى 39 ) وقال الأصمعي بغي الجرح يبغي بغيا إذا بدأ بالفساد وبغت السماء إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد وبغي الجرح والبحر والسحاب إذا طغى
أما قوله تعالى وَلاَ عَادٍ فالعدو هو التعدي في الأمور وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه يقال عدا عليه عدوا وعدوانا واعتداء وتعديا إذا ظلمه ظلماً مجاوزاً للحد وعدا طوره جاوز قدره
المسألة الثالثة لأهل التأويل في قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ قولان أحدهما أن يكون قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ مختصاً بالأكل والثاني أن يكون عاما في الأكل وغيره أما على القول الأول ففيه وجوه الأول غَيْرَ بَاغٍ وذلك بأن يجد حلالاً تكرهه النفس فعدل إلى أكل الحرام اللذيذ وَلاَ عَادٍ أي متجاوز قدر الرخصة الثاني غير باغ للذة أي طالب لها ولا عاد متجاوز سد الجوعة عن الحسن وقتاد والربيع ومجاهد وابن زيد الثالث غير باغ على مضطر آخر بالاستيلاء عليه ولا عاد في سد الجوعة
القول الثاني أن يكون المعنى غير باغ على إمام المسلمين في السفر من البغي ولا عاد بالمعصية أي مجاوز طريقة المحقين والكلام في ترجيح أحد هذين التأويلين على الآخر سيجيء إن شاء الله تعالى
أما قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ففيه سؤالان أحدهما أن الأكل في تلك الحالة واجب وقوله لا إِثْمَ عَلَيْهِ يفيد الإباحة الثاني أن المضطر كالملجأ إلى الفعل والملجأ لا يوصف بأنه لا إثم عليه قلنا قد بينا في تفسير قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( البقرة 158 ) أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح وأيضاً فقوله تعالى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ معناه رفع الحرج والضيق واعلم أن هذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار وههنا يتحقق معنى الوجوب
أما قوله تعالى في آخر الآية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه إشكال وهو أنه لما قال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فكيف يليق أن يقول بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم
والجواب من وجوه أحدهما أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة ثم ذكر بعده أنه رحيم يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة فهو(5/12)
سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفوراً رحيماً لأنه غفور للعصاة إذا تابوا رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى
النوع الثاني من الكلام في هذه الآية المسائل الفقهية التي استنبطها العلماء منها وهي مرتبة على فصول
الفصل الأول
فيما يتعلق بالميتة
والكلام فيه مرتب على مقدمة ومقاصد
أما المقدمة ففيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن التحريم المضاف إلى الأعيان هل يقتضي الإجمال فقال الكرخي إنه يقتضي الإجمال لأن الأعيان لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفهما إلى فعل من أفعالنا فيها وليست جميع أفعالنا فيها محرمة لأن تبعيدها عن النفس وعما يجاوز المكان فعل من الأفعال فيها وهو غير محرم فإذن لا بد من صرف هذا التحريم إلى فعل خاص وليس بعض الأفعال أولى من بعض فوجب صيرورة الآية مجملة وأما أكثر العلماء فإنهم أصروا على أنه ليس من المجملات بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما أن الذوات لا تملك وإنما يملك التصرفات فيها فإذا قيل فلان يملك جارية فهم كل أحد أنه يملك التصرف فيها فكذا هنا وقد استقصينا الكلام فيه من كتاب المحصول في علم الأصول
المسألة الثانية لما ثبت الأصل الذي قدمناه وجب أن تدل الآية على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص فإن قيل لم لا يجوز تخصيص هذا التحريم بالأكل والذي يدل عليه وجوه أحدها أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وثانيها أنه ورد عقيب قوله كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( البقرة 57 ) وثالثها ما روي عن الرسول عليه السلام في خبر شاة ميمونة إنما حرم من الميتة أكلها
والجواب عن الأول لا نسلم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وعن الثاني أن هذه الآية مستقلة بنفسها فلا يجب قصرها على ما تقدم بل يجب إجراؤها على ظاهرها وعن الثالث أن ظاهر القرآن مقدم على خبر الواحد لكن هذا إنما يستقيم إذا لم يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن المسلمين إنما رجعوا في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية فدل إنعقاد اجماعهم على أنها غير مخصوصة ببيان حرمة الأكل وللسائل أن يمنع هذا الإجماع
المسألة الثالثة الميتة من حيث اللغة هو الذي خرج من أن يكون حيا من دون نقض بنية ولذلك فرقوا بين المقتول والميت وأما من جهة الشرع فهو غير المذكي إما لأنه لم يذبح أو أنه ذبح ولكن لم يكن ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة في موضعه فإن قيل كيف يصح ذلك وقد قال تعالى في سورة المائدة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ ( المائدة 3 ) ثم ذكر من بعده المنخنقة والموقوذة والمتردي فدل هذا على أن غير(5/13)
المذكى منه ما هو ميتة ومنه ما ليس كذلك قلنا لعل الأمر كان في ابتداء الشرع على أصل اللغة وأما بعد استقرار الشرع فالميتة ما ذكرناه والله أعلم
أما المقاصد فاعلم أن الخطأ في المسائل المستنبطة من هذه الآية من وجهين أحدهما ما أخرجوه عن الآية وهو داخل فيها والثاني ما أدخلوه فيها وهو خارج عنها
أما القسم الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى ذهب الشافعي رضي الله عنه في أظهر أقواله إلى أنه يحرم الانتفاع بصوف الميتة وشعرها وعظمها وقال مالك يحرم الانتفاع بعظمها خاصة وجل الفقهاء اتفقوا على تحريم الانتفاع بشعر الخنزير واحتج هؤلاء بأن هذه الأشياء ميتة فوجب أن يحرم الانتفاع بها إنما قلنا إنها ميتة لقوله عليه السلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) وهذا الخبر يعم الشعر والعظم والكل وأما الذي يدل على أن العظم ميتة خاصة فقوله تعالى مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( ي س 78 ) فثبت أنها كانت حية فعند الموت تصير ميتة وإذا ثبت أنها ميتة وجب أن يحرم الانتفاع بها لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ اعترض المخالف عليه بأن الشعر والصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور وذلك مفقود في الشعر ولأجل هذا الكلام ذهب مالك إلى تنجيس العظام دون الشعور
والجواب أن الحياة ليست عبارة عن المعنى المقتضى للإدراك والشعور بدليل الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له ) والأصل في الإطلاق الحقيقة فعلمنا أن الحياة في أصل اللغة ليست عبارة عما ذكرتموه بل عن كون الحيوان أو النبات صحيحا في مزاجه معتدلا في حاله غير معترض للفساد والتعفن والتفرق وإذا ثبت ذلك ظهر اندراجه تحت الآية واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر والإجماع والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ( النحل 80 ) حيث ذكرها في معرض المنة والامتنان لا يقع بالنجس الذي لا يحل الانتفاع به وأما الخبر فقوله عليه السلام في شاة ميمونة ( إنما حرم من الميتة أكلها ) وأما الإجماع فهو أنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ويجعلون منها القلانس وعن النخعي كانوا لا يرون بجلود السباع وجلود الميتة إذا دبغت بأساً وما خصوا حال الشعر وعدمه وقول الشافعي كانوا إشارة إلى الصحابة وليس لأحد أن يقول الثعلب عند الشافعي رضي الله عنه حلال فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شرط بالاتفاق وهو غير حاصل في هذه الثعالب وأما القياس فلأن هذه الشعور والعظام أجسام منتفع بها غير متعرضة للتعفن والفساد فوجب أن يقضي بطهارتها كالجلود المدبوغة وأما النفع بشعر الخنزير ففي الفقهاء من منع نجاسته وهو الأسلم ثم قالوا هب أن عموم قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ يقتضي حرمة الانتفاع بالصوف والعظم وغيرهما إلا أن هذه الدلائل تنتج الانتفاع بها والخاص مقدم على العام فكان هذا الجانب أولى بالرعاية
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه إذا مات في الماء دابة ليس لها نفس سائلة لم يفسد الماء قل أو كثر وللشافعي رضي الله عنه قولان في الماء القليل واحتجوا للشافعي بأنها يحوانات فإذا ماتت صارت ميتة فيحرم استعمالها بمقتضى الآية وإذا حرم استعمالها بمقتضى الآية وجب الحكم بنجاستها وإذا ثبت الحكم بنجاستها وجب الحكم بنجاسة الماء القليل الذي وقعت هي فيه وأجابوا(5/14)
عنه بأنه ميتة ويحرم الانتفاع بها ولكن لم قلتم إنها متى كانت كذلك كانت نجسة ثم لم يلزم من نجاستها تنجس الماء بها واحتجوا على القول الثاني للشافعي رضي الله عنه بقوله عليه السلام ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ) وأمر بالمقل فربما كان الطعام حارآ فيموت الذباب فيه فلو كان ذلك سبباً للتنجيس لما أمر النبي عليه السلام به
المسألة الثالثة للفقهاء مذاهب سبعة في أمر الدباغ فأوسع الناس فيه قولا الزهري فإنه يجوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ويليه داود فإنه قال تطهر كلها بالدباغ ويليه مالك فإنه قال يطهر ظاهرها دون باطنها ويليه أبو حنيفة فإنه قال يطهر كلها إلا جلد الخنزير ويليه الشافعي فإنه قال يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير ويليه الأوزاعي وأبو ثور فإنهما يقولان يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ويليه أحمد بن حنبل رضي الله عنهم فإنه قال لا يطهر منها شيء بالدباغ واحتج أحمد بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ ( المائدة 3 ) أطلق التحريم وما قيده بحال دون حال وأما الخبر فقول عبد الله بن حكيم أتانا كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وفاته أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب أجابوا عن التمسك بالآية بأن تخصيص العموم بخبر الواحد وبالقياس جائز وقد وجدا ههنا خبر الواحد فقوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر ) وأما القياس فهو أن الدباغ يعود الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة وكما كان حال الحياة طاهراً كذلك بعد الدباغ وهذا القياس والخبر هما معتمد الشافعي رحمه الله
المسألة الرابعة اختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة فمنهم من منع منه لأنه إذا أطعم البازي ذلك فقد انتفع بتلك الميتة والآية دالة على تحريم الانتفاع بالميتة فاما إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة فهل يجب علينا منعه أم لا فيه احتمالان
المسألة الخامسة اختلفوا في دهن الميتة وودكها هل يجوز الاستصباح به أم لا وهذا ينظر فيه فإن كان ذلك مما حلته الحياة أو في جملته ما هو هذا حاله فالظاهر يقتضي المنع منه وإن لم يكن كذلك فهو خارج من جملة الميتة وإنما يحرم ذلك الدليل سوى الظاهر وعن عطاء بن جابر قال لما قدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أتاه الذين يجمعون الأوداك فقالوا يا رسول الله إنا نجمع الأوداك وهي من الميتة وغيرها وإنما هي للأديم والسفن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ) فنهاهم عن ذلك وأخبرهم بأن تحريمه إياها على الإطلاق أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها
المسألة السادسة الظاهر يقتضي حرمة السمك والجراد إلا أنهما خصا بالخبر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والنون وأما الدمان فالطحال والكبد ) وعن جابر في قصة طويلة أن البحر ألقى إليهم حوتاً فأكلوا منه نصف شهر فلما رجعوا أخبروا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فقال هل عندكم منه شيء تطعموني وقال عليه الصلاة والسلام في صفة البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وأيضاً فإنه ثبت بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام حل السمك واختلفوا في السمك الظافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه فقال مالك والشافعي رضي الله عنهما لا بأس به وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح إنه مكروه واختلف الصحابة في هذه المسألة فعن علي رضي الله عنه أنه قال ما طفا من صيد البحر فلا نأكله وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله(5/15)
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي أيوب إباحته وروى أبو بكر الرازي روايات مختلفة عن جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما ألقى البحر أو جرد عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ) وأما الشافعي رضي الله عنه فقد احتج بالآية والخبر والمعقول أما الآية فقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ( المائدة 96 ) وهذا السمك الطافي من طعام البحر فوجب حله وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتنان السم والجراد ) وهذا مطلق وقوله في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتتة ) وهذا عام وروي عن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( كل ما طفا على البحر )
المسألة السابعة قال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته وروي عن مالك رضي الله عنه أن ما وجد ميتاً لا يحل وأما ما أخذ حيا ثم قطع رأسه وشوي أكل وما أخذ حيا فغفل عنه حتى يموت لم يؤكل حجة مالك ظاهر الآية وحجة الشافعي وأبي حنيفة قوله عليه السلام ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) فوجب حملهما على الإطلاق فتبين بذلك أن قطع رأسه إن جعل له ذكاة فهو كالشاة المذكاة في أنه لا يكون ميتة فلا يكون لقوله عليه السلام ( أحلت لنا ميتتان ) فائدة وقال عبد الله بن أبي أوفي غزوت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره فلم يفرق بين ميتة وبين مقتولة
المسألة الثامنة اختلفوا في الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذبح الأم فقال أبو حنيفة لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وهو قول حماد وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد أنه يؤكل وهذا هو المروى عن علي وابن مسعود وابن عمر وقال مالك إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل وهو قول سعيد بن المسيب واحتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية وهو أنه ميتة فوجب أن يحرم قال الشافعي أخصص هذا العموم بالخبر والقياس أما الخبر فهو أنا أجمعنا على أن المذكى مباح وهذا مذكى لما روى أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وأبو أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبو أيوب وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ذكاه الجنين ذكاة أمه ) وتقريره أن كون الذكاة سبباً للإباحة حكم شرعي فجاز أن تكون ذكاة الجنين حاصلة شرعاً بتحصيل ذكاة أمه أجاب الحنفيون بأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكي أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) ومعناه كعرض السموات والأرض وكقول القائل قولي قولك ومذهبي مذهبك وإنما المعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك وقال الشاعر فعيناك عيناها
وجيدك جيدها
وإذا ثبت ما ذكرنا كان أحد الإحتمالين إيجاب تذكيته وأنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر أن ذكاة أمه تبيح أكله وإذا كان كذلك لم يجز تخصيص الأمر بل يجب حمله على المعنى الموافق للآية أجاب الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها أن على الإحتمال الذي ذكرتموه لا بد فيه من إضمار وهو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه والإضمار خلاف الأصل وثانيها أنه لا يسمى جنيناً إلا حال كونه في بطن أمه ومتى ولد لا يسمى جنيناً والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أثبت له الذكاة حال كونه جنيناً فوجب أن(5/16)
يكون في تلك الحالة مذكي بذكاتها وثالثها أن حمل الخبر على ما ذكرت من إيجاب ذكاته إذا خرج حياً تسقط فائدته لأن ذلك معلوم قبل وروده ورابعها ما روي عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً قال إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه وأما القياس فمن وجوه أحدهما أنا أجمعنا على أن من ضرب بطن امرأته فماتت وألقيت جنيناً ميتاً لم ينفرد الجنين بحكم نفسه ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة فكذلك جنين الحيوان إذا مات عن ذبح أمه وخرج ميتاً كان تبعاً للأم في الذكاة وإذا خرج حياً لم يؤكل حتى يذكى وثانيها أن الجنين حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها فوجب أن يحل بذكاتها كسائل الأعضاء وثالثها الواحب في الولد أن يتبع الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والإستيلاد والكتابة ونحوها
المسألة التاسعة ما قطع من الحي من الأبعاض فهو محرم لأنه ميتة فوجب أن يكون حراماً إنما قلنا إنه ميتة للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) وأما المعقول فهو أن ذلك البعض كان حياً لأنه يدرك الألم واللذة وبالقطع زال ذلك الوصف فصار ميتاً فوجب أن يحرم لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ ( المائدة 3 )
المسألة العاشرة اختلفوا في أن ذبح ما لا يؤكل لحمه هل يستعقب طهارة الجلد فعند الشافعي رضي الله عنه لا يستعقبه لأن هذا الذبح لا يستعقب حل الأكل فوجب أن لا يستعقب الطهارة كذبح المجوسي وعند أبي حنيفة يستعقبه
القسم الثاني مما دخل في الآية وليس منها وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ و حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ لا يقتضي تحريم ما مات فيه من المائعات وإنما يقتضي تحريم عين الميتة وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة فلا يتناوله لفظ التحريم كالسمن إذا وقعت فيه فأرة وماتت فإنه لا يتناولها هذا الظاهر وجملة الكلام في هذا الباب تدور على فصلين أحدهما أما الذي ينجس بمجاورته الميتة فيحرم وأما الذي لا ينجس فلا يحرم والثاني أن الذي ينجس كيف الطريق إلى تطهيره
المسألة الثانية سأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه ما ترون فيها فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويراق المرق فقال أبو حنيفة بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها كما في هذه الرواية وإن كان وقع في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق قال ابن المبارك ولم ذاك قال لأنه إذا سقط فيها في غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم وإذا وقع فيها حال سكونها فمات فإنما رشحت الميتة اللحم قال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين هذا زرين بالفارسية يعني المذهب وروى ابن المبارك مثل هذا عن الحسن
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة لبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهرتان وقال الشافعي ومالك لا يحل هذا اللبن والأنفحة وقال الليث لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة واعلم أن الشافعي رضي الله عنه لا يتمسك في هذه المسألة بظاهر قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ لأن اللبن لا يوصف بأنه ميتة فوجب الرجوع فيه نفياً وإثباتاً إلى دليل آخر ومعتمد الشافعي أن اللبن لو كان مجموعاً في إناء فسقط فيه(5/17)
شيء من الميتة ينجس فكذلك إذا ماتت وهو في ضرعها وهكذا الخلاف في الأنفحة أما البيض إذا أخرج من جوف الدجاج فهو طاهر إذا غسل ويحل أكله لأن القشرة إذا صلبت حجزت بين المأكول وبين الميتة فتحل ولذلك لو كانت البيضة غير منعقدة لحرمت
ولنختم هذا الفصل بمسائل مشتركة بين القسمين
المسألة الأولى اختلف المتكلمون في أن الميتة هل تكون ميتة بمعنى الموت فمنهم من أثبت الموت بمعنى مضاد للحياة على ما قال تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) ومنهم من قال إنه عدم الحياة عما من شأنه أن يقبل الحياة وهذا أقرب
المسألة الثانية اختلفوا في أن حرمة الميتة هل تقتضي نجاستها والحق أن حرمة الانتفاع لا تقتضي النجاسة لأن لا يمتنع في العقل أن يحرم الانتفاع بها ويحل الانتفاع بما جاورها إلا أنه قد ثبت بالإجماع أن الميتة نجسة
الفصل الثاني
في تحريم الدم وفيه مسألتان
المسألة الأولى الشافعي رضي الله عنه حرم جميع الدماء سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح وقال أبو حنيفة دم السمك ليس بمحرم أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية وهو قوله إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وهذا دم فوجب أن يحرم وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( الأنعام 145 ) فصرح بأنه لم يجد شيئاً من المحرمات إلا هذه الأمور فالدم الذي لا يكون مسفوحاً وجب أن لا يكون محرماً بمقتضى هذه الآية فإذن هذه الآية خاصة وقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ عام والخاص مقدم على العام أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية بل على أنه تعالى ما بين له إلا تحريم هذه الأشياء وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها فلعل قوله تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ نزلت بعد ذلك فكان ذلك بياناً لتحريم الدم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جيمع الدماء ونجاستها فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن وكذا في السمك وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود
المسألة الثانية اختلفوا في قوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان ودمان الطحال والكبد ) هل يطلق اسم الدم عليهما فيكون استثناء صحيحاً أم لا فمنهم من منع ذلك لأن الكبد يجري مجرى اللحم وكذا الطحال وإنما يوصفان بذلك تشبيهاً ومنهم من يقول هو كالدم الجامد ويستدل عليه بالحديث
الفصل الثالث
في الخنزير وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن(5/18)
معظم الإنتفاع متعلق به وهو كقوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ ( الجمعه 9 ) فخص البيع بالنهي لما كان هو أعظم المهمات عندهم أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمة وتنجيسه واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز فقال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وقال أبو يوسف أكره الخرز به وروى عنه الإباحة حجة أبي حنيفة ومحمد أنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم ولأن الحاجة ماسة إليه وإذا قال الشافعي في دم البراغيث أنه لا ينجس الثوب لمشقة الإحتراز فهلا جاز مثله في شعر الخنزير إذا خرز به
المسألة الثانية اختلفوا في خنزير الماء قال ابن أبي ليلى ومالك والشافعي والأوزاعي لا بأس يأكل شيء يكون في البحر وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يؤكل حجة الشافعي قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ( المائدة 96 ) وحجة أبي حنيفة أن هذا خنزيرفيحرم لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ( المائدة 13 ) وقال الشافعي الخنزير إذا أطلق فإنه يتبادر إلى الفهم خنزير البر لا خنزير البحر كما أن اللحم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم لحم غير السمك لا لحم السمك بالاتفاق ولأن خنزير الماء لا يسمى خنزيراً على الإطلاق بل يسمى خنزير الماء
المسألة الثالثة للشافعي رضي الله عنه قولان في أنه هل يغسل الإناء من ولغ الخنزير سبعاً أحدها نعم تشبيها له بالكلب والثاني لا لأن ذلك التشديد إنما كان فطما لهم عن مخالطة الكلاب وهم ما كانوا يخالطون الخنزير فظهر الفرق
الفصل الرابع
في تحريم ما أهل به لغير الله
من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم كقوله تعالى وَمَا ذُبِحَ عَلَى ( المائدة 3 ) وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فقلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون واحتج المخالف بوجوه الأول إنه تعالى قال الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 ) وهذا عام الثاني أنه تعالى قال وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فدل على أن المراد بقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هو المراد بقوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ الثالث أن النصراني إذا سمى الله تعالى وإنما يريد به المسيح فإذا كانت إرادته لذلك لم تمنع حل ذبيحته مع أنه يهل به لغير الله فكذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله وإرادته المسيح
والجواب عن الأول أن قوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ عام وقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ خاص والخاص مقدم على العام وعن الثاني أن قوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لا يقتضي تخصيص قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لأنهما آيتان متباينتان ولا مساواة بينهما وعن الثالث أنا إنما كلفنا بالظاهر لا بالباطن فإذا ذبحه على اسم الله وجب أن يحل ولا سبيل لنا إلى الباطن(5/19)
الفصل الخامس
القائلون بأن كلمة إِنَّمَا للحصر اتفقوا على أن ظاهر الآية يقتضي أن لا يحرم سوى هذه الأشياء لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات فتصير كلمة إِنَّمَا متروكة الظاهر في العمل ومن قال إنها لا تفيد الحصر فالإشكال زائل
الفصل السادس
في ( المضطر ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ معناه أن من كان مضطرًّ ولا يكون موصوفاً بصفة البغي ولا بصفة العدوان ألبتة فأكل فلا إثم عليه وقال أبو حنيفة معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا فقال الشافعي رضي الله عنه لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية وقال أبو حنيفة بل يترخص لأنه مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ ( المائدة 3 ) ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفاً بإنه غير باغ ولا عاد والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة لأن قولنا فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا فلان متعد ويكفي في صدقة كونه متعدياً في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر أو في الأكل أو في غيرهما وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعدياً في أمر ما أي أمر كان وجب أن يكون قولنا فلان غير معتدلا يصدق إلا إذا لم يكن متعدياً في شيء من الأشياء ألبتة فاذن قولنا غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه والعاصي بسفره متعد بسفره فلا يصدق عليه كونه غير عاد وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ أقصى ما في الباب أن يقال هذا يشكل بالعاصي في سفره فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان لكنا نقول إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية أما إذا لم يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية فظهر الفرق واعلم أن القاضي وأبا بكر الرازي نقلاً عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ أي باغ على إمام المسلمين ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية ثم قالا تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه وذلك لأن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ شرط والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل لأنا بينا أن معنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقاً بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو ألبتة غير مذكور
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنا بينا أن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا ولا نقول اللفظ يدل على التعيين وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة فكان على خلاف الأصل ثم الذي يدل على أنه لا(5/20)
يجوز صرفه إلى الأكل وجوه أحدها أن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ حال من الاضطرار فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه لأن حال الأكل لا يبق وصف الاضطرار وثانيها أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة وثالثها أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها فاذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات فكان تخصيصه بالأكل غير جائز وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره وهو نفي العدوان من جميع الوجوه ويستلزم نفي العدوان في السفر وحينئذ يتحقق مقصوده ورابعها أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ( المائدة 3 ) وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه أحدها قوله تعالى في آية أخرى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( الأنعام 119 ) وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص وثانيها قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( النساء 29 ) وقال وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة فوجب أن يحرم وثالثها روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ورابعها أن العاصي بسفره إذا كان نائماً فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى وخامسها أن يدفع أسباب الهلاك كالفيل والجمل الصؤل والحية والعقرب بل يجب عليه فكذا ههنا وسادسها أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس وسابعها أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه فكذلك يدفع ضررالهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصياً وثامنها أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه(5/21)
وقال عبد الله بن الحسن العنبري يأكل منها ما يسد جوعه وعن مالك يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه فكذا ههنا ويدل عليه أيضاً أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك
المسألة الثالثة اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار فوجب أن يكون مخيراً في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأناً في التحريم
المسألة الرابعة اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمراً أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعاً للهلاك عنها فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة وقال الشافعي رضي الله عنه لا يشرب لأنه يزيده عطشاً وجوعاً ويذهب عقله وأجيب عنه بأن قوله لا يزيده إلا عطشاً وجوعاً مكابرة وقوله يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك
المسألة الخامسة اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة فأباحه بعضهم للنص والمعنى أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي وأما المعنى فمن وجوه الأول أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام ( إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ) وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله والنزاع ليس إلا فيه
المسألة السادسة اختلفوا في التداوي بالخمر واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة(5/22)
الحكم الثاني
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبي ياسر بن أخطب كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمر محمد عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون فقيل كانوا يكتمون صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونعته والبشارة به وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم وقال الحسن كتموا الأحكام وهو قوله تعالى إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 )
المسألة الثالثة اختلفوا في كيفية الكتمان فالمروى عن ابن عباس أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام فهذا هو المراد من الكتمان فيصير المعنى إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب
أما قوله تعالى وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ففيه مسائل
المسألة الأولى الكناية في به يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم
المسألة الثانية معنى قوله وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا كقوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) وقد مر ذلك وبالجملة فكان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال بسبب ذلك فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمناً قليلاً
المسألة الثالثة إنما سماه قليلاً إما لأنه في نفسه قليل وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل(5/23)
المسألة الرابعة من الناس من قال كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم وقال آخرون بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه أولها قوله تعالى أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم ذكر البطن ههنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون بل فيه فائدة فقوله فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم يقال أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه
المسألة الثانية قيل إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيباً في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار كما روي في حديث آخر ( الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وقوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا ( يوسف 36 ) أي عنباً فسماه بإسم ما يؤول إليه وقيل إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثالثها قوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ فظاهره أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم وذلك قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 93 ) وقوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين والسؤال لا يكون إلا بكلام فقالوا وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) الثاني أنه تعالى لا يكلمهم وأما قوله تعالى فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكوراً في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه وضده في أعدائه ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد الثالث أن قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث وثالثها قوله وَلاَ يُزَكّيهِمْ وفيه وجوه الأول لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم الثاني لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء الثالث لا ينزلهم منازل الأزكياء ورابعها قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل(5/24)
المسألة الأولى أن علماء الأصول قالوا العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكّيهِمْ إشارة إلى الإهانة والاستخفاف وقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب
المسألة الثانية دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره
المسألة الثالثة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله اعلم
أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَة ِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما وصف علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم واعلم أن الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا ورضوا بالضلال والجهل فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة وأخسرها العذاب فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه كانوا لا محالة أعظم الناس خساراً في الدنيا وفي الآخرة وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم استروا العذاب بالمغفرة لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة
أما قوله فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في هذه اللفظة قولان أحدهما أن مَا في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وهذا قول عطاء وابن زيد وقال ابن الأنباري وقد يكون أصبر بمعنى صبر وكثيراً ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم وأخبر وخبر الثاني أنه بمعنى التعجب وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى والصابرين عليه فلهذا قال تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ما أصبرك على التقيد والسجن إذا عرفت هذا ظهر أنه يجب حمل قوله فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ على حالهم في الدنيا لأن ذلك وصف لهم في حال التكليف وفي حال اشترائهم الضلالة بالهدى وقال الأصم المراد أنه إذا قيل لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) فهم يسكتون(5/25)
ويصبرون على النار لليأس من الخلاص وهذا ضعيف لوجوه أحدها أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر وثانيها أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة
المسألة الثانية في حقيقة التعجب وفي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وههنا بحثان
البحث الأول في التعجب وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خقاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 ) بضم التاء من عجبت فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد
البحث الثاني اعلم أن للتعجب صيغتين أحدهما ما أفعله كقوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ والثاني أفعل به كقوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( مريم 38 )
أما العبارة الأولى وهي قولهم ما أصبره ففيها مذاهب
القول الأول وهو اختيار البصريين أن مَا اسم مبهم يرتفع بالابتداء وأحسن فعل وهو خبر المبتدأ وزيداً مفعول وتقديره شيء حسن زيدا أي صيره حسناً
واعلم أن هذا القول عند الكوفيين فاسداً واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه يصح أن يقال ما أكرم الله وما أعظمه وما أعلمه وكذا القول في سائر صفاته ويستحيل أن يقال شيء جعل الله كريما وعظيماً وعالماً لأن صفات الله سبحانه وتعالى واجبة لذاته فإن قيل هذه اللفظة إذا أطلقت فيما يجوز عليه الحدوث كان المراد منه الاستعظام مع خفاء سببه وإذا أطلقت على الله تعالى كان المراد منه أحد شطريه وهو الاستعظام فحسب قلنا إذا قلنا ما أعظم الله فكلمة مَا ههنا ليست بمعنى شيء فلا تكون مبتدأ ولا يكون أعظم خبراً عنه فلا بد من صرفه إلى وجه آخر وإذا كان كذلك ثبت أن تفسير هذه الآية بهذه الأشياء في مقام التعجب غير صحيح
الحجة الثانية أنه لو كان معنى قولنا ما أحسن زيداً شيء حسن زيداً لوجب أن يبقى معنى التعجب إذا صرحنا بهذا الكلام ومعلوم أنا إذا قلنا شيء حسن زيداً فإنه لا يبقى فيه معنى التعجب ألبتة بل كان ذلك كالهذيان فعلمنا أنه لا يجوز تفسير قولنا ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً
الحجة الثالثة أن الذي حسن زيداً والشمس والقمر والعالم هو الله سبحانه وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أولى فكان ينبغي أنا لو قلنا من أحسن زيداً أن يبقى معنى التعجب ولما لم يبق علمنا فساد ما قالوه
الحجة الرابعة أن على التفسير الذي قالوا لا فرق بين قوله ما أحسن زيداً وبين قوله زيداً ضرب عمرا فكما أن هذا ليس بتعجب وجب أن يكون الأول كذلك(5/26)
الحجة الخامسة أن كل صفة ثبتت للشيء فثبوتها له إما أن يكون له من نفسه أو من غيره فإذا كان المؤثر في تلك الصفة نفسه أو غيره وعلى التقديرين فشيء صيره حسناً إما أن يكون ذلك الشيء هو نفسه أو غيره فإذن العلم بأن شيئاً صيره حسناً علم ضروري والعلم بكونه متعجباً منه غير ضروري فاذن لا يجوز تفسير قولنا ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً
الحجة السادسة أنهم قالوا المبتدأ لا يجوز أن يكون نكرة فكيف جعلوا ههنا أشد الأشياء تنكيراً مبتدأ وقالوا لا يجوز أن يقال رجل كاتب لأن كل أحد يعلم أن في الدنيا رجلاً كاتباً فلا يكون هذا الكلام مفيداً وكذا كل أحد يعلم أن شيئاً ما هو الذي حسن زيداً فأي فائدة في هذا الإخبار
الحجة السابعة دخول التصغير الذي هو من خاصية الأسماء في قولك ما أحسن زيداً فإن قيل جواز دخول التصغير إنما كان لأن هذا الفعل قد لزم طريقة واحدة فصار مشابهاً للاسم فأخذ خاصيته وهو التصغير قلنا لا شك أن للفعل ماهية وللتصغير ماهية فهاتان الماهيتان إما أن يكونا متنافيتين أو لا يكون متنافيتين فإن كانتا متنافيتين استحال اجتماعهما في كل المواضع فحيث اجتماعهما ههنا علمنا أن هذا ليس بفعل وإن لم يكونا متنافيتين وجب صحة تطرق التصغير إلى كل الأفعال ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم
الحجة الثامنة تصحيح هذه اللفظة وإبطال إعلاله فإنك تقول في التعجب ما أقوم زيداً بتصحيح الواو كما تقول زيد أقوم من عمرو ولو كانت فعلا لكانت واوه ألفاً لفتحة ما قبلها ألا تراهم يقولون أقام يقيم فإن قيل هذه اللفظة لما لزمت طريقة واحدة صارت بمنزلة الاسم وتمام التقرير أن الإعلال في الأفعال ما كان لعلة كونها فعلا ولا التصحيح في الأسماء لعلة الإسمية بل كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة عند وجوب كثرة التصرف وعدم الإعلال في الأسماء لعدم التصرف وهذا الفعل بمنزلة الاسم في علة التصحيح والإمتناع من الإعلال قلنا لما كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة فكان ينبغي أن يجعل خفيفاً ثم يترك على خفته فإن هذا أقرب إلى العقل
الحجة التاسعة أن قولك أحسن لو كان فعلاً وقولك زيداً مفعولا لجاز الفصل بينهما يا لظرف فيقال ما أحسن عندك زيداً وما أجمل اليوم عبد الله والرواية الظاهرة أن ذلك غير جائز فبطل ما ذهبتم إليه
الحجة العاشرة أن الأمر لو كان على ما ذكرتم لكان ينبغي أن يجوز التعجب بكل فعل متعد مجرداً كان أو مزيداً ثلاثياً كان أو رباعياً وحيث لم يجز إلا من الثلاثي المجرد دل على فساد هذا القول واحتج البصريون على أن أحسن في قولنا ما أحسن زيداً فعل بوجوه أولها بأن أحسن فعل بالاتفاق فنحن على فعليته إلى قيام الدليل الصارف عنه وثانيها أن أحسن مفتوح الآخر ولو كان اسماً لوجب أن يرتفع إذا كان خبراً لمبتدأ وثالثها الدليل على كونه فعلاً اتصال الضمير المنصوب به وهو قولك ما أحسنه
والجواب عن الأول أن أحسن كما أنه قد يكون فعلاً فهو أيضاً قد يكون اسماً حين ما يكون كلمة تفضيل وأيضاً فقد دللنا بالوجوه الكثيرة على أنه لا يجوز أن يكون فعلاً وأنتم ماطلبتمونا إلا بالدلالة
والجواب عن الثاني أنا سنذكر العلة في لزوم الفتحة لآخر هذه الكلمة(5/27)
والجواب عن الثالث أنه منتقض بقولك لعلي وليتني والعجب أن الاستدلال بالتصغير على الإسمية أقوى من الإستدلال بهذا الضمير على الفعلية فإذا تركتم ذلك الدليل القوي فبأن تتركوا هذا الضعيف أولى فهذا جملة الكلام في هذا القول
القول الثاني وهو اختيار الأخفش قال القياس أن يجعل المذكور بعد كلمة مَا وهو قولك أحسن صلة لما ويكون خبر مَا مضمراً وهذا أيضاً ضعيف لأكثر الوجوه المذكورة منها أنك لو قلت الذي أحسن زيداً ليس هو بكلام منتظم وقولك ما أحسن زيداً كلام منتظم وكذا القول في بقية الوجوه
القول الثالث وهو اختيار الفراء أن كلمة مَا للاستفهام وأفعل اسم وهو للتفضيل كقولك زيد أحسن من عمرو ومعناه أي شيء أحسن من زيد فهو استفهام تحته إنكار أنه وجد شيء أحسن منه كما يقول من أخبر عن علم إنسان فأنكره غيره فيقول هذا المخبر ومن أعلم من فلان إظهاراً منه ما يدعيه منازعه على خلاف الحق وأن لا يمكنه إقامة الدليل عليه ويظهر عجزه في ذلك عند مطالبتي إياه بالدليل ثم قولك أحسن وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعاً كما في قولك ما أحسن زيد إذا استفهمت عن أحسن عضو من أعضائه إلا أنه نصب ليقع الفرق بين ذلك الاستفهام وبين هذا فإن هناك معنى قولك ما أحسن زيد أي عضو من زيد أحسن وفي هذا معناه أي شيء من الموجودات في العالم أحسن من زيد وبينهما فرق كما ترى واختلاف الحركات موضوع للدلالة على اختلاف المعاني والنصب قولنا زيداً أيضاً للفرق لأنه هناك خفض لأنه أضيف أحسن إليه ونصب هنا للفرق وأيضاً ففي كل تفضيل معنى الفعل وفي كل ما فضل عليه غيره معنى المفعول فإن معنى قولك زيد أعلم من عمرو أن زيداً جاوز عمراً في العلم فجعل هذا المعنى معتبراً عند الحاجة إلى الفرق
القول الرابع وهو أيضاً قول بعض الكوفيين قال إن مَا للاستفهام وأحسن فعل كما يقوله البصريون معناه أي شيء حسن زيداً كأنك تستدل بكمال هذا الحسن على كمال فاعل هذا الحسن ثم تقول إن عقلي لا يحيط بكنه كماله فتسأل غيرك أن يشرح لك كماله فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
وأما تحقيق الكلام في أفعل به فسنذكره إن شاء الله في قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( مريم 38 )
ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله ذالِكَ إشارة إلى ماذا فذكروا وجهين
الأول أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد لأنه تعلى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد ثم قد تقدم في وعيدهم أمور أحدها أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها اشتروا الضلالة بالهدى(5/28)
وثالثها أن لهم عذاباً أليماً ورابعها أن الله لا يزكيهم وخامسها أن الله لا يكلمهم فقوله ذالِكَ يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء وأن يكون إشارة إلى مجموعها
الثاني أن ذالِكَ إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم ما أنزل الله تعالى فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر كما قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الثانية قوله ذالِكَ يحتمل أن يكون في محل الرفع أو في محل النصب أما في محل الرفع بأن يكون مبتدأ ولا محالة له خبر وذلك الخبر وجهان الأول التقدير ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فبين فيه وعيد من فعل هذه الأشياء فكان هذا الوعيد معلوماً لهم لا محالة الثاني التقدير ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب وكفروا به فيكون الباء في محل الرفع بالخبرية وأما في محل النصب فلأن التقدير فعلنا ذلك بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق وهم قد حرفوه
المسألة الثالثة المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون هو القرآن فإن كان الأول كان المعنى وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقاً منزلاً من عند الله لفي شقاق بعيد
المسألة الرابعة قوله بِالْحَقّ أي بالصدق وقيل ببيان الحق
وقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فيه مسألتان
المسألة الأولى إن الذين اختلفوا قيل هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيهما لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم أما قوله بِالْحَقّ فقيل بالصدق وقيل ببيان الحق وأما قوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ فاعلم أنا وإن قلنا المراد من الكتاب هو القرآن كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال إنه كهانة وآخرون قالوا إنه سحر وثالث قال رجز ورابع قال إنه أساطير الأولين وخامس قال إنه كلام منقول مختلق وإن قلنا المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاً أحدها أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح فاليهود قالوا إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته وثانيها أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر كل واحد منهم له تأويلاً آخر فاسداً لأن الشيء إذا لم يكن حقاً واجب القبول بل كان متكلفاً كان كل أحد يذكر شيئاً آخر على خلاف قول صاحبه فكان هذا هو الإختلاف(5/29)
وثالثها ما ذكره أبو مسلم فقال قوله اخْتَلَفُواْ من باب افتعل الذي يكون مكان فعل كما يقال كسب واكتسب وعمل واعتمل وكتب واكتتب وفعل وافتعل ويكون معنى قوله الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ( الأعراف 169 ) وقوله إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( يونس 6 ) أي كل واحد يأتي خلف الآخر وقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( الفرقان 62 ) أي كل واحد منهما يخلف الآخر وفي الآية تأويل ثالث وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن
أما قوله لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ ففيه وجوه أحدها أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة وثانيها كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد وثالثها أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحاً فيك ألبتة والله أعلم
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَواة َ وَءَاتَى الزَّكَواة َ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم أراد بقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله وقال بعضهم بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى(5/30)
الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الإغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً وإنما البر كيت وكيت وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال ليس البر المطلوب هو أمر القبلة بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها
المسألة الثانية الأكثرون على أن لَّيْسَ فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف حجة من قال إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين وهذه الحجة منقوضة بقوله إنني وليتني ولعل وحجة المنكرين أولها أنها لو كانت فعلاً لكانت ماضياً ولا يجوز أن تكون فعلاً ماضياً فلا يجوز أن تكون فعلاً بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال إنه فعل ماض وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلاً ماضياً اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال ولو كان ماضياً لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال وثانيها أنه يدخل على الفعل فنقول ليس يخرج زيد والفعل لا يدخل على الفعل عقلاً ونقلاً وقول من قال إن لَّيْسَ داخل على ضمير القصة والشأن وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ضعيف فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في مَا وثالثها أن الحرف مَا يظهر معناه في غيره وهذه الكملة كذلك فإنك لو قلت ليس زيد لم يتم الكلام بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائماً ورابعها أن لَّيْسَ لو كان فعلاً لكان مَا فعلاً وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة أن لَّيْسَ لو كان فعلاً لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السلب مقروناً بزمان مخصوص وهو الحال وهذا المعنى قائم في مَا فوجب أن يكون مَا فعلاً فلما لم يكن هذا فعلاً فكذا القول ذلك أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول لَّيْسَ كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت مَا في نفي الفعلية وخامسها إنك تصل مَا بالأفعال الماضية فتقول ما أحسن زيد ولا يجوز أن تصل مَا بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك سادسها أنه على غير أوزان الفعل لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل
فإن قيل أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خفوه وألزموه التخفيف لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها وجعلوا للبناء الذي خصوه به ماضياً لأنه أخف الأبنية
قلنا هذا كله خلاف الأصل فالأصل عدمه ولأن الأصل في الفعل التصرف فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضاً خلاف الأصل فذاك فاسد جداً وسابعها ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من الحروف النافي الذي هو لا و أيس أي موجود قال ولذلك يقولون أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود وأيسته أي وجدته وهذا نص في الباب قال وذكر الخليل أن لَّيْسَ كلمة جحود معناها لا أيس فطرحت الهمزة استخفافاً لكثرة ما يجري في الكلام والدليل عليه قول العرب ائتني به من حيث أيس وليس ومعناه من حيث هو ولا هو وثامنها الإستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر وهذا إنما يفيد السلب أو لا يكون فعلاً فإن قيل ينتقض قولكم بقوله نفى زيداً(5/31)
وأعدمه قلنا قولك نفى زيداً مشتق من النفي فقولك نفي دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها فلم يكن السؤال وارداً وأما القائلون بأن لَّيْسَ فعل فقد تكلفوا في الجواب عن الكلام الأول بأن لَّيْسَ قد يجيء لنفي الماضي كقولهم جاءني القوم ليس زيداً وَعَنِ أنه منقوض بقولهم أخذ يفعل كذا وعن الثالث أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة وعن الرابع أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة وعن الخامس أن لك إنما امتنع من قبل أن ما للحال وَالْحَجّ وَلَيْسَ للماضي فلا يكون الجمع بينهما وعن السادس أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل بما ذكرنا من الدليل وعن السابع أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم وأما قوله من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن أن أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم وأما قوله من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن أن لَّيْسَ مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة
المسألة الثالثة قرأ حمزة وحفص عن عاصم لَّيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء والباقون بالرفع قال الواحدي وكلا القراءتين حسن لأن اسم لَّيْسَ وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسماً والآخر خبراً وحجة من رفع الْبَرّ أن اسم لَّيْسَ مشبه بالفاعل وخبرها بالمفعول والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول ومن نصب الْبَرّ ذهب إلى أن بعض النحويين قال ءانٍ مع صلتها أولى أن تكون اسم لَّيْسَ لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الإسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر وعلى هذا قرىء في التنزيل قوله كَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ ( الحشر 12 ) وقوله مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ ( الأعراف 82 ) وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الجاثية 25 ) والاختيار رفع البر لأنه روي عن ابن مسعور أنه قرأ لَّيْسَ الْبِرَّ بِأَنَّ والباء تدخل في خبر ليس
المسألة الرابعة البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ومن هذا بر الوالدين قال تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 13 14 ) فجعل البر ضد الفجور وقال وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( المائدة 2 ) فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه
المسألة الخامسة قال القفال قد قيل في نزول هذه الآية أقوال والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب والنصارى كانوا يستقبلون المشرق فقال الله تعالى إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك أما اليهود فقولهم بالتجسيم ولقولهم بأن عزيراً ابن الله وأما النصارى فقولهم المسيح ابن الله ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 )(5/32)
وثانيها الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) والنصارى أنكروا المعاد الجسماني وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها الإيمان بالملائكة واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبرل عليه السلام ورابعها الإيمان بكتب الله واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ( البقرة 85 ) وخامسها الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء على ما قال تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ( البقرة 61 ) وحيث طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسادسها بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( البقرة 187 ) وسابعها إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها الوفاء بالعهد واليهود نقضوا العهد حيث قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وههنا سؤال وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول أن قوله لَّيْسَ الْبِرَّ نفي لكمال البر وليس نفياً لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها فلا يكون ذلك تمام البر الثاني أن يكون هذا نفياً لأصل كونه براً لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك بل كان ذلك إثماً وفجوراً لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث أن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم يقارنه معرفة الله وإنما يكون براً إذا أتي به مع الإيمان وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط فإنها لا تكون من أفعال البر روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الإستقبال فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين
المسألة السادسة قوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ أُمَمٌ بِاللَّهِ فيه حذف وفي كفيته وجوه أحدها ولكن البر بر من آمن بالله فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ( البقرة 93 ) أي حب العجل ويقولون الجود حاتم والشعر زهير والشجاعة عنترة وهذا اختيار الفراء والزجاج وقطرب قال أبو علي ومثل هذه الآية قوله أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجّ ( التوبة 19 ) ثم قال كَمَنْ ءامَنَ ( التوبة 19 ) وتقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ليقع التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين إذا لا يقع التمثيل بين مصدر وفاعل وثانيها قال أبو عبيدة البر ههنا بمعنى الباء كقوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلتَّقْوَى ( طه 132 ) أي للمتقين ومنه قوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُهَا غَوْرًا(5/33)
( الملك 30 ) أي غائراً وقالت الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار
أي مقبلة ومدبرة معاً وثالثها أن معناه ولكن ذا البر فحذف كقولهم هم درجات عند الله أي ذووا درجات عن الزجاج ورابعها التقدير ولكن البر يحصل بالإيمان وكذا وكذا عن المفصل
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى مقصود الكلام فيكون معناه ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله وعن المبرد لو كنت ممن يقرأ القرآن بقراءته لقرأت وَلَاكِنَّ الْبِرَّ بفتح الباء وقرأ نافع وابن عامر وَلَاكِنِ مخففة الْبَرّ بالرفع والباقون لَكِنِ مشددة الْبَرّ بالنصب
المسألة السابعة اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراً الأول الإيمان بأمور خمسة أولها الإيمان بالله ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه وكونه عالماً بكل المعلومات قادراً على كل الممكنات حياً مريداً سمعياً بصيراً متكلماً ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل وثانيها الإيمان باليوم الآخر وهذا الإيمان مفرع على الأول لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب وخامسها الإيمان بالرسل وههنا سؤالات
السؤال الأول إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل فإذا كانت قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل
الجواب أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بواسطة تبليغة نزول الكتب ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي لا ترتيب الاعتبار الذهني
السؤال الثاني لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة
الجواب لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به فقد دخل تحت الإيمان بالله معرفته بتوحيده وعدله وحكمته ودخل تحت اليوم الآخر المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد إلى سائر ما يتصل بذلك ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ودخل تحت الكتاب القرآن وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم وصحة شرائعهم فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية وتقرير آخر وهو أن للمكلف مبدأ ووسطاً ونهاية ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات(5/34)
وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة الملائكة الآتين بالوحي ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب والموحي إليه وهي الرسول
السؤال الثالث لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح وهو إيتاء المال والصلاة والزكاة
الجواب للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله عَلَى حُبّهِ إلى ماذا يرجع وذكروا فيه وجوهاً الأول وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال والتقدير وآتى المال على حب المال قال ابن عباس وابن مسعود وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغني وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه أحدها أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وثانيها أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت وثالثها أن إعطاءه حال الصحة أشق فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني ورابعها أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا ههنا وخامسها أنه متأيد بقوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 80 ) أي على حب الطعام وعن أبي الدرداء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع )
القول الثاني أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله
القول الثالث أن الضمير عائد على اسم الله تعالى يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته
المسألة الثانية اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم إنها الزكاة وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا فثبت أن المراد به غير الزكاة ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقف التقوى عليه ولو كان ذلك ندباً لما وقف التقوى عليه فثبت أن هذا الإيتاء وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان
القول الأول أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام ( لايؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره طاو إلى جنبه ) وروي عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة ثم تلت وآتى المال على حبه(5/35)
وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه فقال نعم يصل القرابة ويعطي السائل ثم تلا هذه الآية وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق
والجواب من وجوه الأول أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( في المال حقوق سوى الزكاة ) وقول الرسول أولى من قول علي الثاني أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال الثالث المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة أما الذي لا يكون مقدراً فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة ويلزم النفقة على الأقارب وعلى المملوك وذلك غير مقدر فإن قيل هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب قلنا فيه وجوه أحدها أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريباً فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعاً بين الصلة والصدقة ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( آل عمران 180 ) الآية وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم فلهذه الوجوه قدم ذا القربى ثم أتبعه تعالى باليتامى لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره وثانيها أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب ثم بحاجة الأيتام ثم بحاجة المساكين ثم على هذا النسق وثالثها أن ذا القربى مسكين وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ثم باليتامى وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنياً وقد تشتد حاجته في الوقت والسائل قد يكون غنياً ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة
القول الثاني أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال ( إن فيها حقاً ) هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب
القول الثالث أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ثم إنه صار منسوخاً بالزكاة وهذا أيضاً ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة
المسألة الثالثة أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة(5/36)
والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين وهو الصحيح لأنهم به أخص ونظيره قوله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى ( النور 22 )
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى قال لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئاً بل إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظه وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه هذا كله على قول من قال اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر وعند أصحابنا هذا الإسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( النساء 20 ) ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسمى يتيم أبي طالب بعد بلوغه فعلى هذا إن كان اليتيم بالغاً دفع المال إليه وإلا فيدفع إلى وليه وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة والذي نقوله هنا إن المساكين أهل الحاجة ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله وَالسَّائِلِينَ وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل والأول أشبه لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابناً له للزومه إياه كما يقال لطير الماء ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون ابن الأيام وللشجعان بنو الحرب وللناس بنو الزمان قال ذو الرمة وردت عشاء والثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق
وأما قوله وَالسَّائِلِينَ فعني به الطالبين ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( للسائل حتى ولو جاء على فرس ) وقال تعالى فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( المعارج 24 )
أما قوله وَفِي الرّقَابِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الرّقَابِ جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ولهذا المعنى يقال أعتق الله رقبته ولا يقال أعتق الله عنقه لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها رقوب لأجل مراعاتها موت ولدها
المسألة الثانية معنى الآية ويؤتي المال في عتق الرقاب قال القفال واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات فقال قائلون إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة وقال قائلون لا يجوز صرف الزكاة إلا في اعانة المكاتبين فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف ومن حمل هذه(5/37)
الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعاً ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى
واعلم أن تمام الكلام في تفسير هذه الأصناف سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة التوبة في تفسير الصدقات
الأمر الثالث من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وذلك قد تقدم ذكره
الأمر الرابع قوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في رفع والموفون قولان أحدها أنه عطف على محل من آمن تقديره لكن البر المؤمنون والموفون عن الفراء والأخفش الثاني رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره وهم الموفون
المسألة الثانية في المراد بهذا العهد قولان الأول أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ( البقرة 40 ) فكان المعنى في هذه الأية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه واعترض القاضي على هذا القول وقال إن قوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ صريح في إضافة هذا العهد إليهم ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله إِذَا عَاهَدُواْ فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى
الجواب عنه أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم
القول الثاني أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله أو بينه وبين رسول الله أو بينه وبين سار الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة فقوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا ومنهم من حمله على قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ ( التوبة 75 ) الآية
الأمر الخامس من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ(5/38)
( البقرة 177 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى في نصب الصابرين أقوال الأول قال الكسائي هو معطوف على ذَوِى الْقُرْبَى كأنه قال وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين قال النحويون إن تقدير الآية يصير هكذا ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين فعلى هذا قوله وَالصَّابِرِينَ من صلة من قوله وَالْمُوفُونَ متقدم على قوله وَالصَّابِرِينَ فهو عطف على مِنْ فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئاً وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه أما إن جعلت قوله وَالْمُوفُونَ رفعاً على المدح وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى
فإن قيل أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل إن زيداً فافهم ما أقول رجل عالم وكقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) ثم قال أُوْلَائِكَ ففصل بين المتبدأ والخبر بقوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ قلنا الموصول مع الصلة كالشيء الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة
القول الثاني قول الفراء إنه نصب على المدح وإن كان من صفة من وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد وأنشد الفراء إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
حَمَّالَة َ الْحَطَبِ وقالوا فيمن قرأ بنصب حَمَّالَة َ أنه نصب على الذم قال أبو علي الفارسي وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً وجملة واحدة ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لم صارا علتين لاختلاف الحركة فقال الفراء أصل المدح والذم من كلام السامع وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له قام زيد فربما أثنى السامع على زيد وقال ذكرت والله الظريف ذكرت العاقل أي هو والله الظريف هو العاقل فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك وقال الخليل المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف وأنكر الفراء ذلك لوجهين الأول أن أعني إنما يقع تفسيراً للاسم المجهول والمدح يأتي بعد المعروف الثاني أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول قام زيد أخاك على معنى أعني أخاك وهذا مما لم تقله العرب أصلاً
واعلم أن من الناس من قرأ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ ومنهم من قرأ وَالْمُوفُونَ و الصابرون(5/39)
أما قوله وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء قال ابن عباس يريد الفقر وهو اسم من البؤس وَالضَّرَّاء قال يريد به المرض وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين وَحِينَ الْبَأْسِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال لا بأس عليك في هذا أي لا شدة بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) شديد ثم تسمى الحرب بأساً لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأساً لشدته قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 84 ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا ( الأنبياء 12 ) فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 29 )
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائماً بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال ولذلك قال بعضهم هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها وقال آخرون هذه عامة في جميع المؤمنين وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّ نثَى بِالاٍّ نْثَى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَة ٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
الحكم الرابع
قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه أحدها أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى فالأشراف كانوا يقولون لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول وقالوا ماذا تريد فقال إحدى ثلاث قالوا وما هي قال إما تحيون ولدي أو تملأون داري من نجوم السماء أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم ثم لا أرى أني أخذت عوضاً(5/40)
وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس فلما بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية
والرواية الثانية في هذا المعنى وهو قول السدي إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي
والرواية الثالثة أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه
والرواية الرابعة ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط فأما إذا كان القاتل للعبد حراً أو للحر عبداً فإنه يجب مع القصاص التراجع وأما حر قتل عبداً فهو قوده فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته وإن قتل عبداً حراً فهو به قود فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته وإن شاؤا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية وإن قتلت المرأة رجلاً فهي به قود فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية وإن شاؤا أعطوا كل الدية وتركوها قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والانثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ فمعناه فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين أحدهما أن قوله تعالى كِتَابَ يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ وقال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ ( البقرة 180 ) وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات وقال عليه السلام ( ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم ) والثاني لفظة عَلَيْكُمْ مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وأما القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله قال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( الكهف 64 ) وقال تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس ويسمى المقص مقصاً لتعادل جانبيه
أما قوله تعالى فِي الْقَتْلَى أي بسبب قتل القتلى لأن كلمة فِى قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى إلا أنهم جمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كثيرة وهي إذا قتل الوالد ولده والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربياً أو معاهداً وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه(5/41)
فإن قيل قولكم هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان الأول أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل أو على ولي الدم أو على ثالث والأقسام الثلاثة باطلة وإنما قلنا إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك وإنما قلنا إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك بل هو مندوب إلى الترك بقوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) والثالث أيضاً باطل لأنه يكون أجنبياً عن ذلك القتل والأجنبي عن الشي لا تعلق له به
السؤال الثاني إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل ألبتة بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعاً وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشرعاً بسبب القتل
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين والتقدير يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه والثاني أنه خطاب مع القاتل والتقدير يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر بل للزاني والسارق الهرب من الحد ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ولا يقرأ والفرق أن ذلك حق الآدمي
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه ويتفرع على ما ذكرنا مسائل
المسألة الأولى ذهب أبو حنيفة إلى موجب العمد هو القصاص وذهب الشافعي في أحد قوليه إن أن موجب العمد إما القصاص وإما الدية واحتج أبو حنيفة بهذه الآية ووجه الاستدلال بها في غاية الضعف لأنه سواء كان المخاطب بهذا الخطاب هو الإمام أو ولي الدم فهو بالاتفاق مشروط بما إذا كان ولي الدم يريد القتل على التعيين وعندنا أنه متى كان الأمر كذلك كان القصاص متعيناً إنما النزاع في أن ولي الدم هل يتمكن من العدول إلى الدية وليس في الآية دلالة على أنه إذا أراد الدية ليس له ذلك
المسألة الثانية اختلفوا في كيفية المماثلة التي دلت هذه الآية على إيجابها فقال الشافعي يراعي جهة القتل الأول فإن كان الأول قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل فإن مات منه في تلك المرأة وإلا حزت رقبته وكذلك لو أحرق الأول بالنار أحرق الثاني فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته وقال أبو حنيفة رحمه الله المراد بالمثل تناول النفس بأرجى ما يمكن فعلى هذا لا اقتصاص إلا بالسيف بحز الرقبة حجة الشافعي رحمه الله أن الله تعالى أوجب التسوية بين الفعلين وذلك يقتضي حصول التسوية من جميع الوجوه الممكنة ويدل عليه وجوه أحدها أنه يجوز أن يقال كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فدخل هذا على أن كيفية القتل داخلة تحت النص وثانيها أنا لو لم نحكم بدلالة هذه الآية على التسوية في كل الأمور لصارت الآية مجملة ولو حكمنا فيها بالعموم كانت(5/42)
الآية مفيدة لكنها بما صارت مخصوصة في بعض الصور والتخصيص أهون من الإجمال وثالثها أن الآية لو لم تفد إلا الإيجاب للتسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور فحينئذ لا يستفاد من هذه الآية شيء ألبتة وهذا الوجه قريب من الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجود التسوية من كل الوجوه ثم تأكد هذا النص بسائر النصوص المقتضية لوجوب المماثلة كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ( غافر 40 ) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله ( من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ) ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام ( لا قود إلا بالسيف ) وبقوله عليه السلام ( لا يعذب بالنار إلا ربها ) والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى ( غافر 40 ) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله ( من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ) ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام ( لا قود إلا بالسيف ) وبقوله عليه السلام ( لا يعذب بالنار إلا ربها ) والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ ( الشورى 25 ) وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقاً لعقاب ولأنه عليه السلام قال ( التوبة تمحو الحوبة ) فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء وقالت المعتزلة إنما شرع ليكون لطفاً به ثم سألوا أنفسهم فقالوا إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفاً به وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أن لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد
أما قوله تعالى عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ففيه قولان
القول الأول إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين
واحتجوا عليه بوجوه الأول أن الألف واللام في قوله الْحُرُّ تفيد العموم فقوله الْحُرُّ بِالْحُرّ يفيد أن يقتل كل حر بالحر فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولاً بالحر الثاني أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقاً لا محالة بفعل فيكون التقدير الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر بل إما أن يكون مساوياً له أو أخص منه وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولاً بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولاً بالعبد الثالث وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فلما ذكر عقيبة قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة لأن قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ خرج مخرج التفسير لقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى وإيجاب القصاص على الحر(5/43)
بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى فوجب أن لا يكون مشروعاً فإن احتج الخصم بقوله تعالى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين أحدهما أن قوله وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ شرع لمن قبلنا والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا وثانيهما أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ولا شك أن الخاص مقدم على العام ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد وأن لا تقتل الأثنى إلا بالأنثى إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ أما الإجماع فظاهر وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه وكذا القول في قتل الأثنى بالذكر فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم
القول الثاني أن قوله تعالى الْحُرُّ بِالْحُرّ لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام واحتجوا عليه بوجهين الأول أن قوله وَالاْنثَى بِالاْنْثَى يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة فلو كان قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مانعاً من ذلك لوقع التناقض الثاني أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله الْحُرُّ بِالْحُرّ تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك
واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن لا يكون مشروعاً أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ثم إن سلمنا أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى يوجب قتل الحر بالعبد إلا أنا بينا أن قوله الْحَرْبُ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ يمنع من جواز قتل الحرب بالعبد هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلاً بالعام في اللفظ فإنه يكون جارياً مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام
الوجه الثاني في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية إلا أن كثيراً من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن(5/44)
علي بن أبي طالب وهو أيضاً ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه
أما قوله تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فاعلم أن الذين قالوا موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا بهذه الآية وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافياً ومعفواً عنه وليس ههنا إلى ولي الدم والقاتل فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل فصار تقدير الآية فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وقوله شَى ْء مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام فصار تقدير الآية إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص فليتبع القاتل العافي بالمعروف وليؤد إليه مالاً بإحسان وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية فوجب أن يكون ذلك الواجب هو الدية وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجباً عند العفو عن القود ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية وفي القصاص رحمة من الله عليكم لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إدا كان محتاجاً إلى المال وقد يكون القود آثر إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه
فإن قيل لا نسلم أن العافي هو ولي الدم وقوله العفو إسقاط الحق وذلك لا يليق إلا بولي الدم
قلنا لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق بل المراد من قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء أي فمن سهل له من أخيه شيء يقال أتاني هذا المال عفواً صفواً أي سهلاً ويقال خذ ما عفا أي ما سهل قال الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ فيكون تقدير الآية فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير مطل ولا مدافعة فيكون معنى الآية على هذا التقدير إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفوا عن القود
سلمنا أن العافي هو ولي الدم لكن لم لا يجوز أن يقال المراد هو أن يكون القصاص مشتركاً بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالاً فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان
سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذا مشروط برضا القاتل إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتاً لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس فلما كان هذا الرضا حاصلاً في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبراً في النفس الأمر
والجواب حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث(5/45)
القاتل المال إلى ولي الدم وبيانه من وجهين الأول أن حقيقة العفو إسقاط الحق فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم لأنه لما تقدم قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى كان حمل قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء على إسقاط حق القصاص أولى لأن قوله شَى ْء لفظ مبهم وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى الثاني أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم لكان قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ عبثاً لأن بعد وصول المال إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان
وأما السؤال الثاني فمدفوع من وجهين الأول أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركاً بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر والثاني أن الهاء في قوله وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ضمير عائد إلى مذكور سابق والمذكور السابق هو العافي فوجب أداء هذا المال إلى العافي وعلى قولكم يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلاً
وأما السؤال الثالث أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال أو كان ممكن الزوال فإن كان ممتنع الزوال فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز ولما تلخص هذا البحث فنقول الآية بقيت فيها أبحاث لفظية نذكرها في معرض السؤال والجواب
البحث الأول كيف تركيب قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
الجواب تقديره فمن له من أخيه شيء من العفو وهو كقوله سير بزيد بعض السير وطائفة من السير
البحث الثاني أن عُفِى َ يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ
الجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ ( التوبة 43 ) فإذا تعدى إلى الذنب قيل عفوت عن فلان عما جنتى كما تقول عفوت له عن ذنبه وتجاوزت له عنه وعليه هذه الآية كأنه قيل فمن عفى له من جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية
البحث الثالث لم قيل شيء من العفو
والجواب من وجهين أحدهما أن هذا إنمايشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط فحينئذ يقال القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله شَى ْء فائدة أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضاً لأن له أن يعفو عن القود دون المال وله أن يعفو عن الكل فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
والجواب الثاني أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود إلا أن يكون عفواً عن جميعه فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود وعفو(5/46)
بعض الأولياء عن حقه كعفو جميعهم عن خلقهم فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك فلما نكره صار هذا المعنى مفهوماً منه فلذلك قال تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
البحث الرابع بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة
والجواب قيل إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمناً من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى سماه مؤمناً حال ما وجب القصاص عليه وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الذم ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فلولا أن الإيمان باقٍ مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا إن قلنا المخاطب بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى هم الأئمة فالسؤال زائل وإن قلنا إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما أن القتال قبل إقدامه على القاتل كان مؤمناً فسماه الله تعالى مؤمناً بهذا التأويل والثاني أن القتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب
وأما الوجه الثاني وهو ذكر الأخوة فأجابوا عنه من وجوه الأول أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني الظاهر أن الفاسق يتوب وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له والثالث يجوز أن يكون جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا والرابع أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة كم تقول للرجل قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد
والجواب أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان وبصفة دون صفة والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق
وأما قوله تعالى فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ففيه أبحاث
البحث الأول قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره فحكمه اتباع أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره فعليه اتباع بالمعروف
البحث الثاني قيل على العافي الاتباع بالمعروف وعلى المعفو عنه أداء بإحسان عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وقيل هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان
البحث الثالث الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق وإن كان واجداً لغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات فأما(5/47)
الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ولا يقدم ما ليس بواجب عليه وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل
أما قوله تعالى ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ ففيه وجوه أحدها أن المراد بقوله ذالِكَ أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً وهذا قول ابن عباس وثانيها أن قوله ذالِكَ راجع إلى قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ
أما قوله فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ثم ظفوا بعد ذلك بالقاتل قتلوه فنهى الله عن ذلك وقيل المراد أن يقتل غير قاتله أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ ( فله عذاب أليم ) وفيه قولان أحدهما وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام ( لا أعافي أحداً قتل بعد أن أخذ الدية ) وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها أنا بينا أن القود تارة يكون عذاباً وتارة يكون امتحاناً كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياساً على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية وجوه الأول أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً(5/48)
زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل
الوجه الثاني في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود فخوف القصاص حاصل في النفس
الوجه الثالث أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي
والوجه الرابع قرأ أبو الجوزاء وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل الْقِصَاصِ القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ والله أعلم
المسألة الثانية اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير كقولهم قتل البعض إحياء للجميع وقول آخرين أكثروا القتل ليقل القتل وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم القتل أنفى للقتل ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا وبيان التفاوت من وجوه أحدها أن قوله وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أخصر من الكل لأن قوله وَلَكُمْ لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك لأن قول القائل قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله وكذلك في قولهم القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أشد اختصاراً من قولهم القتل أنفى للقتل وثانيها أن قولهم القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال وقوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ثم ما جعله سبباً لمطلق الحاية لأنه ذكر الحياة منكرة بل جعله سبباً لنوع من أنواع اللحياة وثالثها أن قولهم القتل أنفى للقتل فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ كذلك ورابعها أن قول القائل القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل وقوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى وسادسها أن القتل ظلماً قتل مع أنه لا يكون نافياً للقتل بل هو سبب لزيادة القتل إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص فظاهر قولهم باطل أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على فساد قول أهل السنة في قولهم إن المقتول لو لم يقتل لوجب أن يموت فقالوا إذا كان الذي يقتل يجب أن يموت لو لم يقتل فهب أن شرع القصاص يزجر من يريد أن يكون قاتلاً عن الإقدام على القتل لكن ذلك الإنسان يموت سواء قتله هذا القاتل أو لم يقتله(5/49)
فحينئذ لا يكون شرع القصاص مفضياً إلى حصول الحياة
فإن قيل أنا إنما نقول فيمن قتل لو لم يقتل كان يموت لا فيمن أريد قتله ولم يقتل فلا يلزم ما قلتم قلنا أليس إنما يقال فيمن قتل لو لم يقتل كيف يكون حاله فإذا قلتم كان يموت فقد حكمتم في أن من حق كل وقت صح وقوع قتله أن يكون موته كقتله وذلك يصحح ما ألزمناكم لأنه لا بد من أن يكون على قولكم المعلوم أنه لو لم يقتله إما لأن منعه مانع عن القتل أو بأن خاف قتله أنه كان يموت وفي ذلك صحة ما ألزمناكم هذا كله ألفاظ القاضي
أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب
وأما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظة لَعَلَّ للترجي وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالماً بجميع المعلومات وجوابه ما سبق في قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 )
المسألة الثانية قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوى سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة وقد سبق جوابه أيضاً في تلك الآية
المسألة الثالثة في تفسير الآية قولان أحدهما قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى فحمله على الكل أولى ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه
الحكم الخامس
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
اعلم أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ يقتضي الوجوب على ما بيناه أما قوله إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فليس المراد منه معاينة الموت لأن في ذلك الوقت يكون عاجزاً عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره(5/50)
وجهين الأول وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة يقال فيمن يخاف عليه الموت إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي والقول الأول أولى لوجهين أحدهما أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني أن ما ذكرناه هو الظاهر وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره
أما قوله إِن تَرَكَ خَيْرًا ( العايات 8 ) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ( البقرة 272 ) وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ ( العاديات 8 ) مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وإذا عرفت هذا فنقول ههنا قولان أحدهما أنه لا فرق بين القليل والكثير وهو قول الزهري فالوصية واجبة في الكل واحتج عليه بوجهين الاْوَّلِ أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيراً والمال القليل خير يدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فقوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وأيضاً قوله تعالى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به والمال القليل كذلك فيكون خيراً
الحجة الثانية أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر بدليل قوله تعالى لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ( النساء 7 ) فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية
والقول الثاني وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير واحتجوا عليه بوجوه الأول أن من ترك درهماً لا يقال إنه ترك خيراً كما يقال فلان ذو مال فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير وكذلك إذا قيل فلان في نعمة وفي رفاهية من العيش فإنما يراد به تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه كما قد روي من قوله ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) وقوله ( ليس بمؤمن من باب شبعاناً وجاره جائع ) ونحو هذا
الحجة الثالثة لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك سواء كان قليلاً أو كثيراً لما كان التقييد بقوله إِن تَرَكَ خَيْرًا كلاماً مفيداً لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئاً ما قليلاً كان أو كثيراً أما الذي يموت عرياناً ولا يبقى معه كسرة خبر ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته فذاك في غاية الندرة فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان
القول الأول أنه مقدر بمقدار معين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم فقال أولا أوصي قال لها لا إنما قال الله تعالى إِن تَرَكَ خَيْرًا وليس لك كثير مال وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال إني أريد أن أوصي قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال أربعة قالت قال الله إِن تَرَكَ خَيْرًا وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم(5/51)
والقول الثاني أنه غير مقدر بمقدار معين بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغني لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقاً بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها
أما قوله الْوَصِيَّة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال كِتَابَ لأنه أراد بالوصية الإيصاء ولذلك ذكر الضمير في قوله فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ( البقرة 181 ) وأيضاً إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث والعرب تقول حضر القاضي امرأة فيذكرون لأن القاضي بين الفعل وبين المرأة
المسألة الثانية رفع الوصية من وجهين أحدهما على ما لم يسم فاعله والثاني على أن يكون مبتدأ وللوالدين الخبر وتكون الجملة في موضع رفع بكتب كما تقول قيل عبد الله قائم فقولك عبد الله قائم جملة مركبة من تبدأ وخبر والجملة في موضع رفع بقيل
أما قوله لِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما بين أن الوصية واجبة بين بعد ذلك أنها واجبة لمن فقال للوالدين والأقربين وفيه وجهان الأول قال الأصم إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعاً للقوم عما كانوا اعتادوه وهذا بين الثاني قال آخرون إن إيجاب هذه الوصية لما كان قبل آية المواريث جعل الله الخيار إلى الموصي في ماله وألزمه أن لا يتعدى في إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان والأقربين فيكون واصلاً إليهم بتمليكه واختياره ولذلك لما نزلت آية المواريث قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) فبين أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي فأما الآن فالله تعالى قدر لكل ذي حق حقه وأن عطية الله أولى من عطية الموصي وإذا كان كذلك فلا وصية لوارث ألبتة فعلى هذا الوجه كانت الوصية من قبل واجبة للوالدين والأقربين
المسألة الثانية اختلفوا في قوله وَالاْقْرَبِينَ من هم فقال قائلون هم الأولاد فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه
والقول الثاني وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين
والقول الثالث أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة ثم رآها منسوخة
والقول الرابع هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ أما قوله بِالْمَعْرُوفِ فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصى له من الأقربين ممن لا يوصى لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك(5/52)
الطريق الجميلة فإذا فاضل بينهم فبالمعروف وإذا سوى فكمثل وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفاً ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا
أما قوله تعالى حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فزيادة في توكيد وجوبه فقوله حَقّاً مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا فإن قيل ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم
فالجواب من وجهين الأول أن المراد بقوله حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أنه لازم لمن آثر التقوى وتحراه وجعله طريقة له ومذهباً فيدخل الكل فيه الثاني أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين وغيرهم فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الأية
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه الوصية منهم من قال كانت واجبة ومنهم من قال كانت ندباً واحتج الأولون بقوله كِتَابَ وبقوله عَلَيْكُمْ وكلا اللفظين ينبىء عن الوجوب ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وهؤلاء اختلفوا منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني وتقرير قوله من وجوه أحدها أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( النساء 11 ) أو كتب على المختصر أن يوصيكم للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصباتهم وثانيها أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للاقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين وثالثها لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية وذلك لأن من الوالدين من يرث ومنهم من لا يرث وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة ومنهم من يسقط في حال ويثبت في حال إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثاً لم يجز الوصية له ومن لم يكن وارثاً جازت الوصية له لأجل صلة الرحم فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) وبقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى ( النحل 90 ) فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب أما القائلون بأن الآية منسوخة فيتوجه تفريعاً على هذا المذهب أبحاث
البحث الأول اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة وذكروا وجوهاً أحدهما أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل إنه لا بد وأن تكون منسوخة(5/53)
فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقاً لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ وثانيها أنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام ( ألا لا وصية لوارث ) وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر
ولقائل أن يقول يدعى أن الأئمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع والأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعاً منهم على أنه خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز وثالثها أنها صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجوداً إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل ولقائل أن يقول لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ ورابعها أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياساً على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئاً بدليل قوله تعالى في آية المواريث مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ( النساء 11 ) وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث ولقائل أن يقول نسخ القرآن بالقياس غير جائز والله أعلم
البحث الثاني القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين منهم من قال إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية وقال طاوس إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً وحجة هؤلاء من وجهين
الحجة الأولى أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب إما بآية المواريث وإما بقوله عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث ) أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث وههنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديماً وحديثاً فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً
الحجة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام ( ما حق أمرىء مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية
وأما الجمهور القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً فأجود ما لهم التمسك بقوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وقد ذكرنا تقريره فيما قبل
البحث الثالث القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً(5/54)
اختلفوا في موضعين الأول نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء وقال الحسن البصري هم الأغنياء سواء الثاني روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له وعن طاوس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أمر الوصية ووجوبها وعظم أمرها أتبعه بما يجري مجرى الوعيد في تغييرها
أما قوله تعالى فَمَن بَدَّلَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا المبدل من هو فيه قولان أحدهما وهو المشهور أنه هو الوصي أو الشاهد أو سائر الناس أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصل ذلك المال إلى مستحقه فهؤلاء كلهم داخلوا تحت قوله تعالى فَمَن بَدَّلَهُ
والقول الثاني أن المنهى عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين ثم زجر بقوله فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ من أعرض عن هذا التكليف
المسألة الثانية الكناية في قوله فَمَن بَدَّلَهُ عائد إلى الوصية مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة وذكروا فيه وجوها أحدها أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه كقوله تعالى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ( البقرة 275 ) أي وعظ والتقدير فمن بدل ما قاله الميت أو ما أوصى به أو سمعه عنه وثانيها قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره وثالثها أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره وإن كانت الوصية مؤنثة ورابعها أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل وخامسها أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر
أما قوله بَعْدَمَا سَمِعَهُ فهو يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به فصار إثبات سماعه كإثبات علمه
أما قوله فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ فاعلم أن كلمة إِنَّمَا للحصر والضمير في قوله إِثْمُهُ عائد إلى التبديل والمعنى أن إثم ذلك التبديل لا يعود إلا إلى المبدل وقد تقدم بيان أن المبدل من هو
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أحكام أحدها أن الطفل لا يعذب على كفر أبيه وثانيها أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب(5/55)
بسبب تقصير ذلك الوارث خلافاً لبعض الجهال وثالثها أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( البقرة 164 ) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( الجاثية 15 فصلت 46 ) لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 )
المسألة الثالثة إذا أوصى للأجانب وفي الأقارب من تشتد حاجته هل يجوز للوصي تغيير الوصية أما من يقول بوجوب الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين اختلفوا فيه فمنهم من قال كانت الوصية للأقارب واجبة عليه فإذا لم يفعل وصرف الوصية إلى الأجانب كان ذلك الأجنبي أحق به ومنهم من قال ينقض ذلك ويرد إلى الأقربين وقد ذكرنا تفصيل قول هؤلاء أما من لا يوجب الوصية للقريب الذي لا يرث فإما أن يكون ذلك بالثلث أو بأكثر من الثلث فإن كان بالثلث فهو جائز ولا يجوز تغييره ثم اختلفوا في المستحب فكان الحسن يقول المستحب هو النقصان من الثلث لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( الثلث والثلث كثير ) فندب إلى النقصان ومنهم من قال بل الثلث مستحب لأنه حقه والثواب فيه أكثر ومنهم من يعتبر حال الميت وحال الورثة وقدر التركة وهذا هو الأولى فأما إن كانت الوصية بأكثر من الثلث فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال لا يجوز ذلك إلا بأمر الورثة والتماس الرضا منهم وقال آخرون لا تأثير لقول الورثة إلا بعد الموت ثم إذا أوصى بأكثر من الثلث اختلفوا فمنهم من قال يجوز إن أجازه الوارث ويكون عطية من الميت ومنهم من يقول بل يكون كابتداء عطية من الوارث
أما قوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها والله أعلم
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن وهو المراد من قوله فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لأن الإصلاح يقتضي ضرباً من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم مُّوصٍ بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان وصى وأوصى بمعنى واحد
المسألة الثانية الجنف الميل في الأمور وأصله العدول عن الاستواء يقال جنف يجنف بكسر النون في الماضي وفتحها في المستقبل جنفاً وكذلك تجانف ومنه قوله تعالى غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ(5/56)
( المائدة 3 ) والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد
المسألة الثالثة في قوله تعالى فَمَنْ خَافَ قولان أحدهما أن المراد منه هو الخوف والخشية
فإن قيل الخوف إنما يصح في أمر منتظر والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف
والجواب من وجوه أحدها أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة أو مع التأويل أو شاهد منه تعمداً بأن يزيد غير المستحق أو ينقص المستحق حقه أو يعدل عن المستحق فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلاناً مع أنه لا يكون مستحقاً للزيادة أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة فعند ذلك يصير السامع خائفاً من حنث وإثم لا قاطعاً عليه ولذلك قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم
الوجه الثاني في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعاً عليه فلذلك علقه بالخوف
الوجه الثالث في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ فلما كان ذلك منتظراً لم يكن حكم الجنف والإثم ماضياً مستقراً فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى
القول الثاني في تفسير قوله تعالى فَمَنْ خَافَ أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع
المسألة الرابعة قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين
أما قوله تعالى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا المصلح من هو الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي أو من يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا(5/57)
التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد
المسألة الثانية لقائل أن يقول الضمير في قوله فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فما ذلك المذكور السابق
وجوابه أن لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا لأن قوله مِن مُّوصٍ دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال فأصلح بين أهل الوصية وقال القائلون المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة وثانيها أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان
المسألة الثالثة في بيان كيفية هذا الإصلاح وههنا بحثان
البحث الأول في بيان كيفية هذا الإصلاح قبل أن صارت هذه الآية منسوخة فنقول بينا أن ذلك الجنف والإثم كان إما بزيادة أو نقصان أو بعدول فاصلاحها إنما يكون بإزالة هذه الأمور الثلاثة ورد كل حق إلى مستحقه
البحث الثاني في كيفية هذا الإصلاح بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم ههنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث إما بذكر إقرار أو بالتزام عقد فههنا يمنع منه ومنها أن يوصي بأكثر من الثلث ومنها أن يوصي للأباعد وفي الأقارب شدة حاجة ومنها أن يوصي مع قلة المال وكثرة العيال إلى غير ذلك من الوجوه
أما قوله تعالى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب عليه فكيف يليق به أن يقال فلا إثم عليه وجوابه من وجوه الأول أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية وهذا أيضاً من التبديل بين مخالفته للأول وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل والثاني لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثماً أزال الشبهة وقال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والثالث بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره لأن ذلك يوهم القبح فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والرابع أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً
المسألة الثانية دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع
أما قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه أيضاً سؤال وهو أن هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام وجوابه من وجوه أحدها أن هذا من باب(5/58)
تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهم كان أولى وثانيها يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرجحه بفضله وثالثها أن المصلح ربما احتاج في إيتاء الإصلاح إلى أقوال وأفعال كان الأولى تركها فإذا علم تعالى منه أن غرضه ليس إلا الإصلاح فإنه لا يؤاخذه بها لأنه غفور رحيم
الحكم السادس
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
اعلم أن الصيام مصدر صام كالقيام وأصله في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له ومنه قيل للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام قال الله تعالى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً ( مريم 26 ) وصوم النهار إذا اعتدل وقام قائماً الظهيرة قال امرؤ القيس فدعها وسل الهم عنها بحسرة
ذمول إذا صام النهار وهجراً
وقال آخر حتى إذا صام النهار واعتدل
وصامت الريح إذا ركدت وصام الفرس إذا قام على غير اعتلاف وقال النابغة
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويقال بكرة صائمة إذا قامت فلم تدر قال الراجز والبكرات شرهن الصائمة ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار وكذلك مصام النجم قال امرؤ القيس
كأن الثريا علقت في فصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
هذا هو معنى الصوم في اللغة وفي الشريعة هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات حال العلم بكونه صائماً مع اقتران النية
أما قوله تعالى كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذا التشبيه قولان أحدهما أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله(5/59)
والقول الثاني أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوماف من السنة زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون وكذبوا في ذلك أيضاً لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشراً ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً وهذا معنى قوله تعالى اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ( التوبة 31 ) وهذا مروي عن الحسن وثانيها أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ولهذا كره صوم يوم الشك وهو مروي عن الشعبي وثالثها أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) يفيد نسخ هذا الحكم فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلاً على ثبوت هذا المعنى قال أصحاب القول الأول قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصاً برمضان وأن يكون صومهم مقدراً بثلاثين يوماً ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك
المسألة الثانية في موضع كَمَا ثلاثة أقول الأول قال الزجاج موضع كَمَا نصب على المصدر لأن المعنى فرض عليكم فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم الثاني قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها كتب عليكم الصيام مشبهاً وممثلاً بما كتب على الذين من قبلكم الثالث قال أبو علي هو صفة لمصدر محذوف تقديره كتابة كما كتب عليهم فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال ومثله في الإتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق أنت واحدة ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فاعلم أن تفسير لَعَلَّ في حق الله تعالى قد تقدم وأما أن هذا الكلام كيف يليق بهذا الموضع ففيه وجوه أحدها أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج وإنما يسعى الناس لهذين كما قيل في المثل السائر المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ منها بذلك على وجه(5/60)
وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجباً وثانيها المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوى وهذا معنى لَعَلَّ وثانيها المعنى لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ورابعها المراد كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها واصالتها وخامسها لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين لأن الصوم شعارهم والله أعلم
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في قوله تعالى أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ مسائل
المسألة الأولى في انتصاب أَيَّامًا أقوال الأول نصب على الظرف كأنه قيل كتب عليكم الصيام في أيام ونظيره قولك نويت الخروج يوم الجمعة والثاني وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله كقولهم أعطى زيد مالاً والثالث على التفسير والرابع بإضمار أي فصوموا أياماً
المسألة الثانية اختلفوا في هذه الأيام على قولين الأول أنها غير رمضان وهو قول معاذ وقتادة وعطاء ورواه عن ابن عباس ثم اختلف هؤلاء فقيل ثلاثة أيام من كل شهر عن عطاء وقيل ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء عن قتادة ثم اختلفوا أيضاً فقال بعضهم إنه كان تطوعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً واتفق هؤلاء على أنه منسوخ بصوم رمضان واحتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه الأول ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن صوم رمضان نسخ كل صوم فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوماً آخر واجباً الثاني أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمهما أيضاً في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان ذلك تكريراً محضاً من غير فائدة أنه لا يجوز الثالث أن قوله تعالى في هذا الموضع وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ يدل على أن الصوم واجب على التخيير يعني إن شاء صام وإن شاء أعطى الفدية وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان
القول الثاني وهو اختيار أكثر المحققين كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان قالوا وتقريره أنه تعالى قال أولاً كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فزال بعض الإحتمال ثم بينه بقوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ(5/61)
الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به
أما تمسكهم أولاً بقوله عليه السلام ( إن صوم رمضان نسخ كل صوم )
فالجواب أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض فيصح أن يكون شرعه ناسخاً لشرع غيره
سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان
وأما حجتهم الثانية وهي أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان لكان حكم المريض والمسافر مكرراً
فالجواب أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين بل كان التخيير ثابتاً بينه وبين الفدية فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء ويجوز أيضاً أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم فلما لم يكن ذلك بعيداً بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتماً كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان
وأما حجتهم الثالثة وهي قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير وصوم شهر رمضان واجب معين
فجوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجباً مخيراً ثم صار معيناً فهذا تقرير هذا القول واعلم أن على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية أما على القول الأول فظاهر وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً والآية التي بعدها تدل على التعيين فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح
وجوابه أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا إن ذلك في التلاوة أن في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير(5/62)
المسألة الثالثة في قوله مَّعْدُوداتٍ وجهان أحدهما مقدرات بعدد معلوم وثانيهما قلائل كقوله تعالى دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ ( يوسف 20 ) وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره وأما الكثير فإنه يصب صباً ويحثى حثياً والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا صيام أكثره ولو شئت لفعلت ذلك ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة وقال بعض المحققين يجوز أن يكون قوله أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ من صلة قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه أياناً أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها فكان هذا بياناً لكونه تعالى رحيماً بجميع الأمم ومسهلاً أمر التكاليف على كل الأمم
أما قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضاً أو مسافراً فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال رحمه الله انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت ثم ثانياً بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب لحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ثم ثالثاً بين أنه مختص بأيام معدودة فإن لو جعله أبداً أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة ثم بين خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيراً إذا عرفت هذا فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا إلى قوله ءاخَرَ فيه معنى الشرط والجزاء أي من يكن منكم مريضاً أو مسافراً فأفطر فليقض وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله كان الإستقبال لا الماضي كما تقول من أتاني أتيته
المسألة الثانية المرض عبارة عن عدم اختصاص جميع أعضاء الحي بالحالة المقتضية لصدور أفعاله سليمة سلامة تليق به واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال أحدها أن أي مريض كان وأي مسافر كان فله أن يترخص تنزيلاً للفظه المطلق على أقل أحواله وهذا قول الحسن وابن سيرين يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه وثانيها أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وبالمسافر الذي يكون كذلك وهذا قول الأصم وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال وثالثها وهو قول أكثر الفقهاء أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبني ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحوم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه قالوا وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم(5/63)
فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به لأن ذل قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضاً فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه
المسألة الثالثة أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة لأنها تسفر التراب عن الأرض والسفير الداخل بين اثنين للصلح لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما والمسفر المضيء لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب لأنه يكشف عن المعان ببيانه وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب قال الأزهري وسمي المسافر مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ويظهر ما كان خافياً منهم واختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص فقال داود الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخاً وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقاً على كونه مسافراً فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم أقصى ما في الباب أنه يروي خبر واحد في تخصيص هذا العموم لكن تخيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز وقال الأوزاعي السفر المبيح مسافة يوم وذلك لأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد فوجب الاقتصار على الواحد ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافرة الإياب كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاث أقدام خطوة وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحق وقال أبو حنيفة والثوري رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخاً حجة الشافعي وجهان الأول قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مقتضاه أن يترخص المسافر مطلقاً ترك العمل به فيما إذا كان السفر مرحلة واحدة لأن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله أما إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة تحصيلاً لهذا التخفيف
الحجة الثانية من الخبر وهو ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان قال أهل اللغة وكل بريد أربعة فراسخ فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً وروي عن الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس أقصر إلى عرفة فقال لا فقال إلى مر الظهران فقال لا ولكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف قال مالك بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد وحجة أبي حنيفة أيضاً من وجهين الأول أن قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) يقتضي وجوب الصوم عدلنا عنه في ثلاثة أيام بسبب الإجماع على أن هذا القدر مرخص والأقل منه مختلف فيه فوجب أن يبقى وجوب الصوم
الحجة الثانية من الخبر وهو قوله عليه السلام ( يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ) دل الخبر على أن لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولا يكون كذلك حتى تتقدر مدة السفر ثلاثة أيام لأنه عليه الصلاة والسلام جعل السفر علة المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وجعل هذا المسح معلولاً والمعلول لا يزيد على العلة
والجواب عن الأول أنه معارض بما ذكرناه من الآية فإن رجحوا جانبهم بأن الاحتياط في العبادات(5/64)
أولى رجحنا جانبنا بأن التخفيف في رخص السفر مطلوب الشرع بدليل قوله عليه السلام ( هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقتبلوا منه صدقته ) والترجيح لهذا الجانب لأن الدليل الدال على أن رخص السفر مطلوبة للشرع أخص من الدليل الدال على وجوب رعاية الاحتياط والجواب عن الثاني أنه عليه السلام قال ( يمسح المقيم يوماً وليلة ) وهذا لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة صار مقيماً فكذا قوله ( والمسافر ثلاثة أيام ) لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام
المسألة الرابعة لقائل أن يقول رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضاً أو مسافراً ولم يقل هكذا بل قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
وجوابه أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات فإن حصلت حصلت وإلا فلا وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفراً وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافراً فإذن كونه مسافراً أمر يتعلق بقصده واختياره فقوله عَلَى سَفَرٍ معناه كونه على قصد السفر والله أعلم بمراده
المسألة الخامسة الْعِدَّة َ فعلة من العد وهو بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة وعدة المرأة من هذا
فإن قيل كيف قال فَعِدَّة ٌ على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات
قلنا لأنا بينا أن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة
المسألة السادسة عِدَّة َ قرئت مرفوعة ومنصوبة أما الرفع فعلى معنى فعليه صوم عدة فيكون هذا من باب حذف المضاف وأما إضمار عَلَيْهِ فيدل عليه حرف الفاء وأما النصب فعلى معنى فليصم عدة
المسألة السابعة ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال لو صام في السفر قضي في الحضر وهذا اختيار داود بن علي الأصفاني وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام حجة الأولين من القرآن والخبر أما القرآن فمن وجهين الأول أنا إن قرأنا عِدَّة َ بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير فعليه عدة من أيام وكلمة عَلَى للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجباً ضرورة أنه لا قائل بالجمع
الحجة الثانية أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية ثم قال عقيبها يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئاً تقدم ذكرهما وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا وأما الخبر فإثنان(5/65)
الأول قوله عليه السلام ( ليس من البر الصيام في السفر ) لا يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش فقال ( ليس من البر الصيام في السفر ) لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر )
أما حجة الجمهور فهي أن في الآية إضماراً لأن التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه ههنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ إلى قوله مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ ( البقرة 96 ) أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز أما أن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه الأول قال القفال قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين الأول أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى فَلْيَصُمْهُ يقتضي الوجوب عيناً ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه عِدَّة َ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار
الوجه الثاني ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط فقال القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل فعليه قضاء ما مضى بل قال فعليه صوم عدة من أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقاً بالإفطار
الوجه الثالث ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله هل أصوم على السفر فقال عليه الصلاة والسلام ( صم إن شئت وأفطر إن شئت ) ولقائل أن يقول هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة لمذهب القائلين بأن الصوم جائز فرعان
الفرع الأول اختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر فقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي أوفى الصوم أفضل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد وقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء(5/66)
حجة الأولين قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وقوله تعالى وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ
حجة الفرقة الثانية أن القصر في الصلاة أفضل فوجب أن يكون الإفطار أفضل
والجواب أن من أصحابنا من قال الإتمام أفضل إلا أنه ضعيف والفرق من وجهين أحدهما أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون الصلاة إذا قصرها والثاني أن فضيلة الوقت تفوت بالفطر ولا تفوت بالقصر
حجة الفرقة الثالثة قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) فهذا يقتضي أنه إن كان الصوم أيسر عليه صام وإن كان الفطر أيسر أفطر
الفرع الثاني أنه إذا أفطر كيف يقضي فمذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعاً وقال الباقون التتابع مستحب وإن فرق جاز حجة الأولين وجهان الأول أن قراءة أبي فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ والثاني أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعاً فكذا القضاء
حجة الفرقة الثانية أن قوله سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ نكرة في سياق الإثبات فيكون ذلك أمراً بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقاً فيكون التقييد بالتتابع مخالفاً لهذا التعميم وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرق والله أعلم
وروي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقاً فقال له ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك فقال نعم قال فالله أحق أن يعفو ويصفح )
المسألة التاسعة ءاخَرَ لا ينصرف لأنه حصل فيه سببان الجمع والعدل أما الجمع فلأنها جمع أخرى وأما العدل فلأنها جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وآخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه إما أن يستعمل مع مِنْ أو مع الألف واللام يقال زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل وكان القياس أن يقال رجل آخر من زيد كما تقول قدم أمن عمرو إلا أنهم حذفوا لفظ مِنْ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ فأسقطوا مِنْ إكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام منافيان مِنْ فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر وآخر وأخرى معدولة عن حكم نظائرها لأن الألف واللام استعملتا فيها ثم حذف
أما قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المشهورة المتواترة يُطِيقُونَهُ وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء يُطِيقُونَهُ ومن الناس من قال هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال ابن جني أما عين الطاقة فواو كقولهم لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة ( يطوقونه ) فهو يفعلونه فهو كقولك يجشمونه أي يكلفونه
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ على ثلاثة أقوال الأول أن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم(5/67)
وأما القسم الأول فقد ذكر الله حكمه في قوله وَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وأما القسم الثاني وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم فإليهما الإشارة بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام والثانية أن يكون مطيقاً للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية
القول الثاني وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين هذين ثم نصخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً
القول الثالث أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم قالوا وتقريره من وجهين أحدهما أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة
الوجه الثاني في تقرير هذا القول القراءة الشاذة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشي مع ضرب من المشقة
إذا عرفت هذا فنقول القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما وهو قول السدي أنه هو الشيخ الهرم فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة يروى أن أنساً كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم ويطعم لكل يوم مسكيناً وقال آخرون إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي
واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فهل عليهما الفدية فقال الشافعي رضي الله عنه عليهما الفدية فقال أبو حنيفة لا تجب حجة الشافعي أن قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ يتناول الحامل والمرض وأيضاً المدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضاً عليهما وأبو حنيفة فرق فقال الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما فو أوجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
أما القول الأول وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه أحدها أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الغاية وهو الذي لا يمكن تحمله أو المراد كل ما يسمى مرضاً أو المراد منه ما يكون متوسطاً بين هاتين الدرجتين والقسم الثاني باطل بالإتفاق والقسم الثالث أيضاً باطل لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إلى ما تحتها قوية فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول وذلك لأنه مضبوط فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة(5/68)
إذا ثبت هذا فنقول أول الآية دل على إيجاب الصوم وهو قوله كتب عليكم الصيام أياماً معدودات ثم بين أحوال المعذورين ولما كان المعذورون على قسمين منهم من لا يطيق الصوم أصلاً ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني
الحجة الثانية في تقرير هذا القول أنه لا يقال في العرف للقادر القوي إنه يطيق هذا الفعل لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة
الحجة الثالثة أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز
الحجة الرابعة أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لائقاً بهذا الموضع لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ورفع وجوبه على سبيل التخيير فكان ذلك رفعاً لليسر وإثباتاً للعسر فكيف يليق به أن يقول يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال إن قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ معطوف على المسافر والمريض ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم
والجواب أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم ألبتة والمراد من قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ لأنه لا يطيقه ولقائل أن يقول هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيراً لك فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثواباً
أما قوله تعالى فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر فِدْيَة ٌ بغير تنوين طَعَامٌ بالكسر مضافاً إليه مَسَاكِينَ جمعا والباقون فِدْيَة ٌ منونة طَعَامٌ بالرفع مّسْكِينٌ مخفوض أما القراءة الأولى ففيها بحثان الأول أنه ما معنى إضافة فدية إلى طعام فنقول فيه وجهان أحدهما أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم مسجد الجامع وبقله الحمقاء والثاني قال الواحدي الفدية اسم للقدر الواجب والطعام اسم يعم الفدية وغيرها فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى مِنْ كقولك ثوب خز وخاتم حديد والمعنى ثوب من خز وخاتم من حديد فكذا ههنا التقدير فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام(5/69)
البحث الثاني أن في هذه القراءة جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة وكل واحد منهم يلزمه مسكين وأما القراءة الثانية وهي فِدْيَة ٌ بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسراً له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين
المسألة الثانية الفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم على الشيء وعند أبي حنيفة أنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره وهو مدان وعند الشافعي مد
المسألة الثالثة احتج الجبائي بقوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ على أن الاستطاعة قبل الفعل فقال الضمير في قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عائد إلى الصوم فأثبت القدرة على الصوم حال عدم الصوم لأنه أوجب عليه الفدية وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الضمير عائد إلى الفدية
قلنا لوجهين أحدهما أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها والثاني أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة فإن قيل هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها قلنا كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل والحقائق لا تتغير
أما قوله تعالى فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن يطعم مسكيناً أو أكثر والثاني أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب والثالث قال الزهري من صام مع الفدية فهو خير له
أما قوله وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ففيه وجوه أحدها أن يكون هذا خطاباً مع الذين يطيقونه فقط فيكون التقدير وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية والثاني أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه وهذا أولى لأن اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أن يكون حكمه مختصاً بهم لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وأن التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر الثالث أن يكون قوله وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ عطفاً عليه على أول الآية فالتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم
أما قوله إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم الثاني أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية الثالثة أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فذكر العلم والمراد الخشية وصاحب الخشية يراعي الإحتياط والاحتياط في فعل الصوم فكأنه قيل إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيراً لكم(5/70)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى الشهر مأخوذ من الشهرة يقال شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهراً لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهراً باسم الهلال
المسألة الثانية اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها قال مجاهد إنه اسم الله تعالى ومعنى قول القائل شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى )
القول الثاني أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه الأول ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم الثاني أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس والإسم الرمضاء فسمي هذا الشهر بهذا الإسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم وقيل لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر وقيل سمي بهذا الإسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وقد روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله ) الثالث أن هذا الإسم مأخوذ من قولهم رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا دفعته بين حجرين ليرق ونصل رميض ومرموض فسمي هذا الشهر رمضان لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم وهذا القول يحكى عن الأزهري الرابع لو صح قولهم إن رمضان اسم الله تعالى وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الإسم فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته
المسألة الثالثة قرىء شَهْرٍ بالرفع وبالنصب أما الرفع ففيه وجوه أحدها وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام والمعنى كتب عليكم شهر رمضان والثاني وهو قول الفراء والأخفش أنه(5/71)
خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله أَيَّامًا كأنه قيل هي شهر رمضان لأن قوله شَهْرُ رَمَضَانَ تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها الثالث قال أبو علي إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر كأنه لما تقدم كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه الرابع قال بعضهم يجوز أن يكون بمبتدأ وخبره الَّذِى مع صلته كقوله زيد الذي في الدار قال أبو علي والأشبه أن يكون الَّذِى وصفاً ليكون لفظ القرآن نصاً في الأمر بصوم الشهر لأنك إن جعلته خبراً لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ إنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن فيه وإيضاً إذا جعلت الَّذِى وصفاً كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه وأما قراءة النصب ففيها وجوه أحدها التقدير صوموا شهر رمضان وثانيها على الإبدال من أيام معدودات وثالثها أنه مفعول وَأَن تَصُومُواْ وهذا الوجه ذكره صاحب ( الكشاف ) واعترض عليه بأن قيل فعلى هذا التقدير يصير النظم وأن تصوموا رمضان الذين أنزل فيه القرأن خير لكم وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز
أما قوله أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية وهو أنه أنزل فيه القرآن فلا يبعد أيضاً تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبداً يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ) فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصاً بنزول القرآن وجب أن يكون مختصاً بالصوم وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى نَزَّلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في تفسيره قولان الأول وهو اختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين ) وههنا سؤلات
السؤال الأول أن القرآن ما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام دفعة وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور فما معنى تخصيص إنزاله برمضان
والجواب عنه من وجهين الأول أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوماً وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول عليه السلام في توقع الوحي من أقرب الجهات أو كان فبه مصلحة لجبريل عليه السلام لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجماً مفرقا فقد شرحناها في سورة(5/72)
الفرقان في تفسير قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَة ً واحِدَة ً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 )
الجواب الثاني عن هذا السؤال أن المراد منه أنه ابتدىء إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول محمد بن إسحاق وذلك لأن مبادىء الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه
السؤال الثاني كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وبين قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ ( الدخان 3 )
والجواب روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان وهذا كمن يقول لقيت فلاناً في هذا الشهر فيقال له في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيراً للكلام الأول فكذا ههنا
السؤال الثالث أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منجماً إلى آخر عمره ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمداً عليه السلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبداً ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب
الجواب كلاهما محتمل وذلك لأن قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يحتمل أن يكون المراد منه الشخص وهو رمضان معين وأن يكون المراد منه النوع وإذا كان كل واحد منهما محتملاً صالحا وجب التوقف
القول الثاني في تفسير قوله أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال سفيان بن عيينة أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن وهذا اختيار الحسين بن الفضل قال ومثله أن يقال أنزل في الصديق كذا آية يريدون في فضله قال ابن الأنباري أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كام يقول أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها
المسألة الثانية القرآن اسم لما بين الدفتين من كلام الله واختلفوا في اشتقاقه فروى الواحدي في ( البسيط ) عن محمد بن عبد الله بن الحكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول إن القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل قال ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ ( الآراء 45 ) قال الواحدي وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتق وذهب آخرون إلى أنه مشتق واعلم أن القائلين بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه(5/73)
أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان أحدهما أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر فهو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز فسمي القرآن قرآناً إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عبد الله مقترن بعضها ببعض أعني اشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب وعلى الأخبار عن المغيبات وعلى العلوم الكثيرة فعلى هذا التقدير هو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز وثانيهما قال الفراء أظن أن القرآن سمي من القرائن وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً على ما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فهي قرائن وأما الذين همزوا فلهم وجوه أحدها أنه مصدر القراءة يقال قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا فهو مصدر ومثل القرآن من المصادر الرجحان والنقصان والخسران والغفران قال الشاعر ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي قراءة وقال الله سبحانه وتعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى ( الإسراء 78 ) هذا هو الأصل ثم إن المقروء يسمى قرآناً لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب شراب وللمكتوب كتاب واشتهر هذا الإسم في العرف حتى جعلوه اسماً لكلام الله تعالى وثانيها قال الزجاج وأبو عبيدة إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع قال عمرو هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في رحمها ولدا ومن هذا الأصل قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها فسمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور ويضمها وثالثها قول قطرب وهو أنه سمي قرآنا لأن القارىء يكتبه وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب ما قرأت الناقة سلى قط أي ما رمت بولد وما أسقطت ولداً قط وما طرحت وسمي الحيض قرأ لهذا التأويل فالقرآن يلفظه القارىء من فيه ويلقيه فسمي قرآناً
المسألة الثالثة قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( البقرة 23 ) أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال الله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ إذا ثبت هذا فنقول لما كان المراد ههنا من قوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال أما قوله هُدًى لّلنَّاسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى بينا تفسير الهدى في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )
والسؤال أنه تعالى جعل القرآن في تلك الآية هدى للمتقين وههنا جعله هدى للناس فكيف وجه الجمع وجوابه ما ذكرناه هناك
المسألة الثانية هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ نصب على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو(5/74)
آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل
أما قوله تعالى وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ففيه إشكال وهو أن يقال ما معنى قوله وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى بعد قوله هُدًى
وجوابه من وجوه الأول أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ثم الهدى على قسمين تارة يكون كونه هدى للناس بينا جلياً وتارة لا يكون كذلك والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل هو هدى لأنه هو البين من الهدى والفارق بين الحق والباطل فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه لكونه أشرف أنواعه والتقدير كأنه قيل هذا هدى وهذا بين من الهدى وهذا بينات من الهدى ولا شك أن هذا غاية المبالغات الثاني أن يقال القرآن هدى في نفسه ومع كونه كذلك فهو أيضاً بينات من الهدى والفرقان والمراد بالهدى والفرقان التوراة والإنجيل قال الله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( آل عمران 3 4 ) وقال وَإِذَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ ( البقرة 53 ) وقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ( الأنبياء 480 ) فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان الثالث أن يحمل الأول على أصول الدين والهدي الثاني على فروع الدين فحينئذ يزول التكرار والله أعلم
وأما قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى نقل الواحدي رحمه الله في ( البسيط ) عن الأخفش والمازني أنهما قالا الفاء في قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ زائدة قالا وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء أو تكون زائدة وليس للعطف والجزاء ههنا وجه ومن زيادة الفاء قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ ( الجمعه 8 )
وأقول يمكن أن يقال الفاء ههنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة ههنا وجه كأنه قيل لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة أما قوله تعالى فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ الفاء فيه غير زائدة وأيضاً بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر
المسألة الثانية شَهِدَ أي حضر والشهود الحضور ثم ههنا قولان أحدهما أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافراً وقوله الشَّهْرُ انتصابه على الظرف وكذلك الهاء في قوله فَلْيَصُمْهُ
والقول الثاني مفعول شَهِدَ هو الشَّهْرُ والتقدير من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركت زمان فلان واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر أما القول(5/75)
الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى وأيضاً فلاناً على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضاً من التزام التخصيص لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه فالقول الأول لا يتمشى إلا مع التزام الإضمار والتخصيص والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين كالواحدي وصاحب ( الكشاف ) ذهبوا إلى الأول
المسألة الثالثة الألف واللام في قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ للمعهود السابق وهو شهر رمضان ونظيره قوله تعالى لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء ( النور 13 ) أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة
المسألة الرابعة اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جملة مركبة من شرط وجزاء فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر فعلى هذا من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء وهو الأمر بصوم كل الشهر وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور
واعلم أن المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح ألبتة إلا هذا القول ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان أحدهما أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر والثاني أنه إذا شهد آخر الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر
أما الأول فهو أنه نقل عن علي رضي الله عنه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر أن الواجب أن يصوم الكل لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر وأما سائر المجتهدين فيقولون إن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وإن كان معناه أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر وقوله بعد ذلك فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ خاص والخاص مقدم على العام فثبت أنه وإن سافر بعد شهوة الشهر فإنه يحل له الإفطار
وأما الثاني وهو أن أبا حنيفة زعم أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى قال لأنا(5/76)
قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزأ من رمضان لزمه صوم كل رمضان والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزأ من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب
المسألة الخامسة اعلم أن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يستدعي بحثين
البحث الأول أن شهود الشهر بماذا يحصل فنقول إما بالرؤية وإما بالسماع أما الرؤية فنقول إذا رأى إنسان هلال رمضان فأما أن يكون منفرداً بتلك الرؤية أو لا يكون فإن كان منفرداً بها فأما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته لزمه أن يصوم لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سبباً لوجوب الصوم عليه وقد حصل شهود الشهر في حقه فوجب أن يجب عليه الصوم وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعاً وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان يحكم به احتياطاً لأمر الصوم والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا على قول الإثنين وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً
البحث الثاني في الصوم نفقول إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية وفي الحد قيود
القيد الأول الإمساك وهو احتراز عن شيئين أحدهما لو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق إلى بطنه لا يبطل صومه لأن الاحتراز عنه شاق والله تعالى يقول في آية الصوم يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والثاني لوصب الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً أو حال نوم لا يبطل صومه لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك
القيد الثاني قولنا عن المفطرات وهي ثلاثة دخول داخل وخروج خارج والجماع وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة وأما الخروج فالقىء بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم
القيد الثالث قولنا مع العلم بكونه صائماً فلو أكل أو شرب ناسياً للصوم لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يبطل
القيد الرابع قولنا من أول طلوع الفجر الصادق والدليل عليه قوله تعالى وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ( البقرة 187 ) وكلمة حَتَّى لانتهاء الغاية وكان الأعمش يقول أول وقته إذا طلعت الشمس وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ويحتج بأن(5/77)
انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه وحكي عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتنيا فسكت عنه أبو حنيفة فلما خرج من عنده قيل له لم سكت عنه فقال وماذا أقول في رجل ما صام وما صلى في دهره عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له
القيد الخامس قولنا إلى غروب الشمس ودليله قوله عليه السلام ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) ومن الناس من يقول وقت الإفطار عند غروب ضوء الشمس قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار
القيد السادس قولنا مع النية ومن الناس من يقول لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله فَلْيَصُمْهُ والصوم هو الإمساك وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام ( أفضل الأعمال الصوم ) والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات )
المسألة السادسة القائلون بأن الآية المتقدمة تدل على أن المقيم الصحيح مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية قالوا هذه الآية ناسخة لها وأبو مسلم الأصفاني والأصم ينكرون ذلك وقد تقدم شرح هذه المسألة ثم بتقدير صحة القول بهذا النسخ فهذا يدل على أن نسخ الأخف بالأثقل جائز لأن إيجاب الصوم على التعيين أثقل من إيجابه على التخيير بينه وبين الفدية
أما قوله تعالى فَمَن كَانَ مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فقد تقدم تفسير هذه الآية وقد تقدم بيان السبب في التكرير
أما قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره ههنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر ههنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة وههنا مسائل
المسألة الأولى اليسر في اللغة معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار لأنه يسهل به الأمور واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر وقيل إنه يتسهل الأمر بمعونتها اليمنى
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية في أن تكليف ما لا يطاق غير واقع قالوا لأنه تعالى لما بين أنه يريد بهم ما تيسر دون ما تعسر فكيف يكلفهم ما لا يقدرون عليه من الإيمان وجوابه أن اليسر والعسر لا يفيدان العموم لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم وأيضاً فلو سلمنا ذلك لكنه قد ينصرف إلى المعهود السابق فنصرفه إلى المعهود السابق في هذا الموضع
المسألة الثالثة المعتزلة تمكسوا بهذه الآية في إثبات أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله وذلك لأن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله منه إذا كان لا(5/78)
يريد العسر الجواب يحتمل اللفظ على أنه تعالى لا يريد أن يأمره بما فيه عسر وإن كان قد يريد منه العسر وذلك لأن عندنا الأمر قد يثبت بدون الإرادة
المسألة الرابعة قالوا هذه الآية دالة على رحمته سبحانه لعباده فلو أراد بهم أن يكفروا فيصيروا إلى النار وخلق فيهم ذلك الكفر لم يكن لائقاً به أن يقول يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والجواب أنه معارض بالعلم
أما قوله تعالى وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان أكملت وكملت
المسألة الثانية لقائل أن يقول وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ على ماذا علق
جوابنا أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف ثم فيه وجهان أحدهما ما قاله الفراء وهو أن التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظاً ثلاثة فقوله وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ علة للأمر بمراعاة العدة وَلِتُكَبّرُواْ علة ما علمتم من كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخص والتسهيل ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) أي أريناه
الوجه الثاني ما قاله الزجاج وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء فلا يكون عسراً فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيراً بل يكون سهلاً يسيراً والفرق بين الوجهين أن في الأول إضماراً وقع بعد قوله وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وفي الثاني قبله
المسألة الثالثة إنما قال وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ ولم يقل ولتكملوا الشهر لأنه لما قال ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعاً ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي ولو قال تعالى ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء
أما قوله وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا ففيه وجهان الأول أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وقال الشافعي وأحب إظهار التكبير في العيدين وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يكره ذلك غداة الفطر واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وقال معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة ثم يتفرع على هذا ثلاث مسائل إحداها اختلف قوله في أن أي العيدين أوكد في التكبير فقال في القديم ليلة النحر أوكد لإجماع السلف عليها وقال في الجديد ليلة الفطر أوكد لورود النص فيها وثانيها أن وقت التكبير بعد غروب(5/79)
الشمس من ليلة الفطر وقال مالك لا يكبر في ليلة الفطر ولكنه يكبر في يومه وروي هذا عن أحمد وقال إسحق إذا غدا إلى المصلى حجة الشافعي أن قوله تعالى وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ يدل على أن الأمر بهذا يوجب أن يكون التكبير وقع معللاً بحصول هذه الهداية لكن بعد غروب الشمس تحصل هذه الهداية فوجب أن يكون التكبير من ذلك الوقت وثالثها مذهب الشافعي أن وقت هذا التكبير ممتد إلى أن يحرم الإمام بالصلاة وقيل فيه قولان آخران أحدهما إلى خروج الإمام والثاني إلى انصراف الإمام والصحيح هو الأول وقال أبو حنيفة إذا بلغ إلى أدنى المصلى ترك التكبير
القول الثاني في تفسير قوله وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ أن المراد منه التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول فالإقرار بصفاته العلي وأسمائه الحسنى وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام والحج واعلم أن القول الأول أقرب وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات
أما قوله تعالى عَلَى مَا هَدَاكُمْ فإنه يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة وعند أصحابنا بخلق الطاعة
وأما قوله تعالى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ففيه بحثان أحدهما أن كلمة لَعَلَّ للترجي والترجي لا يجوز في حق الله والثاني البحث عن حقيقة الشكر وهذان بحثان قد مر تقريرهما
بقي ههنا بحث ثالث وهو أنه ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع فنقول إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء وأوصاف الواصفين وذكر الذاكرين ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات فضلاً عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( البقرة 185 ) فأمر بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه ويجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه والثاني أن أمر بالتكبير أولاً ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بد(5/80)
وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء فقال أولاً الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعرا 78 ) إلى قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) فكذا ههنا أمر بالتكبير أولاً ثم شرع بعده في الدعاء ثانياً الثالث إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف ثم ندموا وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن توبتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً أحدها ما روي عن كعب أنه قال قال موسى عليه السلام يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك فقال يا موسى أنا جليس من ذكرني قال يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط قال يا موسى اذكرني على كل حال فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال فأنزل الله تعالى هذه الآية وثانيها أن أعرابياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال عليه السلام ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً ) ورابعها ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا كيف ندعو ربنا يا نبي الله فأنزل هذه الآية وخامسها قال عطاء وغيره إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله فأنزل الله تعالى هذه الآية وسادسها ما ذكره ابن عباس وهو أن يهود أهل المدينة قالوا يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا فنزلت هذه الآية وسابعها قال الحسن سأل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أين ربنا فأنزل الله هذه الآية وثامنها ما ذكرنا أن قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تعالى هل يقبل توبتنا فأنزل الله هذه الآية
واعلم أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى فذلك السؤال إما أنه كان سؤالاً عن ذات الله تعالى أو عن صفاته أو عن أفعاله أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعاً على كونه تعالى سميعاً أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء وهل أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( الإسراء 110 ) وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا وهل يفعله ما نسأله عنه فقوله سبحانه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يحتمل كل هذه الوجوه إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول أن ظاهر قوله عَنّي يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله والثاني أن السؤال متى كان مبهماً والجواب مفصلاً دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين فلما قال في الجواب عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ولقائل أيضاً أن(5/81)
يقول بل السؤال كان على الفعل وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم وهل يحصل مقصود بدليل أنه لما قال فَإِنّي قَرِيبٌ قال أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فهذا هو شرح هذا المقام
أما قوله تعالى فَإِنّي قَرِيبٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين
المطلوب الأول في بيان أن هذا القريب ليس قرباً بحسب المكان ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان في المكان مشاراً إليه بالحس لكان منقسماً إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد ولو كان منقسماً لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره فلو كان في مكان لكان مفتقراً إلى غيره والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق وذلك في حق الخالق القديم محال فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات أو غير متناه عن جهة دون جهة أو كان متناهياً من كل الجوانب والأول محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني محال أيضاً لهذا الوجه ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهياً والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه فيلزم منه كونه تعالى مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك
وأما القسم الثالث وهو أن يكون متناهياً من كل الجوانب فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بالجهة وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل بل كان يكون قريباً من حملة العرش وبعيداً من غيرهم ولكان إذا كان قريباً من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيداً من عمرو الذي هو بالمغرب فلما دلت الآية على كونه تعالى قريباً من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بحسب الجهة ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم أو المراد من هذا القرب العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وقال مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادله 7 ) والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتشبيه فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا أين ربنا صح أن يكون الجواب فإني قريب وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا هل يسمع ربنا دعاءنا صح أن يقول في جوابه فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بأخفائه صح أن يجيب بقوله فإني قريب وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء صلح هذا الجواب أيضاً وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا صلح أن يجيب بقوله فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم فثبت أن هذا الجواب مطابق(5/82)
للسؤال على جميع التقديرات
المسألة الثانية الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولم يخيب رجاءه وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت
واعلم أن قوله تعالى فَإِنّي قَرِيبٌ فيه سر عقلي وذلك لأن اتصاف ماهيات الممكنات بوجوداتها إنما كان بإيجاد الصانع فكان إيجاد الصانع كالمتوسط بين ماهيات الممكنات وبين وجوداتها فكان الصانع أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ههنا كلام أعلى من ذلك وهو أن الصانع هو الذي لأجله صارت ماهيات الممكنات موجودة فهو أيضاً لأجله كان الجوهر جوهراً والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً فكما أن بتأثيره وتكوينه صارت الماهيات موجودة فكذلك بتأثيره وتكوينه صارت كل ماهية تلك الماهية فعلى قياس ما سبق كان الصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهية إلى نفسها فإن قيل تكوين الماهية ممتنع لأنه لا يعقل جعل السواد سواداً فنقول فكذلك أيضاً لا يمكن جعل الوجود وجوداً لأنه ماهية ولا يمكن جعل الموصوفية دالة للماهية فإذن الماهية ليست بالفاعل والوجود ماهية أيضاً فلا يكون بالفاعل وموصوفية الماهية بالوجود هو أيضاً ماهية فلا تكون بالفاعل فإذن لم يقع شيء ألبتة بالفاعل وذلك باطل ظاهر البطلان فإذن وجب الحكم بأن الكل بالفاعل وعند ذلك يظهر الكلام الذي قررناه
أما قوله تعالى أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وقالون عن نافع الدَّاعِى َ إِذَا بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف
المسألة الثانية قال أبو سليمان الخطابي الدعاء مصدر من قولك دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتاً وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم رجل عدل وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة وأقول اختلف الناس في الدعاء فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة واحتجوا عليه من وجوه أحدها أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء وثانيها أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان واجب الوقوع وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان ممتنع الوقوع ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئاً منها فأي فائدة في الدعاء وقال عليه الصلاة والسلام قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاماً وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( جف القلم بما هو كائن ) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أربع قد فرغ منها العمر والرزق والخلق والخلق ) وثالثها أنه سبحانه علام الغيوب يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى(5/83)
درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء إن الدعاء أهم مقامات العبودية ويدل عليه وجوه من النقل والعقل أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية أما الأصولية فقوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الإسراء 85 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة َ ( النازعات 42 ) وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ( البقرة 219 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( البقرة 217 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( البقرة 219 ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ( البقرة 220 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) وقال أيضاً يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ( يونس 53 ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 )
إذا عرفت هذا فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله فقل مع فاء التعقيب والسبب فيه أن قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالُ سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكناً في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ولم ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يدل على أن العبد له وقوله فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أن الرب للعبد وثالثها لم يقل فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال فَإِنّي قَرِيبٌ والرابع أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله فإنه لا يكون داعياً له فإذا فني عن الكل صار مستغرقاً في معرفة الأحد الحق فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظاً لحقه وطالباً لنصيبه فلما ارتفعت الوسائط بالكلية فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتاً إلى غرض نفسه لم يكن قريباً من الله تعالى لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله فكان الدعاء أفضل العبادات(5/84)
الحجة الثانية في فضل الدعاء قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 )
الحجة الثالثة أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال فَلَوْلاَ إِذَا جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 43 ) وقال عليه السلام ( لا ينبغي أن يقول أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول اللهم اغفر لي ) وقال عليه السلام ( الدعاء مخ العبادة ) وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ فقوله ( الدعاء هو العبادة ) معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة كقوله عليه السلام ( الحج عرفة ) أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم
الحجة الرابعة قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وقال قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( الفرقان 77 ) والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن
والجواب عن الشبهة الأولى أنها متناقضة لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ثم نقول كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تنم العبودية وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه فقال بل شيء قد فرغ منه فقالوا ففيم العمل إذن قال ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ولم يترك أحد الأمرين للآخر وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال ( كل ميسر لما خلق له ) يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوه إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك
والجواب عن الشبهة الثانية أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية
وعن الثالثة أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء
وعن الرابعة أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب
المسألة الثالثة في الآية سؤال مشكل مشهور وهو أنه تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وقال في هذه الآية أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وكذلك أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب
والجواب أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة وهو قوله تعالى بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ( الأنعام 41 ) ولا شك أن المطلق محمول على المقيد ثم تقرير(5/85)
المعنى فيه وجوه أحدها أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضاً إما إسعافاً بطلبته التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه وإنشراحاً في صدره وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر وعلى كل حال فلا يعدم فائدة وهو نوع من الاستجابة وثانيها ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا )
وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال لأنه تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ولم يقل أستجب لكم في الحال فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقاً وثالثها أن قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ يقتضي أن يكون الداعي عارفاً بربه وإلا لم يكن داعياً له بل لشيء متخيل لا وجود له ألبتة فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفاً بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال مه أن يقول بقلبه وبعقله يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة بل لا بد وأن يقول افعل هذا الفعل إن كان موافقاً لقضائك وقدرك وحكمتك وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطاً بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال الرابع أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة أحدها أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد يا ألله الذي لا إله إلا أنت وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري أُجِيبُ ههنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة فلهذا السبب يقام كل واحد منهما مقام الآخر فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا ههنا قوله أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ أي أسمع تلك الدعوة فإذا حملنا قوله تعالى ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ على هذا الوجه زال الإشكال وثانيها أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة وعلى هذا الوجه أيضاً لا إشكال وثالثها أن يكون المراد من الدعاء العبادة قال عليه الصلاة والسلام ( الدعاء هو العبادة ) ومما يدل عليه قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ( غافر 60 ) فظهر أن الدعاء ههنا هو العبادة وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ ( الشورى 26 ) وعلى هذا الوجه الإشكال زائل ورابعها أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه فالسؤال المذكور إن كان متوجهاً على هذا التفسير لم يكن متوجهاً على التفسيرات الثلاثة المتقدمة فثبت أن الإشكال زائل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ مختص بالمؤمنين الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين والفاسق واجب الإهانة في الدين ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة(5/86)
أما قوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بَى ففيه مسائل
المسألة الأولى وجه الناظم أن يقال إنه تعالى قال أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه فما أعظم هذا الكرم وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء وأنه غير معلل بطاعة العبد وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن المعتزلة في المسألة الرابعة
المسألة الثانية قال الواحدي أجاب واستجاب بمعنى واحد قال كعب الغنوي وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أهل المعنى الإجابة من العبد لله الطاعة وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه لأن إجابة كل شيء على وفق ما يليق به
المسألة الثالثة إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان فذاك هو الإيمان وعلى هذا التقدير يكون قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى تكراراً محضاً وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدماً على الطاعات وكان حق النظم أن يقول فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي فلم جاء على العكس منه
وجوابه أن الإستجابة عبارة عن الإنقياد والإستسلام والإيمان عبارة عن صفة القلب وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات
أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فقال صاحب ( الكشاف ) قرىء يَرْشُدُونَ بفتح الشين وكسرها ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم لأن الرشيد هو من كان كذلك يقال فلان رشيد قال تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا ( النساء 6 ) وقال أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( الحجرات 7 )
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(5/87)
فيه مسائل
المسألة الأولى أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة بل كانت ثابتة في شرع النصارى والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة واحتج الجمهور على قولهم بوجوه
الحجة الأولى أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضاً في صومنا وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتاً في شرعنا
الحجة الثانية التمسك بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله أُحِلَّ لَكُمُ فائدة
الحجة الثالثة التمسك بقوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ولو كان ذلك حلالاً لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم
الحجة الرابعة قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ولولا أن ذلك كان محرماً عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل لما صح قوله فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ
الحجة الخامسة قوله تعالى فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ فائدة
الحجة السادسة هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال
أما الحجة الأولى فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب
وأما الحجة الثانية فضعيفة أيضاً لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا فقوله أُحِلَّ لَكُمُ معناه أن الذي كان محرماً على غيركم فقد أحل لكم
وأما الحجة الثالثة فضعيف أيضاً وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فإن مقتضى التشبيه حصول(5/88)
المشابهة في كل الأمور فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة ومنعوها من المراد وأصل الخيانة النقص وخان واختان وتخون بمعنى واحد كقولهم كسب واكتسب وتكسب فالمراد من الآية علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى
وأما الحجة الرابعة فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 )
وأما الحجة الخامسة فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ
وأما الحجة السادسة فضعيفة لأن قولنا هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعاً لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه وأيضاً ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول وذلك على خلاف قول الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ لأن ظاهره هو المباشرة لأنه افتعال من الخيانة فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة
المسألة الثانية القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم واختلفوا في اسمه فقال معاذ اسمه أبو صرمة وقال البراء قيس بن صرمة وقال الكلبي أبو قيس بن صرمة وقيل صرمة بن أنس فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن سبب ضعفه فقال يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئاً فأبطأت فنمت فأيقظوني وقد حرم الأكل فقام عمر فقال يا رسول الله أعتذر إليك من مثله رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي فقال عليه الصلاة والسلام لم تكن جديراً بذلك يا عمر ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ أي أحل الله وقرأ عبد الله الرفوث
المسألة الرابعة قال الواحدي ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة ومنه قول العباس بن مرادس فقلنا أسلموا إنا أخوكم
فقد برئت من الأحن الصدور(5/89)
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة
المسألة الخامسة قال الليث الرفث أصله قول الفحش وأنشد الزجاج ورب أسراب حجيج كقلم
عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ( البقرة 197 ) وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم وهن يمشين بنا هميسا
أن يصدق الطير ننك لميسا
فقيل له أترفث فقال إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه
فإن قيل لم كنى ههنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 ) فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ( الأعراف 189 ) أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( النساء 23 ) فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ( البقرة 223 ) مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 236 ) فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ( النساء 24 ) وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ( البقرة 222 )
جوابه السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم والله اعلم
المسألة السادسة قال الأخفش إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 )
المسألة السابعة قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن لَيْلَة َ نصب على الظرف وإنما يكون الليل ظرفاً للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ وأما الذي بعده في قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ وأما الذي يقول إن قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ يفيد حل الرفث في الليل فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
أما قوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه سمي كل واحد منهما لباساً قال الربيع هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن وقال ابن زيد عن لباس لكن وأنتم لباس لهن يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس وثانيها إنما سمي الزوجان لباساً ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل كما جاء في الخبر ( من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه ) وثالثها أنه تعالى جعلها لباساً للرجل من حيث إنه يخصها بنفسه كما يخص لباسه بنفسه ويراها أهلاً لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس ورابعها يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن(5/90)
جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار وخامسها ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور
المسألة الثانية قال الواحدي إنما وحد اللباس بعد قوله هُنَّ لأنه يجري مجرى المصدر وفعال من مصادر فاعل وتأويله هن ملابسات لكم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع قوله هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ فنقول هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وضعف عليكم اجتنابهن فلذلك رخص لكم في مباشرتهن
أما قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى يقال خانه يخونه خوناً وخيانة إذا لم يف له والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة وناقض العهد خائن لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر ومنه قوله تعالى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً ( الأنفال 58 ) أي نقضاً للعهد ويقال للرجل المدين إنه خائن لأنه لم يف بما يليق بدينه ومنه قوله تعالى لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقال وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ ( الأنفال 71 ) ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة وإذا علمت معنى الخيانة فقال صاحب ( الكشاف ) الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة
المسألة الثانية أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت فيماذا فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر والذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع ثم ههنا وجهان أحدهما علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله لأنه جلب إليها العقاب وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم لأن قوله عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى لأن الله تعالى لم يقل علم الله أنكم كنتم تختانون الله كما قال لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ ( الأنفال 27 ) ما قال كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ
القول الثاني أن المراد علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه أن الله(5/91)
يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف وعلى التقدير الثاني علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سبباً لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة
أما قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالاذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره تبتم فتاب عليكم فيه
أما قوله تعالى وَعَفَا عَنكُمْ فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف قال عليه السلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) وقال ( أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله ) والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ويقال أتاني هذا المال عفوا أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم وأما على قول مثبتي النسخ فقوله عَفَا عَنْكُمْ لا بد وأن يكون تقديره عفا عن ذنوبكم وهذا مما يقوي أيضاً قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار
أما قوله تعالى فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا أمر وارد عقب الخطر فالذين قالوا الأمر الوارد عقيب الخطر ليس إلا للإباحة كلامهم ظاهر وأما الذين قالوا مطلق الأمر للوجوب قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للاباحة بالإجماع
المسألة الثانية المباشرة فيها قولن أحدهما وهو قول الجمهور أنها الجماع سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة الثانية وهو قول الأصم أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرين في معنى قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقاً من تلاصق البشرتين لم يكن مختصاً بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه فصح ههنا حمل الكلام على الجماع فقط ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه على ما لخصه القاضي
أما قوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الآية وجوها أحدها وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام ( تناكحوا تناسلوا تكثروا ) وثانيها أنه نهى عن العزل وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي لا يعزل(5/92)
الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها أن يكون المعنى ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ورابعها أن هذا التأكيد تقديره فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم وخامسها وهو على قول أبي مسلم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم وسادسها أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن وسابعها أن قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ إذن في المباشرة وقوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) وثامنها قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه وعندي أنه لا بأس به وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور أما إذا قضى وطره وصار فارغاً من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية فتقدير الآية فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الاخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة
المسألة الثانية كِتَابَ فيه وجوه أحدها أن كِتَابَ في هذا الموضوع بمعنى جعل كقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادله 22 ) أي جعل وقوله فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( آل عمران 53 ) خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأعراف 156 ) أي اجعلها وثانيها معناه قضى الله لكم كقوله قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ( التوبة 51 ) أي قضاه وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى وقوله لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قضى وثالثها أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال
المسألة الثالثة قرأ ابن عباس وَابْتَغُواْ وقرأ الأعمش وابغوا
أما قوله لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ فالفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم فلو اقتصر تعالى على قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب فقرن إلى ذلك قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ لتتم الدلالة على الإباحة
أما قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ففيه مسائل
المسألة الأولى روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود(5/93)
فجعلتهما تحت وسادتي وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته فضحك وقال إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل وإنما قال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك لعريض القفا لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل ونقول يدل قطعا على أنه تعالى كني بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك
وجوابه أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية مِنَ الْفَجْرِ لكان السؤال لازماً وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجراً لأنه ينفجر منه النور وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق فإن قيل فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل
وجوابه أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق وأول الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيراً دقيقاً بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقاً والصادق يبدو دقيقاً ويرتفع مستطيلاً فزال السؤال فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الإستعارة مع قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ
المسألة الثانية لا شك أن كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح ووزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شيء من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القيء والحقنة والسعوط فليس شيء منها بمفطر قال لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد الصبح فبقي ما عداها على الحل الأصلي فلا يكون شيء منها مفطراً والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها
المسألة الثالثة مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح
المسألة الرابعة زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره فكما أن آخره بغروب القرص وجب أن يكون أوله بطلوع القرص وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد فإما أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن(5/94)
الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك فيكون قبل طلوع الشمس ليلاً وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص فهذا تقرير قول الأعمش ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار ومنهم من قال لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة ومنهم من زاد عليه وقال بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب وهذه المذاهب قد انقرضت والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها
المسألة الخامسة الْفَجْرِ مصدر قولك فجرت الماء أفجره فجراً وفجرته تفجيراً قال الأزهري الفجر أصله الشق فعل هذا الفجر في آخر الليل هو إنشقاق ظلمة الليل بنور الصبح وأما قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله وقيل للتبيين كأنه قيل الخيط الأبيض الذي هو الفجر
المسألة السادسة أن الله تعالى لما أحل الجماع والأكل والشرب إلى غاية تبين الصبح وجب أن يعرف أن تبين الصبح ما هو فنقول الطريق إلى معرفة تبين الصبح إما أن يكون قطيعاً أو ظنياً أما القطعي فبأن يرى طلوع الصبح أو يتيقن أنه مضى من الزمان ما يجب طلوع الصبح عنده وأما الظني فنقول إما أن يحصل ظن أن الصبح طلع فيحرم الأكل والشرب والوقاع فإن حصل ظن أنه ما طلع كان الأكل والشرب والوقاع مباحاً فإن أكل ثم تبين بعد ذلك أن ذلك الظن خطأ وأن الصبح كان قد طلع عند ذلك الأكل فقد اختلفوا وكذلك إن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم تبين أنها ما كانت غاربة فقال الحسن لا قضاء في الصورتين قياساً على ما لو أكل ناسياً وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في رواية المزني عنه يجب القضاء لأنه أمر بالصوم من الصبح إلى الغروب ولم يأت به وأما الناسي فعند مالك يجب عليه القضاء وأما الباقون الذين سلموا أنه لا قضاء قالوا مقتضى الدليل وجوب القضاء عليه أيضاً إلا أنا أسقطناه عنه للنص وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال أكلت وشربت وأنا صائم فقال عليه الصلاة والسلام أطعمك الله وسقاك فأنت ضيف الله فتم صومك
والقول الثالث أنه إذا أخطأ في طلوع الصبح لا يجب القضاء وإذا أخطأ في غروب الشمس يجب القضاء والفرق أن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان والثابت في الليل حل الأكل وفي النهار حرمته أما إذا لم يغلب على ظنه لا بقاء الليل ولا طلوع الصبح بل بقي متوقفاً في الأمرين فههنا يكره له الأكل والشرب والجماع فإن فعل جاز لأن الأصل بقاء الليل والله أعلم
أما قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى إِلَى الْمَرَافِقِ ( المائدة 6 ) إلا أن ذلك على خلاف الدليل والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار والمرافق من جنس اليد فيكون داخلاً فيه وقال أحمد بن يحيى سبيل إلى الدخول والخروج وكلا الأمرين جائز تقول أكلت السمكة إلى رأسها وجائز أن يكون الرأس داخلاً في الأكل وخارجاً منه إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل(5/95)
خارج عن الصوم إذ لو كان داخلاً فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذاً بالأوثق ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل فقد ورد الحديث الصحيح فيه وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم ) فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئاً فالدليل عليه ما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الوصال قيل يا رسول الله تواصل أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله فقال إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وقيل فيه معان أحدها أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة والثاني أن عليه الصلاة والسلام قال إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلاً وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام فلما كبر جعلها خمساً فلما كبر جداً جعلها ثلاثاً فظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه يدل على أن هذا النهي نهي تحريم وقيل هو نهي تنزيه لأنه ترك للمباح وعلى هذا التأويل صح فعل ابن الزبير إذا عرفت هذا فنقول إذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فعلى ذلك هو بالخيار في الإستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدراً يزول به هذا الخوف
المسألة الثانية اختلفوا في أن الليل ما هو فمن الناس من قال آخر النهار على أوله فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفي بزوال الحمرة ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء
المسألة الثالثة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم قالوا الصوم في اللغة هو الإمساك وقد وجد ههنا فيكون صائماً فيجب عليه إتمامه لقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ فوجب القول بصحته لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل ثم نقول مقتضى هذا الدليل أن يصح صوم الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال
المسألة الرابعة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا لأن قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ أمر وهو للوجوب وهو يتناول كل الصيامات والشافعية قالوا هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض فكان المراد منه صوم الفرض
الحكم السابع
من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم وبين أن من حكمه تحريم المباشرة كان يجوز أن يظن في(5/96)
الإعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهاراً لا ليلاً فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهاراً وليلاً فقال وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه الإعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه براً كان أو إثماً قال تعالى يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ( الأعراف 138 ) والإعتكاف الشرعي المكث في بيت الله تقرباً إليه وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ( البقرة 125 ) وقال تعالى وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
المسألة الثانية لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو معتكف أما إذا لمسها بشهوة أو قبلها أو باشرها فيما دون الفرج فهو حرام على المعتكف وهو يبطل بها اعتكافه للشافعي رحمه الله فيه قولان الأصح أنه يبطل وقال أبو حنيفة لا يفسد الإعتكاف إذا لم ينزل احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين فقوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ منع من هذه الحقيقة فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها
فإن قيل لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع
قلنا لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع وهو قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذناً فيما دون الجماع بطريق الأولى أما ههنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال إنها لا تبطل الإعتكاف أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج فوجب أن لا تفسد الإعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب أن النص مقدم على القياس
المسألة الثالثة اتفقوا على أن شرط الإعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ( البقرة 125 ) فبين ذلك البيت لجميع العاكفين ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ) وقال حذيفة يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) وقال الزهري لا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب وقال الشافعي رضي الله عنه يجوز في جميع المساجد إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية لأن قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ عام يتناول كل المساجد(5/97)
المسألة الرابعة يجوز الإعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا بالصوم حجة الشافعي رضي الله عنه هذه الآية لأنه بغير الصوم عاكف والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة ولو كان إعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً ترك العمل بظاهر اللفظ إذا ترك النية فيبقى فيما عداه على الأصل واحتج المزني بصحة قول الشافعي رضي الله عنهما بأمور ثلاثة الأول لو كان الإعتكاف يوجب الصوم لما صح في رمضان لأن الصوم الذي هو موجبه إما صوم رمضان وهو باطل لأنه واجب بسبب الشهر لا بسبب الاعتكاف أو صوم آخر سوى صوم رمضان وذلك ممتنع وحيث أجمعوا على أنه يصح في رمضان علمنا أن الصوم لا يوجبه الإعتكاف والثاني أنه لو كان الإعتكاف لا يجوز إلا مقارناً بالصوم لخرج الصائم بالليل عن الإعتكاف لخروجه فيه عن الصوم ولما كان الأمر بخلاف ذلك علمنا أن الإعتكاف يجوز مفرداً أبداً بدون الصوم والثالث ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف الله ليلة فقال عليه الصلاة والسلام أوف بنذرك ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله عنه لا تقدير لزمان الإعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ينعقد ولو نذر أن يعتكف مطلقاً يخرج عن نذره باعتكافه ساعة كما لو نذر أن يتصدق مطلقاً تصدق بما شاء من قليل أو كثير ثم قال الشافعي رضي الله عنه وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف فإن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوز اعتكاف أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ليس تقدير الإعتكاف بمقدار معين من الزمان أولى من بعض فوجب ترك التقدير والرجوع إلى أقل ما لا بد منه وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الإعتكاف هو حبس النفس عليه وذلك لا يحصل في اللحظة الواحدة ولأن على هذا التقدير لا يتميز المعتكف عمن ينتظر الصلاة
أما قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تِلْكَ لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الإعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الإعتكاف إلا حداً واحداً وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل
المسألة الثانية قال الليث حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع حداً وسمي الحديد حديداً لما فيه من المنع وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة
أما قوله تعالى فَلاَ تَقْرَبُوهَا ففيه إشكالان الأول أن قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى كل ما تقدم والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل فَلاَ تَقْرَبُوهَا والثاني أنه تعالى قال في آية أخرى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( البقرة 229 ) وقال في آية المواريث وَمَن يَعْصِ اللَّهَ(5/98)
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( تلك وقال ههنا فَلاَ تَقْرَبُوهَا فكيف الجمع بينهما
والجواب عن السؤالين من وجوه الأول وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيداً عن الطرف فضلاً أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) الثاني ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله لاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( الإسراء 34 ) الثالث أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وقبل هذه الآية قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار وقبل هذه الآية قوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات لا جرم غلب جانب التحريم فقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها
أما قوله تعالى كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ففيه وجوه أحدها المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه وثانيها قال أبو مسلم المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( النور 1 ) ثم فسر الآيات بقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى ( النور 2 ) إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا فكأنه تعالى قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم وثالثها يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً سافياً وافياً قال بعده كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان
أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فقد مر شرحه غير مرة
الحكم الثامن
من الأحكام المذكورة في هذه السورة حكم الأموال
وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(5/99)
اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بقوله مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) وهذا مخالف لها لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره قال الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه
والقسم الأول الحرام لصفة في عينه
واعلم أن الأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوانات أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منه إلا من حيث يضر بالأكل وهو ما يجري مجرى السم وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل فمزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم وكل ذلك مذكور في كتب الفقه
القسم الثاني ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه فنقول أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث والذي باختياره إما أن يكون مأخوذاً من المالك كأخذ المعادن وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي والمأخوذ قهراً إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة الأول ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن وإحياء الموت والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين الثاني المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس وقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد والثالث ما يؤخذ قهراً باسحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على القدر المستحق الرابع ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد الخامس ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره السادس ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة فهذا مجامع مداخل الحلال وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالاً حلالاً وكل ما كان بخلافه كان حراماً إذا عرفت هذا فنقول المال إما أن يكون لغيره أو له فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ واعلم أن سبحانه كرر هذا النهي في مواضع من كتابه(5/100)
فقال ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقال يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) ثم قال فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثم قال وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( البقرة 279 ) ثم قال وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 275 ) جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله وفي آخره متعرضاً للنار
المسألة الثانية قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ ليس المراد منه الأكل خاصة لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو الأكل وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال أنه أكله فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل
المسألة الثالثة الْبَاطِلُ في اللغة الزائل الذاهب يقال بطل الشيء بطولاً فهو باطل وجمع الباطل بواطل وأباطيل جمع أبطولة ويقال بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو
أما قوله تعالى وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو وهو إرسالك إياها في البئر للإستقاء يقال أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى فَأَدْلَى دَلْوَهُ ( يوسف 19 ) ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل أدلاء ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستحق بالدلو الماء إذا عرفت هذا فنقول أنه داخل في حكم النهي والتقدير ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل وفي تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان أحدهما أن الرشوة رشاء الحاجة فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريباً بسبب الرشوة والثاني أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال ثم المفسرون ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس والحسن وقتادة المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة وثانيها أن المراد هو مال اليتيم في ي الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه وثالثها أن المراد من الحاكم شهادة الزور وهو قول الكلبي ورابعها قال الحسن المراد هو أن يحلف ليذهب حقه وخامسها هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة وهو أقرب إلى الظاهر ولا يبعد أيضاً حمل اللفظ على الكل لأنها بأسره أكل بالباطل
أما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فالمعنى وأنتم تعلمون أنكم مبطلون ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال اختصم رجلان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عالم بالخصومة وجاهل بها فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للعالم فقال من قضى عليه يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق فقال إن شئت أعاوده فعاوده فقضى للعالم فقال المقضى عليه مثل ما قال أولاً ثم عاوده ثالثاً ثم قال عليه الصلاة والسلام ( من اقتطع حق امرىء مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار ) فقال العالم المقضي له يا رسول الله إن الحق حقه فقال عليه الصلاة والسلام ( من اقتطع(5/101)
بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار )
الحكم التاسع
يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى نقل عن ابن عباس أنه قال ما كان قوم أقل سؤالاً من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا
وأقول ثمانية منها في سورة البقرة أولها وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) وثانيها هذه الآية ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة فالمجموع ثمانية في هذه السورة والتاسع قوله تعالى في سورة المائدة يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ( المائدة 4 ) والعاشر في سورة الأنفال يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) والحادي عشر في بني إسرائيل يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ ( الإسراء 85 ) والثاني عشر في الكهف وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) والثالث عشر في طه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) والرابع عشر في النازعات يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ ( النازعات 42 ) ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فالأول قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي ( البقرة 186 ) وهذا سؤال عن الذات والثاني قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد أحدهما قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ والثاني قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( البقرة 21 ) أحدهما في النصف الأول وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء وثانيتهما في النصف الثاني من القرآن وهي أيضاً السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم وثانيتها طه وثالثتها الأنبياء ورابعتها الحج ثم يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ( النساء 1 ) و يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ التي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال تَصِفُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده
المسألة الثانية روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار قالا يا رسول(5/102)
الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس فنزلت هذه الآية ويروى أيضاً عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة
واعلم أن قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ ليس فيه بيان إنهم عن أي شيء سألوا لكن الجواب كالدال على موضع السؤال لأن قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى
المسألة الثالثة الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس يقال له هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمراً بعد ذلك وقال أبو الهيثم يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالاً وكذلك ليلتين من آخر الشهر ثم يسمي ما بَين ذلك قمراً قال الزجاج فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة نحو مثال وأمثلة وحمار وأحمرة وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل نحو هلل وخلل فاقتصروا على جمع أدنى العدد
أما قوله تعالى قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ مسألتان
المسألة الأولى المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت قال الله تعالى فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ ( الأعراف 142 ) والهلال ميقات الشهر ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها ولا تصرف مواقيت لأنها غاية الجموع فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل لم صرفت قوارير قيل لأنها فاصلة وقعت في رأس آية فنون ليجري على طريقة الآيات كما تنون القوافي مثل قوله أقل اللوم عاذل والعتابن
المسألة الثانية اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل الزمان مقدراً من أربعة أوجه السنة والشهر واليوم والساعة أما السنة فهي عبارة عن الزمان الحاصل من حركة الشمس من نقطة معينة من الفلك بحركتها الحاصلة عن خلاف حركة الفلك إلى أن تعود إلى تلك النقطة بعينها إلا أن القوم اصطلحوا على أن تلك النقطة نقطة الإعتدال الربيعي وهو أول الحمل وأما الشهر فهو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به إلى أن يعود إلى تلك النقطة ولما كان أشهر أحوال القمر وضعه مع الشمس وأشهر أوضاعه من الشمس هو الهلال العربي مع أن القمر في هذا الوقت يشبه الموجود بعد العدم والمولود الخارج من الظلم لا جرم جعلوا هذا الوقت منتهى للشهر وأما اليوم بليلته فهو عبارة عن مفارقة نقطة من دائرة معدل النهار نقطة من دائرة الأفق أو نقطة من دائرة نصف النهار وعودها إليها فالزمان المقدر عبارة عن اليوم بليلتها ثم أن المنجمين اصطلحوا على تعيين دائرة نصف النهار مبتدأ لليوم بليلته أما أكثر الأمم فإنهم جعلوا مبادىء الأيام بلياليها من مفارقة الشمس أفق المشرق وعودها إليه من الغداة واحتج من نصر مذهبهم بأن الشمس عند طلوعها كالموجود بعد العدم فجعله أولا أولى فزمان النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض وزمان الليل عبارة عن كونها تحت الأرض وفي شريعة الإسلام يفتتحون النهار من أول وقت(5/103)
طلوع الفجر في وجوب الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام وعند المنجمين مدة الصوم في الشرع هي زمان النهار كله مع زيادة من زمان الليل معلومة المقدار محدودة المبدأ وأما الساعة فهي على قسمين مستوية جزء من أربعة وعشرين من يوم وليلة فهذا كلام مختصر في تعريف السنة والشهر واليوم والساعة
فنقول أما السنة فهي عبارة عن دورة الشمس فتحدث بسببها الفصول الأربعة وذلك لأن الشمس إذا حصلت في الحمل فإذا تركت من هذا الموضع إلى جانب الشمال أخذ الهواء في جانب الشمال شيئاً من السخونة لقربها من مسامتة الرؤوس ويتواتر الإسخان إلى أن تصل أول السرطان وتشتد الحرارة ويزداد الحر ما دامت في السرطان والأسد لقربها من سمت الرؤوس ويتواتر الإسخان ثم ينعكس إلى أن يصل الميزان وحينئذ يطيب الهواء ويعتدل ثم يأخذ الحر في النقصان والبرد في الزيادة ولا يزال يزداد البرد إلى أن تصل الشمس إلى أول الجدي ويشتد البرد حينئذ لبعدها عن سمت الرؤوس ويتواتر البرد ثم إن الشمس تأخذ في الصعود إلى ناحية الشمال وما دامت في الجدي والدلو فالبرد أشد ما يكون إلى أن تنتهي إلى الحمل فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل وعادت الشمس إلى مبدأ حركتها وانتهى زمان السنة نهايته وحصلت الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ومنافع الفصول الأربعة وتعاقباً ظاهرة مشهورة في الكتب
وأما الشهر فهو عبارة عن دورة القمر في فلكه الخاص وزعموا أن نوره مستفاد من الشمس وأبداً يكون أحد نصفيه مضيئاً بالتمام إلا أنه عند الاجتماع يكون النصف المضيء هو النصف الفوقاني فلا جرم نحن لا نرى من نوره شيئاً وعند الاستقبال يكون نصفه المضيء مواجهاً لنا فلا جرم نراه مستنيراً بالتمام وكلما كان القمر أقرب إلى الشمس كان المرئي من نصفه المضيء أقل وكلما كان أبعد كان المرئي من نصفه المضيء أكثر ثم أنه من وقت الإجتماع إلى وقت الإنفصال يكون كل ليلة أبعد من الشمس ويرى كل ليلة ضوءه أكثر من وقت الإستقبال إلى وقت الاجتماع ويكون كل ليلة أقرب إلى الشمس فلا جرم يرى كل ليلة ضوءه أقل ولا يزال يقل ويقل حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ( يس 39 ) فهذا ما قاله أصحاب الطبائع والنجوم
وأما الذي يقوله الأصوليون فهو أن القمر جسم والأجسام كلها متساوية في الجسمية والأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم وهذه مقدمة يقينية فإذن حصول الضوء في جرم الشمس والقمر أمر جائز أن يحصل وما كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه إلا بسبب الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فإن ذلك يكون قادراً على إيجاده وعلى إعدامه وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إسناد هذه الإختلافات الحاصلة في نور القمر إلى قربها وبعدها من الشمس بل عندنا أن حصول النور في جرم الشمس إنما كان بسبب إيجاد القادر المختار وكذا الذي في جرم القمر
بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الإختلافات فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان أحدهما أن يقال إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة ويدل عليه وجوه أحدها أن من فعل(5/104)
فعلاً لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثاً وإن لم يقدر فهو عاجز وثانيها أن كل من فعل فعلا لغرض فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته مستكمل بغيره وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا وثالثها أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثاً افتقر إحداثه إلى غرض آخر وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال فلا جرم قالوا كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
والجواب الثاني قول من قال لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) وقال في آية ثالثة فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ( الإسراء 12 ) وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم قال الله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) وثانيها الحج قال الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وثالثها عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) ورابعها النذور التي تتعلق بالأوفات ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) وغيرها فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الإختلاف في شكل القمر
فإن قيل لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة أو في سدسها أو نصفها وهكذا سائر الأجزاء ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوماً من أول السنة وأيضاً بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الإختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر وإن لم يحصل في نور القمر إختلاف وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به
والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهراً والأيام كثيرة ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور ثم تقسيم الشهور إلى الأيام ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط ولهذا قال سبحانه إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ(5/105)
شَهْراً ( التوبة 36 ) وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب ثم كل كتاب إلى الأبواب ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه
وأما السؤال الثاني فجوابه ما ذكرتم إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته كما قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) وقال تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) وأيضاً لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهداً على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر كما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إذا عرفت هذه الجملة فنقول أنه لما ظهر أن الإختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهان التي ذكرناها نبه تعالى بقوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ على جميع هذه المنافع لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتاً فكان هذا الاقتصار دليلاً على الفصاحة العظيمة
أما قوله تعالى وَالْحَجّ ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ أي لأوردكم واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا نعرف إلا بالأهلة قال تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة قال تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) وقال عليه السلام ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ) وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء والله أعلم
أما قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئاً كان يتطير به بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ(5/106)
أَمْرِهِ يُسْراً ( الطلاق 4 ) وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائباً يقال ما أفلح وما أنجح فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنهي عن التطير وقال ( لا عدوى ولا طيرة ) وقال من ( رده عن سفره تطير فقد أشرك ) أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوماً تطيروا بموسى ومن معه قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ( النمل 47 )
الوجه الثاني في سبب نزول هذه الآية روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلماً يصعد منه سطح داره ثم ينحدر وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب ولكن البر من اتقى
الوجه الثالث أن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقباً منه يدخل ويخرج إلا الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية وهؤلاء سموا حمساً لتشددهم في دينهم الحماسة الشدة وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط ثم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كام محرماً ورجل آخر كان محرماً فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حال كونه محرماً من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرماً فاتبعه فقال عليه السلام تنح عني قال ولم يا رسول الله قال دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه الأول وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية فإن القوم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحكمة في تغيير نور القمر فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه أحدها أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه وثانيها أنه تعالى إنما وصل قوله وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر وثالثها كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك
القول الثاني في تفسير الآية أن قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا مثل ضربه الله تعالى لهم وليس المراد ظاهره وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على(5/107)
المظنون فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ومتى عرفنا ذلك وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم فهذا الاستدلال باطل لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا فالمراد من قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة وإن كنتم لا تعلمونها فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه قال تعالى فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( آل عمران 187 ) وقال وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ( هود 92 ) فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ذكره الله تعالى ههنا وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه
القول الثالث في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى تقديره ولكن البر بر من اتقى فهو كقوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البقرة 177 ) وقد تقدم تقريره
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وقالون عن نافع البيوت بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت وعيون وجيوب مذاهب واختلافات يطول تفصيلها
أما قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا والفلاح هو الظفر بالبغية قالت المعتزلة وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم
الحكم العاشر
ما يتعلق بالقتال(5/108)
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمر بالإستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا ( البقرة 189 ) وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبان فالإستقامة علم والتقوى عمل وليس التكليف إلا في هذين ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس وهو قتل أعداء الله فقال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
المسألة الثانية في سبب النزول قولان الأول قال الربيع وابن زيد هذه الآية أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقاتل من قاتل ويكف عن قتال من تركه وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 )
والقول الثاني أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء فرضي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وصالحهم عليه ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى هذه الآيات وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
المسألة الثالثة وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وطلب رضوانه روى أبو موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد بقوله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ على وجوه أحدها وهو قول ابن عباس المراد منه قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج أو على وجه المقاتلة ابتداء وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية وثانيها قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال وثالثها قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم قال تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ يقتضي كونهم فاعلين للقتال فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً إلا على سبيل المجاز
المسألة الخامسة من الناس من قال هذه الآية منسوخة وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين ونهى عن قتال غير المقاتلين بدليل أنه قال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ثم بعده ولا تعتدوا هذا القدر ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين ثم قال تعالى بعد ذلك وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 ) فاقتضي هذا حصول الأول(5/109)
في قتال من لم يقاتل فدل على أن هذه الآية منسوخة ولقائل أن يقول نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا لكن هذا الحكم ما صار منسوخاً
أما قوله إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا فهذا غير مسلم وأما قوله تعالى وَلاَ تَعْتَدُواْ فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم منها أن يكون المعنى ولا تبدؤا في الحرم بقتال ومنها أن يكون المراد ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة
فإن قيل هب أنه لا نسخ في الآية ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا
قلنا لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها علهم حالا بعد حال حصل اليأس من إسلامهم فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق
المسألة السادسة المعتزلة احتجوا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قالوا لو كان الإعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام وجوابه قد تقدم والله أعلم
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَة ُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه قال فأما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود
ثم نقول قوله تعالى اقتلوهم الخطاب فيه واقع على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن والضمير في قوله اقتلوهم عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم وفي الشهر الحرام وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام
المسألة الثانية نقل عن مقاتل أنه قال إن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله تُفْلِحُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( البقرة 190 )(5/110)
منسوخة بقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ ( البقرة 193 ) وهذا الكلام ضعيف
أما قوله إن قوله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ منسوخ بهذه الآية فقد تقدم إبطاله وأما قوله إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ وأما قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ منسوخ بقوله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فهو خطأ أيضاً لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى
أما قوله تعالى وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما أنهم كلفوهم الخروج قهراً والثاني أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى صاروا مضطرين إلى الخروج
البحث الثاني أن صيغة حَيْثُ تحتمل وجهين أحدهما أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني أخرجوهم من منازلكم إذا عرفت هذا فنقول أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد ولهذا السبب أجلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل مشرك من الحرم ثم أجلاهم أيضاً من المدينة وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
أما قوله تعالى وَالْفِتْنَة ُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ففيه وجوه أحدها وهو منقول عن ابن عباس أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة وإنما جعل الكفر أعظم من القتل لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم والقتل ليس كذلك والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فالمؤمنون عابوه على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك وثانيها أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم صار إسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل والمعنى أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هرباً من إضلالهم في الدين وتخليصاً للنفس مما يخافون ويحذرون فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها وقال بعض الحكماء ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة
الوجه الثالث أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم فكأنه قيل اقتلوهم من حيث ثقفتموهم واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ ( التوبة 52 ) وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز وذلك من باب إطلاق(5/111)
اسم السبب على المسبب قال تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) ثم قال عقيبة ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( الذاريات 14 ) أي عذابكم وقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( البروج 10 ) أي عذبوهم وقال فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) أي عذابهم كعذابه
الوجه الرابع أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها
الوجه الخامس أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقاً والمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم
أما قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة وقد كان من قبل شرطاً في كل القتال وفي الأشهر الحرم
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فَإِن قَاتَلُوكُمْ كله بغير ألف والباقون جميع ذلك بالألف وهو في المصحف بغير ألف وإنما كتبت كذلك للإيجاز كما كتب الرحمن بغير ألف وكذلك صالح وما أشبه ذلك من حروف المد واللين قال القاضي رحمه الله القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه يروى أن الأعمش قال لحمزة أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره فقال حمزة إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا
المسألة الثالثة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجيء إلى الحرم وقالوا لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف
أما قوله تعالى فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزال وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم ونظيره قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن فإن انتهوا عن الشرك
حجة القول الأول أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله فَإِنِ انْتَهَوْاْ محمولاً على ترك المقاتلة
حجة القول الثاني أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر(5/112)
المسألة الثانية الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما التوبة والآخر التمسك بالإسلام وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة وقول من قال التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ لأن الشرك أشد من القتل فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى وأيضاً فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافراً كونه قاتلاً فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلاً مقبولاً والله أعلم
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال القوم هذه الآية ناسخة لقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحُرُمُ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ( البقرة 191 ) والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدماً على المخصص أو متأخراً عنه فإنه يصير مخصوصاً به والله أعلم
المسألة الثانية في المراد بالفتنة ههنا وجوه أحدهما أنها الشرك والفكر قالوا كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وثانيها قال أبو مسلم معنى الفتنة ههنا الجرم قال لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار فإن قيل كيف يقال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقاً
قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك لأن من قتل فقد زال كفره ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك
الجواب الثاني أن المراد قاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه
أما قوله تعالى وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره فصار التقدير كأنه تعالى قال وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب(5/113)
ويحصل ما يؤدي إلى الثواب ونظيره قوله تعالى تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( الفتح 16 ) وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود
أما قوله تعالى فَإِنِ انْتَهَوْاْ فالمراد فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فعند ذلك لا يجوز قتالهم وهو كقوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 )
أما قوله تعالى فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه وجهان الأول فإن انتهوا فلا عدوان أي فلا قتل إلاعلى الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
فإن قيل لم سمي ذلك القتل عدواناً مع أنه في نفسه حق وصواب
قلنا لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ( لقمان 13 ) والثاني إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكراً فيما بينهم ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وفيه وجوه أحدها روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العالم القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم وذلك قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 217 ) فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة فقال الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم فالشهر الحرام من جانبنا مقابل بالشهر الحرام من جانبكم والحاصل في(5/114)
الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف جعلوه سبباً في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم
أما قوله تعالى وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه
أما على الوجه الأول فهو أن المراد بالحرمات الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام فقوله وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع
وأما على الوجه الثاني فهو أن المراد إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضاً قال الزجاج وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الإبتداء بل على سبيل القصاص وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية وهو قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ( البقرة 191 ) وبما بعدها وهو قوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
أما على القول الثالث فقوله وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال
أما قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فالمراد منه الأمر بما يقابل الإعتداء من الجزاء والتقدير فمن اعتدى عليكم فقابلوه والسبب في تسميته اعتداء قد تقدم ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ وقد تقدم معنى التقوى ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم ولا في مكان إذا لو كان جسماً لكان في مكان معين فكان إما أن يكون مع أحد منهم ولم يكن مع الآخر أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه وبعض من أبعاضه تعالى الله عنه علواً كبيراً
وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال وربما كان ذو المال عاجزاً عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيراً عديم المال فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني يروي أنه لما نزل قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( البقرة 94 ) قال رجل من الحاضرين والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (5/115)
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله فالمراد به في طريق الدين لا السبيل هو الطريق وسبيل الله هو دينه فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقاً في حج أو عمرة أو كان جهاداً بالنفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرحم أو في الصدقات أو علي العيال أو في الزكوات والكفارات أو عمارة السبيل وغير ذلك إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد بل قال وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لوجهين الأول أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال الثاني أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مكة لقضاء العمرة وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضى إلى القتال إن منعهم المشركون فكانت عمرة وجهاداً واجتمع فيه المعنيان فلما كان الأمر كذلك لا جرم قال تعالى وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ولم يقل وأنفقوا في الجهاد والعمرة
أما قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة والزجاج التَّهْلُكَة ِ الهلاك يقال هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة قال الخارزنجي لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلا هذا قال أبو علي قد حكى سيبويه التنصرة والتسترة وقد جاء هذا المثال اسماً غير مصدر قال ولا نعلمه جاء صفة قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يقال أصله التهلكة كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة كما جاء الجوار في الجوار
وأقول إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها
المسألة الثانية اتفقوا على أن الباء في قوله بِأَيْدِيكُمْ تقتضي إما زيادة أو نقصاناً فقال قوم الباء زائدة والتقدير ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة وهو كقوله جذبت الثوب بالثوب وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) أو بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ( الشورى 30 ) فالتقدير ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة وقال آخرون بل ههنا حذف والتقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ اختلف المفسرون فيه فمنهم من قال إنه راجع إلى نفس النفقة ومنهم من قال إنه راجع إلى غيرها أما الأولون فذكروا فيه وجوه الأول أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم وكأنه قيل إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك الوجه الثاني أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره في قوله(5/116)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الشورى 67 ) وفي قوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) وأما الذين قالوا المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوهاً أحدها أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) وثانيها المراد من قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية هو الرجل يستقل بين الصفين ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه الأول روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا صحبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد والثاني روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابراً محتسباً قال عليه الصلاة والسلام لك الجنة فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه والثالث روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فيه قولا حسناً الرابع روي أن قوماً حاصروا حصناً فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال كذبوا أليس يقول الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ( البقرة 207 ) ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه الثالث في تأويل الآية أن يكون هذا متصلاً بقوله الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( البقرة 194 ) أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة الوجه الرابع في التأويل أن يكون المعنى أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلاناً هالكاً وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك الوجه الخامس ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه السادس يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ونظيره قوله تعالى(5/117)
وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( محمد 33 )
أما قوله تعالى وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختفلوا في أن المحسن مشتق من ماذا وفيه وجوه الأول أنه مشتق من فعل الحسن وأنه كثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن من حيث أن الإحسان حسن في نفسه وعلى هذا التقدير فالضرب والقتل إذا حسناً كان فاعلهما محسناً الثاني أنه مشتق من الإحسان ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً إلا إذا كان فعله حسناً وإحساناً معاً فالإشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين
المسألة الثانية قوله وَأَحْسِنُواْ فيه وجوه أحدها قال الأصم أحسنوا في فرائض الله وثانيها وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطاً فلا تسرفوا ولا تقتروا وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه
وأما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مراراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى الْحَجُّ في اللغة عبارة عن القصد وإنما يقال حج فلان الشيء إذا قصده مرة بعد أخرى وأدام الاختلاف إليه والحجة بكسر الحاء السنة وإنما قيل لها حجة لأن الناس يحجون في كل سنة وأما في الشرع فهو اسم لأفعال مخصوصة منها أركان ومنها أبعاض ومنها هيئات فالأركان ما لا يحصل التحلل حتى يأتي به والأبعاض هي الواجبات التي إذا ترك شيء يجبر بالدم والهيئات ما لا يجب الدم على تركها والأركان عندنا خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وفي حلق الرأس أو تقصيره قولان أصحهما أنه نسك لا يحصل التحلل إلا به وأما الأبعاض فهي الإحرام من الميقات والمقام بعرفة إلى المغرب في قول والبيتوتة بمزدلفة ليلة النحر في قول ورمي جمرة العقبة والبيتوتة بمنى ليالي التشريق في قول ورمي أيامها
وأما سائر أعمال الحج فهي سنة
وأما أركان العمرة فهي أربعة الإحرام والطواف والسعي وفي الحلق قولان ثم المعتمر بعدما فرغ من السعي فإن كان معه هدي ذبحه ثم حلق أو قصر ولا يتوقف التحلل على ذبح الهدي
المسألة الثانية قوله تعالى الْمُحْسِنِينَ وَأَتِمُّواْ أمر بالإتمام وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق والمعنى افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول الثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه إن هذا الأمر مشروط والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا ومن(5/118)
الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا وغير واجبة عن أبي حنيفة رحمه الله حجة أصحابنا من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملاً تاماً ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه وإذا ثبت الإحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك أما بيان الإحتمال فيدل عليه قوله تعالى وَإِذَا ابْتُلِى َ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) أي فعلهن على سبيل التمام والكمال وقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) أي فافعلوا الصيام تاماً إلى الليل وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً ويكون التقدير أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط فكان ذلك أولى والثاني أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه الثالث قرأ بعضهم وَأَقِيمُواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالإتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل الرابع أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب فكان الذي نصرناه أكبر فائدة فكان حمل كلام الله عليه أولى الخامس أن الباب باب العبادة فكان الإحتياط فيه أولى والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط فوجب حمل اللفظ عليه السادس هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام لكنا نقول اللفظ دل على وجوب الاتمام جزماً وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجباً جزماً والاتمام مسبوق بالشروع وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة السابع روي عن ابن عباس أنه قال والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله وَأَنْ أَقِيمُواْ وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) فهذا تمام تقرير هذه الحجة
فإن قيل قرأ علي وابن مسعود والشعبي وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب
قلنا هذا مدفوع من وجوه الأول أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة الثاني أن فيها ضعفاً في العربية لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية الثالث أن قوله وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ معناه أن العمرة عبادة الله ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين وهو غير جائز الرابع أنه لما كان قوله وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ معناه والعمرة عبادة الله وجب(5/119)
أن يكون العمرة مأموراً بها لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( البينه 5 ) والأمر للوجوب وحينئذ يحصل المقصود
الحجة الثانية في وجوب العمرة أن قوله تعالى يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ ( التوبة 3 ) يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل وما ذاك إلا العمرة بالإتفاق وإذا ثبت أن العمرة حج وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ ولقوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 )
الحجة الثالثة في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن فقال عليه الصلاة والسلام حج عن أبيك واعتمر فأمر بهما والأمر للوجوب ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال ( الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ) ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد فقال عليه الصلاة والسلام عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
الحجة الرابعة في وجوب العمر قال الشافعي رضي الله عنه اعتمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الحج ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه
الحجة الأولى قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي هل على غير هذا قال لا إلا أن تطوع فقال الأعرابي لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق وقال عليه الصلاة والسلام ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ) وقال عليه الصلاة والسلام ( صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم ) فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا فقال لا وإن تعتمر خير لك وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الحج جهاد والعمرة تطوع )
والجواب من وجوه أحدها أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ثم نزل بعدها قوله
الحجة الثالثة في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن فقال عليه الصلاة والسلام حج عن أبيك واعتمر فأمر بهما والأمر للوجوب ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال ( الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ) ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد فقال عليه الصلاة والسلام عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
الحجة الرابعة في وجوب العمر قال الشافعي رضي الله عنه اعتمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الحج ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه
الحجة الأولى قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي هل على غير هذا قال لا إلا أن تطوع فقال الأعرابي لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق وقال عليه الصلاة والسلام ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ) وقال عليه الصلاة والسلام ( صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم ) فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا فقال لا وإن تعتمر خير لك وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الحج جهاد والعمرة تطوع )
والجواب من وجوه أحدها أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ثم نزل بعدها قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذا هو الأقرب لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة وثالثها أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف(5/120)
المسألة الثالثة اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام الإفراد والقران والتمتع فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة والقران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي رضي الله عنه أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك رضي الله عنه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه القران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع وهو قول المزني وأبي إسحق والمروزي من أصحابنا وقال أبو يوسف ومحمد القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد حجة الشافعي رضي الله عنه في أن الإفراد أفضل من وجوه الأول التمسك بقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ والإستدلال به من ثلاثة أوجه الأول أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد فأما عند القران فالموجود شيء واحد وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف الثاني قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ يقتضي الافراد بدليل أنه تعالى قال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ والقارن يلزمه هديان عند الحصر وأيضاً أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة والقارن يلزمه فديتان عند الحصر الثالث هذه الآية تدل على وجوب الإتمام والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان الأول أن السفر مقصود في الحج بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت ويدل عليه أيضاً أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكباً يلزمه دم فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر لأن بسببه يصير السفران سفراً واحداً فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة ومشاهد مشرفة والحاج زائر الله والله تعالى مزوره ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد وتصير واحدة عند القران فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام فكان الافراد إن لم يكن واجباً عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل
الحجة الثانية في بيان أن الافراد أفضل أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة ثم بالعمرة بعد ذلك فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام ( أفضل الأعمال أحمزها ) أي أشقها
الحجة الثالثة أنه عليه السلام كان مفرداً فوجب أن يكون الإفراد أفضل أما قولنا إنه كان مفرداً فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفرد بالحج وروى جابر وابن عمر أنه أفرد وأما أنس فقد روى عنه أنه قال كنت واقفاً عند(5/121)
جران ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول ( لبيك بحج وعمرة معاً ) ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها بحال الرواة أما عائشة فلأنها كانت عالمة ومع علمها كانت أشد الناس التصاقاً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأشد الناس وقوفاً على أحواله وأما جابر فانه كان أقدم صحبة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أنس وإن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قبل العلم وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غيره لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث أن الافراد يقتضي تكثير العبادة والقران يقتضي تقليلها فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى وإذا ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مفرداً وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه ولأنه قال ( خذوا عني مناسككم ) أي تعلموا مني
الحجة الرابعة أن الافراد يقتضي تكثير العبادة والقران يقتضي تقليلها فكان الأول أولى لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى التمسك بقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحُجَّة ُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد أيجاب كل واحد منهما أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام فلو جملناه على الأول لا يفيد الثاني ولو حملناه على الثاني أفاد الأول فكان الثاني أكثر فائدة فوجب حمل اللفظ عليه لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة
الحجة الثانية أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد
الحجة الثالثة أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله وَسَارِعُواْ ( آل عمران 133 )
والجواب عن الأول أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا
والجواب عن الثاني والثالث أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضاً إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصاً فيه فأما أن يكون أفضل فلا وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الاتيان بالحجة المقرونة
المسألة الرابعة في تفسير الإتمام في قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وفيه وجوه أحدها روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها قال أبو مسلم المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع(5/122)
حتى يتم هذا الفرض ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها قال الأصم إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الاحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الاحرام ثمانية الأول في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير معينا عليه إن نسي ذكره وإن ذكر ساعده وإن جبن شجعه وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً والسنة في الوداع أن يقول أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث في الخروج من الدار فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( الكافرون 1 ) وفي الثانية الاخلاص وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص الرابع إذا حصل على باب الدار قال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس في الركوب فإذا ركب الراحلة قال بسم الله وبالله والله أكبر توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس في النزول والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً السابع إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار فليقرأ آية الكرسي وشهد الله والاخلاص والمعوذتين ويقول تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت الثامنة مهما علا شرفا من الأرض في الطريق فيستحب أن يكبر ثلاثاً التاسع أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشرة أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى فقوله الْمُحْسِنِينَ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعاً ملة إبراهيم حيث قال تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 )
الوجه الرابع في تفسير قوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ أن المراد أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد وقد بيناه بالدليل وهذا التأويل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد يروى مرفوعاً عن أبي هريرة وكان عمر يترك القران والتمتع ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج فإن الله تعالى يقول الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وروى نافع عن ابن عمر أنه قال فرقوا بين حجكم وعمرتكم
المسألة الخامسة قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم الْحَجُّ بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالكسر في آل عمران قال(5/123)
الكسائي وهما لغتان بمعنى واحد كرطل ورطل وقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم
وقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه يقال للذي لا يبوح بسره حصر لأنه حبس نفسه عن البوح والحصر احتباس الغائط والحصير الملك لأنه كالمحبوس بين الحجاب وفي شعر لبيد جن لدي باب الحصير قيام
والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيهاً باحتباس الشيء مع غيره
إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول وهو اختيار أبي عبيدة وابن الكسيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض قال ابن السكيت يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال ثعلب في فصيح الكلام أحصر بالمرض وحصر بالعدو
والقول الثاني أن لفظ الاحصار يفيد الحبس والمنع سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء
والقول الثالث أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو وهو قول الشافعي رضي الله عنه وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر فانهما قالا لا حصر إلا حصر العدو وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي رضي الله عنه وفائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع قال أبو حنيفة رضي الله عنه يثبت وقال الشافعي لا يثبت وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان أحدهما الذين قالوا الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصاً صريحاً في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم والثاني الذين قالوا الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلاً بسبب المرض أو بسبب العدو وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضاً لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار فوجب أن يكون الحكم ثابتاً عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض وأما على القول الثالث وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو ظاهر قوي وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل
الحجة الأولى أن الإحصار إفعال من الحصر والافعال تارة يجيء بمعنى التعدية نحو ذهب زيد وأذهبته أنا ويجيء بمعنى صار ذا كذا نحو أغد البعير إذا صار ذا غدة وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجيء بمعنى وجدته بصفة كذا نحو أحمدت الرجل أي وجدته محموداً والإحصار لا يمكن أن(5/124)
يكون للتعدية فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين ثم إن أهل اللغة أتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض فوجب أن يكون معنى الاحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو أو وجدوا ممنوعين بالعدو وذلك يؤكد مذهبنا
الحجة الثانية أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده إذا كان قادراً عن ذلك الفعل متمكناً منه ثم إنه منعه مانع عنه والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر أالبتة على الفعل فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضى أما إذا كان ممنوعاً بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل فثبت أن لفظة الاحصار حقيقة في العدو ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض
الحجة الثالثة أن معنى قوله أُحْصِرْتُمْ أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس والمنع لا بد له من مانع ويمتنع وصف المرض بكونه حابساً ومانعاً لأن الحبس والمنع فعل وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلاً لأن المرض عرض لا يبقى زمانين فكيف يكون فاعلا وحابسا ومانعا أما وصف العدو بأنه حابس ومانع فوصف حقيقي وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه
الحجة الرابعة أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض فلفظ الإحصار وجب أن يكون خالياً عن الاشعار بالمرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة
الحجة الخامسة أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فعطف عليه المريض فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلاً فيه لكان هذا عطفاً للشيء على نفسه
فإن قيل إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكماً خاصاً وهو حلق الرأس فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم
قلنا هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه أما إذا لم يكن المحصر مفسراً بالمريض لم يلزم عطف الشيء على نفسه فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال فكان ذلك أولى
الحجة السادسة قال تعالى في آخر الآية فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض فإنه يقال في المرض شفي وعفي ولا يقال أمن
فإن قيل لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف فإنه يقال أمن المريض من الهلاك وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها
قلنا لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها
قلنا بل يوجب لأن قوله فَإِذَا أَمِنتُمْ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا فلا بد(5/125)
وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو الاحصار فصار التقدير فإذا أمنتم من ذلك الاحصار ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو وجب أن يكون المراد من هذا الاحصار منع العدو فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط أما قول من قال إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل وفيه دليل آخر وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه فلو كان الإحصار اسماً لمنع المرض لكان سبب نزول الآية خارجاً عنها وذلك باطل بالإجماع فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو وإذا ثبت هذا فنقول لا يمكن قياس منع المرض عليه وبيانه من وجهين الأول أن كلمة إن شرط عند أهل اللغة وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهراً فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياساً كان ذلك نسخا للنص بالقياس وهو غير جائز
الوجه الثاني أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير
أما قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله في الآية إضمار والتقدير فحللتم فما استيسر وهو كقوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر فعدة وفيها إضمار آخر وذلك لأن قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار ثم فيه احتمالان أحدهما أن يقال محل ما رفع والتقدير فواجب عليكم ما استيسر والثاني قال الفراء لو نصبت على معنى اهدوا ما تيسر كان صواباً وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع
المسألة الثانية اسْتَيْسَرَ بمعنى تيسر ومثله استعظم أي تعظم واستكبر أي تكبر واستصعب أي تصعب
المسألة الثالثة الْهَدْى ِ جمع هدية كما تقول تمر وتمرة قال أحمد بن يحيى أهل الحجاز يخففون الْهَدْى ِ وتميم تثقله فيقولون هدية وهدي ومطية ومطي قال الشاعر حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات
ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقرباً إليه بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقرباً إليه ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة الهدي أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأخسه شاة فعليه ما تيسر من هذه الأجناس(5/126)
المسألة الرابعة المحصر إذا كان عالما بالهدي هل له بدل ينتقل إليه للشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين وما أثبت له بدلاً والثاني أن له بدلاً ينتقل إليه وهو قول أحمد فإذا قلنا بالقول الأول هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان أحدهما أنه يقيم على إحرامة حتى يجده وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية والثاني أن يتحلل في الحال للمشقة وهو الأصح فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي
المسألة الخامسة المحصر إذا أراد التحلل وذبح وجب أن ينوي التحلل عند الذبح ولا يتحلل البتة قبل الذبح
المسألة السادسة اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت وهذا باطل لأن قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائداً إليهما
أما قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله تعالى عنه يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم بل حيث حبس وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يجوز ذلك إلا في الحرم ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة إنه اسم للمكان
حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوه الأول إنه عليه الصلاة والسلام أحصر بالحديبية ونحر بها والحديبية ليست من الحرم قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أصحر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم قال الواقدي الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة أجاب القفال رحمه الله في ( تفسيره ) عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( الفتح 25 ) فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم
الحجة الثانية أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدى
بيان المقام الأول أن قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل أو في الحرم وقوله بعد ذلك فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ معناه فما استيسر من الهدي نحوه واجب أو معناه(5/127)
فانحروا فانحروا ما استيسر من الهدي وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصراً في الحل أو في الحرم وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر
الحجة الثالثة أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان كالمسجد والمجلس فقوله حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل وهو عندكم بالغ محله في الحال
جوابه المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه الثاني هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الإحتمال بقوله ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) وفي قوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء
جوابه قال الشافعي رضي الله عنه كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين أحدهما من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين والثاني دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة الثالث قالوا الهدي سمي هدياً لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم
جوابه هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة الرابع أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم فكذا هذا
جوابه أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة(5/128)
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة قال كعب مر بي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زمن الحديبية وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي فقال عليه الصلاة والسلام تؤذيك هوام رأسك قلت نعم يا رسول الله قال أحلق رأسك فأنزل الله تعالى هذه الآية والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية والله أعلم
المسألة الثانية ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف والتقدير فعليه فدية وأيضاً ففيه إضمار آخر والتقدير فحلق فعليه فدية
المسألة الثالثة قال بعضهم هذه الآية مختصة بالمحصر وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق فبين الله تعالى أن له ذلك وبين ما يجب عليه من الفدية
إذا عرفت هذا فنقول المرض قد يحوج إلى اللباس فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية وقد يحتاج أيضاً إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك وأما من يكون به أذى من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج
المسألة الرابعة اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدماً عليه وأيضاً فقد بينا أن تقدير الآية فحلق فعليه فدية ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد فإذن يجب تأخير الفدية(5/129)
أما قوله تعالى مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ أَوْ نُسُكٍ فالمراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أصل النسك العبادة قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة ثم قيل للمتعبد ناسك لأنه خلق نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث هذا أصل معنى النسك ثم قيل للذبيحة نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله
المسألة الثانية اتفقوا في النسك على أن أقله شاة لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة الجمل والبقرة والشاة ولما كان أقلها الشاة لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه فيه قولان أحدهما أنه حصل عن كعب بن عجرة وهو ما روى أبو داود في سننه أنه عليه الصلاة والسلام لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه قال له احلق ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين
والقول الثاني ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا الصيام للمتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في العدة وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي والقول الأول عليه أكثر الفقهاء
المسألة الثالثة الآية دلت على حكم من أقدم على شيء من محظورات الحج بعذر أم من حلق رأسه عامداً بغير عذر فعند الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة الواجب عليه الدم وقال مالك رضي الله عنه حكمه حكم من فعل ذلك بعذر والآية حجة عليه لأن قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط وقوله تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ فاعلم أن تقديره فإذا أمنتم من الإحصار وقوله فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ فيه مسائل
المسألة الأولى معنى التمتع التلذذ يقال تمتع بالشيء أي تلذذ به والمتاع كل شيء يتمتع به وأصله من قولهم حبل ماتع أي طويل وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم بمكة حلالاً ينشىء منها الحج فيحج من عامه ذلك وإنما سمي متمتعاً لأنه يكون مستمتعاً بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه وههنا نوع آخر من التمتع مكروه وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ روي عن أبي ذر أنه قال ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصاً بهم(5/130)
المسألة الثانية قوله تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج
أما قوله تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أصحابنا لوجوب دم التمتع خمس شرائط أحدها أن يقدم العمرة على الحج والثاني أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فإن أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بشيء من الطواف وإن كان شرطاً واحداً ثم أكمل باقيه في أشهر الحج وحج في هذه السنة لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج وإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وأتى بأعمالها في أشهر الحج فيه قولان قال في ( الأم ) وهو الأصح لا يلزمه دم التمتع لأنه أتى بركن من أركان العمرة قبل أشهر الحج كما لو طاق قبله وقال في ( القديم والإملاء ) يلزمه ذلك ويجعل استدامة الإحرام في أشهر الحج كابتدائه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إذا أتى ببعض الطواف قبل أشهر الحج فهو متمتع إذا لم يأت بأكثره الشرط الثالث أن يحج في هذه السنة فإن حج في سنة أخرى لا يلزمه الدم لأنه لم يوجد مزاحمة الحج والعمرة في عام واحد الشرط الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وحاضر المسجد الحرام من كان أهله على مسافة أقل من مسافة القصر فإن كان على مسافة القصر فليس من الحاضرين وهذه المسافة تعتبر من مكة أو من الحرم وفيه وجهان الشرط الخامس أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع لأن لزوم الدم لترك الإحرام من الميقات ولم يوجد فهذه هي الشروط المعتبرة في لزوم دم التمتع
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه دم التمتع دم جبران الإساءة فلا يجوز له أن يأكل منه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إنه دم نسك ويأكل منه حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى أن التمتع حصل فيه خلل فوجب أن يكون الدم دم جبران بيان حصول الخلل فيه من وجوه ثلاثة الأول روي أن عثمان كان ينهي عن المتعة فقال له علي رضي الله عنهما عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة والغربة وذلك يدل على حصول نقص فيها الثاني أنه تعالى سماه تمتعاً والتمتع عبارة عن التلذذ والإرتفاع ومبنى العبادة على المشقة فيدل على أنه حصل في كونه عبادة نوع خلل الثالث وهو بيان الخلل على سبيل التفصيل أن في التمتع صار السفر للعمرة وكان من حقه أن يكون للحج فإن الحج الأكبر هو الحج وأيضاً حصل الترفه وقت الإحلال بينهما وذلك خلل وأيضاً كان من حقه جعل الميقات للحج فإنه أعظم فلما جعل الميقات للعمرة كان ذلك نوع خلل وإذا ثبت كون الخلل في هذا الحج وجب جعل الدم دم جبران لا دم نسك
الحجة الثانية أن الدم ليس بنسك أصلي من مناسك الحج أو العمرة كما لو أفرد بهما وكما في حق المكي والجمع بين العبادتين لا يوجب الدم أيضاً بدليل أن من جمع بين الصلاة والصوم والإعتكاف لا يلزمه الدم فثبت بهذا أن هذا الدم ليس دم نسك فلا بد وأن يكون دم جبران
الحجة الثالثة أن الله تعالى أوجب الهدي على التمتع بلا توقيت وكونه غير مؤقت دليل على أنه دم(5/131)
جبران لأن المناسك كلها مؤقتة
الحجة الرابعة أن للصوم فيه مدخلاً ودم النسك لا يبدل بالصوم وإذا عرفت صحة ما ذكرنا فنقول أن الله تعالى ألزم المكلف إتمام الحج في قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وقد دللنا على أن حج التمتع غير تام فلهذا قال تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ وذلك لأن تمتعكم يوقع نقصاً في حجتكم فأجبروه بالهدي لتكمل به حجتكم فهذا معنى حسن مفهوم من سياق الآية وهو لا يتقرر إلا على مذهب الشافعي رضي الله عنه
المسألة الثالثة الدم الواجب بالتمتع دم شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ولو تشارك ستة في بقرة أو بدنة جاز ووقت وجوبه بعدما أحرم بالحج لأن الفاء في قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ يدل على أنه وجب عقيب التمتع ويستحب أن يذبح يوم النحر فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز وأصل هذا أن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات وعنده دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر
أما قوله تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فالمعنى أن المتمتع إن وجد الهدي فلا كلام وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام فلهذا الهدي أفضل أم الصيام الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي وهو كقوله تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه أو كان ماله غائباً أو يباع بثمن غال فهنا أيضاً يعدل إلى الصوم
المسألة الثانية قوله فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ أي فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج ويتفرع عليه مسألة فقهية وهي أن المتمتع إذا لم يجد الهدي لا يصح صومه بعد إحرام العمرة قبل إحرام الحج وقال أبو حنيفة رحمه الله يصح حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه الأول أنه صام قبل وقته فلا يجوز كمن صام رمضان قبله وكما إذا صام السبعة أيام قبل الرجوع وإنما قلنا إنه صام قبل وقته لأن الله تعالى قال فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وأراد به إحرام الحج لأن سائر أفعال الحج لا تصلح طرفاً للصوم والإحرام يصلح فوجب حمله عليه الثاني أن ما قبل الإحرام بالحج ليس بوقت للهدي الذي هو أفضل فكذا لا يكون وقتاً للصوم الذي هو بدله اعتبار بسائر الأصول والإبدال وتحقيقه أن البدل حال عدم الأصل يقوم مقامه فيصير في الحكم كأنه الأصل فلا يجوز أن يحصل في وقت لو وجد الأصل لم يجز إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أنه يجوز بعد الشروع في الحج إلى يوم النحر والأصح أنه لا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام ( ولا تصوموا في هذه الأيام ) والمستحب أن يصوم في أيام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطراً
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله إِذَا رَجَعْتُمْ فقال الشافعي رضي الله عنه في ( الجديد ) هو الرجوع إلى الأهل والوطن وقال أبو حنيفة رضي الله عنه المراد من الرجوع الفراغ من(5/132)
أعمال الحج والأخذ في الرجوع ويتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج وقبل الوصية إلى بيته لا يجزيه عند الشافعي رضي الله عنه ويجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله حجة الشافعي وجوه الأول قوله إِذَا رَجَعْتُمْ معناه إلى الوطن فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطاً وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شيء الثاني ما روي عن ابن عباس قال لما قدمنا مكة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ) فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فلما فرغنا قال ( عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى إمصاركم ) الثالث أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان فصوم التمتع أخف شأناً منه
المسألة الرابعة قرأ ابن أبي عبلة سَبْعَة ُ بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام كأنه قيل فصيام ثلاثة أيام كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ( البلد 14 )
أما قوله تعالى تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني أن قوله كَامِلَة ٌ يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول أن الواو في قوله وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( النساء 3 ) وكما في قولهم جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا فالله تعالى ذكر قوله عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ إزالة لهذا الوهم النوع الثاني أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله كَامِلَة ٌ كأنه لو قال تلك كاملة جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة أو السبعة المفردة عن الثلاثة فلا بد في هذا من ذكر العشرة ثم اعلم أن قوله كَامِلَة ٌ يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً مثل حج من لم يأت بهذا التمتع
النوع الثالث أن الله تعالى إذا قال أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف فلو قال ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد
النوع الرابع أن مراتب الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئين وألوف وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف فصار(5/133)
تقدير الكلام إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب
النوع الخامس أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب كقوله وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) وقال وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة
النوع السادس في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب وهذا كما روي أنه قال في الشهر هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين وبالثانية على تسعة وعشرين
النوع السابع أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه
النوع الثامن أن قوله فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة
النوع التاسع أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به ومبالغة الشرع في إيجابه
النوع العاشر أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى فلما قال بعده تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال تعالى يَأْذَنَ لِى والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى فالعقل دل أيضاً على ذلك أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على(5/134)
وجه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق على النفس جداً فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن ويوجب التباعد عن أكثر اللذات فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعلى صيام هذه الأيام العشرة وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو فقال تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال فكأنه قال عشرة وأية عشرة عشرة كاملة فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين
أما قوله تعالى ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم وأقرب الأمور المذكورة ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله وأبعد منهم ذكر تمتعهم فلهذا السبب اختلفوا فقال الشافعي رضي الله عنه إنه راجع إلى الأقرب وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع أي إنما يكون إذا لم يكن المتمتع من حاضري المسجد الحرام فأما إذا كان من أهل الحرم فإنه لا يلزمه الهدي ولا بدله وذلك لأن عند الشافعي رضي الله عنه هذا الهدي إنما لزم الآفاقي لأنه كان من الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبوراً بهذا الدم والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه فلا جرم لا يجب عليه الهدي ولا بدل وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن قوله ذالِكَ إشارة إلى الأبعد وهو ذكر التمتع وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ومن تمتع أو قرن كان عليه دم هو دم جناية لا يأكل منه حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ عام يدخل فيه الحرمي
الحجة الثانية قوله ذالِكَ كناية فوجب عودها إلى المذكور الأقرب وهو وجوب الهدي وإذا خص إيجاد الهدي بالمتمتع الذي يكون آفاقياً لزم القطع بأن غير الأفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً
الحجة الثالثة أن الله تعالى شرع القران والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج والنسخ يثبت في حق الناس كافة
الحجة الرابعة أن من كان من أهل الإفراد كان من أهل المتعة قياساً على المدني إلا أن المتمتع المكي لا دم عليه لما ذكرناه حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن قوله ذالِكَ كناية فوجب عودها إلى كل ما تقدم لأنه ليس البعض أولى من البعض
وجوابه لم لا يجوز أن يقال عوده إلى الأقرب أولى لأن القرب سبب للرجحان أليس أن مذهبه أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختص بالجملة الأخيرة وإنما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا ههنا
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بحاضري المسجد الحرام فقال مالك هم أهل مكة وأهل ذي(5/135)
طوى قال فلو أن أهل منى أحرموا بالعمرة من حيث يجوز لهم ثم أقاموا بمكة حتى حجوا كانوا متمتعين وسئل مالك رحمه الله عن أهل الحرم أيجب عليهم ما يجب على المتمتع قال نعم وليس هم مثل أهل مكة فقيل له فأهل منى فقال لا أرى ذلك إلا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا المسجد الحرام هم أهل الحرم وقال الشافعي رضي الله عنه هم الذي يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه حاضروا المسجد الحرام أهل المواقيت وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات العرق فكل من كان من أهل موضع من هذه المواضع أو من أهل ما وراءها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام هذا هو تفصيل مذاهب الناس ولفظ الآية موافق لمذهب مالك رحمه الله لأن أهل مكة هم الذي يشاهدون المسجد الحرام ويحضرونه فلفظ الآية لا يدل إلا عليهم إلا أن الشافعي قال كثيراً ما ذكر الله المسجد الحرام والمراد منه الحرم قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أسري به من الحرم لا من المسجد الحرام وقال ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) والمراد الحرم لأن الدماء لا تراق في البيت والمسجد إذا ثبت هذا فنقول المراد من المسجد الحرام ههنا ما ذكرناه ويدل عليه وجهان الأول الحاضر ضد المسافر وكل من لم يكن مسافراً كان حاضراً ولما كان حكم السفر إنما ثبت في مسافة القصر فكل من كان دون مسافة القصر لم يكن مسافراً وكان حاضراً الثاني أن العرب تسمي أهل القرى حاضرة وحاضرين وأهل البر بادية وبادين ومشهور كلام الناس أهل البدو والحضر يراد بهما أهل الوبر والمدر
المسألة الثالثة قال الفراء اللام في قوله لِمَنْ بمعنى على أي ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله عليه الصلاة والسلام ( واشترطي لهم الولاء ) أي عليهم
المسألة الرابعة الله تعالى ذكر حضور الأهل والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون
المسألة الخامسة المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ قال ابن عباس يريد فيما فرض عليكم وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تهاون بحدوده قال أبو مسلم العقاب والمعاقبة سيان وهو مجازاة المسيء على إساءته وهو مشتق من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعل المسيء كقول القائل لتذوقن عاقبة فعلك(5/136)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ
فيه مسائل
المسألة الأولى من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد ههنا من تأويل وفيه وجوه أحدها التقدير أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وهو كقولهم البرد شهران أي وقت البرد شهران والثاني التقدير الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر الثالث يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم ليل قائم ونهار صائم
المسألة الثانية أجمع المفسرون على أن شوالاً وذا القعدة من أشهر الحج واختلفوا في ذي الحجة فقال عروة بن الزبير إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك رحمه الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله الشعر الأول من ذي الحجة من أشهر الحج وهو قول ابن عباس وابن عمر والنخعي والشعبي ومجاهد والحسن وقال الشافعي رضي الله عنه التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر من أشهر الحج حجة مالك رضي الله عنه من وجوه الأول أن الله تعالى ذكر الأشهر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة
الحجة الثانية أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد العشر ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) والثاني أنه نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن الثاني أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء وأما الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج فقد تمسكوا فيه بوجهين الأول أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر والثاني أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها فهذا تقرير هذه المذاهب
بقي ههنا إشكالان الأول أنه تعالى قال من قبل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) فجعل كل الأهلة مواقيت للحج الثاني أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول أن تلك الآية عامة وهذه الآية وهي قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة
المسألة الثالثة قوله تعالى مَّعْلُومَاتٍ فيه وجوه أحدها أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة(5/137)
في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقرراً له الثاني أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها لا كما يفعله الذين نزل فيهم إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ ( التوبة 37 )
المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم لا يجوز في جميع السنة حجة الشافعي رضي الله عنه قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير فلا يتناول الكل وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة شوال وذو القعدة وبعض من ذي الحجة وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة الثاني أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى الثالث أن الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( الحج 189 ) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازاً كما سمي الوقت حجاً في قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت
والحجة الثانية أن الإحرام التزام للحج فجاز تقديمه على الوقت كالنذر
والجواب عن الأول أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها
والجواب عن الثاني أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالاداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت
وقوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فيه مسألتان
المسألة الأولى معنى فَرَضَ في اللغة ألزم وأوجب يقال فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع قال ابن الأعرابي الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره وفرضة القوس الحز الذي يقع فيه الوتر وفرضة الوتد الحز الذي فيه ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوم الحز للقدح ففرض ههنا بمعنى أوجب وقد جاء في القرآن فرض بمعنى أبان وهو قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( النور 1 ) بالتخفيف وقوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ ( التحريم 2 ) وهذا أيضاً راجع إلى معنى القطع لأن من قطع شيئاً فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئاً أبانه عن غيره ففرض بمعنى أوجب وفرض بمعنى أبان كلاهما يرجع إلى أصل واحد(5/138)
المسألة الثانية اعلم أن في هذه الآية حذفا والتقدير فمن ألزم نفسه فيهن الحج والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرماً إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجاً إلا بفعل يفعله فيخرج عن أن يكون حلالاً ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرماً لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضاً سميت البقعة حرماً لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجاً ومحرماً ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو قال الشافي رضي الله عنه أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى قال القفال رحمه الله في ( تفسيره ) يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم وروى نافع عن ابن عمر أنه قال إذا قلد أو أشعر فقد أحرم وعن ابن عباس إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار ألبتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج
الحجة الثانية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام ( وإنما لكل امرىء ما نوى )
الحجة الثالثة القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول ما روى أبو منصور الماتريدي في ( تفسيره ) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يحرم إلا من أهل أو لبى الثاني أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيه إلا بنفس النية كالصلاة
وأما قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ بالرفع والتنوين وَلاَ جِدَالَ بالنصب والباقون قرؤا الكل بالنصب
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمتين الأولى أن كل شيء له اسم فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى فقولك رجل يفيد الماهية المخصوصة وحركات هذه اللفظة أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل والصفة بإزاء الصفة فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال رحل جدار حجر وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خالياً عن الحركات فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون(5/139)
المقدمة الثانية إذا قلت لا رجل بالنصب فقد نفيت الماهية وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً أما إذا قلت لا رجل بالرفع والتنوين فقد نفيت رجلاً منكراً مبهماً وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل فثبت أن قولك لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك لا رجل بالرفع والتنوين
إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول أما الذين قرؤا ثلاثة بالنصب فلا إشكال وأما الذين قرؤا الأولين بالرفع مع التنوين والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الإهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله والمجادل لا ينقاد للحق وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء فلما كان الجدال مشتملاً على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي أما المفسرون فإنهم قالوا من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي كأنه قيل فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي
المسألة الثانية أما الرفث فقد فسرناه في قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) والمراد الجماع وقال الحسن المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها والرفث باليد اللمس والغمز والرفث بالفرج الجماع وهؤلاء قالوا التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثاً واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
فقال له أبو العالية أترفث وأنت محرم قال إنما الرفث ما قيل عند النساء وقال آخرون الرفث هو قول الخنا والفحش واحتج هؤلاء بالخبر واللغة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم ) ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش وأما اللغة فهو أنه روى عن أبي عبيد أنه قال الرفث الإفحاش في المنطق يقال أرفث الرجل إرفاثاً وقال أبو عبيدة الرفث اللغو من الكلام
أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي قالوا لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل وهذا متأكد بقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وبقوله وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( الحجرات 7 )
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها
الأول المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( سباب المسلم(5/140)
فسوق وقتاله كفر ) والثاني المراد منه الإيذاء والإفحاش قال تعالى لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( البقرة 282 ) والثالث قال ابن زيد هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ولأجل الأصنام وقال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) وقوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( الأنعام 145 ) والرابع قال ابن عمر إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه والخامس أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا والسادس قال محمد بن الطبري الفسوق هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة وأصله من الجدل الذي من القتل يقال زمام مجدول وجديل أي مفتول والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولاً وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال
فالأول قال الحسن هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل
والثاني قال محمد بن كعب القرظي إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم حجنا أتم وقال آخرون بل حجنا أتم فنهاهم الله تعالى عن ذلك
والثالث قال مالك في ( الموطأ ) الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب قال الله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ الحج 67 68 ) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم
والرابع قال القاسم بن محمد الجدال في الحج أن يقول بعضهم الحج اليوم وآخرون يقولون بل غداً وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة وأخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول بل غدا فالله تعالى نهاهم عن ذلك فكأنه قيل لهم قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة
الخامس قال القفال رحمه الله تعالى يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا فقال عليه الصلاة والسلام ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) وتركوا الجدال حينئذ
السادس قال عبد الرحمن بن زيد جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام
السابع أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب(5/141)
وذكر القاضي كلاما حسناً في هذا المواضع فقال قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ آل عمران 9 ) أي لا ترتابوا فيه وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفراً فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسداً ويجب على صاحبه المضي فيه وإذا كان الحج باقياً معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج قلنا المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه وبالجدال جميع أنواعه لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة والتمسك بالآداب الحسنة والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات
المسألة الثالثة الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص وهو قوله فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة قوة شهوانية بهيمية وقوة غضبية سبعية وقوة وهمية شيطانية وقوة عقلية ملكية والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة أعني الشهوانية والغضبية والوهمية فقوله فَلاَ رَفَثَ إشارة إلى قهر الشهوانية وقوله وَلاَ فُسُوقَ إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب وقوله وَلاَ جِدَالَ إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم والمخاصمة معهم في كل شيء فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله والانخراط في سلك الخواص من عباده فلا يكون فيه هذه الأمور وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها ومن الله التوفيق في كل الأمور
المسألة الرابعة من الناس من عاب الإستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها أنه تعالى قال وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلاً إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج(5/142)
ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها قوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) عابهم بكونهم من أهل الجدل وذلك يدل على أن الجدل مذموم وثالثها قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( الأنفال 46 ) نهى عن المنازعة
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا الجدال في الدين طاعة عظيمة واحتجوا عليه بقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين
إذا ثبت هذا فنقول لا بد من التوفيق بين هذه النصوص فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله والذب عن دين الله تعالى
أما قوله تعالى وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ لِلَّهِ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة فقال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ ( البقرة 196 ) وقال فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ونهى عما هو شر ومعصية فقال فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ثم عقب الكل بقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال وما تفعلوا من شيء يعلمه الله حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العقبى وثانيها أن من المفسرين من قال في تفسير قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) معناه لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية كأنه قيل للعبد ما تفعله من خير علمته وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه كان هذا وعداً له بالثواب العظيم ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعداً بالعقاب الشديد ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها أن جبريل عليه السلام لما قال ما الإحسان فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذاً به وأقل نفرة عنه وخامسها أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
أما قوله تعالى وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ففيه قولان أحدهما أن المراد وتزودوا من التقوى والدليل عليه قوله بعد ذلك فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران(5/143)
سفر في الدنيا وسفر من الدنيا فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية فكأنه تعالى قال لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيث بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
والقول الثاني أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي وهذا بعيد لأن قوله فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى راجع إلى قوله وَتَزَوَّدُواْ فكان تقديره وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى
أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن قوله وَاتَّقُونِ فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله وهو كقول الشاعر أنا أبو النجم وشعري شعري
المسألة الثانية أثبت أبو عمرو الياء في قوله وَاتَّقُونِ على الأصل وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه ثم اختلفوا بعد ذلك(5/144)
فقال بعضهم إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة واستعد به للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين وقال آخرون أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 37 ) فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل فقوله وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ معناه يا أولي العقول وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور فإنه يقال لمن له غيرة وحمية فلان له نفس ولمن ليس له حمية فلان لا نفس له فكذا ههنا فإن قيل إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ قلنا معناه إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح ولهذا قال الشاعر ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
ولهذا قال تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) يعني الأنعام معذورة بسبب العجز أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش فلا جرم كانوا أضل
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلاً والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه
أحدها أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سبباً لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سبباً لحرمة التجارة مه قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج فلهذا السبب بين الله تعالى ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة فإذا عرفت(5/145)
هذا فنقول المفسرون ذكروا في تفسير قوله أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وجهين الأول أن المراد هو التجارة ونظيره قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ ( المزمل 20 ) وقوله جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ فِى الْعِقَابِ الْحَجُّ والثاني الروايات المذكورة في سبب النزول
فالرواية الأولى قال ابن عباس كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية وكانوا يسمون التاجر في الحج الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج المكتسب الملتقط وهو مشتق من الدجاجة وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع فأزال الله تعالى هذا الوهم وبين أنه لا جناح في التجارة ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج وما بعدها أيضاً في الحج وهو قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج فلهذا السبب استغنى عن ذكره
والرواية الثانية ما روي عن ابن عمر أن رجلاً قال له إنا قوم نكري وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا فقال سأل رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فدعاه وقال أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت رداً على من يقول لا حج للتجار والأجراء والجمالين
والرواية الثالثة أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية
والرواية الرابعة قال مجاهد إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى فنزلت هذه الآية
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج قال والتقدير فاتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ونظيره قوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 )
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها الفاء في قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجاً لا يقال بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية لأنا نقول هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً(5/146)
القول الثالث أن المراد بقوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجاً أعمالاً أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب ولا يقال في مثله لا جناح عليكم فيه وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات
والجواب لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ ( النساء 101 ) والقصر بالإتفاق من المندوبات وأيضاً فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللاً في الحج ونقصاً فيه فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله لا يَتْلُو عَلَيْكُمْ ( الممتحنة )
المسألة الثالثة اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصاناً في الطاعة لم تكن مباحة أما إن لم توقع نقصاناً ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البنيه 5 ) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص
قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فيه مسائل
المسألة الأولى الإفاضة الإندفاع في السير بكثرة ومنه يقال أفاض البعير بجرته إذا وقع بها فألقاها منبثة وكذلك أفاض الأقداح في الميسر معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة وإفاضة الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الإندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه وعليه قوله تعالى إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ( يونس 61 ) ومنه يقال للناس فوض وأيضاً جمعهم فوضى ويقال أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء حتى يتفرق فقوله تعالى أَفَضْتُمْ أي دفعتم بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه
المسألة الثانية عَرَفَاتٍ جمع عرفة سميت بها بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق وبرمة أعشار وأرض سباسب والتقدير كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات فإن قيل هلا منعت من الصرف وفيها السببان التعريف والتأنيث قلنا هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة وعلى هذا التقدير لم يكن علماً ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف
المسألة الثالثة اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوهاً أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما من روي يروي تروية إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول ففيه ثلاثة أقوال(5/147)
أحدها أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت فلما بناه تفكر فقال رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل قال إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك قال يا رب زدني قال أغفر لأولادك إذا طافوا به قال زدني قال أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك قال حسبي يا رب حسبي وثانيها أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكراً هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات
أما القول الثاني وهو اشتقاقه من تروية الماء ففيه ثلاثة أقوال أحدها أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ويتسعون في الماء ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( الشفع 3 ) عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة والوتر يوم النحر وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر ولمن يصوم يوم التروية سنة ولمن يصوم يوم عرفة سنتان ) وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام )
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصة به وخمسة مشتركة بينه وبين غيره أما الخمسة الأولى فأحدها عرفة وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال أحدها أنه مشتق من المعرفة وفيه ثمانية أقوالالأول قول ابن عباس إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى اليوم عرفة والموضع عرفات وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب وحواء بجدة وإبليس بنيسان والحية بأصفهان فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا وثانيها أن آدم علمه جبريل مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له أعرفت قال نعم فسمى عرفات وثالثها قول علي وابن عباس وعطاء والسدي سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة ورابعها أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك وأوصله إلى عرفات وقال له أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف قال نعم وخامسها أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ثم التقيا يوم عرفة بعرفات وسادسها ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام وسابعها أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا وثامنها أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة
القول الثاني في اشتقاق عرفة أنه من الإعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والإستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما(5/148)
والقول الثالث أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( محمد 6 ) أي طيبها لهم ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة قال عليه الصلاة والسلام ( خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) الثاني يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث يوم إكمال الدين الرابع يوم إتمام النعمة الخامس يوم الرضوان وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات في قوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ( المائدة 3 ) الآية قال عمر وابن عباس نزلت هذه الآية عشية عرفة وكان يوم الجمعة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام وذلك في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم بنيان الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام ( لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم ) فقال يهودي لعمر لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر أما نحن فجعلناه عيدين كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى إياس المشركين فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُشْرِكُونَ ( المائدة 6 ) ولما جاء البشير وقدم على يعقوب قال على أي دين تركت يوسف قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين وقيل هذا اليوم يوم صلة الواصلين الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) ويوم قطيعة القاطعين أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( الشورى 25 ) وهو أيضاً يوم وفد الوافدين وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ( الحج 27 ) وفي الخبر ( الحاج وفد الله والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره )
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها يوم الحج الأكبر قال الله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ ( التوبة 3 ) وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه فمنهم من قال إنه عرفة وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك وقال ابن سيرين إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ومنهم من قال إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء في الليل وروى القولان جميعاً عن علي وابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها الشفع وثالثها الوتر ورابعها الشاهد وخامسها المشهود في قوله وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( البروج 3 ) وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية
واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل منها أنه تعالى خص صومه بكثرة(5/149)
الثواب قال عليه الصلاة والسلام ( صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين ) وعن أنس كان يقال في أيام العشر كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس
المسألة الرابعة اعلم أنه لا بد وأن نشير إشارة حقيقية إلى ترتيب أعمال الحج حتى يسهل الوقوف على معنى الآية فمن دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج وكذلك من أراد الحج من أهل مكة والسنة للإمام أن يخطب بمكة يوم السابع من ذي الحجة بعدما يصلي الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فبها بالذهاب غداً بعدما يصلون الصبح إلى منى ويعلمهم تلك الأعمال ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بها ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ثم إذا طلعت الشمس على ثبير يتوجهون إلى عرفات فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل يضرب فيه الإمام بنمرة وهي قريبة من عرفة فينزلون هناك حتى تزول الشمس فيخطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف إذا فرغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ثم يقيمون في الحال ويصلي بهم العصر وهذا الجمع متفق عليه ثم بعد الفرغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقف هناك وإذا وقفوا استقبلوا القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس
واعلم أن الوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار فقد كفى وقال أحمد وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر فإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة
وفي تسمية المزدلفة أقوال أحدها أنهم يقربون فيها من منى والإزدلاف القرب والثاني أن الناس يجتمعون فيها والإجتماع الإزدلاف والثالث أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب وهذا قول قتادة وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع المغرب والعشاء بإقامتين ثم يبيتون بها فإن يبت بها فعليه دم شاة فإذا طلع الفجر صلوا صلاة الصبح بغلس والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي يأخذ كل إنسان منها سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام وهو جبل يقال له قزح وهو المراد من قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما يلي منى فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن لم يمكنه وبحمد الله تعالى يهلله ويكبره ولا(5/150)
يزال كذلك حتى يسفر جداً ثم يدفع قبل طلوع الشمس ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر فإذا بلغوا بطن محسر فيستحب لمن كان راكباً أن يحرك دابته ومن كان ماشياً أن يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا ابتدأ الرمي فإذا رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر والتقصير أن يقطع أطراف شعوره ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ثم بعد ذلك يعودون إلى منى في بقية يوم النحر وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي واتفقوا على أنه متى حصل الرمي والحلق والطواف فقد حصل التحلل والمراد من التحلل حل اللبس والتقليم والجماع فهذا هو الكلام في أعمال الحج والله أعلم
المسألة الخامسة اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام وذلك أن قريشاً وقوماً آخرين سموا أنفسهم بالحمس وهم أهل الشدة في دينهم والحماسة الشدة يقال رجل أحمس وقوم حمس ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير ومعناه أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض وهو المنخفض منها وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض فأمر الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس والآية لا دلالة فيها على ذلك بل السنة دلت على هذه الأحكام
المسألة السادسة الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج فإذا لم يأت به فلم يكن آتياً بالحج المأمور به فوجب أن لا يخرج عن العهدة وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً أقصى ما في الباب أن الحج يحصل عند ترك بعض المأمورات إلا أن الأصل ما ذكرناه وإنما يعدل عنه بدليل منفصل وذهب كثير من العلماء إلى أن الآية لا دلالة فيها على أن الوقوف شرط ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجب إلا أنه إن فاته ذلك قام الوقوف بجميع الحرم مقامه وسائر الفقهاء أنكروا ذلك واتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة
المسألة السابعة قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يدل أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ويكفي فيه المرور به كما في عرفة فأما الوقوف هناك فمسنون وروي عن علقمة والنخعي أنهما قالا الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف بعرفة وحجتهما قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحاً في الكتاب وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة والمشعر الحرام فيه أمر جزم وقال جمهور الفقهاء إنه ليس بركن واحتجوا بقوله عليه السلام(5/151)
( الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه ) وبقوله ( من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج ) قالوا وفي الآية إشارة إلى ما قلنا لأن الله تعالى قال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر بالذكر لا بالوقوف فعلم أن الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر وليس بأصل وأما الوقوف بعرفة فهو أصل لأنه قال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ولم يقل من الذكر بعرفات
المسألة الثامنة الْمَشْعَرِ المعلم وأصله من قولك شعرت بالشيء إذا علمته وليت شعري ما فعل فلان أي ليس علمي بلغه وأحاط به وشعار الشيء أعلامه فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام لأنه معلم من معالم الحج ثم اختلفوا فقال قائلون المشعر الحرام هو المزدلفة وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده هكذا قاله الواحدي في ( البسيط ) قال صاحب ( الكشاف ) الأصح أنه قزح وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة
المسألة التاسعة اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكراً قال الله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) والدليل عليه أن قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر وهو للوجوب ولا ذكر هناك يجب إلا هذا وأما الجمهور فقالوا المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون
أما قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول لما قال اذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فلم قال مرة أخرى وَاذْكُرُوهُ وما الفائدة في هذا التكرير
والجواب من وجوه أحدها أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولاً اذْكُرُواْ اللَّهَ أمر بالذكر وقوله ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها أنه تعالى أمر بالذكر أولاً ثم قال ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام فكأنه تعالى قال إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان فقال وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( البقرة 185 ) وقال في ( الأضاحي ) كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وثالثها أن قوله أولاً فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر بالذكر باللسان وقوله ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أمر بالذكر بالقلب وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان أحدهما ذكر هو ضد النسيان والثاني الذكر بالقول فما هو خلاف النسيان قوله وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ( الكهف 63 ) وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول محمول على الذكر باللسان والثاني على الذكر بالقلب فإن بهما يحصل تمام(5/152)
العبودية ورابعها قال ابن الأنباري معنى قوله وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر كأنه قيل لهم اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكراً بعد ذكر كما هداكم هداية بعد هداية ويرجع حاصله إلى قوله عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) وسادسها أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة ثم قال بعده وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام بل عن من سواه فيصير مستغرقاً في نور جلاله وصمديته ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكراً له ومشتغلاً بالثناء عليه وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ورابعها أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى والمراد بالذكر الثاني الاشتغال بشكر نعمائه والشكر مشتمل أيضاً على الذكر فصح أن يسمي الشكر ذكراً والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية فقال كَمَا هَدَاكُمْ والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها أنه تعالى لما قال فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني اذكروه على كل حال وفي كل مكان لأن هذا الذكر إنما وجب شكراً على هدايته فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمراً غير منقطع وتاسعها أن قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك ثم قوله وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ والمراد منه التهليل والتسبيح
السؤال الثاني ما المراد من الهداية في قوله كَمَا هَدَاكُمْ
الجواب منهم من قال إنها خاصة والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام ومنهم من قال لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه
السؤال الثالث الضمير في قوله مِن قَبْلِهِ إلى ماذا يعود
الجواب يحتمل أن يكون راجعاً إلى الْهُدَى والتقدير وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين وقال بعضهم إنه راجع إلى القرآن والتقدير واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين
أما قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ فقال القفال رحمة الله عليه فيه وجهان أحدهما وما كنتم من قبله إلا الضالين والثاني قد كنتم من قبله من الضالين وهو كقوله إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( الطارق 4 ) وقوله وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( الشعراء 186 )(5/153)
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه قولان الأول المراد به الإفاضة من عرفات ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة فأنزل الله تعالى هذه الآية أمراً لهم بأن يقفوا في عرفات وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها وعلى هذا التأويل فقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإضافة من عرفات من يقول قوله ثُمَّ أَفِيضُواْ أمر عام لكل الناس وقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به وهو كقوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) يعني نعيم بن مسعود إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) يعني أبا سفيان وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ومنه قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله وهو أن يكون قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال هذا مما فعله الناس قديماً فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال المراد من هذه الإفاضة من عرفات
القول الثاني وهو اختيار الضحاك أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالاً
أما الإشكال على القول الأول فهو أن قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( البقرة 198 ) لمكان ثُمَّ فإنها توجب الترتيب ولو كان المراد من هذه الآية الإفاضة من عرفات مع أنه معطوف على قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ(5/154)
كان هذا عطفاً للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية فإذا أفضتم من عرفات ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذه الآية متقدمة على ما قبلها والتقدير فاتقون يا أولي الألباب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله وعلى هذا التريتب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها
قلنا هذا وإن كان محتملاً إلا أن الأصل عدمه وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه
وأما الإشكال على القول الثاني فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ مّنْ حَيْثُ في قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ على الزمان وذلك غير جائز فإنه مختص بالمكان لا بالزمان
أجاب القائلون بالقول الأول عن ذلك السؤال بأن ثُمَّ ههنا على مثال ما في قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ ( البلد 13 ) إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) أي كان مع هذا من المؤمنين ويقول الرجل لغيره قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة ثُمَّ ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه
وأجاب القائلون بالقول الثاني بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جداً فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملاً في الآخر على سبيل المجاز
أما قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فقد ذكرنا أن المراد من النَّاسِ إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وأتباعهما وفيه قول ثالث وهو قول الزهري أن المراد بالناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وقال هو آدم نسي ما عهد إليه ويروى أنه قرأ النَّاسِ بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء والمعنى أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه
أما قوله تعالى وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما وأما الإستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب
فإن قيل كيف أمر بالإستغفار مطلقاً وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار
والجواب أنه إن كان مذنباً فالإستغفار واجب وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات وجب عليه الإستغفار أيضاً تداركاً لذلك الخلل المجوز وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات فهذا كالممتنع في حق البشر فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد فكيف في أعمال كل العمر إلا أن بتقدير إمكانه فالإستغفار أيضاً(5/155)
واجب وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ولهذا قالت الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فكان الإستغفار لازماً من هذه الجهة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة )
وأما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قد علمت أن غفوراً يفيد المبالغة وكذا الرحيم ثم في الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب لأنه تعالى لما أمر المذنب بالإستغفار ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة فهذا يدل قطعاً على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه
المسألة الثانية اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع وقال آخرون إنها عند الدفع من الجمع إلى منى وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله ثُمَّ أَفِيضُواْ على أي الأمرين يحمل قال القفال رحمه الله ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية يوم عرفة فقال ( يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله ) فقال أصحابه يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً فقال عليه الصلاة والسلام ( إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئاً لم يجد لي به سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقرئك السلام ويقول لك التبعات ضمنت عوضها من عندي ) اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا
فيه مسائل
المسألة الأولى روى ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار ويتكلمون بالمنثور من الكلام ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم وروى القفال في ( تفسيره ) عن ابن عمر قال طاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ( أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( الحجرات 13 ) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القدر كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته فأنزل الله تعالى هذه الآية(5/156)
المسألة الثانية اعلم أن القضاء إذا علق بفعل النفس فالمراد به الإتمام والفراغ وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الالزام نظير الأول قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ وقال عليه الصلاة والسلام ( وما فاتكم فاقضوا ) ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضي بينهما ونظير الثاني قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ ( الإسراء 23 ) وإذا استعمل في الإعلام فالمراد أيضاً ذلك كقوله وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) يعني أعلمناهم
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصاً وذكر كثير منه قد تقدم من قبل وقال بعضهم يحتمل أن يكون المراد اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ مشعر بالفراغ والاتمام من الكل وهذا مفارق لقول القائل إذا حججت فقف بعرفات لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج
المسألة الثالثة ( المناسك ) جمع منسك الذي هو المصدر بمنزلة النسك أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج وإن جعلنها جمع منسك الذي هو موضع العبادة كان التقدير فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف
إذا عرفت هذا فنقول قال بعض المفسرين المراد من المناسك ههنا ما أمر الله تعالى به الناس في الحج من العبادات وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ يدلى على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشويق على حسب اختلافهم في وقته أولاً وآخراً لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات ومنهم من قال بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة فكأنه تعالى قال فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء ومنهم من قال بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والإنقطاع إلى الله تعالى وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهده العبادة قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصوداً بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله والتقدير فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار والثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار(5/157)
أما قوله تعالى كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ففيه وجوه أحدها وهو قول جمهور المفسرين أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ أَبَاكُمْ يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذباً فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقاً فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور وكل ذلك من أمهات المهلكات فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي وثانيها قال الضحاك والربيع اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه أمه أمه أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه وثالثها قال أبو مسلم جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله ورابعها قال ابن الأنباري في هذه الآية إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم فقال تعالى عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وخامسها قال بعض المذكورين المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك وهذا هو المراد بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وسادسها أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكراً له بالتعظيم فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك وسابعها يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكره إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يحلفوا بآبائهم فقال ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره وثامنها روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين
أما قوله تعالى أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى عامل الإعراب في أَشَدَّ قيل الكاف فيكون موضعه جراً وقيل اذْكُرُواْ فيكون موضعه نصباً والتقدير اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم واذكروه أَشَدَّ ذِكْرًا من آبائكم
المسألة الثانية قوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا معناه بل أشد ذكراً وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله(5/158)
تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم قال القفال رحمه الله ومجاز اللغة في مثل هذا معروف يقول الرجل لغيره افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه لا يريد به التشكيك إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه
فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاٌّ خِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج ثم أمر بعدها بالذكر فقال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( البقرة 198 ) ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وما أحسن هذا الترتيب فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ثم بعد العبادة لا بد من الإشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) ثم قال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ فقدم الذكر على الدعاء
إذا عرفت هذا فنقول بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا والثاني الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وقد كان في التقسيم قسم ثالث وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا والأكثرون على أنه غير مشروع وذلك أن الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة روى القفال في ( تفسيره ) عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال كنت أقول اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا فقال النبي عليه السلام ( سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) قال فدعا له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشفي
واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة لشوش الأمر(5/159)
على الإنسان وصار بسببه محروماً عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين وأهمل هذا القسم الثالث
المسألة الثانية اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم فقال قوم هم الكفار روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا اللهم أرزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماء وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد وعن أنس كانوا يقولون اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله أنه قال أهل النار يستغيثون ثم يقولون أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا طلباً للمأكول والمشروب فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال آخرون هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة وإن كان الفاعل مسلماً كما روى في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( آل عمران 77 ) أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمين فاجرة روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم معنى ذلك على وجوه أحدها أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب والثاني لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه والثالث لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حذف مفعول أَتَانَا من الكلام لأنه كالمعلوم واعلم أن مراتب السعادات ثلاث روحانية وبدنية وخارجية أما الروحانية فإثنان تكميل القوة النظرية بالعلم وتكميل القوة العملية بالأخلاق الفاضلة وأما البدنية فإثنان الصحة والجمال وأما الخارجية فإثنان المال والجاه فقوله فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً يتناول كل هذه الأقسام فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جمسانية إلا لأجل الدنيا ثم قال تعالى في حق هذا الفريق لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة ونظير هذه الآية قوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ( الشورى 20 ) ثم إنه تعالى لم يذكر في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا قال بعضهم إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان ولياً لله تعالى مستحقاً للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفاً حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجاباً لكن تلك الإجابة قد تكون مكراً واستدراجاً(5/160)
أما قوله تعالى وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبهه ( حسنة ) فقال إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ ( التوبة 50 ) وقيل في قوله قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ( التوبة 52 ) أنهما الظفر والنصرة والشهادة وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثوب والخلاص من العقاب وبالجملة فقوله رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس ادع لنا فقال ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) قالوا زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه وثانيها أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً دعا ربه فقال في دعائه رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئاً من أمر الدنيا فقال بعض الصحابة بلى يا رسول الله إنه قال ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه يقول آتنا في الدنيا عملا صالحاً وهذا متأكد بقوله تعالى وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ ( الفرقان 74 ) وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها قال قتادة الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين وعن الحسن الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى وفي الآخرة الجنة واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ولكنه قال فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة
فإن قيل أليس أنه لو قيل آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولاً لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير
قلت الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقاً لقضائك وقدرك فأعطني ذلك فلو قال اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما وقد بينا أنه غير جائز أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين
أما قوله تعالى أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أُوْلَائِكَ فيه قولان أحدهما إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين(5/161)
سألوا الدنيا والآخرة والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ
والقول الثاني أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه فمن أنكر البحث وحج التماساً لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ( الشورى 20 )
أما قوله تعالى لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ففيه سؤالات
السؤال الأول قوله لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه
الجواب المراد لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله مِنْ في قوله مِمَّا كَسَبُواْ لابتداء الغاية لا للتبعيض
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل
الجواب نعم ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي
السؤال الثالث ما الكسب
الجواب الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح إنها كسب فلان وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب لأن لا يراد إلا الربح فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام
أما قوله تعالى وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ففيه مسائل
المسألة الأولى سَرِيعُ فاعل من السرعة قال ابن السكيت سرع يسرع سرعاً وسرعة فهو سريع وَالْحِسَابَ مصدر كالمحاسبة ومعنى الحساب في اللغة العد يقال حسب يحسب حساباً وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره والاحتساب الاعتداد بالشيء وقال الزجاج الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان
المسألة الثانية اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسباً لخلقه على وجوه أحدها أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب قالوا ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه فاطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور ونقل عن ابن عباس أنه قال إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم(5/162)
والقول الثاني أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً ( الطلاق 8 ) ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة
والقول الثالث أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب فمن قال إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت قال إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة ومن قال إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به فهذ هو المراد من كونه تعالى محاسباً لخلقه
المسألة الثالثة ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوهاً أحدها أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوماً ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعاً في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتاً دالاً على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسباً إلى أنه تعالى يخلق شيئاً ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادراً على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة وثانيها أن معنى كونه تعالى سَرِيعُ الْحِسَابِ أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب فأعلم الله تعالى أنه سَرِيعُ الْحِسَابِ أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد ولا إلى فكرة وروية وهذا معنى الدعاء المأثور ( يا من لا يشغله شأن عن شأن ) وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى سَرِيعُ الْحِسَابِ كونه تعالى عالماً بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشيء فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب وثالثها أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة
وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُو ا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أنه لما ذكر ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين أحدهما أن ذلك كان أمراً مشهوراً فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه والثاني لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الآيام دليلاً عليه إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة(5/163)
منها ثم قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات والأيام المعلومات فقال هنا وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ وقال في سورة الحج لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ( الحج 28 ) فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر وهي أيام التشريق واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة ثم قال بعده فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا يقتضي أن يكون المراد فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ من هذه الأيام المعدودات وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق والقفال أكد هذا بما روى في ( تفسيره ) عن عبد الرحمن بن نعمان الذيلمي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر منادياً فنادى ( الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق قال الواحدي رحمة الله عليه أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها يوم النفر وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث يوم النفر الثاني وهذه الآيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التبكير إدبار الصلوات على ما سنشرح مذاهب الناس فيه
المسألة الثانية المراد بالذكر في هذه الأيام الذكر عند الجمرات فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك إلا أنهم اختلفوا في مواضع
الموضع الأول أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف
القول الأول أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما في أحد أقواله والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج قال تعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ثم قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا إنما يحصل في حق الحاج فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج وسائر الناس تبع لهم في ذلك ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى فإنهم يلبون قبل ذلك وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان
القول الثاني للشافعي رضي الله عنه أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة
والقول الثالث للشافعي رضي الله عنه أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة(5/164)
العصر من يوم النحر فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة
والقول الرابع أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة وهو قول أكابر الصحابة كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح وعليه عمل الناس بالبلدان ويدل عليه وجوه الأول ما روى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال الله أكبر ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق والثاني أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل وهذا القول أخذ بالأكثر والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) الثالث أن هذا هو الأحوط لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها والرابع أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق
فإن قيل هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة
قلنا فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع وأيضاً لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق صح أن يضاف التكبير إليها
الموضع الثاني قال الشافعي رضي الله عنه المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثاً نسقاً أي متتابعاً وهو قول مالك وقال أبو حنيفة وأحمد يكبر مرتين حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً ولأنه زيادة في التكبير فكان أولى لقوله تعالى اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ثم قال الشافعي رضي الله عنه ويقول بعد الثلاث ( لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد ) ثم قال وما زاد من ذكر الله فهو حسن وقال في التلبية وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة فينبغي أن يفعل ذلك
أما قوله تعالى فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ففيه سؤالات
السؤال الأول لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل
الجواب قال صاحب ( الكشاف ) تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله
السؤال الثاني قوله وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فيه إشكال وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج فما معنى قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل
والجواب من وجوه أحدها أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول القصر(5/165)
عزيمة والإتمام غير جائز فلما كان هذا الإحتمال قائماً لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة ولا إثم عليه في الأمرين جميعاً وثانيها قال بعض المفسرين إن منهم من كان يتعجل ومنهم من كان يتأخر ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل وثالثها أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث فكأنه قيل إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه ورابعها أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له الآن إن تناولت السم فلا ضرر وإن لم تتناول فلا ضرر مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى وحد فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفراً لكل الذنوب لا بيان أن التعجل وتركه سيان ومما يدل على كونه الحج سبباً قوياً في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وخامسها أن كثيراً من العلماء قالوا الجوار مكروه لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه وإذا كان غائباً إزداد شوقه إليه وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل وأيضاً من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الإستعجال في الطواف فهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما وسادسها قال الواحدي رحمه الله تعالى إنما قال وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان فإذا حمل على موافقة اللفظ م لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه
السؤال الثالث هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة
الجواب نعم كما كان في قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( البقرة 198 ) دليل على وقوفهم بها
واعلم أن الفقهاء قالوا إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي وقول كثير من فقهاء التابعين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد
أما قوله تعالى لِمَنِ اتَّقَى ففيه وجوه أحدها أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق وثانيها أن هذه المغفرة إنما(5/166)
تحصل لمن كان متقياً قبل حجه كما قال تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجة وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر وثالثها أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام ( من حج فلم يرفث ولم يفسق ) واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله لِمَنِ اتَّقَى ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوماً وربما صار عمله محبطاً وهذا ضعيف من وجهين الأول أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل الثاني أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم لكن ذاك ليس للإحرام لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام فسقط هذا الوجه
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ فهو أمر في المستقبل وهو مخالف لقوله لِمَنِ اتَّقَى الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات
فأما قوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشديد فيه لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور والمراد بقوله إِلَيْهِ أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه ولا يستطيع أحد دفعاً عن نفسه كما قال تعالى يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الإنفطار 19 )
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان كافر وهو الذي يقول رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ومسلم وهو الذي يقول رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً ( البقرة 201 ) بقي المنافق فذكره في هذه الآية وشرح صفاته وأفعاله فهذا ما يتعلق بنظم الآية والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف(5/167)
المفسرون على قولين منهم من قال هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال إنها عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه
فالرواية الأولى أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأظهر الإسلام وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك وهذا هو المراد بقوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ غير أنه كان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر وهو المراد بقوله وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وقال آخرون المراد بقوله تعالى يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا نعم الرأي ما رأيت قال فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمي لهذا السبب أخنس وكان اسمه أبي بن شريق فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعجبه وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح
والرواية الثانية في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع ووصل الخبر إلى الكفار فركب منهم سبعون راكباً وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت هذه الآية ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبهاً بذلك على حال هؤلاء الشهداء
القول الثاني في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة ونقل عن محمد بن كعب القرظي أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات والتحقيق في المسألة أن قوله وَمِنَ النَّاسِ إشارة إلى بعضهم فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع وقوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم بل نقول فيها ما يدل على العموم وهو من وجوه أحدها أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فلما ذم الله تعالى قوماً ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات فيلزم أن كل من كان موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم وثانيها أن الحمل على العموم أكثر فائدة وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى إذا عرفت هذا فنقول اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا والصحيح أنها لا تدل على ذلك لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة وشيء منها لا يدل على النفاق فأولها قوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وهذا لا(5/168)
دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ لأن الإنسان إذا قيل إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعاً من المذمة وثانيها قوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وهذ لا دلالة فيه على حالة منكرة فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقاً بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائياً وثالثها قوله وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وهذا أيضاً لا يوجب النفاق ورابعها قوله وَإِذْ تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا والمسلم الذي يكون مفسداً قد يكون كذلك وخامسها قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ فهذا أيضاً لا يقتضي النفاق فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقاً إلا أن المنافق داخل في الآية وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفاً بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي وإذا عرفت هذه الجملة فنقول الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة
الصفة الأولى قوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا والمعنى يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس
أما في قوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ففيه وجوه أحدهما أنه نظير قول القائل يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني أن يكون التقدير يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والإحتباس خوفاً من هيبة الله وقهر كبريائه
الصفة الثانية قوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول الله يشهد بأن الأمر كما قلت فهذا يكون استشهاداً بالله ولا يكون يميناً وعامة القراء يقرؤن وَيُشْهِدُ اللَّهَ بضم الياء أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره وقرأ ابن محيصن يَشْهَدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ بفتح الياء والمعنى أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره
فالقراءة الأولى تدل على كونه مرائياً وعلى أنه يشهد الله باطلاً على نفاقه وريائه
وأما القراءة الثانية فلا تدل إلا على كونه كاذباً فأما على كونه مستشهداً بالله على سبيل الكذب فلا فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألد الشديد الخصومة يقال رجل ألد وقوم لد وقال الله تعالى وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( مريم 97 ) وهو كقوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) يقال منه لد يلد بفتح اللام في يفعل منه فهو ألد إذا كان خصماً ولددت الرجل ألده بضم اللام إذا غلبته بالخصومة قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه ولديدي الوادي وهما جانباه وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين(5/169)
وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه
وأما الْخِصَامِ ففيه قولان أحدهما وهو قول خليل إنه مصدر بمعنى المخاصمة كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة فيكون المعنى وهو شديد المخاصمة ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما أنه بمعنى فِى والتقدير ألد في الخصام والثاني أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة
والقول الثاني أن الخصام جمع خصم كصعاب وصعب وضخام وضخم والمعنى وهو أشد الخصوم خصومة وهذا قول الزجاج قال المفسرون هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه وفيه نزل أيضاً قوله وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ ( الهمزة 1 ) وقوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ( القلم 10 11 ) ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة قال مجاهد أَلَدُّ الْخِصَامِ معناه طالب لا يستقيم وقال السدي أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل شديد القصوة في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل
المسألة الثانية تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديداً في الجدل ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم وإلا لما جاز ذلك وجوابه ما تقدم في قوله وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ( البقرة 197 )
الصفة الرابعة قوله تعالى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَإِذَا تَوَلَّى فيه قولان أحدهما معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما ما كان من اتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم
والوجه الثاني في تفسير الفساد أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين وباستخراج الحيل في تقوية الكفر وهذا المعنى يسمى فساداً قال تعالى حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) أي يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شريعتهم وقال أيضاً إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ( البقرة 11 ) ما يقرب من هذا الوجه وإنا سمي هذا المعنى فساداً في الأرض لأنه يوقع الإختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( محمد 22 ) فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في(5/170)
الأرض وقطع الارحام وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب لأنه تعالى قال وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة
القول الثاني في تفسير قوله وَإِذَا تَوَلَّى وإذا صار والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل وقيل يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل والقول الأول أقرب إلى نظم الآية لأن المقصود بيان نفاقه وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد
المسألة الثانية قوله سَعَى فِى الاْرْضِ أي اجتهد في إيقاع القتال وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس ومنه يقال فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ ( التوبة 47 )
المسألة الثالثة من فسر الفساد بالتخريب قال إنه تعالى ذكره أولاً على سبيل الإجمال وهو قوله لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم ذكره ثانياً على سبيل التفصيل فقال وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم وثانيهما العمل فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات وثانيهما فعل المنكرات فههنا ذكر تعالى أولاً من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات وهو المراد بقوله لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم ذكر ثانياً إقدامه على المنكرات وهو المراد بقوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال المراد بالحرث الزرع وبالنسل تلك الحمر والحرث هو ما يكون منه الزرع قال تعالى أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( الواقعة 63 ) وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات وقيل إن الحرث هو شق الأرض ويقال لما يشق به محرث وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب والنسل في اللغة الولد واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم نسل ينسله إذا خرج فسقط ومنه نسل ريش الطائر ووبر البعير وشعر الحمار إذا خرج فسقط والقطعة منها إذا سقطت نسالة ومنه قوله تعالى إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ( يس 51 ) أي يسرعون لأنه أسرع الخروج بحدة والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه والناس نسل آدم وأصل الحرف من النسول وهو الخروج وأما من قال إن سبب نزول الآية أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً فالمراد بالحرث إما النسوان لقوله تعالى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( البقرة 223 ) أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد وأما النسل فالمراد منه الصبيان
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول إهلاك النبات والحيوان وعلى التفسير الثاني إهلاك الحيوان بأصله وفرعه وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه فإذن قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) وقال أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ( النازعات 31 )(5/171)
فإن قيل أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل أو تدل على أنه أراد ذلك
قلنا إن قوله سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ثم قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك فإن تقدير الآية هكذا سعى في الأرض ليفسد فيها وسعى ليهلك الحرث والنسل وإن جعلناه كلاماً مبتدأ منقطعاً عن الأول دل على وقوع ذلك والأول أولى وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود
المسألة الرابعة قرأ بعضهم وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على أن الفعل للحرث والنسل وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو أبى يأبى وروي عنه وَيُهْلِكَ على البناء للمفعول
المسألة الخامسة استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ قالوا والمحبة عبارة عن الإرادة والدليل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ ( النور 19 ) والمراد بذلك أنهم يريدون وأيضاً نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال ( إن الله أحب لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ) فجعل الكراهة ضد المحبة ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضداً للإرادة وأيضاً لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة قالوا وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ ( غافر 31 ) بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقاً له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه والثاني إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة ولكن قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال إنه لا يريده والثاني أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلاً وذلك محال
الصفة الخامسة قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم
واعلم أن هذا التفسير ضعيف لأن قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك(5/172)
برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها استشهاده بالله كذباً وبهتاناً وثالثها لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها سعيه في الفساد وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله إِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقِ اللَّهَ فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد وفي اللجاج الباطل وفي الإستشهاد بالله كذلك وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض
المسألة الثالثة قوله أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ فيه وجوه أحدها أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلاناً بأن يعمل كذا أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه فتقدير الآية أخذته العزة بأن يعمل الإثم وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ أي لزمته يقال أخذته الحمى أي لزمته وأخذه الكبر أي اعتراه ذلك فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذين في قلبه فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ونظيره قوله تعالى بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّة ٍ وَشِقَاقٍ ( ص 2 ) والباء ههنا في معنى اللام يقول الرجل فعلت هذا بسببك ولسببك وعاقبته بجنايته ولجنايته
أما قوله تعالى فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ قال المفسرون كافيه جهنم جزاء له وعذاباً يقال حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله أي كافينا الله وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها حكى عن رؤبة أنه قال ركية جهنام بريد بعيدة القعر
أما قوله تعالى وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ففيه وجهان الأول أن المهاد والتمهيد التوطئة وأصله من المهد قال تعالى وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( الذاريات 48 ) أي الموطئون الممكنون أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( الروم 44 ) أي يفرشون ويمكنون والثاني أن يكون قوله وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ أي لبئس المستقر كقوله جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( إبراهيم 29 ) وقال بعض العلماء المهاد الفراش للنوم فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك معاداً له وفراشاً
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول روايات أحدها روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان وفي عمار بن ياسر وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه وفي بلال مولى أبي(5/173)
بكر وفي خباب بن الأرت وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم فأما صهيب فقال لأهل مكة إني شيخ كبير ولي مال ومتاع ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف راجعاً إلى المدينة فنزلت الآية وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له ربح بيعك فقال له صهيب وبيعك فلا نخسر ما ذاك فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا وفيهم نزل قول الله تعالى وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ النحل 41 ) بتعذيب أهل مكة وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً ( النحل 41 ) بالنصر والغنيمة ولأجر الآخرة أكبر وفيهم نزل إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
والرواية الثانية أنها نزلت في رجل أمر معروف ونهى عن منكر عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم
والرواية الثالثة نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة خروجه إلى الغار ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء البيع قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ( يوسف 20 ) أي باعوه وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله كان ما يبذله من نفسه كالسلعة وصار الباذل كالبائع والله كالمشتري كما قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة فاقل الْمُشْرِكُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( الصف 10 11 ) وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأان نفسه كانت له فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار والعذاب فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه أبداً لكن المكاتب عبد ما بقي عليه دارهم فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ( مريم 31 ) وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
فإن قيل إن الله تعالى جعل نفسه مشترياً حيث قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( التوبة 111 ) وهذا يمنع كون المؤمن مشترياً
قلنا لا منافاة بين الأمرين فهو كمن اشترى ثوباً بعبد فكل واحد منهما بائع وكل واحد منهما مشتر(5/174)
فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع
إذا عرفت هذا فنقول يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين فيدخل فيه المجاهد ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل كما فعله أبو عمار وأمه ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشاً فحاصروا قصراً فتقدم منهم واحد فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر كذبتم رحم الله أبا فلان وقرأ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل قال قتادة أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضباً لله وجهاداً في سبيله
المسألة الثانية يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ أي لابتغاء مرضاة الله و يَشْرِى بمعنى يشتري
أما قوله تعالى وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب وأعطاه الثواب الدائم ومن رأفته أن النفس له والمال ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة ً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل أمر المسلمين بما يضاد ذلك وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه فقال بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع والكسائي السَّلَامُ بفتح السين وكذا في قوله وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ ( الأنفال 61 ) وقوله وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( محمد 35 ) وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش السَّلَامُ بكسر السين في السكل وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه والتي في البقرة والتي في سورة محمد في قوله وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال وفي سورة محمد فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر مثل رطل ورطل وجسر وجسر(5/175)
وقرأ الأعمش بفتح السين واللام
المسألة الثانية أصل هذه الكلمة من الإنقياد قال الله تعالى إِذَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ ( البقرة 131 ) والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه قال أبو عبيدة وفيه لغات ثلاث السلم والسلم والسلم
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن كثيراً من المفسرين حملوا السلم على الإسلام فيصير تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام والإيمان هو الإسلام ومعلوم أن ذلك غير جائز ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوهاً في تأويل هذه الآية
أحدها أن المراد بالآية المنافقون والتقدير يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق
وثانيها أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطاً فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة أي في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقاداً له وعملاً به لأنها صارت منسوخة وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة والقائلون بهذا القول جعلوا قوله كَافَّة ً من وصف السلم كأنه قيل ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقاداً وعملاً
وثالثها أن يكون هذا الخطاب واقعاً على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي بالكتاب المتقدم ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة
ورابعها هذا الخطاب واقع على المسلمين ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بالألسنة ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في(5/176)
صفة ذلك المنافق في قوله سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين فكأنه تعالى قال دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( البقرة 210 ) يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة
فإن قيل الموقوف بالشيء يقال له دم عليه ولكن لا يقال له ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله أَدْخِلُواْ
قلنا إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال وإن كان كائناً فيها في الحال لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام وخامسها أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمتنازعة والتقدير يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس وهو كقوله وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( آل عمران 103 ) وقال تعالى الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ ( آل عمران 200 ) وقال وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( آل عمران 103 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ) وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر أحدها أن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله فيصح أن يسمي تركها بالسلم أو يكون المراد منه كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات وترك المحظورات وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر وثانيها أن يكون المراد من السلم كون العبد راضياً ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث ( الرضا بالقضاء باب الله الأعظم ) وثالثها أن يكون المراد ترك الإنتقام كما في قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وفي قوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية
المسألة الرابعة قال القفال كَافَّة ً يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تفرقوا ولا تختلفوا قال قطرب تقول العرب رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي رحمه الله هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال كففت فلاناً عن السوء أي منعته ويقال كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار وقيل لطرف اليد كف لأنه يكف بها عن سائر البدن ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر فالكافة معناها المانعة ثم صارت اسماً للجملة الجامعة وذلك لأن الإجتماع يمنع من التفرق والشذوذ فقوله ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي ادخلوا في شرائع(5/177)
الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئاً من شرائعه أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحداً من أن لا يدخل فيه
أما قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فالمعنى ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره ولا فرق بين ذلك وبين قوله اتبعت خطواته وخطوات جمع خطوة وقد تقدم ذلك
أما قوله تعالى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فقال أبو مسلم الأصفهاني إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره وأقول الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الزخرف 1 الدخان 1 ) ولا يعني بقوله مبيناً إلا ذلك
فإن قيل كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه
قلنا إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال إن فلاناً عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بياناً لهذا المعنى فإنه يقطع بعض الإحتمالات عن بعض فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه
فإن قيل كون الشيطان عدواً لنا إما أن يكون بسبب أن يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب والأول باطل إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد ومعلوم أنه ليس كذلك وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ابراهيم 22 ) إذا ثبت هذا فكيف يقال إنه عدو مبين العداوة والحال ما ذكرناه
الجواب أنه عدو من الوجهين معاً أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك وليس يلزم من كونه مريداً لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادراً عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروماً عن الثواب فكان ذلك من أعظم جهات العداوة
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو السمال زَلَلْتُمْ بكسر اللام الأولى وهما لغتان كضللت وضللت
المسألة الثانية يقال زل يزل زلولاً وزلزالاً إذا دحضت قدمه وزل في الطين ويقال لمن زل في حال كان عليها زلت به الحال ويسمى الذنب زلة يريدون به الزلة للزوال عن الواجب فقوله فَإِن زَلَلْتُمْ أي أخطأتم(5/178)
الحق وتعديتموه وأما سبب نزول هذه الآية فقد اختلفوا في السلم كافة فمن قال في الأول إنه في المنافقين فكذا الثاني ومن قال إنه في أهل الكتاب فكذا الثاني وقس الباقي عليه
يروى عن ابن عباس فَإِن زَلَلْتُمْ في تحريم السبت ولحم الإبل مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشرائعه فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بالنقمة حَكِيمٌ في كل أفعاله فعند هذا قالوا لئن شئت يا رسول الله لتتركن كل كتاب غير كتابك فأنزل الله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 136 )
المسألة الثالثة قوله فَإِن زَلَلْتُمْ فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفاً بعواقب الأمور وأجاب قتادة عن ذلك فقال قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه
المسألة الرابعة قوله تعالى فَإِن زَلَلْتُمْ يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل فتوعد تعالى على كل ذلك زجراً لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقاً به وحينئذ يجب الاحتراز عنه
المسألة الخامسة قوله تعالى مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بالمعلومات كلها قادراً على الممكنات كلها غنياً عن الحاجات كلها ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزوال عند حصول كل هذه البينات
المسألة السادسة قال القاضي دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلاً أولى ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة وقال أيضاً دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والإستدلال يلحقه الوعيد كالعارف فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف
أما قوله تعالى فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن قوله تعالى فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم فكيف يدل قوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ على الزجر والتهديد
الجواب أن العزيز من لا يمنع عن مراده وذلك إنما يحصل بكمال القدرة وقد ثبت أنه سبحانه(5/179)
وتعالى قادر على جميع الممكنات فكان عزيزاً على الإطلاق فصار تقدير الآية فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب وربما قال الوالد لولده إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره فإن قيل أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد قلنا نعم من حيث أتبعه بقوله حَكِيمٌ فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة
المسألة الثانية احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات ولفظ الْبَيِّنَاتُ لفظ جمع يتناول الكل فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات فوجب أن لا يحصل الوعيد فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع
المسألة الثالثة قال أبو علي الجبائي لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم لأن من فعل السفه وأراده كان سفيهاً والسفيه لا يكون حكيماً أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيماً إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ومريداً لها بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه
قلنا هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمراً بما لا يتم إلا به وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم
المسألة الرابعة يحكى أن قارئاً قرأ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فسمعه أعرابي فأنكره وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ وَقُضِى َ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى الكلام المستقصي في لفظ النظر مذكور في تفسير قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 32 33 ) وأجمعوا على أنه يجيء بمعنى الانتظار قال الله تعالى فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( النمل 35 ) فالمراد من قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ هو الانتظار
المسألة الثانية أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ويدل عليه وجوه أحدها ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة(5/180)
والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثاً مخلوقاً والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك وثانيها أن كل ما يصح عليه الإنتقال من مكان إلى مكان فأما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئاً كبيراً فيكون أحد جانبيه مغايراً للآخر فيكون مركباً من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركباً فإن ذلك المركب يكون مفتقراً في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك وثالثها أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتنه فيكون مختصاً بمقدار معين مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك كان فعلاً لفاعل مختار وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك ورابعها أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلهاً قديماً أزلياً فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله وخامسها أن الله تعالى حكى عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك
سادسها أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) وطلب منه الماهية والجنس والجوهر فلو كان تعالى جسماً موصوفاً بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر فكان جواب موسى عليه السلام بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( مريم 65 ) رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الدخان 8 ) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( المزمل 9 الشعراء 28 ) خطأ وباطلاً وهذا يقتضي بخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب وتصويب فرعون في قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) ولما كان كل ذلك باطلاً علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسماً وأن يكون في مكان ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب وسابعها أنه تعالى قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين فلما كان تعالى أحداً امتنع أن يكون جسماً أو متحيزاً فلما لم يكن جسماً ولا متحيزاً امتنع عليه المجيء والذهاب وأيضاً قال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) أي شبيهاً ولو كان جسماً متحيزاً لكان مشابهاً للأجسام في الجسمية إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات وأيضاً قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ولو كان جسماً لكان مثلاً للأجسام(5/181)
وثامنها لو كان جسماً متحيزاً لكان مشاركاً لسائر الأجسام في عموم الجسمية فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في خصوص ذاته المخصوصة وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة فعموم كونه جسماً مغاير لخصوص ذاته المخصوصة وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسماً كنا قد جعلنا الجسم صفة وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسماً وغير موصوف بكونه جسماً فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئاً مغايراً للمفهوم من الجسم وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسماً وإما إن قيل إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسماً لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية فحينئذ يكون مثلاً لها مطلقاً وكل ما صح عليها فقد صح عليه فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك وكل ذلك محال فثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بمتحيز وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه
إذا عرفت هذا فنقول اختلف أهل الكلام في قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال علمنا قطعاً أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ فالأولى السكوت عن التأويل وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال نزل القرآن على أربعة أوجه وجه لا يعرفه أحد لجهالته ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط ووجه لا يعلمه إلا الله وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى الم
الوجه الثالث وهو قول جمهور المتكلمين أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول المراد هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي آيات الله فجعل مجيء الآيات مجيئاً له على التفخيم لشأن الآيات كما يقال جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزجر لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سبباً للتهديد والوعيد فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية
والوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي أمر الله ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلاً وأضافه إلى شيء فإن كان ذلك محالاً فالواجب صرفه إلى التأويل كما قاله العلماء في قوله الَّذِينَ عَبْدُ اللَّهِ والمراد يحاربون أولياءه وقال وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) والمراد واسأل أهل القرية فكذا قوله يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ المراد به يأتيهم أمر الله وقوله وَجَاء رَبُّكَ ( الفجر 22 ) المراد جاء أمر ربك وليس فيه إلا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وهو(5/182)
مجاز مشهور يقال ضرب الأمير فلاناً وصلبه وأعطاه والمراد أنه أمر بذلك لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان الأول أن قوله ههنا يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وقوله وَجَاء رَبُّكَ إخبار عن حال القيامة ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ أَمْرُ رَبّكَ ( النحل 33 ) فصار هذا الحكم مفسراً لذلك المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض والثاني أنه تعالى قال بعده وَقُضِى َ الاْمْرُ ( هود 24 البقرة 21 ) ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم أمر الله
فإن قيل أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون أعراضاً فالإتيان عليها أيضاً محال
قلنا الأمر في اللغة له معنيان أحدهما الفعل والشأن والطريق قال الله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( هود 97 ) وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( القمر 50 ) وفي المثل لأمر ما جدع قصير أنفه لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر ههنا على الفعل وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه وأما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان أحدهما أن يكون التقدير أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا فذاك هو إتيان الأمر وقوله فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ أي مع ظلل والتقدير إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد والثاني أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب
الوجه الثالث في التأويل أن المعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم وذهاب فكرهم في ك لوجه ومثله قوله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( الحشر 2 ) والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ ( النحل 26 ) فقوله وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ كالتفسير لقوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر قد جاءنا فلان بجوره وظلمه ولا شك أن هذا مجاز مشهور
الوجه الرابع في التأويل أن يكون فِى بمعنى الباء وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة(5/183)
الوجه الخامس أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهراً وأكبرهم هيبة فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع ونظيره قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الزمر 67 ) من غير تصوير قبضة وطي ويمين وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي فكذا ههنا والله أعلم
الوجه السادس وهو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً ( البقرة 208 ) إنما نزلت في حق اليهود وعلى هذا التقدير فقوله فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) يكون خطاباً مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 ) حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب وكانوا يقولون إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وبالجملة فالآية تدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال
فإن قيل فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ
قلنا الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق والله أعلم بحقيقة كلامه
الوجه السابع في التأويل ما حكاه الفقال في ( تفسيره ) عن أبي العالية وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَئِكَة ُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ قال القفال رحمه الله هذا التأويل مستنكر
أما قوله فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ فاعلم أن الظلل جمع ظلة وهي ما أظلك الله به والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً متراكماً فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم فكل قطعة ظلة والجمع ظلل قال تعالى شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ ( لقمان 32 ) وقرأ بعضهم إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلَالٍ مّنَ الْغَمَامِ فيحتمل أن يكون الظلال جمع ظلة كقلال وقلة وأن يكون جمع ظل(5/184)
إذا عرفت هذا فنقول المعنى ما ينظرون إلا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام
فإن قيل ولم يأتيهم العذاب في الغمام
قلنا لوجوه أحدها أن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع لأن السر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع كما أن الخير إذا جاء منحيث لا يحتسب كان أكثر تأثيراً في السرور فكيف إذاجاء الشر من حيث يحتسب الخير ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وثانيها أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ( الفرقان 25 26 ) وثالثها أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولاً غير محصور
أما قوله تعالى وَالْمَلَئِكَة ُ فهو عطف على ما سبق والتقدير وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة
أما قوله تعالى وَقُضِى َ الاْمْرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به فعند ذلك لا تقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة
المسألة الثانية قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ معناه ويقضي الأمر والتقدير إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن وخصوصاً في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيراً بالماضي قال الله سبحانه وتعالى إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ ( المائدة 116 ) والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل
المسألة الثالثة الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار قال تعالى وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ ( إبراهيم 22 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف فإنه تعالى ليس لقضائه دافع ولا لحكمه مانع
المسألة الرابعة قرأ معاذ بن جبل قُضِى َ الاْمْرُ على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة
أما قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ففيه مسائل
المسألة الأولى من المجسمة من قال كلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة أجاب أهل التوحيد عنه من وجهين الأول أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيراً(5/185)
من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) وهذا كقولهم رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( آل عمران 28 ) مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه الثاني قال أبو مسلم إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أموراً امتحاناً فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم تُرْجَعُ بضم التاء على معنى ترد يقال رجعته أي رددته قال تعالى وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى ( فصلت 50 ) وفي موضع آخر وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى ( الكهف 36 ) وفي موضع آخر ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) وقال تعالى رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً ( المؤمنون 99 100 ) أي ردني وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تُرْجَعُ بفتح التاء أي تصير كقوله تعالى أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وقوله إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ( هود 4 المائدة 48 الغاشية 25 ) قال القفال رحمه الله والمعنى في القراءتين متقارب لأنها ترجع إليه جل جلاله وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بافناء الدنيا وإقامة القيامة ثم قال وفي قوله تُرْجَعُ الامُورُ بضم التاء ثلاث معان أحدها هذا الذي ذكرناه وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية وَقُضِى َ الاْمْرُ وهو قاضيها والثاني أنه على مذهب العرب في قولهم فلان يعجب بنفسه ويقول الرجل لغيره إلى أين يذهب بك وإن لم يكن أحد يذهب به والثالث أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم فقوله تُرْجَعُ الامُورُ أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم وهو كما قال يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجمعة 1 التغابن 1 ) فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال لا بحسب النطق باللسان وعليه يحمل أيضاً قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ( الرعد 15 ) قيل إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ويسجد له الكفار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله فكذا يجوز أن يقال إن العباد يردون أمورهم إلى الله ويعترفون برجوعها إليه أما المؤمنون فبالمقال وأما الكفار فبشهادة الحال(5/186)
بداية الجزء السادس من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(6/2)
سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَة ٍ بَيِّنَة ٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى سَلْ كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفاً ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل وقال قطرب يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر وسأل يسأل مثل خاف يخاف والأمر فيه سل مثل خف وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر سَأَلَ سَائِلٌ على وزن قال وكال وقوله كَمْ هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع مَا ثم قصرت ( ما ) وسكنت الميم وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر والنصب عند الاستفهام ومن العرب ينصب به في الخبر ويجر به في الاستفهام وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية وأن تكون خبرية
المسألة الثانية اعلم أنه ليس المقصود سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى وبيان هذاالكلام أنه تعالى قال بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( البقرة 208 ) فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ثم قال فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) ثم بين ذلك التهديد بقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 ) ثم ثلث ذلك التهديد بقوله سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه(6/3)
والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم كما قال تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وقال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) فهذا بيان وجه النظم
المسألة الثالثة فرق أبو عمرو في سَلْ بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف فقرأ سَلْهُمْ و سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ بغير همزة وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) فاسأل الذين يقرؤن الكتاب وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( النساء 32 ) بالهمز وسوى الكسائي بين الكل وقرأ الكل بغير همز وجه الفرق أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى أسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف لأن الألف ساقطة فيها أجمع
المسألة الرابعة قوله مّنْ آيَة ٍ بَيّنَة ٍ فيه قولان أحدها المراد به معجزات موسى عليه السلام نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب وإنزال التوراة عليهم وتبيين الهدى من الكفر لهم فكل ذلك آيات بينات
والقول الثاني أن المعنى كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام يعلم بها صدقه وصحة شريعته
أما قوله تعالى وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَمَن يُبَدّلْ بالتخفيف
المسألة الثانية قال أبو مسلم في الآية حذف والتقدير كم آتيناهم من آية بينة وكفروا بها لكن لا يدل على هذا الإضمار قوله وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ
المسألة الثالثة في نعمة الله ههنا قولان أحدهما أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام قال المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) ومن قال المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام قال المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها
والقول الثاني المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ أي من بعد ما تمكن من معرفتها أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( البقرة 75 ) لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة عنه وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح فلهذا قال فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ قال الواحدي رحمه الله تعالى وفيه(6/4)
إضمار والمعنى شديد العقاب له وأقول بين عبد القاهر النحوي في كتاب ( دلائل الإعجاز ) أن ترك هذا الإضمار أولى وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك ثم قال الواحدي رحمه الله والعقاب عذاب يعقب الجرم
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعدما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من درجات الآخرة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إنما لم يقال زينت لوجوه أحدها وهو قول الفراء أن الحياة والإحياء واحد فإن أنث فعلى اللفظ وإن ذكر فعلى المعنى كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) وثانيها وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي لأنه ليس حيواناً بإزائه ذكر مثل امرأة ورجل وناقة وجمل بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء وثالثها وهو قول ابن الأنباري إنما لم يقل زينت لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا بقوله لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الإسم بفاصل حسن تذكير الفعل لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث
المسألة الثانية ذكروا في سبب النزول وجوهاً
فالرواية الأولى قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعود وعمار وخباب وسالم مولى أبي حذيفة وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة
والرواية الثانية نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم
والرواية الثالثة قال مقاتل نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين واعلم أنه لا مانع من نزولها في جميعهم(6/5)
والمسألة الثالثة اختلفوا في كيفية هذا التزيين أما المعتزلة فذكروا وجوهاً أحدها قال الجبائي المزين هو غواة الجن والإنس زينوا للكفار الحرص على الدنيا وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا قال وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فإن كان المزين هو الله تعالى فأما أن يكون صادقاً في ذلك التزين وإما أن يكون كاذباً فإن كان صادقاً وجب أن يكون مازينه حسناً فيكون فاعله المستحسن له مصيباً وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته وهذا القول كفر وإن كان كاذباً في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر وهذا أيضاً كفر قال فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في ( تفسيره )
وأقول هذا ضعيف لأن قوله تعالى زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ يتناول جميع الكفار فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم إلا أن يقال إن كل واحد منهم كان يزين للآخر وحينئذ يصير دوراً فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم فبطل قوله إن المزين هم غواة الجن والإنس وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضاً وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم فثبت أن هذا التأويل ضعيف وأما قوله المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزيناً وعلى هذا التقدير سقط كلامه ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فلم لا يجوز أن يقال الله تعالى أخبر عن حسنه والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والرحات والإخبار عن ذلك لس بكذب والتصديق بها ليس بكفر فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية
التأويل الثاني قال أبو مسلم يحتمل في زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم أين يذهب بك لا يريدون أن ذاهباً ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( المائدة 75 التوبة 30 المنافقون 4 ) أَنَّى يُصْرَفُونَ ( غافر 69 ) إلى غير ذلك وأكده بقوله تعالى يَعْلَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( المنافقون 9 ) فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه واعلم أن هذا ضعيف وذلك لأن قوله زُيّنَ يقضي أن مزيناً زينه والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن
التأويل الثالث أن هذا المزين هو الله تعالى ويدل على صحة هذا التأويل وجهان أحدهما قراءة من قرأ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا على البناء للفاعل الثاني قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( الكهف 7 ) ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوهاً الأول يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ونظيره قوله تعالى زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( آل عمران 14 ) إلى قوله قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ ( آل عمران 15 ) وقال أيضاً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ( الكهف 46 ) وقالوا فهذه الآيات متوافقة والمعنى في الكل أن(6/6)
الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الإمتحان وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام الثاني أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر وهذا محال ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزييناً في قلبه والنص دل على أنه حصل هذا التزيين وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة فقد زال الاختيار لأن حال الإستواء لما امتنع حصول الرجحان فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً كان أولى بامتناع الوقوع وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة
الوجه الثالث في تقرير هذا التأويل أن المراد أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وعلى هذا الوجه سقط الإشكال وهذا أيضاً ضعيف وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص به الكافر فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات وأيضاً فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها وليس كذلك الكافر فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالباً على ظنه لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات وأيضاً أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة وتحملهم المشاق الواجبة فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء بل خلق تلك الأفعال والأحوال وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية
أما قوله تعالى وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوهاً من الروايات قال الواحدي قوله وَيَسْخُرُونَ مستأنف غير معطوف على زين ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها(6/7)
ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه بل قال بعض المحققين الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاساً معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمراً متعيناً فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ففيه سؤالات
السؤال الأول لم قال مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ ثم قال وَالَّذِينَ اتَّقَواْ
الجواب ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى
السؤال الثاني ما المراد بهذه الفوقية
الجواب فيه وجوه أحدها أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض وثانيها يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة
فإن قيل إنما يقال فلان فوق فلان في الكرامة إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالاً من الآخر في تلك الكرامة والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال المؤمن فوقه في الكرامة
قلنا المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين وثالثها أن يكون المراد أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك بل تزول الشبهات ولا تؤثر وساوس الشيطان كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلُهُ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( المطففين 29 34 ) الآية ورابعها أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة وهي مع بطلانها منقضية وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيتها هي دائمة باقية
السؤال الثالث هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار
الجواب هذا تمسك بالمفهوم فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو(6/8)
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فيحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوهاً أحدها أنه يرزق من يشاء في الآخرة وهم المؤمنون بغير حساب أي رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع وهو كقوله فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( غافر 40 ) فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب وثانيها أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ ( النساء 173 ) فالفضل منه بلا حساب وثالثها أنه لا يخاف نفادها عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به والله لا يحتاج إلى الحساب لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته ورابعها أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً انتقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب وخامسها أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهياً لا محالة والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى وسادسها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئاً وليس لأحد معه حساب بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان لا بسبب الاستحقاق وسابعها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي يزيد على قدر الكفاية يقال فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية فأما إذا زاد عليه فإنه يقال ينفق بغير حساب وثامنها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي يعطي كثيراً لأن ما دخله الحساب فهو قليل
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها والله أعلم
أما إذا حملنا الآية على ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه
أحدها وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدينوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة فقد وسع الدنيا على قارون وضيقها على أيوب عليه السلام فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان ولهذا قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) وثانيها أن المعنى أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه(6/9)
ولا مطالبة ولا تبعة ولا سؤال سائل والمقصود منه أن لا يقول الكافر لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلاً فلم وسع عليه في الدنيا بل الإعتراض ساقط والأمر أمره والحكم حكمه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وثالثها قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره لم يكن هذا في حسابي فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين قال القفال رحمه الله وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود وبما فتح على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر
فإن قيل قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم عَطَاء حِسَاباً ( النبأ 36 ) أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية
قلنا أما من حمل قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ على التفضل وحمل قوله عَطَاء حِسَاباً على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا أو بحسب الإستحقاق على ما هو قول المعتزلة فالسؤال ساقط وأما من حمل قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ على سائر الوجوه فله أن يقول إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حساباً ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ
كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان بل كان حاصلاً في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم
وفي الآية مسائل(6/10)
المسألة الأولى قال القفال الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض وهو مأخوذ من الأئتمام
المسألة الثانية دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال
القول الأول أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق وهذا قول أكثر المحققين ويدل عليه وجوه الأول ما ذكره القفال فقال الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الإختلاف ويتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ ( يونس 19 ) ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ إِلَى قَوْلُهُ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ
إذا عرفت هذا فنقول الفاء في قوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً فلأن يبعثوا حين ماكانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه وبحسب قراءة ابن مسعود ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه بقوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلاً قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولاً إلى أولاده فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد كما حكى الله عن ابني آدم إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ ( المائدة 27 ) فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ثم اختلفوا بعد ذلك وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل
وخامسها وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل(6/11)
بها إلى النتائج وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضاً إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج فأما إذا عرض له سبب خارجي فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الإستحقاق وبحسب الزمان أيضاً هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال كان الناس أمة واحدة في الدين الحق ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه
فإن قيل فما المراد من قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ ( هود 188 119 )
قلنا المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم
وسادسها قوله عليه السلام ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد وسابعها أن الله تعالى لما قال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثاً كثيرة ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول
أما الوجه الثاني هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس واحتجوا بالآية والخبر أما الآية فقوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وهو لا يليق إلا بذلك وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام ( أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب )
وجوابه ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده وذلك لأن عند الإختلاف لما وجبت البعثة فلو كان الإتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقاً على الحق لا على الباطل ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفاراً ثم سألوا أنفسهم سؤالاً وقالوا أليس فيهم من كان مسلماً نحو هابيل وشيث وإدريس وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير وقد يقال دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون
القول الثالث وهو اختيار أبي مسلم والقاضي أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته والإشتغال بخدمته وشكر نعمته والإجتناب عن القبائح العقلية(6/12)
كالظلم والكذب والجهل والعبث وأمثالها
واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والإستغراق وحرف الفاء يفيد التراخي فقوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه وأيضاً فالعلم بحسن شكر المنعم وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق والعدل مشترك فيه بين الكل والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة ثم سأل نفسه فقال أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبياً فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولاً ثم إن الله تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرساً فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه والكلام فيه مشهور في الأصول
القول الرابع أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر فهو موقوف على الدليل
القول الخامس أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً ( البقرة 208 ) وذكرنا أن كثيراً من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود فقوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة على دين واحد ومذهب واحد ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين وهم الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب كما بعث الزبور إلى داود والتوراة إلى موسى والإنجيل إلى عيسى والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله كَانَ النَّاسُ بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضاً للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية
أما قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار والتقدير كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث
الصفة الأولى كونهم مبشرين
الصفة الثانية كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( النساء 165 ) وإنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر
الصفة الثالثة قوله وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ فإن قيل إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر(6/13)
والنهي إلى المكلفين ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب أجاب القاضي عنه فقال لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزاً أو لم يكن كذلك لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقتضي شيئاً من ذلك
أما قوله تعالى لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فاعلم أنه قوله لِيَحْكُمَ فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة فأقربها إلى هذا اللفظ الكتاب ثم النبيون ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحاً فيكون المعنى ليحكم الله أو النبي المنزل عليه أو الكتاب ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال حمله على الكتاب أولى أقصى ما في الباب أن يقال الحاكم هو الله فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول أنه مجاز مشهور يقال حكم الكتاب بكذا وقضى كتاب الله بكذا ورضينا بكتاب الله وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء جاز أن يكون حاكماً قال تعالى إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 9 ) والثاني أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله
أما قوله تعالى فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ فاعلم أن الهاء في قوله فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ يجب أن يكون راجعاً إما إلى الكتاب وإما إلى الحق لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم لكن رجوعه إلى الحق أولى لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكماً فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم والمختلف فيه محكوم عليه والحاكم يجب أن يكون مغايراً للمحكوم عليه
أما قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية إلى الكتاب والتقدير وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب ثم قال أكثر المفسرين المراد بهؤلاء اليهود والنصارى والله تعالى كثيراً ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( آل عمران 64 ) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضاً كقوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى ْء وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ( البقرة 113 ) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم فقوله وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلاً بل كان الإتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أن قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً معناه أمة واحدة في دين الحق(6/14)
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم
أما قوله تعالى بَغْياً بَيْنَهُمْ فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا ونظيره هذه الآية قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 4 )
أما قوله تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيا أهل الكتاب يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ونحن أولى الناس دخولاً الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا له والناس له فيه تبع وغداً لليهود وبعد غد للنصارى ) قال ابن زيد اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهودياً وقالت النصارى كان نصرانياً فقلنا أنه كان حنيفاً مسلماً واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا والنصارى أفرطوا وقلنا القول العدل وبقي في الآية مسائل
المسألة الأولى من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال لأن الهداية هي العلم والمعرفة وقوله فَهَدَى اللَّهُ نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير والاهتداء غير والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان الأول أن الهداية إلى الإيمان غير الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان والثاني أنه تعالى قال في آخر الآية بِإِذْنِهِ ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله فَهَدَى اللَّهُ إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه والتقدير فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه أحدها أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة(6/15)
كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) ثم قال هُدًى لّلنَّاسِ وثانيها أن المراد به الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة وثالثها هداهم إلى الحق بالألطاف
المسألة الثالثة قوله لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( المجادلة 3 ) أي إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي إلى ما قالوا ويقال هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق
فإن قيل لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ولم يقل هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف
والجواب من وجهين الأول أنه لما كانت العناية بذكر الإختلاف لهم بدأ به ثم فسره بمن هداه الثاني قال الفراء هذا من المقلوب أي فهداهم لما اختلفوا فيه
المسألة الرابعة قوله بِإِذْنِهِ فيه وجهان أحدها قال الزجاج بعلمه الثاني هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال قطعت بالسكين وذلك لأن الحق لم يكن متميزاً عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه الثالث قال بعضهم لا بد فيه من إضمار والتقدير هداهم فاهتدوا بإذنه
أما قوله وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فاستدلال الأصحاب به معلوم والمعتزلة أجابوا من ثلاثة أوجه أحدها المراد بالهداية البيان فالله تعالى خص المكلفين بذلك والثاني المراد بالهداية الطريق إلى الجنة الثالث المراد به اللطف فيكون خاصاً لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
في النظم وجهان الأول أنه تعالى قال في الآية السالفة وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم الآية الثاني أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استقصينا الكلام في لفظ أَمْ في تفسير قوله تعالى أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ(6/16)
الْمَوْتُ ( البقرة 133 ) والذي نريده ههنا أن نقول أَمْ استفهام متوسط كما أن هَلُ استفهام سابق فيجوز أن يقول هل عندك رجل أعندك رجل ابتداء ولا يجوز أن يقال أم عندك رجل فأما إذا كان متوسطاً جاز سواء كان مسبوقاً باستفهام آخر أو لا يكون أما إذاكان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك أنت رجل لا تنصف أفعن جهل تفعل هذا أم لك سلطان وأما الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام فهو كقوله الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 1 3 ) وهذا القسم يكون في تقدير القسم الأول والتقدير أفيؤمنون بهذا أم يقولون أفتراه فكذا تقدير هذه الآية فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فصبروا على استهزاء قومهم بهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم هذا ما لخصه القفال رحمه الله والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم أي ولم يأتكم مثل الذين خلوا وذكر الكوفيون من أهل النحو أن لَّمّاً إنما هي لَمْ و مَا زائدة وقال سيبويه مَا ليست زائدة لأن لَّمّاً تقع في مواضع لا تقع فيها لَمْ يقول الرجل لصاحبه أقدم فلان فيقول لَّمّاً ولا يقول لَمْ مفردة قال المبرد إذا قال القائل لم يأتني زيد فهو نفي لقولك أتاك زيد وإذا قال لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه قال النابغة أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
فعلى هذا قوله وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم يدل على أن إتيان ذلك متوقع منتظر
المسألة الثالثة قال ابن عباس لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ وقال قتادة والسدي نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن وكان كما قال سبحانه وتعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) وقيل نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبياً لما سلط الله عليكم الأسر والقتل فأنزل الله تعالى هذه الآية
واعلم أن تقدير الآية أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه وأن ينالكم من أذى الكفار ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين وهو المراد من قوله وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم والمثل هو المثل وهو الشبة وهما لغتان مثل ومثل كشبه وشبه إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ومنه قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 ) أي الصفة التي لها شأن عظيم
واعلم أن في الكلام حذفاً تقديره مثل محنة الذين من قبلكم وقوله مَسَّتْهُمْ بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال فكيف كان ذلك المثل فقال مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ( البقرة 214 )
أما الْبَأْسَاء فهو اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ومنه يقال فلان في بؤس وشدة(6/17)
وأما الضَّرَّاء فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه
وأما قوله وَزُلْزِلُواْ أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا قال الزجاج أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه فإذا قلت زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل نحو صر وصرصر وصل وصلصل وكف وكفكف وأقل الشيء أي رفعه من موضعه فإذا كرر قيل قلقل وفسر بعضهم زلزلوا ههنا بخوفوا وحقيقته غير ما ذكرنا وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد لأنه يذهب السكون فيجب أن يكون زلزلوا ههنا مجازاً والمراد خوفوا ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف ثم أنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئاً آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إجابة لهم إلى طلبهم فتقدير الآية هكذا كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق فإن نصر الله قريب لأنه آت وكل ما هو آت قريب وهذه الآية مثل قوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ( العنكبوت 1 3 ) وقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك والمصيبة إذا عمت طابت وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين
روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما نلقى من المشركين فقال ( إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه وايم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )
المسألة الرابعة قرأ نافع حَتَّى يَقُولَ برفع اللام والباقون بالنصب ووجهه أن حَتَّى إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما أن تكون بمعنى إلى وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل حَتَّى والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا تقول سرت حتى أدخلها أي إلى أن أدخلها(6/18)
فالسير والدخول قد وجدا مضياً وعليه النصب في هذه الآية لأن التقدير وزلزلوا إلى أن يقول الرسول والزلزلة والقول قد وجدا والثاني أن تكون بمعنى كي كقوله أطعت الله حتى أدخل الجنة أي كي أدخل الجنة والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد حَتَّى لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت كما حكيت الحال في قوله هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ ( القصص 15 ) وفي قوله وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) لأن هذا لا يصح إلا على سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام ويقال شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال يجيء البعير يجر بطنه ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب كقولك سرت حتى أدخل البلد فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى
المسألة الخامسة في الآية إشكال وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد مَتَى(6/19)
نَصْرُ اللَّهِ
والجواب عنه من وجوه أحدها أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء قال تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ( الحجر 97 ) وقال تعالى لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال تعالى حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّى َ ( يوسف 110 ) وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك قال عند ضيق قلبه مَتَى نَصْرُ اللَّهِ حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطالب قلبه والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعاً عن القرب ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال وهذا هو الجواب المعتمد
والجواب الثاني أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكر كلامين أحدهما مَتَى نَصْرُ اللَّهِ والثاني أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين فالذين آمنوا قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر أما القرآن فقوله وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار وأما من الشعر فقول امرىء القيس كأن قلوب الطير رطباً ويابسا
لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جداً
المسألة السادسة أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم إذ قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ثم قال الله عند ذلك أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم كأنهم لما قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ رجعوا إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم فقالوا أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك
فإن قيل قوله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها وذلك غير ثابت
قلنا لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام ويمكن أن يكون ذلك عاماً في حق الكل إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين إما أن يتخلص عنه وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصر وإنما جعله قريباً لأن الموت قريب
يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بالغ في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضاً عن طرب العاجل وأن يكون مشتغلاً بطلب الآجل وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ( البقرة 243 ) لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ليكون كل واحد منها مفوياً للآخر ومؤكداً له
الحكم الأول
فيما يتعلق بالنفقة هو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال عطاء عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل أتى للنبي عليه الصلاة والسلام فقال إن لي ديناراً فقال أنفقه على نفسك قال إن لي دينارين قال أنفقهما على أهلك قال إن لي ثلاثة قال أنفقها على خادمك قال إن لي أربعة قال أنفقها على والديك قال إن لي خمسه قال أنفقها على قرابتك قال إن لي ستة قال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها وروى الكلبي عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً هرماً وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية للنحويين في مَاذَا قولان أحدهما أن يجعل مَا مع ذَا بمنزلة اسم واحد ويكون الموضع نصباً بينفقون والدليل عليه أن العرب يقولون عماذا تسأل بإثبات الألف في مَا فلولا(6/20)
أن مَا مع ذَا بمنزلة اسم واحد لقالوا عماذا تسأل بحذف الألف كما حذفوها من قوله تعالى عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) وقوله فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( النازعات 43 ) فلما لم يحذفوا الألف من آخر مَا علمت أنه مع ذَا بمنزلة اسم واحد ولم يحذفوا الألف منه لما لم يكن آخر الاسم والحذف يلحقها إذا كان آخراً إلا أن يكون في شعر كقوله غلاماً قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والقول الثاني أن يجعل ذَا بمعنى الذي ويكون مَا رفعاً بالابتداء خبرها ذَا والعرب قد يستعملون ذَا بمعنى الذي فيقولون من ذا يقول ذاك أي من ذا الذي يقول ذاك فعلى هذ يكون تقدير الآية يسألونك ما الذي ينفقون
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف أجابهم بهذا
والجواب عنه من وجوه أحدها أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود وذلك لأن قوله مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ جواب عن السؤال ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفاً إلى جهة الإستحقاق فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلاً للبيان وثانيها قال القفال إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ مَا إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذين أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال ونظيره قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ ( البقرة 70 71 ) وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا فقوله مَا هِى َ لا يمكن حمله على طلب الماهية فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها فبهذا الطريق قلنا إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم مَاذَا يُنفِقُونَ ليس هو طلب الماهية بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب وثالثها يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالاً حلالاً وبشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان فقال للطبيب ماذا آكل فيقول الطبيب كل في اليوم مرتين كان المعنى كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق فقدم الوالدين وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ولذلك قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ ( الإسراء 23 ) وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين لأن(6/21)
الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض والترجيح لا بد له من مرجح والقرابة تصلح أن تكون سبباً للترجيح من وجوه أحدها أن القرابة مظنة المخالطة والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر فإذا كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً كان اطلاع الفقير على الغني أتم واطلاع الغني على الفقير أتم وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها أنه لو لم يراع جانب الفقير احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعاً للضرر عن النفس وثالثها أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب وأشرب على الضياع ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الاحتياج والفقر فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلباً لجزيل ثوابه وهرباً من أليم عقابه فإن الله به عليم والعليم مبالغة في كونه عالماً يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ( آل عمران 19 ) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 )
المسألة الخامسة المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) وقال إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ ( البقرة 180 ) فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة وهذا أولى
المسألة السادسة قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها أحدها قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت وأيضاً فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة وثانيها أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى(6/22)
فيكون المراد به التطوع وثالثها أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة ورابعها يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ
الحكم الثاني
فيما يتعلق بالقتال
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين ثم أذن له في قتال المشركين عامة ثم فرض الله الجهاد واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم إنها تقتضي وجوب القتال على الكل وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب ونقل عن ابن عمر وعطاء أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط حجة الأولين أن قوله كِتَابَ يقتضي الوجوب وقوله عَلَيْكُمْ يقتضيه أيضاً والخطاب بالكاف في قوله عَلَيْكُمْ لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 )
فإن قيل ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان أو على الكفاية
قلنا بل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان لأن قوله عَلَيْكُمْ أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ حجة عطاء أن قوله كِتَابَ يقتضي الإيجاب ويكفي في العمل به مرة واحدة وقوله عَلَيْكُمْ يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت إلا أنا قلنا إن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك بدلالة منفصلة وهي الإجماع وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلى قالوا ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( النساء 95 ) ولو كان القاعد مضيعاً فرضاً لما كان موعوداً بالحسنى اللهم إلا أن يقال الفرض كان ثابتاً ثم نسخ إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل والله أعلم(6/23)
المسألة الثانية قوله وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله كُتِبَ عَلَيْكُمْ أن هذا الخطاب مع المؤمنين والعقل يدل عليه أيضاً لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر وإذا كان كذلك فكيف قال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارهاً لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله تعالى وتكاليفه بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده
والجواب من وجهين الأول أن المراد من الكره كونه شاقاً على النفس والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلاً شاقاً على النفس لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة فلذلك أشق الأسياء على النفس القتال الثاني أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم
المسألة الثالثة الكره بضم الكاف هو الكراهة بدليل قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ثم فيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى وضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقول الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له والثاني أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبر بمعنى المخبور أي وهو مكروه لكم وقرأ السلمي بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم ومنه قوله تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ( الأحقاف 15 ) والله أعلم وقال بعضهم الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه وإذا كان بالإكراه فبالفتح
أما قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى عَسَى فعل درج مضارعه وبقي ماضيه فيقال منه عسيتما وعسيتم قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( محمحد 22 ) ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل فتقول عسى زيد كما تقول قام زيد ومعناه قرب قال تعالى قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ( النمل 72 ) أي قرب فقولك عسى زيد أن يقوم تقديره عسى قيام زيد أي قرب قيام زيد
المسألة الثانية معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ولكن فيه أنواع من المضار منها أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة(6/24)
والمشقة والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت ومنها وجدان الغنيمة ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا وذلك من أعظم سعادات الإنسان
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ
المسألة الثالثة الشَّرَّ السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف ومنه قوله وحتى أشرت بالأكف المصاحف
والشرر اللهب لانبساطه فعلى هذا لِلنَّاسِ الشَّرَّ انبساط الأشياء الضارة
المسألة الرابعة عَسَى توهم الشك مثل لَعَلَّ وهي من الله تعالى يقين ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل أما إن قلنا بأنها بمعنى لَعَلَّ فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 183 ) قال الخليل عَسَى من الله واجب في القرآن قال فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ ( المائدة 52 ) وقد وجد وَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ( يوسف 83 ) وقد حصل والله أعلم
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه وكمال علم الله تعالى ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(6/25)
يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَة ُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأُوْلائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع فنزلت الآية فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين
الفريق الثاني وهم أكثر المفسرين رووا عن ابن عباس أنه قال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتاباً وعهداً ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير فقال عبد الله سمعاً وطاعة لأمره فقال لأصحابه من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فضجت قريش وقالوا قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضاً قد استبعدوا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها أن أكثر الحاضرين عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مسلمين وثانيها أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب(6/26)
مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وهو خطاب مع المسلمين وقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( البقرة 219 220 ) وثالثها روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
والقول الثاني أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز
المسألة الثانية قوله تعالى قِتَالٍ فِيهِ خفص على البدل من الشهر الحرام وهذا يسمى بدل الإشتمال كقولك أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله وسلب زيد ثوابه قال تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ( البروج 4 5 ) وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع ونظيره قوله تعالى لِلَّذِينَ الاْعْرَافِ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ وقرأ عكرمة قَتْلَ فِيهِ
أما قوله تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قِتَالٍ فِيهِ مبتدأ و كَبِيرٌ خبره وقوله قِتَالٍ وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله فِيهِ فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله كَبِيرٌ أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ( الكهف 5 )
فإن قيل لم نكر القتال في قوله تعالى قِتَالٍ فِيهِ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( الشرح 6 )
قلنا نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش فقال تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الفكر فكيف يكون هذا من الكبائر إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه وباطنه يكون موافقاً للحق وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة فسبحان من له تحت كل كلمة من(6/27)
كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب
المسألة الثانية اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا على سبيل الدفع روى جابر قال لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام قال نعم قال أبو عبيد والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز
والحجة في إباحته قوله تعالى فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام والذي عندي أن قوله تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فرداً واحداً ولا يتناول كل الأفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقاً في الشهر الحرام فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه
أما قوله تعالى وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى للنحويين في هذه الآية وجوه الأول قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج أن قوله وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ كلها مرفوعة بالابتداء وخبرها قوله أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ والمعنى أن القتال الذي سألتم عنه وإن كان كبيراً إلا أن هذه الأشياء أكبر منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذراً ظاهراً فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ ( البقرة 44 ) ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 ) وهذا وجه ظاهر إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وذكروا فيه وجهين أحدهما أنه عطف على الهاء في به والثاني وهو قول الأكثرين أنه عطف على سَبِيلِ اللَّهِ قالوا وهو متأكد بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الحج 25 )
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير فإنه لا يقال مررت به وعمرو وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فقوله عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( المائدة 2 ) صلة للصد والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزاً
أجيب عن الأول لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير وكفر به وبالمسجد الحرام والإضمار في كلام الله ليس بغريب ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولاً بالاتفاق فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولاً وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين الأول أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى فكأنه لا فصل الثاني أن موضع قوله وَكُفْرٌ بِهِ عقيب قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلا أنه قدم(6/28)
عليه لفرط العناية كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدًا كان من حق الكلام أن يقال ولم يكن له أحد كفواً إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا
الوجه الثاني في هذه الآية وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عطف بالواو على الشهر الحرام والتقدير يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ثم بعد هذا طريقان أحدهما أن قوله قِتَالٍ فِيهِ مبتدأ وقوله كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ خبر بعد خبر والتقدير إن قتلاً فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله وبأنه كفر بالله
والطريق الثاني أن يكون قوله قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ جملة مبتدأ وخبر وأما قوله وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فهو مرفوع بالابتداء وكذا قوله وَكُفْرٌ بِهِ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ونظيره قولك زيد منطلق وعمرو تقديره وعمرو منطلق طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا أما قولكم تقدير الآية يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعاً عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً بالله وهو خطأ بالإجماع وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر وهو خطأ بالإجماع
وأقول للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً
قلنا يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفراً ونحن نقول به لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم وعندنا أن قتالاً واحداً في المسجد الحرام كفر ولا يلزم أن كل قتال كذلك وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر قلنا المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفراً فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلماً وكفراً أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفراً وحده فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء
القول الثالث في الآية قوله قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سُبُلَ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وجهه ظاهر وهو أن قتالاً فيه موصوف بهذه الصفات وأما الخفض في قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزناً
المسألة الثانية أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه أحدها أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام وثانيها صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام وثالثها صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت ولقائل أن يقول الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في(6/29)
معلوم الله تعالى كان كالواقع وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلاً للرسل مستحقاً للعبادة قادراً على البعث وأما قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فإن عطفناه على الضمير في بِهِ كان المعنى وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع ومن قال إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى وصد عن المسجد الحرام وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكين والركع السجود
وأما قوله تعالى وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلُهَا ( الفتح 26 ) وقال تعالى وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهذا تفريع على قول الزجاج وإنما قلنا إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين أحدهما أن كل واحد من هذه الأشياء كفر والكفر أعظم من القتال والثاني أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش وهو ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر
أما قوله تعالى وَالْفِتْنَة ُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فقد ذكروا في الفتنة قولين أحدهما هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين وهو عندي ضعيف لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك فإنه تعالى قال وَكُفْرٌ بِهِ أَكْبَرَ فحمل الفتنة على الفكر يكون تكراراً بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء
والقول الثاني أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه ومنه قوله تعالى إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ ( التغابن 15 ) أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده فصار ذلك مانعاً له عن الإنفاق وقال تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 1 2 ) أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء وقال وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( طه 40 ) وإنما هو الامتحان بالبلوى وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( البروج 10 ) والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم وقال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( النساء 101 ) وقال مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 162 163 ) وقال فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ ( آل عمران 7 ) أي المحنة في الدين وقال وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( المائدة 49 ) وقال رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( الممتحنة 5 ) وقال رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( يونس 85 ) والمعنى أن يفتنوا(6/30)
بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 65 ) قيل المفتون المجنون والجنون فتنة إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان وإنما قلنا إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي
روى أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام قال ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا والمعنى ظاهر ونظيره قوله تعالى والمعنى ظاهر ونظيره قوله تعالى وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ( البقرة 120 )
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما زال يفعل كذا ولا يزال يفعل كذا قال الواحدي هذا فعل لا مصدر له ولا يقال منه فاعل ولا مفعول ومثاله في الأفعال كثير نحو عَسَى ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك ذو وما فتىء وهلم وهاك وهات وتعال ومعنى لا يَزَالُونَ أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه ما كان ذلك نفياً للنفي فيكون دليلاً على الثبوت الدائم
المسألة الثانية قوله حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى ليردوكم
المسألة الثالثة قوله إِنِ اسْتَطَاعُواْ استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق على وهو واثق بأنه لا يظفر به
ثم قال تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي قوله وَمَن يَرْتَدِدْ أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني وهو أكثر في اللغة من الإدغام وقوله فَيَمُتْ هو جزم بالعطف على يَرْتَدِدْ وجوابه لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
المسألة الثانية لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم ذكر بعده وعيداً شديداً على الردة فقال وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ واستوجب العذاب الدائم في النار
المسألة الثالثة ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه قالوا لأن من كان مؤمناً ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال وإما(6/31)
أن يقال إن الطارىء يزيل السابق وهذا محال لوجوه أحدها أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارىء فليس كون الطارىء مزيلاً للسابق أولى من كون السابق دافعاً للطارىء بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وثانيها أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين كان شرط طريان الطارىء زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثالثها أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارىء إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع وإن ازداد أحدهما على الآخر فلنفرض أن السابق أزيد فعند طريان الطارىء لا يزول إلا ما يساويه فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية فيكون ذلك ترجيحاً من غير مرجح وهو محال لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارىء الزائد يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارىء دون البعض وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحاً للمثل من غير مرجح وهو محال فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمناً ثم كفر فذلك الإيمان السابق وإن كنا نظنه إيماناً إلا أنه ما كان عند الله إيماناً فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيماناً والكفر كفراً وهذا هو الذي دلت الآية عليه فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة
أما البحث الفروعي فهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت قال الشافعي رحمه الله لا إعادة عليه وقال أبو حنيفة رحمه الله لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه قوله تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط فوجب أن لا يصير عمله محبطاً فإن قيل هذا معارض بقوله وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) وقوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 ) لا يقال حمل المطلق على المقيد واجب
لأنا نقول ليس هذا من باب المطلق والمقيد فإنهم أجمعوا على أن من علق حكماً بشرطين وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجه كمن قال لعبده أنت حر إذا جاء يوم الخميس أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة لا يبطل واحد منهما بل إذا جاء يوم الخميس عتق ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول
والسؤال الثاني عن التمسك بهذه الآية أن هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام الخلود في النار وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط وإنما الخلاف في حبط الأعمال وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه
والجواب أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعاً من تعليقه بالآخر وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً في شيء من الأوقات فعلمنا أن(6/32)
هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد
وأما السؤال الثاني فجوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط
أما قوله تعالى فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث ( وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم ) فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه
المسألة الثانية المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال ثم اختلف المتكلمون فيه فقال المثبتون للإحباط والتكفير المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط وإما أن لا يكون فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه وإن كان مجازاً وجب المصير إليه لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال
المسألة الثالثة أما حبوط الأعمال في الدنيا فهو أنه يقتل عند الطفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين ويجوز أن يكون المعنى في قوله حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالإنتقال عن دينهم يبطل كله فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة وعند المنكرين لذلك معناه أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(6/33)
في الآية مسألتان
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن عبد الله بن جحش قال يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت هذه الآية لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً والثاني أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد
المسألة الثانية هَاجَرُواْ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ومنه قيل للكلام القبيح هجر لأنه مما ينبغي أن يهجر والهاجرة وقت يهجر فيه العمل والمهاجرة مفاعلة من الهجرة وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو وعند فعل العدو ومثل ذلك فتصير مفاعلة
ثم قال تعالى أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وفيه قولان الاْوَّلِ أن المراد منه الرجاء وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالفوز والثواب في عمله بل كان يتوقعه ويرجوه
فإن قيل لم جعل الوعد مطلقاً بالرجاء ولم يقع به كما في سائر الآيات
قلنا الجواب من وجوه أحدها أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلاً بل بحكم الوعد فلذلك علقه بالرجاء وثانيها هب أنه واجب عقلاً بحكم الوعد ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها أن المذكور ههنا هو الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء كما قال وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ ( المؤمنون 60 )
القول الثاني أن المراد من الرجاء القطع واليقين في أصل الثواب والظن إنما دخل في كميته وفي وقته وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح وأنه غفور رحيم غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم(6/34)
الحكم الثالث
في الخمر
يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعاً عن الحل والحرمة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالوا نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ( النحل 67 ) وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قوله تعالى قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فنزلت لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) فقل من شربها ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) فقال عمر انتهينا يا رب قال القفال رحمه الله والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ثم نزل قوله تعالى لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر فكان المنع من ذلك منعاً من الشرب ضمناً ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر
المسألة الثانية اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر(6/35)
أما المقام الأول في بيان أن الخمر ما هو قال الشافعي رحمه الله كل شرب مسكر فهو خمر وقال أبو حنيفة الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها ما روى أبو داود في ( سننه ) عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة والخمر ما خامر العقل وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمراً وثانيها أنه قال حرمت الخمر يوم حرمت وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمر وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب ولا شك أن عمر كان عالماً باللغة وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره
الحجة الثانية روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً وإن من العسل خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً ) والاستدلال به من وجهين أحدهما أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة قال الخطابي رحمه الله وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة فحكمها حكم هذه الخمسة كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها
الحجة الثالثة روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) قال الخطابي قوله عليه السلام ( كل مسكر خمر ) دل على وجهين أحدهما أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر وكان مسمي الخمر مجهولاً للقوم حسن من الشارع أن يقال مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية أو على سبيل أن يضع اسماً شرعياً على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمراً فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازاً على المشابهة في الحكم الذي هو خاصية ذلك الشيء
الحجة الرابعة روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن البتع فقال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) قال الخطابي البتع شراب يتخذ من العسل وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة وإفساد لقول من قال إن القليل من المسكر مباح لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس فيدخل فيه القليل والكثير منها ولو كان هناك تفصيل في شيء(6/36)
من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله
الحجة الخامسة روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )
الحجة السادسة روى أيضاً عن القاسم عن عائشة قالت سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) قال الخطابي ( الفرق ) مكيال يسع ستة عشر رطلاً وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب
الحجة السابعة روى أبو داود عن شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن كل مسكر ومفتر قال الخطابي المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر وهو حرام
النوع الثاني من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات قال أهل اللغة أصل هذا الحرف التغطية سمي الخمار خماراً لأنه يغطي رأس المرأة والخمر ما واراك من شجر وغيره من وهدة وأكمة وخمرت رأس الإناء أي غطيته والخامر هو الذي يكتم شهادته قال ابن الأنباري سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه يقال خامره الداء إذا خالطه وأنشد لكثير هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
ويقال خامر السقام كبده وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل أي تحجزه وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً إذا ستره للمبالغة ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر لأن السكر يغطي العقل ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز لأنا نقول ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات ومسمى الصوم هو الإمساك ويثبتونه بالاشتقاقات
النوع الثالث من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما هذه الآية والثانية آية المائدة والثالثة وردت في السكر وهو قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر
النوع الرابع من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذاً قالا يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل مذهبة للمال فبين لنا فيه فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل فوجب أن يكون كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في هذا الحكم(6/37)
النوع الخامس من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ ( المائدة 91 ) ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر وهذا التعليل يقيني فعلى هذا تكون هذه الآية نصاً في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر وكل من أنصف وترك العناد علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها قوله تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ( النحل 67 ) من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن وما نحن فيه سكر ورزق حسن فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح
والحجة الثانية ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها وقال اسقوني فقال العباس ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا فقال ما تسقي الناس فجاءه بقدح من نبيذ فشمه فقطب وجهه ورده فقال العباس يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم فقال ردوا على القدح فردوه عليه فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب وقال إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا منتها بالماء
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ولأن اغتلام الشراب شدته كاغتلام البعير سكره
الحجة الثالثة التمسك بآثار الصحابة
والجواب عن الأول أن قوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا نكرة في الإثبات فلم قلتم إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة أو مخصصة لها
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلاً إلى الحموضة وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم فلذلك قطب وجهه وأيضاً كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر
المقام الثاني في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم والإثم حرام لقوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى َ ( الأعراف 33 ) فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر الثاني أن الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث أنه تعالى قال وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا صرح برجحان الإثم والعقاب وذلك يوجب التحريم(6/38)
فإن قيل الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم بل تدل على أن فيه إثماً فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراماً
قلنا لأن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر فلما بين تعالى أن فيه إثماً كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرمة ومستلزم المحرم محرم فوجب أن يكون الشرب محرماً ومنهم من قال هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر واحتج عليه بوجوه أحدها أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة الثالث أنه تعالى أخبر أن فيهما إثماً كبيراً فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلاً ما داما موجودين فلو كان ذلك الإثم الكبير سبباً لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع
والجواب عن الأول أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرماً ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعاً من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام
والجواب عن الثاني أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكوناً وطمأنينة
والجواب عن الثالث أن قوله فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ إخبار عن الحال لا عن الماضي وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب
المسألة الثالثة في حقيقة الميسر فنقول الميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما يقال يسرته إذا قمرته واختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها قال مقاتل اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب كانوا يقولون يسروا لنا ثمن الجزور أو من اليسار لأنه سبب يساره وعن ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها قال ابن قتيبة الميسر من التجزئة والاقتسام يقال يسروا الشيء أي اقتسموه فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة والياسر الجازر لأنه يجزىء لحم الجزور ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور وثالثها قال الواحدي إنه من قولهم يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسراً إذا وجب والياسر الواجب بسبب القداح هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة
وأما صفة الميسر فقال صاحب ( الكشاف ) كانت لهم عشرة قداح وهي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس بفتح الحاء وكسر اللام وقيل بكسر الحاء وسكون اللام والمسبل والمعلي والنافس والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء وقيل ثمانية وعشرين جزءاً إلا ثلاثة وهي المنيح والسفيح والوعد ولبعضهم في هذا المعنى شعر(6/39)
لي في الدنيا سهام
ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد
وسفيح ومنيح
فللفذ سهم وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلي سبعة يجعلونها في الربابة وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم
المسألة الرابعة اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين أو هو اسم لجميع أنواع القمار روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم ) وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال النرد والشطرنج من الميسر وقال الشافعي رضي الله عنه إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو أخذ مال وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً والله أعلم أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه
المسألة الخامسة الإثم الكبير فيه أمور أحدها أن عقل الإنسان أشرف صفاته والخمر عدو العقل وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور وتقريره أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانع منها والتقريب بعد ذلك معلوم ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ويقول الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى بخلاف سائر المعاصي مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم بخلاف الشرب فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه أكثر ورغبته فيه أتم فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقاً في اللذات البدنية معرضاً عن تذكر الآخرة والمعاد حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وبالجملة فالخمر يزيل العقل وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الخمر أم الخبائث ) وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة وأيضاً لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضاً يورث العداوة لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجاناً أبغضه جداً وهو أيضاً يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فمنافع الخمر أنهم(6/40)
كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه ويسلي المحزون ويشجع الجبان ويسخي البخيل ويصفي اللون وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير فيحصل له مال من غير كد وتعب ثم يصرفه إلى المحتاجين فيكتسب منه المدح والثناء
المسألة السادسة قرأ حمزة والكسائي كَثِيرٍ بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي أن الله وصف أنواعاً كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( المائدة 91 ) فذكر أعداداً من الذنوب فيهما ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعن عشرة بسبب الخمر وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال فيهما إثم ومنافع وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيراً يدل عليه قوله تعالى كَبَائِرَ الإثْمِ ( النجم 32 ) كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) وأيضاً القراء اتفقوا على قوله وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ بالباء المنقوطة من تحت وذلك يرجح ما قلناه
الحكم الرابع
في الإنفاق
قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ(6/41)
اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية قال القفال قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا فيقول هو رجل من مذهبه كذا ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه فأعلمهم الله أن العفو مقبول وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله أصل العفو في اللغة الزيادة قال تعالى خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف 199 ) أي الزيادة وقال أيضاً حَتَّى عَفَواْ ( الأعراف 95 ) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلاً عن الكفاية يقال خذ ما عفا لك أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسر والتسهيل قال عليه الصلاة والسلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم ) معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق ويقال أعفى فلان فلاناً بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة وهو راجع إلى التخفيف ويقال أعطاه كذا عفواً صفواً إذا لم يكدر عليه بالأذى ويقال خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر ومنه قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف 199 ) أي ما سهل لك من الناس ويقال للأرض السهلة العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ ( الإسراء 26 27 ) وقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ وقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول وهكذا وهكذا ) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الصدقة ما أبقت غني ولا يلام على كفاف ) وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أتاه من بين يديه فقال هاتها مغضباً فأخذها منه ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته ثم قال يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحبس لأهله قوت سنة وقال الحكماء الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط فالإنفاق الكثير هو التبذير والتقليل جداً هو التقتير والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله قُلِ الْعَفْوَ ومدار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة وشرع النصارى على المسامحة التامة وشرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) متوسط في كل هذه الأمور فلذلك كان أكمل من الكل
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو ( العفو ) بضم الواو والباقون بالنصب فمن رفع جعل ذَا بمعنى الَّذِى وينفقون صلته كأنه قال ما الذي ينفقون فقال هو العفو ومن نصب كان التقدير ما ينفقون وجوابه ينفقون العفو
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع أما القائلون بأنه هو(6/42)
الإنفاق الواجب فلهم قولان الأول قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم ثم ينفقوا الباقي ثم صار هذا منسوخاً بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة
القول الثاني أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضاً لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض
وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئاً على سبيل الإجمال ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر
أما قوله كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون
وقوله لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ فيه وجوه الأول قال الحسن فيه تقديم وتأخير والتقدير كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون والثاني كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولاً عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز
الحكم الخامس
في اليتامى
فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده ثم إن الله تعالى أنزل قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُواْ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وأنزل في الآيات وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقوله وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا(6/43)
( النساء 127 ) وقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم فثقل ذلك على الناس وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم استعدوا للوعيد الشديد وإن تركوا وأعرضوا عنهم اختلت معيشة اليتامى فتحير القوم عند ذلك
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة يحتمل أن السؤال كان في قلبهم وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب فأنزل الله تعالى هذه الآية ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً وطعاماً وشراباً فعظم ذلك على ضعفة المسلمين فقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله مالكنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاماً وشراباً يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ فيه وجوه أحدها قال القاضي هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ويدخل فيه أيضاً معنى قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ ( النساء 2 ) ومعنى قوله خَيْرٌ يتناول حال المتكفل أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم ويتناول حال اليتيم أيضاً أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي
فإن قيل ظاهر قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم
قلنا ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحاً له فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها قول من قال الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً له والثالث أن يكون الخبر عائداً إلى اليتيم والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم والقول الأول أولى لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي وإلى اليتيم في إصلاح النفس وإصلاح المال وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه واليتيم في ماله وفي نفسه فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية
أما قوله تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز ومنه يقال للجماع الخلاط ويقال خولط الرجل(6/44)
إذا جن والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله
المسألة الثانية في تفسير الآية وجوه أحدها المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم والمعنى أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين والاجتماع في المسكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنياً أو فقيراً ومنهم من قال إذا كان القيم غنياً لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز واحتجوا عليه بقوله تعالى وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وأما إن كان القيم فقيراً فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثم قضيت وعن مجاهد أنه إذا كان فقيراً وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه
القول الثالث أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي
والقول الرابع وهو اختيار أبي مسلم أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح على نحو قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ ( النساء 3 ) وقوله عز من قائل وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء ( النساء 127 ) قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها أن الشركة داخلة في قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها أن قوله تعالى فَإِخوَانُكُمْ يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً فوجب أن تكون الإشارة بقوله فَإِخوَانُكُمْ إلى نوع آخر من المخالطة ورابعها أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك
المسألة الثالثة قوله فَإِخوَانُكُمْ أي فهم إخوانكم قال الفراء ولو نصبته كان صواباً والمعنى فإخوانكم تخالطون
أما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فقيل المفسد لأموالهم من المصلح لها وقيل يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح يعني إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضاً آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم وهذا تهديد عظيم والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه وليس له أحد يراعيها(6/45)
فكأنه تعالى قال لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه وقيل والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئاً من غير إصلاح منكم لمالهم
أما قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( الإعنات ) الحمل على مشقة لا تطاق يقال أعنت فلان فلاناً إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتاً إذا لبس عليه في سؤاله وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل الْعَنَتَ من المشقة وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدوداً ومنه قوله تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ( التوبة 128 ) أي شديد عليه ما شق عليكم ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً وقال عطاء ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم وقال الزجاج ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية فقال إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه لأن قوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف ولو كان مكلفاً بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضاً فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه ولا سبيل له إلى فعله وأيضاً فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ
والجواب عنه المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى والله أعلم
الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَة ٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ(6/46)
إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن هذه الآية نظير قوله وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وقرىء بضم التاء أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع أو هو متعلق بما تقدم فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم وقال أبو مسلم بل هو متعلق بقصة اليتامى فإنه تعالى لما قال وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد حليفاً لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناساً من المسلمين بها سراً فعند قدومه جاءته امرأته يقال لها عناق خليلة له في الجاهلية أعرضت عنه عند الإسلام فالتمست الخلوة فعرفها أن الإسلام يمنع من ذلك ثم وعدها أن يستأذن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يتزوج بها فلما انصرف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عرفه ما جرى في أمر عناق وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية اختلف الناس في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله إنه حقيقة في العقد واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا نكاح إلا بولي وشهود ) وقف النكاح على الولي والشهود والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء والثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء فلو كان النكاح اسماً للوطء لامتنع كون النكاح مقابلاً للسفاح وثالثها قوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ( النور 32 ) ولا شك أن لفظ أنكحوا لا يمكن حمله إلا على العقد ورابعها قول الأعشى أنشده الواحدي في ( البسيط ) فلا تقربن من جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأيما
وقوله فانكحن لا يحتمل إلا الأمر بالعقد لأنه قال ( لا تقربن جارة ) يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة أنه حقيقة في الوطء واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله تعالى الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه(6/47)
الصلاة والسلام ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام ( ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون ) أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء يقال نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ونكح النعاس عينه وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى وقال الشاعر التاركين على طهر نساءهم
والناكحين بشطي دجلة البقرا
وقال المتنبي أنكحت صم حصاها خف يعملة
تعثرت بي إليك السهل والجبلا
ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد فوجب حمله عليه ومن الناس من قال النكاح عبارة عن الضم ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعاً قال ابن جني سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة فقال فرقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس فإذا قالوا نكح فلان فلانة أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا غير المجامعة لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح
المسألة الثالثة اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب فأنكر بعضهم ذلك والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى صَاغِرُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) ثم قال في آخر الآية سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( التوبة 31 ) وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك وثانيها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة ولما كان كان ذلك باطلاً علمنا أن كفرهما شرك وثالثها قوله تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( المائدة 73 ) فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة والأول باطل لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ومن كونه حياً وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتاً ثلاثة قديمة مستقلة ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك وقول بإثبات الآلهة فكانوا مشركين وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق ورابعها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميراً وقال إذا لقيت عدداً من المشركين فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم سمي(6/48)
من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك وخامسها ما احتج به أبو بكر الأصم فقال كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين لأنهم كانوا يقولون فيها إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين فالقوم قد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادراً على خلق هذه الأشياء واعترض القاضي فقال إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الأمور الخارجة عن قدرة البشر فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركاً أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب ذلك إلى غير الله تعالى
والجواب أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركاً كما أن إنساناً لو قال إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند حلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركاً فكذا ههنا فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك وإنما قلنا أنه تعالى فصل لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( الحج 17 ) وقال أيضاً مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ( البقرة 105 ) وقال لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( البينة 1 ) ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر وذلك يوجب التغاير
والجواب أن هذا مشكل بقوله تعالى أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) وبقوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيهاً على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور قلنا فههنا أيضاً إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الإسم تنبيهاً على كمال درجتهم في هذا الكفر فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم وقوع هذا الإسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك وقال الجبائي والقاضي هذا الإسم من جملة الأسماء الشرعية واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافراً بالمشرك ومن كان في الكفار من لا يثبت إلهاً أصلاً أو كان شاكاً في وجوده أو كان شاكاً في وجود الشريك وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكراً للبعث والقيامة فلا جرم كان منكراً للبعثة والتكليف وما كان يعبد شيئاً من الأوثان والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم بل كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية بل من الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة وغيرهما وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الإسم فهذا جملة الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق(6/49)
المسألة الرابعة الذين قالوا إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا إن قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ نهى عن نكاح الوثنية أما الذين قالوا إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا ظاهر قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلاً سواء كانت من أهل الكتاب أو لا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب
قلنا هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر ومن كن على الإيمان من أول الأمر ولأن قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( البقرة 101 ) يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك فكان هذا إجماعاً على الجواز
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه أتزعم أنها حرام فقال لا ولكنني أخاف
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ) ويدل عليه أيضاً الخبر المشهور وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الإستثناء عبثاً واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ صريح في تحريم نكاح الكتابية والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر فوجب المصير إليه ثم قالوا وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ والوصف إذا ذكر عقيب الحكم وكان الوصف مناسباً للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية فوجب القطع بكونها محرمة
والحجة الثانية لهم أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة فلما تعارض دليل الحرمة تساقطاً فوجب بقاء حكم الأصل وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا
الحجة الثالثة لهم حكى محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات واحتج بقوله تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 ) وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها
الحجة الرابعة التمسك بأثر عمر حكى أن طلحة نكح يهودية وحذيفة نصرانية فغضب عمر(6/50)
رضي الله عنه عليهما غضباً شديداً فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب فقال إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم
أجاب الأولون عن الحجة الأولى بأن من قال اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط ومن سلم ذلك قال إن قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) أخص من هذه الآية فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله وَالْمُحْصَنَاتُ ناسخاً وإن لم تثبت جعلناه مخصصاً أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه أما قوله ثانياً أن تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار وهذا المعنى قائم في الكتابية قلنا الفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة فلعل الزوج يحبها ثم أنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين وهذا المعنى غير موجود في الذمية لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة أما قوله ثالثاً إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا فنقول لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر فلم يحصل سبب الترجيح فيه
أما قوله ههنا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) أخص من قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مطلقاً فوجب حصول الترجيح
وأما التمسك بقوله تعالى فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 )
فجوابه أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم
وأما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنه قال ليس بحرام وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال والله أعلم
المسألة الخامسة اتفق الكل على أن المراد من قوله حَتَّى يُؤْمِنَّ الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان ههنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم ههنا الإقرار فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه أحدها أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم ( البقرة 11 ) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ كذباً وثالثها قوله قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( الحجرات 14 ) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ كذباً ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الإطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب(6/51)
المسألة السادسة نقل عن الحسن أنه قال هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتاً من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة
أما قوله تعالى وَلامَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَة ٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم اللام في قوله وَلامَة ٌ في إفادة التوكيد تشبه لام القسم
المسألة الثانية الخير هو النفع الحسن والمعنى أن الشركة لو كانت ثابة في المال والجمال والنسب فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حركة مشركة واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما أن اللفظ مطلق والثاني أن قوله وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يدل على صفة الحرية لأن التقدير ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها فكل ذلك داخل تحت قوله وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
المسألة الثالثة قال الجبائي إن الآية دالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة وذلك لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بالأمة لكن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الكفر والإيمان لا يتفاوت بقدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة وهذا استدلال لطيف في هذه المسألة
المسألة الرابعة في الآية إشكال وهو أن قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ يقتضي حرمة نكاح المشركة ثم قوله وَلامَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَة ٍ يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الفة ولأحدهما مزية
قلنا نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعاً إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى فاندفع السؤال والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة
وقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ فالكلام فيه على نحو ما تقدم
أما قوله أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية نظير قوله مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ( غافر 41 )(6/52)
فإن قيل فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلاً فكيف يدعون إليها
وجوابه أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه
فإن قيل احتمال المحبة حاصل من الجانبين فكما يحتمل أن يصير المسلم كافراً بسبب الألفة والمحبة يحتمل أيضاً أن يصير الكافر مسلماً بسبب الألفة والمحبة وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا فيبقى أصل الجواز
قلنا إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع وبين أن يلحقه ضرر عظيم وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق
التأويل الثاني أن في الناس من حمل قوله أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وبين غيرها فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق
التأويل الثالث أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّة ِ حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ ففيه قولان
القول الأول أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة فكأنه قيل أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة والثاني أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها قال وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة
أما قوله بِإِذْنِهِ فالمعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة ونظيره قوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( يونس 100 ) وقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) وقوله وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة 102 ) وقرأ الحسن وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره
أما قوله تعالى وَيُبَيِنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فمعناه ظاهر(6/53)
الحكم السابع
في المحيض
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة فذكر الثلاثة الأول بغير الواو وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ وسألو عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا والسؤال عن كذا
المسألة الثانية روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن فقال ناس من الأعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه الصلاة والسلام إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم فلما سمع اليهود ذلك قالوا هذا الرجل يريد أن لا يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه ثم جاء عباد بن بشير وأسيد بن حضير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبراه بذلك وقالا يا رسول الله أفلا ننكحهن في المحيض فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى ظننا أنه غضب عليها فقاما فجاءته هدية من لبن فأرسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما
المسألة الثالثة أصل الحيض في اللغة السيل يقال حاض السيل وفاض قال الأزهري ومنه قيل للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل إليه والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو لأنهما من جنس واحد
إذا عرفت هذا فنقول إن هذا البناء قد يجيء للموضع كالمبيت والمقيل والمغيب وقد يجيء أيضاً بمعنى المصدر يقال حاضت محيضاً وجاء مجيئاً وبات مبيتاً وحكى الواحدي في ( البسيط ) عن ابن السكيت إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل وحاض يحيض وأشباهه فإن الإسم منه مكسور والمصدر مفتوح من ذلك مال ممالا وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم وبالفتح إلى المصدر(6/54)
ولو فتحهما جميعاً أو كسرهما في المصدر والاسم لجاز تقول العرب المعاش والمعيش والمغاب والمغيب والمسار والمسير فثبت أن لفظ المحيض حقيقة في موضوع الحيض وهو أيضاً اسم لنفس الحيض وإذا ثبت هذا فاعلم أن أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض ههنا الحيض وعندي أنه ليس كذلك إذ لو كان المراد بالمحيض ههنا الحيض لكان قوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ معناه فاعتزلوا النساء في الحيض ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض فيكون ظاهره مانعاً من الإستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية فاعتزلوا النساء في موضع الحيض ويكون المعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور فإن حمل اللفظ على المعنى الذي لا يوجب المحذور أولى هذا إذا سلمنا أن لفظ المحيض مشترك بين الموضع وبين المصدر مع أنا نعلم أن استعمال هذا اللفظ في موضع أكثر وأشهر منه في المصدر
فإن قيل الدليل على أن المراد من المحيض الحيض أنه قال هُوَ أَذًى أي المحيض أذى ولو كان المراد من المحيض الموضع لما صح هذا الوصف
قلنا بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص والأذى كيفية مخصوصة وهو عرض والجسم لا يكون نفس العرض فلا بد وأن يقولوا المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضاً أن نقول المراد أن ذلك الموضع ذو أذى وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض ومن المحيض الثاني موضع الحيض وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال فهذا ما عندي في هذا الموضع وبالله التوفيق
أما قوله تعالى قُلْ هُوَ أَذًى فقال عطاء وقتادة والسدي أي قذر واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ الاعتزال التنحي عن الشيء قدم ذكر العلة وهو الأذى ثم رتب الحكم عليه وهو وجوب الإعتزال
فإن قيل ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة
قلنا العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذر أما دم الاستحاضة فليس كذلك بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى هذا ما عندي في هذا الباب وهو قاعدة طيبة وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم قال تعالى وَلاَ(6/55)
يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ ( البقرة 228 ) قيل في تفسيره المراد منه الحيض والحمل وأما دم الاستحاضة فإنه لا يخرج من الرحم لكن من عروق تنقطع في فم الرحم قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة ( إنه دم عرق انفجر ) وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض عن تعليل القرآن
والنوع الثاني من صفات دم الحيض الصفات التي وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دم الحيض بها أحدها أنه أسود والثاني أنه ثخين والثالث أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته الرابعة أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلاناً والخامسة أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة أنه بحراني وهو شديد الحمرة وقيل ما تحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية
ثم من الناس من قال دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفاً بهذه الصفات فهو دم الحيض وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان ومن الناس من قال هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن وتصير المرأة به بالغة والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه
المسألة الخامسة اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى أقلها يوم وليلة وأكثرها خمسة عشر يوماً وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة والثوري أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد وأكثره عشرة أيام قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة فإن وجد ساعة فهو حيض وإن وجد أياماً فكذلك واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال لو كان المقدار ساقطاً في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إني أستحاض فلا أطهر وأيضاً روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهما إن جميع ذلك حيض بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة فبطل هذا القول والله أعلم
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لدم الحيض فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض وإذا ترددنا في الأمرين كان طريقان الحيض مجهولاً وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم(6/56)
والمشكوك لا يعارض المعلوم فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين وحجة مالك من وجهين الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين علامة دم الحيض وصفته بقوله ( دم الحيض هو الأسود المحتدم ) فمتى كان الدم موصوفاً بهذه الصفة كان الحيض حاصلاً فيدخل تحت قوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ وتحت قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )
الحجة الثانية أنه تعالى قال في دم الحيض هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الإعتزال وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه وإذا كان وجوب الاعتزال معللاً بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملاً بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح وعندي أن قول مالك قوي جداً أما الشافعي فاحتج على أبي حنيفة وجهين
الحجة الأولى أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه عليه السلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض فيدخل تحت عموم قوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدة
الحجة الثانية للشافعي في جانب الزيادة ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما وصف النسوان بنقصان الدين فسر ذلك بأن قال تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً فيكون الحيض نصف عمرها ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها أجاب أبو بكر الرازي عنه من وجهين الأول أن الشطر ليس هو النصف بل هو البعض والثاني أنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها
والجواب عن الأول أن الشطر هو النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه وعن الثاني أن قوله عليه السلام ( تمكث إحداهن شطر عمرها لا نصلي ) إنما يتناول زمان هي تصلي فيه وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة من وجوه
الحجة الأولى ما روى عن أبي أمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أيام ) قال أبو بكر فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد
الحجة الثانية ما روى عن أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص الثقفي أنهما قالا الحيض ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة والاستدلال به من وجهين أحدهما أن القول إذا ظهر عن الصحابي ولم يخالفه أحد كان إجماعاً والثاني أن التقدير مما لا سبيل إلى العقل إليه متى روى عن الصحابي فالظاهر أنه سمعه من الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
الحجة الثالثة قوله عليه السلام لحمنة بنت جحش ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض(6/57)
النساء في كل شهر ) مقتضاه أن يكون حيض جميع النساء في كل شهر هذا القدر خالفنا هذا الظاهر في الثلاثة إلى العشرة فيبقى ماعداه على الأصل
الحجة الرابعة قوله عليه السلام في حق النساء ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل ما نقصان دينهن قال تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي ) وهذا الخبر يدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليال وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة لأنه لا يقال في الواحد والإثنين لفظ الأيام ولا يقال في الزائد على العشرة أيام بل يقال أحد عشر يوماً أما الثلاثة إلى العشرة فيقال فيها أيام وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) لفاطمة بنت أبي حبيش دعى الصلاة أيام أقرائك ولفظ الأيام مختص بالثلاثة إلى العشرة وفي حديث أم سلمة في المرأة التي سألته أنها تهرق الدم فقال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر فلتترك الصلاة ذلك القدر من الشهر ثم لتغتسل ولتصل
فإن قيل لعل حيض تلك المرأة كان مقدراً بذلك المقدار
قلنا إنه عليه السلام ما سألها عن قدر حيضها بل حكم عليها بهذا الحكم مطلقاً فدل على أن الحيض مطلقاً مقدر بما ينطلق عليه لفظ الأيام وأيضاً قال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها وذلك عام في جميع النساء
الحجة الخامسة وهي حجة ذكرها الجبائي من شيوخ المعتزلة في ( تفسيره ) فقال إن فرض الصوم والصلاة لازم يتعين للعمومات الدالة على وجوبهما ترك العمل بها في الثلاثة إلى العشرة فوجب بقاؤها على الأصل فيما دون الثلاثة وفوق العشرة وذلك لأن فيما دون الثلاثة حصل اختلاف للعلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً وما زاد على العشرة ففيه أيضاً اختلاف العلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً فأما من الثلاثة إلى العشرة فهو متفق عليه فجعلناه حيضاً فهذا خلاصة كلام الفقهاء في هذ المسألة وبالله التوفيق
المسألة السادسة اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة فنقول إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه بل من يقول إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع أما من يفسر المحيض بالحيض كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق
أما قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ اللَّهِ فاعلم أن قوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ أي ولا تجامعوهن يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها وهذا كالتأكيد لقوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ويمكن أيضاً حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ نهياً عن المباشرة في موضع الدم وقوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ يكون نهياً عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع(6/58)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب الحضرمي وأبو بكر عن عاصم ( حتى يطهرن ) خفيفة من الطهارة وقرأ حمزة والكسائي يَطْهُرْنَ بالتشديد وكذلك حفص عن عاصم فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها وذلك إذا انقطع الحيض فالمعنى لا تقربون حتى يزول عنهم الدم ومن قرأ يَطْهُرْنَ بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( المزمل 1 ) ويا أيها المدثر ( المدثر 1 ) أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق
المسألة الثانية أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال حجة الشافعي من وجهين
الحجة الأولى أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما وجب الجمع بينهما
إذا ثبت هذا فنقول قرىء حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف وبالتثقيل ويطهرن بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء والجمع بين الأمرين ممكن وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين
الحجة الثانية أن قوله تعالى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ علق الإتيان على التطهر بكلمة إِذَا وكلمة إِذَا للشرط في اللغة والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ نهى عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض أجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله حَتَّى يَطْهُرْنَ لكان ما ذكرتم لازماً أما لما ضم إليه قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً وإذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر فقد اختلفوا في ذلك التطهر فقال الشافعي وأكثر الفقهاء هو الاغتسال وقال بعضهم وهو غسل الموضع وقال عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ والصحيح هو الأول لوجهين الأول أن ظاهر قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ حكم عائد إلى ذات المرأة فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها والثاني أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء(6/59)
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد بقوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وفيه وجوه الأول وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به ولا تؤتوهن في غير المأتي وقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي في حيث أمركم الله كقوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ أي في يوم الجمعة الثاني قال الأصم والزجاج أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات الثالث وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور والأقرب هو القول الأول لأن لفظة حَيْثُ حقيقة في المكان مجاز في غيره
أما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ فالكلام في تفسير محبة الله تعالى وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقاً والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب فمن لم يكن مذنباً وجب أن لا تحسن منه التوبة
والجواب من وجهين الأول أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير فتلزمه التوبة دفعاً لذلك التقصير المجوز الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني التَّوْبَة ُ في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي والترك في الحاضر والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية لئلا يتوجه الطعن والسؤال
أما قوله تعالى وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ففيه وجوه أحدها المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه ولا ثالث لهذين القسمين واللفظ محتمل لذلك لأن الذنب نجاسة روحانية ولذلك قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) فتركه يكون طهارة روحانية وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزهاً عن العيوب والقبائح ويقال فلان طاهر الذيل
والقول الثاني أن المراد لا يأتيها في زمان الحيض وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ومن قال بهذا القول قال هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( الأعراف 82 ) فكان قوله وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ترك الإتيان في الأدبار
والقول الثالث أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فلا جرم مدح المتطهر فقال وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ والمراد منه التطهر بالماء وقد قال تعالى رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( التوبة 108 ) فقيل في التفسير أنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم(6/60)
الحكم الثامن
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها روي أن اليهود قالوا من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلاً وزعموا أن ذلك في التوراة فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كذبت اليهود ونزلت هذه الآية وثانيها روي عن ابن عباس أن عمر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله هلكت وحكى وقوع ذلك منه فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار ذلك عليهم فنزلت الآية
المسألة الثانية حَرْثٌ لَّكُمْ أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات الخارج والحرث مصدر ولهذا وحد الحرث فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد فحذف المضاف وأيضاً قد يسمى موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة كقوله فإنما هي إقبالي وإدبار
ويقال هذا أمر الله أي مأموره وهذا شهوة فلان أي مشتهاه فكذلك حرث الرجل محرثة
المسألة الثالثة ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها فقوله أَنَّى شِئْتُمْ محمول على ذلك ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن وسائر الناس كذبوا نافعاً في هذه الرواية وهذا قول مالك واختيار السيد المرتضى من الشيعة والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وحجة من قال إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه
الحجة الأولى أن الله تعالى قال في آية المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة
الحجة الثانية قوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( البقرة 222 ) وظاهر الأمر للوجوب ولا يمكن أن يقال إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن(6/61)
يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولاً على القبل وذلك هو المطلوب
الحجة الثالثة روى خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إتيان النساء في أدبارهن فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلال فلما ولى الرجل دعاه فقال كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أو من قبلها في قبلها فنعم أمن دبرها في قبلها فنعم أمن دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحي من الحق ( لا تؤتوا النساء في أدبارهن ) وأراد بخربتها مسلكها وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها والخرزة هي التي يثقبها الخراز كنى به عن المأتي وكذلك الخصفة من قولهم خصفت الجلد إذا خرزته حجة من قال بالجواز وجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية من وجهين الأول أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة فقال نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين فلما قال بعده فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه فيدخل فيه محل النزاع
الوجه الثاني أن كلمة إِنّى معناها أين قال الله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( الأعراف 37 خ والتقدير من أين لك هذا فصار تقدير الآية فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة أين شئتم تدل على تعدد الأمكنة اجلس أين شئت ويكون هذا تخييراً بين الأمكنة
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان واللفظ اللائق به أن يقال اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة كيف بل لفظة إِنّى ويثبت أن لفظة إِنّى مشعرة بالتخيير بين الأمكنة ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه
الحجة الثانية لهم التمسك بعموم قوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولاً به في حق النسوان
الحجة الثالثة توافقنا على أنه لو قال للمرأة دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقاً وهذا يقتضي كون دبرها حلالاً له هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب
أجاب الأولون فقالوا الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول أن الحرث اسم لموضع الحراثة ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة ويقتضي هذا الدليل أن لايطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه وهذه الصورة مفقودة في قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التعيين فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتى(6/62)
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما قوله قُلْ هُوَ أَذًى ( البقرة 222 ) والثاني قوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعاً بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد والأصل أنه لا يجوز
الوجه الثالث الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها وسبب نزول الآية لا يكون خارجاً عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل
أما الوجه الأول فقد بينا أن قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ معناه فأتوه موضع الحرث
وأما الثاني فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ذلك الموضع المعين لم يكن حمل أَنَّى شِئْتُمْ على التخيير في مكان وعند هذا يضمر فيه زيادة وهي أن يكون المراد من أَنَّى شِئْتُمْ فيضمر لفظة من لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول بل هذا أولى لأن الأصل في الإبضاع الحرمة
وأما الثالث فجوابه أن قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) عام ودلائلنا خاصة والخاص مقدم على العام
وأما الرابع فجوابه أن قوله دبرك على حرام إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة فصار ذلك كقوله يدك طالق والله أعلم
المسألة الرابعة اختلف المفسرون في تفسير قوله أَنَّى شِئْتُمْ والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها ومن دبرها في قبلها والثاني أن المعنى أي وقت شئتم من أوقات الحل يعنى إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضاً والثالث أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة أو مضطجعة بعد أن يكون في الفرج الرابع قال ابن عباس المعنى إن شاء وإن شاء لم يعزل وهو منقول عن سعيد بن المسيب الخامس متى شئتم من ليل أو نهار
فإن قيل فما المختار من هذه الأقاويل
قلنا قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم فكان الأولى حمل اللفظ عليه وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب لأن إِنّى يكون بمعنى مَتَى ويكون بمعنى كَيْفَ وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت إِنّى لأن حال الجماع لا يختلف بذلك فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا
أما قوله وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ فمعناه افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره قدم لنفسك عملاً صالحاً وهو كقوله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) ونظير لفظ(6/63)
التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( ص 60 )
فإن قيل كيف تعلق هذا الكلام بما قبله
قلنا نقل عن ابن عباس أنه قال معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد والذي عندي فيه أن قوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء كأنه قيل هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث فأتوا حرثكم ولاتأتوا غير موضع الحرث فكان قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ دليلاً على الإذن في ذلك الموضع والمنع من غير ذلك الموضع فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر لا جرم قال وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ ثم أكده ثالثاً بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل وما بعدها أيضاً دال على تحريمه فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ والمراد منه فعل الطاعات وثانيها قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ والمراد منه ترك المحظورات وثالثها قوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وفيه إشارة إلى أنى إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثاً وما أحسن هذا الترتيب ثم قال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن وهو أن يجعل مع كل وعيد وعداً والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم فصار كقوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ( الأحزاب 47 )
الحكم التاسع
في الأيمان
وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاًّيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية وأجود ما ذكروه وجهان الأول وهو الذي ذكره أبو مسلم(6/64)
الأصفهاني وهو الأحسن أن قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل قد جعلتني عرضة للومك وقال الشاعر ولا تجعلني عرضة للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( القلم 10 ) وقال تعالى وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ( المائدة 89 ) والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير
قليل الألا يا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية
وأما قوله تعالى بعد ذلك أَن تَبَرُّواْ فهو علة لهذا النهي فقوله أَن تَبَرُّواْ أي إرادة أن تبروا والمعنى إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين
فإن قيل وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس
قلنا لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه
التأويل الثاني قالوا العرضة عبارة عن المانع والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور ويقال اعترض فلان على كلام فلان وجعل كلامه معارضاً لكلام آخر أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة فيكون اسماً لما يجعل معرضاً دون الشيء ومانعاً منه فثبت أن العرضة عبارة عن المانع وأما اللام في قوله لاِيْمَانِكُمْ فهو للتعليل
إذا عرفت هذا فنقول تقدير الآية ولا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره قالوا وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم أو إصلاح ذات البين أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر ولكن لا فائدة فيها فتركناها ثم قال في(6/65)
آخر الآية وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي إن حلفتم يسمع وإن تركتم الحلف تعظيماً لله وإجلالاً له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اللَّغْوَ الساقط الذي لا يعتد به سواء كان كلاماً أو غيره أما ورود هذه اللفظة في الكلام فيدل عليه الآية والخبر والرواية أما الآية فقوله تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( القصص 55 ) وقوله لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) وقوله لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ ( فصلت 26 ) وقوله عَالِيَة ٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) أما قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) فيحتمل أن يكون المراد وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغواً وأن يكون المراد وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغواً
وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا )
وأما الرواية فيقال لغا الطائر يلغو لغواً إذا صوت ولغو الطائر تصويته وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو قال جرير يعد الناسبون بني تميم
بيوت المجد أربعة كباراً
وتخرج منهم المرئى لغوا
كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء اللغا مصدر للغيت و اللَّغْوَ مصدر للغوت فهذا ما يتعلق باللغة
أما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً الأول قال الشافعي رضي الله عنه إنه قول العرب لا والله وبلى والله مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف ولو قيل لواحد منهم سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك ولعله قال لا والله ألف مرة والثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة والشعبي وعكرمة وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله وبلى والله ولا والله ) وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مر(6/66)
بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال أصبت والله ثم أخطأ ثم قال الذي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حنث الرجل يا رسول الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة ) وعن عائشة أنها قالت أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة
الحجة الثانية أن قوله لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ولكن المراد من قوله بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد ولا يربط قلبه به وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام لا والله بلى والله فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلاً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك فلم يكن ذلك لغواً ألبتة بل كان ذلك حاصلاً بكسب القلب
الحجة الثالثة أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ ( البقرة 224 ) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف فذكر تعالى عقيب قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف وبين أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ) الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل
الحجة الثانية أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس لا والله بلى والله إذا حصل الحنث ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلاً للتقوية وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها والخالي عن المطلوب يكون لغواً فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغواً(6/67)
القول الثالث في تفسير يمين اللغو هو أنه إذا حلف على ترك طاعة أو فعل معصية فهذا هو يمين اللغوا وهو المعصية قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( القصص 55 ) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان ثم قال وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية قالوا وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ) وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ ( المائدة 89 ) ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبة علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب
القول الرابع في تفسير يمين اللغو أنها اليمين المكفرة سميت لغواً لأن الكفارة أسقطت الإثم فكأنه قيل لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم وهذا قول الضحاك
القول الخامس وهو قول القاضي أن المراد به ما يقع سهواً غير مقصود إليه والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي يؤاخذكم إذا تعمدتم ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو
المسألة الثانية احتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس قال إنه تعالى ذكر ههنا وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وقال في آية المائدة وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل فلما ذكر ههنا قوله بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب وأيضاً ذكر المؤاخذة ههنا ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي وبينها في آية المائدة بقوله وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ فبين أن المؤاخذة هي الكفارة فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب فالكفارة واجبة فيها واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها
أما قوله تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فقد علمت أن الغفور مبالغة في ستر الذنوب وفي إسقاط عقوبتها وأما الحليم فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون يقال ضع الهودج على أحلم الجمال أي على أشدها تؤدة في السير ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون وحلمة الثدي ومعنى الحليم في صفة الله الذي لا يعجل بالعقوبة بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار(6/68)
الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى آلى يؤالي إيلاء وتألى يتألى تألياً وائتلى يأتلي ائتلاء والإسم منه ألية وألوة كلاهما بالتشديد وحكى أبو عبيدة الوة والوة والوة ثلاثة لغات وبالجملة فالألية والقسم واليمين والحلف كلها عبارات عن معنى واحد وفي الحديث حكاية عن الله تعالى ( آليت أفعل خلاف المقدرين ) وقال كثير قليل الألايا حافظ ليمينه
فإن سبقت منه الألية برت
هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة أما في عرف الشعر فهو اليمين على ترك الوطء كما إذا قال والله لا أجامعك ولا أباضعك ولا أقربك ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه وأنا أقول هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار
المسألة الثانية روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً قال سعيد بن المسيب كان الرجل لا يريد المرأة ولا يجب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل والغرض منه مضارة المرأة ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها
المسألة الثالثة قرأ عبد الله يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما يَقْسِمُونَ مِن نّسَائِهِمْ
أما قوله مِن نّسَائِهِمْ ففيه سؤال وهو أنه يقال المتعارف أن يقال حلف فلان على كذا أو آلى على كذا فلم أبدلت لفظة عَلَى ههنا بلفظة مِنْ
والجواب من وجهين الأول أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال لي منك كذا والثاني أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين
أما قوله تعالى تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال تربصت الشيء(6/69)
تربصاً ويقال ما لي على هذا الأمر ربصة أي تلبث وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله بينهما مسيرة يوم أي مسيرة في يوم ومثله كثير
أما قوله فَإِن فَآءوا فمعناه فإن رجعوا والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود فيء وفرق أهل العربية بين الفيء والظل فقالوا الفيء ما كان بالعشي لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء لأنه لا شمس فيها قال الله تعالى وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) وأنشدوا فلا الظل من برد الضحى يستطيعه
ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب أي سريع الرجوع عن الغصب إلى الحالة المتقدمة وقيل لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله فَإِن فَآءوا معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين
أما قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعوم عزماً وعزيمة وعزمت عليك لتفعلن أي أقسمت والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقاً وقال الليث طلقت بضم اللام وقال ابن الأعرابي طلقت بضم اللام من الطلاق أجود ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالاً في الشرع وأصله من الإنطلاق وهو الذهاب فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية
أما الأحكام فكثيرة ونذكر هاهنا بعض ما دلت الآية عليه في مسائل
المسألة الأولى كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبراً في الشرع فإنه يصح منه الإيلاء وهذا القيد معتبر طرداً وعكساً أما الطرد فهو أن كل من كان كذلك صح إيلاؤه ويتفرع عليه أحكام الأول يصح إيلاء الذمي وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف ومحمد لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق لنا قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ وهذا العموم يتناول الكافر والمسلم
الحكم الثاني قال الشافعي رضي الله عنه مدة الإيلاء لا تختلف بالرق والحرية فهي أربعة أشهر سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين أو أحدهما كان حراً والآخر رقيقاً وعند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما تتنصف بالرق إلا أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا إن ظاهر قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ يتناول الكل والتخصيص خلاف الظاهر لأن تقدير هذه المدة إنما كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة
الحكم الثالث يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب وقال مالك لا يصح إلا في حال الغضب لنا ظاهر هذه الآية(6/70)
الحكم الرابع يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية بدليل أن الرجعية يصدق عليها أنها من نسائه بدليل أنه لو قال نسائي طوالق وقع الطلاق عليها وإذا ثبت أنها من نسائه دخلت تحت الآية لظاهر قوله لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ
أما عكس هذه القضية وهو أن من لا يتصور منه الوقاع لا يصح إيلاؤه ففيه حكمان
الحكم الأول إيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل إنما المفقود في حقه الإنزال وذلك لا أثر له ولأنه داخل تحت عموم الآية
الحكم الثاني المجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به صح إيلاؤه وإن لم يبق ففيه قولان أحدهما أنه لا يصح إيلاؤه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني أنه يصح لعموم هذه الآية لأن قصد المضارة باليمين قد حصل منه
القيد الثاني أن يكون زوجاً فلو قال لأجنبية والله لا أجامعك ثم نكحها لم يكن مؤلياً لأن قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ يفيد أن هذا الحكم لهم لا لغيرهم كقوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ( الكافرون 6 ) أي لكم لا لغيركم
المسألة الثانية المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره فإن كان بالله كان مولياً ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان الجديد وهو الأصح وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه حجة القول والله لا أقربك ثم يقربها وبين أن يقول والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والاستدلال به من وجهين أحدهما أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا لأن الحاجة ههنا داعية إلى معرفتها وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا إنما ترك الكفارة ههنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سائر المواضع
أما قوله غَفُورٌ رَّحِيمٌ فهو يدل على عدم العقاب لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال إن وطئتك فعبدي حر أو أنت طالق أو ضرتك طالق أو ألزم أمراً في الذمة فقال إن وطئتك فلله علي عتق رقبة أو صدقة أو صوم أو حج أو صلاة فهل يكون مولياً للشافعي رضي الله عنه فيه قولان قال في القديم لا يكون مولياً وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله وأيضاً روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال من حلف فليحلف بالله فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله وقال في الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون مولياً لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين والثاني عليه الوفاء بما سمى والثالث أنه يتخير بين(6/71)
كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون مولياً فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا لا يكون مولياً لا يضيق عليه الأمر
المسألة الثالثة اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول قول ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أبداً والثاني قول الحسن البصري وإسحق إن أي مدة حلف عليها كان مولياً وإن كانت يوماً وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم إنه لا يكون مواالياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة وهذه المدة تكون حقاً للزوج فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه وعن أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى أن الفاء في قوله فَانٍ فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخياً عن انقضاء الأربعة أشهر
فإن قيل ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله فَانٍ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ تفصيل لقوله الَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ والتفصيل يعقب المفصل كما تقول أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم
قلنا هذا ضعيف لأن قوله لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله فَانٍ ورد عقيب ذكرهما فيكون هذا الحكم مشروعاً عقيب الإيلاء وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول أما ههنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعاً عقيب هذين الأمرين وهذا كلام ظاهر
الحجة الثانية للشافعي رضي الله عنه أن قوله رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج
فإن قيل الإيلاء الطلاق في نفسه فالمراد من قوله وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ الإيلاء المتقدم
قلنا هذا بعيد لأن قوله وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ لا بد وأن يكون معناه وإن عزم الذين يؤلون الطلاق فجعل المؤلى عازماً وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا وأما الطلاق فهو متعلق العزم ومتعلق العزم متأخر عن العزم فإذاً الطلاق متأخر عن العزم لا محالة والإيلاء إما أن يكون مقارناً للعزم أو متقدماً وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر
الحجة الثالثة أن قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعاً وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم عليم بما في قلوبهم(6/72)
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء
قلنا هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء وهو كلام غيره حتى يكون فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديداً عليه
الحجة الرابعة أن قوله تعالى فَانٍ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ ظاهره التخيير بين الأمرين وذلك يقتضي أن يكون وقت ثبوتهما واحداً وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك
الحجة الخامسة أن الإيلاء في نفسه ليس بطلاق بل هو حلف على الامتناع من الجماع مدة مخصوصة إلا أن الشرع ضرب مقداراً معلوماً من الزمان وذلك لأن الرجل قد يترك جماع المرأة مدة من الزمان لا بسبب المضارة وهذا إنما يكون إذا كان الزمان قصيراً فأما ترك الجماع زماناً طويلاً فلا يكون إلا عند قصد المضارة ولما كان الطول والقصر في هذا الباب أمراً غير مضبوط بين تعالى حداً فاصلاً بين القصير والطويل فعند حصول هذه تبين قصد المضارة وذلك لا يوجب ألبتة وقوع الطلاق بل اللائق بحكمة الشرع عند ظهور قصد المضارة أنه يؤمر إما بترك المضارة أو بتخليصها من قيد الإيلاء وهذا المعنى معتبر في الشرع كما قلنا في ضرب الأجل في مدة العنين وغيره حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن عبد الله بن مسعود قرأ فإن فاؤا فيهن
والجواب الصحيح أن القراءة الشاذة مردودة لأن كل ما كان قرآناً وجب أن يثبت بالتواتر فحيث لم يثبت بالتواتر قطعنا أنه ليس بقرآن وأولى الناس بهذا أبو حنيفة فإنه بهذا الحرف تمسك في أن التسمية ليست من القرآن وأيضاً فقد بينا أن الآية مشتملة على أمور ثلاثة دلت على أن هذه الفيئة لا تكون في المدة فالقراءة الشاذة لما كانت مخالفة لها وجب القطع بفسادها
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُو ءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَالِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة ٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ
قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِمْ ثَلَاثَة َ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاماً كثيرة للطلاق
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع والعدة غير واجبة عليها بالإجماع وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون فإن لم تكن مدخولاً بها لم تجب العدة عليها قال الله تعالى إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ(6/73)
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا ( الأحزاب 49 ) وأما إن كانت مدخولاً بها فهي إما أن تكون حائلاً أو حاملاً فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل لا بالإقراء قال الله تعالى وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( الطلاق 4 ) وأما إن كانت حائلاً فأما أن يكون الحيض ممكناً في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالإقراء قال الله تعالى وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وأما إذا كان الحيض في حقها ممكناً فإما أن تكون رقيقة وإما أن تكون حرة فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة أما إذا كانت المرأة منكوحة وكانت مطلقة بعد الدخول وكانت حائلاً وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالإقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب يقال في الثوب إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد أو حصل فيه بياض قليل فأما إذا كان الغالب عليه البياض وكان السواد قليلاً كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذباً فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصاً أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسماً واحداً فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى
والجواب أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها إنها مطلقة وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالإقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم
السؤال الثاني قوله يَتَرَبَّصْنَ لا شك أنه خبر والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافياً في المقصود لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم وعرف أنه مهماً انقضت هذه العدة حصل المقصود سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني قال صاحب ( الكشاف ) التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ونظيره قولهم في الدعاء رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها
السؤال الثالث لو قال يتربص المطلقات لكان ذلك جملة من فعل وفاعل فما الحكمة في ترك(6/74)
ذلك وجعل المطلقات مبتدأ ثم قوله يتربص إسناد الفعل إلى الفاعل ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المبتدأ
الجواب قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب ( دلائل الإعجاز ) إنك إذا قدمت الاسم فقلت زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك فعل زيد وذلك لأن قولك زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل كقولك أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني أن لا يكون المقصود ذلك بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل كقولهم هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ ( النحل 20 ) ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ( المائدة 61 ) وقول الشاعر هما يلبسان المجد أحسن لبسة
شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت عبد الله فقد أشعرت بأنك تريد الاخبار عنه فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة
السؤال الرابع هلا قيل يتربصن ثلاثة قروء كما قيل تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ ( البقرة 226 ) وما الفائدة في ذكر الأنفس
الجواب في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص
السؤال الخامس لفظ أنفس جمع قلة مع أنهن نفوس كثيرة والقروء جمع كثرة فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة
والجواب أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية أو لعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الإقراء
السؤال السادس لم لم يقل ثلاث قروء كما يقال ثلاثة حيض
الجواب لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية وبقى من الكلام في هذه الآية مسألة واحدة في حقيقة القروء فنقول القروء جمع قرء وقرء ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر قال أبو عبيدة الإقراء من الأضداد في كلام العرب والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعاً وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر ومنهم من عكس الأمر وقال قائلون إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول أن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي(6/75)
وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي
والقول الثاني وهو قول أبي عبيد أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة
والقول الثالث وهو قول أبي عمرو بن العلاء أن القرء هو الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت وأقرأت إذا أفلت ويقال هذا قارىء الرياح لوقت هبوبها وأنشدوا للهذلي إذا هبت لقارئها الرياح
وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر لأن لكل واحد منهما وقتاً معيناً واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار روى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة ومالك وربيعة وأحمد رضي الله عنهم في رواية وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإسحاق رضي الله عنهم وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر وعندهم أطول حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) ومعناه في وقت عدتهن لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن كما يقول لثلاث بقين من الشهر يريد مستقبلاً لثلاث وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه فكذا ههنا قوله فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه ولما كان الأمر حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة وذلك هو المطلوب
الحجة الثانية ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت هل تدرون الأقراء الأقراء الأطهار ثم قال الشافعي رضي الله عنه والنساء بهذا أعلم لأن هذا إنما يبتلي به النساء
الحجة الثالثة القرء عبارة عن الجمع يقال ما قرأت الناقة نسلاً قط أي ما جمعت في رحمها ولداً قط ومنه قول عمرو بن كلثوم هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال الأخفش يقال ما قرأت حيضة أي ما ضمت رحمها على حيضة وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء واقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب وسمي القرآن قرآناً لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه وقرأ القارىء أي جمع الحروف بعضها إلى بعض(6/76)
إذا ثبت هذا فنقول وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم
قلنا الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً في الدم آخر الطهر إذ لو تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين
الحجة الثالثة أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه وهو أقل ما يسمى بالإقراء الثلاثة وهي الأطهار لأن الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع
الحجة الرابعة أن ظاهر قوله تعالى عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل وكل ما كان كذلك لم يكن واجباً فأذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجباً وهو المطلوب حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض لما روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى
الحجة الثانية أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءاً فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر أجاب الشافعي رضي الله عنه عن ذلك أن الله قال الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( الحج 197 ) والأشهر جمع وأقله ثلاثة ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث وذلك هو شوال وذو القعدة وبعض ذو الحجة فكذا ههنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر أجاب الجبائي من شيوخ المعتزلة عن هذا الجواب من وجهين الأول أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل فلم يلزمنا أن نترك الظاهر ههنا من غير دليل والثاني أن في(6/77)
العدة تربصاً متصلاً فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج لأنه ليس فيها فعل متصل فكأنه قيل هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الإستغراق وإجاب المتأخرون من أصحابنا عن هذه الحجة من وجهين الأول كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة فحمله على الحيض يوجب الزيادة لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة فنحن أيضاً نقول لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه
والوجه الثاني في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءاً تاماً وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء
الحجة الثالثة لهم أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ ( الطلاق 4 ) فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضاً لما كان الأشهر شرعت بدلاً عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض
الحجة الرابعة لهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض
الحجة الخامسة أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة فكذا العدة تكون بالحيضة لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد
الحجة السادسة لهم أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر
الحجة السابعة لهم أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض فحينئذ يحرم للغير التزوج بها وإن جعلنا القرء طهراً فحينئذ يحل للغير التزوج بها وجانب التحريم أولى بالرعاية لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ) ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط فكان أولى لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فهذا جملة الوجوه في هذا الباب
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه
أما قوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى علم ذلك(6/78)
للرجال متعذراً جعلت المرأة أمينة في العدة وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوماً وساعة لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة ثم حاضت يوماً وليلة وهو أقل الحيض ثم طهرت خمسة عشر يوماً وهو أقل الطهر مرة أخرى يوماً وليلة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأيت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت أنها أسقطت كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها
واعلم أن للمفسرين في قوله مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ ثلاثة أقوال الأول أنه الحبل والحيض معاً وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزوج الأول وربما أحبت التزوج بزوج آخر أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني فلهذه الأغراض تكتم الحبل وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول وقد تحب تقصير عتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها فثبت أنه كما أن لها غرضاً في كتمان الحبل فكذلك في كتمان الحيض فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين
القول الثاني أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء وثانيها أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها أن حمل قوله تعالى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ على الولد الذي هو جوهر شريف أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح فوجب حمل اللفظ على الكل
القول الثالث المراد هو النهي عن كتمان الحيض لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الإقراء ولم يتقدم ذكر الحمل وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم
أما قوله تعالى إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم إن كنت مؤمناً فلا تظلم تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء وهو كما قال في الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) وقال فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ( البقرة 283 ) والآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد(6/79)
قوله تعالى
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم
اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية وفي البعولة قولان أحدهما أنه جمع بعل كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب فلا يقال في كعب كعوبه ولا في كلب كلابة واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان كما أنهما زوجان وأصل البعل السيد المالك فيما قيل يقال من بعل هذه الناقة كما يقال من ربها وبعل اسم صنم كانوا يتخدونه رباً وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسودد
القول الثاني أن العبولة مصدر يقال بعل الرجل يبعل بعولة إذا صار بعلاً وباعل الرجل امرأته إذا جامعها وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في أيام التشريق ( أنها أيام أكل وشرب وبعال ) وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ومنه الحديث ( إذا أحسنتن ببعل أزواجكن ) وعلى هذا الوجه كان معنى الآية وأهل بعولتهن
وأما قوله أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ فالمعنى أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص وههنا سؤالات
السؤال الأول ما فائدة قوله أَحَقُّ مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك
الجواب من وجهين الأول أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ كان تقدير الكلام فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر فبين أن الزوج الأول أحق منه وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة
السؤال الثاني ما معنى الرد
الجواب يقال رددته أي رجعته قال تعالى في موضع وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى ( الكهف 36 ) وفي موضع آخر وَلَئِن رُّجّعْتُ
السؤال الثالث ما معنى الرد في المطلقة الرجعية وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت
الجواب أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك فلا جرم سميت الرجعة رداً لا سيما ومذهب(6/80)
الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة ففي الرد على مذهبه شيئان أحدهما ردها من التربص إلى خلافه الثاني ردها من الحرمة إلى الحل
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله تعالى فِي ذالِكَ
الجواب أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة
أما قوله تعالى إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة ونظيره قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ ( البقرة 231 ) والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة فنهوا عن ذلك وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح وهو قوله إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً
فإن قيل إن كلمة ءانٍ للشرط والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه فيلزم إذا لم توجد أرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة
والجواب أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم
أما قوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقاً على الآخر
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعياً حق الآخر وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ونحن نشير إلى بعضها فأحدها أن الزوج كالأمير والراعي والزوجة كالمأمور والرعية فيجب على الزوج بسبب كونه أميراً وراعياً أن يقوم بحقها ومصالحها ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها روي عن ابن عباس أنه قال ( إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي ) لقوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ وثالثها ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن وهذا أوفق لمقدمة الآية
أما قوله تعالى وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة ٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال رجل بين الرجلة أي القوة وهو أرجل الرجلين أي أقواهما وفرس رجيل قوي على المشي والرجل معروف لقوته على المشي وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية وترجل النهار قوي ضياؤه وأما الدرجة فهي المنزلة وأصلها من درجت الشيء أدرجه درجاً وأدرجته إدراجاً إذا طويته ودرج القوم قرناً بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً والمدرجة قارعة الطريق لأنها تطوي منزلاً بعد منزل والدرجة المنزلة من منازل الطريق ومنه الدرجة التي يرتقي فيها(6/81)
المسألة الثانية اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها العقل والثاني في الدية والثالث في المواريث والرابع في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة والخامس له أن يتزوج عليها وأن يتسرى عليها وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج والسادس أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه والسابع أن الزوج قادر على تطليقها وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة أم أبت أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضاً على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان ) وفي خبر آخر اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح واستحقاقه للزجر أشد
والوجه الثاني أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال إن نصيب المرأة فيها أوفر ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوباً رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ( النساء 34 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ) ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي غالب لا يمنع مصيب أحكامه وأفعاله لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
اعلم أن هذا هو الحكم الثالث من أحكام الطلاق وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له فجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك فذكرت عائشة رضي الله عنها ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
المسألة الثانية اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله قال قوم إنه حكم مبتدأ ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال(6/82)
دفعة واحدة وهذا التفسير هو قول من قال الجمع بين الثلاث حرام وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة
والقول الأول في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه
حجة القائلين بالقول الأول أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق فصار تقدير الآية كل الطلاق مرتان ومرة ثالثة ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع
فإن قيل هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون وعندي الجمع مباح لا مسنون
قلنا ليس في الآية بيان صفة السنة بل كان تفسير الأصل الطلاق ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أن معناه هو الأمر أي طلقوا مرتين يعني دفعتين وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول وهو اختيار كثير من علماء الدين أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثاً لا يقع إلا الواحدة وهذا القول هو الأقيس لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز فوجب أن يحكم بعدم الوقوع
والقول الثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد
القول الثالث في تفسير هذه الآية أن نقول أنها ليست كلاماً مبتدأ بل هي متعلقة بما قبلها وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله الطلاق للمعهود السابق يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول أن قوله وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص وإن لم يكن عاماً فهو مجمل لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة فيكون مفتقراً إلى البيان فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلاً مع العام المخصوص أو كان البيان حاصلاً مع المجمل وذلك أولى من أن لا يكون كذلك لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزاً إلا أن الأرجح أن لا يتأخر(6/83)
الحجة الثانية إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ كان قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع لا يقال إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة وهو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فصار تقدير الآية الطلاق مرتان ومرة لأنا نقول إن قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ متعلق بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ لا بقوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز
الحجة الثالثة ما روينا في سبب نزول هذه الآية إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيراً بسبب المضارة وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجاً عن عموم الآية فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه
أما قوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه يقال إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلاً قال الفراء يقال إنه ليس بمساك غلمانه وفيه مساكة من جبر أي قوة وأما التسريح فهو الإرسال وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى
المسألة الثانية تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج هو أن يوجد مرتان ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح والإنفاع وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن توقع عليها الطلقة الثالثة روى أنه لما نزل قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قيل له ( صلى الله عليه وسلم ) فأين الثالثة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ والثاني أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة وهو مروي عن الضحاك والسدي
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها أن الفاء في قوله فَإِن طَلَّقَهَا ( البقرة 230 ) تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أو يطلقها وهو المراد بقوله فَإِن طَلَّقَهَا فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقاً آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها أنه قال بعد ذكر التسريح وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا والمراد به الخلع ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه(6/84)
واعلم أن المراد من الإحسان هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها
المسألة الثالثة الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده
قوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
واعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقروناً بالإحسان بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها وذلك لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها فلا يجوز أن يأخذ منها شيئاً ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ ( النساء 19 خ وقوله ههنا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ هو كقوله هناك إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق ونظيره قوله تعالى لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ( الطلاق 1 ) فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضاً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( النساء 20 ) فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء
فإن قيل لمن الخطاب في قوله وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئاً
قلنا الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطاباً للأزواج وآخرها خطاباً للأئمة والحكام وذلك غير غريب في القرآن ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ(6/85)
والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئاً استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب فأنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت فرق بيني وبينه فإني أبغضه ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً وأشدهم سواداً وإني أكره الكفر بعد الإسلام فقال ثابتٍ يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها فقال لها ما تقولين قالت نعم وأزيده فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا حديقته فقط ثم قال لثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية
المسألة الثانية اختفلوا في أن قوله تعالى إلا أن يخافا هو استثناء متصل أو منقطع وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية وهي أن أكثر المجتهدين قالوا يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب وقال الأزهري والنخعي وداود لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئاً ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف وأما جمهور المجتهدين فقالوا الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى وأما كلمة إِلا فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( النساء 92 ) أي لكن إن كان خطأ مّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ ( النساء 92 )
المسألة الثالثة الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف وهو الإشفاق مما يكره وقوعه ويمكن حمله على الظن وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره قد خرج غلامك بغير إذنك فتقول قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته وأنشد الفراء إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكذ هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( البقرة 230 )(6/86)
المسألة الرابعة اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة ولا بد ههنا من مزيد بحث فنقول الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة فقط أو من قبل الزوج فقط أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما أو يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً
أما القسم الأول وهو أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لها الخلع ولثابت الأخذ
فإن قيل فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معاً فكيف قلتم إنه يكفي حصول الخوف منها فقط
قلنا سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلاً لهما جميعاً فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه أو لمرض منفر منه وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج ويكون الزوج خائفاً من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها
القسم الثاني أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية وبدليل سائر الآيات كقوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ إلى قوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( النساء 19 20 ) وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال
القسم الثالث أن لا يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل الزوج ولا من قبل الزوجة وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين أن هذا الخلع جائز والمال المأخوذ حلال وقال قوم إنه حرام
القسم الرابع أن يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً فهذا المال حرام أيضاً لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلاً من قبل الزوج وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا الآية ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء
المسألة الخامسة قرأ حمزة إِلاَّ أَن يَخَافَا بضم الياء والباقون بفتحها قال صاحب ( الكشاف ) وجه قراءة حمزة إبدال أن لا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال كقولك خيف زيد تركه إقامة حدود الله وهذا المعنى متأكد بقراءة عبد الله إِلا أَنْ يَخَافُواْ وبقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ ولم يقل خافا فجعل الخوف لغيرهما وجه قراءة العامة إضافة الخوف إليهما على ما بينا أن المرأة تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أنها إن لم تطعه يعتدي عليها(6/87)
المسألة السادسة اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاوس لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سعيد بن المسيب بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي واحتج الأولون بالقرآن والخبر والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ثم قال بعد ذلك فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر وأما الخبر روينا أن ثابتاً لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته فقالت جميلة وأزيده فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا حديقته فقط ولو كان الخلع بالزائد جائزاً لما جاز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يمنعها منه وأما القياس فهو أنه استباح بعضها فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إجحافاً بجانب المرأة وإلحاقاً للضرر بها وأنه غير جائز وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا الخلع عقد معاوضة فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل ليلتين ثم قال لها كيف حالك فقالت ما بت أطيب من هاتين الليلتين فقال عمر اخلعها ولو بقرطها والمراد اخلعها حتى بقرطها وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها فلم ينكر عليها
المسألة الرابعة الخلع تطليقة بائنة وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري وهو قول أبي حنيفة وسفيان وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم إنه فسخ للعقد وهو القول الثاني للشافعي وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور
( حجة من قال إنه طلاق ) أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق فإذا بطل كونه فسخاً ثبت أنه طلاق وإنما قلنا إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع وأيضاً لو كان الخلع فسخاً فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق
حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه
الحجة الأولى أنه تعالى قال فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثم ذكر الطلاق فقال فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس
الحجة الثانية وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام فلو كان الخلع طلاقاً لكان يجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستكشف الحال في ذلك فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً دل على أن الخلع ليس بطلاق
الحجة الثالثة روى أبو داود في ( سننه ) عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت(6/88)
منه جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدتها حيضة قال الخطابي وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق لأن الله تعالى قال وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء ( البقرة 228 ) فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد
أما قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع فَلاَ تَعْتَدُوهَا أي فلا تتجاوزوا عنها ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد فقال وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه وجوه أحدها أنه تعالى ذكره في سائر الآيات أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) فذكر الظلم ههنا تنبيهاً على حصول اللعن وثانيها أن الظالم اسم ذم وتحقير فوقوع هذا الاسم يكون جارياً مجرى الوعيد وثالثها أنه أطلق لفظ الظلم تنبيهاً على أنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية وظلم أيضاً للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة ففي كل هذه المواضع يكون ظالماً للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالماً لنفسه وظالماً لغيره وفيه أعظم التهديدات
فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين قالوا إن قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله فَإِن طَلَّقَهَا تفسير لقوله تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وهذا قول مجاهد إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ الطلقة الثالثة وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالاً ثلاثة أحدها أن يراجعها وهو المراد بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( البقرة 229 ) والثاني أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ والثالث أن يطلقها طلقة ثالثة وهو المراد بقوله فَإِن طَلَّقَهَا فإذا كانت الأقسام ثلاثة والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة فأما إن جعلنا قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار وأهملنا القسم الثالث ومعلوم أن الأول أولى
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي ونظم الآية الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
فإن قيل فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين(6/89)
قلنا السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة ثم أتبعه بحكم الخلع ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط تعتد منه وتعقد للثاني ويطؤها ثم يطلقها ثم تعتد منه وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب تحل بمجرد العقد واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة أو بالكتاب قال أبو مسلم الأصفهاني الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة قال عثمان بن جني سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة فقال فرقت العرب بالاستعمال فإذا قالوا نكح فلان فلانة أرادوا أنه عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة وأقول هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين فإذا قيل نكح فلان زوجته فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته ثم الزوجة ليست اسماً لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسماً لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب
إذا ثبت هذا فنقول إذا قلنا نكح فلان زوجته فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة تقدم المفرد على المركب وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية إذا ثبت هذا كان قوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية فكل من قال بذلك قال إنه الوطء فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء فقوله تَنْكِحَ يدل على الوطء وقوله زَوْجًا يدل على العقد وأما قول من يقول إن الآية غير دالة على الوطء وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية وهي قوله حَتَّى تَنْكِحَ وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز أما إذا حملنا النكاح على الوطء وحملنا قوله زَوْجًا على العقد لم يلزم هذا الإشكال وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها فطلقها ثلاثاً فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثواب وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت إن زوجي مسني فكذبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر فلبثت حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتت أبا بكر فاستأذنت فقال لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك وفي قصة(6/90)
رفاعة نزل قوله فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعاً وزاجراً
المسألة الثانية قال الشافعي إذا طلق زوجته واحدة أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأصابها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت له من الطلقات الأولى وقال أبو حنيفة بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث حجة الشافعي أن هذه طلقة ثالثة فوجب أن تحصل الحرمة الغليظة إنما قلنا إنها طلقة ثالثة لأنها طلقة وجدت بعد الطلقتين والطلقة الثالثة موجبة للحرمة الغليظة لقوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ الآية وقوله فَإِن طَلَّقَهَا أعم من أن يطلقها الطلقة الثالثة مسبوقاً بنكاح غيره أو غير مسبوق بنكاح غيره فكان الكل داخلاً فيه
المسألة الرابعة مذهب الشافعي رضي الله عنه إذا تزوج بالمطلقة ثلاثاً للغير على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا نكاح متعة بأجل مجهول وهو باطل ولو تزوجها بشرط أن لا يطلقها إذا أحلها للأول ففيه قولان أحدهما لا يصح والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة ولو تزوجها مطلقاً معتقداً بأنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به وقال مالك والثوري وأحمد هذا النكاح باطل دليلنا أن الآية تدل على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد وقد وجدت فوجب القول بانتهاء الحرمة وحيث حكمنا بفساد النكاح فوطئها هل يقع به التحليل قولان والأصح أنه لا يقع به التحليل
أما قوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فالمعنى إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي بقي في الآية مسألتان
المسألة الأولى ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول إلا أنه مخصوص بقوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء ( البقرة 228 ) لأن المقصود من العدة استبراء الرحم وهذا المعنى حاصل ههنا وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة وهذه الآية تدل على سقوط العدة لأن الفاء في قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا
المسألة الثانية قال الخليل والكسائي موضع أَن يَتَرَاجَعَا خفض بإضمار الخافض تقديره في أن يتراجعا وقال الفراء موضعه نصب بنزع الخافض(6/91)
أما قوله تعالى إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال كثير من المفسرين إِن ظَنَّا أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث أنه بمنزلة قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً ( البقرة 228 ) فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن أي متى حصل هذا الظن وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم
المسألة الثانية كلمة ءانٍ في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة لكنه ليس الأمر كذلك فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره ثم قال بعد ذلك وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما بينها من التكاليف وقوله يُبَيّنُهَا إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كقوله تعالى لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 )
المسألة الثانية قرأ عاصم في رواية أبان نبينها بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى
والمسألة الثالثة إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به وهو كقوله فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والثاني أنه خصهم بالذكر كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) والثالث يعني به العرب لعلمهم باللسان والرابع يريد من له عقل وعلم كقوله وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ( العنكبوت 43 ) والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلاً عالماً بما يكلفه لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف والخامس أن قوله تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ(6/92)
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول لا فرق بين هذه الآية وبين قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريراً لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز
والجواب أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع وإنما المشروع هو التفريق فهذا السؤال ساقط عنهم لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة وأما أصحاب الشافعي رحمهم الله وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم ولهم أن يقولوا إن من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيهاً على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالاً على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها
المسألة الثانية قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إشارة إلى المراجعة واختلف العلماء في كيفية المراجعة فقال الشافعي رضي الله عنه لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام لم تكن الرجعة إلا بكلام وقال أبو حنيفة والثوري رضي الله عنهما تصح الرجعة بالوطء وقال مالك رضي الله عنه إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا
حجة الشافعي رضي الله عنه ما روى أن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ( مره فليراجعها ثم ليمسكها ) حتى تطهر أمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمراجعة مطلقاً وقيل درجات الأمر الجواز فنقول إنه كان مأذوناً بالمراجعة في زمان الحيض وما كان مأذوناً بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة وحجة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه تعالى قال فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أمر بمجرد الإمساك وإذا وطئها فقد أمسكها فوجب أن يكون كافياً أما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه لما قال إنه لا بد من الكلام فظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما وقال في ( الإملاء ) هو واجب وهو اختيار(6/93)
محمد بن جرير الطبري والحجة فيه قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا يكون معروفاً إلا إذا عرفه الغير وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجباً وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة
والجواب من وجهين أحدهما المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر وهو كقول الرجل إذا قارب البلد قد بلغنا الثاني أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز
أما قوله تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول فلا فرق بين أن يقول فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وبين قوله وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار
والجواب الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة فلا يتناول كل الأوقات أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات فلعله يمسكها بمعروف في الحال ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل فلما قال تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات
المسألة الثانية قال القفال الضرار هو المضارة قال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( التوبة 107 ) أي اتخذوا المسجد ضراراً ليضاروا المؤمنين ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها أحدها ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر والثاني في تفسير الضرار سوء العشرة والثالث تضييق النفقة واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها
أما قوله تعالى لّتَعْتَدُواْ ففيه وجهان الأول المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) أي فكان لهم وهي لام العاقبة والثاني أن يكون المعنى لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فحينئذٍ تصيرون عصاة الله وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي
أما قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ففيه وجوه أحدها ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه
أما قوله تعالى وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ففيه وجوه الأول أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب(6/94)
نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها كان كالمستهزىء بها وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة وثانيها المراد ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث والثالث قال أبو الدرداء كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول طلقت وأنا لاعب ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( من طلق أو حرر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جد ) والرابع قال عطاء المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله كان كالمستهزىء بآيات الله تعالى والأقرب هو الوجه الأول لأن قوله وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا تهديد والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها لا على شيء آخر غيرها واعلم أنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم فبدأ أولاً بذكرها على سبيل الإجمال فقال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا فقال وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ أي في أوامره كلها ولا تخالفوه في نواهيه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو الحكم السادس من أحكام الطلاق وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول الآية وجهان الأول روى أن معقل بن يسار زوج أخته جميل بن عبد الله بن عاصم فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم ندم فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك فقال لها معقل إنه طلقك ثم تريدين مراجعته وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معقل بن يسار وتلا عليه هذه الآية فقال معقل رغم أني لأمر ربي اللهم رضيت وسلمت لأمرك وأنكح أخته زوجها والثاني روي عن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فأنزل الله تعالى هذه الآية وكان جابر يقول في نزلت هذه الآية(6/95)
المسألة الثانية العضل المنع يقال عضل فلان ابنته إذا منعها من التزوج فهو يعضلها ويعضلها بضم الضاد وبكسرها وأنشد الأخفش وإن قصائدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل في اللغة الضيق يقال عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها وكذلك عضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت لهم لكثرتهم قال أوس بن حجر ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل المريض الأطباء أي أعياهم وسميت العضلة عضلة لأن القوى المحركة منشؤها منها ويقال داء عضال للأمر إذا اشتد ومنه قول أوس وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمك إن ولى ويرضيك مقبلاً
ولكنه النائي إذا كنت آمنا
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في أن قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ خطاب لمن فقال الأكثرون إنه خطاب للأولياء وقال بعضهم إنه خطاب للأزواج وهذا هو المختار الذي يدل عليه أن قوله تعالى وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء فالشرط قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ والجزاء قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ولا شك أن الشرط وهو قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء خطاب مع الأزواج فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ خطاباً معهم أيضاً إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحيئنذٍ لا يكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً وذلك يوجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب فهذا كلام قوي متين في تقرير هذا القول ثم إنه يتأكد بوجهين آخرين الأول أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج والبتة ما جرى للأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم والثاني ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة كان الكلام منتظماً والترتيب مستقيماً أما إذا جعلناه خطاباً للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى
حجة من قال الآية خطاب للأولياء وجوه الأول وهو عمدتهم الكبرى أن الروايات المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها أولى بالرعاية لأن المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد وأيضاً فلأن الروايات متعارضة فروي عن معقل أنه كان يقول إن هذه الآية لو كانت خطاباً مع الأزواج لكانت إما أن تكون خطاباً قبل انقضاء العدة أو مع انقضائها والأول باطل لأن ذلك مستفاد من الآية فلو حملنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكراراً من غير فائدة وأيضاً فقد قال تعالى لا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ فنهى(6/96)
عن العضل حال حصول التراضي ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة ولا يجوز التصريح بالخطبة إلا بعد انقضاء العدة قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ( البقرة 235 ) والثاني أيضاً باطل لأن بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة فكيف يصرف هذا النهي إليه ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء عدنها وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها وحينئذٍ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد أو يسيء القول فيها وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام
الحجة الثالثة لهم قالوا قوله تعالى أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ معناه ولا تمنعوهن من أن ينكحن الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطاباً للأولياء لأنهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك فأما إذا جعلنا الآية خطاباً للأزواج فهذا الكلام لا يصح ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ من يريدون أن يتزوجوهن فيكونون أزواجاً والعرب قد تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه فهذا جملة الكلام في هذا الباب
المسألة الرابعة تمسك الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء قال وإذا ثبت هذا وجب أن يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عن العضل وحيث نهاه عن العضل كان قادراً على العضل وإذا كان الولي قادراً على العضل وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح واعلم أن هذا الاستدلال بناءً على أن هذا الخطاب مع الأولياء وقد تقدم ما فيه من المباحث ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أن يخليها ورأيها في ذلك وذلك لأن الغالب في النساء الأيامى أن يركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح وإن كان الاستئذان الشرعي لهن وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم وحينئذٍ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن فيكون النهي محمولاً على هذا الوجه وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر وتمسك أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ على أن النكاح بغير ولي جائز وقال إنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ونهى الولي عن منعها من ذلك ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه قالوا وهذا النص متأكد بقوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) وبقوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 234 ) وترويجها نفسها من الكفء فعل بالمعروف فوجب أن يصح وحقيقة هذه الإضافة على المباشر دون الخطاب وأيضاً قوله تعالى وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ّ إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ( الأحزاب 250 ) دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولي البتة وأجاب أصحابنا بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر قد يضاف أيضاً إلى المتسبب(6/97)
يقال بنى الأمير داراً وضرب ديناراً وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح
المسألة الخامسة قوله تعالى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ محمول في هذه الآية على انقضاء العدة قال الشافعي رضي الله عنه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال في الآية السابقة فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولو كانت عدتها قد انقضت لما قال فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لأن إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز ولما قال أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة فلا حاجة إلى تسريحها وأما هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج وهذا النهي إنما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة فهذا هو المراد من قول الشافعي رضي الله عنه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين
أما قوله تعالى إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في التراضي وجهان أحدهما ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز وشهود عدول وثانيها أن المراد منه ما يضاد ما ذكرناه في قوله تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( البقرة 231 ) فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه حتى تحصل الصحبة الجميلة وتدوم الألفة
المسألة الثانية قال بعضهم التراضي بالمعروف هو مهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصاناً فاحشاً فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر وقال أبو يوسف ومحمد ليس للولي ذلك
حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ وأيضاً أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور ويتفاخرون بكثرتها ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء وأيضاً فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة فكانت الآية تهديداً من هذا الوجه
وفي الآية سؤالان
السؤال الأول لم وحد الكاف في قوله تعالى ذالِكَ مع أنه يخاطب جماعة
والجواب هذا جائز في اللغة والتثنية أيضاً جائزة والقرآن نزل باللغتين جميعاً قال تعالى ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى ( يوسف 37 ) وقال فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ ( يوسف 32 ) وقال يُوعَظُ بِهِ وقال أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ ( الأعراف 22 )(6/98)
السؤال الثاني لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم
الجواب لوجوه أحدها لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وهو هدى للكل كما قال هُدًى لّلنَّاسِ وقال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( يس 11 ) مع أنه كان منذراً للكل كما قال لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 ) وثانيها احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين قالوا والدليل عليه أن قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وثالثها أن بيان الأحكام وإن كان عاماً في حق المكلفين إلا أن كون ذلك البيان وعظاً مختص بالمؤمنين لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير ثم قال ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يقال زكا الزرع إذا نما فقوله أَزْكَى لَكُمْ إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم وقوله وَأَطْهَرُ إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي التي يكون حصولها سبباً لحصول العقاب ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات فلما كان كذلك صح أن يقول وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد
الحكم الثاني عشر
في الرضاع
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ
اعلم أن في قوله تعالى وَالْوالِداتُ ثلاثة أقوال الأول أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات سواء كن مزوجات أو مطلقات والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه(6/99)
والقول الثاني المراد منه الوالدات المطلقات قالوا والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان أحدها أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهراً وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق والثاني أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم فقال وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ والمراد المطلقات
الحجة الثانية لهم ما ذكره السدي قال المراد بالوالدات المطلقات لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه فلم يجب تعلقها بما قبلها وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق المرأة قدراً من المال لمكان الزوجية وقدراً آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين
القول الثالث قال الواحدي في ( البسيط ) الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة
فإن قيل إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع
قلنا النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع هذا كله كلام الواحدي رحمه الله
أما قوله تعالى يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبراً إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول تقدير الآية والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني أن يكون معنى يرضعن ليرضعن إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام
المسألة الثانية هذا الأمر ليس أمر إيجاب ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن ( الطلاق 6 ) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني أنه تعالى قال بعد ذلك وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( الطلاق 6 ) وهذا نص صريح ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ( البقرة 233 ) والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع فلو كان الإرضاع واجباً عليها لما وجب ذلك وفيه البحث الذي قدمناه إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال(6/100)
في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم أو لا يرضع الطفل إلا منها فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام
أما قوله تعالى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين وإنما أقام حولاً وبعض الآخر ويقولون اليوم يومان مذ لم أره وإنما يعنون يوماً وبعض اليوم الآخر
المسألة الثانية اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى قال بعد ذلك لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني أنه تعالى قال فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار بل فيه وجوه الأول وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك
الوجه الثاني في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكماً خاصاً في الشريعة وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه مدة الرضاع ثلاثون شهراً
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى أنه ليس المقصود من قوله لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة
الحجة الثانية روي عن علي رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا رضاع بعد فصال ) وقال تعالى وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ ( لقمان 14 )
الحجة الثالثة ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين )
والوجه الثالث في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً وقال آخرون الحولان هذا(6/101)
الحد في رضاع كل مولود وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى
المسألة الثالثة روي أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه فقال تزوجت جارية بكراً وما رأيت بها ريبة ثم ولدت لستة أشهر فقال علي رضي الله عنه قال الله وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً وقال تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فالحمل ستة أشهر الولد ولدك وعن عمر أنه جىء بامرأة وضعت لستة أشهر فشاور في رجمها فقال ابن عباس إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر
أما قوله تعالى لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ءانٍ مّنَ الرَّضَاعَة ِ وقرىء الرَّضَاعَة ِ بكسر الراء
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن تقدير الآية هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني أن اللام متعلقة بقوله يُرْضِعْنَ كما تقول أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه
أما قوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الْمَوْلُودِ لَهُ هو الوالد وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد وإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللآباء أبناء
الثاني أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الولد للفراش ) فكأنه قال إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث أنه قيل في تفسير قوله قَالَ ابْنَ أُمَّ ( طه 94 ) أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهاً على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب فكان نقصه عائداً إليه ورعاية مصالحه لازمة له كما قيل كلمة لك وكلمة عليك
المسألة الثانية أنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف والمعرف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن(6/102)
كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري فضررها يتعدى إلى الولد
المسألة الثالثة أنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولاً ثم وصى الأب برعايته ثانياً وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة البتة أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة ثم قال تعالى لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى التكليف الإلزام يقال كلفه الأمر فتكلف وكلف وقيل إن أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه من السواد فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه من سعة الملك أي العرض ولو ضاق لعجز عنه والسعة بمنزلة القدرة فلهذا قيل الوسع فوق الطاقة
المسألة الثانية المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه إلا ما تتسع له قدرته لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة ولا يبلغ استغراقها وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك وهو نظير قوله في سورة الطلاق أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن ثم قال وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ( الطلاق 6 7 )
المسألة الثالثة المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه لأنه أخبر أنه لا يكلف أحداً إلا ما تتسع له قدرته والوسع فوق الطاقة فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى
ثم قال لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي لاَ تُضَارَّ بالرفع والباقون بالفتح أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله لاَ تُكَلَّفُ قال علي بن عيسى هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو ضربت زيداً لا عمراً فأما أن يقال يقوم زيد لا يقعد عمرو فهو غير جائز على النسق بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال لا يضرب زيد لا تقتل عمراً وأما النصب فعلى النهي والأصل لا تضار فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين يقال يضارر رجل زيداً وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى فصار لا تضار كما تقول لا تردد ثم تدغم فتقول لا ترد بالفتح قال تعالى خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( المائدة 54 ) وقرأ الحسن لاَ تُضَارَّ بالكسر وهو جائز في اللغة وقرأ أبان عن عاصم لاَ تُضَارَّ مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها
المسألة الثانية قوله لاَ تُضَارَّ يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعوله(6/103)
بها الضرار وعلى الوجه الأول يكون المعنى لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة فتلقى الولد عليه وعلى الوجه الثاني معناه لا تضارر أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ أي ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقى الولد عليه والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد
فإن قيل لم قال تُضَارَّ والفعل لواحد
قلنا لوجوه أحدها أن معناه المبالغة فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر فكان ذلك في الحقيقة مضارة
المسألة الثالثة قوله لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع وترك التعهد والحفظ
وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ يتناول كل المضار وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم
أما قوله تعالى وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحد من هؤلاء والعلماء لم يدعوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم
فالقول الأول وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد وارث الأب وذلك لأن قوله وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ معطوف على قوله وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وما بينهما اعتراض لبيان المعروف والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضاً وارثه أدى إلى وجوب نفقته على غيره حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالاً فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف ويدفع الضرار عنه وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب
القول الثاني أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو فقيل هو العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث وهو قول قتادة وابن أبي ليلى قالوا النفقة على قدر الميراث وقيل الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول(6/104)
أبي حنيفة وأصحابه واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم كما أن البعيد كالقريب والنساء كالرجال ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها لصح أيضاً دخولها تحت الكلام لأنها قد تكون وارث كغيرها
القول الثالث المراد من الوارث الباقي من الأبوين وجاء في الدعاء المشهور واجعله الوارث منا أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة
القول الرابع أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان وهو قول مالك والشافعي
أما قوله تعالى مِثْلُ ذالِكَ فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم وقيل من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك وقيل منهما عن أكثر أهل العلم
أما قوله تعالى فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فاعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في الفصال قولان الأول أنه الفطام لقوله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد يقال فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً وقرىء بهما في قوله وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ والفصال أحسن لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال والضراب وسمي الفصيل فصيلاً لأنه مفصول عن أمه ويقال فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ( البقرة 249 ) واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز وبعده أيضاً جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضاً دليلاً على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفاً فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب والله أعلم
القول الثاني في تفسير الفصال وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال ويحتمل معنى آخر وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد(6/105)
المسألة الثانية التشاور في اللغة استجماع الرأي وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة وشرت العسل استخرجته وقال أبو زيد شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها والشوار متاع البيت لأنه يظهر للناظر وقالوا شورته فتشور أي خجلته والشارة هيئة الرجل لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته والإشارة إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع فقد يحاول الفطام دفعاً لذلك لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعاً للمضار عنه ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن بل قال لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) استرضع منقول من أرضع يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي فتعديه إلى مفعولين كما تقول أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه كما تقول استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول وقال الواحدي أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاءً بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلا للأولاد ولا يجوز دعوت زيداً وأنت تريد لزيد لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع ونظير حذف اللام قوله تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( المطففين 3 ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم
المسألة الثانية اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها منها ما إذا تزوجت آخر فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشاً له ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى(6/106)
وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم
أما قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحده مَّا ءاتَيْتُم مقصورة الألف والباقون مَّا ءاتَيْتُم ممدودة الألف أما المد فتقديره ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره ما آتيتم به فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة بِهِ في الثاني لحصول العلم بذلك وروى شيبان عن عاصم مَا أُوتِيتُمْ أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ونظيره قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( الحديد 7 )
المسألة الثانية ليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يداً بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سبباً لصلاح حال الصبي والاحتياط في مصالحه ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير فقال وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ
الحكم الثالث عشر
عدة الوفاة
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً فمن مات فقد وجد عمره وافياً كاملاً ويقال توفي فلان وتوفي إذا مات فمن قال توفي كان معناه قبض وأخذ ومن قال توفى كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء
وأما قوله وَيَذَرُونَ معناه يتركون ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر استغناءً عنه يترك تركاً ومثله يدع في رفض مصدره وماضيه فهذان الفعلان العابر والأمر منهما موجودان يقال فلان يدع كذا ويذر ويقال دعه وذره أما الماضي والمصدر فغير موجودين منهما والأزواج ههنا النساء والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له وربما ألحقوا بها الهاء
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ مبتدأ ولا بد له من خبر واختلفوا في خبره على أقوال الأول أن المضاف محذوف والتقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن والثاني وهو قول الأخفش التقدير يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله السمن منوان بدرهم وقوله تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ(6/107)
عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 43 ) والثالث وهو قول المبرد والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً أزواجهم يتربصن قال وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ ( الحج 72 ) يعني هو النار وقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ( يوسف 18 )
فإن قيل أنتم أضمرتم ههنا مبتدأ مضافاً وليس ذلك شيئاً واحداً بل شيئان والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد
قلنا كما ورد إضمار المبتدأ المفرد فقد ورد أيضاً إضمار المبتدأ المضاف قال تعالى لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( آل عمران 196 197 ) والمعنى تقلبهم متاع قليل الرابع وهو قول الكسائي والفراء أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ مبتدأ إلا أن الغرض غير متعلق ههنا ببيان حكم عائد إليهم بل ببيان حكم عائد إلى أزوجهم فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبراً وأنكر المبرد والزجاج ذلك لأن مجىء المبتدأ بدون الخبر محال
المسألة الثالثة قد بينا فيما تقدم معنى التربص وبينا الفائدة في قوله بِأَنفُسِهِنَّ وبينا أن هذا وإن كان خبراً إلا أن المقصود منه هو الأمر وبينا الفائدة في العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر
المسألة الرابعة قوله وَعَشْرًا مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام وذكروا في العذر عنه وجوهاً الأول تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت لأن الأوائل أقوى من الثواني قال ابن السكيت يقولون صمنا خمساً من الشهر فيغلبون الليالي على الأيام إذ لم يذكروا الأيام فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام الثاني أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة كقولهم خرجنا ليالي الفتنة وجئنا ليالي إمارة الحجاج والثالث ذكره المبرد وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة معناه وعشر مدد وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة الرابع ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية فقال إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج فيتأول العشرة بالليالي وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم
المسألة الخامسة روي عن أبي العالية أن الله سبحانه إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة وهو أيضاً منقول عن الحسن البصري
المسألة السادسة اعلم أن هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين أحداهما أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة وقال أبو بكر الأصم عدتها عدة الحرائر وتمسك بظاهر الآية وأيضاً الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلاً عن هذه المدة ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه وسائر الفقهاء قالوا التنصيف في هذه المدة ممكن وفي وضع الحمل غير ممكن فظهر الفرق
الصورة الثانية أن يكون المراد إن كانت حاملاً فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل فإذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة وعن علي عليه السلام تتربص أبعد الأجلين والدليل عليه القرآن والسنة(6/108)
أما القرآن فقوله تعالى وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( الطلاق 4 ) ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا والشافعي لم يقل بذلك لوجهين الأول أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني أن قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ إنما ورد عقيب ذكر المطلقات فربما يقول قائل هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن وإنما عول على السنة وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب فقال لها بعض الناس ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزوج إن بدا لي إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل
الحكم الثاني إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام مثلاً إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافياً ثم قال الشافعي إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط
الحكم الثالث إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً ثم تضم إليها عشرة أيام وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس
المسألة السابعة أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها وسنذكر كلامه من بعد إن شاء الله تعالى والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى
المسألة الثامنة اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة فقال بعضهم ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة واحتجوا بأنه تعالى قال يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك والأكثرون قالوا السبب هو(6/109)
الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى قالوا والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة
المسألة التاسعة المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول الامتناع عن النكاح مجمع عليه وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة وأما ترك التزين فهو واجب لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) وقال الحسن والشعبي هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وتلبثي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت )
المسألة العاشرة احتج من قال إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ فقوله مّنكُمْ خطاب مع المؤمنين فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط
وجوابه أن المؤمنين لما كانوا هم العاملين بذلك خصهم بالذكر كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) مع أنه كان منذراً للكل لقوله تعالى لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 )
وأما قوله تعالى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فالمعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح عليكم قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد وقيل الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول وفي الآية وجه ثالث وهو أنه لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ تقديره لا جناح على النساء وعليكم ثم قال فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي ما يحسن عقلاً وشرعاً لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعاً لشرائط الصحة ثم ختم الآية بالتهديد فقال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله والنكاح ليس كذلك فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما
المسألة الثانية تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قالوا إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزاً لقوله تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى(6/110)
عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطباً بقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وبالله التوفيق
الحكم الرابع عشر
في خطبة النساء
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
قوله تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ وفي مسائل
المسألة الأولى التعريض في اللغة ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
والتعريض قد يسمى تلويحاً لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه كقولك فلان طويل النجاد كثير الرماد والتعريض أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك وأما الخطبة فقال الفراء الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك أنه الحسن العقدة والجلسة تريد العقود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان الأول أن الخطب هو الأمر والشأن يقال ما خطبك أي ما شأنك فقولهم خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها الثاني أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام يقال خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب الأمر العظيم لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير
المسألة الثانية النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام أحدها التي تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها بل يستثنى عنه صورة واحدة وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه ) ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقاً لكن فيه ثلاثة أحوال
الحالة الأولى إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحاً ههنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث
الحالة الثانية إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها
الحالة الثالثة إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي ههنا قولان أحدهما أنه يجوز(6/111)
للغير خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني وهو القديم وقول مالك أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضاً على الكراهة فربما كانت الرغبة حاصله من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة
القسم الثاني التي لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج والتسبب إلى هذا حرام وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان
القسم الثالث أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضاً على ثلاثة أقسام
القسم الأول التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً أما جواز التعريض فلقوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِسَاء وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية أما أنه لا يجوز التصريح فقال الشافعي لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب
القسم الثاني المعتدة عن الطلاق الثلاث قال الشافعي رحمه الله في ( الأم ) ولا أحب التعريض لخطبتها وقال في ( القديم ) و ( الإملاء ) يجوز لأنها ليست في النكاح فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما ههنا تنقضي عدتها بالإقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي
القسم الثالث البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً والثاني وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية
المسألة الثالثة قال الشافعي والتعريض كثير وهو كقوله رب راغب فيك أو من يجد مثلك أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض إنك لجميلة وإنك لصالحه وإنك لنافعه وإن من عزمي أن أتزوج وإني فيك لراغب
أما قوله تعالى أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى ومنه و مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ( النحل 74 )(6/112)
بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( الصافات 49 ) وفرق قوم بينهما فقالوا كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستوراً يقال در مكنون وجارية مكنونة وبيض مكنون مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره وهو ضد أعلنت وأظهرت والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها
فإن قيل إن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئاً فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ جارياً مجرى إيضاح الواضحات
قلنا ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال ثم قال أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال وتحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ثم أنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك فقال عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني فلما كان دفع هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك
ثم قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا وفيه سؤالان
السؤال الأول أين المستدرك بقوله تعالى وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا الجواب هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه تقديره عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ
السؤال الثاني ما معنى السر
والجواب أن السر ضد الجهر والإعلان فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا توعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفاً بوصف كونه سراً أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات وههنا احتمالات الأول أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة الثاني أن يواعدها بذكر الجماع والرفث لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز قال تعالى لأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ( الأحزاب 32 ) أي لا تقلن من أمر الرفث شيئاً فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ( الأحزاب 32 ) الثالث قال الحسن وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه وقال إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى
والجواب روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة وهو يعرض بالنكاح فيقول لها دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك فالله تعالى نهى عن ذلك الرابع أن يكون ذلك نهياً عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها الخامس أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحداً سواها
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه الأول السر الجماع قال امرؤ القيس(6/113)
وأن لا يشهد السر أمثالي
وقال الفرزدق
موانع للأسرار إلا من أهلها ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد لا يصف نفسه لها فيقول آتيك الأربعة والخمسة الثاني أن يكون المراد من السر النكاح وذلك لأن الوطء يسمى سراً والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ففيه سؤال وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء
وجوابه أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض والله أعلم
قوله تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ
اعلم أن في لفظ العزم وجوهاً الأول أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال قال تعالى فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( آل عمران 159 ) واعلم أن العزم إنما يكون عزماً على الفعل فلا بد في الآية من إضمار فعل وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف عَلَى فيقال فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية ولا تعزموا على عقدة النكاح قال سيبويه والحذف في هذه الأشياء لا يقاس فعلى هذا تقدير الآية ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكداً عن الإقدام على المعزوم عليه أولى
القول الثاني أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب يقال عزمت عليكم أي أوجبت عليكم ويقال هذا من باب العزائم لا من باب الرخص وقال عليه الصلاة والسلام ( عزمة من عزمات ربنا ) وقال ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى وبالوجه الأول لا يجوز
إذا عرفت هذا فنقول الإيجاب سبب الوجود ظاهراً فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه ولا تفرغوا منه فعلاً حتى يبلغ الكتاب أجله وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين(6/114)
القول الثالث قال القفال رحمه الله إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح لأن المعنى لا تعزموا عليهن عقدة النكاح أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح كما تقول عزمت عليك أن تفعل كذا
فأما قوله تعالى عُقْدَة َ النّكَاحِ فاعلم أن أصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً لأنها تعقد كما يعقد الحبل
أما قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ففي الكتاب وجهان الأول المراد منه المكتوب والمعنى تبلغ العدة المفروضة آخرها وصارت منقضية والثاني أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته وإنما حسن أن يعبر عن معنى فرض بلفظ كِتَابَ لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله حَتَّى هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله
ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد فقال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
الحكم الخامس عشر
حكم المطلقة قبل الدخول
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة أحدها المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر وأن عدتهن ثلاثة قروء
والقسم الثاني من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وذكر أنه ليس لها مهر وأن لها المتعة بالمعروف
والقسم الثالث من المطلقات التي يكون مفروضاً لها ولكن لا يكون مدخولاً بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله سبحانه وتعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة فقال إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ ( الأحزاب 49 )(6/115)
القسم الرابع من المطلقات التي تكون مدخولاً بها ولكن لا يكون مفروضاً لها وحكم هذا القسم مذكور في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( النساء 24 ) أيضاً القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطئة بالشبهة لها مهر المثل فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى فيقال إن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور فإن كان البدل مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجىء عقيب هذه الآية فإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية وحكمها أنه لا مهر لها ولا عدة عليها ويجب عليه لها المتعة وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل ولما نبهنا على هذا التقسيم فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء فهذا نص في أن الطلاق جائز واعلم أن كثيراً من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام قالوا لأن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء يتناول جميع أنواع التطليقات بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح قالوا وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فثبت أن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء يتناول جميع أنواع التطليقات أعني حال الإفراد وحال الجمع وهذا الاستدلال عندي ضعيف وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة ولهذا قلنا إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولهذا قلنا إنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين مع أنه يصح أن يقال صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني والله أعلم
أما قوله تعالى مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي تماسوهن بالألف على المفاعلة وكذلك في الأحزاب والباقون لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بغير ألف حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعاً وأيضاً يدل على ذلك قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( المجادلة 3 ) وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( آل عمران 47 ) ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ( الرحمن 56 ) وكقوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ( النساء 25 ) وأيضاً المراد من هذا المس الغشيان وذلك فعل الرجل ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار وبعض من قرأ تماسوهن قال إنه بمعنى لَمْ تَمَسُّوهُنَّ لأن فاعل قد يراد به فعل كقوله طارقت النعل وعاقبت اللص وهو كثير(6/116)
المسألة الثانية لقائل أن يقول ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس
وجوابه من وجوه الأول أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض ولا في الطهر الذي جامعها فيه فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس صح ظاهر اللفظ
الوجه الثاني في الجواب قال بعضهم إن مَا في قوله مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بمعنى الَّذِى والتقدير لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن إلا أن مَا اسم جامد لا ينصرف ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ مَا شرطاً فزال السؤال
الوجه الثالث في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله وحاصله يرجع إلى ما أقوله وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر فتقدير الآية لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة بمعنى لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله لاَّ جُنَاحَ معناه لا مهر فنقول إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل والدليل دل عليه فوجب المصير إليه وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل يقال أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحاً لما فيه من الثقل قال تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) إذا ثبت أن الجناح هو الثقل ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحاً فثبت أن اللفظ محتمل له وإنما قلنا إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول أنه تعالى قال لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ءانٍ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً نفى الجناح محدوداً إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض والتقدير فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر الثاني أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين أحدهما الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر وهو المذكور في هذه الآية والثاني الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً ( البقرة 237 ) ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها لأنه لما صار تقدير الآية لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها لا يجب لها المهر وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضاً لها والتي تكون مفروضاً لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة(6/117)
وأما القسم الرابع وهي التي تكون ممسوسة ومفروضاً لها فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك
المسألة الثالثة قال أبو بكر الأصم والزجاج هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز وقال القاضي إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة أما بيان دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ولم تكن المتعة لازمة وأما أنها لا تدل على الجواز فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح
المسألة الرابعة اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول قال أبو مسلم وإنما كنى تعالى بقوله تَمَسُّوهُنَّ عن المجامعة تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به والله أعلم
أما قوله تعالى أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فالمعنى يقدر لها مقداراً من المهر يوجبه على نفسه لأن الفرض في اللغة هو التقدير وذكر كثير من المفسرين أن أَوْ ههنا بمعنى الواو ويريد ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة كقوله أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف بل خطأ قطعاً والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنه لا مهر عند عدم المسيس والتقدير بين أن المتعة لها واجبة وتفسير لفظ المتعة قد تقدم في قوله فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ ( البقرة 196 )
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المطلقات قسمان مطلقة قبل الدخول ومطلقة بعد الدخول أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها وإن كان قد فرض لها فلا متعة لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض فهل تستحق المتعة فيه قولان قال في ( القديم ) وبه قال أبو حنيفة لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول وقال في ( الجديد ) بل لها المتعة وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن بن علي وابن عمر والدليل عليه قوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 241 ) وقال تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ ( الأحزاب 28 ) وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق
المسألة الثانية مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة وهو قول شريح والشعبي والزهري وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة وهو قول مالك لنا قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ وظاهر الأمر للإيجاب وقال وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ فجعل ملكاً لهن أو في معنى الملك وحجة مالك أنه تعالى قال في آخر الآية حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجباً فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن وأيضاً قال تعالى(6/118)
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) وهذا يدل على عدم الوجوب والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فذكره بكلمة عَلَى وهي للوجوب ولأنه إذا قيل هذا حق على فلان لم يفهم منه الندب بل الوجوب
المسألة الثالثة أصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً غير باق بل منقضياً عن قريب ولهذا يقال الدنيا متاع ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة وقلة لبث
أما قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الْمُوسِعِ الغني الذي يكون في سعة من غناه يقال أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله ويقال أوسعه كذا أي وسعه عليه ومنه قوله تعالى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( الذاريات 47 ) وقوله قَدْرِهِ أي قدر إمكانه وطاقته فحذف المضاف والمقتر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير وأقتر إذا افتقر
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم قَدْرِهِ بسكون الدال والباقون قدره بفتح الدال وهما لغتان في جميع معاني القدر يقال قدر القوم أمرهم يقدرونه قدراً وهذا قدر هذا واحمل على رأسك قدر ما تطيق وقدر الله الرزق يقدره ويقدره قدراً وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدراً وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة كل هذا يجوز فيه التحريك والتسكين يقال هم يختصمون في القدر والقدر وخدمته بقدر كذا وبقدر كذا قال الله تعالى فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ( الرعد 17 ) وقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) ولو حرك لكان جائزاً وكذلك إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) ولو خفف جاز
المسألة الثالثة أن قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي المستحب على الموسع خادم وعلى المتوسط ثلاثون درهماً وعلى المقتر مقنعة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل قال لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم
أما قوله تعالى مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الآية أنه يجب أن يكون على قدر حال الزوج في الغنى والفقر ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما وهو قول القاضي ومنهم من يعتبر حال الزوج فقط قال أبو بكر الرازي رحمه الله في المتعة يعتبر حال الرجل وفي مهر المثل حالها وكذلك في النفقة واحتج أبو بكر بقوله وَعَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ واحتج القاضي بقوله بِالْمَعْرُوفِ فإن ذلك يدل على حالهما لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة
المسألة الثانية مَّتَاعًا تأكيد لمتعوهن يعني متعوهن تمتيعاً بالمعروف و حَقّاً صفة لمتاعاً أي(6/119)
متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً على المحسنين وقيل نصب على الحال من قدره لأنه معرفة والعامل فيه الظرف وقيل نصب على القطع
وأما قوله عَلَى الْمُحْسِنِينَ ففي سبب تخصيصه بالذكر وجوه أحدها أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) والثاني قال أبو مسلم المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه والمحسن هو المؤمن فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر وقال أبو حنيفة الخلوة الصحيحة تقرر المهر ويعني بالخلوة الصحيحة أن يخلوا بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً والشرعي نحو الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضاً أو نقلاً حجة الشافعي أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وههنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر
بيان المقدمة الأولى قوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فقوله فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ليس كلاماً تاماً بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام فأما أن يضمر فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ساقط أو يضمر فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثابت والأول هو المقصود والثاني مرجوح لوجوه أحدها أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهراً فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق لأنه غير منفي قبله أما لو حملناه على السقوط عملنا بقضية التعليق لأنه منفي قبله وثانيها أن قوله تعالى وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً يقتضي وجوب كل المهر عليه لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضاً لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان فكان(6/120)
حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ( البقرة 129 ) فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس وكون الطلاق واقعاً قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر ولا يناسب وجوب شيء فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال إن معنى الآية فنصف ما فرضتم واجب وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر إلا من حيث دليل الخطاب وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال
بيان المقدمة الثانية وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله حجة أبي حنيفة قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( النساء 20 ) إلى قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 ) وجه التمسك به من وجهين الأول هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء وهي الخلوة والإفضاء مشتق من الفضاء وهو المكان الخالي فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً حال من مفعول طَلَّقْتُمُوهُنَّ والتقدير طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة
أما قوله تعالى إَّلا أَن يَعْفُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما لم تسقط النون من يَعْفُونَ وإن دخلت عليه ءانٍ الناصبة للأفعال لأن يَعْفُونَ فعل النساء فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم والنون في يَعْفُونَ إذا كان الفعل مسنداً إلى النساء ضمير جمع المؤنث وإذا كان الفعل مسنداً إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر والساقط في يَعْفُونَ إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في يَعْفُونَ لا الواو التي هي ضمير الجمع والله أعلم
المسألة الثانية المعنى إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر وتقول المرأة ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً
أما قوله تعالى أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أنه الزوج وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام وسعيد بن المسيب وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة(6/121)
والقول الثاني أنه الولي وهو قول الحسن ومجاهد وعلقمة وهو قول أصحاب الشافعي
حجة القول الأول وجوه الأول أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي والثاني أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح فإذا عقد حصلت العقدة لأن بناء الفعلة يدل على المفعول كالأكلة واللقمة وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي والثالث أن قوله تعالى الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره كما أن قوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 40 ) أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره كانت الجنة ثابتة له فتكون مأواه الرابع ما روي عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق وقال أنا أحق بالعفو وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج
حجة من قال المراد هو الولي وجوه الأول أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً أجاب الأولون عن هذا من وجوه أحدها أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وثانيها سماه عفواً على طريق المشاكلة وثالثها أن العفو قد يراد به التسهيل يقال فلان وجد المال عفواً صفواً وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقاً وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل وأجابوا عن السؤال الثاني أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفواً
وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئاً يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك
الحجة الثانية للقائلين بأن المراد هو الولي هو أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فلو كان المراد بقوله أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ هو الزوج لقال أو تعفو على سبيل المخاطبة فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة علمنا أن المراد منه غير الزواج
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو والمعنى إلا أن يعفو أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها
الحجة الثالثة للقائلين بأنه هو الولي هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبياً عن المرأة ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه فلا يكون له قدرة على إنكاحها البتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح والله(6/122)
تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج أما الولي فله قدرة على إنكاحها فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال المراد هو الزوج
أما الحجة الأولى فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال بنى الأمير داراً وضرب ديناراً والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض فيه بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء
وأما الحجة الثانية وهي قولهم الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح قلنا العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداءً فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضاً بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره
وأما الحجة الثالثة وهي قوله إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهى نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا ههنا
المسألة الثانية للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ إما الزوج وإما الولي وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له البتة على عقدة النكاح فوجب حمله على الولي
إذا ثبت هذا فنقول قوله بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره قال تعالى لَكُمْ دِينَكُمْ ( الكافرون 6 ) أي لا لغيركم فكذا ههنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم
قوله تعالى وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فيه مسائل
المسألة الأولى هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول قائم ثم تريد التأنيث فتقول قائمة فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل والدال على المؤنث فرع عليه وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلباً
المسألة الثانية موضع ءانٍ رفع بالابتداء والتقدير والعفو أقرب للتقوى واللام بمعنى إِلَى
المسألة الثالثة معنى الآية عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما كان الأمر كذلك لوجهين الأول أن من سمح بترك حقه فهو محسن ومن كان محسناً فقد استحق الثواب ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله والثاني أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك(6/123)
الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقرباً إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق ثم قال تعالى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك فقال تعالى ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهراً من غير أن انتفع بها البتة صار ذلك سبباً لتأذيه منها فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذى عن قلب الآخر فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة فقال إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
الحكم السادس عشر
حكم المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى
حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه أحدها أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد عن الطبع وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه كما قال اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) والثاني أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) والثالث أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة وهذه الآية التي نحن في تفسيرها دالة على ذلك لأن قوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة ثم إن قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى يدل على شيء أزيد من الثلاثة وإلا لزم التكرار والأصل عدمه ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة وإلا فليس لها وسطى فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط وأقل ذلك أن يكون خمسة فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع
الآية الأولى قوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون أراد به صلاة المغرب والعشاء(6/124)
وَحِينَ تُصْبِحُونَ أراد صلاة الصبح وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) أراد به صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الروم 18 ) صلاة الظهر
الآية الثانية قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم قال أَقِمِ الصَّلَواة َ أراد صلاة الصبح
الآية الثالثة قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ( طه 130 ) فمن الناس من قال هذه الآية تدل على الصلوات الخمس لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين
الآية الرابعة قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) فالمراد بطرفي النهار الصبح والعصر وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ المغرب والعشاء وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر لأن لفظ زلفاً جمع فأقله الثلاثة
المسألة الثانية اعلم أن الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها أعني طهارة البدن والثوب والمكان والمحافظة على ستر العورة واستقبال القبلة والمحافظة على جميع أركان الصلاة والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان أو من أعمال الجوارح وأهم الأمور في الصلاة رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة قال تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظاً على الصلاة وإلا فلا
فإن قيل المحافظة لا تكون إلا بين اثنين كالمخاصمة والمقاتلة فكيف المعنى ههنا
والجواب من وجهين أحدهما أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب كأنه قيل له احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 ) وفي الحديث ( احفظ الله يحفظك ) الثاني أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة واعلم أن حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه الأول أن الصلاة تحفظه عن المعاصي قال تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء والثاني أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن قال تعالى وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 153 ) وقال تعالى وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ ( المائدة 12 ) ومعناه إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة والثالث أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها قال تعالى وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءاتُواْ الزَّكَواة َ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 ) ولأن الصلاة فيها القراءة والقرآن يشفع لقارئه وهو شافع مشفع وفي الخبر ( إنه تجىء البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان ) وأيضاً في الخبر ( سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه ) والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب
فالقول الأول أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي وإنما قلنا إنه لم يبين(6/125)
لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال إنه تعالى بينها بطريق قطعي أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية أو بطريق آخر قاطع أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلاً في هذه الآية لأن عدد الصلوات خمس وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال إنما هي الوسطى وإما أن يقال بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر وذلك مفقود وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات وهذه المسألة ليست كذلك فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي ثم قالوا والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً من الموت في كل الأوقات فيكون آتياً بالتوبة في كل الأوقات وهذا القول اختاره جمع من العلماء قال محمد بن سيرين إن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال حافظ على الصلوات كلها تصبها وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها فقال يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى ثم قال الربيع لو علمتها بعينها لكنت محافظاً لها ومضيعاً لسائرهن قال السائل لا قال الربيع فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى
القول الثاني هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين
القول الثالث أنها صلاة الصبح وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام وعمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي أمامة الباهلي ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على صحة هذا القول وجوه الأول أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار الثاني أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح وقبل طلوع الشمس وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة ولا يكون الضوء أيضاً تاماً فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما الثالث أنه حصل في النهار التام صلاتان الظهر والعصر وفي الليل صلاتان المغرب والعشاء وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار
فإن قيل فهذه المعاني حاصلة في صلاة المغرب قلنا إنا نرجح صلاة الصبح على المغرب بكثرة فضائل صلاة الصبح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الرابع أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق وفي السفر عند الشافعي وكذا المغرب والعشاء وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتاً واحداً ووقت المغرب والعشاء وقتاً واحداً ووقت الفجر متوسطاً بينهما قال القفال رحمه الله وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون فلان وسط إذا لم يمل إلى أحد الخصمين فكان منفرداً بنفسه عنهما والله أعلم الخامس قوله تعالى إن قرآن الفجر كان مشهودا ( الإسراء 78 )(6/126)
وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر وإنما جعلها مشهوداً لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار
إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين أحدهما أن الله تعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر فدل هذا على مزيد فضلها ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية والثاني أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه فكانت كالشيء المتوسط السادس أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ قرن هذه الصلاة بذكر القنوت وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح السابع لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد ولا شك أن صلاة الصبح أحوج الصلوات إلى التأكيد إذ ليس في الصلاة أشق منها لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت والعدول إلى استعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد الثامن أن صلاة الصبح أفضل الصلوات وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح إنما قلنا إنها أفضل الصلوات لوجوه أحدها قوله تعالى الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ إلى قوله تعالى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار ثم يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض لقوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن ربه تعالى ( لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وذلك يقتضي أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح وثانيها ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها وثالثها أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين مرة قبل طلوع الفجر ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء ورابعها أن الله تعالى سماها بأسماء فقال في بني إسرائيل أَقِمِ الصَّلَواة َ ( الإسراء 78 ) وقال في النور مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ ( النور 58 ) وقال في الروم وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وقال عمر بن الخطاب المراد من قوله وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( الطور 49 ) صلاة الفجر وخامسها أنه تعالى أقسم به فقال وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ ( الفجر 1 2 ) ولا يعارض هذا بقوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 1 2 ) فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد وهو قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر وسادسها أن التثويب في أذان الصبح معتبر وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين الصلاة خير من النوم مرتين ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات وسابعها أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوماً ثم صار موجوداً أو كان ميتاً ثم صار حياً بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتاً فصاروا أحياء فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة العجز والخيرة وأبدل الكل بالإحسان فملأ العالم من(6/127)
النور والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فكان حمل الوسطى عليها أولى التاسع ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال كنا نرى أنها الفجر وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الصبح ثم قال هذه هي الصلاة الوسطى العاشر أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح
القول الرابع قول من قال إنها صلاة الظهر ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واحتجوا عليه بوجوه الأول أن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى وعن زيد بن ثابت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال عليه الصلاة والسلام ( لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) فنزلت هذه الآية والثاني صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها والثالث أنها بين صلاتين نهاريتين الفجر والعصر الرابع أنها صلاة بين البردين برد الغداة وبرد العشي الخامس قال أبو العالية صليت مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى فقالوا التي صليتها السادس روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى والمعطوف عليه قبل المعطوف والتي قبل العصر هي الظهر السابع روي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة الثامن روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت في صلاة الظهر فدل هذا على أنها أشرف الصلوات فكان صرف التأكيد إليها أولى التاسع أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات وهي صلاة الظهر فصرف المبالغة إليها أولى
القول الخامس قول من قال إنها صلاة العصر وهو من الصحابة مروى عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروى عن أبي حنيفة واحتجوا عليه بوجوه الأول ما روي عن علي عليه السلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم الخندق ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة وهو عظيم الوقع في المسألة وفي صحيح مسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال العصر وسط ولكن ليس هي المذكورة في القرآن فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة كما أن الحرم حرمان حرم مكة بالقرآن وحرم المدينة بالسنة وهذا الجواب متكلف جداً الثاني قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال عليه الصلاة والسلام ( من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وأيضاً أقسم الله تعالى بها فقال وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 1 2 ) فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى الثالث أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة(6/128)
على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر والسبب فيه أمران أحدهما أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ودخول الظهر بظهور الزوال ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر الثاني أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات فكان الإقبال على الصلاة أشق فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى
الحجة الرابعة في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه أحدها أنها متوسطة بين صلاة هي شفع وبين صلاة هي وتر أما الشفع فالظهر وأما الوتر فالمغرب إلا أن العشاء أيضاً كذلك لأن قبلها المغرب وهي وتر وبعدها الصبح وهو شفع وثانيها العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر وليلية وهي المغرب وثالثها أن العصر بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار
والقول السادس أنها صلاة المغرب وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب والحجة فيه من وجهين الأول أنها بين بياض النهار وسواد الليل وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه آخر وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء فهي وسط في الطول والقصر
الحجة الثانية أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة
القول السابع أنها صلاة العشاء قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران المغرب والصبح وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة ) فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلاً عظيماً والله أعلم
المسألة الرابعة احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب قال الوتر لو كان واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستة ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى والآية دلت على حصول الوسطى لها
فإن قيل الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أي عدولاً وقال تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( القلم 28 ) أي أعدلهم وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء
الجواب أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطاً لا من حيث إنه خلق فاضل بل من حيث إنه يكون متوسطاً بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطاً بحسب العدد ومجاز في الخلق(6/129)
الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز
أما قوله نحمله على ما يكون وسطاً في الزمان وهو الظهر
فجوابه أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة لأنها تؤدى بعد الزوال وهنا قد زال الوسط
وأما قوله نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطاً بين وقت الظلمة وبين وقت النور أو على المغرب لكون عددها متوسطاً بين الإثنين والأربعة
فجوابه أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضاً محتمل فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم
أما قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ففيه وجوه أحدها وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر واحتج عليه بوجهين الأول أن قوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ أمر بما في الصلاة من الفعل فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر فمعنى الآية وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء بدليل قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( الزمر 9 ) وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر وهو المفهوم من قولهم قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه
والقول الثاني قَانِتِينَ أي مطيعين وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل الدليل عليه وجهان الأول ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كل قنوت في القرآن فهو الطاعة ) الثاني قوله تعالى في أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 34 ) وقال في كل النساء فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ ( النساء 34 ) فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزىء وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأساً لأنه يقال كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال
القول الثالث قَانِتِينَ ساكتين وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ويسألهم كم صليتم كفعل أهل الكتاب فنزل الله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
القول الرابع وهو قول مجاهد القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء من جسده ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف
القول الخامس القنوت هو القيام واحتجوا عليه بحديث جابر قال سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي الصلاة أفضل قال طول القنوت ) يريد طول القيام وهذا القول عندي ضعيف وإلا صار تقدير الآية وقوموا لله قائمين(6/130)
اللهم إلا أن يقال وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذٍ يصير القنوت مفسراً بالإدامة لا بالقيام
القول السادس وهو اختيار علي بن عيسى أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصاً بالمداومة على طاعة الله تعالى والمواظبة على خدمة الله تعالى وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ويحتمل أن يكون المراد وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم
فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف فقال قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى يروى فَرِجَالاً بضم الراء و رِجَالاً بالتشديد و رَجُلاً
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله معنى الآية فإن خفتم عدواً فحذف المفعول لإحاطة العلم به قال صاحب الكشاف فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف سواء كان الخوف من العدو أو من غيره وفيه قول ثالث وهو أن المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود
المسألة الثالثة في الرجال قولان أحدهما رجالاً جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشياً كان أو وافقاً ويقال في جمع راجل رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال
والقول الثاني ما ذكره القفال وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع لأن راجلاً يجمع على راجل ثم يجمع رجل على رجال والركبان جمع راكب مثل فرسان وفارس قال القفال ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس والله أعلم
المسألة الرابعة رجالاً نصب على الحال والعامل فيه محذوف والتقدير فصلوا رجالاً أو ركباناً
المسألة الخامسة صلاة الخوف قسمان أحدهما أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ ( النساء 102 ) وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين
إذا عرفت هذا فنقول إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم(6/131)
يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة لا يصلي الماشي بل يؤخر واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول قال ابن عمر فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
الوجه الثاني وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال فصار قوله فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يدل على الترخص في ترك التوجه وأيضاً يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود فصح بما ذكرنا دلالة رجالاً أو ركباناً على جواز ترك الاستقبال وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط فنقول لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها فعل القلب وهو النية وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني فعل اللسان وهي القراءة وهي لا تسقط عند الخوف ولا يجوز له أيضاً أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث أعمال الجوارح فنقول أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع لأن هذا القدر ممكن وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه والأصح أنه يجوز لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضاً
والجواب أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل
المسألة السادسة اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول الخوف إما أن يكون في القتال أو في غير القتال أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب أو مباح أو محظور أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف وفيه نزلت الآية ويلتحق به قتال أهل البغي قال تعالى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ( الحجرات 9 ) وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالاً بحق الإسلام
إذا عرفت هذا فنقول أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم فإنه يجوز فيه صلاة الخوف أما قصد أخذ ماله أو إتلاف حاله فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف فيه قولان الأصح أن يجوز واحتج الشافعي بقوله عليه السلام ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) فدل هذا على أن الدفع عن(6/132)
المال كالدفع عن النفس والثاني لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة أما الخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسراً خائفاً من الحبس عاجزاً عن بينة الإعسار فلهم أن يصلوا هذه الصلاة لأن قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ مطلق يتناول الكل
فإن قيل قوله فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة
قلنا هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعاً للضرر وهذا المعنى قائم ههنا فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً والله أعلم
المسألة الرابعة روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن وأن قول ابن عباس متروك
أما قوله تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم وفيه قولان الأول فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وكما بينه بشروطه وأركانه لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل والصلاة قد تسمى ذكراً لقوله تعالى فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الجمعة 9 )
والقول الثاني فَاذْكُرُواْ اللَّهَ أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن طعن القاضي في هذا القول وقال إن هذا الذكر لما كان معلقاً بشرط مخصوص وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعاً على حد واحد ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر كما يلزم مع الأمن لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى فالواجب حمل قوله تعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ على ذكر يختص بهذه الحالة
والقول الثالث أنه دخل تحت قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ الصلاة والشكر جميعاً لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها
أما قوله تعالى كَمَا عَلَّمَكُم فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف وأن ذلك من نعمه تعالى ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك ثم إن إصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل وفعل الألطاف وقوله تعالى مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ إشارة إلى ما قبل بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من زمان الجهالة والضلالة
الحكم السابع عشر
الوفاة(6/133)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة ً لازْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وَصِيَّة ٍ بالرفع والباقون بالنصب أما الرفع ففيه أقوال الأول أن قوله وَصِيَّة ٍ مبتدأ وقوله لاّزْوَاجِهِم خبر وحسن الابتداء بالنكرة لأنها متخصصة بسبب تخصيص الموضع كما حسن قوله سلام عليكم وخبر بين يدي والثاني أن يكون قوله وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مبتدأ ويضمر له خبر والتقدير فعليهم وصية لأزواجهم ونظيره قوله فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ ( النساء 92 ) فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ ( المائدة 89 ) والثالث تقدير الآية الأمر وصية أو المفروض أو الحكم وصية وعلى هذا الوجه أضمرنا المبتدأ والرابع تقدير الآية كتب عليكم وصية والخامس تقديره ليكون منكم وصية والسادس تقدير الآية ووصية الذين يتوفون منكم وصية إلى الحول وكل هذه الوجوه جائزة حسنة وأما قراءة النصب ففيها وجوه الأول تقدير الآية فليوصوا وصية والثاني تقديرها توصون وصية كقولك إنما أنت سير البريد أي تسير سير البريد الثالث تقديرها ألزم الذين يتوفون وصية
أما قوله تعالى مَّتَاعًا ففيه وجوه الأول أن يكون على معنى متعوهن متاعاً فيكون التقدير فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً الثاني أن يكون التقدير جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبل الكلام يدل على هذا الثالث أنه نصب على الحال
أما قوله غَيْرَ إِخْرَاجٍ ففيه قولان الأول أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني انتصب بنزع الخافض أراد من غير إخراج
المسألة الثانية في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخة قالوا كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج وإن شاءت خرجت قبل الحول لكنها متى خرجت سقطت نفقتها هذا جملة ما في هذه الآية لأنا إن قرأنا وَصِيَّة ٍ بالرفع كان المعنى فعليهم وصية وإن قرأناها بالنصب كان المعنى فليوصوا وصية وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما المتاع والنفقة إلى الحول والثاني السكنى إلى الحول ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني وجوب الاعتداد سنة لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث فصار مجموع القرآن والسنة ناسخاً للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين(6/134)
القول الثاني وهو قول مجاهد أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما ما تقدم وهو قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا والأخرى هذه الآية فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين فنقول إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً على ما في تلك الآية المتقدمة وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها والأخذ من ماله وتركته فعدتها هي الحول وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى حتى يكون كل واحد منهما معمولاً به
القول الثالث وهو قول أبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة قال والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل واحتج على قوله بوجوه أحدها أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ في النزول وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً لأن هذا الترتيب أحسن فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك
الوجه الثالث وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر لأنكم تقولون تقدير الآية فعليهم وصية لأزواجهم أو تقديرها فليوصوا وصية فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى وأبو مسلم يقول بل تقدير الآية والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم أو تقديرها وقد أوصوا وصية لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه وهذا كلام واضح
وإذا عرفت هذا فنقول هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية فالشرط هو قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فهذا كله شرط والجزاء هو قوله فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ فهذا تقرير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحة
المسألة الثالثة المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة حاملاً كانت أو حائلاً وروي عن علي عليه السلام وابن عمر رضي الله عنهما أن لها النفقة إذا كانت حاملاً وعن جابر وابن عباس رضي الله عنهم(6/135)
أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث وهل تستحق السكنى فيه قولان أحدهما لا تستحق السكنى وهو قول علي عليه السلام وابن عباس وعائشة ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني والثاني تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأحمد وبناء القولين على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها قالت فسألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله واختلفوا في تنزيل هذا الحديث قيل لم يوجب في الابتداء ثم أوجب فصار الأول منسوخاً وقيل أمرها بالمكث في بيتها أمراً على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب واحتج المزني رحمه الله على أنه لا سكنى لها فقال أجمعنا على أنه لا نفقة لها لأن الملك انقطع بالموت فكذلك السكنى بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم لأن ماله صار ميراثاً للورثة فكذا ههنا
أجاب الأصحاب فقالوا لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن ههنا وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود ههنا فافترقا
إذا عرفت هذا فنقول القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى أما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا والكلام فيه ما ذكرناه
المسألة الرابعة القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا الله تعالى ذكر الوفاة ثم أمر بالوصية فكيف يوصي المتوفي وأجابوا عنه بأن المعنى والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه كأنه قيل وصية من الله لأزواجهم كقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( النساء 11 ) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع
أما قوله تعالى فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فالمعنى لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين ومن الإقدام على النكاح وفي رفع الجناح وجهان أحدهما لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها
الحكم الثامن عشر
في المطلقات(6/136)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
يروى أن هذه الآية إنما نزلت لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ إلى قوله حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( البقرة 236 ) قال رجل من المسلمين إن أردت فعلت وإن لم أرد لم أفعل فقال تعالى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني على كل من كان متقياً عن الكفر واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان أحدهما أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( البقرة 236 )
فإن قيل لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ
قلنا هناك ذكر حكماً خاصاً وههنا ذكر حكماً عاماً
والقول الثاني أن المراد بهذه المتعة النفقة والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار السامع ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أما قوله أَلَمْ تَرَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الرؤية قد تجىء بمعنى رؤية البصيرة والقلب وذلك راجع إلى العلم كقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) معناه علمنا وقال لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ( النساء 105 ) أي علمك ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء ألم تر إلى ما جرى على فلان فيكون هذا ابتداء تعريف فعلى هذا يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ويجوز أن نقول كان العلم بها سابقاً على نزول هذه(6/137)
الآية ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم
المسألة الثانية هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه كقوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 )
المسألة الثالثة دخول لفظة إِلَى في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يحتمل أن يكون لأجل أن إِلَى عندهم حرف للانتهاء كقولك من فلان إلى فلان فمن علم بتعليم معلم فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه فحسن من هذا الوجه دخول حرف إِلَى فيه ونظيره قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( الفرقان 45 )
أما قوله إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ففيه روايات أحدها قال السدي كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها والذين بقوا مات أكثرهم وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين فقال من بقي من المرضى هؤلاء أحرص منا لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ولئن وقع الطاعون ثانياً خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً فلما خرجوا من ذلك الوادي ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فهلكوا وبليت أجسامهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم فقال نعم فقيل له ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ثم أوحى الله إليه ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ودماً فصارت لحماً ودماً ثم قيل ناد إن الله يأمرك أن تقومي فقامت فلما صاروا أحياء قاموا وكانوا يقولون ( سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ) ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم
الرواية الثانية قال ابن عباس رضي الله عنهما إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال وقالوا لملكهم إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء فأماتهم الله تعالى بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر فأحياهم الله بعد الثمانية وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 190 )
والرواية الثالثة أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله عليهم الموت فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى حزقيل ذلك قال اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يحرجون عن قبضتك فأرسل الله عليهم الموت ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى
أما قوله تعالى وَهُمْ أُلُوفٌ ففيه قولان الأول أن المراد منه بيان العدد واختلفوا في مبلغ(6/138)
عددهم قال الواحدي رحمه الله ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف ولا فوق سبعين ألفاً والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف
والقول الثاني أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد وجلوس وجالس والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب قال القاضي الوجه الأول أولى لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتباراً عظيماً فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفاً لحياته محباً لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها أماتهم الله تعالى وأهلكهم ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد
أما قوله حَذَرَ الْمَوْتِ فهو منصوب لأنه مفعول له أي لحذر الموت ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت فلما خص هذا الموضع بالذكر علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة
أما قوله تعالى فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ففي تفسير قَالَ اللَّهُ وجهان الأول أنه جار مجرى قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير ومثل هذا عرف مشهور في اللغة ويدل عليه قوله ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فإذا صح الإحياء بالقول فكذا القول في الإماتة
والقول الثاني أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم موتوا وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي ويحتمل أيضاً ما رويناه من أن الملك قال ذلك والقول الأول أقرب إلى التحقيق
أما قوله تعالى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به وذلك لأنه في نفسه جائر والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولاً واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولاً ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به
المسألة الثانية قالت المعتزلة إحياء الميت فعل خارق للعادة ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي ولسائر الأغراض فكأن هذا الحصر باطلاً ثم قالت المعتزلة وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام وقيل حزقيل(6/139)
هو ذو الكفل وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبياً وأنجاهم من القتل وقيل إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجباً فأوحى الله تعالى إليه إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك فقال نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه
المسألة الثالثة أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت وعند معاينة الأهوال والشدائد فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية وإما ما شاهدوا شيئاً من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال البتة فإن كان الحق هو الأول فعندما أحياهم يمتنع أن يقال إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة وإما أن يقال إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين وليس في الآية ما يمنع منه أو يقال إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئاً من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند القرب من الموت والله أعلم بحقائق الأمور
المسألة الرابعة قال قتادة إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ففيه وجوه أحدها أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي وثانيها أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب ويستحقون الثواب فكان ذكر هذه القصة فضلاً من الله تعالى وإحساناً في حق هؤلاء المنكرين وثالثها أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان وتزيل عن قلبه الخوف من الموت فكان ذكر هذه القصة سبباً لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم فكان ذكر هذه القصة فضلاً وإحساناً من الله تعالى على عبده ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ وهو كقوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ( الفرقان 50 )
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه قولان الأول أن هذا خطاب للذين أحيوا قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد(6/140)
واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره وقيل لهم قاتلوا
والقول الثاني وهو اختيار جمهور المحققين أن هذا استئناف خطاب للحاضرين يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت كما قال في قوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( الأحزاب 16 ) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين إما في العاجل الظهور على العدو أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين
أما قوله تعالى فِى سَبِيلِ اللَّهِ فالسبيل هو الطريق وسميت العبادات سبيلاً إلى الله تعالى من حيث أن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله تعالى بها ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين فكان طاعة فلا جرم كان المجاهد مقاتلاً في سبيل الله ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد وفي تنفير الغير عنه وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا
مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا اختلف المفسرون فيه على قولين الاْوَّلِ أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ثم أكد تعالى ذلك بقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق
والقول الثاني أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال المراد من هذا القرض إنفاق المال ومنهم من قال إنه غيره والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال الأول أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين الأول أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعاً
الحجة الثانية سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي الدحداح قال يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة قال نعم قال وأم الدحداح معي قال نعم قال والصبية معي قال نعم فتصدق بأفضل حديقته وكانت تسمى الحنينة قال(6/141)
فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح بارك الله لك فيما اشتريت فخرجوا منها وسلموها فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً
والقول الثاني أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وذلك كالزجر وهو إنما يليق بالواجب
والقول الثالث وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين كما أنه داخل تحت قوله مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ ( البقرة 261 ) من قال المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال قالوا روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) قال القاضي وهذا بعيد لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة إلا أن نقول الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه لو كان قادراً لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق وقد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة )
المسألة الثانية اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز قال الزجاج إنه حقيقة وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه تقول العرب لك عندي قرض حسن وسيء والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه قال أمية بن أبي الصلت كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا
أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع ومنه القراض وانقرض القوم إذا هلكوا وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها
والقول الثاني أن لفظ القرض ههنا مجاز وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئاً ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضاً والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء فهو يطلب منا القرض وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم لأن الغالب عليهم التشبيه ويقولون إن معبودهم شيخ قال القاضي من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر
فإن قيل فما معنى قوله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام(6/142)
قلنا إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر
أما قوله تعالى قَرْضًا حَسَنًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي القرض في هذه الآية اسم لا مصدر ولو كان مصدراً لكان ذلك إقراضاً
المسألة الثانية كون القرض حسناً يحتمل وجوهاً أحدها أراد به حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام لأن مع الشبهة يقع الاختلاط ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها أن لا يتبع ذلك الإنفاق مناً ولا أذى وثالثها أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب
أما قوله تعالى فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله فَيُضَاعِفَهُ أربع قراءات أحدها قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي فَيُضَاعِفَهُ بالألف والرفع والثاني قرأ عاصم فَيُضَاعِفَهُ بألف والنصب والثالث قرأ ابن كثير فيضعفه بالتشديد والرفع بلا ألف والرابع قرأ ابن عامر فيضعفه بالتشديد والنصب
فنقول أما التشديد والتخفيف فهما لغتان ووجه الرفع العطف على يقرض ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضاً فيضاعفه والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعاً
المسألة الثانية التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر وفي الآية حذف والتقدير فيضاعف ثوابه
أما قوله تعالى لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً فمنهم من ذكر فيه قدراً معيناً وأجود ما يقال فيه إنه القدر المذكور في قوله تعالى مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ( البقرة 261 ) فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد بل قال بعده وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( البقرة 261 )
والقول الثاني وهو الأصح واختيار السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه أحدها أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى وثالثها أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته فقال وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ يعني يقبض القلوب حتى لا(6/143)
تقدم على هذه الطاعة ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة ثم قال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه والله أعلم
القصة الثانية
قصة طالوت
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِى ٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
الملأ الأشراف من الناس وهو اسم الجماعة كالقوم والرهط والجيش وجمعه أملاء قال الشاعر وقال لها الأملاء من كل معشر
وخير أقاويل الرجال سديدها
وأصلها من الملء وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء وقيل هم الذين يملأون المكان إذا حضروا وقال الزجاج الملأ الرؤساء سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه من قولهم ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملى ء
قوله تعالى إِذَا قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا في الآية مسائل
المسألة الأولى تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 190 ) ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى
المسألة الثانية لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن ومنهم من قال إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف والدليل عليه قوله تعالى مِن بَعْدِ مُوسَى وهذا ضعيف لأن قوله مِن بَعْدِ مُوسَى كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان ومنهم من قال كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هرون واسمه بالعربية إسماعيل وهو قول الأكثرين وقال(6/144)
السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها فسمته شمعون يعني سمع دعاءها فيه والسين تصير شيناً بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام
المسألة الثالثة قال وهب والكلبي إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل والخطايا عظمت فيهم ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيراً من ذراريهم فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من عند ربهم
أما قوله نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فاعلم أنه قرىء نُّقَاتِلْ بالنون والجزم على الجواب وبالنون والرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو استئناف كأنه قيل ما تصنعون بالملك قالوا نقاتل وقرىء بالياء والجزم على الجواب وبالرفع على أنه صفة لقوله مَلَكًا أما قوله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَن لا تُقَاتِلُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحده عَسَيْتُمْ بكسر السين ههنا وفي سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون هو عسى بكذا وهذا يقوي عَسَيْتُمْ بكسر السين ألا ترى أن عسى بكذا مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز عَسَى رَبُّكُمْ أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة وليست الياء من عَسَى كذلك لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى
والجواب الثاني هب أن القياس يقتضي جواز عَسَى رَبُّكُمْ إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر
المسألة الثانية خبر هَلْ عَسَيْتُمْ وهو قوله أَن لا تُقَاتِلُواْ والشرط فاصل بينهما والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل هَلُ مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير وثبت أن المتوقع كائن له وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ معناه التقرير ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك وهو قولهم وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته
فإن قيل المشهور إنه يقال مالك تفعل كذا ولا يقال مالك أن تفعل كذا قال تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) وقال وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( الحديد 8 )
والجواب من وجهين الأول وهو قول المبرد أن مَا في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال ما لنا نترك القتال وعلى هذا الطريق يزول السؤال(6/145)
الوجه الثاني أن نسلم أن مَا ههنا بمعنى الاستفهام ثم على هذا القول وجوه الأول قال الأخفش أن ههنا زائدة والمعنى ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني قال الفراء الكلام ههنا محمول على المعنى لأن قولك مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( ص 75 ) وقال مَالِكَ أَن لا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( الحجر 32 ) الثالث قال الكسائي معنى وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ أي شيء لنا في ترك القتال ثم سقطت كلمة فِى ورجح أبو علي الفارسي قول الكسائي على قول الفراء قال وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر والتقدير ما يمنعنا من أن نقاتل إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى
أما قوله فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا
أما قوله إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم وقيل كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَة ً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكاً فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً قال صاحب ( الكشاف ) طالوت اسم أعجمي كجالوت وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم ووزنه إن كان من الطول فعلوت وأصله طولوت إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه إلا أن يقال هو اسم عبراني وافق عربياً كما وافق(6/146)
حطة حنطة وعلى هذا التقدير يكون أحد سببية العجمة لكونه عبرانياً ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكاً لهم أظهروا التولي عن طاعته والإعراض عن حكمه وقالوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا واستبعدوا جداً أن يكون هو ملكاً عليهم قال المفسرون وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهرون وسبط المملكة سبط يهوذا ومنه داود وسليمان وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى وهي قولهم ولم يؤت سعة من المال وذلك إشارة إلى أنه فقير واختلفوا فقال وهب كان دباغاً وقال السدي كان مكارياً وقال آخرون كان سقاء
فإن قيل ما الفرق بين الواوين في قوله وَنَحْنُ أَحَقُّ وفي قوله وَلَمْ يُؤْتَ
قلنا الأولى للحال والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً والمعنى كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك وإذا ثبت ذلك كان ملكاً واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة
المسألة الثانية قوله اصْطَفَاهُ أي أخذ الملك من غيره صافياً له واصطفاه واستصفاه بمعنى الاستخلاص وهو أن يأخذ الشيء خالصاً لنفسه وقال الزجاج إنه مأخوذ من الصفوة والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول إن الإمامة موروثة وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ( آل عمران 26 )
الوجه الثاني في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وتقرير هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني أنه فقير والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما العلم والثاني القدرة وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية والمال والجاه ليسا كذلك والثاني أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع أن العلم بأمر الحروب والقوي(6/147)
الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر أولى من إسناده إلى النسيب الغني ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده وقالت المعتزلة هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب
المسألة الثانية قال بعضهم المراد بالبسطة في الجسم طول القامة وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه وإنما سمي طالوت لطوله وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال وكان أجمل بني إسرائيل وقيل المراد القوة وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة لا الطول والجمال
المسألة الثالثة أنه تعالى قدم البسطة في العلم على البسطة في الجسم وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية
الوجه الثالث في الجواب عن الشبهة قوله تعالى وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله
الوجه الرابع في الجواب قوله تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة وسعت رحمته كل شيء والتقدير أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيراً والله تعالى واسع الفضل والرحمة فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال
والقول الثاني أنه واسع بمعنى موسع أي يوسع على من يشاء من نعمه وتعلقه بما قبله على ما ذكرناه والثالث أنه واسع بمعنى ذو سعة ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا كقوله عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضا وهم ناصب ذو نصب ثم بين بقوله عَلِيمٌ أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك(6/148)
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّة ٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَة ُ إِنَّ فِي ذَالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَة ً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم لأن قوله تعالى حكاية عنهم إِذْ قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى ثم إن ذلك النبي لما قال إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا كان هذا دليلاً قاطعاً في كون طالوت ملكاً ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر يدل على كون ذلك النبي صادقاً في ذلك الكلام ويدل أيضاً على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام ومحمد عليه الصلاة والسلام فلهذا قال تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى ثم قال أصحاب الأخبار إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كلّ من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت(6/149)
فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكاً لهم فذلك هو قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ والإتيان على هذا مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعاً كما يقال ربحت الدراهم وخسرت التجارة
والرواية الثانية أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه وكان من خشب وكانوا يعرفونه ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل ثم قال نبي ذلك القوم إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران بل نزل من السماء إلى الأرض والملائكة كانوا يحفظونه والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق وإن كان الحامل غيره
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة ثم فيه احتمالان أحدهما أن يكون مجىء التابوت معجزاً وذلك هو الذي قررناه والثاني أن لا يكون التابوت معجزاً بل يكون ما فيه هو المعجز وذلك بأن يشاهدوا التابوت خالياً ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتاباً يدل على أن ملكهم هو طالوت وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنه من عند الله تعالى ولفظ القرآن يحتمل هذا لأن قوله يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) وزن التابوت إما أن يكون فعلوتاً أو فاعولاً والثاني مرجوح لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد نحو سلس وقلق فلا يقال تابوت من تبت قياساً على ما نقل وإذا فسد هذا القسم تعين الأول وهو أنه فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته
المسألة الثالثة قرأ الكل التابوت بالتاء وقرأ أبي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار
المسألة الرابعة من الناس من قال إن طالوت كان نبياً لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً ولا يقال إن هذا كان من كرامات الأولياء لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي وهذا كان على سبيل التحدي فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات
والجواب لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه
أما قوله تعالى التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى السَّكِينَة َ فعيلة من السكون وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة(6/150)
المسألة الثانية اختلفوا في السكينة وضبط الأقوال فيها أن نقول المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئاً حاصلاً في التابوت أو ما كان كذلك
والقسم الثاني هو قول أبي بكر الأصم فإنه قال مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّة ٌ أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك وتزول نفرتكم عنه لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية
وأما القسم الأول وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعاً في التابوت وعلى هذا ففيه أقوال الأول وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل خوف العدو عنهم الثاني وهو قول علي عليه السلام كان لها وجه كوجه الإنسان وكان لها ريح هفافة والثالث قول ابن عباس رضي الله عنهما هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر
القول الرابع وهو قول عمرو بن عبيد إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن وهو كقوله في قصة الغار فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 26 ) فكذا قوله تعالى فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ معناه الأمن والسكون
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول أن قوله فِيهِ سَكِينَة ٌ يدل على كون التابوت ظرفاً للسكينة والثاني وهو أنه عطف عليه قوله وَبَقِيَّة ٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى فكما أن التابوت كان ظرفاً للبقية وجب أن يكون ظرفاً للسكينة
والجواب عن الأول أن كلمة فِى كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) وقال ( في خمس من الإبل شاة ) أي بسببه فقوله في هذه الآية فِيهِ سَكِينَة ٌ أي بسببه تحصل السكينة
والجواب عن الثاني لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعاً في التابوت فقالوا البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم
أما قوله وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ففيه قولان الأول قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري ( لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ) وأراد به داود نفسه لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام
والقول الثاني قال القفال رحمه الله إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت(6/151)
قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع قال تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 )
وأما قوله تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَة ُ فقد تقدم القول فيه
وأما قوله إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي
قوله تعالى فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له وأجابوا إلى المسير تحت رايته فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه ومعنى الفصل القطع يقال قول فصل إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلاً وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالاً ويقال للفطام فصال لأنه يقطع عن الرضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ومنه قوله وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ( يوسف 94 ) قال صاحب ( الكشاف ) قوله فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة )
المسألة الثانية روي أن طالوت قال لقومه لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناءً لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفاً
أما قوله تعالى قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا القائل من كان فقال الأكثرون أنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسنداً إلى مذكور سابق والمذكور السابق هو طالوت ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبياً ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبياً
والقول الثاني أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية والتقدير فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام
المسألة الثانية في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول قال القاضي كان مشهوراً من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال فَإِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ الثاني أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد
المسألة الثالثة في النهر أقوال أحدها وهو قول قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين(6/152)
والثاني وهو قول ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين قال القاضي والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين
القول الثالث وهو الذي رواه صاحب ( الكشاف ) أن الوقت كان قيظاً فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً فقال إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر
المسألة الرابعة قوله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء وثبت أن الله تعالى لا يثبت ولا يعاقب على علمه إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء وفيه لغتان بلا يبلو وابتلى يبتلي قال الشاعر ولقد بلوتك وابتليت خليفتي
ولقد كفاك مودتي بتأدب
فجاء باللغتين
المسألة الخامسة نهر ونهر بتسكين الهاء وتحريكها لغتان وكل ثلاثي حشوه حرف من حروف الحلق فإنه يجىء على هذين كقولك صخر وصخر وشعر وشعر وقالوا بحر وبحر وقال الشاعر كأنما خلقت كفاء من حجر
فليس بين يديه والندى عمل
يرى التيمم في بر وفي بحر
مخافة أن يرى في كفه بلل
أما قوله تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَلَيْسَ مِنّي كالزجر يعني ليس من أهل ديني وطاعتي ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ثم قال قبل هذا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وأيضاً نظيره قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا ) أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم
المسألة الثانية قال أهل اللغة لَّمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذقه وهو من الطعم وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة أحدهما أن الإنسان إذا عطش جداً ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال إن هذا الماء كأنه الجلاب وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة فقوله وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه وأن لا يشربه والثاني أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه ولا يصدق عليه أنه شربه فلو قال ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصوراً على الشرب أما لما قال وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ كان المنع حاصلاً في الشرب وفي المضمضة ومعلوم أن هذا التكليف أشق وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة
المسألة الثالثة أنه تعالى قال في أول الآية فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ثم قال بعده وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ وكان ينبغي أن يقال ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقاً أولها إلا أنه ترك ذلك اللفظ(6/153)
واختير هذا لفائدة وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلاً بذلك الشيء وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن ذلك وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز معروف مشهور
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ظاهره أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي فلما كان هذا الاحتمال قائماً في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام
أما قوله إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَة ً بِيَدِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو غُرْفَة ً بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف والغرفة بالفتح الفعل وهو الاغتراف مرة واحدة ومثله الأكلة والأكلة يقال فلان يأكل في النهار أكله واحدة وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئاً قليلاً كاللقمة ويقال الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة ونحوه الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين والخطوة أن يخطو مرة واحدة وقال المبرد غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء الكف أو ما اغترف به
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ استثناء من قوله فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وهذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء إلا أنها قدمت في الذكر للعناية
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها
وأقول هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة بغرفة واحدة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه ولأن يحمله مع نفسه والثاني أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام
أما قوله تعالى فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبي والأعمش إِلاَّ قَلِيلٌ قال صاحب ( الكشاف ) وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى وإعراضهم عن اللفظ لأن قوله فَشَرِبُواْ مِنْهُ في معنى فلم يطيعوه لا جرم حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم
المسألة الثانية قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق والموافق عن المخالف فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلاً لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر وأن كل(6/154)
من شرب منه فإنه لا يكون مأذوناً في هذا القتال وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال لا جرم أقدموا على الشرب فتميز الموافق عن المخالف والصديق عن العدو ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا على لقاء العدو وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى فقوي قلبهم وصح إيمانهم وعبروا النهر سالمين
المسألة الثالثة القليل الذي لم يشرب قيل إنه أربعة آلاف والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون والدليل عليه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه يوم بدر أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن قال البراء بن عازب وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً
أما قوله فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده وفيه قولان الأول أنه ما عبر معه إلا المطيع واحتج هذا القائل بأمور الأول أن الله تعالى قال فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ فالمراد بقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ الذين وافقوه في تلك الطاعة فلما ذكر الله تعالى كل العسكر ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين
الحجة الثانية الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي أي ليس من أصحابي في سفري كالرجل الذي يقول لغيره لست أنت منا في هذا الأمر قال ومعنى فَشَرِبُواْ مِنْهُ أي ليتسببوا به إلى الرجوع وذلك لفساد دينهم وقلبهم
الحجة الثالثة أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر
القول الثاني أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت قَالُواْ لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق وهذه الحجة ضعيفة وبيان ضعفها من وجوه أحدها يحتمل أن يقال إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاء في قوله فَلَمَّا جَاوَزَهُ تقتضي أن يكون قولهم لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ إنما وقع بعد المجاوزة إلا أنا نقول يحتمل أن يقال إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة(6/155)
ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضاً زائل
والجواب الثاني أنه يحتمل أن يقال المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى
فالقسم الأول هم الذين قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ
والقسم الثاني هم الذين أجابوا بقولهم كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً
والجواب الثالث يحتمل أن يقال القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله والقسم الثاني قالوا لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر
المسألة الثانية الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة يقال أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار يغير إغارة والاسم الغارة وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة وفي المثل أساء سمعاً فأساء جابة أي جواباً
أما قوله تعالى قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ ففيه سؤال وهو أنه تعالى لم جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين
وجوابه أن السبب فيه أمور الأول وهو قول قتادة أن المراد من لقاء الله الموت قال عليه الصلاة والسلام ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت لا جرم قيل في صفتهم إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة وذلك لأن أحداً لا يعلم عاقبة أمره فلا بد أن يكون ظاناً راجياً وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر إلا من أخبر الله بعاقبة أمره وهذا قول أبي مسلم وهو حسن
الوجه الثالث أن يكون المعنى قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعاً بأن هذا العمل الذي عمله طاعة لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة ولا يكون بنية خالصة فحيئذٍ لا يكون الفعل طاعة إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص
الوجه الرابع أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها فقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر وإنما جعله ظناً لا يقيناً لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعاً إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على(6/156)
سبيل حسن الظن
الوجه الخامس قال كثير من المفسرين المراد بقوله يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ أنهم يعلمون ويوقنون إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد
أما قوله كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي والنصر السماوي فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة
المسألة الثانية الفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة وقال الزجاج أصل الفئة من قولهم فأوت رأسه بالسيف وفأيت إذا قطعت فالفئة الفرقة من الناس كأنها قطعة منهم
المسألة الثالثة قال الفراء لو ألغيت من ههنا جاز في فئة الرفع والنصب والخفض أما النصب فلأن كَمْ بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلاً وأما الخفض فبتقدير دخول حرف مِنْ عليه وأما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل كم غلبت فئة
وأما قوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلا شبهة أن المراد المعونة والنصرة ثم يحتمل أن يكون هذا قولاً للذين قالوا كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ ويحتمل أن يكون قولاً من الله تعالى وإن كان الأول أظهر
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى المبارزة في الحروب هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال والأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز وهو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه
المسألة الثانية أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم والكثرة في جانب عدوهم لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع فقالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين وَكَأَيّن مّن نَّبِى ّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ ( آل عمران 146 ) إلى قوله وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) وهكذا كان(6/157)
يفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل المواطن وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده وكان متى لقي عدواً قال ( اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ) وكان يقول ( اللهم بك أصول وبك أجول )
المسألة الثالثة الإفراغ الصب يقال أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه وأصله من الفراغ يقال فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه وإنما يخلو بصب كل ما فيه
إذا عرفت هذا فنقول قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه وهذا يدل على التأكيد والثاني أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه وذلك يكون بصب كل ما فيه فمعنى أفرغ علينا صبراً أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه
المسألة الرابعة اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها أن يكون الإنسان صبوراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جباناً لا يحصل منه مقصود أصلاً وثانيها أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار وثالثها أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى هي المراد من قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا والثانية هي المراد بقوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا والثالثة هي المراد بقوله وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
المسألة الخامسة احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى وهو قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضاً بفعل الله تعالى وهو قوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر وأسباب ثبات القدم وتلك الأسباب أمور أحدها أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ويصير داعياً لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام وثانيها أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سبباً لجراءة المؤمنين عليهم وثالثها أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من البلاء مثل الموت والوباء وما يكون سبباً لاشتغالهم بأنفسهم ولا يتفرغون حينئذٍ للمحاربة فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ورابعها أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سبباً لقوة قلوبهم وموجباً لأن يحصل لهم الصبر والثبات هذا كلام القاضي
والجواب عنه من وجهين الأول أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز(6/158)
الوجه الثاني في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أوليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله قائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح فيجب حصول الطرف الراجح لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب والله أعلم
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
المعنى أن الله تعالى استجاب دعاءهم وأفرغ الصبر عليهم وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ وأصل الهزم في اللغة الكسر يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف وهزمت العظم أو القصبة هزماً والهزمة نقرة في الجبل أو في الصخرة قال سفيان بن عيينة في زمزم هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء ويقال سمعت هزمة الرعد كأنه صوت فيه تشقق ويقال للسحاب هزيم لأنه يتشقق بالمطر وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه وتيسيره وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل ألبتة ثم قال وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ قال ابن عباس رضي الله عنهما إن داود عليه السلام كان راعياً وله سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشاً أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف فسكتوا فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس فقال له داود ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف فقال طالوت أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي فقال داود فأنا خارج إليه وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي وكان طالوت عارفاً بجلادته فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً فهزم الله جنود جالوت وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ فحسده طالوت وأخرجه من مملكته ولم يف له بوعده ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل وملك داود وحصلت له النبوة ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة إلا له
اعلم أن قوله فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده لأن الواو لا تفيد الترتيب(6/159)
أما قوله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة وبذل النفس في سبيل الله مع أنه تعالى كان عالماً بأنه صالح لتحمل أمر النبوة والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ ( الدخان 32 33 ) وقال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وظاهر هذه الآية يدل أيضاً على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت قال بعده وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة وقال الأكثرون إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال بل ذلك محض التفضل والإنعام قال تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 )
المسألة الثانية قال بعضهم ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر كان ذلك معجزاً لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت خذنا فإنك تقتل جالوت بنا فظهور المعجز يدل على النبوة وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهراً وقال الأكثرون إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك قالوا والروايات وردت بذلك قالوا لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل وملك ذلك الزمان طالوت فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود فاجتمع الملك والنبوة فيه
المسألة الثالثة الْحِكْمَة َ هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة قال تعالى مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ ( النساء 54 ) وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( آل عمران 146 )
فإن قيل فإذا كان المراد من الحكمة النبوة فلم قدم الملك على الحكمة مع أن الملك أدون حالاً من النبوة
قلنا لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي فكل ما كان أكثر تأخراً في الذكر كان أعلى حالاً وأعظم رتبة
أما قوله تعالى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ففيه وجوه أحدها أن المراد به ما ذكره في قوله وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) وقال وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ ( سبأ 10 11 ) وثانيها أن المراد كلام الطير والنمل قال تعالى حكاية عنه عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( النمل 16 )(6/160)
وثالثها أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك فإنه ما ورث الملك من آبائه لأنهم ما كانوا ملوكاً بل كانوا رعاة ورابعها علم الدين قال تعالى وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها الألحان الطيبة ولا يبعد حمل اللفظ على الكل
فإن قيل إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة وكان المراد بالحكمة النبوة فقد دخل العلم في ذلك فلم ذكر بعده عِلْمِهِ مِمَّا يَشَاء
قلنا المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا السبب قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) ثم قال تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض فقال وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ ( البقرة 25 ) بغير ألف وكذلك في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ وقرآ جميعاً إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الحج 38 ) بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ بالألف وقرأ نافع وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ و إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ بالألف
إذا عرفت هذه الروايات فنقول أما من قرأ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ فوجهه ظاهر وأما من قرأ وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعاً لصاحبه ومانعاً له من فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين أحدهما أنه مصدر لدفع تقول دفعته دفعاً ودفاعاً كما تقول كتبته كتباً وكتاباً قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فعل وفعل تقول جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاء وقمت قياماً وعلى هذا التأويل كان قوله وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ معناه ولولا دفع الله
والقول الثاني قول من جعل دفاع من دافع فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كما قال يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وَشَاقُّواْ اللَّهِ ( الأنفال 13 ) وكما قال قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( التوبة 30 ) ونظائره والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به فقوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم إشارة إلى المدفوع وقوله بِبَعْضِ إشارة إلى المدفوع به فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ويحتمل أن يكون مجموعهما(6/161)
أما القسم الأول وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر أو إلى الفسق أو إليهما فلنذكر هذه الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يكون المعنى ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 )
والاحتمال الثاني أن يكون المراد ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما قال تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ويدخل في هذا الباب الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) وفي موضع آخر وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ( الرعد 22 )
الاحتمال الثالث ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم وتقريره أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ولا يبني هذا لذاك ولا ينسج ذاك لهذا لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد فلهذا قيل الإنسان مدني بالطبع ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً والمقاتلة ثانياً فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الإسلام والسلطان أخوان توأمان ) وقال أيضاً ( الإسلام أمير والسلطان حارس فما لا أمير له فهو منهزم وما لا حارس له فهو ضائع ) ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي وذلك يسمى فساداً قال الله تعالى وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ( البقرة 205 ) وقال أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ ( القصص 19 ) وقال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) وقال أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) وقال ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ( الروم 41 ) وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ ( الحج 40 )
الاحتمال الرابع ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض ولهلكت بمن(6/162)
فيها وتصديق هذا ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ( الكهف 82 ) وقال تعالى وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( الفتح 25 ) إلى قوله وَلَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الفتح 25 ) وقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة
والاحتمال الخامس أن يكون اللفظ محمولاً على الكل لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً وهو دفع المفسدة فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس
والجواب أن الله تعالى لما كان عالماً بوقوع الفساد فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد فيلزم أن يكون قادراً على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال
أما قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى فقالوا لو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلاً من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ عقيب قوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره
فإن قالوا يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر
قلنا كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ولا شك(6/163)
أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته
فإن قيل لم قال تِلْكَ ولم يقل ( هذه ) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر
قلنا قد بينا في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 ) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال تِلْكَ
أما قوله تعالى نَتْلُوهَا يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
أما قوله بِالْحَقّ ففيه وجوه أحدها أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة وثانيها بِالْحَقّ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً وثالثها إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى وليس بسبب إلقاء الشياطين ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة
ثم قال وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه أحدها أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى وثانيها أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع لا على سبيل الإكراه فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يظهر من الكفار والمنافقين ويكون قوله وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ كالتنبيه على ذلك
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
في الآية مسائل(6/164)
المسألة الأولى تِلْكَ ابتداء وإنما قال تِلْكَ ولم يقل أولئك الرسل لأنه ذهب إلى الجماعة كأنه قيل تلك الجماعة الرسل بالرفع لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
المسألة الثانية في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ أقوال أحدها أن المراد منه من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث وهو قول الأصم تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ( البقرة 251 )
المسألة الثالثة وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من أخبار المتقدمين مع قومهم كسؤال قوم موسى أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة وكذلك ما جرى من أمر النهر فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد فقال هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك ولكن ما قضى الله فهو كائن وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء قومه له
المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض وعلى أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين
الحجة الثانية قوله تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك
الحجة الثالثة أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) وبيعته ببيعته فقال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَكَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وعزته بعزته فقال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ ( المنافقون 8 ) ورضاه برضاه فقال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 ) وإجابته بإجابته فقال مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 24 )
الحجة الرابعة أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية وكذا آية لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد(6/165)
وإذا ثبت هذا فنقول إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى
الحجة الخامسة أن معجزة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء
بيان الأول قوله عليه السلام ( القرآن في الكلام كآدم في الموجودات )
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك
الحجة السادسة أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باقية إلى آخر الدهر ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية
الحجة السابعة أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالاقتداء بمن قبله فإما أن يقال إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد أو في فروع الدين وهو غير جائز لأن شرعه نسخ سائر الشرائع فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق فكأنه سبحانه قال إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم فوجب أن يكون أفضل منهم
الحجة الثامنة أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر فوجب أن يكون أفضل أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار فإذا قال لجميع العالمين يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل فكانت المشقة عظيمة وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه فإنه قلما سمحت نفسه بذلك مع أنه إنسان واحد ولو قيل له اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان أما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ بل سارع إليها سامعاً مطيعاً فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق ولهذا قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها )(6/166)
الحجة التاسعة أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان فيلزم أن يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأنبياء بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء
الحجة العاشرة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأمم فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء بيان الأول قوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 ) بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس فوجب أن يكون ثوابه أكثر لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع
الحجة الحادية عشر أنه عليه السلام خاتم الرسل فوجب أن يكون أفضل لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول
الحجة الثانية عشرة أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف وهي بالجملة على أقسام منها ما يتعلق بالقدرة كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وإروائهم من الماء القليل ومنها ما يتعلق لعلوم كالإخبار عن الغيوب وفصاحة القرآن ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب وأيضاً كان في غاية الشجاعة كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود كيف وجدت نفسك يا علي قال وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك الحديث إلى آخره وهو مشهور ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب
الحجة الثالثة عشرة قوله عليه السلام ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام ) وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده وقال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقال عليه السلام ( لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي ) وروى أنس قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ) وعن ابن عباس قال جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثهم فقال بعضهم عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجى الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر(6/167)
الحجة الرابعة عشرة روى البيهقي في ( فضائل الصحابة ) أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام هذا سيد العرب فقالت عائشة ألست أنت سيد العرب فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام
الحجة الخامسة عشرة روى مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً ) وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره
الحجة السادسة عشرة قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) وفي الفصاحة إلى أن قال ( أوتيت جوامع الكلم ) وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم
الحجة السابعة عشرة روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب ( النوادر ) عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي )
الحجة الثامنة عشرة في ( الصحيحين ) عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك فقال محمد كنت أنا تلك اللبنة )
الحجة التاسعة عشرة أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه أَجْمَعِينَ وَيَئَادَمُ اسْكُنْ ( البقرة 35 ) وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ ( الصافات 104 ) حَدِيثُ مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 10 11 ) وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وذلك يفيد الفضل
واحتج المخالف بوجوه الأول أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة وما كان محمد عليه السلام كذلك وإن إبراهيم عليه السلام ألقى في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ومحمد ما كان(6/168)
له مثلها وداود لأن له الحديد في يده وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
الحجة الثانية أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً فقال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) وقال في موسى عليه السلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وقال في عيسى عليه السلام فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام
الحجة الثالثة قوله عليه السلام ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تخيروا بين الأنبياء )
الحجة الرابعة روي عن ابن عباس قال كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعه إلى السماء وقلنا رسول الله أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء فدخل رسول الله فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال ( لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ) وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها
والجواب أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) وقال ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه وذلك أفضل من سجود الملائكة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً وأمرهم بالصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تقريباً والثاني أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة وأما الصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم
فإن قيل إنه تعالى خص آدم بالعلم فقال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما محمد عليه السلام فقال في حقه مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 ) وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى قال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 )
والجواب أنه تعالى قال في علم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال عليه السلام ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وقال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 2 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) وقال تعالى لمحمد عليه السلام وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى فذاك بحسب التلقين وأما التعليم فمن الله تعالى كما أنه تعالى قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) ثم قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 )(6/169)
فإن قيل قال نوح عليه السلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 114 ) وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن
قلنا إنه تعالى قال إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( نوح 1 ) فكان أول أمره العذاب وأما محمد عليه السلام فقيل فيه وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( التوبة 128 ) إلى قوله ( التوبة 128 ) إلى قوله رَءوفٌ رَّحِيمٌ فكان عاقبة نوح أن قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وأما سائر المعجزات فقد ذكر في ( كتب دلائل النبوة ) في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه والله أعلم
وأما قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد منه من كلمه الله تعالى والهاء تحذف كثيراً كقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
المسألة الثانية قرىء كَلَامَ اللَّهِ بالنصب والقراءة الأولى أدل على الفضل لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام ( المصلي مناج ربه ) إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى وقرأ اليماني عَبْدُ اللَّهِ من المكالمة ويدل عليه قولهم كليم الله بمعنى مكالمه
المسألة الثالثة اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره فقال الأشعري وأتباعه المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف وقال الماتريدي سماع ذلك الكلام محال وإنما المسموع هو الحرف والصوت
المسألة الرابعة اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) وهل سمعه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج اختلفوا فيه منهم من قال نعم بدليل قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 )
فإن قيل إن قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس حيث قال أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لِلَّهِ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( ص 79 81 ) إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً
والجواب أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل(6/170)
الواسطة كانت موجودة
أما قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ففيه قولان الأول أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام وهي قلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو الطب ومعجزة محمد عليه السلام وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة وبالبقاء وعدم البقاء وبالقوة وعدم القوة وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر
القول الثاني أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام لأنه هو المفضل على الكل وإنما قال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ويكون ذلك أفخم من التصريح به وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ولو قال ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة
فإن قيل المفهوم من قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هو المفهوم من قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فما الفائدة في التكرير وأيضاً قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ كلام كلي وقوله بعد ذلك مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ إعادة لذلك الكلي ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً
والجواب أن قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قال في أول الآية فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى(6/171)
والجواب أن قوله مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا ولذلك قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة
وأما قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا فإنما اختار لفظ المخاطبة لأن الضمير في قوله وَءاتَيْنَا ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء
السؤال الثاني لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما
والجواب سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما بل نازعوا وخالفوا وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا
السؤال الثالث تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلت إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى فنقول إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة
الجواب المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة
السؤال الرابع البينات جمع قلة وذلك لا يليق بهذا المقام
قلنا لا نسلم أنه جمع قلة والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم
المسألة الثانية في تفسيره أقوال الأول قال الحسن القدس هو الله تعالى وروحه جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره أما في أول الأمر فلقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الأعداء وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ( النحل 102 )
والقول الثاني وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى
والقول الثالث وهو قول أبي مسلم أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وفيه مسائل(6/172)
المسألة الأولى تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ووضحت لهم الدلائل والبراهين اختلفت أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية وقالوا تقدير الآية ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئه عدم الاقتتال مفقودة بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال وقالوا المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ المراد منه هذه الأنواع من المشيئة وهذا كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم تشرب النصارى الخمر والمراد منه المشيئة التي ذكرناها وكذا ههنا ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية
والجواب أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة لا من حيث إنها مشيئة خاصة فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة وهي إما مشيئة الهلاك أو مشيئة سلب القوى والقدر أو مشيئة القهر والإجبار تقييد للمطلق وهو غير جائز وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات وبين السلب والإيجاب فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق
ثم قال وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى ولو شاء لم يختلفوا وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي وواجب عند حصول الداعي ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا
ثم قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ فإن قيل فما الفائدة في التكرير
قلنا قال الواحدي رحمه الله تعالى إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند(6/173)
أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى
ثم قال وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين وقالوا لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ولكانوا مؤمنين ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه وهذا ضعيف لوجوه أحدها أنه تقييد للمطلق والثاني أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق وأيضاً فيه وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم أعقبه بقوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد وهو قوله يُرِيدُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ
إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم فنقول الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً والأصحاب قالوا ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة فقال الحسن هذا الأمر مختص بالزكاة قال لأن قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب وليس في الآية وعيد فكأنه قيل حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا فإنكم(6/174)
إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث أن المراد منه الإنفاق في الجهاد والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد وهذا قول الأصم
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ بالنصب وفي سورة إبراهيم عليه السلام لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( إبراهيم 31 ) وفي الطور لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( الطور 23 ) والباقون جميعاً بالرفع والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ ( البقرة 197 )
المسألة الرابعة المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( الأنعام 94 ) وقال وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 )
أما قوله لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ففيه وجهان الأول أن البيع ههنا بمعنى الفدية كما قال فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ ( الحديد 15 ) وقال وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 123 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 7 ) فكأنه قال من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني أن يكون المعنى قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال
أما قوله وَلاَ خُلَّة ٌ فالمراد المودة ونظيره من الآيات قوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( البقرة 166 ) وقال وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وقال حكاية عن الكفار فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 ) وقال وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) وأما قوله وَلاَ شَفَاعَة ٌ يقتضي نفي كل الشفاعات
واعلم أن قوله وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ عام في الكل إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين وقد بيناه في تفسير قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ ( البقرة 48 )
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه على ما قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ ( عبس 37 ) والثاني أن الخوف الشديد غالب على كل أحد على ما قال عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) والثالث أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما صار مبغضاً لمن كان موصوفاً بهما
أما قوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول الحمد لله الذي قال وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل الظالمون هم الكافرون ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقاً فذكر تعالى عقيبه وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة(6/175)
على إثبات الشفاعة في حق الفساق قال القاضي هذا التأويل غير صحيح لأن قوله وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم
والجواب أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى لأن غير الكافرين قد يكون ظالماً أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله
التأويل الثاني أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ونظيره قوله تعالى وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف 49 )
والتأويل الثالث أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله
والتأويل الرابع الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله فإنهم كانوا يقولون في الأوثان هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وقالوا أيضاً مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) فمن عبد جماداً وتوقع أن يكون شفيعاً له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه
والتأويل الخامس المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 3 ) أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئاً قل أو كثر
والتأويل السادس وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم(6/176)
بداية الجزء السابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(7/2)
اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض أعني علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد فقال اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في فضائل هذه الآية روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ) وعن علي أنه قال سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي أين أنتم من آية الكرسي ثم قال قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الكلام القرآن وسيد(7/3)
القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي ) وعن علي أنه قال لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنظر ماذا يصنع قال فجئت وهو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد على ذلك ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال إنه أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات
المسألة الثانية اعلم أن تفسير لفظة اللَّهِ قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ قد تقدم في قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) بقي هاهنا أن نتكلم في تفسير قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول أعظم أسماء الله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره ومن الله التوفيق أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان مغايراً لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة ومن الغير الذي به الممايزة وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال ولما بطلل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وإن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ومستغن في وجوده عن كل ما سواه وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات فالقيوم هو المتقوم بذاته المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإن الْحَى ّ هو الدرك(7/4)
الفعال فبقوله الْحَى ّ دل على كونه عالماً قادراً وبقوله الْقَيُّومُ دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد
فأولها أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره وكل مركب فهو متقوم بغيره والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته فلا يكون قيوماً وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد فهذا الأصل له لازمان أحدها أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين وما به المشاركة غير ما به المباينة فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جزأين وقد بينا بيان أنه محال
اللازم الثاني أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً لأن كل متحيز فهو منقسم وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون
وثانيها أنه لما كان قيوماً كان قائماً بذاته وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور
اللازم الأول أن لا يكون عرضاً في موضوع ولا صورة في مادة ولا حالا في محل أصلاً لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته
واللازم الثاني قال بعض العلماء لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضررة عند ذاته وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالماً بجميع المعلومات
وثالثها لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثاً لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً
ورابعها أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلاهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوماً فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا وأما سائر الآيات الإلاهية كقوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) وقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ(7/5)
لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وأما قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء وأما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة أما قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلاً كان أو نفساً ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلاهي فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ والمعنى أنه لا يغفل عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل فهو سبحانه قيم جميع المحدثات وقيوم الممكنات فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم فقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل إنك لو سنان نائم ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره رتب عليه حكماً وهو قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له وهو المراد من قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره وهو المراد بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه وهو قوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل ثم قال وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد وصورة واحدة فقال وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته منزّهاً عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ فالمراد منه العلو والعظمة بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلاهية كلام أكمل ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات(7/6)
وإذا عرفت هذه الأسرار فلنرجع إلى ظاهر التفسير
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى اللَّهِ رفع بالابتداء وما بعده خبره
المسألة الثانية قال بعضهم الإله هو المعبود وهو خطأ لوجهين الأول أنه تعالى كان إلاهاً في الأزل وما كان معبوداً والثاني أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنبياء 98 ) بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مسحتقاً للعبادة
أما قوله الْحَى ّ ففيه مسائل
المسألة الأولى الحي أصله حيي كقوله حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما وقال ابن الأنباري أصله الحيو فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة
المسألة الثانية قال المتكلمون الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا فقال بعضهم إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة وقال المحققون ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي إذ لو كان وصفاً موجوداً لكان الموصوف به موجوداً فيكون ممتنع الوجود موجوداً وهو محال وثبت أن الامتناع عدم وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع وثبت أن عدم العدم وجود لزم أي يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة بل كل شيء كان كاملاً في جنسه فإنه يسمى حياً ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات وقال تعالى فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) وقال إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ ( فاطر 9 ) والصفة المسماة في عرف المتكلمين إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق فقوله الحي يفيد كونه كاملاً على الإطلاق والكامل هو أن لا يكون قابلاً للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم(7/7)
أما قوله تعالى الْقَيُّومُ ففيه مسائل
المسألة الأولى القيوم في اللغة مبالغة في القائم فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً جعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون على فعول لأنه لو كان كذا لكان قووما وفيه ثلاث لغات قيوم وقيام وقيم ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية لأنهم يقولون حياً قيوماً وليس الأمر كذلك لأنا بينا أن له وجهاً صحيحاً في اللغة ومثله ما في الدار ديار وديور ودير وهو من الدوران أي ما بها خلق يدور يعني يجيء ويذهب وقال أُمية بن أبي الصلت قدرها المهيمن القيوم
المسألة الثانية اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب فقال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم وفي أرزاقهم ونظيره من الآيات قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) وقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) إلى قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ وقال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( فاطر 41 ) وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره وقال الضحاك القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير وأقول هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائماً بنفسه في ذاته وفي وجوده وقال بعضهم القيوم الذي لا ينام بالسريانية وهذا القول بعيد لأنه يصير قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ
أما قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى السنة ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس
فإن قيل إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم فإذا قال الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى وكان ذكر النوم تكريراً
قلنا تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم
المسألة الثانية الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى لأن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم أو عن أضداد العلم وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ويصح أن لا يكون عالماً فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا
المسألة الثالثة يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى أم لا فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرض(7/8)
واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى بل إن صحت الرواية فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه
أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد
فإن قيل لم قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ولم يقل له من في السماوات
قلنا لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ مَا وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة فعبّر عنها بلفظ مَا للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة
واعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالوا لأن قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يتناول كل ما في السماوات والأرض وأفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال
أما قوله تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله مَن ذَا الَّذِى استفهام معناه الإنكار والنفي أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ( يونس 18 ) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله إِلاَّ بِإِذْنِهِ ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( النبأ 38 )
المسألة الثانية قال القفال إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية وطول في تقريره
وأقول إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلاً فإن كان القفال على(7/9)
مذهب الكعبي فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني أن قوله لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع ولا يكون خائفاً من العقاب والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن القفال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة
أما قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء أو لما دل عليه مَن ذَا من الملائكة والأنبياء
المسألة الثانية في الآية وجوه أحدها قال مجاهد وعطاء والسدي مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما كان قبلهم من أمور الدنيا وَمَا خَلْفَهُمْ ما يكون بعدهم من أمر الآخرة والثاني قال الضحاك والكلبي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وَمَا خَلْفَهُمْ الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم والثالث قال عطاء عن ابن عباس يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من السماء إلى الأرض وَمَا خَلْفَهُمْ يُرِيدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بعد انقضاء آجالهم وَمَا خَلْفَهُمْ أي ما كان من قبل أن يخلقهم والخامس ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين
أما قوله وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالعلم هاهنا كما يقال اللّهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة قيل هذه قدرة الله أي مقدوره والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى(7/10)
المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها أن كلمة مِنْ للتبعيض وهي داخلة هاهنا على العلم فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني أن قوله بِمَا شَاء لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات والخلق لا يعلمون كل المعلومات بل لا يعلمون منها إلا القليل
المسألة الثالثة قال الليث يقال لكل من أحرز شيئاً أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به
أما قوله إِلاَّ بِمَا شَاء ففيه قولان أحدها أنهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والثاني أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب كما قال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ
أما قوله تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه يقال وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ولا يسعك هذا أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه قوله عليه السلام ( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي ) أي لا يحتمل غير ذلك وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض والكرسي أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض وتكارس الشيء إذا تركب ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض ثم اختلفوا فيه فقال الحسن الكرسي هو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه وقال بعضهم بل الكرسي غير العرش ثم اختلفوا فمنهم من قال إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال موضع القدمين ومن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى
القول الثاني أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك ثم تارة يقال الإلاهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي لأن الملك يجلس على الكرسي فيسمى الملك باسم مكان الملك(7/11)
القول الثالث أن الكرسي هو العلم لأن العلم موضع العالم وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ومنه يقال للعلماء كراسي لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم أوتاد الأرض
والقول الرابع ما اختاره القفال وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) ثم وصف عرشه فقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) ثم قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِهِ رَّبُّهُمْ ( الزمر 75 ) وقال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ وقال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( غافر 7 ) ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
إذا عرفت هذا فنقول كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة فكذا الكلام في العرش والكرسي وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا فاعلم أنه يقال آده يؤده إذا أثقله وأجهده وأدت العود أوداً وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته والمعنى لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السماوات والأرض
ثم قال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ونزيد هاهنا وجهين آخرين الأول أنه لو كان علوه بسبب المكان لكان لا يخلو إما أن يكون متناهياً في جهة فوق أو غير متناه في تلك الجهة والأول باطل لأنه إذا كان متناهياً في جهة فوق كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه بل يكون غيره أعلى منه وإن كان غير متناه فهذا محال لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية وأيضاً فإنا إذا قدرنا بعداً لا نهاية له لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى وإما أن لا يحصل فإن كان الأول كانت النقطة طرفاً لذلك البعد فيكون ذلك البعد متناهياً وقد فرضناه غير متناه هذا خلف وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلاً ولا يكون فيها ما يكون فوقاً على الاطلاق فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق ألبتة وذلك ينفي صفة العلوية(7/12)
الحجة الثانية أن العالم كرة ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علواً بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلاً بالنسبة إلى الوجه الثاني فينقلب غاية العلو غاية السفل
الحجة الثالثة أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل وفي العرضي أقل وأضعف فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى فيكون علو الله ناقصاً وعلو غيره كاملاً وذلك محال فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) قال وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ثم قال وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنعام 13 ) وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان وأما عظمته فهي أيضاً بالمهابة والقهر والكبرياء ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية وإن كان متناهياً من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه فلا يكون مثل هذا الشيء عظيماً على الاطلاق فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى اللام في الدّينِ فيه قولان أحدهما أنه لام العهد والثاني أنه بدل من الإضافة كقوله فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 41 ) أي مأواه والمراد في دين الله
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه أحدها وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكن والاختيار ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ونظير هذا قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وقال في سورة أخرى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 4 ) وقال في سورة الشعراء لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ(7/13)
لَهَا خَاضِعِينَ ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ يعني ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل
القول الثاني في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم فقال بعضهم إنه يقر عليه وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية وعلى مذهب هؤلاء كان قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ عاماً في كل الكفار أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم وكان قوله لا إِكْرَاهَ مخصوصاً بأهل الكتاب
والقول الثالث لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 )
أما قوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح ومنه المثل قد تبين الصبح لذي عينين وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بياناً لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره والرشد في اللغة معناه إصابة الخير وفيه لغتان رشد ورشد والرشاد مصدر أيضاً كالرشد والغي نقيض الرشد يقال غوي يغوي غياً وغواية إذا سلك غير طريق الرشد
المسألة الثانية تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ أي تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة قال القاضي ومعنى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول قد ذكرنا أن معنى تَّبَيَّنَ انفصل وامتاز فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين وعلى هذا كان اللفظ مجري على ظاهره
أما قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فقد قال النحويون الطاغوت وزنه فعلوت نحو جبروت والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا وتقديره طغووت إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب نحو الصاقعة والصاعقة ثم قلبت الواو ألفاً لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها قال المبرد في الطاغوت الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي وليس الأمر عندنا كذلك وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت فكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فأفرد في موضع الجمع كما يقال هم رضاهم عدل قالوا وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع أما في الواحد فكما في قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ( النساء 60 ) وأما في الجمع فكما في(7/14)
قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) وقالوا الأصل فيه التذكير فأما قوله وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ( الزمر 17 ) فإنما أنثت إرادة الآلهة
إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني قال سعيد بن جبير الكاهن الثالث قال أبو العالية هو الساحر الرابع قال بعضهم الأصنام الخامس أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
أما قوله وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ثم يؤمن بعد ذلك
أما قوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى فاعلم أنه يقال استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى
أما قوله لاَ انفِصَامَ لَهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى الفصم كسر الشيء من غير إبانة والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام فإن لا يكون لها انقطاع أولى
المسألة الثانية قال النحويون نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والعرب تضمر الَّتِى و الَّذِى و مِنْ وتكتفي بصلاتها منها قال سلامة بن جندل والعاديات أسامي للدماء بها
كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) أي من له
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفيه قولان
القول الأول أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث
والقول الثاني روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية فمعنى قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك(7/15)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الْوَلِى ُّ فعيل بمعنى فاعل من قولهم ولى فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولى وأصله من الولي الذي هو القرب قال الهذلي
وعدت عواد دون وليك تشغب
ومنه يقال داري تلى دارها أي تقرب منها ومنه يقال للمحب المعاون ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر بأن قالوا الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) فجعل القيم بعمارة المسجد ولياً له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ثم إنه تعالى جعل نفسه ولياً للمؤمنين على التخصيص علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم قالت المعتزلة هذا التخصيص محمول على أحد وجوه الأول أن هذا محمول على زيادة الألطاف كما ذكره في قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ويكون حاله مفارقاً لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولاً على ذلك
والوجه الثاني أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولاً عليه
والوجه الثالث وهو أنه تعالى وإن كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن فصح تخصيصه بهذه الآية كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )(7/16)
الوجه الرابع أنه تعالى ولي المؤمنين بمعنى أنه يحبهم والمراد أنه يحب تعظيمهم
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر بل المؤمن فعل مالأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف
أما السؤال الثاني وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضاً بعيد لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو ولياً له
وأما السؤال الثالث وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن فنقول هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير
وأما السؤال الرابع وهو أن الولاية هاهنا معناها المحبة والجواب أن المحبة معناها إعطاء الثواب وذلك هو السؤال الثاني وقد أجبنا عنه
أما قوله تعالى يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان وذلك يناقض صريح الآية
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل وإرسال الأنبياء وإنزال الكتب والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه وقال القاضي قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى
والوجه الثاني أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي هذا أدخل في الحقيقة لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل مجاز في الحث والترغيب والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجباً والمرجوح ممتنعاً وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج
وأما السؤال الثاني وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضاً مدفوع من وجهين الأول قال الواقدي كل ما كان في القرآن مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فإنه أراد به الكفر والإيمان(7/17)
غير قوله تعالى في سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فإنه يعني به الليل والنهار وقال وجعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك
والجواب الثاني أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه
المسألة الثانية قوله يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ثم هاهنا قولان
القول الأول أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافراً ثم أسلم والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما قال مجاهد هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ثم آمنوا بعده بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمة ً وكفراً لأن القول بالاتحاد كفر والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات ألبتة ويدل على جوازه القرآن والخبر والعرف أما القرآن فقوله تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا ( آل عمران 103 ) ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ ( يونس 98 ) ولم يكن نزل بهم عذاب ألبتة وقال في قصة يوسف عليه السلام تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( يوسف 37 ) ولم يكن فيها قط وقال وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( النحل 70 ) وما كانوا فيه قط وأما الخبر فروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سمع إنساناً قال أشهد أن لا إلاه إلا الله فقال على الفطرة فلما قال أشهد أن محمداً رسول الله فقال خرج من النار ومعلوم أنه ما كان فيها وروي أيضاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل على أصحابه فقال تتهافتون في النار تهافت الجراد وها أنا آخذ بحجزكم ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئاً لا أنه كان فيه ثم أخرج منه وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه وبين الدفع والرفع مشابهة فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فاعلم أنه قرأ الحسن أَوْلِيَاؤُهُمُ واحتج بقوله تعالى بعده الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضاً قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع
أما قوله تعالى يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى قالوا لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازاً باتفاق لأن المراد من الطاغوت على أظهر(7/18)
الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) فأضاف الإضلال إلى الصنم وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازاً خرجت عن أن تكون حجة لكم
ثم قال تعالى أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معاً فيكون زجراً للكل ووعيداً لأن لفظ أُوْلَائِكَ إذا كان جمعاً وصح رجوعه إلى كلا المذكورين وجب رجوعه إليهما معاً والله تعالى أعلم بالصواب
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَة ً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصاً ثلاثة الأولى منها في بيان إثبات العلم بالصانع والثانية في إثبات الحشر والنشر والبعث والقصة الأولى مناظرة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها لفظ الاستفهام(7/19)
وهي كما يقال ألم تر إلى فلان كيف يصنع معناه هل رأيت كفلان في صنعه كذا
أما قوله إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ فقال مجاهد هو نمروذ بن كنعان وهو أول من تجبر وادعى الربوبية واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل وقيل بعد إلقائه في النار والمحاجة المغالبة يقال حاججته فحججته أي غالبته فغلبته والضمير في قوله فِى رِبّهِ يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن والأول أظهر كما قال وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ( الأنعام 80 ) والمعنى وحاجه قومه في ربه
أما قوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فاعلم أن في الآية قولين الأول أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) الملك واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول قوله تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) أي سلطاناً بالنبوّة والقيام بدين الله تعالى والثاني أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ويدعي الربوبية لنفسه والثالث أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم
وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول أن قوله تعالى أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ يحتمل تأويلات ثلاثة وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك كما يقال عاداني فلان لأني أحسنت إليه يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ونظيره قوله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( الواقعة 82 ) وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له فثبت أنه لا يستقيم لقوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً وإبراهيم ما كان ملكاً كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً ولما كان الكافر ملكاً فوجب المصير إلى ما ذكرنا(7/20)
الحجة الثانية ما ذكره أبو بكر الأصم وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر بل كان إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يمنعه منه أشد منع بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف لأنه من المحتمل أن يقال إن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوماً وكان الاختيار إليه واستبقى الآخر إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه
وأيضاً قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى خبر ووعد ولا دليل في القرآن على أنه فعله فهذا ما يتعلق بهذه المسألة
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة والظاهر أنه متى ادعى الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلاهاً ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلاهية بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال نمروذ من ربك فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها
المسألة الثانية دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين والأحياء والاماتة كذلك لأن الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً والأول باطل لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء والثاني وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها وذلك هو الله سبحانه وتعالى وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) إلى آخره وقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 4 5 ) وقال تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ( الشعراء 81 ) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت حيث قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والجواب لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في(7/21)
غاية الوضوح ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر واطلاع الإنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر
أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى ففيه مسائل
المسألة الأولى يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة دعا ذلك الملك الكافر شخصين وقتل أحدهما واستبقى الآخر وقال أنا أيضاً أحيي وأميت هذا هو المنقول في التفسير وعندي أنه بعيد وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أو تدعى صدور الأحياء والاماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أما الأول فلا سبيل إليه وأما الثاني فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والاماتة بواسطة سائر الأسباب فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية وتناول السم قد يفضي إلى الموت فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية فظهر الفرق
وإذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِ بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ليس دليلاً آخر بل تمام الدليل الأول ومعناه أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه وأنه لا يصلح نقضاً عليه فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة لا ما هو المشهور عند الكل والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثانية أجمع القرّاء على إسقاط ألف أَنَاْ في الوصل في جميع القرآن إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة والصحيح ما عليه الجمهور لأن ضمير المتكلم هو ءانٍ وهو الهمزة والنون فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل لأن ما يتصل به يقوم مقامه ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في أَنَاْ والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل(7/22)
أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه فقال إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل
فإن قيل هلا قال نمروذ فليأت ربك بها من المغرب
قلنا الجواب من وجهين أحدهما أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام
والطريق الثاني وهو الذي قال به المحققون إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ثم إن قولنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها الإحياء والإماتة ومنها السحاب والرعد والبرق ومنها حركات الأفلاك والكواكب والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه والإشكال عليهما من وجوه
الإشكال الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب
والإشكال الثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً وأنه ما كان عالماً بضعفه وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز
والإشكال الثالث وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل أو من مثال إلى مثال لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب وهاهنا ليس الأمر كذلك لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات وأنه هو الذي يكون محركاً للسماوات وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً(7/23)
والإشكال الرابع أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً ولا في صفاتها تبدلاً ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف وأنه لا يجوز
الإشكال الخامس أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إلاه فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً وأيضاً فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات لأنا نقول لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه والله أعلم بحقيقة كلامه
أما قوله تعالى فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ فالمعنى فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً ولا للمسألة جوابه وهو كقوله بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَة ً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ( الأنبياء 40 ) قال الواحدي وفيه ثلاث لغات بهت الرجل فهو مبهوت وبهت وبهت قال عروة العذري فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتجير وأسكت
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتأويله على قولنا ظاهر أما المعتزلة فقال القاضي يحتمل(7/24)
وجوهاً منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع
وأقول هذا ضعيف لأن قوله لا يهديهم للحجاج إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر فكيف يصح أن يقال إن الله تعالى لا يهديه إليه قال القاضي ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال إنه تعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة بل أقول اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ونظير هذا التفسير قوله وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ الأنعام 111 )
القصة الثانية
والمقصود منها إثبات المعاد قوله تعالى أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله أَوْ كَالَّذِى وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) في معنى أَلَمْ تَرَ كَالَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ وتكون هذه الآية معطوفة عليه والتقدير أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية فيكون هذا عطفاً على المعنى وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي وأكثر النحويين قالوا ونظيره من القرآن قوله تعالى قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 84 85 ) ثم قال مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 85 86 ) فهذا عطف على المعنى لأن معناه لمن السماوات فقيل لله قال الشاعر معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ
والقول الثاني وهو اختيار الأخفش أن الكاف زائدة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية
والقول الثالث وهو اختيار المبرد أنا نضمر في الآية زيادة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية(7/25)
المسألة الثانية اختلفوا في الذي مرّ بالقرية فقال قوم كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة وقال الباقون إنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي هو عزير وقال عطاء عن ابن عباس هو أرمياء ثم من هؤلاء من قال إن أرمياء هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام وهو قول محمد بن إسحاق وقال وهب بن منبه إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة حجة من قال إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول أن الله حكى عنه أنه قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر
فإن قيل يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ
قلنا لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل فيقول متى يقلبه الله ذهباً أو ياقوتاً لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات فكذا هاهنا
الوجه الثاني قالوا إنه تعالى قال في حقه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع
الوجه الثالث أنه قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك
الوجه الرابع لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم
وحجة من قال إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول أن قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ يدل على أنه كان عالماً بالله وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة
الحجة الثانية أن قوله كَمْ لَبِثْتَ لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير قال الله تعالى كَمْ لَبِثْتَ فقال ذلك الإنسان لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ثم قال وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ولا شك أن قائل هذا(7/26)
القول هو الله تعالى فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر
فإن قيل لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى
قلنا ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز
والحجة الثالثة أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم وذلك لا يليق بحال الكافر له
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان
قلنا لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز
فإن قيل لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما والأول باطل لأن أرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة وذلك لا يتم بعد الإماتة وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى وذلك غير جائز
قلنا إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا وعلى هذا الطريق زال السؤال
الحجة الرابعة أنه تعالى قال في حق هذا الشخص وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ونبوّة نبي ذلك الزمان
والجواب من وجهين الأول أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً إخبار عن أنه تعالى يجعله آية وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله وتكلم معه والمجعول لا يجعل ثانياً فوجب حمل قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ على أمر زائد عن هذا الإحياء وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني أنه وجه التمسك أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ يدل على التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى(7/27)
الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ومنهم عزير وكان من علمائهم فجاء بهم إلى بابل فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ لا على سبيل الشك في القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء يا عزير كَمْ لَبِثْتَ بعد الموت فقال يَوْماً فأبصر من الشمس بقية فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور عن الجلد ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً وقال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف فعند ذلك قالوا عزير بن الله وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع إيلياء وهي بيت المقدس وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت
أما قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قال الأصمعي خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله والخوا خلو البطن من الطعام وفي الحديث ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سجد خوى ) أي خلى ما بين عضديه وجنبيه وبطنه وفخذيه وخوى الفرس ما بين قوائمه ثم يقال للبيت إذا انهدم خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر والعرش سقف البيت والعروش الأبنية والسقوف من الخشب يقال عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب فقوله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي منهدمة ساقطة خراب قاله ابن عباس رضي الله عنهما وفيه وجوه أحدها أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) وموضع آخر أَعْجَازُ نَخْلٍ ( القمر 20 ) وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي خاوية عن عروشها جعل عَلَى بمعنى عَنْ كقوله إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( المطففين 2 ) أي عنهم والثالث أن المراد أن القرية خاوية(7/28)
مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر
أما قوله تعالى قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فقد ذكرنا أن من قال المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد كما قال إبراهيم عليه السلام ( أرني كيف تحيي الموتى ) وقوله إِنّى أي من أين كقوله أَنَّى لَكِ هَاذَا والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها أي متى يفعل الله تعالى ذلك على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه وفي إحياء القرية آية فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ وقد ذكرنا القصة
فإن قيل ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل
قلنا لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ويشاهد هو من غيره أعجب
أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثَهُ فالمعنى ثم أحياه ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها وإنما قال ثُمَّ بَعَثَهُ ولم يقل ثم أحياه لأن قوله ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلاهية ولو قال ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد
أما قوله تعالى قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه وجهان من القراءة قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين
المسألة الثانية أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة
والجواب عنه أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق
أما قوله تعالى لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ففيه سؤالات
السؤال الأول لم ذكر هذا الترديد
الجواب أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار فقال يَوْماً ثم لما نظر إلى ضوء(7/29)
الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
السؤال الثاني أنه لما كان اللبث مائة عام ثم قال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أليس هذا يكون كذباً
والجواب أنه قال ذلك على حسب الظن ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على ما توهموه ووقع عندهم وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ( يوسف 81 ) وإنما قالوا ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله
السؤال الثالث هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت
الجواب الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت
أما قوله تعالى قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فالمعنى ظاهر وقيل العام أصله من العوم الذي هو السباحة لأن فيه سبحاً طويلاً لا يمكن من التصرف فيه
أما قوله تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ و مَالِيَهْ و سُلْطَانِيَهْ و ماهيه بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( الحاقة 25 26 ) أنها بالهاء في الوصل والوقف
إذا عرفت هذا فنقول أما الحذف ففيه وجوه أحدهما أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة قالوا والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة وقال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
ويقولون في جمعها سنوات وفي الفعل منها سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة وفي التصغير سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ للسكت لا للأصل وثانيها نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال يجوز أن تكون أصل سنة سننة لأنهم قالوا في تصغيرها سنينة وإن كان ذلك قليلاً فعلى هذا يجوز أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله لم يتسنن ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ثم أدخل عليه هاء(7/30)
السكت عند الوقف فيقال لم يتقضه وثالثها أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذاً من قوله تعالى مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 26 ) والسن في اللغة هو الصب هكذا قال أبو علي الفارسي فقوله لم يتسنن أي الشراب بقي بحاله لم ينضب وقد أتى عليه مائة عام ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف وأما بيان الإثبات فهو أن لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذ من السنة والسنة أصلها سنهه بدليل أنه يقال في تصغيرها سنيهة ويقال سانهت النخلة بمعنى عاومت وآجرت الدار مسانهة وإذا كان كذلك فالهاء في لَمْ يَتَسَنَّهْ لام الفعل فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف
المسألة الثانية قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير وأصل معنى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ونقلنا عن أبي علي الفارسي لم يتسنن أي لم ينضب الشراب بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم
والجواب أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فإن هذا مما يؤكد قولك لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ثم قال بعده وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً فرأى ما لا يبقى باقياً وهو الطعام والشراب وما يبقى غير باق وهو العظام فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر الطعام والشراب وقوله لَمْ يَتَسَنَّهْ راجع إلى الشراب لا إلى الطعام
والجواب كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه والمروى أن طعامه كان التين والعنب وشرابه كان عصير العنب واللبن وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَهَاذَا
أما قوله تعالى وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال الضحاك معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث وقال غيره كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس(7/31)
أما قوله تعالى وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل ما فائدة الواو في قوله وَلِنَجْعَلَكَ قلنا قال الفرّاء دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام أما لما قال وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً كان المعنى ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله قوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) والمعنى وليقولوا درست صرفنا الآيات وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) أي ونريه الملكوت
أما قوله تعالى وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره فإن اللام فيه بدل الكناية وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه قالوا إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها أن قوله لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة وعظام بدنة رميمة نخرة فلا يليق به ذلك القول وثانيها أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها أن قوله فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها
أما قوله كَيْفَ فالمراد يحييها يقال أنشر الله الميت ونشره قال تعالى فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ( ي س 78 79 ) وقرىء ننشرها بفتح النون وضم الشين قال الفرّاء كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي وقرأ حمزة والكسائي كَيْفَ نُنشِزُهَا بالزاي المنقوطة من فوق والمعنى نرفع بعضها إلى بعض وانشاز الشيء رفعه يقال أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ومنه نشوز المرأة وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ومعنى الآية على هذه القراءة كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض وروي عن النخعي أنه كان يقرأ نُنشِزُهَا بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال نشزته وأنشزته أي رفعته والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ثم بسط اللحم عليها ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ورفع بعضه إلى جنب البعض فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك
ثم قال تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ(7/32)
والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب ( الكشاف ) فاعل تَبَيَّنَ لَهُ مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وهذا عندي فيه تعسف بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وتأويله أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي قَالَ أَعْلَمُ على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما أنه عند التبين أمر نفسه بذلك قال الأعشى ودع أمامة إن الركب قد رحلوا
والثاني أن الله تعالى قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم رَبّى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ ( البقرة 260 ) ثم قال في آخرها وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 260 ) قال القاضي والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزاً
القصة الثالثة
وهي أيضاً دالة على صحة البعث
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَة ً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في عامل إِذْ قولان قال الزجاج التقدير اذكر إذ قال إبراهيم وقال غيره إنه معطوف على قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ألم تر إذ حاج إبراهيم في ربه وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
المسألة الثانية أنه تعالى لم يسم عزيراً حين قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ ( البقرة 259 ) وسمى هاهنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين شيء واحد والسبب أن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولاً بقوله رَبّ ثم دعا حيث قال أَرِنِى وأيضاً أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه(7/33)
المسألة الثالثة ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت فقال إبراهيم رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر فقيل أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضرورياً
الوجه الثاني قال محمد بن إسحاق والقاضي سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ فأطلق محبوساً وقتل رجلاً قال إبراهيم ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه وروي عن نمرود أنه قال قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك فسأل الله تعالى ذلك وقوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع
والوجه الثالث قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشراً خليلاً فاستعظم ذلك إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إلاهي ما علامات ذلك فقال علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله إني لعلي أن أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت فقال الله أَوَلَمْ نُؤْمِنُ قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أنني خليل لك
الوجه الرابع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة كقولهم لموسى عليه السلام ( اجعل لنا إلاهاً كما لهم آلهة ) فسأل إبراهيم ذلك والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم
الوجه الخامس ما خطر ببالي فقلت لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولاً يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجز فقال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم
الوجه السادس وهو على لسان أهل التصوف أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلاهية فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أو من به إيمان الغيب ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي وعلى قول المتكلمين العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه(7/34)
الشبهات والشكوك فطلب علماً ضرورياً يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء من الشكوك والشبهات
الوجه السابع لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى
الوجه الثامن أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبح الولد فسارع إليه ثم قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانياً فقال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلاً
الوجه التاسع نظر إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في قلبه فرآه ميتاً بحب ولده فاستحيي من الله وقال أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى
الوجه العاشر تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا فقال أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف
الوجه الحادي عشر لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة
الثاني عشر ما قاله قوم من الجهال وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان شاكاً في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد أما شكه في معرفة المبدأ فقوله هَاذَا رَبّى وقوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ ( الأنعام 77 ) وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية وهذا القول سخيف بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم فكان هذا بالكفر أولى ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ولو كان شاكاً لم يصح ذلك وثانيها قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوّة فكيف يعرف نبوّة نفسه
أما قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن ففيه وجهان أحدهما أنه استفهام بمعنى التقرير قال الشاعر ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
والثاني المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر
أما قوله تعالى قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فاعلم أن اللام في لّيَطْمَئِنَّ متعلق بمحذوف والتقدير سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب قالوا والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين
وهاهنا بحث عقلي وهو أن التفسير مفرع على أن العلوم يجوز أن يكون بعضها أقوى من بعض وفيه سؤال صعب وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوزاً لنقيضه وإما أن لا يكون فإن(7/35)
جوّز نقيضه بوجه من الوجوه فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع وقوع التفاوت في العلوم
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا قلنا المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء أما لو قلنا المقصود شيء آخر فالسؤال زائل
أما قوله تعالى فَخُذْ أَرْبَعَة ً مّنَ الطَّيْرِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما حمامة بدل النسر وهاهنا أبحاث
البحث الأول أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول أن الطيران في السماء والارتفاع في الهواء والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته
والوجه الثاني أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح ويقرره قوله تعالى يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( القمر 7 )
البحث الثاني أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلاً بحيوان واحد فلم أمر بأخذ أربع حيوانات وفيه وجهان الأول أن المعنى فيه أنك سألت واحداً على قدر العبودية وأنا أعطي أربعاً على قدر الربوبية والثاني أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس
البحث الثالث إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع قال تعالى زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( آل عمران 14 ) والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله
أما قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد والباقون بضم الصاد أما الضم ففيه قولان الأول أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق ويقال صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف كأنه قيل أملهن إليك وقطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ(7/36)
الْبَحْرَ فَانفَلَقَ على معنى فضرب فانفلق لأن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ يدل على التقطيع
فإن قيل ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها
قلنا الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك
والقول الثاني وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد أَنزَلْنَا إِلَيْكَ معناه قطعهن يقال صار الشيء يصوره صوراً إذ قطعه قال رؤبة يصف خصماً ألد صرناه بالحكم أي قطعناه وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار وأما قراءة حمزة بكسر الصاد فقد فسّر هذه الكلمة أيضاً تارة بالإمالة وأخرى بالتقطيع أما الإمالة فقال الفرّاء هذه لغة هذيل وسليم صاره يصيره إذا أماته وقال الأخفش وغيره صرهن بكسر الصاد قطعهن يقال صاره يصيره إذا قطعه قال الفرّاء أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع فقدمت ياؤها كما قالوا عثا وعاث قال المبرّد وهذا لا يصح لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته فلا يجوز جعل أحدهما فرعاً عن الآخر
المسألة الثانية أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها على بعض غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك وقال إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ثم ادعهن يأتينك سعياً والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه فقطعهن واحتج عليه بوجوه الأول أن المشهور في اللغة في قوله الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير والتقدير فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن
قلنا التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث أن الضمير في قوله ثُمَّ ادْعُهُنَّ عائد إليها لا إلى أجزائها وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها وهو خلاف الظاهر وأيضاً الضمير في قوله يَأْتِينَكَ سَعْيًا عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في يَأْتِينَكَ عائداً إلى أجزائها لا إليها واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبو مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع والثاني أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يكون له فيه مزية على العير والثالث أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع أن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا يدل(7/37)
على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً
أما قوله تعالى ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا ففيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله عَلَى كُلّ جَبَلٍ جميع جبال الدنيا فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضاً أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب وقال السدي وابن جريج سبعة من الجبال لأن المراد كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة
المسألة الثانية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءاً جزءاً وخلط دمائها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية أبي بكر والفضل جُزْءا مثقلاً مهموزاً حيث وقع والباقون مهمزاً مخففاً وهما لغتان بمعنى واحد
أما قوله تعالى ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فقيل عدواً ومشياً على أرجلهن لأن ذلك أبلغ في الحجة وقيل طيراناً وليس يصح لأنه لا يقال للطير إذا طار سعى ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة فإن كانت الحركة طيراناً فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً فاهماً للنداء قادراً على السعي والعدو فدل ذلك على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة قال القاضي الآية دالة على أنه لا بد من البنية من حيث أوجب التقطيع بطلان حياتها
والجواب أنه ضعيف لأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فإنه يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلّت الآية على حصول فهم النداء والقدرة على السعي لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة
أما قوله تعالى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فالمعنى أنه غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء(7/38)
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَة ٍ مِّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف
فالحكم الأول في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال القاضي رحمه الله إنه تعالى لما أجمل في قوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء ولإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال فإنه يجازي القليل بالكثير ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فصارت الواحدة سبعمائة
الوجه الثاني في بيان النظم ما ذكره الأصم وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته
والوجه الثالث لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت
المسألة الثانية في الآية إضمار والتقدير مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة
المسألة الثالثة معنى يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في دينه قيل أراد النفقة في الجهاد خاصة وقيل جميع أبواب البر ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ومن صرف المال إلى الصدقات ومن إنفاقها في المصالح لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله
فإن قيل فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه(7/39)
إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة وإذا كان هذا المعنى معقولاً سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلاً مستقيماً وهذا قول القفال رحمه الله وهو حسن جداً
والجواب الثاني أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس وهذا الجواب في غاية الركاكة
المسألة الرابعة كان أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ لأنهما حرفان مهموسان والباقون بالإظهار على الأصل
ثم قال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم بمقادير الانفاقات وكيفية ما يستحق عليها ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعاً عند الله تعالى
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أنه تعالى لما اعظم أمر الانفاق في سبيل الله أتبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلها حتى يبقى ذلك الثواب منها ترك المن والأذى ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديه يقول يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية
المسألة الثانية قال بعض المفسرين إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الانفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى قال القفال رحمه الله وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى ولا يمن به على(7/40)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ولا يؤذي أحداً من المؤمنين مثل أن يقول لو لم أحضر لما تم هذا الأمر ويقول لغيره أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد
المسألة الثالثة الْمَنَّ في اللغة على وجوه أحدها بمعنى الانعام يقال قد من الله على فلان إذا أنعم أو لفلان على منّة وأنشد ابن الأنباري فمني علينا بالسلام فإنما
كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة ) يريد أكثر إنعاماً بماله وأيضاً الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم
والوجه الثاني في التفسير الْمَنَّ النقص من الحق والبخس له قال تعالى وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمي الموت منوناً لأنه ينقص الأعمار ويقطع الأعذار ومن هذا الباب المنة المذمومة لأن ينقص النعمة ويكدرها والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة قال قائلهم زاد معروفك عندي عظما
أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
وهو في العالم مشهور كثير
إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار الاصطناع إليهم والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموماً لوجوه الأول أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه وأن يعتقد أن لله عليه نعماً عظيمة حيث وفقه لهذا العمل وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير الرابع وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيراً بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولاً بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر وأما الأذى فقد اختلفوا فيه منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصاً بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير أنت أبداً تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل
فإن قيل ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر(7/41)
قلنا بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الانفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن ولم ينفق لطلب رضوان الله ولا على وجه القربة والعبادة فلا جرم بطل الأجر طعن القاضي في هذا الجواب فقال إنه تعالى بيّن أن هذا الانفاق قد صح ولذلك قال ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ وكلمة ثُمَّ للتراخي وما يكون متأخراً عن الانفاق موجب للثواب لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلاً حال حصول المؤثر لا بعده
أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخراً عن الانفاق إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهراً على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب والثاني هب أن هذا الشرط متأخر ولكن لم يجوز أن يقال إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة وتقريره معلوم في علم الكلام
المسألة الخامسة الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل
أما قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى وأصحابنا يقولون حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الاطلاق فوجب أن يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر وذلك يبطل القول بالإحباط
المسألة الثالثة أجمعت الأمة على أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ مشروط بأن لا يوجد منه الكفر وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد
أما قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ففيه قولان الأول أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة لا يخافون من أن لا يوجد ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد وهو كقوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) والثاني أن يكون(7/42)
المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة كما قال وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النمل 89 ) وقال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاٌّ ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
أما القول المعروف فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره والمراد منه هاهنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن وقال عطاء عدة حسنة أما المغفرة ففيه وجوه أحدها أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته وثانيها أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل وثالثها أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره والمراد من القول المعرروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله ورابعها أن قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق وقوله وَمَغْفِرَة ٌ خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ثم بيّن تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء فهناك جمع بين الانفاع والإضرار وربما لم يف ثواب الانفاع بعقاب الإضرار وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار فكان هذا خيراً من الأول(7/43)
واعلم أن من الناس من قال إن الآية واردة في التطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل منه وقد يحتمل أن يراد به الواجب وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير
ثم قال وَاللَّهُ غَنِى ٌّ عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها حَلِيمٌ إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته وهذا سخط منه ووعيد له ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين على الإنفاق أحدهما الذي يتبعه المن والأذى والثاني الذي لا يتبعه المن والأذى فشرح حال كل واحد منهما وضرب مثلاً لكل واحد منهما
فقال في القسم الأول الذي يتبعه المن والأذى حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي إنه تعالى آكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ثم أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلاً فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق قال فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الانفاق بعد حصوله وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير قال الجبائي وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضاً وذلك لأن من أطاع وعصى فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم وهذا العقاب عدل فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنه حقه وأن يكون ظلماً من حيث إنه منع الإثابة فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل هذا كلام المعتزلة
وأما أصحابنا فإنهم قالوا ليس المراد بقوله لاَ تُبْطِلُواْ النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلاً وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل
أولها أن النافي والطارىء إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارىء زوال النافي وإن(7/44)
حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارىء أولى من زوال النافي بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع
ثانيها أن الطارىء لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال
وثالثها أن شرط طريان الطارىء زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال
ورابعها أن الطارىء إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارىء شيئاً أو لا يعدم منه شيئاً والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معاً اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجوداً حال كون كل واحد منهما معدوماً وهو محال
وأما الثاني وهو قول أبي علي الجبائي فهو أيضاً باطل لأن العقاب الطارىء لما أزال الثواب السابق وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلاً لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة
وخامسها وهو أنكم تقولون الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض وذلك محال من القول لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق أو لا نزيل شيئاً منها وهو المطلوب
وسادسها وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارىء أو كلها والأول باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للمكن من غير مرجح وهو محال والقسم الثاني باطل لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنياً عنهما معاً حال كونه محتاجاً إليهما معاً وهو محال
وسابعها وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده احفظ المتاع لئلا يسرقه(7/45)
السارق ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة وكل واحد من الاستحقاقين ثابت والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول
وثامنها أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارىء إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون والأول محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجوداً في الزمان الماضي فلو كان لهذا الطارىء أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعاً للتأثير في الزمان الماضي وهو محال وإن لم يكن للطارىء أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارىء مانعاً من ظهور الأثر على ذلك السابق لأنا نقول إذا كان هذا الطارىء لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلاً وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال واندفاع أثر هذا الطارىء ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس
وتاسعها أن هؤلاء المعتزلة يقولون إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص وذلك محال لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة والأعظم لا يحيط بالأقل قال الجبائي إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظماً وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الانصاف والقسوة ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول
وعاشرها أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى يحتمل أمرين أحدهما لا تأتوا به باطلاً وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة
الوجه الثاني أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلاً لثواب تلك الصدقة وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما يطابق الاحتمال الأول وهو قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إذ من(7/46)
المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلاً أنه دخل في الوجود باطلاً لا أنه دخل صحيحاً ثم يزول لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر والكفر مقارن له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل فهذا يشهد لتأويلهم لأنه تعالى جعل الوابل مزيلاً لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزبلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر إلا أن لنا أن نقول لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقروناً بالنية الفاسدة لكان موجباً لحصول الأجر والثواب فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ولا غائصاً فيه ألبتة بل كان ذلك الاتصال كالانفصال فهو في مرأى العين متصل وفي الحقيقة غير متصل فكذا الانفاق المقرون بالمن والأذى يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر وفي الحقيقة ليس كذلك فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم وبالأذى لذلك السائل وقال الباقون بالمن على الفقير وبالأذى للفقير وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل لأن الإنسان إذا أنفق متبجحاً بفعله ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له
أما قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الكاف في قوله كَالَّذِى فيه قولان الأول أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس فبيّن تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما أن النفاق والرياء يبطلانها وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضاً إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الابطال الإتيان به باطلاً لا أن المقصود الإتيان به صحيحاً ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى
والقول الثاني أن يكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس
المسألة الثانية الرياء مصدر كالمراءاة يقال راأيته رياء ومراءاة مثل راعيته مراعاة ورعاء وهو أن ترائي بعملك غيرك وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني فقال فَمَثَلُهُ وفي هذا الضمير وجهان أحدهما أنه عائد إلى المنافق فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ثم شبه المنافق بالحجر ثم قال كَمَثَلِ صَفْوَانٍ وهو الحجر الأملس وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد وكل ذلك مقصور وقال بعضهم الصفوان جمع(7/47)
صفوانه كمرجان ومرجانة وسعدان وسعدانة ثم قال أَصَابَهُ وَابِلٌ الوابل المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل وبلا وأرض موبولة أي أصابها وابل ثم قال فَتَرَكَهُ صَلْدًا الصلد الأمس اليابس يقال حجر صلد وجبل صلد إذا كان براقاً أملس وأرض صلدة أي لا تنبت شيئاً كالحجر الصلد وصلد الزند إذا لم يور ناراً
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي ولعمل المنافق فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب وأما المعتزلة فقالوا إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل
الوجه الثاني في التشبيه قال القفال رحمه الله تعالى وفيه احتمال آخر وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ويجده وقت حاجته والصفوان محل بذر المنافق ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعاً بذره خالياً لا شيء فيه ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستاناً في ربوة من الأرض فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة وأما عمل المان والمؤذي والمنافق فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً ومن الملحدة من طعن في التشبيه فقال إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه قال القاضي وأيضاً فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها الانتفاع بها في التيمم وثالثها الانتفاع به فيما يتصل بالنبات وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول
أما قوله تعالى لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْء مّمَّا كَسَبُواْ فاعلم أن الضمير في قوله لاَّ يَقْدِرُونَ إلى ماذا يرجع فيه قولان أحدهما أنه عائد إلى معلوم غير مذكور أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة والثاني أنه عائد إلى قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ وخرج على هذا المعنى لأن قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ إنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام قال القفال رحمه الله وفيه وجه ثالث وهو أن يكون ذلك مردوداً على قوله لاَ(7/48)
تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم فرجع عن الخطاب إلى الغائب كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ نَخْسِفْ بِهِمُ ( يونس 22 )
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ومعناه على قولهم سلب الإيمان وعلى قول المعتزلة إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم
ثم قال تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون ماناً ومؤذياً ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك وهو هذه الآية وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما طلب مرضاة الله تعالى والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت وسواء قولك بغيت وابتغيت
والغرض الثاني هو تثبيت النفس وفيه وجوه أحدها أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى وهذا قول القاضي وثانيها وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة مجاهد وَتَثْبِيتًا مّنْ بَعْضُ أَنفُسِهِمْ وثالثها أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت فلهذا دخل فيه مِنْ التي هي التبعيض والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها وهو المراد من قوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( الصف 11 ) وهذا الوجه ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) ووصف إنفاق أبي بكر فقال وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 19 20 21 ) فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ولهذا قال أولاً في هذا الانفاق إنه لطلب مراضاة الله ثم أتبع ذلك بقوله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ وخامسها أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات
إذا عرفت هذا فنقول إن من يواظب على الانفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما حصول هذا المعنى والثاني صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح فإتيان العبد بالطاعة لله ولابتغاء مرضاة الله يفيد هذه الملكة المستقرة التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس وهو المراد أيضاً بقوله(7/49)
يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية فصار العبد كما قاله بعض المحققين غائباً حاضراً ظاعناً مقيماً وسادسها قال الزجاج المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ولا يخيب رجاءهم لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعاً لأنه لا يؤمن بالثواب فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها قال الحسن ومجاهد وعطاء المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف قال الحسن كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإذا كان لله أعطى وإن خالطه أمسك قال الواحدي وإنما جاز أن يكون التثبيت بمعنى التثبيت لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق وصرف المال في وجهه ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الانفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلاً فقال كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر بِرَبْوَة ٍ بفتح الراء وفي المؤمنين إِلَى رَبْوَة ٍ وهو لغة تميم والباقون بضم الراء فيهما وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش وفيه سبع لغات رَبْوَة ٍ بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و رباوة بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و ربو والربوة المكان المرتفع قال الأخفش والذي اختاره إِلَى رَبْوَة ٍ بالضم لأن جمعها الربى وأصلها من قولهم ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ومنه الرابية لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ومنه الربا لأنه يأخذ الزيادة
واعلم أن المفسرين قالوا البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعاً
ولي فيه إشكال وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضاً ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه بل المراد منه كون الأرض طيناً حراً بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها وتكمل الأشجار فيها وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ولا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو أُكُلُهَا بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهو الأصل والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ( إبراهيم 25 ) أي ثمرتها وما يؤكل منها فالأكل في المعنى مثل الطعمة وأنشد الأخفش فما أكلة إن نلتها بغنيمة
ولا جوعة إن جعتها بقرام(7/50)
وقال أبو زيد يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا
المسألة الثانية قال الزجاج اتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين وقال الأصم ضعف ما يكون في غيرها وقال أبو مسلم مثلي ما كان يعهد منها
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ الطل مطر صغير الفطر ثم في المعنى وجوه
الأول المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمراد من البصير العليم أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عليها وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّة ٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية كثيرة النفع وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضاً في غاية الحاجة وفي غاية العجز ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة والمحنة وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس وثانياً بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً وثالثاً بسبب تعلق غيره به ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة فكذلك من أنفق لأجل الله كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده(7/51)
في وجوه الانتفاع على تلك الجنة وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله لم يجد هناك شيئاً فيبقى لا محالة في أعظم غم وفي أكمل حسرة وحيرة وهذا المثل في غاية الحسن ونهاية الكمال ولنذكر ما يتعلق بألفاظ الآية
أما قوله أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ فيه مسألتان
المسألة الأولى الود هو المحبة الكاملة
المسألة الثانية الهمزة في أَيَوَدُّ استفهام لأجل الإنكار وإنما قال أَيَوَدُّ ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ حصول مثل هذه الحالة تنبيهاً على الإنكار التام والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه
أما قوله جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فاعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث
الصفة الأول كونها من نخيل وأعناب واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها
والصفة الثانية قوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة
الصفة الثالثة قوله لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ولا شك أن هذا يكون سبباً لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وذلك لأنه إذا صار كبيراً وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه وملبسه ومسكنه ومن يقوم بخدمته وتحصيل مصالحه فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب إلا من تلك الجنة فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة
فإن قيل كيف عطف وَأَصَابَهُ على أَيَوَدُّ وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الواو للحال لا للعطف ومعناه بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق
والجواب الثاني قال الفرّاء وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى كأنه قيل أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال وَلَهُ ذُرّيَّة ٌ ضُعَفَاء والمراد من(7/52)
ضعف الذرية الضعف بسبب الصغر والطفولية فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر
ثم قال تعالى فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود وهي التي يسميها الناس الزوبعة وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا
والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أموراً تخرجها عن كونها موجبة للثواب فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته ونظير هذه الآية قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقوله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 )
ثم قال كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي كما بيّن الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيباً وترهيباً كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن لعل للترجي وهو لا يليق بالله تعالى
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا به في أنه يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وقد تقدم شرح هاتين الآيتين مراراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
إعلم أنه رغب في الإنفاق ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يتبعه ذلك
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه(7/53)
ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ واختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ المراد منه ماذا فقال الحسن المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم المراد منه التطوع وقال ثالث إنه يتناول الفرض والنفل حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله أَنفَقُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية وعن ابن عباس رضي الله عنهما جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بئس ما صنع صاحب هذا ) فأنزل الله تعالى هذه الآية حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً إلا أن مخالفيه خصصوا هذا الغموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس في الخضراوات صدقة ) وأيضاً مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلاً كان أو كثيراً وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين
القول الأول أنه الجيد من المال دون الرديء فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء
والقول الثاني وهو قول ابن مسعود ومجاهد أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه
الحجة الأولى إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد
الحجة الثانية أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء فيكون المعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال أمن حلاله أو من حرامه
الحجة الثالثة أن هذا القول متأيد بقوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُونَ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها لا الأشياء الخسيسة التي يجب(7/54)
على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته واحتج القاضي للقول الثاني فقال أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال فإذا بطل الأول تعين الثاني وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراماً أو حلالاً وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيباً من كل الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال ويكون طيباً بمعنى الجودة وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيباً لأنه يستطيبه العقل والدين والجيد إنما يسمى طيباً لأنه يستطيبه الميل والشهوة فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين فكان اللفظ محمولاً عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول الأموال الزكية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة فإن كان الكل شريفاً كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك وإن كان الكل خسيساً كان الزكاة أيضاً من ذلك الخسيس ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطاً فالواجب هو الوسط قال ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم ) هذا كله إذا قلنا المراد من قوله أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ الزكاة الواجبة أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع فنقول إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها فكذا هاهنا بقي في الآية سؤال واحد وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ
وجوابه تقدير الآية أنفقوا من طيبات ما كسبتم وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه
أما قوله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال أممته ويممته وتأممته كله بمعنى قصدته قال الأعشى
تيممت قيساً وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شرف
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحده وَلاَ تَيَمَّمُواْ بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها وهي ثلاثة وعشرون موضعاً لا تفرقوا توفاهم تعاونوا فتفرق بكم تلقف تولوا تنازعوا تربصون فإن تولوا لا تكلم تلقونه تبرجن تبدل تناصرون تجسسوا تنابزوا لتعارفوا تميز تخيرون تلهى تلظى تنزل الملائكة وهاهنا بحثان
البحث الأول قال أبو علي هذا الإدغام غير جائز لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي نحو أدارأتم وارتبتم وأطيرنا لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع(7/55)
البحث الثاني اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة فقال بعضهم هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية والفرّاء يقول أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها
أما قوله تعالى مِنْهُ تُنفِقُونَ
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول أنه تم الكلام عند قوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ثم ابتدأ فقال مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ فقوله مِنْهُ تُنفِقُونَ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ويكون الذي مضمراً والتقدير ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ونظيره إضمار التي في قوله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا ( البقرة 256 ) والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها
أما قوله تعالى وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الاغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء يقال هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض
المسألة الثانية في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً فقوله وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن
ثم ختم الآية بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ والمعنى أنه غني عن صدقاتكم ومعنى حميد أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر وهو أن قوله غَنِى ٌّ كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و حَمِيدٌ بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال(7/56)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيراً فلا تبال بقوله فإن الرحمن يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء
المسألة الثانية الوعد يستعمل في الخير والشر قال الله تعالى النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الحج 72 ) ويمكن أن يكون هذا محمولاً على التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
المسألة الثالثة الفقر والفقر لغتان وهو الضعيف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار يقال رجل فقر وفقير إذا كان مكسور الفقار قال طرفة
إنني لست بمرهون فقر
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الفقر بالضم والفقر بفتحتين
المسألة الرابعة أما الكلام في حقيقة الوسوسة فقد ذكرناه في أول الكتاب في تفسير أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه إن للشيطان لمة وهي الإيعاد بالشر وللملك لمة وهي الوعد بالخير فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ هذه الآية وروى الحسن قال بعض المهاجرين من سره أن يعلم مكان الشيطان منه فليتأمل موضعه من المكان الذي منه يجد الرغبة في فعل المنكر
أما قوله تعالى وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ففيه وجوه الأول أن الفحشاء هي البخل وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل قال طرفة أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة وهي التخويف من الفقر
الوجه الثاني في تفسير الفحشاء وهو أنه يقول لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيراً فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها وهناك يتسع الخرق ويصير مقداماً على كل الذنوب وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطاً فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه(7/57)
وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش فالوسط هو قوله تعالى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ والطرف الفاحش قوله وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أن الملك ينادي كل ليلة ( اللّهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً )
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك والرحمان يعدك المغفرة في غد عقباك ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها أن بتقدير وجدان غد الدنيا فقد يبقى المال المبخول به وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول وخامسها أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار فلا ترى شيئاً من اللذات إلا ويكون سبباً للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان
إذا عرفت هذا فنقول المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها التنكير في لفظة المغفرة والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني قوله مَّغْفِرَة ً مّنْهُ فقوله مِنْهُ يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضاً لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاً أحدها أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث نفسانية وبدنية وخارجية وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث السعادات النفسانية وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا(7/58)
حب الدنيا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ) وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة وهذا هو الفضل لا غير والثالث وهو أحسن الوجوه أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقاً لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير
ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي أنه واسع المغفرة قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون فهو يخلفه عليكم
يُؤْتِى الْحِكْمَة َ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها مواعظ القرآن قال في البقرة وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ يعني مواعظ القرآن وفي النساء وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يعني المواعظ ومثلها في آل عمران وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم ومنه قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وفي لقمان وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ ( لقمان 12 ) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ( الأنعام 89 ) وثالثها الحكمة بمعنى النبوّة في النساء فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( النساء 54 ) يعني النبوّة وفي ص وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ ( ص 20 ) يعني النبوّة وفي البقرة وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ( البقرة 251 ) ورابعها القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وفي هذه الآية وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ(7/59)
إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وسمى الدنيا بأسرها قليلا فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار متناهية المدة والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادة الحاصلة منها وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ومداد هذا المعنى على قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخلقوا بأخلاق الله تعالى ) واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق وبالثاني إلى فعل العدل والصواب فحكي عن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) وهو الحكمة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) الحكمة العملية ونادى موسى عليه السلام فقال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاعْبُدْنِى وهو الحكمة العملية وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) الآية وكل ذلك للحكمة النظرية ثم قال وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى ( مريم 31 ) وهو الحكمة العملية وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( غافر 55 ) ( محمد 19 ) وهو الحكمة العملية وقال في جميع الأنبياء يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( النحل 2 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاتَّقُونِ وهو الحكمة العملية والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين قال أبو مسلم الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال أمر حكيم أي محكم وهو فعيل بمعنى مفعول قال الله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( الدخان 4 ) وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمِنْ يُؤْتِى الْحِكْمَة َ بمعنى ومن يؤته الله الحكمة وهكذا قرأ الأعمش
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم فهي مفسرة بالعلوم النظرية وإن فسرناها بالأفعال الحسيّة فالأمر ظاهر وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسيّة ثابتاً من غيرهم وبتقدير مقدر غيرهم وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوّة والقرآن أو قوة الفهم والحسيّة على ما هو قول الربيع بن أنس
قلنا الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة والقرآن بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء أو(7/60)
بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف قلنا كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الالطاف والله أعلم
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره كان من أولي الألباب لأنه لم يقف عند المسببات بل ترقى منها إلى أسبابها فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا هذه الحكمة لا تقوم بنفسها وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر فيعرف ماله وما عليه وعند ذلك يقدم أو يحجم
وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال ثم حث أولاً بقوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( البقرة 267 ) وثانياً بقوله الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ( البقرة 268 ) حيث عليه ثالثاً بقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ على اختصاره يفيد الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين وبيانه من وجوه أحدها أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة وثانيها أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات كما قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وقوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وثالثها أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها ولا يشتبه عليه شيء منها
المسألة الثانية إنما قال فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل يعلمها لوجهين الأول أن الضمير عائد إلى الأخير كقوله وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وهذا قول الأخفش والثاني أن الكتابة عادت إلى ما في قوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ لأنها اسم كقوله وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ ( البقرة 231 )(7/61)
المسألة الثالثة النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال نذر ينذر وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده وأنذرت القوم إنذاراً بالتخويف وفي الشريعة على ضربين مفسر وغير مفسر فالمفسر أن يقول لله علي عتق رقبة ولله علي حج فههنا يلزم الوفاء به ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله أو يقول لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين )
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أنه وعيد شديد للظالمين وهو قسمان أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الانفاق عن المستحق إلى غيره أو يكون نيته في الانفاق على المستحق الرياء والسمعة أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير بل من باب الظلم على النفس
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر قالوا لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصاراً لهم وذلك يبطل قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصراً بدليل قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء
والجواب الثاني ليس لمجموع الظالمين أنصار فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار
فإن قيل لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فكان المعنى ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار
قلنا لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد
والجواب الثالث أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل وفي كل الأوقات والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام والله أعلم
والجواب الرابع ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً
المسألة الثالثة الأنصار جمع نصير كإشراف وشريف وأحباب وحبيب(7/62)
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
إعلم أنه تعالى بيّن أولاً أن الانفاق منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يكون كذلك وذكر حكم كل واحد من القسمين ثم ذكر ثانياً أن الانفاق قد يكون من جيد ومن رديء وذكر حكم كل واحد من القسمين وذكر في هذه الآية أن الانفاق قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً وذكر كل واحد من القسمين فقال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( نفقة المرء على عياله صدقة ) والزكاة لا تطلق إلا على الفرض قال أهل اللغة أصل الصدقة ( ص د ق ) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال ومنه قولهم رجل صدق النظر وصدق اللقاء وصدقوهم القتال وفلان صادق المودة وهذا خل صادق الحموضة وشيء صادق الحلاوة وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحاً كاملاً والصديق يسمى صديقاً لصدقه في المودة والصداق سمي صداقاً لأن عقد النكاح به يتم ويكمل وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل فهي سبب إما لكمال المال وبقائه وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه
المسألة الثالثة الأصل في قوله فَنِعِمَّا نعم ما إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم فَنِعِمَّا بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد قال لأنها لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لعمرو بن العاص ( نعما بالمال الصالح للرجل الصالح ) هكذا روي في الحديث بسكون العين والنحويون قالوا هذا يقتضي الجمع بين الساكنين وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين نحو دابة وشابة لأن ما في الحرف من المد يصير عوضاً عن الحركة وأما الحديث فلأنه لما دل الحس على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص فَنِعِمَّا هِى َ بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها والثاني أن هذا على لغة من يقول نِعْمَ بكسر النون والعين قال سيبويه وهي لغة هذيل القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء فَنِعِمَّا هِى َ بفتح النون وكسر العين ومن قرأ بهذه القراءة فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي نِعْمَ قال طرفة(7/63)
نعم الساعون في الأمر المير
المسألة الرابعة قال الزجاج ما في تأويل الشيء أي نعم الشيء هو قال أبو علي الجيد في تمثيل هذا أن يقال ما في تأويل شيء لأن ما هاهنا نكرة فتمثيله بالنكرة أبين والدليل على أن ما نكرة هاهنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة وليس هاهنا ما يوصل به لأن الموجود بعد ما هو هي وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول ما نصب على التمييز والتقدير نعم شيئاً هي إبداء الصدقات فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه
المسألة الخامسة اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية التطوع أو الواجب أو مجموعهما
فالقول الأول وهو قول الأكثرين أن المراد منه صدقة التطوع قالوا لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل والإظهار في الزكاة أفضل وفيه بحثان
البحث الأول في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه أو إظهاره فلنذكر أولاً الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل فالأول أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان ) والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معاً وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم فكان ذلك يشق على النفس فوجب أن يكون ذلك أكثر ثواباً وثالثها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر ) وقال أيضاً ( إن العبد ليعمل عملاً في السر يكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء ) وفي الحديث المشهور ( سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدقة السر تطفيء غضب الرب ) ورابعها أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه والإخفاء لا يتضمن ذلك فوجب أن يكون الإخفاء أولى وبيان تلك المضار من وجوه الأول أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره وربما لا يرضى الفقير بذلك والثاني أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ( البقرة 273 ) والثالث أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع أن في إظهر الإعطاء إذلالاً للآخذ وإهانة له وإزلال المؤمن غير جائز والخامس أن الصدقة جارية مجرى الهدية وقال عليه الصلاة والسلام ( من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها ) وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئاً إلى(7/64)
شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار ذلك سبباً لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل وروي ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به ) قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفاً على العلانية ثم إن الله عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى فإذا عمل عملاً علانية لم يحتج أن يجاهد لأن شهوة النفس قد بطلت ومنازعة النفس قد اضمحلت فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاماً وفوق التمام ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة فقال أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ ( الفرقان 75 ) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ( الفرقان 74 ) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) ومدح أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ثم أبهم المنكر فقال وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 ) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله
فإن قيل إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
والجواب من وجهين الأول لا نسلم قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات وطاعة من جملة الطاعات فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيراً وطاعة لا أن المقصود منه بيان الترجيح
والوجه الثاني سلمنا أن المراد منه الترجيح لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء فالأفضل هو الإخفاء فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء
البحث الثاني أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها أن في إظهارها نفي التهمة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة فكذا في الزكاة وثالثها أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى هذا كله في بيان قول من قال المراد(7/65)
بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط
القول الثاني وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب وأجاب عن قول من قال الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال وربما كان ذلك سبباً للضرر بأن يطمع الظلمة في ماله أو بكثرة حساده وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث أن لا نسلم دلالة قوله فَهُوَ خَيْرٌ على الترجيح وقد سبق بيانه
أما قوله تعالى وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله فَهُوَ كناية عن الإخفاء لأن الفعل يدل على المصدر أي الإخفاء خير لكم وقد ذكرنا أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء فيميزهم عن غيرهم فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة
أما قوله تعالى وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى التكفير في اللغة التغطية والستر ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه ومنه يقال كفر عن يمينه أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة والكفارة ستارة لما حصل من الذنب
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر نَّكْفُرَ بالنون ورفع الراء وفيه وجوه أحدها أن يكون عطفاً على محل ما بعد الفاء والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فإن موضعه جزم ألا ترى أنه لو قال وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم لجزم فيظهر أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ في موضع جزم ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ( الأعراف 186 ) بالجزم والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم يَكْفُرْ بالياء وكسر الفاء ورفع الراء والمعنى يكفر الله أو يكفر الاخفاء وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد وهو قوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فقوله يَكْفُرْ يكون أشبه بما بعده والأولون أجابوا وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولاً ثم لفظ الأفراد ثانياً كما أتى بلفظ الأفراد أولاً والجمع ثانياً في قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) ثم قال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ ( الإسراء 2 ) ونقل صاحب ( الكشاف ) قراءة رابعة وتكفر بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفاعل الصدقات وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار حَمِيمٍ ءانٍ ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم(7/66)
المسألة الثالثة في دخول مِنْ في قوله مّن سَيّئَاتِكُمْ وجوه أحدها المراد ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام والثاني أن يكون مِنْ بمعنى من أجل والمعنى ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم كما تقول ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك والثالث أنها صلة زائدة كقوله فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( محمد 15 ) والتقدير ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى وهو الأصح
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته فقد حصل مقصودكم في السر فما معنى الإبداء فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان سبب النزول وجوه أحدها أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها وكذلك جدتها وهما مشركتان أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنكما لستما على ديني فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتصدق عليهما
والرواية الثانية كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق علهيم والمعنى على جميع الروايات ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ونظيره قوله تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ ( الممتحنة 8 ) فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين(7/67)
المسألة الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ( التوبة 128 ) فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك فالهدى هاهنا بمعنى الإهتداء فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار
المسألة الثالثة ظاهر قوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد به هو وأمته ألا تراه قال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( البقرة 271 ) وهذا خطاب عام ثم قال لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وهو في الظاهر خاص ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا لأن قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء إثبات للهداية التي نفاها بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المنفي بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار فكان قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب
قالت المعتزلة وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يحتمل وجوهاً أحدها أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء هو المنفي أولاً بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولاً لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو الاهتداء على سبيل الاختيار فالمثبت بقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه
ثم قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ فالمعنى وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله فقد علم الله هذا من قلوبكم فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك(7/68)
وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) الثالث أن قوله وَمَا تُنفِقُونَ أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله
المسألة الثانية ذكر في الوجه في قوله إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ قولان أحدهما أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني أنك إذا قلت فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال فعلته له ولغيره أيضاً أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة
المسألة الثالثة أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره وعن بعض العلماء لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة وإنما حسن قوله إِلَيْكُمْ مع الترفيه لأنها تضمنت معنى التأدية
ثم قال وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ وَمِنْهُ شَيْئاً ( الكهف 33 ) يريد لم تنقص
لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقاً بصرف الصدقة إليه من هو فقال لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِلْفُقَرَاء متعلق بماذا فيه وجوه الأول لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق قال بعدها لِلْفُقَرَاء أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم(7/69)
ذكر رجل فتقول عاقل لبيب والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه الثاني أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء
المسألة الثانية نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة عن ابن عباس وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي )
واعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 273 ) فنقول الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجري مجرى هذه الأشياء يقال أحصر الرجل فهو محصر ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بما يعني عن الإعادة أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول أن المعنى إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد وأن قوله فِى سَبِيلِ اللَّهِ مختص بالجهاد في عرف القرآن ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون مستعداً لذلك متى مست الحاجة فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير أحدها إزالة عيلتهم والثاني تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه وثالثها تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين ورابعها أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم على ما قال تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ
والقول الثاني وهو قول قتادة وابن زيد منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة وكانوا متى وجدوهم قتلوهم
والقول الثالث وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض
والقول الرابع قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله
والقول الخامس هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يقال ضربت في الأرض ضرباً إذا سرت فيها ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد يمنعهم من(7/70)
الاشتغال بالكسب والتجارة وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معيناً لهم على مهماتهم
الصفة الثالثة لهم قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر وحمزة يَحْسَبُهُمُ بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد وقرىء في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعاً الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس لأن الماضي إذا كان على فعل نحو حسب كان المضارع على يفعل مثل فرق يفرق وشرب يشرب وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أُخر والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذاً عن القياس
المسألة الثانية الحسبان هو الظن وقوله الْجَاهِلُ لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار يقول يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء وأصلها من السمة التي هي العلامة قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي وزنه يكون فعلاً كما قالوا له جاه عند الناس أي وجه وقال قوم السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور قال مجاهد سِيمَاهُمْ التخشع والتواضع قال الربيع والسدي أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية لا علات جسمانية ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هاهنا ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة كما قال تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) وأيضاً ظهور آثار الفكر روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى عن ابن مسعود رضي الله عنه إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيراً أفرط في المدح وإن أعطى قليلاً أفرط في الذم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله تعالى لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس )
واعلم أن هذه الآية مشكلة وذكروا في تأويلها وجوهاً الأول أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا وهو اختيار صاحب ( الكشاف ) وهو ضعيف لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن(7/71)
السؤال قبل ذلك فقال يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع أنه ليس المقصود من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضاً أنهم لا يسألون إلحافاً بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت والآخر طياش مهذار سفيه فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام لا يخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى بعد قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافاً وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم
الوجه الثالث أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا بالرفق والتلطف وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال فعلى هذا يكون قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلاً
والوجه الرابع هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولي نفس أقول لها إذا ما
تنازعني لعلي أو عساني
الوجه الخامس أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال فيقول لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً
الوجه السادس وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة ثم سكت عن السؤال فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول(7/72)
وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( البقرة 273 ) وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( البقرة 272 ) وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما أنه تعالى لما قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ بين أن أجره واصل لا محالة ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له إن أجرك واصل إليك
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم أقوال الأول لما بيّن في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو فقال الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ والثاني أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ ( البقرة 274 ) والثالث أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات
المسألة الثانية في سبب النزول وجوه الأول لما نزل قوله تعالى لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلاً فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني قال ابن عباس إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حملك على هذا فقال أن استوجب ما وعدني ربي فقال لك ذلك(7/73)
فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث قال صاحب ( الكشاف ) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة في السر وعشرة في العلانية والرابع نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال وهذا هو أحسن الوجوه لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم
المسألة الثالثة قال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله فَلَهُمْ جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء فكان التقدير من أنفق فلا يضيع أجره وتقديره أنه لو قال الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام أما لو قال الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام فههنا الفاء دلّت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية وذلك لأنه قدم الليل على النهار والسر على العلانية في الذكر
ثم قال في خاتمة الآية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 274 ) والمعنى معلوم وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ويتأكد ذلك بقوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
المسألة الثانية أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة وقد أحكمنا هذه المسألة وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق
الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوااْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَة ٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال(7/74)
بسبب أمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا متضادين ولهذا قال الله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا
أما قوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ فالمراد الذين يعاملون به وخص الأكل لأنه معظم الأمر كما قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل إنما يصرف في المأكول فيؤكل والمراد التصرف فيه فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد وأيضاً فقد ثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له ) فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا وأما الربا ففيه مسائل
المسألة الأولى الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال ربا الشيء يربو ومنه قوله اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) أي زادت وأربى الرجل إذا عامل في الربا ومنه الحديث ( من أجبى فقد أربى ) أي عامل بالربا والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه هذا معنى الربا في اللغة
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي الرّبَا بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء وهي في المصاحف مكتوبة بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء قال صاحب ( الكشاف ) الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع
المسألة الثالثة إعلم أن الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ويكون رأس المال باقياً ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك
إذا عرفت هذا فنقول المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول لا ربا إلا في النسيئة وكان يجوز بالنقد فقال له أبو سعيد الخدري شهدت ما لم تشهد أو سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين كنا في بيت ومعنا عكرمة فقال رجل يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس فقال إنما كنت استحللت التصرف برأيي ثم بلغني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله وحجة ابن عباس أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة وليست كل زيادة محرمة بل قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا وذلك هو ربا النسيئة فكان قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ مخصوصاً بالنسيئة فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول ربا النقد وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله فوجب أن يبقى على الحل ولا يمكن أن يقال إنما يحرمه(7/75)
بالحديث لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن مخبر الواحد وأنه غير جائز وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين أما القسم الأول فبالقرآن وأما ربا النقد فبالخبر ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة بل ثابتة في غيرها وقال نفاة القياس بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه
الحجة الأولى أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً أو قال لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً وأكثرر فائدة فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة علمنا أن حكم الحرمة مقصور عيها فقط
الحجة الثانية أنا بينا في قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى وأنه غير جائز
الحجة الثالثة أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص وذلك غير جائز أما أولاً فلأنه يقتضي تعليل حكم الله وذلك محال على ما ثبت في الأصول وأما ثانياً فلأن الحكم في مورد النص معلوم واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة بل هي ثابتة في غيرها ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب
فالقول الأول وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس وفي الذهب والفضة النقدية
والقول الثاني قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا والعلة في الدراهم والدنانير الوزن وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس
والقول الثالث قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت وهو الملح
والقول الرابع وهو قول عبد الملك بن الماجشون أن كل ما ينتفع به ففيه الربا فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير
المسألة الرابعة ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً أحدها الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان(7/76)
متعلق حاجته وله حرمة عظيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ) فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله
قلنا إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها قال بعضهم الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها قيل السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً والمستقرض يكون فقيراً فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائداً وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا نعلم الوجه فيه
أما قوله تعالى لاَ يَقُومُونَ فأكثر المفسرين قالوا المراد منه القيام يوم القيامة وقال بعضهم المراد منه القيام من القبر واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين فوجب حمل اللفظ عليهما
أما قوله تعالى إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ففيه مسائل
المسألة الأولى التخبط معناه الضرب على غير استواء ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وخبط البعير للأرض بأخفافه وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ويقال به خبطة من جنون والمس الجنون يقال مس الرجل فهو ممسوس وبه مس وأصله من المس باليد كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ثم سمي الجنون مساً كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله فسمي الجنون خبطة فالتخبط بالرجل والمس باليد ثم فيه سؤالان
السؤال الأول التخبط تفعل فكيف يكون متعدياً
الجواب تفعل بمعنى فعل كثير نحو تقسمه بمعنى قسمه وتقطعه بمعنى قطعه
السؤال الثاني بم تعلق قوله مِنَ الْمَسّ(7/77)
قلنا فيه وجهان أحدهما بقوله لاَ يَقُومُونَ والتقدير لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني أنه متعلق بقوله ياقَوْمِ والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس
المسألة الثانية قال الجبائي الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه
أحدها قوله تعالى حكاية عن الشيطان وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني الشيطان إما أن يقال إنه كثيف الجسم أو يقال إنه من الأجسام اللطيفة فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها وذلك جهالة عظيمة ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ولم لا يغصب أموالهم ويفسد أحوالهم ويفشي أسرارهم ويزيل عقولهم وكل ذلك ظاهر الفساد واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات
والجواب عنه أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني أن هذه الآية وهي قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه
والجواب عنه أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع وهو كقول أيوب عليه السلام أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( ص 41 ) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب وذكر القفال فيه وجه آخر وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 )
المسألة الثالثة للمفسرين في الآية أقوال الأول أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى(7/78)
الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بجنون
والقول الثاني قال ابن منبه يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً ( المعارج 43 ) إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن وهذا ليس من الجنون في شيء ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ
والقول الثالث أنه مأخوذ من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله فهذا هو المراد من مس الشيطان ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى فحدثت هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا
أما قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين فهذا في ربا النقد وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين وذلك لأنه إنما جاز هناك لأنه حصل التراضي من الجانبين فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة والمديون يرده عند وجدان المال وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة فهذا هو شبهة القوم والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد وهو قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس وهو من عمل إبليس فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم ( صلى الله عليه وسلم ) عارض النص بالقياس فقال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ( ص 76 ) واعلم أن نفاة القياس(7/79)
يتمسكون بهذا الحرف فقالوا لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين فقال من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ولا يمكن أن يقال إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة فظهر الفرق بين الصورتين
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه وأكله مع التحريم وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر
فإن قيل مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا
قلنا إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال يقال فلان يأكل مال الله قضماً خصماً أي يستحل التصرف فيه وإذا حملنا الأكل على الاستحلال صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها فهذا ما يدل عليه لفظ الآية إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أنه لم لم يقل إنما الربا مثل البيع وذلك لأن حل البيع متفق عليه فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق فكان نظم الآية أن يقال إنما الربا مثل البيع فما الحكمة في أن قلب هذه القضية فقال إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ
والجواب أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز
أما قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار والمعنى أنهم قالوا البيع مثل الربا ثم إنكم تقولون وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فكيف يعقل هذا يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ وأما قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا والحجة على صحة هذا القول وجوه(7/80)
الحجة الأولى أن قول من قال هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار فكان ذلك أولى
الحجة الثانية أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ولو لم يكن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ لائقاً بهذا الموضع
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها وهذا هو المختار عندي ويدل عليه وجوه الأول أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة
والوجه الثاني وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم مثلاً قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز
الوجه الثالث ما روي عن عمر رضي الله عنه قال خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدنيا وما سألناه عن الربا ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات
الوجه الرابع أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ يقتضي أن يكون كل ربا حراماً لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية فكانت مجملة فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وقرأ أبي والحسن فَمَنْ جَاءتْهُ مَّوْعِظَة ٌ ثم قال فَانتَهَى أي فامتنع ثم قال فَلَهُ مَا سَلَفَ وفيه مسألتان(7/81)
المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول قال الزجاج أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية وهو كقوله قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك وهو قوله فَلَهُ مَا سَلَفَ فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني قال السدي له ما سلف أي له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ( البقرة 279 )
المسألة الثانية قال الواحدي السلف المتقدم وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ومنه الأمة السالفة والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو والسلفة ما يقدم قبل الطعام وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها
أما قوله تعالى وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ففيه وجوه للمفسرين إلا أن الذي أقوله إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا أو لم يترك والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها
أما مقدمة الآية فلأن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا فكان قوله فَانتَهَى عائداً إليه فكان المعنى فانتهى عن هذا القول
وأما مؤخرة الآية فقوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ومعناه عاد إلى الكلام المتقدم وهو استحلال الربا أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ثم هذا الإنسان إما أن يقال إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا أو ليس كذلك فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام لكن قوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو
أما قوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فالمعنى ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً
واعلم أن قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد الحصر وهذا يدل على أن كونه صاحب النار وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل(7/82)
يخرجه منها والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه
ثم قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان وهذا بيان شريف وتفسير حسن
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
إعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا وكشف عن فساده وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ومنه المحاق في الهلال يقال محقه الله فانمحق وامتحق ويقال هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته
المسألة الثانية إعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة أما في الدنيا فنقول محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الربا وإن كثر فإلى قل ) وثانيها إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إلى الأطماع وقصده كل ظالم ومارق وطماع ويقولون إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة رحم وثانيها إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ويبقى التبعة والعقوبة وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون فذلك هو المحق والنقصان
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا وأن يكون المراد في الآخرة(7/83)
أما في الدنيا فمن وجوه أحدها أن من كان لله كان الله له فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم جائعاً ( اللّهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا ) وثانيها أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء فكل أحد يحترز عن منازعته وكل ظالم وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله اللّهم إلا نادراً فهذا هو المراد بأرباء الصدقات في الدنيا
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ) وتصديق ذلك بين في كتاب الله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( البقرة 276 ) قال القفال رحمه الله تعالى ونظير قوله يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ونظير قوله وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
أما قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ومعناه من كان ذلك منه عادة والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول فلان فعال للخير أمار به والأثيم فعيل بمعنى فاعل وهو الآثم وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال إِنّ(7/84)
َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ مع أنه لا نزاع في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكذا فيما ذكرتم وأيضاً قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( محمد 34 ) وقال الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( البقرة 239 ) ( المائدة 5 10 )
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل
المسألة الثانية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ أقوى من قوله على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه وقوله أجرهم على ربهم يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الثالثة اختلفوا في قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقال ابن عباس لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة وقال الأصم لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة
المسألة الرابعة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ثم عند انقطاع حيضها ماتت أو الرجل بلغ عارفاً بالله وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات فهما بالاتفاق من أهل الثواب فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال وإذا كان كذلك فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال
الجواب أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب كما قال في ضد هذا وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) ومعلوم أن من ادعى مع الله إلاهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلاهاً لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة
( 278 )(7/85)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرِّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال تعالى في هذه الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض فالزيادة تحرم وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم وإنما شدد تعالى في ذلك لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم فقال اتَّقُواْ اللَّهَ واتقاؤه ما نهى عنه وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان أو بعضاً فإنه محرم قبضه
وإعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ولا يفسخ وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
فإن قيل كيف قال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ ثم قال في آخره إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
الجواب من وجوه الأول أن هذا مثل ما يقال إن كنت أخاً فأكرمني معناه إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني قيل معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم
المسألة الثانية في سبب نزول الآية روايات(7/86)
الرواية الأولى أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة
والرواية الثانية قال مقاتل إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف مسعود وعبد يا ليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة فلما ظهر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الطائف أسلم الأخوة ثم طالبوا برباهم بني المغيرة فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة نزلت في العباس وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر فلما حضر الجداد قبضا بعضاً وزاد في الباقي فنزلت الآية وهذا قول عطاء وعكرمة
الرواية الرابعة نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا يسلفان في الربا وهو قول السدي
المسألة الثالثة قال القاضي قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر
والجواب لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه فكان التقدير إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة فَأْذَنُواْ مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال فَئَامِنُواْ والباقون فَأْذَنُواْ بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك فَأْذَنُواْ ممدودة أي فاعلموا من قوله تعالى فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء ( الأنبياء 109 ) ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية والتقدير فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم فهذه القراءة في البلاغة آكد وقال أحمد بن يحيى قراءة العامة من الاذن أي كونوا على علم وإذن وقرأ الحسن فأيقنوا وهو دليل لقراءة العامة
المسألة الثانية اختلفوا في أن الخطاب بقوله مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا الذين قالوا إنما البيع مثل الربا قال القاضي والاحتمال الأول أولى لأن قوله فَأْذَنُواْ خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وهم المخاطبون بقوله يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين
فإن قيل كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين
قلنا هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) وعن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله ) وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) أصلاً في قطع(7/87)
الطريق من المسلمين فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله
إذا عرفت هذا فنقول في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني المراد نفس الحرب وفيه تفصيل فنقول الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان وتترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه
والقول الثاني في هذه الآية أن قوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ ( البقرة 279 ) خطاب للكفار وأن معنى الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) معترفين بتحريم الربا فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ومن ذهب إلى هذا القول قال إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً كما لو كفر بجميع شرائعه
ثم قال تعالى وَإِن تُبتُمْ والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا وعلى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال النحويون كَانَ كلمة تستعمل على وجوه أحدها أن تكون بمنزلة حدث ووقع وذلك في قوله قد كان الأمر أي وجد وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني أن يخلع منه معنى الحدث فتبقى الكلمة مجردة للزمان وحينئذ يحتاج إلى الخبر وذلك كقوله كان زيد ذاهباً
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم وكان هناك جمع من أكابر الأدباء أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت إنكم تقولون إن كَانَ إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان فقولك كَانَ يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت تامة لا ناقصة وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً وأنتم تنكرون ذلك فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً وصنفوا في الجواب عنه كتباً وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها أن يكون المعنى وجد وحدث الشيء كقولك وجد الجوهر وحدث العرض والثاني أن يكون المعنى وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء فإذا قلت كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة وفي الحقيقة فالمفهوم من كَانَ في الموضعين هو الحدوث والوقوع إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً بل لا بد فيه من ذكر الاسمين(7/88)
حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر وهذا من لطائف الأبحاث فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذ تكون تامة لا ناقصة وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر وجميع خواص الأفعال وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية
المفهوم الثالث لكان يكون بمعنى صار وأنشدوا
بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك فيكون هنا بمعنى حدث ووقع إلا أنه حدوث مخصوص وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى
المفهوم الرابع أن تكون زائدة وأنشدوا
سراة بني أبي بكر تسامى
على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول في كَانَ في هذه الآية وجهان الأول أنها بمعنى وقع وحدث والمعنى وإن وجد ذو عسرة ونظيره قوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً بالرفع على معنى وإن وقعت تجارة حاضرة ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل وإن كان ذا عسرة لكان المعنى وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني أنها ناقصة على حذف الخبر تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم وقرأ عثمان ذَا عُسْرَة ٍ والتقدير إن كان الغريم ذا عسرة وقريء وَمَن كَانَ ذَا عُسْرَة ٍ
المسألة الثانية العسرة اسم من الأعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال
ثم قالل تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير فالحكم أو فالأمر نظرة أو فالذي تعاملونه نظرة
المسألة الثانية نظرة أي تأخير والنظرة الاسم من الأنظار وهو الإمهال تقول بعته الشيء بنظرة وبانظار قال تعالى قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 36 37 38 )
المسألة الثالثة قرىء فَنَظِرَة ٌ بسكون الظاء وقرأ عطاء فناظره أي فصاحب الحق أي منتظره أو صاحب نظرته على طريق النسب كقولهم مكان عاشب وباقل أي ذو عشب وذو بقل وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة
المسألة الرابعة الميسرة مفعلة من اليسر واليسار الذي هو ضد الأعسار وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل فهو موسر أي صار إلى اليسر فالميسرة واليسر والميسور الغنى(7/89)
المسألة الخامسة قرأ نافع إِلَى مَيْسَرَة ٍ بضم السين والباقون بفتحها وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة والمشرفة والمشربة والمسربة والفتح أشهر اللغتين لأنه جاء في كلامهم كثيراً
المسألة السادسة اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم الآية في الربا وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل إنه معسر فقال شريح إنما ذلك في الربا والله تعالى قال في كتابه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( النساء 58 ) وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ
القول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين إنها عامة في كل دين واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ ولم يقل وإن كان ذا عسرة ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين قال القاضي والقول الأول أرجح لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ من غير بخس ولا نقص ثم قال في هذه الآية وإن كان من عليه المال معسراً وجب إنظاره إلى وقت القدرة لأن النظرة يراد بها التأخر فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم
المسألة السابعة إعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار فنقول الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه فلهذا قلنا من وحد داراً وثياباً لا يعد في ذوي العسرة إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره فقال بعضهم يلزمه ذلك كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله وقال بعضهم لا يلزمه ذلك واختلفوا أيضاً إذا كان معسراً وقد بذل غيره ما يؤديه هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ويؤديه في الدين
المسألة الثامنة إذا علم الإنسان أن غريمه معسر جرم عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه فوجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض أو لا يكون كذلك وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض مثل إتلاف أو صداق أو ضمان كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر
ثم قال تعالى وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسائل(7/90)
المسألة الأولى قرأ عاصم تَصَدَّقُواْ بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها والأصل فيه أن تتصدقوا بتاءين فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفاً ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى
المسألة الثانية في التصدق قولان الأول معناه وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما وهو كقوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) والثاني أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام ( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ) وهذا القول ضعيف لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ولأن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب
المسألة الثالثة المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة
ثم قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه فجعل العمل من لوازم العلم وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ إعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد حتى يمتنعوا عن الربا وعن أخذ أموال الناس بالباطل فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية وخوفهم على أعظم الوجوه وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت يَسْتَفْتُونَكَ ( النساء 127 ) وهي آية الكلالة ثم نزل وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) ثم نزل وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) فقال جبريل عليه السلام يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة وعاش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها أحدا وثمانين يوماً وقيل أحدا وعشرين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاث ساعات
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء والباقون بضم التاء واعلم أن الرجوع لازم والرجع متعد وعليه تخرج القراءتان
المسألة الثالثة انتصب يَوْماً على المفعول به لا على الظرف لأنه ليس المعنى واتقوا في هذا اليوم لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح ومثله قوله فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله
المسألة الرابعة قال القاضي اليوم عبارة عن زمان مخصوص وذلك لا يتقي وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات فصار قوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف(7/91)
المسألة الخامسة الرجوع إلى الله تعالى ليس المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله تُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ له معنيان الأول أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب
فالحالة الأولى كونهم في بطون أمهاتهم ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى
والحالة الثانية كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر
والحالة الثالثة بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ
ثم قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام كما قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وقال إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وقال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا ( الأنبياء 47 ) وفي تأويل قوله مَّا كَسَبَتْ وجهان الأول أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت والثاني أن المكتسب هو ذلك الجزاء لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه فقوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ أي توفى كل نفس مكتسبها وهذا التأويل أولى لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى
المسألة الثانية الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وفيه سؤال وهو أن قوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون فكان ذلك تكريراً
وجوابه أنه تعالى لما قال تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ كان ذلك دليلاً على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار فكان لقائل أن يقول كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل عليه طريق الاستدلال وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً فكان قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه(7/92)
الحكم الثالث من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّ خْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أن في كيفية النظم وجهين الأول أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني ترك الربا وهو أيضاً سبب لتنقيص المال ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم فقال وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله وعلى ترك الربا وعلى ملازمة التقوى لا يتم(7/93)
ولا يكمل إلا عند حصول المال ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف وقد ورد نظيره في سورة النساء وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النساء 5 ) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال القفال رحمه الله تعالى والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ثم قال ثانياً وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم قال ثالثاً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فكان هذا كالتكرار لقوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعاً فَلْيَكْتُبْ وهذا إعادة الأمر الأول ثم قال خامساً وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفي قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ كفاية عن قوله فَلْيُمْلِلْ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ثم قال سادساً وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وهذا تأكيد ثم قال سابعاً وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فهذا كالمستفاد من قوله وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ثم قال ثامناً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ الشَّهَادَة َ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم وهو حسن لطيف
والوجه الثاني أن قوماً من المفسرين قالوا المراد بالمداينة السلم فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية التداين تفاعل من الدين ومعناه داين بعضكم بعضاً وتداينتم تبايعتم بدين قال أهل اللغة القرض غير الدين لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً أو ما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بهذه المداينة أقوال قال ابن عباس أنها نزلت في السلف لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل فقال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
والقول الثاني أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل
والقول الثالث وهو قول أكثر المفسرين أن البياعات على أربعة أوجه أحدها بيع العين بالعين(7/94)
وذلك ليس بمداينة ألبتة والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية بقي هنا قسمان بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق
والجواب أن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير إذا تعاملتم بما فيه دين
السؤال الثاني قوله تَدَايَنتُم يدل على الدين فما الفائدة بقوله بِدَيْنٍ
الجواب من وجوه الأول قال ابن الأنباري التداين يكون لمعنيين أحدهما التداين بالمال والآخر التداين بمعنى المجازاة من قولهم كما تدين تدان والدين الجزاء فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث أنه تعالى ذكره للتأكيد كقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ) ( ص 73 ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) الرابع فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً على أي وجه كان من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة وذكل إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل أما لما قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ كان المعنى إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ويبقى بيع العين بالدين أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير
السؤال الثالث المراد من الآية كلما تداينتم بدين فاكتبوه وكلمة إِذَا لا تفيد العموم فلم قال تَدَايَنتُم ولم يقل كلما تداينتم
الجواب أن كلمة إِذَا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية وهو قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب فالظاهر أنه تنسى الكيفية فربما توهم الزيادة فطلب الزيادة وهو ظلم وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة ثم إن هذه العلة قائمة في الكل كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل
أما قوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ففيه سؤالان
السؤال الأول ما الأجل
الجواب الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره وأجل الدين لوقت معين في المستقبل وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر والآجل نقيض العاجل(7/95)
السؤال الثاني المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة
الجواب إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله مُّسَمًّى والفائدة في قوله مُّسَمًّى ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ولو قال إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية
أما قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما الكتبة وهي قوله هاهنا فَاكْتُبُوهُ الثاني الإشهاد وهو قوله فَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ويدخل فيه الجحد فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم
المسألة الثانية القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل وقال آخرون هذا الأمر محمول على الندب وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد وذلك إجماع على عدم وجوبهما ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وقال قوم بل كانت واجبة إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة وقال التيمي سألت الحسن عنها فقال إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ألا تسمع قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين
الشرط الأول أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ واعلم أن قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب لكن ذلك غير ممكن فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً فصار معنى قوله فَاكْتُبُوهُ أي لا بد من حصول هذه الكتبة وهو كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء ( المائدة 38 ) فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد إما الإمام أو نائبه أو المولى فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان
أما قوله بِالْعَدْلِ ففيه وجوه الأول أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص(7/96)
أحدهما بالاحتياط دون الآخر بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث قال بعض الفقهاء العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة ثم قال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً وفيه وجوه الأول أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة وهو كقوله تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها
والقول الثاني وهو قول الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب
والقول الثالث أن هذا كان واجباً على الكاتب ثم نسخ بقوله تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ
والقول الرابع أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشرائط ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان وضاع ماله فكأنه قيل له إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى
المسألة الثانية قوله كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فيه احتمالان الأول أن يكون متعلقاً بما قبله ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها
والاحتمال الثاني أن يكون متعلقاً بما بعده والتقدير ولا يأب كاتب أن يكتب وهاهنا تم الكلام ثم قال بعده كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها والوجهان ذكرهما الزجاج
الشرط الثاني في الكتابة قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك فلأجل ذلك قال تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ
المسألة الثانية الأملال والإملاء لغتان قال الفرّاء أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد(7/97)
وأمليت لغة تميم وقيس ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الفرقان 5 )
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه
ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى إدخال حرف أَوْ بين هذه الألفاظ الثلاثة أعني السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف وهم الذين فقدوا العقل بالكلية والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس أو جهله بماله وما عليه فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم فقال تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة لأن ولي المحجور السفيه وولي الصبي هو الذي يقر عليه بالدين كما يقرب بسائر أموره وهذا هو القول الصحيح وقال ابن عباس ومقاتل والربيع المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد لأنه كيف يقبل قول المدعي وإن كان قوله معتبراً فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد
النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد وهو قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استشهدوا أي أشهدوا يقال أشهدت الرجل واستشهدته بمعنى والشهيدان هما الشاهدان فعيل بمعنى فاعل
المسألة الثانية الإضافة في قوله شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فيه وجوه الأول يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني قال بعضهم يعني الأحرار والثالث مّن رّجَالِكُمْ الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة
المسألة الثالثة شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه ونذكر هاهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز حجة شريح أن قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ عام يتناول العبيد وغيرهم والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي فصار ذلك سبباً في إحياء حقه والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب(7/98)
الحرية والرق فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب فوجب أن لا يكون العبد شاهداً وهذا الاستدلال حسن
وأما قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فقد بينا أن منهم من قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول فليكن رجل وامرأتان والثاني فليشهد رجل وامرأتان والثالث فالشاهد رجل وامرأتان والرابع فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن ذكرها علي بن عيسى رحمه الله
ثم قال مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء وهو كقوله تعالى في الطلاق وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ ( الطلاق 2 ) واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروأة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة
ثم قال أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَن تَضِلَّ بكسر إن فَتُذَكّرَ بالرفع والتشديد ومعناه الجزاء موضع تَضِلَّ جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف فَتُذَكّرَ رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤا بنصب ءانٍ وفيه وجهان أحدهما التقدير لأن تضل فحذف منه الخافض والثاني على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل
فإن قيل كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال
قلنا هاهنا غرضان أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها والله أعلم(7/99)
المسألة الثانية الضلال في قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فيه وجهان أحدهما أنه بمعنى النسيان قال تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ أي ذهب عنهم الثاني أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له والوجهان متقاربان وقال أبو عمرو أصل الضلال في اللغة الغيبوبة
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي فَتُذَكّرَ بالتشديد والنصب وقرأ حمزة بالتشديد والرفع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل والتشديد أكثر استعمالاً قال تعالى فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ ( الغاشية 21 ) ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء قال إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ويدل على ضعفه وجهان الأول أن النساء لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى
الوجه الثاني أن قوله فَتُذَكّرَ مقابل لما قبله من قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول وهو الأصح أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق وهو قول قتادة واختيار القفال قال كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع وهو قول الزجاج أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً والأداء ثانياً واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول أن قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ يقتضي تقديم كونهم شهداء وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء
فإن قيل يشكل هذا بقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب
قلنا الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني أن ظاهر قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ النهي عن الامتناع والأمر بالفعل وذلك للوجوب في حق الكل ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل فلم يجز حمله عليه وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ومتأكد بقوله تعالى وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ فكان هذا أولى الثالث أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه فصار الأمرر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فكان صرف قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة فكان ذلك أولى فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها(7/100)
واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً وإما أن يكون فيهم كثرة فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية
المسألة الثانية قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً فلا نعيده الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز القضاء بالشاهد واليمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالشاهد واليمين وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه
واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولاً ثم بالإشهاد ثانياً أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد فأمر بالكتبة فقال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السآمة الملال والضجر يقال سئمت الشيء سأماً وسآمة والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة فقال وَلاَ يَأْبَ أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا
فإن قيل فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر
قلنا لا لأن هذا محمول على العادة ليس في العادة أن يكتبوا التافه
المسألة الثانية ءانٍ في محل النصب لوجهين إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره ولا تسأموا كتابته وإن شئت بنزع الخافض تقديره ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله
المسألة الثالثة الضمير في قوله أَن تَكْتُبُوهُ لا بد وأن يعود إلى المذكورر سابقاً وهو هاهنا إما الدين وإما الحق
المسألة الرابعة قرىء وَلاَ بالياء فيهما
ثم قال تعالى ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث
الفائدة الأولى قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وفي قوله ذالِكُمْ وجهان الأول أنه إشارة إلى قوله أَن تَكْتُبُوهُ لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب أقسط والثاني قال القفال رحمه الله ذلاكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أعدل عند الله والقسط اسم والإقساط مصدر يقال أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الممتحنة 8 ) ( الحجرات 9 ) ويقال هو قاسط إذا جار قال تعالى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وإنما كان هذا أعدل عند الله لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب وعن الجهل والكذب أبعد فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( الأحزاب 5 ) أي أعدل عند الله وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم(7/101)
والفائدة الثانية قوله أَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ معنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وذلك لأن المنتصب القائم ضد المنحني المعوج
فإن قيل مم بنى أفعل التفضيل أعني أقسط وأقوم
قلنا يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ويجوز أن يكون أقسط من قاسط وأقوم من قويم
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة لأنها سبب للحفظ والذكر فكانت أقرب إلى الاستقامة والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى والثانية بتحصيل مصلحة الدنيا وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا
والفائدة الثالثة هي قوله وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين والفرق بين الوجهين الأولين وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة فالأول إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين والثاني إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط وما أحسن ما فيها من الترتيب
ثم قال تعالى إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى إِلا فيه وجهان أحدهما أنه استثناء متصل والثاني أنه منقطع أما الأول ففيه وجهان الأول أنه راجع إلى قوله تعالى إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد فلما أمر بالكتبة عند المداينة استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني أن هذا استثناء من قوله وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها فهذا يكون كلاماً مستأنفاً وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد
المسألة الثانية قوله أَن تَكُونَ فيه قولان أحدهما أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ والثاني قال الفرّاء إن شئت جعلت كَانَ ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة والخبر تديرونها والتقدير إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم
المسألة الثالثة قرأ عاصم تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان ولا بد فيه من إضمار الاسم وفيه وجوه أحدها التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب ومنه قول الشاعر(7/102)
بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
أي إذا كان اليوم وثانيها أن يكون التقدير إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها قال الزجاج التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر قال أبو علي الفارسي هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة صح تسميتها بالتجارة الحاضرة فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة وأما القراءة بالرفع فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم
المسألة الرابعة التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح يقال تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة تجارة حاضرة فقوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد ثم قال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا ( البقرة 282 ) معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ويأثم صاحب الحق بتركها وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه
ثم قال تعالى وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وأكثر المفسرين قالوا المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط
ثم قال تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة والثاني قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في لا يُضَارَّ أحدهما أن يكون أصله لا يضارر بكسر الراء الأولى فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة وهو قوله لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه وَلاَ بالإظهار والكسر وقراءة ابن عباس وَلاَ بالإظهار والفتح واختار الزجاج القول الأول واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ قَالَ وَذَلِكَ لاِنْ اسْمَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) والإثم والفاسق متقاربان واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان(7/103)
خطاباً للكاتب والشهيد لقيل وإن تفعلا فإنه فسوق بكم وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم
ثم قال وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وفيه وجهان أحدهما يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني أنه عام في جميع التكليف والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ يعني فيما حذر منه هاهنا وهو المضارة أو يكون عاماً والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه
ثم قال وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ والمعنى أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام بيع بكتاب وشهود وبيع برهان مقبوضة وبيع الأمانة ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكرنا اشتقاق في السفر في قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ونعيده هاهنا قال أهل اللغة تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب لأنه يبين الشيء ويوضحه وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشف أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس أو لأنه لما خرج إلى الصحراء فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية وأسفر الصبح إذا ظهر وأسفرت المرأة عن وجهها أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم وسفرت أسفر إذا كنست والسفر الكنس وذلك لأنك إذا كنست(7/104)
فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه والله أعلم
المسألة الثانية أصل الرهن من الدوام يقال رهن الشيء إذا دام وثبت ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة
إذا عرفت أصل المعنى فنقول أصل الرهن مصدر يقال رهنت عند الرجل أرهنه رهناً إذا وضعت عنده قال الشاعر يراهنني فيرهنني بنيه
وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل فإذا قال رهنت عند زيد رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر لكن انتصاب المفعول به كما تقول رهنت عند زيد ثوباً ولما جعل اسماً بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان رهن ورهان ومما جاء على رهن قول الأعشى آليت لا أعطيه من أبنائنا
رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا رهن ورهن سقف وسقف ونشر ونشر وخلق وخلق قال الزجاج فعل وفعلى قليل وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر ومن الناس من عكس هذا فقال الرهن جمعه رهن والرهن جمعه رهان واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر مثل نعل ونعال وكبش وكباش وكعب وكعاب وكلب وكلاب
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير أبو عمرو فَرِهَانٌ بضم الراء والهاء وروي عنهما أيضاً فَرِهَانٌ برفع الراء وإسكان الهاء والباقون فَرِهَانٌ قال أبو عمرو لا أعرف الرهان إلا في الخيل فقرأت فَرِهَانٌ للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء فقال الأخفش إنها قبيحة لأن فعلاً لا يجمع على فعل إلا قليلاً شاذاً كما يقال سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد وخيل ورد
المسأل الرابعة في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر والتقدير فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين أو ما يقوم مقامهما أو فعليه رهن مقبوضة وإن شئنا جعلناه خبراً وأضمرنا المبتدأ والتقدير فالوثيقة رهن مقبوضة
المسألة الخامسة اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب كقوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِن(7/105)
ْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) وليس الخوف من شرط جواز القصر
المسألة السادسة مسائل الرهن كثيرة واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلّت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضاً والعقل أيضاً يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضاً فوجب ألا يصح رهن المشاع
ثم قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية وهو بيع الأمانة أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن وفيه مسائل
المسألة الأولى أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه قال تعالى هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ( يوسف 64 ) فقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا أي لم يخف خيانته وجحوده فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه يقال أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل وفي الآية قول آخر وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده والوجه هو الأول
المسألة الثانية من الناس من قال هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجىء إليه خطأ بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط وهذه الآية محمولة على الرخصة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ليس في آية المداينة نسخ ثم قال وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وفي التأويل وجوه
الوجه الأول قال القفال رحمه الله إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن وأن يخرج خائناً جاحداً للحق إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خبر يدل على صحة هذا التأويل وهو قوله ( خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد )
الوجه الثاني في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ونظيره قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ ( البقرة 140 ) والمراد الجحود وإنكار العلم
الوجه الثالث في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها وقد تقدم ذلك في قوله(7/106)
وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ( البقرة 282 ) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه وحرمة مال المسلم كحرمة دمه فهذا بالغ في الوعيد
ثم قال وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الآثم الفاجر روي أن عمر كان يعلم أعرابياً إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) فكان يقول طعام اليتيم فقال له عمر طعام الفاجر فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرىء قَلْبَهُ بالفتح كقوله سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقرأ ابن أبي عبلة قَلْبُهُ وَاللَّهُ أي جعله آثماً
المسألة الثالثة إعلم أن كثيراً من المتكلمين قالوا إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو فيقال هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ويقال فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب
ثم قال عزّ وجلّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
في الآية مسائل(7/107)
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال الأصم إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهو دليل التوحيد والنبوّة وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف وهي في الصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والرضاع والبيع والربا وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم فعبّر سبحانه عن كمال القدرة بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ملكا وملكاً وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ وإذا حصل كمال القدرة والعلم فكان كل من في السماوات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية
والوجه الثاني في كيفية النظم قال أبو مسلم إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( البقرة 283 ) ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به فكان الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها
الوجه الثالث في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السماوات والأرض
الوجه الرابع قال الشعبي وعكرمة ومجاهد إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السماوات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه من جملة ما في السماوات والأرض بدليل صحة الاستثناء واللام في قوله لِلَّهِ ليس لام الغرض فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السماوات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق وتكوين تلك الماهيات فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات ومحققة للحقاق فكان القول بأن المعدوم شيءً باطلاً
ثم قال تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يروى عن ابن عباس أنه قال لما(7/108)
نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وإن له الدنيا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولاً فأنزل الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) فنسخت هذه الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به )
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق والعلماء أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به والثاني لا يكون مؤاخذاً به ألا ترى إلى قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال في آخر هذه السورة لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( النور 19 ) هذا هو الجواب المعتمد
والوجه الثاني أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فهو في محل العفو وقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب
والوجه الثالث في الجواب أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه وروت أنها سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه
فإن قيل المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 )
قلنا هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام
الوجه الرابع في الجواب أنه تعالى قال يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ولم يقل يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال(7/109)
إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب
الوجه السابع في الجواب أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها
الوجه السادس قال بعضهم المراد بهذه الآية كتمان الشهادة وهو ضعيف لأن اللفظ عام وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه
الوجه السابع في الجواب ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( القرة 286 ) وهذا أيضاً ضعيف لوجوه أحدها أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها وذلك باطل لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ولذلك قال عليه السلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والثاني أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي
واعلم أن الناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا وقد ذكرنا في أصول الفقه والله أعلم
ثم قال فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب وقوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء رفع للقطع واحد من الأمرين فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله
المسألة الثانية قرأ عاصم وابن عامر فَيَغْفِرُ يُعَذّبُ برفع الراء والباء وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف والتقدير فهو يغفر وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء قال صاحب ( الكشاف ) إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وقد بيّن بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أنه كامل الملك والملكوت وبين بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ أنه كامل العلم والإحاطة ثم بيّن بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه وبالله التوفيق(7/110)
ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك وكمال العلم وكمال القدرة لله تعالى وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية وقد ظهر منا كمال العبودية فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( القبرة 284 ) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا فقال الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك فلا أظهر من أحوالك ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة فأنا الكامل في الجود والرحمة وفي إظهار الحسنات وفي الستر على السيئات
الوجه الثالث أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله في أول السورة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال ههنا وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وهو المراد بقوله في أول السورة وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
ثم قال ههنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله في أول السورة وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ( البقرة 4 ) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها
والوجه الرابع وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله وقال له إن الله بعثك رسولاً إلى الخلق فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في(7/111)
دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالاً مضلاً وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير وهذه المراتب معتبرة أولها قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها قيام المعجزة عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن ذلك الملك صادق في دعواه وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها أن تقوم المعجزة على يد الرسولعند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولاً من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام قال الرَّسُولُ بِمَا فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل ثم ذكر إيمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وهو المرتبة المتقدمة وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور وليس الأمر في هذا الباب كما قيل والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته
المسألة الثانية قوله تعالى الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة وإنما عرف الرسول لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام
فأما قوله وَالْمُؤْمِنُونَ ففيه احتمالان أحدهما أن يتم الكلام عند قوله وَالْمُؤْمِنُونَ فيكون المعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والمعنى كل واحد من المذكورين فيما تقدم وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله
الاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ ثم يبتدىء من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمناً بربه ثم صار مؤمناً به ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلاً منذ خلقه الله من أول الأمر وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال إني عبد الله آتاني الكتاب فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولاً من عند الله حين كان طفلاً فكيف يستبعد أن يقال إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل(7/112)
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه فيكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) مختصاً بالإيمان به ولا يتمكن غيره من الإيمان به فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره
ثم قال الله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن هذه الآية دلّت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان
فالمرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر
والمرتبة الثانية أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة فقال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ( الشورى 51 ) وقال فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ولهذا السر قال أيضاً شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
والمرتبة الثالثة الكتب وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة
والمرتبة الرابعة الرسل وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف
المسألة الثانية المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه
أما الإيمان بوجوده فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات(7/113)
الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات
وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما سلبية وإما ثبوتية
فأما السلبية فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فهو مركب فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته وكل ما ليس ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع أن يكون مركباً بوجه من الوجوه بل كان فرداً مطلقاً وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً ولا جسماً ولا جوهراً ولا في مكان ولا حالاً ولا في محل ولا متغيراً ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة
وأما الصفات الثبوتية فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 )
وأما الإيمان بأفعاله فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها
فإن قلت إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري
فنقول قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك وسكونك بمشيئتك لسكونك فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك
إذا ثبت هذا فنقول هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلاً أو يكون بمحدث ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى
إذا ثبت هذا فنقول لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به ولا حصول الفعل بعد المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار فهذا كلام قاهر قوي وفي معارضته إشكالان أحدهما كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي والمدح والذم(7/114)
والثواب والعقاب على العبد فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم إلا أنه وارد عليه أيضاً في العلم على ما قررناه في مواضع عدة
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله فهي معرفة أحكامه ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة أحدها أنها غير معللة بعلة أصلاً لأن كل ما كان معللاً بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق فإنه منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وثالثها أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله وأنه لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه شيء لأن الكل ملكه وملكه والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله فمعرفة أسمائه قال في الأعراف وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال في بني إسرائيل أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 110 ) وقال في طه اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) وقال في آخر الحشر لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحشر 24 ) والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله
وأما الإيمان بالملائكة فهو من أربعة أوجه أولها الإيمان بوجودها والبحث عن أنها روحانية محضة أو جسمانية أو مركبة من القسمين وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية أو هوائية وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة العلم بأنهم معصومون مطهرون يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( الأنبياء 19 ) فإن لذتهم بذكر الله وأنسهم بعبادة الله وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته
والمرتبة الثالثة أنهم وسائط بين الله وبين البشر فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم كما قال سبحانه وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً ( الصافات 1 2 ) وقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( الذاريات 1 2 ) وقال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ( المرسلات 1 2 ) وقال وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ( النازعات 1 2 ) ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها
والمرتبة الرابعة أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة قال الله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 21 ) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم(7/115)
وأما الإيمان بالكتب فلا بد فيه من أمور أربعة أولها أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر وعند هذا يعلم أن من قال إن الشيطان ألقى قوله تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي فقد قال قولاً عظيماً وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن
والمرتبة الثالثة أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف ودخل فيه فساد قول من قال إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة
والمرتبة الرابعة أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه
وأما الإيمان بالرسل فلا بد فيه من أمور أربعة
المرتبة الأولى أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ( البقرة 36 ) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى
والمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بهم أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب
المرتبة الثالثة قال بعضهم أنهم أفضل من الملائكة وقال كثير من العلماء إن الملائكة السماوية أفضل منهم وهم أفضل من الملائكة الأرضية وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة
المرتبة الرابعة أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( البقرة 253 ) ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 253 )
وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم فإذا كان هذا هو الطريق وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقاً وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى ويكذبون بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المقصود من قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
المسألة الثالثة قرأ حمزة وكتابه على الواحد والباقون أُوتِى َ كِتَابَهُ على الجمع أما الأول ففيه وجهان(7/116)
أحدهما أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع ونظيره قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ ( البقرة 213 )
فإن قيل اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقروناً بالألف واللام وهذه مضافة
قلنا قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة قال الله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه واعلم أن القراء أجمعوا في قوله وَرُسُلِهِ على ضم السين وعن أبي عمرو سكونها وعن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مخففين وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات لأنهم كرهوا ذلك ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفاً وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ فيه محذوف والتقدير يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ ( الأنعام 93 ) معناه يقولون أخرجوا وقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ ( الزمر 3 ) أي قالوا هذا
المسألة الخامسة قرأ أبو عمرو يُفْرَقُ بالياء على أن الفعل لكل وقرأ عبد الله لا يَفْرَقُونَ
المسألة السادسة أحد في معنى الجمع كقوله فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( الحاقة 47 ) والتقدير لا نفرق بين جميع رسله هذا هو الذي قالوه وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع لأنه يصير التقدير لا نفرق بين جميع رسله وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل بل بين البعض وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل بل معنى الآية لا نفرق بين أحد من الرسل وبين غيره في النبوّة فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام والله أعلم
ثم قال الله تعالى وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات والقوة النظرية أشرف من القوة العملية والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) فالحكم كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب(7/117)
إذا عرفت هذا فنقول الأمر في هذه الآية أيضاً كذلك فقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون
والوجه الثاني من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياماً ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر والبحث عنه يسمى بعلم الوسط والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ ( هود 123 ) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة لا جرم ذكرها في هذه الآية وقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ إشارة إلى كمال القدرة فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به فله أيضاً مرتبتان البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وذلك هو المسمى بالتوكل فذكر هذين المقامين فقال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ( هود 123 ) وأما علم المعاد فهو قوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( الأنعام 132 ) أي فيومك غداً سيصل فيه نتائج أعمالك إليك فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ونظيرها أيضاً قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ ( الصافات 180 ) وهو إشارة إلى علم المبدأ ثم قال وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 181 ) وهو إشارة إلى علم الوسط ثم قال وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الصافات 182 ) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 100 )
إذا عرفت هذا فنقول تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة فقوله الرَّسُولُ بِمَا إلى قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى علم الوسط وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالماً مشتغلاً بها ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا وقوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إشارة إلى علم المعاد والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك وأنوار بهجة السماوات
الوجه الثالث في النظم أن المطالب قسمان أحدهما البحث عن حقائق الموجودات والثاني البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والقسم الثاني هو المراد بقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أي سمعنا قوله وأطعنا أمره إلا أنه حذف المفعول لأن في الكلام دليلاً عليه من حيث مدحوا به
وأقول هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهراً وتقديراً أولى لأنك إذا جعلت التقدير سمعنا قوله وأطعنا أمره فإذن ههنا قول آخر غير قوله وأمر آخر يطاع سوى(7/118)
أمره فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى
المسألة الثالثة إعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون سمعنا وأطعنا فقوله سَمِعْنَا ليس المراد منه السماع الظاهر لأن ذلك لا يفيد المدح بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا أي عقلناه وعلمنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن قال الله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 37 ) والمعنى لمن سمع الذكرى بفهم حاضر وعكسه قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( لقمان 7 ) ثم قال بعد ذلك وَأَطَعْنَا فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علماً وعملاً
ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة
والجواب من وجوه الأول أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم فلما جوزوا ذلك قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيراً فكان يستغفر الله منه فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضاً غير مستبعد والثالث أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلاهيته جنايات وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ولذلك قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية وإن كان عالماً جداً إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير فكان يستغفر منها وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه
ثم إنه قال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا
المسألة الثانية قوله غُفْرَانَكَ تقديره اغفر غفرانك ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو(7/119)
سقياً ورعياً قال الفرّاء هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ومثله الصلاة الصلاة والأسد الأسد وهذا أولى من قول من قال نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ونظيره قولك حمداً حمداً وشكراً شكراً أي أحمد حمداً وأشكر شكر
المسألة الثالثة أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما بالإضافة إليه وهو قوله غُفْرَانَكَ والثاني أردفه بقوله رَبَّنَا وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها أنت الكامل في هذه الصفة فأنت غافر الذنب وأنت غفور وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ( الكهف 58 ) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ( البروج 14 ) وأنت الغفار اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب فهذه الغفارية كالحرفة له فقوله ههنا غُفْرَانَكَ يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة فقوله غُفْرَانَكَ طلب لغفران كامل وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ويبدلها بالحسنات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) وثانيها روي في الحديث الصحيح ( إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً واحداً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فيها يتراحمون وادخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة ) فأظن أن المراد من قوله غُفْرَانَكَ هو ذلك الغفران الكبير كان العبد يقول هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها كأن العبد يقول كل صفة من صفات جلالك وإلاهيتك فإنما يظهر أثرها في محل معين فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك فكذا لولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لما ظهرت آثار غفرانك فقوله غُفْرَانَكَ معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المجرمين
وأما القيد الثاني وهو قوله رَبَّنَا ففيه فوائد أولها ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها ربيتني حين كنت معدوماً ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به لأني كنت أبقى حينئذ في العدم وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد فأسألك أن لا تهملي وثالثها ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك
ثم قال الله تعالى وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه فائدتان إحداهما بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات وقادر على كل الممكنات لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله كان إخلاصه في الطاعات أتم واحترازه عن السيئات أكمل وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين(7/120)
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) وقالوا لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا ( البقرة 286 ) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها
المسألة الثانية في كيفية النظم إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فكأنهم قالوا كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا فإذا كان هو تعالي بحكم الرحمة الإلاهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين وإن قلنا إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ثم قالوا بعده غُفْرَانَكَ رَبَّنَا دل ذلك على أن قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة في ذلك التقصير لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم وما تعمدتم التقصير فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
المسألة الثالثة يقال كلفته الشيء فتكلف والكلف اسم منه والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه قال الفرّاء هو اسم كالوجد والجهد وقال بعضهم الوسع دون المجهود في المشقة وهو ما يتسع له قدرة الإنسان
المسألة الرابعة المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( النساء 28 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وقالوا هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق قالوا وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى والموجود لا يوجد ثانياً وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى فكيف(7/121)
تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع
أما الأصحاب فقالوا دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية
الحجة الأولى أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم فهي أيضاً جارية في الجبر
الحجة الثانية أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداهي وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً إنما قلنا إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي لأن قدرة العبد لما كانت صالح للفعل والترك فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع وإنما قلنا إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً والمرجوح ممتنع الوقوع وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به فكان التكليف تكليف ما لا يطاق
الحجة الثالثة أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين أو حال رجحان أحدهما فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق لأن الاستواء يناقض الرجحان فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان فقد كلف بالجمع بين النقيضين وإن كان الثاني فالراجح واجب والمرجوح ممتنع وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع
الحجة الرابعة أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه وهو مما أخبر أنه لا يؤمن فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك تكليف ما لا يطاق
الحجة الخامسة العبد غير عالم بتفاصيل فعله لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ويسكن في بعضها وأنه أين تحرك وأين سكن وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال فثبت أن العبد غير موجد فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب فعلمنا أنه(7/122)
لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول وهو الأصوب أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي والظاهر السمعي فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يكذبهما وهو محال لأنه إبطال النقيضين وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة سواء عرفناه أو لم نعرفه وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل
الوجه الثاني في الجواب هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ومتى لم يفعل فإنه يعاقب فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار
والجواب الثالث وهو أن الإنسان ما دام لم يمت وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك فنحن شاكون في قيام المانع فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر
الجواب الرابع أنا بينا أن قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ليس قول الله تعالى بل هو قول المؤمنين فلا يكون حجة إلا أن هذا ضعيف وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا وأن يعفو عن خطايانا فإنا لا نطلب إلا الحق ولا نروم إلا الصدق
أما قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب قال الواحدي رحمه الله الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما قال ذو الرمة
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
والقرآن أيضاً ناطق بذلك قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ ( المدثر 38 ) وقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) وقال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً ( البقرة 81 ) وقال وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ( الأحزاب 58 ) فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر ومن الناس من سلم الفرق ثم فيه قولان أحدهما أن الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه(7/123)
خاصة يقال فلان كاسب لأهله ولا يقال مكتسب لأهله والثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الاكتساب اعتمال فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق قال القاضي لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر قال الجبائي ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة والجمع بينهما محال في العقول فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( القرة 264 ) فلا نعيده
المسألة الرابعة احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ووجه الاستدلال ظاهر فيه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
المسألة الخامسة الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار لأن اللام في قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على ثبوت هذا الاختصاص وتأكد ذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين ) وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والعارض الموجود إما الغضب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله لَهَا مَا كَسَبَتْ
ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر(7/124)
بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً فإنه يجب رده على المالك ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص والخاص مقدم على العام وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم
ثم إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدعاء مخ العبادة ) لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) فقال رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء وذكر في مطلع كل واحد منها قوله رَبَّنَا إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
أما النوع الأول فهو قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن الناسي قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه وعندي فيه وجه آخر وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة
المسألة الثانية في النسيان وجهان الأول أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر
فإن قيل أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء )
والجواب عنه من وجوه الأول أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون(7/125)
ملوماً وأما إذا واظب على القراءة لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً فثبت أن النسيان على قسمين منه ما يكون معذوراً ومنه ما لا يكون معذوراً وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء
الوجه الثاني في الجواب أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به
الوجه الثالث في الجواب أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع قال الله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) وقالت الملائكة في دعائهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء
الوجه الرابع في الجواب أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس فلما كان ذلك جائزاً في العقول لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء
الوجه الخامس أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه
والقول الثاني في تفسير النسيان أن يحمل على الترك قال الله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وقال تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) أي تركوا العمل لله فتركهم ويقول الرجل لصاحبه لا تنسني من عطيتك أي لا تتركني فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد والمراد بالخطأ أن يفعل الفعل لتأويل فاسد
المسألة الثالثة علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ولما أمرهم بطلب ذلك دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء(7/126)
فإن قيل الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة
قلنا فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل
المسألة الأولى الإصر في اللغة الثقل والشدة قال النابغة
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل قال الله تعالى وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى ( آل عمران 81 ) أي عهدي وميثاقي والإصر العطف يقال ما يأصرني عليه آصرة أي رحم وقرابة وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره
المسألة الثانية ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود قال المفسرون إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( النساء 160 ) وقال تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر وكان عذابهم معجلاً في الدنيا كما قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وكانوا يمسخون قرد وخنازير قال القفال ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ورأى الأعاجيب الكثيرة فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم قال الله تعالى في صفة هذه الأمة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقال عليه السلام ( رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق ) وقال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقال عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب للعقوبة ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف
والقول الثاني لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ فيكون القول الأول أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم(7/127)
الراحمين فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد قالت المعتزلة من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان مفسدة في حق غيره فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع وقسوة القلب ودناءة الهمة حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
إعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى الطاقة اسم من الإطاقة كالطاعة من الإطاعة والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر
المسألة الثانية من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى
أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له قال الشاعر
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المملوك ( له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ) أي ما يشق عليه وروى عمران بن الحصين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المريض يصلي جالساً فإن لم يستطع فعلى جنب ) فقوله فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس بل كل الفقهاء يقولون المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة وقال الله تعالى في وصف الكفار مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ( هود 20 ) أي كان يشق عليهم
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به بل قال لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله لا تُحَمّلْنَا حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله لا تُحَمّلْنَا مجازاً فيه فكان الأول أولى(7/128)
الوجه الثالث هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه لأنه لو دل على ذلك لدل قوله رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) على جواز أن يحكم بباطل وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( الشعراء 87 ) على جواز أن يخزي الأنبياء وقال الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) هذا جملة أجوبة المعتزلة
أجاب الأصحاب فقالوا
أما الوجه الأول فمدفوع من وجهين الأول أنه لو كان قوله وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة فقوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة
وأما الوجه الثاني فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف قال الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ ( الأحزاب 72 ) إلى قوله وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز
وأما الوجه الثالث فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً كما أن ذلك غير جائز فكذا ما ذكرتم
إذا ثبت هذا فنقول هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق
المسألة الثالثة إعلم أنه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال في الآية الأولى لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا وقال في هذه الآية لا تُحَمّلْنَا خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل
الجواب أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل
السؤال الثاني أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى(7/129)
والجواب الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما قيامه بظاهر الشريعة والثاني شروعه في بدء المكاشفات وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد وفي المقام الثاني قال لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ولا معرفة تليق بقدس عظمتك فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا مقدماً في الذكر على قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
السؤال الثالث أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء
والجواب المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل
قوله تعالى وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ رَبَّنَا وأما هذا الدعاء الرابع فقد حذف منه لفظ رَبَّنَا وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا
الجواب النداء إنما يحتاج إليه عند البعد أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر
السؤال الثاني ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة كأن العبد يقول أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة والأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضاً قسمان ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى فقوله وَارْحَمْنَا طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك أَنتَ مَوْلَانَا طلب للثواب الروحاني ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله أَنتَ مَوْلَانَا خطاب الحاضرين ولعلّ كثيراً من(7/130)
المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات ويقولون إنها من باب الطاعات ولقد صدقوا فيما يقولون فذلك مبلغهم من العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( النجم 30 )
وفي قوله أَنتَ مَوْلَانَا فائدة أخرى وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض والقائم بإصلاح مهمات الكل وهو المتولي في الحقيقة للكل على ما قال نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) ونظير هذه الآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) أي ناصرهم وقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ( التحريم 4 ) أي ناصره وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 )
ثم قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم وفي مناظرتنا بالحجة معهم وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ومن المحققين من قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله وهذا آخر السورة
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله الرَّسُولُ بِمَا فسله وارغب إليه فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو فقال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فقال الله تعالى ( قد غفرت لكم ) فقال لاَ تُؤَاخِذْنَا فقال الله لا فقال رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا فقال ( لا أشدد عليكم ) فقال محمد لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فقال ( لا أحملكم ذلك ) فقال محمد وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا فقال الله تعالى ( قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين ) وفي بعض الروايات أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين
وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول إلاهي وسيدي كل ما للبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلّم(7/131)
سورة ال عمران
مائتا آية مدنية
الم
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ
أما تفسير الم فقد تقدم في سورة البقرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم الم اللَّهِ بسكون الميم ونصب همزة الله والباقون موصولاً بفتح الميم أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم وأما من نصب الميم ففيه قولان
القول الأول وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر يقول ألف لام ميم كما تقول واحد اثنان ثلاثة وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله الله فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها
فإن قيل إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة وإن كان التقدير هو(7/132)
الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها وامتنع إلقاء حركتها على الميم
قلنا لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء
والقول الثاني قول سيبويه وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين وهذا القول رده كثير من الناس وفيه دقة ولطف والكلام في تلخيصه طويل
وأقول فيه بحثان أحدهما سبب أصل الحركة والثاني كون تلك الحركة فتحة
أما البحث الأول فهو بناء على مقدمات
المقدمة الأولى أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد واللين لم يجب التحريك لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين كقولك هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة
المقدمة الثانية مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام وهي ساكنة والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكناً حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى حقيقة وحكماً وإذا كان كذلك امتنع أن يقال ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكماً لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام أو أثر من الآثار لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطاً كلياً وبهذا يبطل قول الفرّاء
المقدمة الثالثة أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر وذلك متفق عليه
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول الميم من قولنا الم ساكن ولام التعريف من قولنا اللَّهِ ساكن وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى وصح بهذا البيان قول سيبويه وبطل قول الفرّاء
أما البحث الثاني فلقائل أن يقول الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر فلم اختير الفتح ههنا قال الزجاج في الجواب عنه الكسر ههنا لا يليق لأن الميم من قولنا الم مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل فتركت الكسرة واختيرت الفتحة وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج وقال ينتقض قوله بقولنا جير فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء وهذا الطعن عندي ضعيف لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها فإذا اجتمعا عظم الثقل ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك اللَّهِ وهو في غاية الخفة فيصير اللسان منتقلاً من أثقل الحركات إلى أخف الحركات والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان أما إذا جعلنا الميم مفتوحة انتقل(7/133)
اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا اللَّهِ فكان النطق به سهلاً فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم
المسألة الثانية في سبب نزول أول هذه السورة قولان
القول الأول وهو قول مقاتل بن سليمان أن بعض أول هذه السورة في اليهود وقد ذكرناه في تفسير الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
والقول الثاني من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى وهو قول محمد بن إسحاق قال قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم وذو رأيهم وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه تعس الأبعد يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو حارثة بل تعست أمك فقال ولم يا أخي فقال إنه والله النبي الذي كنا ننتظره فقال له أخوه كرز فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا فلو آمنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأخذوا منا كل هذه الأشياء فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ثم تكلم أولئك الثلاثة الأمير والسيد والحبر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على اختلاف من أديانهم فتارة يقولون عيسى هو الله وتارة يقولون هو ابن الله وتارة يقولون ثالث ثلاثة ويحتجون لقولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وجعلنا ولو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسلموا فقالوا قد أسلمنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير قالوا فمن أبوه فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يناظر معهم فقال ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك قالوا لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يكون كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً ثم قالوا يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه قال بلى ) قالوا فحسبنا فأنزل الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ الآية(7/134)
ثم إن الله تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض ما ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لا عن قوم نبياً قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع نحن على ديننا فابعث رجلاً من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا فقال عليه السلام آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فلما صلينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره وجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعاً والله أعلم
المسألة الثالثة إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل لهم إما أن تنازعوه في معرفة الإله أو في النبوّة فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة فهذا أيضاً باطل لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين
البحث الأول ما يتعلق بالإلاهيات فنقول إنه تعالى حي قيوم وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد وإنما قلنا إنه حي قيوم لأنه واجب الوجود لذاته وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلاهاً كما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد وكان يأكل ويشرب ويحدث والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه فثبت أنه ما كان حياً قيوماً وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلاهاً فهذه الكلمة وهي قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث
وأما البحث الثاني وهو ما يتعلق بالنبوّة فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة وذلك لأنه قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) وهذا يجري مجرى الدعوى ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى فقال وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل(7/135)
من قبل هدى ً للناس فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلاهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( آل عمران 4 ) فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم من الليل والنهار والحر والبرد والرياح والأمطار والنعم التي لا يقدر عليها سواه ولا يحصيها غيره كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقرأ عمر رضي الله عنه الْحَى ُّ الْقَيُّومُ قال قتادة الحي الذي لا يموت والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم وعن سعيد بن جبير الحي قبل كل حي والقيوم الذي لا ند له وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلاهية ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلاهاً ولا ولداً للإلاه تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه وإنما خص القرآن بالتنزيل والتوراة والإنجيل بالإنزال لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نزل القرآن نجما نجما فكان معنى التكثير حاصلاً فيه وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة فلهذا خصهما بالإنزال ولقائل أن(7/136)
يقول هذا يشكل بقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وبقوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( الإسراء 105 )
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين
الوصف الأول قوله بِالْحَقّ قال أبو مسلم إنه يحتمل وجوهاً أحدها أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها أنه حق بمعنى أنه قول فصل وليس بالهزل ورابعها قال الأصم المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة كما قال أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوصف الثاني لهذا الكتاب قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ ثم في الآية وجهان الأول أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب لأنه كان أُمياً لم يختلط بأحد من العلماء ولا تتلمذ لأحد ولا قرأ على أحد شيئاً والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني قال أبو مسلم المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به وتنزيهه عما لا يليق به والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه
والجواب أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم
السؤال الثاني كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام
والجواب إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن كانت موافقة للقرآن فكان القرآن مصدقاً لها وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن دلائل المباحث الإلاهية لا تختلف في ذلك فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل
ثم قال الله تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه مسائل(7/137)
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) التوراة والإنجيل اسمان أعجميان والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد وقرأ الحسن وَالإِنجِيلَ بفتح الهمزة وهو دليل على العجمية لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه
أما لفظ التَّوْرَاة َ ففيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول في اشتقاقه قال الفرّاء التَّوْرَاة َ معناها الضياء والنور من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار قال الله تعالى فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ( العاديات 2 ) ويقولون وريت بك زنادي ومعناه ظهر بك الخير لي فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ويدل على هذا المعنى قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء ( الأنبياء 48 )
البحث الثاني لهم في وزنه ثلاثة أقوال
القول الأول قال الفرّاء أصل التَّوْرَاة َ تورية تفعلة بفتح التاء وسكون الواو وفتح الراء والياء إلا أنه صارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها
القول الثاني قال الفرّاء ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية فيكون أصلها تورية إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء فإنهم يقولون في جارية جاراة وفي ناصية ناصاة قال الشاعر
فما الدنيا بباقاة لحي
وما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث وهو قول الخليل والبصريين إن أصلها وورية فوعلة ثم قلبت الواو الأولى تاء وهذا القلب كثير في كلامهم نحو تجاه وتراث وتخمة وتكلان ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة وكتبت بالياء على أصل الكلمة ثم طعنوا في قول الفرّاء أما الأول فقالوا هذا البناء نادر وأما فوعلة فكثير نحو صومعة وحوصلة ودوسرة والحمل على الأكثر أولى وأما الثاني فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء والقرآن ما نزل بها ألبتة
البحث الثالث في التوراة قراءتان الإمالة والتفخيم فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير والله أعلم
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول قال الزجاج إنه افعيل من النجل وهو الأصل يقال لعن الله ناجليه أي والديه فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني قال قوم الإنجيل مأخوذ من قول العرب نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر نجل ويقال قد استنجل الوادي إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث قال أبو عمرو الشيباني التناجل التنازع فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع أنه من النجل الذي هو سعة العين ومنه طعنة نجلاء سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم
وأقول أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ولو كان(7/138)
كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل والطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ومعلوم أنه ليس كذلك ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع ويقولوا العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
أما قوله تعالى وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس قال الكعبي هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم ويدل على معنى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 ) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز كقول نوح عليه السلام فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) لما فروا عنده
واعلم أن قوله هُدًى لّلنَّاسِ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان
فإن قيل إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى ً للمتقين فلم لم يصفه ههنا به
قلنا فيه لطيفة وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) لأنهم هم المنتفعون به فصار من الوجه هدى ً لهم لا لغيرهم أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى ً بل قال إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى ً فهذا ما خطر بالبال والله أعلم(7/139)
القول الثاني وهو قول الأكثرين أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل والله أعلم بمراده
ثم قال وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ
ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول أن المراد هو الزبور كما قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) والثاني أن المراد هو القرآن وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل وعلى هذا التقدير فلا تكرار
والقول الثالث وهو قول الأكثرين أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع فصار هذا الكلام دالاً على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلاً وسمعاً هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام بل ليس فيه إلا المواعظ ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك وأما القول الثاني وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ عطف على ما قبله والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايراً للقرآن وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب فالمعجزة هي الفرقان فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية وهب أن أحداً من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى وجزالة اللفظ واستقامة الترتيب والنظم والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال(7/140)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى فقصر اللفظ العام على سبب نزوله والمحققون من المفسرين قالوا خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه وقال الليث يقال لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب فالأول صفة الذات والثاني صفة الفعل والله أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاٌّ رْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين
الاحتمال الأول أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات لا يشغله سؤال عن سؤال ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ثم فيه لطيفة أخرى وهي أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي وذلك هو أن نقول إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة والتركيب الغريب وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة فبعضها عظام وبعضها غضاريف وبعضها(7/141)
شرايين وبعضها أوردة وبعضها عضلات ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم فكان قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ودالاً على صحة ما تقدم من قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وقادر على كل الممكنات ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ولا أحسن ترتيباً ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات
والاحتمال الثاني أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة والنوع الثاني شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية
أما النوع الأول من الشبه فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما يتعلق بالعلم والثاني يتعلق بالقدرة
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وكان يقول لهذا أنت أكلت في دارك كذا ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم
وأما الأمر الثاني من شبههم فهو متعلق بالقدرة وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 ) يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وعيسى ما كان حياً قيوماً لزم القطع إنه ما كان إلاهاً فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين
أما الشبهة الأولى وهي المتعلقة بالعلم وهي قولهم إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاهاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلاهاً لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه وتعليم الله تعالى له ذلك لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات فكيف والنصارى يقولون إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله وأنه يتأذى بذلك ويتألم فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاهاً فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية وأما(7/142)
الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلاهية فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم
أما النوع الثاني من الشبه وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاهاً فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة
وأما النوع الثاني من الشبه فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية وحاصلها يرجع إلى نوعين
النوع الأول أن النصارى يقولون أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب
والنوع الثاني أن النصارى قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران 7 ) فظهر بما ذكرنا أن قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له وأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم وقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً لله وأما قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 7 ) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور(7/143)
لا يكفي في كونه إلاهاً فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم وبقي في الآية أبحاث لطيفة أما قوله لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء
فإن قيل ما الفائدة في قوله فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء مع أنه لو أطلق كان أبلغ
قلنا الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال فإن المثال يعين على الفهم
أما قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ قال الواحدي التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ( البقرة 260 ) وأما الاْرْحَامِ فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف فلهذا سمي ذلك العضو رحماً والله أعلم
هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في اتصال قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء بما قبله احتمالين أحدهما أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني أن ذلك الجواب عن شبه النصارى فأما على الاحتمال الأول فنقول إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان جسمانية وروحانية أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ ( آل عمران 6 ) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام إنه روح الله وكلمته فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على(7/144)
محكم وعلى متشابه والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم هو في غاية الحسن والاستقامة
المسألة الثانية إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم ودل على أنه بكليته متشابه ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه
أما ما دل على أنه بكليته محكم فهو قوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله محكم فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه فهو قوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ( الزمر 23 ) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة أما المحكم فالعرب تقول حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد وقال جرير أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال الله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وقال في وصف ثمار الجنة وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ( البقرة 25 ) أي متفق المنظر مختلف الطعوم وقال الله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ( البقرة 118 ) ومنه يقال اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبه وقال عليه السلام ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات ) وفي رواية أخرى مشتبهات
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ونظيره المشكل سمي بذلك لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل ويحتمل أن يقال إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً له وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة فنقول
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول(7/145)
اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص وأما إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مؤولاً أو مشتركاً أو مجملاً أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع من الغير فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فههنا يتوقف الذهن مثل القرء بالنسبة إلى الحيض والطهر إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين ومرجوحاً في الآخر ثم كان الراجح باطلاً والمرجوح حقاً ومثاله من القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ( الإسراء 16 ) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( الأعراف 28 ) رداً على الكفار فيما حكى عنهم وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) وكذلك قوله تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( مريم 64 ) وقوله تعالى لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ( طه 52 )
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) محكم وقوله وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( التكوير 29 ) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح فهذا هو المتشابه فنقول صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً
أما القسم الأول فنقول هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس اللّهم إلا أن يقال إن(7/146)
أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان أو يقال كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول
أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي وكان ذلك مظنون والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً
وأما الثاني وهو أن يقال أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً فهذا صحيح ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره فعنذ هذا يتعين التأويل فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب والله ولي الهداية والرشاد
المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْاْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه وأقول التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة(7/147)
القول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ
والقول الثالث قال الأصم المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وقوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) وقوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص فإنه إن عني بقوله المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة والمتشابه ما لا يكون كذلك وهو إما المجمل المتساوي أو المؤول المرجوح فهذا هو الذي ذكرناه أولاً وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً لأن قوله فَخَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية وإن أهل الطبيعة يقولون السبب في ذلك الطبائع والفصول أو تأثيرات الكواكب وتركيبات العناصر وامتزاجاتها فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ولعلّ الأصم يقول هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول هو المحكم والثاني هو المتشابه
القول الرابع أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي فذاك هو المحكم وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ونظيره قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) ( النازعات 42 )
المسألة الرابعة في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً
إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 103 ) والقدري يقول بل هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( الأنعام 25 ) وفي موضع آخر وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( الإسراء 46 ) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) والنافي يتمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) ومثبت الجهة يتمسك بقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ(7/148)
( النحل 50 ) وبقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) والنافي يتمسك بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً
الوجه الأول أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 )
الوجه الثاني لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقالته فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق
الوجه الثالث أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد
الوجه الرابع لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة
الوجه الخامس وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ فالمراد به هو القرآن مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ وهي التي(7/149)
يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها
ثم قال هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وفيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه
الجواب الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب وهو أنه قال إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة فكان قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية وكان قوله عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم
السؤال الثاني لم قال أُمُّ الْكِتَابِ ولم يقل أمهات الكتاب
الجواب أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ونظيره قوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً ( المؤمنون 50 ) ولم يقل آيتين وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة فكذلك ههنا
ثم قال وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وقد عرفت حقيقة المتشابهات قال الخليل وسيبويه أن ءاخَرَ فارقت أخواتها في حكم واحد وذلك لأن أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأُخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع مِنْ أو بالألف واللام فيقال زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل فكان القياس أن يقال زيد آخر من عمرو أو يقال زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ مِنْ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن فسقط الألف واللام أيضاً فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أُخر فأخر جمعه فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه والزيغ الميل عن الحق يقال زاغ زيغاً أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فقال الربيع هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه قال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله هذه الآية ثم أنزل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج هم الكفار الذين ينكرون البعث لأنه قال في آخر الآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام(7/150)
وقال المحققون إن هذا يعم جميع المبطلين وكل من احتج لباطله بالمتشابه لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 29 ) لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ ( سبأ 3 ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فموهوا الأمر على الضعفة ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان فيكون قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى متشابهاً فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً فحينئذ يبطل ذلك التفويض وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات
وقال أبو مسلم الأصفهاني الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ( طه 85 ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( طه 79 ) وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وفسروا أيضاً قوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ( الإسراء 16 ) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وَيُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ( النساء 26 ) وتأولوا قوله تعالى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( النمل 4 ) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) وقال وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) وقال فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ ( يونس 108 ) وقال وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) فكيف يزين النعمة فهذا ما قاله أبو مسلم وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح وذلك تصريح بنفي الصانع ولا يتم إلا إذا(7/151)
قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص وذلك نفي للصانع ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة
وأما المحقق المنصف فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً وثانيها الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه بيّن أن لهم فيه غرضين فالأول هو قوله تعالى ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني هو قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
فأما الأول فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه يقال فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً أولها قال الأصم إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه
وأما الغرض الثاني لهم وهو قوله تعالى وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه هذا معنى التأويل في اللغة ثم يسمى التفسير تأويلاً قال تعالى سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( الكهف 78 ) وقال تعالى وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون قال القاضي هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو المراد من قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ واختلف الناس في هذا الموضع فمنهم من قال تم الكلام ههنا ثم الواو في قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الابتداء وعلى هذا القول لا يعلم المتشابه(7/152)
إلا الله وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا
والقول الثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه
الحجة الأولى أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف فإذا كانت المسألة قطعية يقينية كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز مثاله قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً وأيضاً قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق
الحجة الثانية وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 178 ) وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 )
قلنا إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر وأنه لا يجوز
الحجة الثالثة أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به وقال في أول سورة البقرة فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه(7/153)
على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى بل مراده منه غير ذلك الظاهر ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن
الحجة الرابعة لو كان قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لصار قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ابتداء وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة بل كان الأولى أن يقال وهم يقولون آمنا به أو يقال ويقولون آمنا به
فإن قيل في تصحيحه وجهان الأول أن قوله يَقُولُونَ كلام مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين
قلنا أما الأول فمدفوع لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ حالا من الراسخين لا من الله تعالى فيكون ذلك تركاً للظاهر فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه فكان هذا القول أولى
الحج الخامسة قوله تعالى كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة
الحجة السادسة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير لا يسع أحداً جهله وتفسير تعرفه العرب بألسنتها وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية فإذا رأى شيئاً متشابهاً ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره وأن ذلك المراد حق ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن(7/154)
ثم حكي عنهم أيضاً أنهم يقولون كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا والمعنى أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا وفيه سؤالان
السؤال الأول لو قال كل من ربنا كان صحيحاً فما الفائدة في لفظ عِندَ
الجواب الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد فذكر كلمة عِندَ لمزيد التأكيد
السؤال الثاني لم جاز حذف المضاف إليه من كُلٌّ
الجواب لأن دلالة المضاف عليه قوية فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به ومعناه ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكماً وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهاً ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول وتوافق اللغة والإعراب
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا وحذف يَقُولُونَ لدلالة الأول عليه وكما في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة
أما كلام أهل السنة فظاهر وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين والقسوة والوقر والكنان وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي التوفيق(7/155)
والرشاد والهداية والتسديد والتثبيت والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين ومن أنصف ولم يتعسف وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات وهذا كلام متين
وأما المعتزلة فقد قالوا لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى وجب صرف هذه الآية إلى التأويل فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي أن المراد بقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ( الصف 5 ) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ والثاني قال الأصم لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) وقال لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ وقد يقول القائل لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث قال الكعبي لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا أي لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً والرابع قال الجبائي أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر فقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس قال الأصم لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس قال أبو مسلم احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة(7/156)
أما الأول فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف
وأما الثاني فضعيف لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثراً في حمل المكلف على القبيح قبح من الله تعالى وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعاً وعاصياً فلا فائدة في صرف الدعاء إليه
وأما الثالث فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجوداً وعدماً والكفر والزيغ باختيار العبد فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر
وأما الرابع فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه
وأما الخامس وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( آل عمران 7 )
وأما السادس وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدوراً وجب فعله فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدوراً تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه وأن الحق ما ذهبنا إليه
فإن قيل فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( الصف 5 )
قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه
أما قوله تعالى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( آل عمران 8 ) أي بعد أن جعلتنا مهتدين وهذا أيضاً صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى
ثم قال وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة وإنما قال رَحْمَة ً ليكون ذلك شاملاً لجميع أنواع الرحمة فأولها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة وثالثها أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها أن يحصل في القبر سهولة السؤال وسهولة ظلمة القبر
وسادسها أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً يتناول جميع هذه الأقسام(7/157)
ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو ولا كريم إلا هو لا جرم أكد ذلك بقوله مِن لَّدُنْكَ تنبيهاً للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير كأنه يقول أطلب رحمة وأية رحمة أطلب رحمة من لدنك وتليق بك وذلك يوجب غاية العظمة
ثم قال إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ كأن العبد يقول إلاهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك يا دائم المعروف يا قديم الإحسان لا تخيب رجاء هذا المسكين ولا ترد دعاءه واجعله بفضلك أهلاً لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلاهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً وكلامك لا يكون كذباً فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ تقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه فحذف لكون المراد ظاهراً
المسألة الثانية قال الجبائي إن كلام المؤمنين تم عند قوله لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ فأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فهو كلام الله عزّ وجلّ كأن القوم لما قالوا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) ومن الناس من قال لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور ومثله في كتاب الله تعالى كثير قال تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 )
فإن قيل فلم قالوا في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وقالوا في تلك الآية إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(7/158)
قلت الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة يعني أن الإلاهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام أما قوله في آخر السورة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة فلا جرم قال إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق قال وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) والوعد والموعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد
والجواب لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه يوعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد أما قوله تعالى فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا
قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله فكان المراد من الوعد تلك المنافع وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى فقال لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء لأن خلف الوعيد كرم عند العرب قال والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك قال الشاعر
إذ وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عبيد قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد ما تقول في أصحاب الكبائر قال أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده فقال أبو عمرو بن العلاء إنك رجل أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه فقال لا فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك قالوا فانقطع أبو عمرو بن العلاء
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ومن أسقط حق نفسه(7/159)
فقد أتى بالجود والكرم ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فظهر الفرق بين الوعد والوعيد وبطل قياسك وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق فأما قولك لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا قولان الأول المراد بهم وفد نجران وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني لأعلم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة
والقول الثاني أن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثانية إعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة
أما الأول فهو المراد بقوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ونظير هذه الآية قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقوله وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 ) وقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( مريم 80 )
وأما القسم الثاني من أسباب كمال العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار(7/160)
فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله وردت وروداً
المسألة الثالثة في قوله مِنَ اللَّهِ قولان أحدهما التقدير لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني قال أبو عبيدة مِنْ بمعنى عند والمعنى لن تغني عند الله شيئاً
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
يقال دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه قال الله تعالى سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) أي بجد واجتهاد ودوام ويقال سار فلان يوماً دائباً إذا أجهد في السير يومه كله هذا معناه في اللغة ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة يقال هذا دأب فلان أي عادته وقال بعضهم الدؤب والدأب الدوام
إذا عرفت هذا فنقول في كيفية التشبيه وجوه الأول أن يفسر الدأب بالاجتهاد كما هو معناه في أصل اللغة وهذا قول الأصم والزجاج ووجه التشبيه أن دأب الكفار أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذا نهلك هؤلاء
الوجه الثاني أن يفسر الدأب بالشأن والصنع وفيه وجوه الأول كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني أن تقدير الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول والمراد ههنا كدأب الله في آل فرعون فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ونظيره قوله تعالى يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ ( البقرة 165 ) أي كحبهم الله وقال سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ( الإسراء 77 ) والمعنى سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث قال القفال رحمه الله يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى والعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك(7/161)
أولئك الكفار المتقدمين والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم
الوجه الثالث في تفسير الدأب والدؤب وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء وتقدير الآية وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون
والوجه الرابع أن الدأب هو الاجتهاد كما ذكرناه ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به فإنه تعالى بيّن أن عذابهم حصل في غاية القرب وهو قوله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) وفي غاية الشدة أيضاً وهو قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 )
الوجه الخامس أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب فكان التشبيه بآل فرعون حاصلاً في هذين الوجهين والمعنى أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد
الوجه السادس يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بيّن أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ثم يصيرون إلى دوام العذاب فسينزل بمن كذب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمران أحدهما المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فالمعنى والذين من قبلهم من مكذبي الرسل وقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء
ثم قال فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص
ثم قال وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وهو ظاهر
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَيَغْلِبُونَ بالياء فيهما والباقون بالتاء المنقطة من(7/162)
فوق فيهما فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون ويدل على صحة الياء قوله تعالى يَتَفَكَّرُونَ قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) و قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ ( النور 30 ) ولم يقل غضوا ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ويدل على حسن التاء قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ ( آل عمران 81 ) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول لما غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال لو قاتلتنا لعرفت فأنزل الله تعالى هذه الآية
الرواية الثانية أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر قالوا والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ونعته وأنه لا ترد له راية ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا ليس هذا هو ذاك وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم
المسألة الثالثة احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية فقال إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال ومستلزم المحال محال فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة قوله سَتُغْلَبُونَ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع مخبره على موافقته فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز ونظيره قوله تعالى غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( الروم 2 3 ) الآية ونظيره في حق عيسى عليه السلام وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 )
المسأُلة الخامسة دلّت الآية على حصول البعث في القيامة وحصول الحشر والنشر وأن مرد الكافرين إلى النار
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال بِئْسَ الْمِهَادُ والمهاد الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش قال الله تعالى وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( الذاريات 48 ) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة قال الله تعالى وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله(7/163)
قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاوْلِى الاٌّ بْصَارِ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى لم يقل قد كانت لكم آية بل قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ وفيه وجهان
الأول أنه محمول على المعنى والمراد قد كان لكم إتيان هذا آية
والثاني قال الفرّاء إنما ذكر للفصل الواقع بينهما وهو قوله لَكُمْ
المسألة الثانية وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ نزلت في اليهود وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ الآية فهذا هو الكلام في وجه النظم
المسألة الثالثة الفئة الجماعة وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وقادوا مائة فرس وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر وكان في الرجال دروع سوى ذلك وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قل العدد ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين(7/164)
للحرب فلم يتأهبوا ومنها قلة السلاح والفرس ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها كثرة العدد ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة والمقاتلة في الأزمنة الماضية وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً
والوجه الثاني في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
والوجه الثالث في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة وذلك معجز
فإن قيل تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة
قلنا نحمل الرؤية على الظن والحسبان وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة
والوجه الرابع في بيان كون هذه القصة آية قال الحسن إن الله تعالى أمد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ ( الأنفال 9 ) وقال بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) والألف مع الأربعة آلاف خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض وهو المراد بقوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء والله أعلم
ثم قال الله تعالى فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة المشهورة فِئَة ٌ بالرفع وكذا قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وقرىء فِئَة ٌ فَقَاتِلْ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ بالجر على البدل من فئتين وقرىء بالنصب إما على الاختصاص أو على الحال من الضمير في التقتا قال الواحدي رحمه الله والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام
المسألة الثانية المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله
وقوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ المراد بها كفار قريش(7/165)
ثم قال تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبان عن عاصم تَرَوْنَهُمْ بالتاء المنقطة من فوق والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا أو مثلي الفئة الكافرة أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب وهو قوله فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ فقوله يَرَوْنَهُمْ يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين
المسألة الثانية إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله يَرَوْنَهُمْ مّثْلُهُمْ يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة والمرئيون هم الفئة المسلمة ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان وأيضاً فقوله مّثْلَيْهِمْ يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين
والاحتمال الثاني أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم
فإن قيل هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 )
فالجواب أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين ثم إن تقليلهم في أول الأمر وتكثيرهم في آخر الأمر أبلغ في القدرة وإظهار الآية
والاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 66 )
فإن قيل كيف يرونهم مثليهم رأي العين وكانوا ثلاثة أمثالهم
الجواب أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم وذلك لأنه تعالى قال إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم وإزالة للخوف عن صدورهم
والاحتمال الرابع أن الرائين هم المسلمون وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين والآية تنافي ذلك وفي الآية احتمال خامس وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة
فإن قيل كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه(7/166)
بقي من مباحث هذا الموضع أمران
البحث الأول أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول فهو محال عقلاً لأن المعدوم لا يرى فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي وأما الثاني فهو جائز عند أصحابنا لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات فلم يبعد أن يقال إنه حصل ذلك المعجز وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها يجوز أن يقال إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر وكل ذلك محتمل
البحث الثاني اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل إن كون المشرك رائياً أولى ويدل عليه وجوه الأول أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس وأقرب المذكورين هو قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ والثاني أن مقدمة الآية وهو قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار حيث قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم
واحتج من قال الراؤن هم المسلمون وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال وكان ذلك أولى والله أعلم
ثم قال رَأْى َ الْعَيْنِ يقال رأيته رأياً ورؤية ورأيت في المنام رؤيا حسنة فالرؤية مختص بالمنام ويقول هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري فقوله رَأْى َ الْعَيْنِ يجوز أن ينتصب على المصدر ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان كما تقول ترونهم أمامكم ومثله هو مني مناط العنق ومزجر الكلب
ثم قال وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء نصر الله المسلمين على وجهين نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ونصر بالحجة فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة وبالعاقبة الحميدة والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله(7/167)
من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب وعبارة الرؤيا من ذلك لأنها تعبير لها وقوله لاِوْلِى الاْبْصَارِ أي لأولي العقول كما يقال لفلان بصر بهذا الأمر أي علم ومعرفة والله أعلم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم قولان الأول ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة وأن الآخرة خير وأبقى
القول الثاني وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية واللذات الدنيوية ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ من الذي زين ذلك أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان وإن كان من الله تعالى وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا وهذا الكلام ظاهر جداً
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال
القول الأول حكي عن الحسن أنه قال الشيطان زين لهم وكان يحلف على ذلك بالله واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها أنه تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير(7/168)
إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها قوله تعالى ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها قوله بعد هذه الآية قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه
والقول الثاني قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبيد تزيين لها فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة والله تعالى قد ندب إليها فكان مزيناً لها وإنما قلنا إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول أن يتصدق بها والثاني أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقال قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وقال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا ( الكهف 7 ) وقال خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 31 ) وقال في سورة البقرة وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) وقال كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة 168 ) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد زُيّنَ لِلنَّاسِ على تسمية الفاعل
والقول الثالث وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى أو من الشيطان
المسألة الثالثة قوله حُبُّ الشَّهَواتِ فيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور قدرة وللمرجو رجاء وللمعلوم علم وهذه استعارة مشهورة في اللغة يقال هذه شهوة فلان أي مشتهاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان إحداهما أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها(7/169)
البحث الثاني قال المتكلمون دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه والشهوة من فعل الله تعالى والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات
البحث الثالث قال الحكماء الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ص 32 ) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير وإن كان ذلك في جانب الشر فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها أنه يحب شهوته لها وثالثها أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس والعقل أيضاً يدل عليه وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان جسماني وروحاني والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
وأما قوله تعالى مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ ففيه بحثان
البحث الأول مِنْ في قوله مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ كما في قوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة
البحث الثاني إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 ) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة
المرتبة الثانية حب الولد ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك(7/170)
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل
المرتبة الثالثة والرابعة وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون إنه وزن لا يحد واعلم أن هذا هو الصحيح ومن الناس من حاول تحديده وفيه روايات فروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( القنطار إثنا عشر ألف أوقية ) وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية وبه قاس الحسن وقال الكلبي القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة
البحث الثاني الْمُقَنطَرَة ِ منفعلة من القنطار وهو للتأكيد كقولهم ألف مؤلفة وبدرة مبدرة وإبل مؤبلة ودراهم مدرهمة وقال الكلبي القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة
البحث الثالث الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء وصفة المالكية هي القدرة والقدرة صفة كمال والكمال محبوب لذاته فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين
المسألة الخامسة الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ قال الواحدي الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا وسمي الخيال خيالا والتخيل تخيلا لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة والأخيل الشقراق لأنه يتخيل تارة أخضر وتارة أحمر واختلفوا في معنى الْمُسَوَّمَة ِ على ثلاثة أقوال الأول أنها الراعية يقال أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي كما يقال أقمت الشيء وقومته وأجدته وجودته وأنمته ونومته والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً ومنه قوله تعالى فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 )
والقول الثاني المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ومعناه واحد وهو الهيئة الحسنة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقال أبو مسلم المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة وقال الأصم إنما هي البلق وقال قتادة الشية وقال المؤرج الكي وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس(7/171)
القول الثالث وهو قول مجاهد وعكرمة أنها الخيل المطهمة الحسان قال القفال المطهمة المرأة الجميلة
المرتبة السادسة الاْنْعَامِ وهيي جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها
المرتبة السابعة الْحَرْثِ وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( البقرة 205 )
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قال القاضي ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة وذلك لا ممدوح ولا مذموم ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ اعلم أن المآب في اللغة المرجع يقال آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا قال الله تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن
فإن قيل المآب قسما الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن
قلنا المآب المقصود بالذات هو الجنة فأما النار فهي المقصود بالغرض لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب كما قال سبقت رحمتي غضبي وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي أَؤُنَبّئُكُمْ بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو
المسألة الثانية ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول أن يكون المعنى هل أؤنبئكم بخير(7/172)
من ذلاكم ثم يبتدأ فيقال للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا ثم يبتدأ فيقال عند ربهم جنّات تجري والثالث هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم ثم يبتدى فيقال جنّات تجري
المسألة الثالثة في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( آل عمران 14 ) بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا فقال قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ الثاني أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 7 ) الثالث كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ونعم الآخرة باقية لا محالة
أما قوله تعالى لّلَّذِينَ اتَّقَواْ فقد بينا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن التقوى ما هي وبالجملة فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات متحرزاً عن المحظورات وقال بعض أصحابنا التقوى عبارة عن اتقاء الشرك وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ومن الاتقاء عن بعض المحظورات لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك فوجب حمله عليه فكان قوله لّلَّذِينَ اتَّقَواْ محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ ففيه احتمالان الأول أن يكون ذلك صفة للخير والتقدير هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى فيخرج عنه المنافق ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله
وأما قوله جَنَّاتُ فالتقدير هو جنّات وقرأ بعضهم جَنَّاتُ بالجر على البدل من خير واعلم أن قوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب كما قال تعالى فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
ثم قال خَالِدِينَ فِيهَا والمراد كون تلك النعم دائمة
ثم قال وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب فقال مُّطَهَّرَة ٍ ويدخل في(7/173)
ذلك الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة
ثم قال تعالى وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وَرِضْوَانٍ بضم الراء والباقون بكسرها أما الضم فهو لغة قيس وتميم وقال الفرّاء يقال رضيت رضا ورضوانا ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران
المسألة الثانية قال المتكلمون الثواب له ركنان أحدهما المنفعة وهي التي ذكرناها والثاني التعظيم وهو المراد بالرضوان وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم حامد لهم مثن عليهم أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع وأما الحكماء فإنهم قالوا الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى والله الإشارة بقوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 )
ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في إعراب موضع الَّذِينَ يَقُولُونَ وجوه الأول أنه خفض صفة للذين اتقوا وتقدير الآية للذين اتقوا الذين يقولون ويجوز أن يكون صفة للعباد والتقدير والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني أن يكون نصباً على المدح والثالث أن يكون رفعاً على التخصيص والتقدير هم الذين يقول كذا وكذا
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ثم إنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله(7/174)
تعالى فإن قالوا الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور وتاب عن جميع الذنوب كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم والقبيح هو الذي يلزم من فعله إما الجهل وإما الحاجة فهما محالان ومستلزم المحال محال فإدخال الله تعالى إياهم النار محال وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ( آل عمران 193 )
فإن قيل أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ( آل عمران 17 )
قلنا تأويل هذه الآية ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاٌّ سْحَارِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الصَّابِرِينَ قيل نصب على المدح بتقدير أعني الصابرين وقيل الصابرين في موضع جر على البدل من الذين
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة
الصفة الأولى كونهم صابرين والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى كما قال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) قال سفيان بن عيينة في قوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ( السجدة 24 ) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ويروى أنه وقف رجل على الشلبي فقال أي صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله تعالى فقال لا فقال الصبر مع الله تعالى قال لا قال فايش قال الصبر عن الله تعالى فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف(7/175)
وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين فقال وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 )
الصفة الثانية كونهم صادقين إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة فالصدق في القول مشهور وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه يقال صدق فلان في القتال وصدق في الحملة ويقال في ضده كذب في القتال وكذب في الحملة والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل
الصفة الثالثة كونهم قانتين وقد فسرناه في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها
الصفة الرابعة كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر
الصفة الخامسة كونهم مستغفرين بالأسحار والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء فهناك وقت الجود العام والفيض التام فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني أن وقت السحر أطيب أوقات النوم فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل والثالث نقل عن ابن عباس وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يريد المصلين صلاة الصبح
المسألة الثالثة قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أكمل من قوله الذين يصبرون ويصدقون لأن قوله الصَّابِرِينَ يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم وأنهم لا ينفكون عنها
المسألة الرابعة اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات وإما بسبب الشروع فيه وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال الصَّادِقِينَ ثانياً ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة فقال وَالْقَانِتِينَ فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة وكان أعظم الطاعات قدراً أمران أحدهما الخدمة بالمال وإليه الإشارة بقوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) فذكر هنا بقوله وَالْمُنَافِقِينَ والثانية الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله ( التعظيم لأمر الله ) فذكره هنا بقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ(7/176)
فإن قيل فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين وأخر في قوله ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله )
قلنا لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار وقوله ( التعظيم لأمر الله ) في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى فلا جرم كان الترتيب بالعكس
المسألة الرابعة هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند الله أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل والله أعلم
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ( آل عمران 16 ) أردفه بأن بيّن أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية فقال شَهِدَ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على العلم به فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم لكن العلم بصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قولين أحدهما أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني أنه ليس كذلك أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين
الوجه الأول أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إلاه معه وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم(7/177)
الوجه الثاني أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ثم نقول إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق أولي العلم فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام
القول الثاني قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ونظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ومن الملائكة غير الصلاة من الناس مع أنه قد جمعهم في اللفظ
فإن قيل المدعي للوحدانية هو الله فكيف يكون المدعي شاهداً
الجواب من وجوه الأول وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ولهذا قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 )
الوجه الثاني في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ونفياً محضاً والعدم يشبه الغائب والموجود يشبه الحاضر فكل ما سواه فقد كان غائباً وبشهادة الحق صار شاهداً فكان الحق شاهداً عل الكل فلهذا قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ
الوجه الثالث أن هذا وإن كان في صورة الشهادة إلا أنه في معنى الإقرار لأنه لما أخبر أنه لا إلاه سواه كان الكل عبيداً له والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق
الوجه الرابع في الجواب قرأ ابن عباس شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ بكسر أَنَّهُ ثم قرأ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) بفتح ءانٍ فعلى هذا يكون المعنى شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضاً في الكلام واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء وبتقدير ءانٍ تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى(7/178)
المسألة الثانية المراد من أُوْلِى الْعِلْمِ في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول
أما قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ منتصب وفيه وجوه
الوجه الأول نصب على الحال ثم فيه وجوه أحدها التقدير شهد الله قائماً بالقسط وثانيها يجوز أن يكون حالا من هو تقديره لا إلاه إلا هو قائماً بالقسط ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك أتانا عبد الله شجاعاً وكقولك لا رجل إلا عبد الله شجاعاً
الوجه الثاني أن يكون صفة المنفي كأنه قيل لا إلاه قائماً بالقسط إلا هو وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف
والوجه الثالث أن يكون نصباً على المدح
فإن قيل أليس من حق المدح أن يكون معرفة كقولك الحمد لله الحميد
قلنا وقد جاء نكرة أيضاً وأنشد سيبويه ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ فيه وجهان الأول أنه حال من المؤمنين والتقدير وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من شَهِدَ اللَّهُ
المسألة الثالثة معنى كونه قَائِمَاً بِالْقِسْطِ قائماً بالعدل كما يقال فلان قائم بالتدبير أي يجريه على الاستقامة
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدين فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب أما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ولقد خاض صاحب ( الكشاف ) ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك(7/179)
وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً فقد اعترف بهذا الجبر فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث
ثم قال الله تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ والفائدة في إعادته وجوه الأول أن تقدير الآية شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إلاه إلا هو ونظيره قول من يقول الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إلاه إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير كأنه قال يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لاَ إله إِلاَّ هُوَ فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع ذكر قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أولاً ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى وذكرها ثانيا ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم
أما قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلاهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات وكان قادراً على تحصيل المهمات وقدم العزيز على الحكيم في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية وكان هذا الخطاب مع المستدلين لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القرّاء على كسر ءانٍ إلا الكسائي فإنه فتح ءانٍ وقراءة الجمهور ظاهرة لأن الكلام الذي قبله قد تم وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام الثالث وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك ضربت زيداً نفسه وإن قلنا دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال كقولك ضربت زيداً رأسه
فإن قيل فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال ضربت زيداً رأس زيد
قلنا قد يظهرون الاسم في موضع الكناية قال الشاعر(7/180)
لا أرى الموت يسبق الموت شي
وأمثاله كثيرة
المسألة الثانية في كيفية النظم من قرأ إِنَّ الدّينَ بفتح ءانٍ كان التقدير شهد الله لأجل أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام ومن قرأ إِنَّ الدّينَ بكسر الهمزة فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته وشهد به الملائكة وأولوا العلم ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ
المسألة الثالثة أصل الدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ ( النساء 94 ) أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني من أسلم أي دخل في السلم كقولهم أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث قال ابن الأنباري المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان والدليل عليه وجهان الأول هذه الآية فإن قوله إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله ولا شك في أنه باطل الثاني قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( آل عمران 85 ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان
قلنا الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر لأنه تعالى قال وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر وتارة في الحقيقة والمنافق حصل له الإسلام الظاهر ولم يحصل له الإسلام الباطن لأن باطنه غير منقاد لدين الله فكان تقدير الآية لم تسلموا في القلب والباطن ولكن قولوا أسلمنا في الظاهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فيه مسائل(7/181)
المسألة الأولى الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير فقوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فيه وجوه الأول المراد بهم اليهود واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا نحن أحق بالنبوّة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم
المسألة الثالثة في انتصاب قوله بَغِيّاً وجهان الأول قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى فإن قوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ قائم مقام قوله وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل بَغِيّاً مصدراً والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل
المسألة الرابعة قال الأخفش قوله بَغْياً بَيْنَهُمْ من صلة قوله اخْتَلَفَ والمعنى وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وقال غيره المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي وقال القفال وهذا أجود من الأول لأن الأول يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم والثاني يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ وهذا تهديد وفيه وجهان الأول المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاٍّ مِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(7/182)
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما يقوله في محاجتهم فقال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان
الطريق الأول أن هذا إعراض عن المحاجة وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً فإن هذه السورة مدنيّة وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ على فساد قول النصارى في إلاهية عيسى عليه السلام وبقوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) على صحة النبوّة وذكر شبه القوم وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ثم ذكر لهم معجزة أخرى وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ( آل عمران 13 ) ثم بيّن صحة القول بالتوحيد ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق واختلافهم في الدين إنما كان لأجل البغي والحسد وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل فبعد هذا قال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال فقد يقول في آخر الأمر أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه
الطريق الثاني وهو أن نقول إن قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ محاجة وإظهار للدليل وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية والنصارى يدعون إلاهية عيسى والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طااعة الله تعالى وعبوديته وهذا القدر متفق عليه ونظيره هذه الآية قوله تعالى بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ( آل عمران 64 )
والوجه الثاني في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع والأحكام فأمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يتبع ملته فقال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ(7/183)
اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ كقول إبراهيم عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِى َ أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى وقصدته بالعبادة وأخلصت له فتقدير الآية كأنه تعالى قال فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة بعيدة عن كل شبهة وتهمة فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات وداخلاً تحت قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
والوجه الثالث في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ثم قال فَإنْ حَاجُّوكَ يعني فإن نازعوك في قولك إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) فقل الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ولا أشرك به غيره كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية فصح أن الدين الكامل هو الإسلام وهذا الوجه يناسب الآية
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ويكون أمري في يديه وحكمي في قبضة قدرته فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له وأن انقاد له وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير والشر والنفع والضر والتدبير والتقدير
الوجه الخامس يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وهذا مروي عن ابن عباس
أما قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ففيه وجوه الأول قال الفرّاء أسلمت وجهي لله أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ولم يشاركه غيره قال ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الكهف 28 ) أي عبادته ويقال هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول وجهت وجهي إليك ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه مرّ على وجهه الثاني أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلاهيته وحكمه الثالث أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته عادل عن كل ما سواه
وأما قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى حذف عاصم وحمزة والكسائي الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف وأثبته الآخرون على الأصل(7/184)
المسألة الثانية مِنْ في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله أَسْلَمْتُ أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً
فإن قيل لم قال أسلمت ومن اتبعن ولم يقل أسلمت أنا ومن اتبعن
قلنا إن الكلام طال بقوله وَجْهِى َ للَّهِ فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ومن جاء معي جاز وحسن
ثم قال تعالى وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى أو كان كاذباً فيه كالمجوس ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان
المسألة الثانية إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلاهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله فَانٍ عام في كل الكفار لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ودخل من لا كتاب له تحت قوله الامّيّينَ
ثم قال الله تعالى ءأَسْلَمْتُمْ فهو استفهام في معرض التقرير والمقصود منه الأمر قال النحويون إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان هل فهمتها فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم وقال الله تعالى في آية الخمر فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه
ثم قال الله تعالى فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً ويحتمل أن يريد فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال وَإِن تَوَلَّوْاْ عن الإسلام واتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ والغرض منه تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه وليس عليه قبولهم ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وذلك يفيد الوعد والوعيد وهو ظاهر(7/185)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله أَن تُوَلُّواْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
فإن قيل ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد
قلنا الجواب من وجهين الأول أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن نحمله على العموم ونقول إن من كذب بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع
الصفة الثانية قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وهو للمبالغة
المسألة الثانية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقرأ هذه الآية ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء
وفي الآية سؤالات
السؤال الأول إذا كان قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ في حكم المستقبل لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك
والجواب من وجهين الأول أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته الثاني إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم فلما كانوا في(7/186)
غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز كما يقال النار محرقة والسم قاتل أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك
والجواب ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة والمراد منه شرح عظم ذنبهم وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل
السؤال الثالث قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف
والجواب الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق
الصفة الثالثة قوله وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحده ويقاتلون بالألف والباقون اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ وهما سواء لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أُبي وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ
المسألة الثانية قال الحسن هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الجهاد أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما دخلت الفاء في قوله فَبَشّرْهُم مع أنه خبران لأنه في معنى الجزاء والتقدير من يكفر فبشرهم
المسألة الثانية هذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
النوع الثاني من الوعيد قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ
إعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب
النوع الثالث من وعيدهم قوله تعالى وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم
( 23 )(7/187)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
إعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ( آل عمران 20 ) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ويتولون وذلك يدل على غاية عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يتناول كلهم ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم إلا أنه قد دلّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 )
المسألة الثانية قوله تعالى أوتوا نصيباً من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار وهم اليهود والنصارى وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ومن عند الله
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا وكانا ذوي شرف وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فرجعوا في أمرهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم قالوا عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهما فرجما فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مدرسة اليهود وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا على أي دين أنت فقال على ملة إبراهيم فقالوا إن إبراهيم كان يهودياً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هلموا إلى التوراة فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن علامات بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والدلائل الدالة على صحة نبوّته(7/188)
موجودة فيها فدعاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التوراة وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( آل عمران 93 ) وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك
والرواية الرابعة أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى وذلك لأن دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت موجودة في التوراة والإنجيل وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون
أما قوله نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه
أما قوله تعالى يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن
فإن قيل كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به
قلنا إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني أنه تعالى عجب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من تمردهم وإعراضهم والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ويقرون بحقيته الثالث أن هذا هو المناسب لما قبل الآية وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق
وأما قوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فالمعنى ليحكم الكتاب بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور وقرىء لِيَحْكُمَ على البناء للمفعول قال صاحب ( الكشاف ) وقوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم لا فيما بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء
ثم قال وَهُم مُّعْرِضُونَ وفيه وجهان
الأول المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم كأنه قيل ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل تولي علمائهم
والثاني أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب كأنه قيل لا تظن أنه تولى عن هذه(7/189)
المسأُلة بل هو معرض عن الكل
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ قال في هذه الآية ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات قال الجبائي وفيها دلالة على بطلان قول من يقول إن أهل النار يخرجون من النار قال لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً ولما استحق الذم فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل
وأقول كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم
سلمنا أنه يلزم ذلك لكن لم قلتم إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر الأول لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة فإنه روي أنهم كانوا يقولون مدة عذابنا سبعة أيام ومنهم من قال بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم لأنه كافر والكافر عذابه دائم والثالث أنهم لما قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فقد استحقروا تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فقيل هو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وقيل هو قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنت على الباطل
أما قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ رَيْبَ فِيهِ فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ويكشف فيه ذلك الغرور فقال فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وفي الكلام حذف والتقدير فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول كنت أكرمه وهو لم يزرني فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية
أما قوله تعالى إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ ولم يقل في يوم لأن المراد لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه قال الفرّاء اللام لفعل مضمر إذا قلت جمعوا ليوم الخميس كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم(7/190)
أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب وقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه
ثم قال وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف والتقدير ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فلا ينقص من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات
واعلم أن قوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ يستدل به القائلون بالوعيد ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار أما الأولون قالوا لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة والآية دلّت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة
وجوابنا أن هذا من العمومات وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات
وأما أصحابنا فإنهم يقولون إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع وإما أن يقال يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم
قلنا هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر والمنازع فيه مكابر فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول ثواب إيمان لحظة يسقط كفر سبعين سنة فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ولا شك أنه كلام ظاهر(7/191)
بداية الجزء الثامن من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(8/2)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
إعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة دين الإسلام ثم قال لرسوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( آل عمران 23 ) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ثم ذكر وعيدهم بقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في قوله اللَّهُمَّ فقال الخليل وسيبويه اللَّهُمَّ معناه يا الله والميم المشددة عوض من يا وقال الفرّاء كان أصلها يا الله أم بخير فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أم فصار اللَّهُمَّ ونظيره قول العرب هلم والأصل هل فضم أم إليها حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه الأول لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف لأن التقدير يا الله أمنا واغفر لنا ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال لجاز أن يتكلم به على أصله فيقال اللَّهِ إِمَّا كما يقال ويلم ثم يتكلم به على الأصل فيقال وَيْلٌ أُمُّهُ الثالث لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً فكان يجوز أن يقال يا اللّهم فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً كما يقال يا الله اغفر لي وأجاب الفراء عن هذه الوجوه فقال أما الأول فضعيف لأن قوله لاْمْرِ اللَّهِ إِمَّا معناه يا الله اقصد فلو قال واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما قوله مِنَ والثاني قوله وَاغْفِرْ لَنَا أما إذا حذفنا العطف صار(8/3)
قوله اغفر لنا تفسيراً لقوله أمنا فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد ونظائره كثيرة في القرآن وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن أصله عندنا أن يقال يا الله أمنا ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله ما أكرمه معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا وأما الثالث فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ يا اللّهم وأنشد الفرّاء وأما عليك أن تقولي كلما
سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين إن هذا الشعر غير معروف فحاصله تكذيب النقل ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن وأما قوله كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا ( يوسف 46 ) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى وهذا غير جائز ألبتة فإنه لا يقال ألبتة ( الله يا ) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء حتى يقال زيدم وبكرم كما يجوز أن يقال يا زيد ويا بكر والثالث لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز فهذا جملة الكلام في هذا الموضع
المسأل الثانية مَالِكَ الْمُلْكِ في نصبه وجهان الأول وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء وكذلك قوله قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الزمر 46 ) ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله اللَّهُمَّ لأن قولنا اللَّهُمَّ مجموع الاسم والحرف وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني وهو قول المبرد والزجاج أن مَالِكَ وصف للمنادى المفرد لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه يا ولا يمتنع الصفة مع الميم كما لا يمتنع مع الياء
المسألة الثالثة روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخبره فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر وكبر المسلمون وقال عليه الصلاة والسلام ( أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية فقال ( أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ) ثم ضرب الثالثة فقال ( أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا ) فقال المنافقون ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه(8/4)
أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم
المسألة الرابعة وَقَالَ الْمَلِكُ هو القدرة والمالك هو القادر فقوله مَالِكَ الْمُلْكِ معناه القادر على القدرة والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك مملوكه قال صاحب ( الكشاف ) مَالِكَ الْمُلْكِ أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه مَالِكَ الْمُلْكِ على الإطلاق فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة
النوع الأول قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وذكروا فيه وجوهاً الأول المراد منه ملك النبوّة والرسالة كما قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم وأن يعتقد أنه هو الحق وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقال الله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر إلا أنهم كانوا يقولون إن محمداً فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 37 )
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( آل عمران 12 ) أن اليهود تكبروا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء فقال تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء
فإن قيل فإذا حملتم قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء على إيتاء ملك النبوّة وجب أن تحملوا قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً ومعلوم أن ذلك لا يجوز
قلنا الجواب من وجهين الأول أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل فإذا أخرجها الله من نسله وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل فلما شرف الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بها صح أن يقال إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب
والجواب الثاني أن يكون المراد من قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا(8/5)
الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ونظيره قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ( الأعراف 88 ) وأولئك الأنبياء قالوا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأعراف 89 ) مع أنهم ما كانوا فيها قط فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء بملك النبوة
القول الثاني أن يكون المراد من الملك ما يسمى ملكاً في العرف وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها تكثير المال والجاه أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع والحرث والنسل وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عن الناس مقبول القول مطاعاً في الخلق والثاني أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته وتحت أمره ونهيه والثالث أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد قدر على قهر ذلك المنازع وعلى غلبته ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد والعناء العظيم قليل من المال ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته وأما الجاه فالأمر أظهر فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب ينقاد له الصغير والكبير ويتواضع له القاصي والداني وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده وأما القسم الثالث وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء
واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ليس على سبيل المختارية ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وقال في حق العبد الصالح إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فجعله سبباً للملك وقال الجبائي هذا الحكم مختص بملوك العدل فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك فأما الظالمون فلا قالوا ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا قالوا وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه منها بالموت وإزالة العقل وإزالة القوى والقدر والحواس ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى لأنه وقع عن أمره وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب(8/6)
واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم إما أن يقال إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب أو إنما حصل بالأسباب الربانية والأول نفي للصانع والثاني باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس وتميل إليه القلوب ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده وقد يكون على الضد من ذلك ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ولذلك قال حكيم الشعراء لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بأجل أسباب السماء تعلقي
من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني أن قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة وملك العلم وملك العقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة وملك الأموال وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز
وأما قوله تعالى وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فاعلم أن العزة قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) إذا ثبت هذا فنقول لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله وهذا وجه قوي في المسألة قال القاضي الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلاهية ولخرج عن كونه إلاهاً للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلاهية نفسه عن الزوال فأما العبد فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم
أما قوله وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فقال الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة إما بالثواب وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا(8/7)
أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما إنهما تعذيب قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( المائدة 54 )
إذا عرفت هذا فنقول إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ويذل البعض بالكفر والضلالة وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال يفعله العبد ابتداء والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال فبقي أن يقال تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى
أما قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات وأيضاً فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك كما أن قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ( الكافرين 6 ) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه إذا عرفت هذا فنقول أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى وفي الفضيلة والكمال وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى
فإن قيل فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله
والجواب أن قوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه(8/8)
وهداهم إليه لما تمكنوا منه فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد وذلك على خلاف هذا النص
أما قوله إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال
أما قوله تعالى تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ فيه وجهان الأول أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل
وأما قوله وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَى ِّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي الْمَيّتِ بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان بمعنى واحد قال المبرد أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا
إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله هين وهين ولين ولين وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات والميت من لم يمت
المسألة الثانية ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث يخرج الحيوان من النطفة والطير من البيضة وبالعكس والرابع يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس قال القفال رحمه الله والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل قبل ذلك ميتة فقال فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ ( الروم 19 ) وقال فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( فاطر 9 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 )
أما قوله وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ففيه وجوه الأول أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان عنده مال لا يحصى والثالث ترزق من تشاء بغير حساب يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم والله أعلم(8/9)
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله قال لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الثاني لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول وجوه الأول جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الرحمن بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني قال مقاتل نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الثالث أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية
فإن قيل إنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذه صفة الكافر
قلنا معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين
واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) وقوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المجادلة 22 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء وقوله الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) وقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 )
واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية لأنه تعالى قال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فلا بد وأن يكون خطاباً في(8/10)
شيء يبقى المؤمن معه مؤمناً وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه
والقسم الثالث وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة والمظاهرة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه وأيضاً فقوله لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء فيه زيادة مزية لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته
قلنا هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين
المسألة الثانية إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج ولو رفع على الخبر لجاز ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر ومتى كان منهياً عن ذلك كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك
المسألة الثالثة قوله مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من غير المؤمنين كقوله وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ( البقرة 23 ) أي من غير الله وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان تقول زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وفيه حذف والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ
ثم قال تعالى إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي تقاة بالإمالة وقرأ نافع وحمزة بين التفخيم والإمالة والباقون بالتفخيم وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف
المسألة الثانية قال الواحدي تقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان مصدره(8/11)
الاتقياء وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر كما يقال جلس جلسة وركب ركبة وقال الله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( آل عمران 37 ) وقال الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء قال ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالاً مؤكدة
المسألة الثالثة قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم نعم نعم فقال أفتشهد أني رسول الله قال نعم وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم قال أفتشهد أني رسول الله فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 )
المسألة الرابعة اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها
الحكم الأول أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب
الحكم الثاني للتقية هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة
الحكم الثالث للتقية أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة
الحكم الرابع ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس
الحكم الخامس التقية جائزة لصون النفس وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم
الحكم السادس قال مجاهد هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا وروى عوف عن الحسن أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان(8/12)
ثم قال تعالى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفيه قولان الأول أن فيه محذوفاً والتقدير ويحذركم الله عقاب نفسه وقال أبو مسلم المعنى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد
والقول الثاني أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل
ثم قال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول هذه الآية جملة شرطية فقوله إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ شرط وقوله يَعْلَمْهُ اللَّهُ جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى
والجواب أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام
السؤال الثاني محل البواعث والضمائر هو القلب فلم قال إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم
الجواب لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ ( الناس 5 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )(8/13)
السؤال الثالث إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق
الجواب ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( البقرة 284 )
ثم قال تعالى وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
واعلم أنه رفع على الاستئناف وهو كقوله قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ ( التوبة 14 ) جزم الأفاعيل ثم قال وَيَتُوبَ اللَّهُ فرفع ومثله قوله فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) رفعاً وفي قوله وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ إتماماً للتحذير وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد والترغيب والترهيب
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُو ءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب ومن تمام الكلام الذي تقدم
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في العامل في قوله يَوْمٍ وجوهاً الأول قال ابن الأنباري اليوم متعلق بالمصير والتقدير وإلى الله المصير يوم تجد الثاني العامل فيه قوله وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في الآية السابقة كأنه قال ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث العامل فيه قوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وخص هذا اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلاً له لعظم شأنه كقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) الرابع أن العامل فيه قوله تَوَدُّ والمعنى تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس يجوز أن يكون منتصباً بمضمر والتقدير واذكر يوم تجد كل نفس
المسألة الثانية اعلم أن العمل لا يبقى ولا يمكن وجدانه يوم القيامة فلا بد فيه من التأويل وهو من(8/14)
وجهين الأول أنه يجد صحائف الأعمال وهو قوله تعالى إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وقال فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) الثاني أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى مُّحْضَرًا يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ويحتمل أن يكون المعنى أن جزاء العمل يكون محضراً كقوله وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ( الكهف 49 ) وعلى كلا الوجهين فالترغيب والترهيب حاصلان
أما قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي الأظهر أن يجعل مَا ههنا بمنزلة الذي ويكون عَمِلَتْ صلة لها ويكون معطوفاً على مَا الأول ولا يجوز أن تكون مَا شرطية وإلا كان يلزم أن ينصب تَوَدُّ أو يخفضه ولم يقرأه أحد إلا بالرفع فكان هذا دليلاً على أن مَا ههنا بمعنى الذي
فإن قيل فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ودت
قلنا لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم وأكثر موافقة للقراءة المشهورة
المسألة الثانية الواو في قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء فيه قولان الأول وهو قول أبي مسلم الأصفهاني الواو واو العطف والتقدير تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء وأما قوله تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه وجهان الأول أنه صفة للسوء والتقدير وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني أن يكون حالاً والتقدير يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها
والقول الثاني أن الواو للاستئناف وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين وموضع الكرم واللطف هذا وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور بل ذكر أنهم يودون الفرار منه والبعد عنه وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد
المسألة الثالثة الأمد الغاية التي ينتهي إليها ونظيره قوله تعالى قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( الزخرف 38 )
واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان إذ المقصود تمني بعده ثم قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو لتأكيد الوعيد ثم قال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وفيه وجوه الأول أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه وعرفهم كمال علمه وقدرته وأنه يمهل ولا يمهل ورغبهم في استيجاب رحمته وحذرهم من استحقاق غضبه قال الحسن ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث أنه لما قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو للوعيد أتبعه بقوله وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته غالب على وعيده وسخطه والرابع وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )(8/15)
فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فنزلت هذه الآية ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم فقالت قريش إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية ويروى أن النصارى قالوا إنما نعظم المسيح حباً لله فنزلت هذه الآية وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته وتقدير الكلام أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجبت متابتعه فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام المستقصى في المحبة فقد تقدم في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله أو محبة طاعته أو محبة ثوابه قالوا لأن المحبة من جنس الإرادة والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع
واعلم أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته كما أن اللذة محبوبة لذاتها وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه
المسألة الثانية القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم(8/16)
إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله والله تعالى يحب كل من أطاعه وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ومن أحب الله كان راغباً فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غير المحبوب
المسألة الثالثة خاض صاحب ( الكشاف ) في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى نسأل الله العصمة والهداية ثم قال تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ومن غفران ذنبه إزالة العقاب وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه
قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
يروى أنه لما نزل قوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية قال عبد الله بن أُبي إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى فنزلت هذه الآية وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين وهي أن محمداً يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة فقال قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين
ثم قال تعالى فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه ومن كفر استوجب الذلة والإهانة وذلك ضد المحبة والله أعلم(8/17)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المخلوقات على قسمين المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة الملائكة والإنس والجن والشياطين أما الملائكة فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني لهذا السبب قدروا على حمل العرش لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث لهذا السبب سموا روحانيين وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( البقرة 34 ) وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( الأنعام 121 ) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) وقال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن قال تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( الجن 14 ) أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم ( صلى الله عليه وسلم ) على ما قال تعالى في هذه السورة إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 )
إذا عرفت هذا فنقول اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ ( الأعراف 11 ) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين
فإن قيل إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم والجواب ظاهر في قوله اصطفى آدم على العالمين يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم(8/18)
عليه فيندرج فيه الملك غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل
المسألة الثانية اصْطَفَى في اللغة اختار فمعنى اصطفاهم أي جعلهم صفوة خلقه تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ويقال على ثلاثة أوجه صفوة وصفوة وصفوة ونظير هذه الآية قوله لموسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأعراف 144 ) وقال في إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 )
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان الأول المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني أن يكون المعنى إن الله اصطفاهم أي صفاهم من الصفات الذميمة وزينهم بالخصال الحميدة وهذا القول أولى لوجهين أحدهما أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني أنه موافق لقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وذكر الحليمي في كتاب ( المنهاج ) أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة وإما محركة
أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة وإما الحواس الباطنة أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها القوة الباصرة ولقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها ) والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام فلا يبعد أن يكون بصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى من بصرها وثانيها القوة السامعة وكان ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى الناس في هذه القوة ويدل عليه وجهان أحدهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى ) فسمع أطيط السماء والثاني أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن قال الحليمي ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم وكان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب عليه السلام فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه فلما فصلت العير قال يعقوب إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ( يوسف 94 ) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها تقوية قوة الذوق كما في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال ( إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم ) وخامسها تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة وأما الحواس الباطنة فمنها قوة(8/19)
الحفظ قال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام ( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب ) فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القوى المحركة فمثل عروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المعراج وعروج عيسى حياً إلى السماء ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار وقال الله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 )
وأما القوى الروحانية العقلية فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ونهاية الصفاء
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء والفطنة والحرية والاستعلاء والترفع عن الجسمانيات والشهوات فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء
إذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا معناه إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول الملك أفضل من البشر أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول البشر أشرف المخلوقات ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام هم شيث وأولاده إلى إدريس ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم حصل من إبراهيم شعبتان إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو فوضع النبوّة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو واستمر ذلك إلى زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة
المسألة الثالثة من الناس من قال المراد بآل إبراهيم المؤمنون كما في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( غافر 46 ) والصحيح أن المراد بهم الأولاد وهم المراد بقوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء ومنهم من قال بل المراد عمران بن ماثان والد مريم وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام قالوا وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها أن المذكور عقيب قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلاهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه فالله تعالى يقول إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة فكان حمل هذا(8/20)
الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية بل هي أمور ظنية وأصل الاحتمال قائم
أما قوله تعالى ذُرّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في نصب قوله ذُرّيَّة ِ وجهان الأول أنه بدل من آل إبراهيم والثاني أن يكون نصباً على الحال أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه الأول ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة ونظيره قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام ويكون المراد بالذرية من سوى آدم
أما قوله تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فقال القفال المعنى والله سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقوله زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ( الأنبياء 90 ) وفيه وجه آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه فالله تعالى كأنه يقول والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم
واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصاً كثيرة
القصة الاولى
واقعة حنة أم مريم عليهما السلام
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّ نثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(8/21)
وفيه مسائل
المسألة الأولى في موضع إِذْ من الإعراب أقوال الأول قال أبو عبيدة إنها زائدة لغواً والمعنى قالت امرأة عمران ولا موضع لها من الإعراب قال الزجاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة والثاني قال الأخفش والمبرد التقدير اذكر إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ومثله في كتاب الله تعالى كثير الثالث قال الزجاج التقدير واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران وطعن ابن الأنباري فيه وقال إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحاً قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده وظهور طاعاته فجاز أن يقال إن الله اصطفى آدم عند وجوده ونوحاً عند وجوده وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع قال بعضهم هذا متعلق بما قبله والتقدير والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول
فإن قيل إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول فما معنى هذا التقييد
قلنا إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات
المسألة الثانية أن زكريا بن أذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة ثم في كيفية هذا النذر روايات
الرواية الأولى قال عكرمة إنها كانت عاقراً لا تلد وكانت تغبط النساء بالأولاد ثم قالت ( اللّهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته )
والرواية الثانية قال محمد بن إسحاق إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران فلما عرفت جعلته لله محرراً أي خادماً للمسجد قال الحسن البصري إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي(8/22)
المسألة الثالثة المحرر الذي جعل حراً خالصاً يقال حررت العبد إذا خلصته عن الرق وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي وقيل خادماً للبيعة وقيل عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله وقيل خادماً لمن يدرس الكتاب ويعلم في البيع والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله قال الأصم لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى وقيل كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين المقام والذهاب فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس
المسألة الرابعة هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض والأذى ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله مُحَرَّرًا وجهان الأول أنه نصب على الحال من مَا وتقديره نذرت لك الذي في بطني محرراً والثاني وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً
ثم قال الله تعالى حاكياً عنها فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ التقبل أخذ الشيء على الرضا قال الواحدي وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته ثم قالت إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمعنى أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام
قال تعالى فَلَمَّا وَضَعَتْهَا واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائداً إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالماً بأنها كانت أنثى أو يقال إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال عادت إلى المنذورة
ثم قال تعالى قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى(8/23)
تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار
ثم قال الله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر وَضَعَتْ برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى فأزالت الشبهة بقولها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام والباقون بالجزم على أنه كلام الله وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال والله أعلم بما وضعت تعظيماً لولدها وتجهيلاً لها بقدر ذلك الولد ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت وفي قراءة ابن عباس وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ على خطاب الله لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات
ثم قال تعالى حكاية عنها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى وفيه قولان الأول أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى
والقول الثاني أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه
ثم حكى تعالى عنها كلاماً ثانياً وهو قولها وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وفيه أبحاث
البحث الأول أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم فلذلك تولت الأم تسميتها لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء
البحث الثاني أن مريم في لغتهم العابدة فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
البحث الثالث أن قوله وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ معناه وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة
ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وذلك(8/24)
لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم وأن يجعلها من الصالحات القانتات وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ولم يقل فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) أي إنباتاً والقبول مصدر قولهم قبل فلان الشيء قبولاً إذا رضيه قال سيبويه خمسة مصادر جاءت على فعول قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم وأجاز الفراء والزجاج قبولاً بالضم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال قبلته قبولاً وقبولا وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول
فإن قيل فلم لم يقل فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل
والجواب أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع بل على وفق الطبع وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها وهذا الوجه مناسب معقول
المسألة الثانية ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً
الوجه الأول أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها ) ثم قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ طعن القاضي في هذا الخبر وقال إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه واعلم أن هذه الوجوه محتملة وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم
الوجه الثاني في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة وقالت خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو(8/25)
الراجح ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا
الوجه الثالث روى القفال عن الحسن أنه قال إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط وإن رزقها كان يأتيها من الجنة
الوجه الرابع في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن
ثم قال الله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا قال ابن الأنباري التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين أما الأول فقالوا المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة
ثم قال الله تعالى وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال كفل يكفل كفالة وكفلاً فهو كافل وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه وفي الحديث ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) وقال الله تعالى أَكْفِلْنِيهَا
المسألة الثانية قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَكَفَّلَهَا بالتشديد ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا فمن قرأ ( زكرياء ) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه وهو الاختيار لأن هذا مناسب لقوله تعالى أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وعليه الأكثر وعن ابن كثير في رواية كفلها بكسر الفاء وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان كالهيجاء والهيجا وقرأ مجاهد فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا وَأَنبَتَهَا وَكَفَّلَهَا على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ونصب رَبُّهَا كأنها كانت تدعو الله فقالت اقبلها يا ربها وأنبتها يا ربها واجعل زكريا كافلاً لها
المسألة الثالثة اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت فقال الأكثرون كان ذلك حال طفوليتها وبه جاءت الروايات وقال بعضهم بل إنما كفلها بعد أن فطمت واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ثم قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني أنه تعالى قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً
وأما الحجة الثانية فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة(8/26)
ثم قال الله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الْمِحْرَابَ الموضع العالي الشريف قال عمر بن أبي ربيعة
ربة محراب إذا جئتها
لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( ص 21 ) والتسور لا يكون إلا من علو وقيل المحراب أشرف المجالس وأرفعها يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون فإن قلنا إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث أن التنكر في قوله وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل رزقاً أي رزق غريب عجيب وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع هو أنه تعالى قال وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق وإلا لم يصح ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر
قلنا ليس هذا بآية بل يحتاج تصحيحه إلى آية فكيف نحمل الآية على ذلك بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة فنقول إما أن يقال إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم أَنَّى لَكِ هَاذَا وأيضاً فقوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال(8/27)
إلا بأخبار مريم ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام أو كانت كرامة لمريم عليها السلام وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء
اعترض أبو علي الجبائي وقال لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام وبيانه من وجهين الأول أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها فقالت هو من عند الله لا من عند غيره
المقام الثاني أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي فكان يسألها عن كيفية الحال هذا مجموع ما قاله الجبائي في ( تفسيره ) وهو في غاية الضعف لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ولم يبق أيضاً لقوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فائدة وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم
والجواب من وجوه الأول وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني قال بعضهم الأنبياء مأمورون بإظهارها والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ أي بغير تقدير لكثرته أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها وهذا كقوله وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 3 ) وههنا آخر الكلام في قصة حنة(8/28)
القصة الثانية
واقعة زكريا عليه السلام
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّة ً طَيِّبَة ً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قولنا ثم وهناك وهنالك يستعمل في المكان ولفظة عند وحين يستعملان في الزمان قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ( الأعراف 119 ) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه وقال تعالى إِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) أي في ذلك المكان الضيق ثم قد يستعمل لفظة هُنَالِكَ في الزمان أيضاً قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ ( الكهف 44 ) فهذا إشارة إلى الحال والزمان
إذا عرفت هذا فنقول قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إن حملناه على المكان فهو جائز أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام وشاهد تلك الكرامات دعا ربه وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز يعني في ذلك الوقت دعا ربه
المسألة الثانية اعلم أن قوله هُنَالِكَ دَعَا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء وقد اختلفوا فيه والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ومن فاكهة الشتاء في الصيف فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر
والقول الثاني وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء وإرهاصات الأنبياء قالوا إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك واعلم أن القول الأول أولى وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلاً خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم والزوجة العاقر من خوارق العادات فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى
فإن قيل إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام
فإن قلنا إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله(8/29)
تعالى فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك فلا يبقى لقوله هنالك أثر
والجواب أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات
المسألة الثالثة إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذ تصير دعوته مردودة وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هكذا قاله المتكلمون وعندي فيه بحث وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في لفظة لَّدُنْ فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى أُريد منك إلاهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب
المسألة الثانية لذرية النسل وهو لفظ يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد منه ههنا ولد واحد وهو مثل قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ( مريم 5 ) قال الفراء وأنث طَيّبَة ً لتأنيث الذرية في الظاهر فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ وتارة على المعنى وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس أما في أسماء الأعلام فلا لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير
المسألة الثالثة قوله تعالى إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه وهو كقول المصلين سمع الله لمن حمده يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 )
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
وفيه مسألتان(8/30)
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي فناداه الملائكة على التذكير والإمالة والباقون على التأنيث على اللفظ وقيل من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم ومن أنث فلأن الفعل للملائكة وقرأ ابن عامر الْمِحْرَابَ بالإمالة والباقون بالتفخيم وفي قراءة ابن مسعود فناداه جبريل
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة ولا شك أن هذا في التشريف أعظم فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه وحملنا هذ اللفظ على التأويل فإنه يقال فلان يأكل الأطعمة الطيبة ويلبس الثياب النفيسة أي يأكل من هذا الجنس ويلبس من هذا الجنس مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة ولم يلبس جميع الأثواب فكذا ههنا ومثله في القرآن الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) وهم نعيم بن مسعود إن الناس يعني أبا سفيان قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه فلما كان جبريل رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك
أما قوله وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم والمحراب قد ذكرنا معناه
أما قوله أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 ) وفي قوله يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى وجهان الأول أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية فإذا قيل إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وحمزة ءانٍ بكسر الهمزة والباقون بفتحها أما الكسر فعلى إرادة القول أو لأن النداء نوع من القول وأما الفتح فتقديره فنادته الملائكة بأن الله يبشرك
المسألة الثالثة قرأ حمزة والكسائي يُبَشّرُكِ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وقرأ الباقون يُبَشّرُكِ وقرىء أيضاً يُبَشّرُكِ قال أبو زيد يقال بشر يبشر بشراً وبشر يبشر تبشيراً وأبشر يبشر ثلاث لغات
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي يَحْيَى بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع
الصفة الأولى قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ نصب على الحال لأنه نكرة ويحيى معرفة
المسألة الثانية في المراد بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ قولان الأول وهو قول أبي عبيدة أنها كتاب من الله واستشهد بقولهم أنشد فلان كلمة والمراد به القصيدة الطويلة(8/31)
والقول الثاني وهو اختيار الجمهور أن المراد من قوله بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ هو عيسى عليه السلام قال السدي لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى فقالت يا مريم أشعرت أني حبلى فقالت مريم وأنا أيضاً حبلى قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقال ابن عباس إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام فإن قيل لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية وفي قوله إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ( النساء 171 ) قلنا فيه وجوه الأول أنه خلق بكلمة الله وهو قوله كُنَّ من غير واسطة الأب فلما كان تكوينه بمحض قول الله كُنَّ وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر لا جرم سمى كلمة كما يسمى المخلوق خلقاً والمقدور قدرة والمرجو رجاء والمشتهي شهوة وهذا باب مشهور في اللغة والثاني أنه تكلم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما والثالث أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلاهية فسمى كلمة بهذا التأويل وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح وقد سمى الله القرآن روحاً فقال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) والرابع أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال قد جاء قولي وجاء كلامي أي ما كنت أقول وأتكلم به ونظيره قوله تعالى وَكَذالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( غافر 6 ) وقال وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر 71 ) الخامس أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم كلمة الله وروح الله واعلم أن كلمة الله هي كلامه وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال أنها هي ذات عيسى عليه السلام ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل
الصفة الثانية ليحيى عليه السلام قوله وَسَيّدًا والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس السيد الحليم وقال الجبائي إنه كان سيداً للمؤمنين رئيساً لهم في الدين أعني في العلم والحلم والعبادة والورع وقال مجاهد الكريم على الله وقال ابن المسيب الفقيه العالم وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب قال القاضي السيد هو المتقدم المرجوع إليه فلما كان سيداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع
الصفة الثالثة قوله وَحَصُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل أي اعتقل بطنه والحصور الذي يكتم السر ويحبسه والحصور الضيق البخيل وأما المفسرون(8/32)
فلهم قولان أحدهما أنه كان عاجزاً عن إتيان النساء ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ومنهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال ومنهم من قال كان ذلك لعدم القدرة فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول كأنه قال محصور عنهن أي محبوس ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً
والقول الثاني وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب والظلوم والغشوم والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل
الصفة الرابعة قوله وَنَبِيّا واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك لأنه ليس بعدهما إلا النبوة
الصفة الخامسة قوله مّنَ الصَّالِحِينَ وفيه ثلاثة أوجه الأول معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني أنه خير كما يقال في الرجل الخير ( أنه من الصالحين ) والثالث أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم )
فإن قيل لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح
قلنا أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وتحقيق القول فيه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم
قوله تعالى قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ في الآية سؤالات(8/33)
السؤال الأول قوله رَبّ خطاب مع الله أو مع الملائكة لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك يا رب
والجواب للمفسرين فيه قولان الأول أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي ويجوز وصف المخلوق به فإنه يقال فلان يربيني ويحسن إلي
السؤال الثاني لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده
الجواب لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ولا خلق إلا من نطفة لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان
والوجه الثاني أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى فثبت بهذين الوجهين أن قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ليس للاستبعاد بل ذكر العلماء فيه وجوهاً الأول أنه قوله إِنّى معناه من أين ويحتمل أن يكون معناه كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته فقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ معناه كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني فقيل له كذلك أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول كيف حصل هذا ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالاً عظيمة يقول كيف وهبت هذه الأموال ومن أين سمحت نفسك بهبتها فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعداً لذلك ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس نقل سفيان بن عيينة أنه قال كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال السادس نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء(8/34)
الشيطان قال القاضي لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال
أما قوله تعالى وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن قال ابن عباس كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان
المسألة الثانية قال أهل المعاني كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وكلما جاز أن يقول بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب لقيت الحائط وتلقاني الحائط
فإن قيل يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد قلنا هذا لا يجوز والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب فظهر الفرق
أما قوله وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد يقال عقر يعقر عقراً ويقال أيضاً عقر الرجل وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له ورمل عاقر لا ينبت شيئاً واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد
أما قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ففيه بحثان الأول أن قوله قَالَ عائد إلى مذكور سابق وهو الرب المذكور في قوله قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) كَذالِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله ويفعل ما يشاء بيان له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِى ِّ وَالإِبْكَارِ
واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه وإنعامه عليه أحب أن يجعل له(8/35)
علامة تدل على حصول العلوق وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال رَبّ اجْعَل لِّى ءايَة ً فقال الله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكره ههنا ثلاثة أيام وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً وفيه فائدتان إحداهما أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله تعالى وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعاً لكل المقاصد
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات
القول الثاني في تفسير هذه الآية وهو قول أبي مسلم أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق قال آيتك أن لا تكلم أي تصير مأموراً بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق أي تكون مشتغلاً بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب وهذا القول عندي حسن معقول وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف
القول الثالث روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام
أما قوله إِلاَّ رَمْزًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى أصل الرمز الحركة يقال ارتمز إذا تحرك ومنه قيل للبحر الراموز ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد أو الرأس أو الحاجب أو العين أو الشفة والثاني أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا وحمل الرمز على هذا المعنى أولى لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه
فإن قيل الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه
قلنا لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن(8/36)
حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل
المسألة الثانية قرأ يحيى بن وثاب إِلاَّ رَمْزًا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل وقرىء رَمْزًا بفتح الراء والميم جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس ومعنى إِلاَّ رَمْزًا إلا مترامزين كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم
ثم قال الله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وفيه قولان أحدهما أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا إِلاَّ رَمْزًا فأما في الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيداً وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ولذلك قالوا من عرف الله كل لسانه فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها
وَسَبّحْ بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى العشي من حين نزول الشمس إلى أن تغيب قال الشاعر فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشى تذوق
والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار ومثله بكر وابتكر وبكر ومنه الباكورة لأول الثمرة هذا هو أصل اللغة ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى إبكاراً كما سمي إصباحاً وقرأ بعضهم بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار ويقال أتيته بكراً بفتحتين
المسألة الثانية في قوله وَسَبّحْ قولان أحدهما المراد منه وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فرق وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وثانيهما أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ محمول على الذكر باللسان
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَاكِعِينَ
وفيه مسائل(8/37)
المسألة الأولى عامل الإعراب ههنا في إِذْ هو ما ذكرناه في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ( آل عمران 35 ) من قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ثم عطف عليه إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وقيل تقديره واذكر إذ قالت الملائكة
المسألة الثانية قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده وهذا كقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) يعني جبريل وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام وهو قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 )
المسألة الثالثة اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى ( يوسف 109 ) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام وذلك جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة أو معجزة لزكرياء عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة ومن الناس من قال إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 )
المسألة الرابعة اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً هو الاصطفاء وثانياً التطهير وثالثاً الاصطفاء على نساء العالمين ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني لما أن التصريح بالتكرير غير لائق فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها
النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور أحدها أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها قال الحسن إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها أنه تعالى فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها أنه كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وخامسها أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول وأما التطهير ففيه وجوه أحدها أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية فهو كقوله تعالى في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وثانيها أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها طهرها عن الحيض قالوا كانت مريم لا تحيض ورابعها وطهرك من الأفعال الذميمة والعادات القبيحة وخامسها وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم
وأما الاصطفاء الثاني فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة وجعلها وابنها آية للعالمين فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة(8/38)
المسألة الخامسة روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( حسبك من نساء العالمين أربع مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة عليهن السلام ) فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها فهذا ترك الظاهر
ثم قال تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات شكراً لتلك النعم السنية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع
والجواب من وجوه الأول أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام ( أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ) فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات
ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث قال ابن الأنباري قوله تعالى اقْنُتِى أمر بالعبادة على العموم ثم قال بعد ذلك وَاسْجُدِى وَارْكَعِى يعني استعملي السجود في وقته اللائق به واستعملي الركوع في وقته اللائق به وليس المراد أن يجمع بينهما ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ق 40 ) وفي الحديث ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز
إذا ثبت هذا فنقول قوله الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى معناه يا مريم قومي وقوله وَاسْجُدِى أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله وَاسْجُدِى أمراً بالصلاة حال الانفراد وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالصلاة في الجماعة أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله وَاسْجُدِى أمراً ظاهراً بالصلاة وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب
الوجه الخامس في الجواب لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع
السؤال الثاني اما المراد من قوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ
والجواب قيل معناه افعلي كفعلهم وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه وإن كانت لا تختلط بهم
السؤال الثالث لم لم يقل واركعي مع الراكعات
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء(8/39)
واعلم أن المفسرين قالوا لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها
ذالِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي
فإن قيل لم نفيت هذه المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم
قلنا كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ونظيره وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ( القصص 46 ) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ( يوسف 102 ) ( يوسف 102 ) وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 )
المسألة الثانية الأنباء الإخبار عما غاب عنك وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وقال في الشياطين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ( الأنعام 121 ) وقال فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً
أما قوله تعالى إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً الأول المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم هذا قول الربيع والثالث قال أبو مسلم معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر وقد قال الله تعالى فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( الصافات 141 ) وهو شبيه(8/40)
بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً
قال القاضي وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل لفظ القلم عليه
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة فقال بعضهم إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها وقال بعضهم إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها وقال آخرون بل لأن في الكتب الإلاهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا فمنهم من قال كانوا هم خدمة البيت ومنهم من قال بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق
أما قوله أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه حذف والتقدير يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً
أما قوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهماتها وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( آل عمران 35 ) وقالت إِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران 36 )
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(8/41)
اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام فقال إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في العامل في إِذْ قيل العامل فيه وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة وقيل يختصمون إذ قالت الملائكة وقيل إنه معطوف على إِذْ الأولى في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وقيل التقدير إن ما وصفته من أمور زكريا وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك وأما أبو عبيدة فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف وهو أن إِذْ صلة في الكلام وزيادة واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام إلا قول الحسن فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر فإن ذلك كان من كراماتها فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل ومنهم من تكلف الجواب فقال يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع كما تقول لقيته في سنة كذا وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث والرابع أما قول أبي عبيدة فقد عرفت ضعفه والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام وقد قررناه فيما تقدم وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
وأما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله كُنَّ إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ومحض الكرم وصريح الإقبال فكذا ههنا
والوجه الثاني أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل
فإن قيل ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم والنطق أمر ممكن وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص لا من نطفة الأب وإذا ثبت الإمكان ثم إن المعجز قام على صدق النبي فوجب أن يكون صادقاً ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك فثبت صحة ما ذكرناه الثاني ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول أن الفلاسفة اتفقوا على(8/42)
أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجباً وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجباً فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان
الوجه الثاني وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر والحيات عن الشعر والعقارب عن الباذروج وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعاً
الوجه الثالث وهو أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط وقد ذكروا في ( كتب الفلسفة ) أمثلة كثيرة لهذا الباب وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها وإذا كان كل هذه الوجوه ممكناً محتملاً كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولاً غير ممتنع ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلاً إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلاً عن العلم فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته
أما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فلفظة مِنْ ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملاً للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه بل المراد من كلمة مِنْ ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة اللَّهِ مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية
وأما قوله تعالى اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ففيه سؤالات
السؤال الأول المسيح هل هو اسم مشتق أو موضوع
والجواب فيه قولان الأول قال أبو عبيدة والليث أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيروا لفظه وعيسى أصله يشوع كما قالوا في موسى أصله موشى أو ميشا بالعبرانية وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق(8/43)
والقول الثاني أنه مشتق وعليه الأكثرون ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه الثاني قال أحمد بن يحيى سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ومنه مساحة أقسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث أنه كان مسيحاً لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى فعلى هذه الأقوال هو فعيل بمعنى فاعل كرحيم بمعنى راحم الرابع أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص فكان ممسوح القدمين والسادس سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم ثم قالوا وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً السابع سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان الثامن سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن وعلى هذه الأقوال يكون المسيح بمعنى الممسوح فعيل بمعنى مفعول قال أبو عمرو بن العلاء المسيح الملك وقال النخعي المسيح الصديق والله أعلم ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً لا لدلالة اللغة عليه وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين أحدهما لأنه ممسوح أحد العينين والثاني أنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة قالوا ولهذا قيل له دجال لضربه في الأرض وقطعه أكثر نواحيها يقال قد دجل الدجال إذا فعل ذلك وقيل سمي دجالاً من قوله دجل الرجل إذا موه ولبس
السؤال الثاني المسيح كان كاللقب له وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم
الجواب أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولاً بلقبه ليفيد علو درجته ثم ذكره باسمه الخاص
السؤال الثالث لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم
الجواب لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته
السؤال الرابع الضمير في قوله اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير
الجواب لأن المسمى بها مذكر
السؤال الخامس لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والاسم ليس إلا عيسى وأما المسيح فهو لقب وأما ابن مريم فهو صفة
الجواب الاسم علامة المسمى ومعرف له فكأنه قيل الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة
أما قوله تعالى وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر يقال وجه الرجل يوجه وجاهة هو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان وقال بعض أهل اللغة الوجيه هو الكريم لأن أشرف(8/44)
أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال
واعلم أن الله تعالى وصف موسى ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى كَبِيراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ( الأحزاب 69 ) ثم للمفسرين أقوال الأول قال الحسن كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني أنه وجيه عند الله تعالى وأما عيسى عليه السلام فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عن الله تعالى
فإن قيل كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه قلنا قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام فكذا ههنا
المسألة الثانية قال الزجاج وَجِيهاً منصوب على الحال المعنى أن الله يبشرك بهذا الولد وجيهاً في الدنيا والآخرة والفراء يسمي هذا قطعاً كأنه قال عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف
أما قوله وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ولذلك قال تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً ( الواقعة 7 ) إلى قوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 )
أما قوله تعالى وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى الواو للعطف على قوله وَجِيهاً والتقدير كأنه قال وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين وهذا المجموع جملة واحدة ثم قال وَيُكَلّمُ النَّاسَ فقوله وَيُكَلّمُ النَّاسَ عطف على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ
المسألة الثانية في المهد قولان أحدهما أنه حجر أمه والثاني هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع وكيف كان المراد منه فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه و كان في المهد
المسألة الثالثة قوله وَكَهْلاً عطف على الظرف من قوله فِى الْمَهْدِ كأنه قيل يكلم الناس صغيراً وكهلاً وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الكهل(8/45)
الجواب الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بجميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال
السؤال الثاني أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات فما الفائدة في ذكره
والجواب من وجوه الأول أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم إن عيسى كان إلاهاً والثاني المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث قال أبو مسلم معناه أنه يكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع قال الأصم المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة
السؤال الثالث نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر وعلى هذا التقدير فهو ما بلغ الكهولة
والجواب من وجهين الأول بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين فصح وصفه بكونه كهلاً في هذا الوقت والثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي أن المراد بقوله وَكَهْلاً أن يكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس ويقتل الدجال قال الحسين بن الفضل وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض
المسألة الرابعة أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلاهاً ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة وقالوا إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة وكان الحاضرون جمعاً قليلين فالسامعون لذلك الكلام كان جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء وبتقدير أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً(8/46)
مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب لما قرأ على النجاشي سورة مريم قال النجاشي لا تفاوت بين واقعة عيسى وبين المذكور في هذا الكلام بذرة
ثم قال تعالى وَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل كون عيسى كلمة من الله تعالى وكونه وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وكونه من المقربين عند الله تعالى وكونه مكلماً للناس في المهد وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله وَمِنَ الصَّالِحِينَ
قلنا إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
قال المفسرون إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( غافر 68 ) تقدم تفسيره في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم وَيُعَلّمُهُ بالياء والباقون بالنون أما الياء فعطف على قوله يَخْلُقُ مَا يَشَاء وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة وكذا وكذا وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا وإن كان إخباراً على وجه المغايبة فقال ونعلمه لأن معنى قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء معناه كذلك نحن نخلق ما نشاء إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ والله أعلم
المسألة الثانية في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف والأقرب عندي أن يقال المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ثم بعد أن صار(8/47)
عالماً بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة لأن التوراة كتاب إلاهي وفيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلاهية ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط ثم تعلم علوم الحق ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة
وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ والاٌّ بْرَصَ وَأُحْى ِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول تقدير الآية ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني قال الزجاج الاختيار عندي أن تقديره ويكلم الناس رسولاً وإنما أضمرنا ذلك لقوله أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ والمعنى ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم الثالث قال الأخفش إن شئت جعلت الواو زائدة والتقدير ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أني قد جئتكم بآية
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم
المسألة الثالثة المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ الجنس لا الفرد
ثم قال أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام
النوع الأول
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة إِنّى بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح إِنّى فقد جعلها بدلاً(8/48)
من آية كأنه قال وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين ومن كسر فله وجهان أحدهما الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني أنه فسّر الآية بقوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( الفتح 29 ) ثم فسّر الموعود بقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وقال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) ثم فسّر المثل بقوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح إِنّى على جعله بدلاً من آية
المسألة الثانية أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ ( البقرة 21 ) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) أي المقدرين وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية وثانيها أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 137 ) وفي العنكبوت وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( العنكبوت 17 ) وفي سورة ص إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( ص 7 ) والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله خُلِقَ إشارة إلى الماضي فلو حملنا قوله خُلِقَ على الإيجاد والإبداع لكان المعنى أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي وذلك باطل بالاتفاق فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض وأما الشعر فقوله
ولأنت تفري ما خلقت وبع
ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد فهو أنه يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير وفلان خليق بكذا أي له هذا المقدار من الاستحقاق والصخرة الخلقاء الملساء لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في لفظ الْخَالِقُ قال أبو عبد الله البصري إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال وقال أصحابنا الخالق ليس إلا الله واحتجوا عليه بقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الرعد 16 ) ومنهم من احتج بقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ ( فاطر 3 ) وهذا ضعيف لأنه تعالى قال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء ( فاطر 3 ) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه ليس إلا الله صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله(8/49)
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت
إذا عرفت هذا فنقول أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ معناه أصور وأقدر وقوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله فَأَنفُخُ فِيهِ أي في ذلك الطين المصور وقوله فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَيَكُونُ بالألف على الواحد والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً على الجمع وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش فأخذ طيناً وصوره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ثم اختلف الناس فقال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش وكانت قراءة نافع عليه وقال آخرون إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه
المسألة الثانية قال بعض المتكلمين الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالفتح ثم ههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً أو يقال ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال
المسألة الثالثة القرآن دلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل ( صلى الله عليه وسلم ) روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح
المسألة الرابعة قوله بِإِذُنِ اللَّهِ معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بأن يوجد الله الموت وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل
واما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ(8/50)
ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل ويقال إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب ( التفسير ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده قال الكلبي كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر وكان صديقاً له ودعا سام بن نوح من قبره فخرج حياً ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وولد له وقوله بِإِذُنِ اللَّهِ رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلاهية
وأما النوع الخامس
من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُواْ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا له ليسوا في البيت فقال فمن في هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير
والقول الثاني إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار فكانوا يخزنون ويدخرون فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك
المسألة الثانية الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل(8/51)
المعجزة في الحمل على الصدق بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي وهم البراهمة فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة
وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَلاٌّ حِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
اعلم أنه عليه السلام لما بيّن بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولاً من عند الله تعالى بيّن بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا في قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ ( آل عمران 49 ) أن تقديره وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ فقوله وَمُصَدّقًا معطوف عليه والتقدير وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ وإني بعثت مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها
المسألة الثانية إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة فكل من حصل له المعجز وجب الاعتراف بنبوته فلهذا قلنا بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين
وأما المقصود الثاني من بعثة عيسى عليه السلام قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ
وفيه سؤال وهو أنه يقال هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرماً عليه في التوراة وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة وهذا يناقض قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
والجواب إنه لا تناقض بين الكلام وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها مناقضاً(8/52)
لكونه مصدقاً بالتوراة وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة ثم اختلفوا فقال بعضهم إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة قال وهب بن منبه إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ثم إنه فسّر قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ بأمرين أحدهما إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق
ثم قال وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعاً في قلوبهم ومؤثراً في طباعهم ثم خوفهم فقال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي ثم إنه ختم كلامه بقوله إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون إنه إلاه وابن إلاه لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه ثم قال فَاعْبُدُوهُ والمعنى أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ثم أكد ذلك بقوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك(8/53)
ههنا قصة ولادته وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أنهم تكلموا بالكفر فأحس ذلك بإذنه والثاني أن نحمله على التأويل وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر وعزمهم على قتله ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة فيه مثل العلم الحاصل من الحواس لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس
المسألة الثانية اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول قال السدي أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة فكان مستضعفاً وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك قالت يا بني ادع الله ليكفي ذلك فقال يا أماه إن فعلت ذلك كان شر فقالت قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً وما في الخوابي خمراً فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال عيسى لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً فقال ما أبالي ما كان إذا رأيته وإن أحييته تركتك على ما تفعل فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق وقصد اليهود قتله وأظهروا الطعن فيه والكفر به
والقول الثاني إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه طالبين قتله فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله
والقول الثالث إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ فما أجابه إلا الحواريون فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله
أما قوله تعالى قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ففيه مسألتان(8/54)
المسألة الأولى في الآية أقوال الأول أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام الآن تصيد السمك فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام
والقول الثاني أن قوله مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ثم ههنا احتمالات الأول أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه فقال له عيسى حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه
والاحتمال الثاني أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى ( الصف 14 )
المسألة الثانية قوله إِلَى اللَّهِ فيه وجوه الأول التقدير من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني التقدير من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ويظهر أمر الله تعالى الثالث قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي معها وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الذود إلى الذود إبل ) أي مع الذود
قال الزجاج كلمة إِلَى ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول ذهب زيد مع عمرو لأن إِلَى تفيد الغاية و مَّعَ تفيد ضم الشيء إلى الشيء بل المراد من قولنا أن إِلَى ههنا بمعنى مَّعَ هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم وكذلك قوله عليه السلام ( الذود إلى الذود إبل ) معناه الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إذا ضحى ( اللّهم منك وإليك ) أي تقرباً إليك ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته إِلَى أي انضم إلى فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس أن يكون إِلَى بمعنى اللام كأنه قال من أنصاري لله نظيره قوله تعالى قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ ( يونس 35 ) والسادس تقدير الآية من أنصاري في سبيل الله و ( إلى ) بمعنى ( في ) جائز وهذا قول الحسن(8/55)
أما قوله تعالى قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في لفظ الحواري وجوهاً الأول أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل وخالصته ومنه يقال للدقيق حواري لأنه هو الخالص منه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( إنه ابن عمتي وحواري من أمتي ) والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم
القول الثاني الحواري أصله من الحور وهو شدة البياض ومنه قيل للدقيق حواري ومنه الأحور والحور نقاء بياض العين وحورت الثياب بيضتها وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم فقال سعيد بن جبير لبياض ثيابهم وقيل كانوا قصارين يبيضون الثياب وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم وإشارة إلى نقاء قلوبهم كالثوب الأبيض وهذا كما يقال فلان نقي الجيب طاهر الذيل إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة وفلان دنس الثياب إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي
القول الثالث قال الضحاك مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري وقال مقاتل بن سليمان الحواريون هم القصارون وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته
المسألة الثانية اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا
فالقول الأول إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم ( تعالوا نصطاد الناس ) قالوا من أنت قال ( أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله ) فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به فهم الحواريون
القول الثاني قالوا سلمته أمه إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته فقال له ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان بحيث يتم المقصود عند رجوعي ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً وجعل الجميع فيه وقال ( كوني بإذن الله كما أريد ) فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال قد أفسدت علي الثياب قال ( قم فانظر ) فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما كان يريد إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به فهم الحواريون
القول الثالث كانوا الحواريون إثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا قالوا يا روح الله جعنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا يا روح الله عطشنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك فقال ( أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ) فصاروا يغسلون الثياب بالكراء فسموا حواريين
القول الرابع أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه وكان(8/56)
عيسى عليه السلام على قصعة منها فكانت القصعة لا تنقص فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال تعرفونه قالوا نعم فذهبوا بعيسى عليه السلام قال من أنت قال أنا عيسى بن مريم قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه والمخلصين في محبته وطاعته وخدمته
المسألة الثالثة المراد من قوله الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال فالمراد منه ما ذكرناه
أما قوله بِاللَّهِ فَإِذَا فهذا يجري مجرى ذكر العلة والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أنا آمنا بالله فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه
ثم قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم إشهاد لله تعالى أيضاً ثم فيه قولان الأول المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى وقالوا رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة بِاللَّهِ فَإِذَا ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا وآمنوا برسول الله حيث قالوا وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ويفضل على درجته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) الثاني وهو منقول أيضاً عن ابن عباس فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 )
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً فأحيوا الموتى وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام
والقول الثالث فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم حيث قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر وتقوية له وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة
القول الرابع إن قوله فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين(8/57)
القول الخامس إنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) فجعل أولو العلم من الشاهدين وقرن ذكرهم بذكر نفسه وذلك درجة عظيمة ومرتبة عالية فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك
والقول السادس إن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان فقال ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية وهو أن يكون العبد في مقام الشهود لا في مقام الغيبة فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال إلى مقام الشهود والمكاشفة فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
القول السابع إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ذابين عنه قالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك
ثم قال تعالى وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أصل المكر في اللغة السعي بالفساد في خفية ومداجاة قال الزجاج يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم وقال الله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 30 ) وقال وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( يوسف 102 ) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ( يونس 71 ) فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور لا جرم سمي مكراً
المسألة الثانية أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله وأما مكر الله تعالى بهم ففيه وجوه الأول مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل عليه السلام لا يفارقه ساعة وهو معنى قوله وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( البقرة 87 ) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق فرقة قالت كان الله فينا فذهب وأخرى قالت كان ابن الله والأخرى قالت كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الجملة فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه
الوجه الثاني أن الحواريين كانوا إثنى عشر وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام(8/58)
فشمسوهم وعذبوهم فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل فقال لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له مطليس وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله
القول الرابع أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم وهو قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ( الإسراء 5 ) فهذا هو مكر الله تعالى بهم
القول الخامس يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم
المسألة الثالثة المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول وقيل التقدير ذاك إذ قال الله(8/59)
المسألة الثانية اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات
الصفة الأولى إِنّي مُتَوَفّيكَ ونظيره قوله تعالى حكاية عنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ( المائدة 117 ) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير فيها والثاني فرض التقديم والتأخير فيها أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول معنى قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي ومقربك بملائكتي وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني مُتَوَفّيكَ أي مميتك وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق قالوا والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها قال وهب توفي ثلاثة ساعات ثم رفع وثانيها قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه الثالث قال الربيع بن أنس أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( الزمر 42 )
الوجه الرابع في تأويل الآية أن الواو في قوله مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال فأما كيف يفعل ومتى يفعل فالأمر فيه موقوف على الدليل وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه سينزل ويقتل الدجال ) ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك
الوجه الخامس في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي وهو أن المراد إِنّي مُتَوَفّيكَ عن شهواتك وحظوظ نفسك ثم قال وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة
والوجه السادس إن التوفي أخذ الشيء وافياً ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 )
والوجه السابع إِنّي مُتَوَفّيكَ أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن
الوجه الثامن إن التوفي هو القبض يقال وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه كما يقال سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له
فإن قيل فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تكراراً
قلنا قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء فلما قال بعده وَرَافِعُكَ إِلَى َّ كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً
الوجه التاسع أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك وَرَافِعُكَ(8/60)
إِلَى َّ أي ورافع عملك إلي وهو كقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها
الطريق الثاني وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا إن قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ يقتضي أنه رفعه حياً والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول أن المراد إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 ) وإنما ذهب إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي وقد يسمي الحجاج زوار الله ويسمى المجاورون جيران الله والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا
الوجه الثاني في التأويل أن يكون قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله
الوجه الثالث إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى
الصفة الثالثة من صفات عيسى قوله تعالى وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى
الصفة الرابعة قوله وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وجهان الأول أن المعنى الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون وأما(8/61)
النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ هو الرفعة بالدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة
أما قوله ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فالمعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة والدرجات الرفيعة العالية وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به وبين الجاحدين برسالته وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ ( النساء 157 ) والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات
الإشكال الأول إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية
والإشكال الثاني وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له
والإشكال الثالث إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه
والإشكال الرابع أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه(8/62)
هو عيسى مع أنه ما كان عيسى فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى
والإشكال الخامس أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوّة عيسى بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل
والإشكال السادس أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ولقال إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ولبالغ في تعريف هذا المعنى ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات
والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور فكذا القول فيما ذكرتم
والجواب عن الثاني أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء وذلك غير جائز
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء
والجواب عن الرابع أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس
والجواب عن الخامس أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم
والجواب عن السادس إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بيّن بعد ذلك مفصلاً ما في(8/63)
ذلك الاختلاف أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا قال بعضهم إنه عقاب في حق الكافر وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً وقال الحسن إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً
فإن قيل فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره وهذا على خلاف قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّة ٍ ( النحل 61 ) وكلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا وأيضاً قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة والآيات التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام
المسألة الثانية لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ولسنا نجد الأمرر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتاً
قلنا بل التفاوت موجود في الدنيا لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم فزال الإشكال
المسألة الثالثة وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم
فإن قيل أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة
قلنا المانع هو العهد ولذلك إذا زال العهد حل قتله
وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم فَيُوَفّيهِمْ بالياء يعني فيوفيهم الله والباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله فَاحْكُمْ فَأُعَذّبُهُمْ وهو الأولى لأنه نسق الكلام(8/64)
المسألة الثانية ذكر الذين آمنوا ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً
المسألة الثالثة احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم
المسألة الرابعة المعتزلة احتجوا بقوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي قالوا لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص فقد يقال أحب زيداً ولا يقال أريده وأما إذا علقتا بالأفعال فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة فصار قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بمنزلة قوله ( لا يريد ظلم الظالمين ) هكذا قرره القاضي وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً
ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ و مِنَ الاْيَاتِ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي و نَتْلُوهُ صلته و مِنَ الاْيَاتِ الخبر
المسألة الثانية التلاوة والقصص واحد في المعنى فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية وفي قوله نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى ( القصص 3 ) وأضاف القصص إلى نفسه فقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى وهذا تشريف عظيم للملك وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى
المسألة الثالثة قوله مِنَ الاْيَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن ذلك من الوحي
المسألة الرابعة وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ فيه قولان الأول المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه الأول إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث أنه بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأزهري وهو شائع في اللغة لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى فرد إلى الأصل(8/65)
ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى الر كِتَابٌ ( هود 1 ) والرابع أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل
القول الثاني أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك والله أعلم بالصواب
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكان من جملة شبههم أن قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى فقال إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى فكذا القول في عيسى عليه السلام هذا حاصل الكلام وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم بل هذا أقرب إلى العقل فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس هذا تلخيص الكلام
ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) أي صفة الجنة
المسألة الثانية قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم قال الزجاج هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا
المسألة الثالثة اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة أحدها أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني أنه مخلوق من الماء قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ( الفرقان 54 ) والثالث أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ ( السجدة 7 8 ) والرابع أنه مخلوق من سلالة من(8/66)
طين قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 11 13 ) الخامس أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( الصافات 11 ) السادس إنه مخلوق من صلصال قال تعالى إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 28 ) السابع أنه مخلوق من عجل قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) الثامن قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( البلد 4 ) أما الحكماء فقالوا إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه الأول ليكون متواضعاً الثاني ليكون ستاراً الثالث ليكون أشد التصاقاً بالأرض وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) الرابع أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة والغضب والحرص فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ثم إنه في المرتبة الرابعة قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع
أحدها أنه من صلصال والصلصال اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت والثاني الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة وتغير لونه إلى السواد والثالث تغير رائحته قال تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام
المسألة الرابعة في الآية إشكال وهو أنه تعالى قال خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له كُنَّ وذلك غير جائز
وأجاب عنه من وجوه الأول قال أبو مسلم قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد وأما قوله كُنَّ فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله كُنَّ
والجواب الثاني وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له كُنَّ أي أحياه كما قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً
أجاب القاضي وقال بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن(8/67)
آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي إما المزاج المعتدل أو النفس وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي ولا شك أنها من أغمض المسائل
الجواب الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك تسمية لما سيقع بالواقع
والجواب الثالث أن قوله ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) ويقول القائل أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين ومراده أعطيته اليوم ألفاً ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له كُنَّ
المسألة الخامسة في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال كُنْ فَيَكُونُ
والجواب تأويل الكلام ثم قال له كُنْ فَيَكُونُ فكان
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك كُنَّ فإنه يكون لا محالة
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء والزجاج قوله الْحَقّ خبر مبتدأ محذوف والمعنى الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام الْحَقّ فحذف لكونه معلوماً وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره قوله مِن رَبّكَ وهذا كما تقول الحق من الله والباطل من الشيطان وقال آخرون الحق رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق
وقيل أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير تقديره من ربك الحق فلا تكن
المسألة الثانية الامتراء الشك قال ابن الأنباري هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله كأنه يستخرج غضبه ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه
المسألة الثالثة في الحق تأويلان الأول قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلاهاً واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك(8/68)
والقول الثاني أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ خطاب في الظاهر مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه وذلك غير جائز واختلف الناس في الجواب عنه فمنهم من قال الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء والثاني أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى فدم على يقينك وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
اعلم أن الله تعالى بيّن في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى فعند ذلك قال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ إلى آخر الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي ما الدليل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول فقال النصراني أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه(8/69)
كان إلاهاً فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً ثم صار مترعرعاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً
والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة وقد مزقوا ضلعه وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد فإن كان إلاهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزءاً من الإله حاك فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه ولم لم يهلكهم بالكلية وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهما وبالله أنني لأتعجب جداً إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده
والوجه الثالث وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد أو يقال حل الإله بكليته فيه أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول فلأن إلاه العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إلاه العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلاها ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود فالإلاه الذي تقتله اليهود إلاه في غاية العجزا وأما الثاني وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم فهو أيضاً فاسد لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره وكل ذلك سخف وأما الثالث وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلاهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلاهاً وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلاهية لم يكن جزأ من الإله فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطلاً
الوجه الرابع في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ولو كان إلاهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم ثم قلت للنصراني وما الذي دلك على كونه إلاهاً فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد فقال الفرق ظاهر وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا فقلت له تبين(8/70)
الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة
الوجه الخامس أن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلاهاً ولا ابناً للإلاه فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلاهية كان ذلك أولى وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم
المسألة الثانية روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال عليه السلام ( إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم ) فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ثم قالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا فقال فإني أناجزكم القتال فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة ثم علي رضي الله عنهما ثم قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث
المسألة الثالثة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى عليه السلام وقيل الهاء تعود إلى الحق في قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( هود 17 ) مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية(8/71)
والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل فقل تعالوا أصله تعاليوا لأنه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فسكنت ثم حذفت لاجتماع الساكنين وأصله العلو والارتفاع فمعنى تعالى ارتفع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء وصار بمنزلة هلم
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين فوجب أن يكونا ابنيه ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ( الأنعام 85 ) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً والله أعلم
المسألة الخامسة كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام قال والذي يدل عليه قوله تعالى وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ وليس المراد بقوله وَأَنفُسَنَا نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك ولانعقاد الإجماع على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه فيبقى فيما وراءه معمولاً به ثم الإجماع دل على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ثم قال ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله عليه السلام ( من أراد أن يرى آدم في علمه ونوحاً في طاعته وإبراهيم في خلته وموسى في هيبته وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة هذا تقدير كلام الشيعة والجواب أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً عليه السلام أفضل من علي فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام
المسألة السادسة قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا والابتهال فيه وجهان أحدهما أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء وإن لم يكن باللعن ولا يقال ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله أي لعنته وأصله مأخوذ مما(8/72)
يرجع إلى معنى اللعن لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة كالرجل الطريد المنفي وتحقيق معنى الكلمة أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً فقال علي بهلة الله إن كان كذا يقول وكلني الله إلى نفسي وفرضني إلى حولي وقوتي أي من كلاءته وحفظه كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها ويقال أيضاً رجل باهل إذا لم يكن معه عصاً وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه والقول الأول أولى لأنه يكون قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي ثم نجتهد في الدعاء ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير ثم نبتهل أي ثم نلتعن فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وهي تكرار بقي في الآية سؤالات أربع
السؤال الأول الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه
والجواب إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه
السؤال الثاني هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الجواب أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ثم لا ينزل العذاب فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان من أعقل الناس فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم وثانيهما إن القوم لما تركوا مباهلته فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته وإلا لما أحجموا عن مباهلته
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنهم كانوا شاكين فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحاً منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى(8/73)
السؤال الثالث أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة فكذا ههنا وأيضاً فبتقدير نزول العذاب كان ذلك مناقضاً لقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 )
والجواب الخاص مقدم على العام فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك
السؤال الرابع قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هل هو متصل بما قبله أم لا
والجواب قال أبو مسلم إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله الْكَاذِبِينَ وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق ءانٍ أن تكون مفتوحة إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله لَهُوَ كما في قوله إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( العاديات 11 ) وقال الباقون الكلام تم عند قوله عَلَى الْكَاذِبِينَ وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها والله أعلم
إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ هَذَا إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ومن الدعاء إلى المباهلة لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل
المسألة الثانية هُوَ في قوله لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فيه قولان أحدهما أن يكون فصلاً وعماداً ويكون خبر ءانٍ هو قوله الْقَصَصُ الْحَقُّ
فإن قيل فكيف جاز دخول اللام على الفصل
قلنا إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ
والقول الثاني إنه مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر ءانٍ
المسألة الثالثة قرىء لَهُوَ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون لأن اللام ينزل من هُوَ منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد(8/74)
المسألة الرابعة يقال قص فلان الحديث يقصه قصاً وقصصاً وأصله اتباع الأثر يقال خرج فلان قصصاً وفي أثر فلان وقصاً وذلك إذا اقتص أثره ومنه قوله تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبراً بعد خبر وسوقه الكلام سوقاً فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة
ثم قال وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وهذا يفيد تأكيد النفي لأنك لو قلت عندي من الناس أحد أفاد أن عندك بعض الناس فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد أفاد أنه ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ مبالغة في أنه لا إلاه إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى
ثم قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكأنه تعالى قال هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه والثاني أنهم قالوا إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها فيكون إلاهاً فكأنه تعالى قال هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون حكيماً أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العَزِيزُ الحَكِيمُ ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( آل عمران 6 )
ثم قال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ والمعنى فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله فإن الله عليم بفساد المفسدين مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(8/75)
واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم فكأنه تعالى قال يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال و قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيه لأحد على صاحبه وهي أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ
أما قوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ففيه ثلاثة أقوال أحدها المراد نصارى نجران والثاني المراد يهود المدينة والثالث أنها نزلت في الفريقين ويدل عليه وجهان الأول أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني روي في سبب النزول أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى وقالت النصارى يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية وعندي أن الأقرب حمله على النصارى لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولاً ثم باهلهم ثانياً فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف وترك المجادلة وطلب الإفحام والإلزام ومما يدل عليه أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً لكتاب الله ونظيره ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله وللمفسر يا مفسر كلام الله فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف
أما قوله تعالى تَعَالَوْاْ فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه
أما قوله تعالى إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه والسواء هو العدل والإنصاف وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل
ثم قال الزجاج سَوَآء نعت للكملة يريد ذات سواء فعلى هذا قوله كَلِمَة ٍ سَوَاء أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة ثم قال أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى محل ءانٍ في قوله أن لا نعبد فيه وجهان الأول إنه رفع بإضمار هي كأن قائلاً قال ما تلك الكلمة فقيل هي أن لا نعبد إلا الله والثاني خفض على البدل من كلمة
المسألة الثانية إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وثانيها أن لا نُشْرِكَ بِهِ(8/76)
شَيْئاً وثالثها أن لاَّ يَتَّخِذِ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة أب وابن وروح القدس فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء وإنما قلنا إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة لأنهم قالوا إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه
أحدها إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث قال أبو مسلم من مذهبهم أن من صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي ولا معنى للربوبية إلا ذلك ونظيره قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه دون الأحبار والرهبان فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ والمعنى إن أبوا إلا الإصرار فقولوا إنا مسلمون يعني أظهروا أنكم على هذا الدين لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاة ُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن اليهود كانوا يقولون إن إبراهيم كان على ديننا والنصارى كانوا يقولون كان إبراهيم على ديننا فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً
فإن قيل فهذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون إن إبراهيم كان على دين الإسلام والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن فنقول فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه(8/77)
اليهود وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير كما إن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً
والجواب إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق ثم نقول أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم فالأمر فيه ظاهر لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء وكانت لهم شرائع معينة فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله واليهود لا يرضون بذلك وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فهذا هو المراد من الآية والله أعلم
هاأَنتُمْ هَاؤُلا ءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِى ُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَإِذْ أَنتُمْ بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن صنعتم وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز فمن حقق فعلى الأصل لأنهما حرفان ها و وَإِذْ أَنتُمْ ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال(8/78)
المسألة الثانية اختلفوا في أصل وَإِذْ أَنتُمْ فقيل ها تنبيه والأصل وَإِذْ أَنتُمْ وقيل أصله أَءنتُمْ فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و هَؤُلاء مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه وفيه لغتان القصر والمد فإن قيل أين خبر أنتم في قوله ها أنتم قلنا في ثلاثة أوجه الأول قال صاحب ( الكشاف ) ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و هَؤُلاء خبره و حَاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والثاني أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وخبر هَؤُلاء بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وَهَؤُلاء عطف بيان وحاججتم خبره وتقديره أنتم يا هؤلاء حاججتم
المسألة الثالثة المراد من قوله هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام
ثم يحتمل في قوله تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة
ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ كيفية تلك الأحوال
ثم بيّن تعالى ذلك مفصلاً فقال مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما
ثم قال وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة
ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلاهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه
فإن قيل قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى فكان أيضاً على دين النصارى أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول وإن أردتم به الموافقة في الفروع فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة بل كان كالمقرر لدين غيره وأيضاً من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم قلنا جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع(8/79)
موسى ثم في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة
ثم ذكر تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ فريقان أحدهما من اتبعه ممن تقدم والآخر النبي وسائر المؤمنين
ثم قال وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام
وَدَّت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود ونظير قوله تعالى في سورة البقرة وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( البقرة 109 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 )
واعلم أن مِنْ ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ ( المائدة 66 ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم وإنما قال لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ولم يقل أن يضلوكم لأن لَوْ للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ ( البقرة 96 )
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وهو يحتمل وجوهاً منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( البقرة 57 ) وقوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ ( النحل 25 ) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه
ثم قال تعالى وَمَا يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين(8/80)
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم
فقال يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لَمْ أصلها لما لأنها ما التي للاستفهام دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفاً ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) و فَبِمَ تُبَشّرُونَ ( الحجر 54 ) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو فبمه ولمه
المسألة الثانية في قوله لَّهُ مَقَالِيدُ وجوه الأول أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام ومنها ما في هذين الكتابين أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين أحدهما أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها ومثله قوله تعالى تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء ( آل عمران 99 )
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم ويظهرون غيره ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز
القول الثاني في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً
القول الثالث أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول فقوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم(8/81)
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما أنهم كانوا يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء تَلْبِسُونَ بالتشديد وقرأ يحيى بن و ثاب تَلْبِسُونَ بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كقوله عليه السلام ( كلابس ثوبي زور ) وقوله
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق فقوله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى المقام الأول وقوله وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً أحدها تحريف التوراة فيخلطون المنزل بالمحرف عن الحسن وابن زيد وثانيها إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس عن ابن عباس وقتادة وثالثها أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة وهذا قول القاضي ورابعها أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات
أما قوله تعالى وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين
أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه وجوه أحدها إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً وثانيها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ و لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ دال على أن ذلك فعلهم لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ثم يقول لم فعلتم وجوابه أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم(8/82)
وَقَالَت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قول بعضهم لبعض وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرائع في بعض الأوقات ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الوافي أنه كذاب فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته وقيل تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق
وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه
الوجه الثاني يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى لما قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ( النساء 137 ) أتبعه بقوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ وهو بمنزلة قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثاني أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ أمر بالنفاق
الوجه الثالث قال الأصم قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم لأن كثيراً مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم(8/83)
الاحتمال الثاني أن يكون قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول قال ابن عباس وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح واكفروا آخره يعني صلاة الظهر وتقريره أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر وهي آخر النهار وهي الكفر الثاني أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة
المسألة الثانية الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً الثاني أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس
المسألة الثالثة وجه النهار هو أوله والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه كما يقال لأول الثوب وجه الثوب روى ثعلب عن ابن الأعرابي أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار أي أول النهار وأنشد الربيع بن زياد فقال من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود وفيه وجهان الأول المعنى ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر(8/84)
شرائع التوراة فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم وعلى هذا التفسير تكون اللام في قوله تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان وكون هذه اللام صلة زائدة جائز كقوله تعالى رَدِفَ لَكُم ( النمل 72 ) والمراد ردفكم والثاني أنه ذكر قبل هذه الآية قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
ثم قال في هذه الآية وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم كأنهم قالوا ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه الدين دين الله ومثله في سورة البقرة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( البقرة 120 )
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم فنقول أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك فمتى أمر بعد ذلك بغيره وأرشد إلى غيره وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع وإن كان مخالفاً لما تقدم لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته فحيثما كان حكمه وجبت متابعته ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 142 ) يعني الجهات كلها لله فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف
ثم قال تعالى أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام فإن أخذنا بقراءة ابن كثير فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( القلم 14 15 ) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ثم حذف الجواب للاختصار وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ونظيره قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر أما قراءة من قرأ بقصر الألف من ءانٍ فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرىء سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) بالمد والقصر وكذا قوله أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ قرىء بالمد والقصر وقال امرؤ القيس(8/85)
تروح من الحي أم تبتكر
وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي فحذف ألف الاستفهام وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى
الوجه الثاني أن أولئك لما قالوا لأتباعهم لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أَن يُؤْتِيَنِ أَحَدٌ سواكم من الهدى مّثْلُ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ يعني هؤلاء المسلمين بذلك عِندَ رَبّكُمْ إن لم تقبلوا ذلك منهم أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلاً وهو قوله إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار
الوجه الثالث إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) فقوله إِنَّ الْهُدَى مبتدأ وقوله هُدَى اللَّهِ بدل منه وقوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ خبر بإضمار حرف لا والتقدير قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف لا وهو جائز كما في قوله تعالى أَن تَضِلُّواْ ( النساء 44 ) أي أن لا تضلوا
الوجه الرابع الْهُدَى اسم و هُدَى اللَّهِ بدل منه و أَن يُؤْتَى أَحَدٌ خبره والتقدير إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وعلى هذا التأويل فقوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ لا بد فيه من إضمار والتقدير أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم والمعنى أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه وفي قوله عِندَ رَبّكُمْ ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم
والاحتمال الثاني أن يكون قوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ من تتمة كلام اليهود وفيه تقديم وتأخير والتقدير ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل(8/86)
بيد الله قالوا والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام
أما قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ فهو عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة وعندي أن هذا التفسير ضعيف وبيانه من وجوه الأول إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند أتباعهم وأشياعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب هذا في غاية البعد الثاني أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله ولا بد من حذف قُلْ في قوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الرابع إنه كيف وقع قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأى كلام واحد فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم قال القفال يحتمل أن يكون قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله أو يقول لا إلاه إلا الله أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ من هذا الباب ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم فقيل له قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إلى آخر الآية
الإشكال الخامس في هذه الوجوه أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال صدقت زيداً فكان ينبغي أن يقال ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله أَن يُؤْتَى لأن التقدير ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى قال أبو علي الفارسي لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ والمعنى أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة عبارة عن الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله بِيَدِ اللَّهِ أي إنه مالك له قادر عليه وقوله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء أي هو تفضل موقوف على مشيئته وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مؤكد لهذا المعنى لأن كونه واسعاً يدل على كمال القدرة وكونه عليماً على كمال العلم فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب(8/87)
ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وهذا كالتأكيد لما تقدم والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه فبيّن بقوله إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ثم إنه تعالى بيّن أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم والثاني أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا لاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 ) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين بعضهم أهل الأمانة وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 ) مع قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) الثاني أن أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة هم اليهود والدليل عليه ما ذكرنا أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث قال ابن عباس أودع رجل عبد الله بن سلاّم ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه(8/88)
وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية
المسألة الثانية يقال أمنته بكذا وعلى كذا كما يقال مررت به وعليه فمعنى الباء إلصاق الأمانة ومعنى على استعلاء الأمانة فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه واتصاله بحفظه وحياطته وأيضاً صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه وقولك أمنتك عليه أي جعلتك أميناً عليه وحافظاً له
المسألة الثالثة المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل فإنه يجوز فيه الخيانة ونظيره قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( النساء 20 ) وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً الأول إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلاّم حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم وقد تقدم القول في تفسير القنطار
المسألة الرابعة قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر يُؤَدّهِ بسكون الهاء وروي ذلك عن أبي عمرو وقال الزجاج هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في بَارِئِكُمْ بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل وقال الفراء من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضرباً شديداً كما يسكنون ( ميم ) أنتم وقمتم وأصلها الرفع وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرىء أيضاً باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء وقرىء بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في لفظ ( القائم ) وجهان منهم من حمله على حقيقته قال السدي يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له والمعنى أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه فإن أنظرت وأخرت أنكر ومنهم من حمل لفظ ( القائم ) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة قال ابن قتيبة أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه دليل قوله تعالى أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) أي عامله بأمر الله غير تاركه ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني قال أبو علي الفارسي القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات وذكرنا ذلك في قوله تعالى يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ ( البقرة 3 ) ومنه قوله دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال(8/89)
المسألة الثانية يدخل تحت قوله مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ و بِدِينَارٍ العين والدين لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلاً أودع مالاً كثيراً عند عبد الله بن سلام ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فخان هذا اليهودي في القليل وعبد الله بن سلام أدى الأمانة فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً الأول أنهم مبالغون في التعصب لدينهم فلا جرم يقولون يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام ( كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ) الثاني أن اليهود قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم بل للعرب الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن اليهود بايعوا رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم وأقول من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة
المسألة الثانية نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) وقال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( النساء 141 ) وقال وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ( الشورى 41 42 )
المسألة الثالثة الامّى ّ منسوب إلى الأم وسمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُمياً قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب وقيل نسب إلى مكة وهي أم القرى
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول أنهم قالوا إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم
ثم قال تعالى بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن في بَلَى وجهين أحدهما أنه لمجرد نفي ما قبله وهو قوله لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ فقال الله تعالى راداً عليهم بَلَى عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج قال وعندي وقف التمام على بَلَى وبعده استئناف والثاني أن كلمة بَلَى كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده وذلك(8/90)
لأن قولهم ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم نحن أحباء الله تعالى فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على بَلَى وقوله مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يعود على اسم اللَّهِ في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويجوز أن يعود على مِنْ لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان
السؤال الأول بتقدير ءانٍ يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو مِنْ فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى
الجواب الأمر كذلك فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وفي ترك تحريف التوراة
السؤال الثاني أين الضمير الراجع من الجزاء إلى مِنْ
الجواب عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( آل عمران 75 ) ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً ومن الناس من(8/91)
قال هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ومنهم من خصها بغيرهم
أما الأول ففيه وجهان الأول قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بَعْدِكُم ( البقرة 40 ) الثاني أنها نزلت في ادعائهم أنه لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( آل عمران 75 ) كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن
وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه الأول أنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال للرجل ( أقم بيِّنَتَك ) فقال الرجل ليس لي بينة فقال للأشعث ( فعليك اليمين ) فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق وهو قول ابن جريج الثاني قال مجاهد نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته الثالث نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أرض فتوجه اليمين على امرىء القيس فقال أنظرني إلى الغد ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض والأقرب الحمل على الكل
فقوله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به
قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ( التوبة 75 ) الآية وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( الإسراء 34 ) وقال يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) وقال مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( الأحزاب 23 ) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس في بيان وقوعهم في أشد العذاب أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
فالأول وهو قوله أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة(8/92)
وأما الثلاثة الباقية وهي قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيهِمْ فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز
وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فهو إشارة إلى العقاب ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة
أما الأول وهو قوله لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضاً بعدم العفو فإنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وأما الثاني وهو قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ففيه سؤال وهو أنه تعالى قال فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 93 ) وقال فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وبين تلك الآية قال القفال في الجواب المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر قال له لا أكلمك وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه وهذا هو الجواب الصحيح ومنهم من قال لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول
وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان يقال فلان لا ينظر إلى فلان والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى فهلذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلاهنا عن أن يكون جسماً وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل
وأما الرابع وهو قوله وَلاَ يُزَكّيهِمْ ففيه وجوه الأول أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقال وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( فصلت 21 ) وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) وأما في الآخرة فكقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )(8/93)
وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً واعلم أن اللي عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال لويت يده والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده ولوى لسانه عن كذا إذا غيره ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه وفي الحديث ( لي الواجد ظلم ) وقال تعالى مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 )
إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول قال القفال رحمه الله قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قالوا هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ
إذا عرفت هذا فنقول إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد فيقولون في المدح خطيب مصقع وفي الذم مكثار ثرثار
فقوله وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 ) ثم قال وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول إلى ما يرجع الضمير في قوله لِتَحْسَبُوهُ(8/94)
الجواب إلى ما دل عليه قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهو المحرّف
السؤال الثاني كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس
الجواب لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول ليس مراد الله ما ذكرت فكذا في هذه الصورة
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ واعلم أن من الناس من قال إنه لا فرق بين قوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 78 ) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد أما المحققون فقالوا المغايرة حاصلة وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة وتارة بالإجماع وتارة بالقياس والكل من عند الله
فقوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ هذا نفي خاص ثم عطف عليه النفي العام فقال وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ويكون المراد من قولهم هو من عند الله أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء وأرمياء وحيقوق وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة وإن وجدوا قوماً عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى إنه ليس من عند الله وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده ثم قال وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فرق وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين الأول أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني أن قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم
والجواب أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ على أنه كلام الله لزم التكرار فجوابه ما ذكرنا أن قوله وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من(8/95)
كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار
وأما الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه
فوجب أن يكون قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة وإعراب ألفاظها فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه والله أعلم
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلاهية وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال مَا كَانَ لِبَشَرٍ الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول قال ابن عباس لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله نزلت هذه الآية الثاني قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً فقال عليه الصلاة والسلام ( معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ) فنزلت هذه الآية الثالث(8/96)
قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال عليه الصلاة والسلام ( لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) الرابع أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه فالله تعالى قال لهم إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا مِن دُونِ اللَّهِ مثل قوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ( التوبة 31 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ على وجوه الأول قال الأصم معناه أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقه 44 ) قال لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الاسراء 74 75 ) الثاني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلاهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة كما قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقال الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الدخان 32 ) وقال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى وبالجملة فللإنسان قوتان نظرية وعملية وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد الثالث أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً وذلك غير جائز واعلم أنه ليس المراد من قوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم اتخذوني إلاهاً من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه ونظيره قوله تعالى مَّا كَانَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر وكذا قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) والمراد النفي لا النهي والله أعلم
المسألة الثالثة قوله أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه(8/97)
الإشارة بالحكم فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم قال تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) يعني العلم والفهم ثم إذا حصل فهم الكتاب فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب
ثم قال تعالى ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة الظاهرة ثم يقول بنصب اللام وروي عن أبي عمرو برفعها أما النصب فعلى تقدير لا تجتمع النبوّة وهذا القول والعامل فيه ( أن ) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف
المسألة الثانية حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى كُونُواْ عِبَادًا لّى إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً
ثم قال وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيّينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية إضمار والتقدير ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ونظيره قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) أي فيقال لهم ذلك
المسألة الثانية ذكروا في تفسير ( الرباني ) أقوالاً الأول قال سيبويه الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال رجل إلاهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني قال المبرّد الرَّبَّانِيُّونَ أرباب العلم وأحدهم رباني وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم فالألف والنون للمبالغة كما قالوا ربان وعطشان وشبعان وعريان ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل لحياني ورقباني قال الواحدي فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية الثالث قال ابن زيد الرباني هو الذي يرب الناس فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ ( المائدة 63 ) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته قال القفال رحمه الله ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً لأنه يطاع كالرب تعالى فنسب إليه الرابع قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم واشتغل بتعليم طرق الخير
ثم قال تعالى بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ قراءتان إحداهما تَعْلَمُونَ من العلم وهي(8/98)
قراءة عبد الله بن كثير وأبي عمرو ونافع والثانية تَعْلَمُونَ من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول أنه قال تَدْرُسُونَ ولم يقل تَدْرُسُونَ بالتشديد الثاني أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره بما كنتم تعلمون الناس الكتاب أو غيركم الكتاب وحذف لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيراً ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن
المسألة الثانية نقل ابن جني في ( المحتسب ) عن أبي حيوة أنه قرأ تَدْرُسُونَ بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء قال ابن جني ينبغي أن يكون هذا منقولاً من درس هو أو درس غيره وكذلك قرأ وأقرأ غيره وأكثر العرب على درس ودرس وعليه جاء المصدر على التدريس
المسألة الثالثة ( ما ) في القراءتين هي التي بمعنى المصدر مع الفعل والتقدير كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ومثل هذا من كون ( ما ) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 5 ) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على الدراسة وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله وتعليمه ودراسته لله وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته
المسألة الرابعة دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع )
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة وابن عامر وَلاَ يَأْمُرَكُمْ بنصب الراء والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على ثُمَّ يَقُولُ وفيه وجهان أحدهما أن تجعل لا مزيدة والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني أن تجعل لا غير(8/99)
مزيدة والمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح فلما قالوا أتريد أن نتخذك رباً قيل لهم ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ
المسألة الثانية قال الزجاج ولا يأمركم الله وقال ابن جريج لا يأمركم محمد وقيل لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش
المسألة الثالثة إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير فلهذا المعنى خصهما بالذكر
ثم قال تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وفيه ومسائل
المسألة الأولى الهمزة في أَيَأْمُرُكُم استفهام بمعنى الإنكار أي لا يفعل ذلك
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يسجدوا له
المسألة الثالثة قال الجبائي الآية دالة على فساد قول من يقول الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء وهو قوله تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به
والجواب أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(8/100)
اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم يضم إليها مقدمة أخرى وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم وعند هذا لقائل أن يقول هذا إثبات للشيء بنفسه لأنه إثبات لكونه رسولاً بكونه رسولاً
والجواب أن المراد من كونه رسولاً ظهور المعجز عليه وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ فقال ابن جرير الطبري معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين وقال الزجاج واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين
أما قوله مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين
أما الاحتمال الأول وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله وقيل إن الميثاق هذا مختص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول أن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى والمأخوذ منهم هم النبيون فليس في الآية ذكر الأمة فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل وهو الموثق له ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول فإن لم يكن فلا أقل من المساواة وهو كما يقال ميثاق الله وعهده فيكون التقدير وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم الثاني أن يراد ميثاق أولاد النبيّين وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال فعل بكر بن وائل كذا وفعل معد بن عدنان كذا والمراد أولادهم وقومهم فكذا ههنا الثالث أن يكون المراد من لفظ النَّبِيّينَ أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 )
الحجة الثانية لأصحاب هذا القول ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي )(8/101)
الحجة الثالثة ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم
الاحتمال الثاني إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه وهذا قول كثير من العلماء وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند مبعثه وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أمم النبيّين قال ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا وقال وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقه 44 45 46 ) وقال في صفة الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) فكذا ههنا
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام أعلى وأشرف من درجات الأمم فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه
الحجة الثالثة ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم
الحجة الرابعة أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وبقوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ(8/102)
وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع والله أعلم بمراده
وأما قوله تعالى لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور لَّمّاً بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير لَّمّاً مشددة أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول أن مَا اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ والتقدير للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وعلى هذا التقدير مَا رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة مَا وموصولتها محذوف والتقدير لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( الفرقان 41 ) وعليه سؤالان
السؤال الأول إذا كانت مَا موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ألا ترى أنك لو قلت الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز
وقوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ليس فيه راجع إلى الموصول قلنا يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( يوسف 90 ) ولم يقل فإن الله لا يضيع أجره وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) ولم يقل إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا
السؤال الثاني ما فائدة اللام في قوله لَّمّاً قلنا هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك لزيد أفضل من عمرو ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم وهذه اللام المتلقية للقسم فهذا تقرير هذا الكلام
الوجه الثاني وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن مَا ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به فاللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي المتلقية للقسم أما اللام في لَّمّاً هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك والله لو أن فعلت فعلت فلفظة ( أن ) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا وعلى هذا التقدير كانت ( ما ) في موضع نصب بأتيتكم وَجَاءكُمُ جزم بالعطف على ءاتَيْتُكُم و لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هو الجزاء وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر وأما الوجه في قراءة لَّمّاً بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل وَمَا على هذه القراءة تكون موصولة وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول وأما قراءة لَّمّاً بالتشديد فذكر صاحب ( الكشاف ) فيه وجهين الأول أن المعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته والثاني أن أصل لَّمّاً لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت لَّمّاً ومعناه لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى(8/103)
المسألة الثانية قرأ نافع ءاتَيْنَاكُم بالنون على التفخيم والباقون بالتاء على التوحيد حجة نافع قوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وَءاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( الصافات 117 ) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع وهذا الموضع يليق به هذا المعنى وحجة الجمهور قوله هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( الحديد 9 ) و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ وقال بعدها إِصْرِى وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى ( الإسراء 2 ) ولم يقل من دوننا كما قال وَجَعَلْنَاهُ والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر النبيّين على سبيل المغايبة ثم قال ءاتَيْتُكُم وهو مخاطبة إضمار والتقدير وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة والإضمار باب واسع في القرآن ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعده ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات
المسألة الرابعة في قوله لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ إشكال وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر والجواب عنه من وجهين الأول أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به وإن لم ينزل عليه والثاني أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع
المسألة الخامسة الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها
المسألة السادسة كلمة مِنْ في قوله مِن كِتَابِ دخلت تبييناً لما كقولك ما عندي من الورق دانقان
أما قوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول ما وجه قوله ثُمَّ جَاءكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم
والجواب إن حملنا قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله ثُمَّ جَاءكُمْ أي جاء في زمانكم
السؤال الثاني كيف يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم(8/104)
قلنا المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذلك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس إلا شرعه فهذا وإن كان يوهم الخلاف إلا أنه في الحقيقة وفاق وأيضاً فالمراد من قوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم
السؤال الثالث حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق
والجواب يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلاهية المتقدمة وجب الانقياد له فقوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ يدل على هذين الوجهين أما على الوجه الأول فقوله رَّسُولٍ وأما على الوجه الثاني فقوله مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ
أما قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ فالمعنى ظاهر وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولاً ثم الاشتغال بنصرته ثانياً واللام في لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم كأنه قيل والله لتؤمنن به
ثم قال تعالى قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى وفيه مسائل
المسألة الأولى إن فسرنا قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى أأقرتم معناه قال الله تعالى للنبيّين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله قَالَ أي قال كل نبي لأمته أأقرتم وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم بل طالبوهم بالإقرار بالقول وأكدوا ذلك بالإشهاد
المسألة الثانية الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته
أما قوله تعالى ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى أي قبلتم عهدي والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 48 ) أي يقبل منها فدية وقال وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) أي(8/105)
يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ( البقرة 286 ) فسمى العهد إصراً لهذا المعنى قال صاحب ( الكشاف ) سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء إِصْرِى ويجوز أن يكون لغة في إصر
ثم قال تعالى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ وفي تفسير قوله فَأَشْهِدُواْ وجوه الأول فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً مّنَ الشَّاهِدِينَ وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض الثاني أن قوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للملائكة الثالث أن قوله فَأَشْهِدُواْ أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ( الأعراف 172 ) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع فَأَشْهِدُواْ أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس فَأَشْهِدُواْ أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم
وأما قوله تعالى وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ فهو للتأكيد وتقوية الإلزام وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم وقوله فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ هذا شرط والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط والجزاء والله أعلم
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله فلهذا قال بعده أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم يَبْغُونَ و يَرْجِعُونَ(8/106)
بالياء المنقطة من تحتها لوجهين أحدهما رداً لهذا إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 82 ) والثاني أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وقرأ أبو عمرو تبغون بالتاء خطاباً لليهود وغيرهم من الكافر و لاَ يَرْجِعُونَ بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب لأن ما قبله خطاب كقوله ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ ( آل عمران 81 ) وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض وأن مرجعكم إليه وهو كقوله وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ( آل عمران 101 )
المسألة الثانية الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه وموضع الهمزة هو لفظة يَبْغُونَ تقديره أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو غَيْرِ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما التقدير فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون
المسألة الثالثة روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال عليه الصلاة والسلام كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام فقالوا ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله ومعبوداً سوى الله سبحانه ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الإسلام هو الاستسلام والانقياد والخضوع
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه الأول وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله وَلَهُ أَسْلَمَ يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلاً أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الرعد 15 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
الوجه الثاني في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده وإما أن ينزلوا عليه(8/107)
طوعاً أو كرهاً فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرهاً لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث أسلم المسلمون طوعاً والكافرون عند موتهم كرهاً لقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الرابع أن كل الخلق منقادون لإلاهيته طوعاً بدليل قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً الخامس أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) السادس قال الحسن الطوع لأهل السماوات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره وأقول إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وفيه أسرار عجيبة
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله الطوع الانقياد يقال طاعه يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع وإذا مضى لأمره فقد أطاعه وإذا وافقه فقد طاوعه قال ابن السكيت يقال طاع له وأطاع فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال وتقديره طائعاً وكارهاً كقولك أتاني راكضاً ولا يجوز أن يقال أتاني كلاماً أي متكلماً لأن الكلام ليس يضرب للإتيان والله أعلم
قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَمَا أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كونه مصدقاً لما معهم فقال قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى وحد الضمير في قُلْ وجمع في مِنَ وفيه وجوه الأول إنه تعالى حين خاطبه إنما خاطبه بلفظ الوحدان وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم(8/108)
والتفخيم مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني أنه خاطبه أولاً بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ثم قال مِنَ تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله قُلْ ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال مِنَ تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 )
المسألة الثانية قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ويختلفون في نبوتهم وَالاسْبَاطَ هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق وثانيها التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل وثالثها إنه قال قبل هذه الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 ) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل وههنا أخذ الميثاق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة فإن قيل لم عدَّى أَنَزلَ في هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء قلنا لوجود المعنيين جميعاً لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر وقيل أيضاً إنما قيل عَلَيْنَا في حق الرسول لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ألا ترى إلى قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ( البقرة 4 ) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ ( آل عمران 72 )
المسألة الثانية اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً فهل تصير نبوته منسوخة فمن قال إنها تصير منسوخة قال نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلاً ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ فيه وجوه الأول قال الأصم التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد(8/109)
من هذا الوجه يعني نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني قال بعضهم المراد لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث قال أبو مسلم لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أي لا نفرق ما أجمعوا عليه وهو كقوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( آل عمران 103 ) وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 94 )
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه الأول إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والثاني قال أبو مسلم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) الثالث أن قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يفيد الحصر والتقدير له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( آل عمران 84 ) أتبعه بأن بيّن في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ولذلك قال تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله فكذلك يكون من الخاسرين والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ إلا أن ظاهر قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي(8/110)
كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( آل عمران 85 ) أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول أقوال الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ الثاني نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوّة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً والثالث نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه بالآية فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقبل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) توبته قال القفال رحمه الله للناس في هذه الآية قولان منهم من قال إن قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا وما بعده من قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ نزل جميع ذلك في قصة واحدة ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان أحدهما أنها في أهل الكتاب والثاني أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه
المسألة الثانية اختلف العقلاء في تفسير قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أما المعتزلة فقالوا إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وقال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 )
فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدى ً الثاني أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة(8/111)
قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 ) وقال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( يونس 9 ) والثالث أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالاً ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية وأما أهل السنة فقالوا المراد من الهداية خلق المعرفة قالوا وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَأَشْهِدُواْ فيه قولان
الأول أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني أن الواو للحال بإضمار ( قد ) والتقدير كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق
المسألة الرابعة تقدير الآية كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وبعد الشهادة بأن الرسول حق وقد جاءتهم البينات فعطف الشهادة بأن الرسول حق على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والشهادة هو الإقرار باللسان وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها بعد الإيمان وثانيها بعد شهادة كون الرسول حقاً وثالثها بعد مجيء البينات وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل
أما قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ففيه سؤالان
السؤال الأول قال في أول الآية كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا وقال في آخرها وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهذا تكرار
والجواب أن قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ مختص بالمرتدين ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
السؤال الثاني لم سمي الكافر ظالماً
الجواب قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد(8/112)
البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر فكان ظالماً لنفسه
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة على سبيل التأبيد والخلود
واعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول وكذلك من الناس وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان
السؤال الأول لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث كأن الناس هم المؤمنون والكفار ليسوا من الناس ثم لما ذكر لعن الثلاث قال أَجْمَعِينَ الرابع وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك
السؤال الثاني قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي خالدين في اللعنة فما خلود اللعنة
قلنا فيه وجهان الأول أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن لأن اللعن يوجب العقاب فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ونظيره قوله تعالى مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ ( طه 100 101 ) الثالث قال ابن عباس قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور واعلم أن قوله خَالِدِينَ فِيهَا نصب على الحال مما قبله وهو قوله تعالى عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ
ثم قال لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ معنى الانظار التأخير قال تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ منه بالله
ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ والمعنى إلا الذين تابوا منه ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال وَأَصْلَحُواْ أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها
ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وفيه وجهان الأول غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو الثاني غفور بإزالة العقاب رحيم بإعطاء الثواب ونظيره قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن(8/113)
يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) ودخلت الفاء في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لأنه الجزاء وتقدير الكلام إن تابوا فإن الله يغفر لهم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ
المسألة الأولى اختلفوا فيما به يزداد الكفر والضابط أن المرتد يكون فاعلاً للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة وقد يكون فاعلاً للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً الأول أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت ونقضهم ميثاقه وفتنتهم للمؤمنين وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفراً بسبب إنكارهم محمداً عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة وازديادهم الكفر أنهم قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ريب المنون الرابع المراد فرقة ارتدوا ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفراً
المسألة الثانية أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض وأيضاً ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجوه
الأول قال الحسن وقتادة وعطاء السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ ( النساء 18 ) الثاني أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث قال القاضي والقفال وابن الأنباري أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم الرابع قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ جعل كناية عن الموت على الكفر لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل(8/114)
وأقول جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق
أما قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ففيه سؤالان الأول وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ينفي كون غيرهم ضالاً وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل والجواب هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال
السؤال الثاني وصفهم أولاً بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالاً منه لا بما هو أضعف حالاً منه والجواب قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( آل عمران 89 ) وثانيهما الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال إنه لن تقبل توبته وثالثهما الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع
النوع الأول قوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب ذَهَبًا على التفسير ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاماً إلا أن يكون مبهماً كقوله عندي عشرون فالعدد معلوم والمعدود مبهم فإذا قلت درهماً فسرت العدد وكذلك إذا قلت هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في ماذا فإذا قلت وجهاً أو فعلاً فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الأعمش ذَهَبَ بالرفع رداً على ملء كما يقال عندي عشرون نفساً رجال
وههنا ثلاثة أسئلة
السؤال الأول لم قيل في الآية المتقدمة لَّن تُقْبَلَ بغير فاء وفي هذه الآية فَلَن يُقْبَلَ بالفاء(8/115)
الجواب أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء تقول الذي جاءني له درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء وإذا قلت الذي جاءني فله درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
الجواب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الزجاج إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم قبل منه وهذا اختيار ابن الأنباري قال وهذا أوكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا يحتمل الوجوه الكثيرة فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى
السؤال الثالث أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة فما فائدة قوله لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا
الجواب فيه وجهان أحدهما أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لن يقبل الله تعالى ذلك منهم لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني أن الكلام وقع على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية عن أعز الأشياء والتقدير لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب
النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب أردفه بصفة ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم
النوع الثالث من الوعيد قوله وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية بيّن أيضاً أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر والله أعلم(8/116)
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ثم قال في آية أخرى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ( المطففين 22 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( الإنسان 5 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 22 26 ) وقال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( البقرة 177 ) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر وفيه لطيفة أخرى
وهي أنه تعالى قال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَة ِ إلى آخر الآية فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير وسماه البر ثم قال في هذه الآية لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات وههنا بحث وهو أن لقائل أن يقول كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات وهو باطل وجواب هذا الإشكال أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به فقال عليه السلام ( بخ بخ ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام ( إن الله قد قبلها ) واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له لم أعتقتها ولم تصب منها فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
المسألة الثانية للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما ما به يصيرون أبراراً حتى يدخلوا في قوله(8/117)
إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني الثواب والجنة فكأنه قال لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه
أما القائلون بالقول الأول فمنهم من قال الْبَرّ هو التقوى واحتج بقوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إلى قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( البقرة 177 ) وقال أبو ذر إن البر هو الخير وهو قريب مما تقدم
وأما الذين قالوا البر هو الجنة فمنهم من قال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ أي لن تنالوا ثواب البر ومنهم من قال المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم وهو من قول الناس برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ إلى قول أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 )
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ منهم من قال إنه نفس المال قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ومنهم من قال أن تكون الهبة رفيعة جيدة قال تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( البقرة 267 ) ومنهم من قال ما يكون محتاجاً إليه قال تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً ( الإنسان 8 ) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه وقال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وقال عليه السلام ( أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) والأولى أن يقال كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب
المسألة الرابعة اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق هل هو الزكاة أو غيرها قال ابن عباس أراد به الزكاة يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم وقال الحسن كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة والقاضي اختار القول الأول واحتج عليه بأن هذا الانفاق وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار والفوز بالجنة بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق لم يصر العبد بهذه المنزلة وما ذاك إلا الانفاق الواجب وأقول لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب
المسألة الخامسة نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى
المسألة السادسة قال بعضهم كلمة مِنْ في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض وقرأ عبد الله حَتَّى تُنفِقُواْ بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال آخرون إنها للتبيين(8/118)
وأما قوله
وما ينفقوا من شيء فإن الله به عليم
ففيه سؤال
وهو أن يقال قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال
والجواب من وجهين الأول أن فيه معنى الجزاء تقديره وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخس الأرذل
واعلم أن نظير هذه الآية قوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ( البقرة 270 ) قال صاحب ( الكشاف ) مِنْ في قوله مِن شَى ْء لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أن كل الطعام كان حلاً ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلاً والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً
وإذا عرفت هذا فنقول الآية تحتمل وجوهاً الأول أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (8/119)
على إنكار النسخ فأبطل الله عليهم ذلك بأن كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ فذاك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ فبطل قولكم النسخ غير جائز ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أحدها أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ وهو لازم لا محيص عنه وثانيها أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى وثالثها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان رجلاً أُمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم
الوجه الثاني أن اليهود قالوا له إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه فأجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الشبهة بأن قال ذلك كان حلاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام
الوجه الثالث أنه تعالى لما أنزل قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) وقال أيضاً فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً فطالبهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) كُلُّ الطَّعَامِ أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا(8/120)
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى أدخل لفظ كُلٌّ على لفظ الطعام في هذه الآية ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 3 ) وثالثها أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع فقال وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ ( ق 10 11 ) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف )
المسألة الثانية الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ( المائدة 5 ) وأراد الذبائح وقالت عائشة رضي الله عنها ما لنا طعام إلا الأسودان والمراد التمر والماء
إذا عرفت هذا فنقول ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلاً لبني إسرائيل ثم قال القفال لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام وكذا القول في الخنزير ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنها كان محرمة على إبراهيم وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق بل للعهد السابق وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ ( الأنعام 145 ) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية
المسألة الثالثة الحل مصدر يقال حل الشيء حلاً كقولك ذلت الدابة ذلاً وعز الرجل عزاً ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ( الممتحنة 10 ) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان ما حل فقال محلل
أما قوله تعالى إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول روى ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ) وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني قيل إنه كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق الثالث جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن(8/121)
يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير فانصرف الرسول إليه وقال إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه وفيه سؤال وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك الثاني أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم فقال بحرمته وإنما قلنا إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني قال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) فلو كان ذلك الإذن بالنص لم يقل لم أذنت فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا
الثالث يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) الرابع قال الأصم لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل وذلك لأنه تعالى قال كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني(8/122)
إسرائيل ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل والله أعلم
أما قوله تعالى مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلاً لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة دليله قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فكذبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك وإما لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه فنازعوه في ذلك فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول وعلى كلا الوجهين فالتفسير ظاهر ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه لأنا نثبته بالقياس ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي وإنما وقع في أن هذا الحكم هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه بنص التوراة
ثم قال تعالى فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الافتراء اختلاق الكذب والفرية الكذب والقذف وأصله من فرى الأديم وهو قطعه فقيل للكذب افتراء لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود
ثم قال مِن بَعْدِ ذالِكَ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرماً قبله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين
ثم قال تعالى قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ويحتمل وجوهاً أحدها قُلْ صَدَقَ في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم فصح القول بالنسخ وبطلت شبهة اليهود وثانيها صَدَقَ اللَّهُ في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه فثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها صَدَقَ اللَّهُ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم
ثم قال تعالى فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم وسواء قال ملة إبراهيم حنيفاً أو قال ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى(8/123)
ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لم يدع مع الله إلاهاً آخر ولا عبد سواه كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله والغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام في الفروع والأصول
أما في الفروع فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً وأما في الأصول فلأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر وقبلة جملة الأنبياء وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى والثاني أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ثم إن الله تعالى حرم بعضها والقوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( آل عمران 95 ) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة فإن الله تعالى بيّن كذبهم من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون فيدل هذا على كذبهم في ذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال المحققون الأول هو الفرد السابق فإذا قال أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله(8/124)
تعالى ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق فدل قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات وموضعاً للحج ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه
فإن قيل كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب من وجهين الأول أن لفظ الأول في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل يقال هذا أول قدومي مكة وهذا أول مال أصبته ولو قال أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر فكذا هنا والثاني أن المراد من قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج فهذا غير لازم والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدى ً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول أنه أول في البناء والوضع والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في ( البسيط ) بإسناده عن مجاهد أنه قال خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين وفي رواية أخرى خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وهذا كان قبل خلق آدم )
وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته قال القفال في ( تفسيره ) روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام ( أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين وحققتها بسبعة أملاك حنفاء ) وثانيها أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام فلما أرسل الله(8/125)
تعالى الطوفان رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة يتعبد عنده الملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وأمره بعمارته فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى في سورة مريم أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّة ِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً ( مريم 58 ) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ فوجب أن يقال إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة الثاني أن الله تعالى سمى مكة أم القرى وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في خطبته يوم فتح مكة ( ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ) وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني تمسكوا بقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ( البقرة 127 ) ولقائل أن يقول لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث قال القاضي إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها فهذا جملة ما في هذا القول
القول الثاني أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدى ً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس فقال عليه الصلاة والسلام ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس ) فقيل كم بينهما قال ( أربعون سنة ) وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له أهو أول بيت قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم(8/126)
ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبناه العمالقة وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ثم هدم فبناه قريش
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً
المسألة الثالثة إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت
الفضيلة الأولى اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت فقال وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( الحج 26 ) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل والباني هو الخليل والتلميذ إسماعيل عليهم السلام
الفضيلة الثانية مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر
الفضيلة الثالثة قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء
الفضيلة الرابعة إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها
الفضيلة الخامسة أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( البقرة 126 ) وقال تعالى في صفة أمنه أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) وقال فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن(8/127)
جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ ( قريش 3 4 ) ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية
الفضيلة السادسة أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور
قلنا لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ومثل هذا يكون من المعجزات فلا يتمكن منها سوى الأنبياء
الفضيلة السابعة إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع والحكمة من وجوه أحدها إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله وثانيها أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع وفالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا فكأنه قال جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها كأنه قال لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم
ثم قال تعالى لَلَّذِى بِبَكَّة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن المراد من بكة هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال بكة ومكة اسمان لمسمى واحد فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال هذه ضربة لازم وضربة لازب ويقال هذا دائم ودائب ويقال راتب وراتم ويقال سمد رأسه وسبده وفي اشتقاق بكة وجهان الأول أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً يقال بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً تمر المرأة بين(8/128)
يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان
الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه الثاني سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض يقال أمتك الفصيل إذا استقصى ما في الضرع ويقال تمككت العظم إذا استقصيت ما فيه الثالث سميت مكة لقلة مائها كأن أرضها امتكت ماءها الرابع قيل إن مكة وسط الأرض والعيون والمياه تنبع من تحت مكة فالأرض كلها تمك من ماء مكة ومن الناس من فرق بين مكة وبكة فقال بعضهم إن بكة اسم للمسجد خاصة وأما مكة فهو اسم لكل البلد قالوا والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع وقال الأكثرون مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم البلد والدليل عليه أن قوله تعالى لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد استقام هذا الكلام
المسألة الثانية لمكة أسماء كثيرة قال القفال رحمه الله في ( تفسيره ) مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها وأم القرى قال تعالى لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( الأنعام 92 ) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض
المسألة الثالثة للكعبة أسماء أحدها الكعبة قال تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( المائدة 97 ) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثديها فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها البيت العتيق قال تعالى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) وقال وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وفي اشتقاقه وجوه الأول العتيق هو القديم وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث من عتق الطائر إذا قوي في وكره فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه الله سمي عتيقاً الرابع أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين الخامس أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار وسادسها المسجد الحرام قال سبحانه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية
فإن قال قائل كيف الجمع بين قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وبين قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس(8/129)
والجواب كأنه قيل البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم
ثم قال تعالى مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها أنه أول بيت وضع للناس وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد ههنا وجوهاً أُخر الأول قال علي رضي الله عنه هو أول بيت خص بالبركة وبأن من دخله كان آمناً وقال الحسن هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف أول بيت جعل قبلة وثانيها أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى انتصب مُبَارَكاً على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً
المسألة الثانية البركة لها معنيان أحدهما النمو والتزايد والثاني البقاء والدوام يقال تبارك الله لثبوته لم يزل والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد ) ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ) فهذا في الصلاة وأما الحج فقال عليه الصلاة والسلام ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وفي حديث آخر ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها قال القفال رحمه الله تعالى ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فيكون كقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) وثالثها أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلاهية في قلبه ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود وأيضاً الأرض كرة وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم وظهر لثان وعصر لثالث ومغرب لرابع وعشاء لخامس ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين
الصفة الثالثة من صفات هذا البيت كونه هُدًى لّلْعَالَمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم وقيل هدى ً للعالمين(8/130)
أي دلالة على وجود الصانع المختار وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء وقيل هدى ً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة
المسألة الثانية قال الزجاج المعنى وذا هدى ً للعالمين قال ويجوز أن يكون وَهَدَى في موضع رفع على معنى وهو هدى
أما قوله تعالى فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ففيه قولان الأول أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي أمن الخائف وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور
وقوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ لا تعلق له بقوله فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فكأنه تعالى قال فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم
القول الثاني أن تفسير الآيات مذكور وهو قوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ أي هي مقام إبراهيم
فإن قيل الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد أجابوا عنه من وجوه الأول أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة لأن ما كان معجزة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 ) الثاني أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية وغوصه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث قال الزجاج إن قوله وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً من بقية تفسير الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين قال تعالى إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقال عليه السلام ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) ومنهم من تمم الثلاثة فقال مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمناً وأن لله على الناس حجه ثم حذف ( أن ) اختصاراً كما في قوله قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ( الأعراف 29 ) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما الخامس قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة بَيّنَة ً لّقَوْمٍ على التوحيد السادس قال المبرّد مَّقَامِ مصدر فلم يجمع كما قال وَعَلَى سَمْعِهِمْ والمراد مقامات إبراهيم وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( الحج 32 )(8/131)
ثم قال تعالى مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وفيه أقوال أحدها أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل إنزل حتى نغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ثم حولته إلى الجانب الأيسر حتى غسلت الجانب الآخر فبقي أثر قدميه عليه والثالث أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج قال القفال رحمه الله ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها
ثم قال تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ولهذه الآية نظائر منها قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( البقرة 125 ) وقوله أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( إبراهيم 35 ) وقال تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ ( قريش 4 ) قال أبو بكر الرازي لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ موجودة في الحرم ثم قال وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وجب أن يكون مراده جميع الحرم وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم قال الشافعي يستوفي وقال أبو حنيفة لا يستوفي بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ثم يستوفي منه القصاص والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فقال ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية
والجواب أن قوله كَانَ ءامِناً إثبات لمسمى الأمن ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة قال النبي عليه السلام ( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) وقال أيضاً ( من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام ) وقال ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والثاني يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر والثاني أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة
الوجه الثالث في تأويل الآية أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان آمناً لأنه تعالى(8/132)
قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) الرابع قال الضحاك من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد وهو أن قوله كَانَ ءامِناً حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم
قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم حَجَّ الْبَيْتَ بكسر الحاء والباقون بفتحها قيل الفتح لغة الحجاز والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رطل ورطل وبزر وبزر وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر وقال سيبويه يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً كالذكر والعلم
المسألة الثانية في قوله مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وجوه الأول قال الزجاج موضع مِنْ خفض على البدل من النَّاسِ والمعنى ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت الثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون مِنْ في موضع رفع على معنى الترجمة للناس كأنه قيل من الناس الذين عليهم لله حج البيت فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة روى جماعة من الصحابة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت فقال لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه قال لا بل ينطلق إليه ولو حبواً قال فكذلك يجب عليه حج البيت عن عكرمة أيضاً أنه قال الاستطاعة هي صحة البدن وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل ولا(8/133)
يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار وطعن فيها من وجه آخر وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 )
المسألة الرابعة احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل فقالوا لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد
المسألة السادسة روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام ذكروا ذلك ثلاثاً فسكت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال في الرابعة ( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم ) ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة
المسألة السابعة استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول قال تعالى فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ ( غافر 11 ) وقال هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ ( الشورى 44 ) وقال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن وزوال خوف التلف من السبع أو العدو وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع(8/134)
الودائع وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله
القول الثاني أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله وَمَن كَفَرَ فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) وعن أبي أمامة قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً ) وعن سعيد بن جبير لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه فإن قيل كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه يجوز أن يكون المراد منه التغليظ أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( من ترك صلاة متعمداً فقد كفر ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر ) وأما الأكثرون فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج قال الضحاك لما نزلت آية الحج جمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال ( إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا ) فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وهذا القول هو الأقوى
المسألة الثانية اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة والصوم أصله معقول وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة(8/135)
إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والمعنى أنه سبحانه لكونه إلاهاً ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها أنه ذكر النَّاسِ ثم أبدل منه مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وفيه ضربان من التأكيد أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير وذلك يدل على شدة العناية وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما لام الملك في قوله وَللَّهِ وثانيتهما كلمة عَلَى وهي للوجوب في قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ ورابعها أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها أنه قال وَمَن كَفَرَ مكان ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها قوله عَنِ الْعَالَمِينَ ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته فكان ذلك أدل على السخط وثامنها أن في أول الآية قال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلاهية وكبرياء الربوبية لا لجر نفع ولا لدفع ضر ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج قوله عليه الصلاة والسلام ( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث ) وروي ( حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه ) قيل معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره وعن ابن مسعود ( حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت )
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
إعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول وهو الأوفق أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم
فالشبهة الأولى ما يتعلق بإنكار النسخ(8/136)
وأجاب عنها بقوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ( آل عمران 93 )
والشبهة الثانية ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها
وأجاب عنها بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل عمران 96 ) إلى آخرها فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد ظهور البينات وزوال الشبهات وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه
الوجه الثاني وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالاً فقط وإما أن يكون مع كونه ضالاً يكون مضلاً والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب فقال الحسن هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته واستدل عليه بقوله وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وقال بعضهم بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر
فإن قيل ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار
قلنا لوجهين الأول أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ثم أجاب عن شبههم في ذلك ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فهذا الترتيب الصحيح الثاني أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته
المسألة الثانية قالت المعتزلة في قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم
والجواب عنه المعارضة بالعلم والداعي
المسألة الثالثة المراد مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته(8/137)
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ قال الفرّاء يقال صددته أصده صداً وأصددته إصداداً وقرأ الحسن تَصُدُّونَ بضم التاء من أصده قال المفسرون وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته ( صلى الله عليه وسلم ) في كتابهم
ثم قال تَبْغُونَهَا عِوَجاً العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى وهو الدين والقول فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة قال ابن الأنباري البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك بغيت المال والأجر والثواب وأُريد ههنا تبغون لها عوجاً ثم أسقطت اللام كما قالوا وهبتك درهماً أي وهبت لك درهماً ومثله صدت لك ظبياً وأنشد فتولى غلامهم ثم نادى
أظليما أصيدكم أم حماراً
أراد أصيد لكم والهاء في تَبْغُونَهَا عائدة إلى السَّبِيلِ لأن السبيل يؤنث ويذكر و العوج يعني به الزيغ والتحريف أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم النسخ يدل على البداء وقولهم إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون لَّهُ عِوَجَا في موضع الحال والمعنى تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها
ثم قال وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله الرابع وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال
ثم قال وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمراد التهديد وهو كقول الرجل لعبده وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلاً عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله وَللَّهِ شَهِيدٌ وهذه الآية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ وفيما أضمروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وإنما كرر في الآيتين قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق(8/138)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالاً بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء وأما في الدين فظاهر
ثم قال تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وكلمة كَيْفَ تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالاً بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة كالمانع من وقوعهم في الكفر فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها
ثم قال وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ والمقصود إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا(8/139)
الوعد والمعنى ومن يتمسك بدين الله ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة والعصمة المنع في كلام العرب والعاصم المانع واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) قال قتادة ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما تلاوة كتاب الله والثاني كون الرسول فيهم أما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى إلى رحمة الله وأما الكتاب فباق على وجه الدهر
وأما قوله فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله فلما جعل ذلك الاعتصام فعلاً لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 ) وهذا اختاره القفال رحمه الله والثاني أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث أن من يعتصم بالله فقد هدى إلى طريق الجنة والرابع قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ هُدِى َ أي فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات فأمرهم أولاً بتقوى الله وهو قوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانياً بالاعتصام بحبل الله وهو قوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ وثالثاً بذكر نعم الله وهو قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً إما بالرهبة وإما بالرغبة والرهبة مقدمة على الرغبة لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع فقوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ثم أردفه بالرغبة وهي(8/140)
قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فكأنه قال خوف عقاب الله يوجب ذلك وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى والعباد لا طاقة لهم بذلك فأنزل الله تعالى بعد هذه فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له ( هل تدري ما حق الله على العباد قال الله ورسوله أعلم قال هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني أن معنى قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يحق أن يتقى وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ولا يجوز أن يكون المراد بقوله حَقَّ تُقَاتِهِ ما لا يستطاع من التقوى لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ( الحج 78 )
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 )
قلنا سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين أما الذين قالوا إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات وكذلك قوله أن يشكر فلا يكفر لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال فأما عند السهو فلا يجب وكذلك قوله أن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ
قال المصنف رضي الله تعالى عنه أقول للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف وقيل إن هذا باطل لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز
المسألة الثانية قوله تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ويقال هو الرجل حقاً ومنه قوله عليه السلام ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وعن علي رضي الله عنه أنه قال أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت(8/141)
أما قوله تعالى وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فلفظ النهي واقع على الموت لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ومضى الكلام في هذا عند قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( البقرة 132 )
ثم قال تعالى وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات وهو الاعتصام بحبل الله
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين وهو أنواع كثيرة فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء فقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ ( آل عمران 112 ) أي بعهد وإنما سمي العهد حبلاً لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف وقيل إنه القرآن روي عن علي رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أما إنها ستكون فتنة ) قيل فما المخرج منها قال ( كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين ) وروي عن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هذا القرآن حبل الله ) وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ) وقيل إنه دين الله وقيل هو طاعة الله وقيل هو إخلاص التوبة وقيل الجماعة لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلاً لله وأمروا بالاعتصام به
ثم قال تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في التأويل وجوه الأول أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحداً وما عداه يكون جهلاً وضلالاً فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين وإليه الإشارة بقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) والثاني أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة
واعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل ومن هم يا رسول الله قال الجماعة ) وروي ( السواد الأعظم ) وروي ( ما أنا عليه وأصحابي )(8/142)
والوجه المعقول فيه أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً
المسألة الثانية استدلت نفاة القياس بهذه الآية فقالوا الأحكام الشرعية إما أن يقال إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه لكنه منهي عنه لقوله تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وقوله وَلاَ تَنَازَعُواْ ولقائل أن يقول الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ ولعموم قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ والله أعلم
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أُخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله ونظير هذه الآية قوله لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ( الأنفال 63 )
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً ولهذا قيل إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر
المسألة الثانية قال الزجاج أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ولا يخفي عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة قال وهذا غلط قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب
المسألة الثالثة قوله فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال قال الكعبي إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف(8/143)
قلنا كل هذا كان حاصلاً في زمان حصول المحاربات والمقاتلات فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم
ثم قال تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية وهي ما ذكره في آخر هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار والمصير منهم إلى حفرتها فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة وقد قربوا من الوقوع فيها
قالت المعتزلة ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى
المسألة الثانية شفا الشيء حرفه مقصور مثل شفا البئر والجمع الإشفاء ومنه يقال أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وحرفه وقوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا قال الأزهري يقال نقذته وأنقذته واستنقذته أي خلصته ونجيته
وفي قوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا سؤال وهو أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها
وأجابوا عنه من وجوه الأول الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني أنها راجعة إلى النار لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة وهذا قول الزجاج الثالث أن شفا الحفرة وشفتها طرفها فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث
المسألة الثالثة أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء ثم قال كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ الكاف في موضع نصب أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء أجاب الواحدي عنه في ( البسيط ) فقال بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية
وأقول وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعلّ ) للترجي والمعنى أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم(8/144)
وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما أنه عابهم على الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ ( آل عمران 70 ) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 99 ) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولاً بالتقوى والإيمان فقال اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( آل عمران 102 103 ) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة فقال وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في قوله مّنكُمْ قولان أحدهما أن مِنْ ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) والثاني هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما كلمة مِنْ فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) ويقال أيضاً لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم كذا ههنا ثم قالوا إن(8/145)
ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ونظيره قوله تعالى انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( التوبة 41 ) وقوله إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( التوبة 39 ) فالأمر عام ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين
والقول الثاني أن مِنْ ههنا للتبعيض والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضاً على قولين أحدهما أن فائدة كلمة مِنْ هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ولا شك أنهم بعض الأمة ونظير هذه الآية قوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ ( التوبة 122 ) والثاني أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل والله أعلم
وفيه قول رابع وهو قول الضحاك إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعلم الدين
المسألة الثانية هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء أولها الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ثم النهي عن المنكر ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة فنقول أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وقوله تعالى قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ( يوسف 108 )
إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولاً ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمذكورة في كتب الكلام
ثم قال تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد سبق تفسيره وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين والفاسق ليس من المفلحين فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه لأن العاقل يقدم مهم(8/146)
نفسه على مهم الغير ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( التوبة 44 ) قوله لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ومعلوم أن ذلك في غاية القبح والعلماء قالوا الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول لا أقول ما لا أفعل فقال وأينا يفعل ما يقول ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر
المسألة الثانية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) وعن علي رضي الله عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال أيضاً من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس وجعل أعلاه أسفله وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير وعن الثوري إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن
المسألة الثالثة قال الله سبحانه وتعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) قدم الإصلاح على القتال وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ وكذا قوله تعالى وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ( النساء 34 ) يدل على ما ذكرناه ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد فإن عجز فباللسان فإن عجز فبالقلب وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال وَلاَ تَكُونُواْ أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ من أهل الكتاب مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط(8/147)
المسألة الثانية قوله تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ فيه وجوه الأول تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة مثل المشبهة والقدرية والحشوية
المسألة الثالثة قال بعضهم تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل بل معناهما مختلف ثم اختلفوا فقيل تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين وقيل تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة
المسألة الرابعة إنما قال مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ولم يقل جَاءتْهُمْ لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً
ثم قال تعالى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق
ثم قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة تأكيداً للأمر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في نصب يَوْمٍ وجهان الأول أنه نصب على الظرف والتقدير ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني أنه منصوب بإضمار ( اذكر )
المسألة الثانية هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) ومنها قوله وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ ( يونس 26 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبسى 38 41 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 22 25 ) ومنها قوله تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 ) ومنها قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 )
إذا عرفت هذا فنقول في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما أن البياض مجاز عن الفرح والسرور والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( النحل 58 ) ويقال لفلان عندي يد بيضاء أي جلية سارة ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم يا مسود وجوه المؤمنين ولبعضهم في الشيب(8/148)
يا بياض القرون سودت وجهي
عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي
عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي
وسواد لوجهك الملعون
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون الحمد لله الذي بيض وجهك ويقال لمن وصل إليه مكروه إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني
والقول الثاني إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ولا دليل يوجب ترك الحقيقة فوجب المصير إليه قلت ولأبي مسلم أن يقول الدليل دل على ما قلناه وذلك لأنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ثم قال القائلون بهذا القول الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة قال تعالى مخبراً عنهم قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 ) الثاني أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سبباً لمزيد غمهم في الآخرة فهذا وجه الحكمة في الآخرة وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه فهذا تقرير هذين القولين
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة فقالوا إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبسى 38 42 )
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه يبين ذلك أنه تعالى إنما قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فذكرهما على سبيل التنكير وذلك لا يفيد العموم وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق(8/149)
واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة واسوداد الوجه يكون نصيباً لمن أنكر ذلك ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة وصاحب السواد من أهل النار فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم وإذا كان كذلك كان الكل داخلاً فيه والثاني وهو أنه تعالى قال في آخر الآية فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصلياً والله أعلم
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فقدم البياض على السواد في اللفظ ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكياً عن رب العزة سبحانه ( خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم ) وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي ) وثالثها أن الفصحاء والشعراء قالوا يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم
السؤال الثاني أين جواب ( أما )
والجواب هو محذوف والتقدير فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( البقرة 127 ) وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا ( السجدة 12 )
السؤال الثالث من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم
والجواب للمفسرين فيه أقوال أحدها قال أُبي بن كعب الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان ورواه الواحدي في ( البسيط ) بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى فيما قبل هذه الآية يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ(8/150)
تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( آل عمران 70 ) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات وقال للمؤمنين وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ( آل عمران 105 )
ثم قال ههنا أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فكان ذلك محمولاً على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين به فلما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) كفروا به الثاني قال قتادة المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث قال الحسن الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس قيل هم الخوارج فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم ( إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ولأنه تخصيص لغير دليل ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة
السؤال الرابع ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله أَكْفَرْتُمْ
الجواب هذا استفهام بمعنى الإنكار وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 98 99 )
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
وفيه فوائد الأولى أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً الثانية قال القاضي قوله أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الثالثة قالت المرجئة الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللاً بالكفر وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما المراد برحمة الله
الجواب قال ابن عباس المراد الجنة وقال المحققون من أصحابنا هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا
السؤال الثاني كيف موقع قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ بعد قوله فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ
الجواب كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون
السؤال الثالث الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة(8/151)
والجواب كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه بل قال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ثم قال في آخر الآية وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك
ثم قال تعالى تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فقوله تِلْكَ فيه وجهان الأول المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله وإنما جاز إقامة تِلْكَ مقام هَاذِهِ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر فصار كأنها بعدت فقيل فيها تِلْكَ والثاني إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملاً على كل ما لابد منه في الدين فلما أنزل هذه الآيات قال تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقوله بِالْحَقّ فيه وجهان الأول أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه الثاني بالحق أي بالمعنى الحق لأن معنى التلو حق
ثم قال تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل على أن جانب الرحمة غالب ونظيره قوله تعالى في سورة ( عم ) بعد أن ذكر وعيد الكفار إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( النبأ 27 28 ) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة
المسألة الثانية قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك وبيانه وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى أو من العبد وبتقدير صدوره من العبد فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة وقوله تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلاً لشيء من هذه الأقسام ويلزم منه أن لا يكون فاعلاً للظلم أصلاً ويلزم أن لا يكون فاعلاً لأعمال العباد لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً وإنما قلنا إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ولو كان فاعلاً لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها وقد بطل ذلك قالوا فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ثم قالوا إنه(8/152)
تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ثم قالوا ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل أو العجز أو الحاجة وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلاً للقبيح والثاني أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول إنا نشاهد وجود الظلم في العالم فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال
فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر فقالوا المراد من قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً بل كان عادلاً لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا الكلام عليه من وجهين الأول أنه تعالى تمدح بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وبقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كونه خالقاً لأعمال العباد فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب كونها له بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وإنما يصح قولنا إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد
أجاب الجبائي عنه بأن قوله لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل ألا ترى أنه يقال هذا البناء لفلان(8/153)
فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلاهية نفسه ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح وأيضاً فقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إنما يتناول ما كان مظروفاً في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب فهذا تمام القول في هذه المناظرة
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية فقدم السبب على المسبب وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه
المسألة الخامسة قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم فقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ إشارة إلى أنه هو الآخر وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده
المسألة السادسة كلمة إِلَى في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاٌّ دُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(8/154)
في النظم وجهان الأول أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 106 ) وكمال حال السعداء وهو قوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لفظة كَانَ قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله كُنتُمْ على وجوه الأول أن ( كان ) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر والمعنى حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ويكون قوله خَيْرَ أُمَّة ٍ بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني أن ( كان ) ههنا ناقصة وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها
والجواب عنه أن قوله ( كان ) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) قوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( الفتح 14 ) إذا ثبت هذا فنقول للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها كنتم في علم الله خير أمة وثانيها كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) إلى قوله ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ ( الفتح 29 ) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها قال أبو مسلم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ تابع لقوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) والتقدير أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها قال بعضهم لو شاء الله تعالى لقال ( أنتم ) وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ولكن قوله كُنتُمْ مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا
الاحتمال الثالث أن يقال ( كان ) ههنا زائدة وقال بعضهم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ هو كقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وقال في موضع آخر وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ ( الأنفال 26 ) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة قال ابن الأنباري هذا القول ظاهر(8/155)
الاختلال لأن ( كان ) تلغى متوسطة ومؤخرة ولا تلغى متقدمة تقول العرب عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ولا يقولون كان عبد الله قائم على إلغائها لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه والمعنى لا يكون في محل العناية وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى
الاحتمال الرابع أن تكون ( كان ) بمعنى صار فقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله
ثم قال وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة وتقريره من وجهين الأول قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ ( الأعراف 159 ) ثم قال في هذه الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة
الوجه الثاني وهو ( أن الألف واللام ) في لفظ الْمَعْرُوفِ ولفظ الْمُنْكَرَ يفيدان الاستغراق وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقاً وصدقاً لا محالة فكان حجة والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول
المسألة الثالثة قال الزجاج قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه عام في كل الأمة ونظيره قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) كِتَابَ عَلِيمٌ الْقِصَاصِ ( البقرة 178 ) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا
المسألة الرابعة قال القفال رحمه الله أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام ( أمتي لا تجتمع على ضلالة ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة ( أمتي أمتي ) فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط
أما قوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ففيه قولان الأول أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار فقوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني أن قوله لِلنَّاسِ من تمام قوله كُنتُمْ والتقدير كنتم للناس خير أمة ومنهم من قال(8/156)
أُخْرِجَتْ صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس
ثم قال تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات
وههنا سؤالات
السؤال الأول من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم
والجواب قال القفال تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة وأنكر المنكرات الكفر بالله فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إلاه إلا الله ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه و ( لا إلاه إلا الله ) أعظم المعروف والتكذيب هو أنكر المنكر
ثم قال القفال فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم
السؤال الثاني لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات
والجواب أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في(8/157)
صفة الخيرية فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان
السؤال الثالث لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه
والجواب الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة
ثم قال تعالى وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وفيه وجهان الأول ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) وثانيتهما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ قال صاحب ( الكشاف ) هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب كما يقول القائل وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاء مِن غير عاطف
أما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ففيه سؤالان
السؤال الأول الألف واللام في قوله الْمُؤْمِنُونَ للاستغراق أو للمعهود السابق
والجواب بل للمعهود السابق والمراد عبد الله بن سلاّم ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى
السؤال الثاني الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق
والجواب الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان منهم من آمن والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
أما قوله تعالى لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ رغبهم فيه من وجه آخر وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم وكل ذلك تقرير لما تقدم من(8/158)
قوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( آل عمران 100 ) فهذا وجه النظم فأما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فمعناه أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( المائدة 73 ) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل وإما بإلقاء الشبه في الأسماع وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ومن الناس من قال إن قوله إِلاَّ أَذًى استثناء منقطع وهو بعيد لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى فهو استثناء صحيح والمعنى لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً والأذى وقع موقع الضرر والأذى مصدر أذيت الشيء أذى
ثم قال تعالى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة ومثله قوله تعالى وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( الحشر 12 ) قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) وقوله نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 44 45 ) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر
واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً وههنا سؤالات
السؤال الأول هب أن اليهود كذلك لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال
السؤال الثاني هلا جزم قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
قلنا عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً
السؤال الثالث ما الذي عطف عليه قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
الجواب هو جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ ثُمَّ لإفادة معنى التراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار(8/159)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به ومنه قولهم ما هذا علي بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة
المسألة الثانية الذلة هي الذل وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
ثم قال تعالى إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني أن هذه الذلة هي الجزية وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط وبعض من نصر هذا القول أجاب عن هذا السؤال بأن قال إن هذا الاستثناء منقطع وهو قول محمد بن جرير الطبري فقال اليهود قد ضربت عليهم الذلة سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة فقوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ إِلا على ( لكن ) خلاف الظاهر وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني القتل والأسر وسبي(8/160)
الذراري وأخذ المال وإلحاق الصغار والمهانة ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم فهذا هو القول في هذا الموضع وقوله أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أي وجدوا وصودفوا يقال ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته وقد مضى الكلام فيه عند قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ فيه وجوه الأول قال الفرّاء التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله وأنشد على ذلك رأتني بحبلها فصدت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
واعترضوا عليه فقالوا لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم فكأنه قيل لا تنفك عنهم الذلة ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس الثالث أن تكون الباء بمعنى ( مع ) كقولهم اخرج بنا نفعل كذا أي معنا والتقدير إلا مع حبل من الله
المسألة الرابعة المراد من حبل الله عهده وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر
فإن قيل إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة
قلنا قال بعضهم حبل الله هو الإسلام وحبل الناس هو العهد والذمة وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال أو حبل من الناس وقال آخرون المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضاً ضعيف والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول هو المسمى بحبل الله والثاني هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم
ثم قال وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا أن معناه أنهم مكثوا ولبثوا وداموا في غضب الله وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ومنه تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا به
ثم قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم والباقي عليهم ليس إلا الجزية وقال آخرون المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً وقال بعضهم هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين ثم إنه تعالى(8/161)
لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ والمعنى أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها جعل الذلة لازمة لهم وثانياً جعل غضب الله لازماً لهم وثالثها جعل المسكنة لازمة لهم ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق وهنا سؤالات
السؤال الأول هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأدوار وأعصار فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة فكان الإشكال لازماً
والجواب عنه أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلاً لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال
السؤال الثاني لم كرر قوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد والعصيان أقل حالاً من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان
والجواب من وجهين الأول أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالاً فحالاً ونور الإيمان يضعف حالاً فحالاً ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر وإليه الإشارة بقوله كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( المطففين 14 ) فقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني يحتمل أن يريد بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ من تقدم منهم ويريد بقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ من حضر منهم في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا لا يلزم التكرار فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة(8/162)
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَآئِمَة ٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله لَيْسُواْ سَوَاء قولين أحدهما أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام تام وقوله مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كلام مستأنف لبيان قوله لَيْسُواْ سَوَاء كما وقع قوله تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ( آل عمران 110 ) بياناً لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء وهو تقرير لما تقدم من قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ثم ابتدأ فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ وعلى هذا القول احتمالان أحدهما أنه لما قال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كان تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر
قال أبو ذؤيب دعاني إليها القلب إني لامرؤ
مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد ( أم غي ) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي وهذا قول الفراء وابن الأنباري وقال الزجاج لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي فيغني هذا عن أن يقال وعبد الله ليس كذلك فكذا ههنا لما تقدم قوله لَيْسُواْ سَوَاء أغنى ذلك عن الإضمار
والقول الثاني أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده بل هو متعلق بما بعده والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة فأمة رفع بليس وإنما قيل لَّيْسُواْ على مذهب من يقول أكلوني البراغيث وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة والله أعلم
المسألة الثانية يقال فلان وفلان سواء أي متساويان وقوم سواء لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في سَوَآء في أول سورة البقرة(8/163)
المسألة الثالثة في المراد بأهل الكتاب قولان الأول وعليه الجمهور أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلاّم وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود لقد كفرتم وخسرتم فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية وقيل إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية قال الثوري بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام
والقول الثاني أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال ( أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم ) وقرأ هذه الآية قال القفال رحمه الله ولا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولم يبعد أيضاً أن يقال المراد كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فسماهم الله بأهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا يستويان فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وهو كقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 )
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية
الصفة الأولى أنها قائمة وفيها أقوال الأول أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ ( المزمل 20 ) وقوله قُمِ الَّيْلَ ( المزمل 2 ) وقوله وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة
والقول الثاني في تفسير كونها قائمة أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ( آل عمران 75 ) أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها ومنه قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
وأقول إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وهذا قول الحسن البصري واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول(8/164)
الله إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه فغضب ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود قال الحسن متحيرون مترددون ( أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية ) وفي رواية أخرى قال عند ذلك ( إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة ً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني ) فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ
القول الثالث أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ أي مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام وهذا كالتقرير لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ
الصفة الثانية قوله تعالى يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يَتْلُونَ وَيُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لقوله أُمَّة ٍ أي أمة قائمة تالون مؤمنون
المسألة الثانية التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ
المسألة الثالثة آيات الله قد يراد بها آيات القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى
المسألة الرابعة أَمَّنْ هُوَ أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا مثل معى وأمعاء وإنى مثل نحى وإنحاء مكسور الأول ساكن الثاني قال القفال رحمه الله كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة ( آذيت وآنيت ) أي دافعت الأوقات
الصفة الثالثة قوله تعالى وَهُمْ يَسْجُدُونَ وفيه وجوه الأول يحتمل أن يكون حالاً من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في ( تفسيره ) حديثاً أن ذلك غير جائز وهو قوله عليه السلام ( ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ) الثاني يحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) قال الحسن يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة قال تعالى وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) أي صلوا وقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد الصلاة الرابع يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النمل 49 ) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله(8/165)
الصفة الرابعة قوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ واعلم أن اليهود كانوا أيضاً يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد فقوله يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي يقال لها إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية
الصفة الخامسة قوله وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر قال ابن عباس رضي الله عنهما يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي ينهون عن الشرك بالله وعن إنكار نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل فهو يتناول كل معروف وكل منكر
الصفة السابعة قوله وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وفيه وجهان أحدهما أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت والآخر يعملونها غير متثاقلين فإن قيل أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام ( العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن ) فما الفرق بين السرعة وبين العجلة قلنا السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين لأن من رغب في الأمر آثر الفور على التراخي قال تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 )
الصفة الثامنة قوله وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ ( الأنبياء 86 ) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وقال فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ( التحريم 4 ) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد سواء كان ذلك في العقائد أو في الأعمال فإذا كان كل ما حصل من باب(8/166)
ما ينبغي أن يكون فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ بالياء على المغايبة لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون ولن يضيع لهم ما يعلمون والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلاّم إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت ثم قال وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء فلن تكفروه والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( البقرة 197 ) وما تفعلوا من خير يوف إليكم وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين
المسألة الثانية فَلَنْ أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( البقرة 158 ) وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً والثاني أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً لأنه بمنزلة الجحد والستر
فإن قيل لم قال فَلَنْ فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها
قلنا لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان فكان كأنه قال فلن تحرموه ولن تمنعوا جزاءه
المسألة الثالثة احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية ونظير هذه الآية قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إلاه جميع المحدثات فاسم(8/167)
الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة وقوله عَلِيمٌ يدل على عدم الجهل وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم إنما قال عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قولان الأول المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس يريد قريظة والنضير وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) وثانيها أنها نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( مريم 74 ) وقوله خَاطِئَة ٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 17 18 ) وثالثها أنها نزلت في أبي سفيان فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن الآية عامة في حق جميع الكفار وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال وكانوا يعيرون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه بالفقر وكان من جملة شبههم أن قالوا لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه وللأولين أن يقولوا إنه تعالى قال بعد هذه الآية مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فالضمير في قوله يُنفِقُونَ عائد إلى هذا الموضع وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم إن قوله يُنفِقُونَ مخصوص ببعض الكفار فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً
المسألة الثانية إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة وذلك يدل على عدم انتفاعه(8/168)
بسائر الأشياء بطريق الأولى ونظيره قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) الآية وقوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقوله وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم قال وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً فقالوا قوله وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ كلمة تفيد الحصر فإنه يقال أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم كما أن الريح الباردة تهلك الزرع
فإن قيل فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة
قلنا المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث الثالث لعلّ الإشارة في قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جمع العساكر عليه وكان هذا الإنفاق مهلكاً(8/169)
لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير والتقدير مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع فإن انفاقهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ( التوبة 111 ) إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 ) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) والمراد جميع أنواع الانتفاعات
والقول الثاني وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم ( آل عمران 10 )
المسألة الثالثة قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ المراد منه جميع الكفار أو بعضهم فيه قولان الأول المراد بالإخبار عن جميع الكفار وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم فالذي قلناه فيه أسد وأشد ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ( الأنفال 36 ) وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب وكل ذلك مجموع في قوله تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وهذا القول هو الأقوى والأصح
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة
والقول الثاني المراد منه الإخبار عن بعض الكفار وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على(8/170)
الرسول عليه السلام الثالث نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك
المسألة الرابعة اختلفوا في الصر على وجوه الأول قال أكثر المفسرين وأهل اللغة الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني أن الصر هو السموم الحارة والنار التي تغلي وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها فِيهَا صِرٌّ لتصويتها عند الالتهاب ومنه صرير الباب والصرصر مشهور والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في فِيهَا صِرٌّ قال فيها نار وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به
المسألة الخامسة المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق وهذا إنما يصح إذا قلنا إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة
ثم قال تعالى أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه سؤال وهو أن يقال لم لم يقتصر على قوله أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ وما الفائدة في قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
قلنا في تفسير قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وجهان الأول أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني أن يكون المراد من قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَلَاكِنِ بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها ولا يجوز أن يراد ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن لأنه لا يجوز إلا في الشعر(8/171)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم على أقوال الأول أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك الثاني أنهم هم المنافقون وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فالله تعالى منعهم عن ذلك وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ( آل عمران 119 ) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثالث المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطأ منه فإن رأيت أن تتخذه كاتباً فامتنع عمر من ذلك وقال إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها
المسألة الثانية قال أبو حاتم عن الأصمعي بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به داخلاً في أمره فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه(8/172)
المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً نكرة في سياق النفي فيفيد العموم
أما قوله مّن دُونِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ مّن دُونِكُمْ يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا وقال تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) أي آباؤهم فعلوا ذلك
المسألة الثانية في قوله مّن دُونِكُمْ احتمالان أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله لاَ تَتَّخِذُواْ أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير بطانة كائنات من دونكم
فإن قيل ما الفرق بين قوله لا تتخدوا من دونكم بطانة وبين قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ
قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود
المسألة الثالثة قيل مِنْ زائدة وقيل للنبيّين لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم فإن قيل هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ ( الممتحنة 8 9 ) فكيف الجمع بينهما قلنا لا شك أن الخاص يقدم على العام
واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها قوله تعالى لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) يقال ( ألا ) في الأمر يألوا إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم لا آلوك نصحاً ولا آلوك جهداً على التضمين والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك جهداً
المسألة الثانية الخبال الفساد والنقصان وأنشدوا
لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد
أي فاسدة العضد منقوضتها ومنه قيل رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل وقال تعالى لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) أي فساداً وضرراً
المسألة الثالثة قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم يقال ما ألوته نصحاً أي ما قصرت في نصيحته وما ألوته شراً مثله
المسألة الرابعة انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر لأن معنى قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً لا يخبلونكم خبالا وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ وفيه مسائل(8/173)
المسألة الأولى يقال وددت كذا أي أحببته و ( العنت ) شدة الضرر والمشقة قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 )
المسألة الثانية ما مصدرية كقوله ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ( غافر 75 ) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( الشمس 5 6 ) أي بنائه إياها وطحيه إياها
المسألة الثالثة تقدير الآية أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر
المسألة الرابعة قال الواحدي رحمه الله لا محل لقوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ لأنه استئناف بالجملة وقيل إنه صفة لبطانة ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما
المسألة الخامسة الفرق بين قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وبين قوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ في المعنى من وجوه الأول لا يقصرون في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى البغضاء أشد البغض فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء
المسألة الثانية الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه يقال فوه وأفواه كسوط وأسواط وطوق وأطواق ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول وأفوه إذا كان واسع الفهم فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان
المسألة الثالثة قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة ونظيره قوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) الثاني قال قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه بل لا بد وأن يبغضه فهذا هو المراد بقوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ
ثم قال تعالى وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد ثم بيّن تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم فقال قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي من أهل العقل والفهم والدراية وقيل إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ الفصل بين ما يستحقه العدو والولي والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات والله أعلم(8/174)
هَآأَنتُمْ أُوْلا ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاٌّ نَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين وفيه مسائل
المسألة الأولى قال السيد السرخسي سلمه الله ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و أُوْلاء خبره و تُحِبُّونَهُمْ في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أُوْلاء بمعنى الذين و تُحِبُّونَهُمْ صلة له والموصول مع الصلة خبر أَنتُمْ وقال الفرّاء أُوْلاء خبر و تُحِبُّونَهُمْ خبر بعد خبر
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول قوله تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وفيه وجوه أحدها قال المفضل تُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب كونكم مسلمين الثالث تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع قال أبو بكر الأصم تُحِبُّونَهُمْ بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس تُحِبُّونَهُمْ أي تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ أي لا يفعلون مثل ذلك بكم
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين فالكل داخل تحت الآية ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين
والسبب الثاني لذلك قوله تعالى وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار والتقدير وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر
المسألة الثانية ذكر ( الكتاب ) بلفظ الواحد لوجوه أحدها أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل فلهذا لم يقل الكتب بدلاً من الكتاب وإن كان لو قاله لجاز توسعاً(8/175)
المسألة الثالثة تقدير الكلام أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونظيره قوله تعالى فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ( النساء 104 )
السبب الثالث لقبح هذه المخالطة قوله تعالى هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض قال المفسرون وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم
ثم قال تعالى قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي
فإن قيل قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر لهم بالإقامة على الغيظ وذلك الغيظ كفر فكان هذا أمراً بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز
قلنا قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال
وأيضاً فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون
ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ذات ) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن ( ذو ) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول فالتقدير أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أما الثاني وهو أن لا يكون داخلاً في المقول فمعناه قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ثم قول وأن يكون قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به كأنه قيل حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم(8/176)
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء ( ماساً ) على سبيل التشبيه فيقال فلان مسّه التعب والنصب قال تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 ) وقال وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 67 ) قال صاحب ( الكشاف ) المس ههنا بمعنى الإصابة قال تعالى إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ ( التوبة 50 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) وقال إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 20 21 )
المسألة الثانية المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب والقتل والنهب والغارة فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم
المسألة الثالثة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء والأنثى سيئة أي قبح ومنه قوله تعالى سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( المائدة 66 ) والسوأى ضد الحسنى
ثم قال وَأَن تَصْبِرُواْ يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم وَتَتَّقُواْ كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء وهو من ضاره يضيره ويضوره ضوراً إذا ضرَّه والباقون لاَ يَضُرُّكُمْ بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر وأصله يضرركم جزماً فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعاً لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد وقال بعضهم هو على التقديم والتأخير تقديره ولا يضركم كيدهم شيئاً إن تصبروا وتتقوا قال صاحب ( الكشاف ) وروى المفضل عن عاصم لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الراء
المسألة الثانية الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه وابن عباس فسّر الكيد ههنا بالعداوة(8/177)
المسألة الثالثة شَيْئاً نصب على المصدر أي شيئاً من الضر
المسألة الرابعة معنى الآية أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات وإليه الإشارة بقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره وقال بعض الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله
المسألة الثانية إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه وذلك من صفات الأجسام لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء قادراً على كل الممكنات جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ومنه قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( البروج 20 ) وقال وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ( البقرة 19 ) وقال وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ( طه 11 ) وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة الثالثة إنما قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالماً بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّى ءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك فيهم إذا لم(8/178)
يصبروا فقال وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم وذلك يؤكد قولنا وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أُبي بن سلول المنافق وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فيه ثلاثة أوجه الأول تقديره واذكر إذ غدوت والثاني قال أبو مسلم هذا كلام معطوف بالواو على قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ ( آل عمران 13 ) يقول قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والثالث العامل فيه محيط تقديره والله بما يعملون محيط إذ غدوت
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو فالأكثرون أنه يوم أحد وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم وقيل إنه يوم بدر وهو قول الحسن وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ( آل عمران 123 ) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد لا يوم الأحزاب فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعاً كثيراً من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى
السمألة الثالثة روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إني قد رأيت في منامي بقراً تذبح حولي فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ) فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم ( بدر ) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته فلما لبس ندم القوم وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال ( لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ) فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه وجعل(8/179)
يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال له تأخر وكان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك وقال أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً فانهزم عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة فبقيت سبعمائة ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن أراهم ما يحبون فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى إِذَا تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ ( آل عمران 153 ) وشج وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال هذا رسول الله فرجع إليه المهاجرون والأنصار وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه ) وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل ثم رجع عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع سبعمائة فأعانهم الله حتى هزموا الكفار ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع وكل ذلك يؤكد قوله تعالى وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وأن المقبل من أعانه الله والمدبر من خذله الله
المسألة الرابعة يقال بوأته منزلاً وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه والمباءة والباءة المنزل وقوله مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أي مواطن ومواضع وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان ومنه قوله تعالى فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( القمر 55 ) وقال قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ( النمل 39 ) أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين الأول وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة والثاني أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه
المسألة الخامسة قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد وهذا قول مجاهد والواقدي فدل هذا(8/180)
النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى الطَّيّبَاتِ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافراً قال إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) وكذلك امرأة لوط
ثم قال تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب فمنهم من قال له أقم بالمدينة ومنهم من قال اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول فمن موافق ومن مخالف فقال تعالى أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون
ثم قال تعالى إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ فيه وجوه الأول قال الزجاج العامل فيه التبوئة والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت الثاني العامل فيه قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ الثالث يجوز أن يكون بدلاً من إِذْ غَدَوْتَ
المسألة الثانية الطائفتان حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أُبي همت الطائفتان باتباعه فعصمهم الله فثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن العلماء من قال إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر
المسألة الثالثة الفشل الجبن والخور فإن قيل الهم بالشيء هو العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما
والجواب الهم قد يراد به العزم وقد يراد به الفكر وقد يراد به حديث النفس وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب فكان قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ لا يدل على أن معصية وقعت منهما وأيضاً فبتقدير أن يقال إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما
ثم قال تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عبد الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا كقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 )
المسألة الثانية في المعنى وجوه الأول أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى الثاني كأنه قيل الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى الثالث فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
فإن قيل ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به وقد أخبرنا الله تعالى نأنه وليهما(8/181)
قلنا معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وتأكيد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( آل عمران 122 ) الثاني أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل
ثم قال وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا فهذا تقرير وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بدر أقوال الأول بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة
المسألة الثانية أَذِلَّة ٍ جمع ذليل قال الواحدي الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل الأفعلة كجريب وأجربة وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة قال صاحب ( الكشاف ) الأذلة جمع قلة وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين
المسألة الثالثة قوله وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ في موضع الحال وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وما كان(8/182)
فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) الثالث أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم
ثم قال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ أي في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُنزَلِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر أو يوم أُحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في إِذْ فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في إِذْ قوله نَصَرَكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 123 ) والتقدير إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلاً ثانياً من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ
إذا عرفت هذا فنقول
القول الأول أنه يوم أحد وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق والحجة عليه من وجوه
الحجة الأولى أن يوم بدر إنما أمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( الأنفال 9 ) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر
الحجة الثانية أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة فصار عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم كما في يوم بدر فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة(8/183)
آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد
الحجة الثالثة أنه تعالى قال في هذه الآية بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ( آل عمران 125 ) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم بل هم ذهبوا إلى الأعداء
فإن قيل لو جرى قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ في يوم أحد ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب
والجواب عنه من وجهين الأول أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد فهذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط
الوجه الثاني في الجواب لا نسلم أن الملائكة ما نزلت روى الواقدي عن مجاهد أنه قال حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ملك أمد به وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه فظننت أنه ملك فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه
إذا عرفت هذا فنقول نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ
القول الثاني أن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين واحتجوا على صحته بوجوه
الحجة الأولى أن الله تعالى قال وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ كذا وكذا فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر
الحجة الثانية أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى
الحجة الثالثة أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط فوجب أن يحصل وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أُحد وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة والإعانة حصلت(8/184)
يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا
أما الحجة الأولى وهي قولكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة
فالجواب عنها من وجهين الأول أنه تعالى أمد أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ثم قال ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ثم قال لهم إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف وهو كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه ( أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة )
الوجه الثاني في الجواب أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف
وأما الحجة الثانية وهي قولكم إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف
فالجواب إنه تقريب حسن ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد
وأما الحجة الثالثة وهي التمسك بقوله وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ ( آل عمران 125 )
فالجواب عنه أن المشركين لما سمعوا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين والله أعلم بمراده
المسألة الثانية اختلفوا في عدد الملائكة وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد فقالوا لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فلا بد من التغاير وهو ضعيف لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد أما على تقدير الأول فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف وذكر خمسة آلاف والمجموع تسعة آلاف وإن حملناها على قصة أحد فليس فيها ذكر الألف بل فيها ذكر ثلاثة آلاف وخمسة آلاف والمجموع ثمانية آلاف وأما على التقدير الثاني وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا عدد الملائكة خمسة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة(8/185)
آلاف وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ثم إن المشركين ما جاءهم المدد فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار قال ابن عباس رضي الله عنهما لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون وهذا قول الأكثرين وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار واحتج عليه بوجوه
الحجة الأولى إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ثم بتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة
الحجة الثانية أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة
الحجة الثالثة الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ولم يقل أحد بذلك ولأن هذا على خلاف قوله تعالى وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 ) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة
وأما القسم الثاني وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً
الحجة الرابعة أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا إما أن يقال إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها(8/186)
بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم بالقتال مع المؤمنين وقال بعضهم بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام
المسألة الخامسة قوله تعالى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال قال المفضل ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده وما كان على جهة الزيادة قيل فيه مده يمده ومنه قوله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( لقمان 27 )
المسألة السادسة قرأ ابن عامر مُنزَلِينَ مشدد الزاي مفتوحة على التكثير والباقون بفتح الزاي مخففة وهما لغتان
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر
بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءَالا فٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُسَوِّمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى بلى إيجاب لما بعد ( لن ) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية ثم قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط
المسألة الثانية الفور مصدر من فارت القدر إذا غلت قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ( هود 40 ) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة يقال جاء فلان ورجع من فوره ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته(8/187)
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم مُسَوّمِينَ بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها والباقون بفتح الواو أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم فكان في المراد من التسويم في قوله مُسَوّمِينَ قولان الأول السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره ومضى شرح ذلك في قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم بدر ( سوموا فإن الملائكة قد سومت ) قال ابن عباس كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر وخيولهم وكانوا على خيل بلق بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء
القول الثاني في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت فمن قرأ مُسَوّمِينَ بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
الكناية في قوله وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عائدة على المصدر كأنه قال وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل يُمْدِدْكُمْ على الإمداد فكنى عنه كما قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) معناه وإن أكله لفسق فدل تَأْكُلُواْ على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي ذكر المدد إِلاَّ بُشْرَى والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 25 )
ثم قال وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وفيه سؤال
وهو أن قوله وَلِتَطْمَئِنَّ فعل وقوله إِلاَّ بُشْرَى اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم
والجواب عنه من وجهين الأول في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر(8/188)
فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم وهو المراد بقوله إِلاَّ بُشْرَى والثاني حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة فقال وَلِتَطْمَئِنَّ ونظيره قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها فكذا ههنا الثاني قال بعضهم في الجواب الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم
ثم قال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والحكيم إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه
ثم قال لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ واللام في لِيَقْطَعَ طَرَفاً متعلق بقوله وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم قيل إنه راجع إلى قوله وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف وهو كما يقول السيد لعبده أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف لأن البعض يقرب من البعض فكذا ههنا وقوله طَرَفاً أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف وهذا يوافق قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ( التوبة 123 ) وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الرعد 41 )
ثم قال أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه يقال كبته فانكبت هذا تفسيره ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت وقوله خَائِبِينَ الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر والله أعلم
لَيْسَ لَكَ مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو المشهور أنها نزلت في قصة أحد ثم(8/189)
القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ) ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعن أقواماً فقال ( اللّهم العن أبا سفيان اللّهم العن الحرث بن هشام اللّهم العن صفوان بن أُمية ) فنزلت هذه الآية أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال ( لأمثلن منهم بثلاثين ) فنزلت هذه الآية قال القفال رحمه الله وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
الوجه الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد
القول الثاني أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق
المسألة الثانية ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل فيه فعلاً وكانت هذه الآية كالمنع منه وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف منعه الله منه وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه فكيف يصح هذا مع قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله وإن كان قبيحاً فكيف يكون فاعله معصوماً
والجواب من وجوه الأول أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلاً به فإنه تعالى قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ثم قال وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وهذا لا يدل على أنه أطاعهم والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد والغضب العظيم وهو مثلة عمه حمزة وقتل المسلمين والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته والثاني لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ(8/190)
مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( النحل 126 127 ) كأنه تعالى قال إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ
الوجه الثالث في الجواب لعلّه ( صلى الله عليه وسلم ) لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه فنص الله تعالى على المنع منه وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء فيه قولان الأول أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها ليس لك في أن يتوب الله عليهم ولا في أن يعذبهم شيء
والقول الثاني أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري وهو كقوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ( الأنعام 62 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه ( صلى الله عليه وسلم ) من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً وكل من كان كذلك فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ومنهم من قال المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية
المسألة الرابعة ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما أن قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على ما قبله والتقدير ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ويكون قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول ضربت زيداً فاعلم ذلك عمراً فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها
والقول الثاني أن معنى أَوْ ههنا معنى حتى أو إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم
المسألة الخامسة قوله تعالى أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من(8/191)
الأفعال في المستقبل وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة فلو كانت الإرادات فعلاً للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه إبتداء ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن هو قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة
أما قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين لأن الشرك ظلم قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله
المسألة الثالثة قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جملة مستقلة إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب والمعنى أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك وملك السماوات والأرض ليس إلا لله تعالى فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا لله وهذا برهان قاطع
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات فدخل فيه الكل
أما قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلاهيته جميع الكفار والمردة وله أن يدخل النار بحكم إلاهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي(8/192)
يؤكد ذلك أيضاً وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة فلا الطاعة توجب الثواب ولا المعصية توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلاهيته وقهره وقدرته فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء
فإن قيل أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء
قلنا مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل وهذا الكلام في غاية الظهور
ثم ختم الكلام بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان(8/193)
بداية الجزء التاسع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(9/2)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
اعلم أن من الناس من قال انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها وقال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً مسألتان
المسألة الأولى كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً
المسألة الثانية انتصب أَضْعَافًا على الحال
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب وأن الفلاح يتوقف عليه فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله لَعَلَّكُمْ تقدم في سورة البقرة في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة
ثم قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وفيه سؤالات الأول أن النار التي أعدت للكافرين(9/3)
تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه فكيق قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
والجواب تقدير الآية اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين
السؤال الثاني ظاهر قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات
والجواب من وجوه الأول أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين الثاني أن كون النار معدة للكافرين لا يمنع دخول المؤمنين فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال انها معدة لهم كما أن الرجل يقول لدابة ركبها الحاجة من الحوائح إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف ومثاله قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( الملك 8 ) وليس لجميع الكفار يقال ذلك وأيضا قال تعالى فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( الشعرا 94 ) الى قوله إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعرا 98 ) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة ههنا فكذا فيما ذكرناه والله أعلم
الوجه الرابع ان قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله في الجنة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين
الوجه الخامس أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار كان انزجارهم عن المعاصي أتم وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا
السؤال الثالث هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا
الجواب نعم لأن قوله أُعِدَّتْ إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود
ثم قال تعالى وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن وقال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد(9/4)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة ٍمِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر سارعوا بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ومن ترك الواو فلانه جعل قوله سارعوا وقوله قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ( آل عمران 32 ) كالشيء الواحد ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف
المسألة الثانية روي عن الكسائي الإمالة في سارعوا راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ ( المؤمنون 61 ) ونسارع ( المؤمنون 65 ) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ويمنع كما المفتوحة الإمالة كذلك المسكورة يميلها
المسألة الثالثة قالوا في الكلام حذف والمعنى وسارعوا الى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات فكان هذا أمرا بالمسارعة الى فعل المأمورات وترك المنهيات وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر وللمفسرين فيه كلمات إحداها قال ابن عباس هو الإسلام أقول وجهه ظاهر لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام الثاني روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو أداء الفرائض ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل والثالث انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص كما قال الْبَيّنَة ُ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) الرابع قال أبو العالية هو الهجرة والخامس أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق قال لأن من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ( آل عمران 121 ) الى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد السادس قال سعيد بن جبير انها التكبيرة الأولى والسابع قال عثمان انها الصلوات الخمس والثامن قال عكرمة إنها جميع الطاعات لأن اللفظ عام فيتناول الكل والتاسع قال الأصم سارعوا أي بادروا الى التوبة من الربا والذنوب والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ثم قال وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب والجنة معناها إيصال الثواب فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة فالمراد كعرض السموات والأرض وههنا سؤالات(9/5)
السؤال الأول ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه الأول أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله والثاني أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا الثالث قال أبو مسلم وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر الرابع المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض فخوطبنا على وفق ما عرفناه فكذا ههنا
السؤال الثاني لم خص العرض بالذكر
والجواب فيه وجهان الأول أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ( الرحمن 54 ) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة فكذا ههنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني قال القفال ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب بلاد عريضة ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة
السؤال الثالث أنتم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء
والجواب من وجهين الأول أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش قال عليه السلام في صفة الفردوس ( سقفها عرش الرحمن ) وروي أن رسول هرقل سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال انك تدعو الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة قيل فأين هي قال فوق السموات السبع تحت العرش
والوجه الثاني أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات والنار في مكان الأرض والله أعلم
أما قوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى(9/6)
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات
فالصفة الأولى قوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وفيه وجوه الأول أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق وبالجملة فالسراء هو الغنى والضراء هو الفقر يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب والثاني أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فانهم لا يدعون الاحسان إلى الناس الثالث المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فانهم لا يتركونه وإنما افتتح الله بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين
الصفة الثانية قوله تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وفيه مسئلتان
المسألة الأولى يقال كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأنه وسددت عليه ويقال فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة ويقال أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس وكظم البعير كظوماً إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر ومعنى قوله وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشورى 37 )
المسألة الثانية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ) وقال عليه السلام لأصحابه ( تصدقوا ) فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه فوفد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قوم ذلك الرجل وفد فقال عليه السلام ( لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه ) وقال عليه السلام ( من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء ) وقال عليه السلام ( ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها ) وقال عليه السلام ( ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب )(9/7)
الصفة الثالثة قوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) الى قوله وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين مثلوا بحمزة وقال ( لامثلن بهم ) فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة فكان تركه فعل ذلك عفوا قال تعالى في هذه القصة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ ( النحل 126 ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ) وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ويدخل فيه انفاق العلم وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى وهو المراد بكظم الغيظ وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
واعلم أن وجه النظم من وجهين الأول أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان أحدهما الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس وثانيهما الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله وَالَّذِينَ إِذَا(9/8)
فَعَلُواْ فَاحِشَة ً وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله
والوجه الثاني أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين أنصاري وثقفي والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما فخرج الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم فكان يفعل ذلك ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها فندم الرجل فلما وافى الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سكت حتى نزلت هذه الآية وقال ابن مسعود قال المؤمنون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره اجدع أنفك افعل كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار
المسألة الثانية الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير فعلوا فعلة فاحشة وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها الأول قال صاحب ( الكشاف ) الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به والثاني أن الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل الثالث الفاحشة هي الزنا وظلم النفس هي القبلة واللمسة والنظرة وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( الإسراء 32 )
أما قوله ذَكَرُواْ اللَّهَ ففيه وجهان أحدهما أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه فيكون من باب حذف المضاف والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل والواقدي فان الضحاك قال ذكروا العرض الأكبر على الله ومقاتل والواقدي قال تفكروا أن الله سائلهم وذلك لأنه قال بعد هذه الآية فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر والنتيجة لذلك الذكر ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله ونهيه ووعيده ونظير هذه الآية قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 )
والقول الثاني أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب
ثم قال فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح وهو الندم على فعل ما(9/9)
مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة ولاظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى وقوله لِذُنُوبِهِمْ أي لأجل ذنوبهم
ثم قال وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه
ثم قال وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ واعلم أن قوله وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا
وقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فيه وجهان الأول أنه حال من فعل الاصرار والتقدير ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة الثاني أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث )
ثم قال أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمعنى أن المطلوب أمران الأول الأمن من العقاب واليه الاشارة بقوله مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ والثاني إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال القاضي وهذا يبطل قول من قال ان الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرض فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لِّلْمُتَّقِينَ
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الأمم الخالية وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه الأول أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه والسن الصب للماء والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فانه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد والسنة فعلة بمعنى مفعول وثانيها أن تكون(9/10)
من سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن فالفعل المنسوب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة على معنى أنه مسنون وثالثها أن يكون من قولهم سن الابل إذا أحسن الرعي والفعل الذي داوم عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته
المسألة الثانية المراد من الآية قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة واختلفوا في ذلك فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم فرغب الله تعالى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه وقال مجاهد بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 171 173 ) وقوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( الأعراف 128 القصص 83 ) وقوله أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 )
المسألة الثالثة ليس المراد بقوله فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ ( النحل 36 ) الأمر بذلك لا محالة بل المقصود تعرف أحوالهم فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ولا يمتنع أن يقال أيضا ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ثم قال تعالى هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ويعني بقوله هَاذَا ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان الأول أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى الثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة
الوجه الثاني أن البيان هو الدلالة وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ في سورة البقرة
المسألة الرابعة في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان أحدهما أنهم هم المنتفعون به فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَّعَ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( يس 11 ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء(9/11)
( فاطر 28 ) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الثاني أن قوله هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ كلام عام ثم قوله وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ للمتقين مخصوص بالمتقين لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن الذي قدمه من قوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ( آل عمران 137 ) وقوله هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور وصارت دولة أهل الحق عالية وصولة أهل الباطل مندرسة فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة اليكم
ثم نقول قوله وَلاَ تَهِنُواْ أي لا تضعفوا عن الجهاد والوهن الضعف قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وقوله وَلاَ تَحْزَنُواْ أي على من قتل منكم أو جرح وقوله وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ فيه وجوه الأول أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم الثاني أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة الثالث أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب وفرحا في النفس فبشرهم الله تعالى بذلك فأما قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ففيه وجوه الأول وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الإسلام الثاني وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة والثالث التقدير ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين فان الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم(9/12)
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّ يَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا من تمام قوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( آل عمران 139 ) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك فاذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم قَرْحٌ بضم القاف وكذلك قوله مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ( آل عمران 172 ) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه فالأول معناهما واحد وهما لغتان كالجهد والجهد والوجد والوجد والضعف والضعف والثاني أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد والثالث أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم والرابع وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة والخامس قال ابن مقسم هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) والثاني أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار
فان قيل كيف قال قَرْحٌ مّثْلُهُ وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين
قلنا يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى
ثم قال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى تِلْكَ مبتدأ والأيام صفة ونداولها خبره ويجوز أن يقال تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد فقوله تِلْكَ الاْيَّامِ إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال
المسألة الثانية قال القفال المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ ( الحشر 7 ) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم الى آخرين ثم عنهم إلى غيرهم ويقال دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه ويوم آخر بالعكس من ذلك ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها
واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه الأول أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل(9/13)
ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله والثاني أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وأما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من الله عليه والثالث وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة ولذلك فانه تعالى يميت بعد الاحياء ويسقم بعد الصحة فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء والقدرة بالعجز وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب فقال عمر هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أبو بكر وها أنا عمر فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال ان كان كما تزعمون فقد خبنا اذن وخسرنا
أما قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ متعلق بفعل مضمر اما بعده أو قبله أما الاضمار بعده فعلى تقدير وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فعلنا هذه المداولة وأما الاضمار قبله فعلى تقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور منها ليعلم الله الذين آمنوا ومنها ليتخذ منكم شهداء ومنها ليمحص الله الذين آمنوا ومنها ليمحق الكافرين فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة
المسألة الثانية الواو في قوله وليعلم الله الذين آمنوا نظائره كثيرة في القرآن قال تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) وقال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 113 ) والتقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ليسليهم عما جرى وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 30 ) وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( الكهف 12 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 الملك 2 ) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها
أجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور يقال هذا(9/14)
علم فلان والمراد معلومه وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم
إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية وجوه أحدها ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر والثاني ليعلم أولياء الله فأضاف الى نفسه تفخيما وثالثها ليحكم بالامتياز فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد
المسألة الرابعة العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد كما يقال علمت زيداً أي علمت ذاته وعرفته وقد يفتقر إلى مفعولين كما يقال علمت زيداً كريما والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول بمعنى معرفة الذات والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم وهو ظهور الصبر حذف ههنا
أما قوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية والثاني المراد منه وليكرم قوماً بالشهادة وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وقال وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الزمر 69 ) وقال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بارادة الله تعالى فقالوا منصب الشهادة على ما ذكرتم فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى وأيضاً فقوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى
المسألة الثالثة الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً وفي تعليل هذا الاسم وجوه الأول قال النضر بن شميل الشهداء أحياء لقوله بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها الثاني قال(9/15)
ابن الانباري لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة فالشهيد فعيل بمعنى مفعول الثالث سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين كما قال تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) الرابع سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فكذا ههنا يجب أن يقال هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله كما ماتوا دخلوا الجنة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي المشركين لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض وفيه وجوه الأول والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الايمان صابراً على الجهاد الثاني فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد لا لأنه يحبهم
ثم قال وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم والمحص في اللغة التنقية والمحق في اللغة النقصان وقال المفضل هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء ومنه قوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) أي يستأصله قال الزجاج معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم وهذه مقابلة لطيفة في المعنى والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة قال أبو مسلم في أَمْ حَسِبْتُمْ إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت وتلخيصه لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 1 2 ) وافتتح الكلام بذكر ( أم ) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه يقولون أزيداً ضربت أم عمرواً مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما قال وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً(9/16)
فلما قال وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبها وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا فلما كان كذلك فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة
المسألة الثانية قال الزجاج إذا قيل فعل فلان فجوابه أنه لم يفعل وإذا قيل قد فعل فلان فجوابه لما يفعل لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة ( لما )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وتمام الكلام فيه قد تقدم
أما قوله وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فاعلم أنه قرأ الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بالجزم عطفاً على وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ وأما النصب فباضمار أن وهذه الواو تسمى واو الصرف كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان وقرأ أبو عمرو وَيَعْلَمَ بالرفع على تقدير أن الواو للحال كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله وهذان الأمران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً فلهذه الحكمة قال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس ومجاهد والضحاك لما نزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه(9/17)
فهزموا أبا سفيان ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قد قتلت محمدا وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله فهنالك قال بعض المسلمين ليت عبدالله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال قوم من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا الى إخوانكم والى دينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال اللهم اني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال ان كان قد قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسر رباعيته احتمله طلحة بن عبيدالله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ثم ان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جعل ينادي ويقول الى عباد الله حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ومعنى الآية وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا
المسألة الثانية قال أبو علي الرسول جاء على ضربين أحدهما يراد به المرسل والآخر الرسالة وههنا المراد به المرسل بدليل قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( البقرة 252 ) وقوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ( المائدة 67 ) وفعول قد يراد به المفعول كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة قال ومن هذا قوله تعالى إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ونذكره في موضعه ان شاء الله تعالى ثم قال وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن وفيه مسائل
المسألة الأولى حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل ونظيره قوله هل زيد قائم فأنت أنما تستخبر عن قيامه الا انك أدخلت هل على الاسم والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( الزمر 30 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( الصف 9 ) فليس لقائل أن يقول لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل فان الجواب عنه من وجوه الأول أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها فانك(9/18)
تقول ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان وقال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة وليس فيهما فساد فكذا ههنا والثاني ان هذا ورد على سبيل الالزام فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه فكذا ههنا والثالث ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه لانه فارق بين الأمرين فلما رجع الى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد
المسألة الثالثة قوله انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أي صرتم كفارا بعد إيمانكم يقال لكل من عاد الى ما كان عليه رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم فقال بعض الانصار ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين الأول بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم والثاني أن الحاجة الى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم
المسألة الرابعة ليس لقائل أن يقول ان قوله وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ شك وهو على الله تعالى لا يجوز فانا نقول المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد
ثم قال تعالى وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً والغرض منه تأكيد الوعيد لأن كل عاقل يعلم ان الله تعالى لا يضره كفر الكافرين بل المراد أنه لا يضر الا نفسه وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الاقوياء من المؤمنين فهم شكروا الله على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال المراد بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أبو بكر وأصحابه وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّ خِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه الأول أن المنافقين أرجفوا أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل فالله تعالى يقول انه لا تموت نفس الا باذن الله وقضائه وقدره فكان قتله مثل موته في أنه لا(9/19)
يحصل الا في الوقت المقدر المعين فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان الثاني أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر وان أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء فلا فائدة في الجبن والخوف والثالث أن يكون المراد حفظ الله للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتخليصه من تلك المعركة المخوفة فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه والرابع وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله الخامس أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فاخبر الله تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية اخلفوا في تفسير الاذن على أقوال الأول أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم والمعنى ان الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الارواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر الثاني ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد لانه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى فاذن المراد أن نفسا لن تموت الا بما أماتها الله تعالى الثالث أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار وبه فسر قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة 102 ) أي بتخليته فانه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر فيكون المعنى ما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه الله له فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل الرابع أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت كما قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( النحل 61 ) الخامس قال ابن عباس الاذن هو قضاء الله وقدره فانه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل كانه فعل لا ينبغي لاحد أن يقدم عليه إلا باذن الله
المسألة الثالثة قال الاخفش والزجاج اللام في وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ معناها النفي والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن الله
المسألة الرابعة دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله وأن تغيير الآجال ممتنع
وقوله تعالى كِتَاباً مُّؤَجَّلاً فيه مسائل
المسألة الأولى قوله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله قام مقام أن يقال كتب الله فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ النساء 24(9/20)
لأن في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله صنع الله ووعد الله وفطرة الله وصبغة الله
المسألة الثانية المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ويقال انه هو اللوح المحفوظ كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم ( اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة )
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ولانقلب ذلك الكتاب كذبا وكل ذلك محال وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء الله وقدره وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام ( فحج آدم موسى ) قال القاضي أما الأجل والرزق فهما مضافان الى الله وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال وذلك لانا نقول إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام
وأما قوله تعالى وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة فالذين حضروا القتال للدنيا هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا والذين حضروا للدين فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك وتقريره قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) الى آخر الحديث
واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فان قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله ( في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ) ثم ان الله تعالى يأمر به الى النار(9/21)
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِى ٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ( وكائن ) على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا وقرأ الباقون ( كأين ) مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش ومن اللغة الأولى قول جرير وكائن بالأباطح من صديق
يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل وكائن ترى في الحي من ذي قرابة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ( قتل معه ) والباقون ( قاتل معه ) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا قال القفال رحمه الله والوقف على هذا التأويل على قوله ( قتل ) وقوله ( معه ربيون ) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم وقد قال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن ( آل عمران 144 ) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم ومن قرأ ( قاتل معه ) فالمعنى وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في القتال فوجب أن يكون المذكور هو القتال وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا بنبي قتل في القتال
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله أجمعوا على أن معنى ( كأين ) كم وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم ونظيره قوله فَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الحج 45 ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ( الحج 48 ) والكافي في ( كأين ) كاف التشبيه دخلت على ( أي ) التي هي للاستفهام كما دخلت على ( ذا ) من ( كذا ) و ( أن ) من كأن ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا تقول لي عليه كذا وكذا معناه لي عليه عدد ما فلا معنى للتشبيه الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) الربيون الربانيون وقرىء بالحركات الثلاث والفتح على(9/22)
القياس والضم والكسر من تغييرات النسب وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال الربيون الأولون وقال الزجاج هم الجماعات الكثيرة الواحد ربي قال ابن قتيبة أصله من الربة وهي الجماعة يقال ربي كأنه نسب الى الربة وقال الأخفش الربيون الذين يعبدون الرب وطعن فيه ثعلب وقال كان يجب أن يقال ربي ليكون منسوبا الى الرب وأجاب من نصر الأخفش وقال العرب إذا نسبت شيئاً الى شيء غيرت حركته كما يقال بصري في النسب الى البصرة ودهري في النسبة الى الدهر وقال ابن زيد الربانيون الأئمة والولاة والربيون الرعية وهم المنتسبون الى الرب
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين أولا بصفات النفي وثانيا بصفات الاثبات أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة قال صاحب ( الكشاف ) ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الارجاف بقتل رسولهم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي وطلب الأمان من أبي سفيان ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف وكل هذه الوجوه حسنة محتملة قال الواحدي الاستكانة الخضوع وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان الله يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه والحكم له بالثواب والجنة وذلك نهاية المطلوب
ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا(9/23)
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 1
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف
المسألة الثانية بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الامداد والاعانة من الله والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب قال القاضي إنما قدموا قولهم ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين فاذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فدخل فيه كل الذنوب سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه قال تعالى قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) وقال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وقال كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأعراف 31 ) ويقال فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم وذلك بازالة الخوف عن قلوبهم وازالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ثم قال القاضي وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالادعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره
فَأاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّ خِرَة ِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَاتَاهُمُ اللَّهُ يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم وذلك غير حاصل في الحال فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال أو يحمل قوله فَأَتَاهُمُ على أنه سيؤتيهم على قياس قوله اتِى أَمْرِ اللَّهِ أي سيأتي أمر الله قال القاضي ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك فانه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء
المسألة الثانية خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن فما خصه الله بانه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها منقطعة زائلة قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) أي حسنا والغرض منه المبالغة كأن تلك الاشياء(9/24)
الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن كما يقال فلان جود وكرم إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم
المسألة الثالثة قال فيما تقدم وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ( آل عمران 145 ) فذكر لفظة ( من ) الدالة على التبعيض فقال في الآية فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ ولم يذكر كلمة ( من ) والفرق أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة وأما المذكورون في هذه الآية فانهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور وهو المراد من قوله اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا ( آل عمران 147 ) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم وهو المراد بقوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب وهؤلاء فازوا بالكل وأيضا أولئك أرادوا الثواب وهؤلاء ما أرادوا الثواب وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله
ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز وأيضا انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى فعند ذلك سماهم بالمحسنين وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن الا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه ثم إنه تعالى قال هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) وقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من الله وباعانة الله
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين الى الكفر منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات الى كلام أولئك المنافقين فقال الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ المراد أبو سفيان فانه كان كبير القوم في ذلك اليوم قال السدي المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن وقال آخرون المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من(9/25)
المنافقين وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة وإنما هو رجل كسائر الناس يوما له ويوما عليه فارجعوا الى دينكم الذي كنتم فيه وقال آخرون المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة والأقرب أنه يتناول كل الكفار لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ
المسألة الثانية قوله إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام وقيل ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال وقيل في المشورة وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا )
ثم قال يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يعني يردوكم الى الكفر بعد الإيمان لأن قبول قولهم في الدعوة الى الكفر كفر
ثم قال فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد
ثم قال تعالى بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل لأنهم عاجزون متحيرون والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده ثم بين أنه خير الناصرين ولو لم يكن المراد بقوله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ النصرة لم يصح أن يتبعه بهذا القول وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه الأول أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه والثاني أنه ينصرك في الدنيا والآخرة وغيره ليس كذلك والثالث أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة كما قال قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنبياء 42 ) وغيره ليس كذلك
واعلم أن قوله وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 )
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(9/26)
اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره فانه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات قال كثير من المفسرين إنه مختص بهذا اليوم وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين الأول أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال أين ابن أبي كبشة وأين ابن أبي قحافة وأين ابن الخطاب فأجابه عمر ودارت بينهما كلمات وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم والثاني أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة فلما كانوا في بعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا الأكثرين منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم
والقول الثاني أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد بل هو عام قال القفال رحمه الله كأنه قيل انه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ويظهر دينكم على سائر الأديان وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل ونظير هذه الآية قوله عليه السلام ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر والكسائي الرُّعْبَ بضم العين والباقون بتخفيفها في كل القرآن قال الواحدي هما لغتان يقال رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب ويجوز أن يكون الرعب مصدرا والرعب اسم منه
المسألة الثالثة الرعب الخوف الذي يحصل في القلب وأصل الرعب الملء يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا
المسألة الرابعة ظاهر قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين إما في الحرب وإما عند المحاجة
وقوله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار
أما قوله بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ فاعلم أن ( ما ) مصدرية والمعنى بسبب إشراكهم بالله
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النحل 62 ) ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة(9/27)
وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه فثبت أن الاشراك بالله يوجب الرعب
أما قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى السلطان ههنا هو الحجة والبرهان وفي اشتقاقه وجوه الأول قال الزجاج إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق الثاني أن السلطان في اللغة هو الحجة وإنما قيل للأمير سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة الثالث قال الليث السلطان القدرة لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك قوته وقدرته ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل الرابع قابل ابن دريد سلطان كل شيء حدته وهو مأخوذ من اللسان السليط والسلاطة بمعنى الحدة
المسألة الثانية قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته ومنهم من يبالغ فيقول لا دليل عليه فيجب نفيه ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على فساد التقليد وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه فوجب أن يكون القول به باطلا وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا فيلزم فساد القول بالتقليد
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم وبين أحوالهم في الآخرة وهي أن مأواهم ومسكنهم النار
ثم قال وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المثوى المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه من قولهم ثوى يثوي ثويا وجمع المثوى مثاوي
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاٌّ خِرَة َ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ(9/28)
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه الأول أنه لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصرا فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني قال بعضهم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يريد تصديق رؤيا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى والرابع يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط والخامس يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) والسادس قيل الوعد هو ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرماة ( لا تبرحوا من هذا المكان فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان ) السابع قال أبو مسلم لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط
إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الصدق يتعدى إلى مفعولين تقول صدقته الوعد والوعيد
المسألة الثانية قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يحسونهم قال الليث الحس القتل الذريع تحسونهم أي تقتلونهم قتلا كثيرا قال أبو عبيد والزجاج وابن قتيبة الحس الاستئصال بالقتل يقال جراد محسوس إذا قتله البرد وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء ومعنى ( تحسونهم ) أي تستأصلونهم قتلا قال أصحاب الاشتقاق ( حسه ) إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه إذا أصاب بطنه ورأسه إذا أصاب رأسه وقوله بِإِذْنِهِ أي بعلمه ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدَمَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول ظاهر قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ بمنزلة الشرط ولا بد له من الجواب فأين جوابه
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين الأول أن هذا ليس بشرط بل المعنى ولقد صدقكم الله وعده(9/29)
حتى إذا فشلتم أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر وعلى هذا القول تكون كلمة ( حتى ) غاية بمعنى ( إلى ) فيكون معنى قوله حَتَّى إِذَا إلى أن أو إلى حين
الطريق الثاني أن يساعد على أن قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ شرط وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه الأول وهو قول البصريين أن جوابه محذوف والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ عليه ونظائره في القرآن كثيرة قال تعالى وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ ( الأنعام 35 ) والتقدير فافعل ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه وقال أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) والتقدير أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك
الوجه الثاني وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء أن جوابه هو قوله وَعَصَيْتُمْ والواو زائدة كما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ( الصافات 103 104 ) والمعنى ناديناه كذا ههنا الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم فالواو زائدة وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب ( حتى إذا ) بدليل قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( الزمر 71 ) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها
فان قيل إن فشلتم وتنازعتم معصية فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد
قلنا المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة
الوجه الثالث في الجواب أن يقال تقدير الآية حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون صرتم فريقين منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
فالجواب هو قوله صرتم فريقين إلا أنه أسقط لأن قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ يفيد فائدته ويؤدي معناه لأن كلمة ( من ) للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام وهذا احتمال خطر ببالي
الوجه الرابع قال أبو مسلم جواب قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ هو قوله صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة ( ثم ) ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها الفشل وهو الضعف وقيل الفشل هو الجبن وهذا باطل بدليل قوله تعالى وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ( الأنفال 46 ) أي فتضعفوا لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا ثانيها التنازع في الأمر وفيه بحثان
البحث الأول المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة(9/30)
وجعل أميرهم عبدالله بن جبير فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن فقالوا الغنيمة الغنيمة فقال عبدالله عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة وبقي عبدالله مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع
البحث الثاني قوله فِى الاْمْرِ فيه وجهان الأول أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن والثاني أنه الأمر الذي يضاده النهي والمعنى وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان وثالثها وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان بقي في هذه الآية سؤالات الأول لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية
والجواب ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ثم تنازعوا بطريق القول في أنا هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة
السؤال الثاني لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام
والجواب هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده وهو قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ
والجواب عنه أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم
ثم قال تعالى ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية فكيف أضافه الى نفسه أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة الله وتخليقه فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم وهذا قول جمهور المفسرين قالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ( آل عمران 155 ) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل الأول قال الجبائي ان الرماة كانوا فريقين بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم وبعضهم بقوا هناك ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو ألا ترى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به(9/31)
ولم يكونوا عصاة بذلك فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء
فان قيل فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين فلم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
قلنا الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ راجع الى المعذورين لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به ونظيره قوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) والمراد الذي قال له لاَ تَحْزَنْ وهو أبو بكر لأنه كان خائفا قبل هذا القول فلما سمع هذا سكن ثم قال وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ( التوبة 40 ) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام
والوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني وهو ان المراد من قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى الله وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم
والوجه الثالث قال الكعبي ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم
ثم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم قال القاضي إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين وقتل جمع عظيم من أكابرهم ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا ظاهر قوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) يدل على كونه كبيرة وقول من قال إنه خاص في بدر ضعيف لأن اللفظ عام ولا تفاوت في المقصود فكان التخصيص ممتنعا ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة لأن التوبة غير مذكورة فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة
ثم قال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان(9/32)
من الكبائر ثم انه تعالى سماهم المؤمنين فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة والله أعلم
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
فيه قولان
أحدهما أنه متعلق بما قبله وعلى هذا التقدير ففيه وجوه أحدها كأنه قال وعفا عنكم اذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إِذْ تُصْعِدُونَ والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها التقدير ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون وثالثها التقدير ليبتليكم اذ تصعدون
والقول الثاني أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والتقدير اذكر اذ تصعدون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْجَبَلِ وقرأ أبي إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْوَادِى وقرأ أبو حيوة إِذْ تُصْعِدُونَ بفتح التاء وتشديد العين من تصعد في السلم
المسألة الثانية الاصعاد الذهاب في الأرض والابعاد فيه يقال صعد في الجبل وأصعد في الأرض ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة قال أبو معاذ النحوي كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والإزقة فانك تقول صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله الى أعلاه وأما ما ارتفع كالسلم فانه يقال صعدت
المسألة الثالثة ولا تلوون على أحد أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته فاذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات الى الشيء يقال فلان لا يلوي على شيء أي لا يعطف عليه ولا يبالي به
ثم قال تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول ( الى عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة ) فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان(9/33)
يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو
ثم قال فِى أُخْرَاكُمْ أي آخركم يقال جئت في آخر الناس وأخراهم كما يقال في أولهم وأولاهم ويقال جاء فلان في أخريات الناس أي آخرهم والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه
ثم قال فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير ويجوز أيضا استعماله في الشر لأنه مأخوذ من قولهم ثاب اليه عقله أي رجع اليه قال تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ( البقرة 125 ) والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطىء عائد اليها وأصل الثواب كل ما يعود الى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم كما يقال تحيتك الضرب وعتابك السيف أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 الإنشقاق 24 )
المسألة الثانية الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة كما يقال هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ويحتمل أن تكون بمعنى ( مع ) والتقدير أثابهم غما مع غم أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره فالله تعالى أذاقكم هذا الغم وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم الثاني قال الحسن يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها وهو المعنى بقوله لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ في واقعة أحد وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) في واقعة بدر طعن القاضي في هذا الوجه وقال إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار وذلك كفر ومعصية فكيف يضيفه الله إلى نفسه ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله الثالث يجوز أن يكون الضمير في قوله فَأَثَابَكُمْ يعود للرسول والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه اغتموا لأجله والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم فكان المراد من قوله فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ هو هذا أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ بمعنى ( مع ) أي غما مع غم أو غما على غم فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض تقول ما زلت به حتى فعل وما زلت معه حتى فعل وتقول نزلت ببني فلان وعلى بني فلان
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة فأحدها غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال وثانيها غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك وثالثها غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية ورابعها ما أرجف به من قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وخامسها بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها وسادسها غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام وذلك من أشق الأشياء لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً فاذا أمر بالمعاودة فان فعل خاف القتل وإن لم يفعل خاف(9/34)
الكفر أو عقاب الآخرة وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها
الوجه الأول أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة
الوجه الثاني ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيما
الوجه الثالث أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول
والوجه الرابع أن الغم الأول ما وصل اليهم بسبب أنفسهم وأموالهم والغم الثاني ما وصل اليهم بسبب الارجاف بقتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله غَمّاً بِغَمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي ان الله عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل اخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ومثل إقدامكم على المعصية فكأنه تعالى قال أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى
المسألة الثالثة معنى أن الله أثابهم غم بغم أنه خلق الغم فيهم وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم فذكروا في علة هذه الاضافة وجوها الأول قال الكعبي ان المنافقين لما أرجفوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب فاذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فانه يقول له لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك بل سكت وكف عن اعلامه فكذا ههنا الثاني أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون الثالث أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح
ثم قال تعالى لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ وفيه وجهان الاول انها متصلة بقوله وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( آل عمران 152 ) كأنه قال ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن والثاني أن اللام متصلة بقوله فَأَثَابَكُمْ ثم على هذا القول ذكروا وجوها الأول قال الزجاج المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب مخالفته ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا الثاني قال الحسن جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر لاجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ للمجازاة أما إذا قلنا انها بمعنى ( مع ) فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر(9/35)
الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة والعاقل إذا تعارض عنده الضرران وجب أن يخص أعظمهما بالدفع فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة وزاجراً لكم عن ذلك ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم قادر على مجازاتها ان خيرا فخير وان شرا فشر وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية والله أعلم
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة ً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَة ً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاٌّ مْرِ مِن شَى ْءٍ قُلْ إِنَّ الاٌّ مْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين الثاني أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فريقان أحدهما الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وكانوا قد سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس فان النوم لا يجيء مع الخوف فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وقال في قصة بدر إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا(9/36)
شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال في صفة المؤمنين ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي ( الأمنة ) مصدر كالامن ومثله من المصادر العظمة والغلبة وقال الجبائي يقال أمن فلان يأمن أمناً وأماناً
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرىء ( أمنة ) بسكون الميم لأنها المرة من الأمن
المسألة الثالثة في قوله تعالى نُّعَاساً وجهان أحدهما أن يكون بدلا من أمنة والثاني إن يكون مفعولا وعلى هذا التقدير ففي قوله ءامِنَة ً وجوه أحدها أن تكون حالا منه مقدمة عليه كقولك رأيت راكباً رجلا وثانيها أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة وثالثها أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة
ثم قال تعالى يَغْشَى طَائِفَة ً مّنْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وعن الزبير قال كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وقال عبد الرحمن بن عوف ألقى النوم علينا يوم أحد وعن ابن مسعود النعاس في القتال أمنة والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد أحدها أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده وثانيها أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة وثالثها أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ورابعها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ومن الناس من قال ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء رداً إلى الأمنة والباقون بالياء رداً إلى النعاس وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما(9/37)
شئت كقوله تعالى الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ ( الدخان 43 45 ) وتغلي إذا عرفت جوازهما فنقول مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة والنعاس بدل ورد الكناية إلى الأصل أحسن وأيضاً الأمنة هي المقصود وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه فان الخائف لا يكاد ينعس وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي فان العرب يقولون غشينا النعاس وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة وأيضاً فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) وأيضاً النعاس يلي الفعل وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى
ثم قال تعالى وَطَائِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هؤلاء هم المنافقون عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما كان همهم خلاص أنفسهم يقال همني الشيء أي كان من همي وقصدي قال أبو مسلم من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف قد أهمته نفسه فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم وقيل المؤمنون كان همهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإخوانهم من المؤمنين والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها فهذا هو المراد من قوله أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم
المسألة الثانية ( طائفة ) رفع بالابتداء وخبره ( يظنون ) وقيل خبره ( أهمتهم أنفسهم ) ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات
الصفة الأولى من صفاتهم قوله تعالى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذا الظن احتمالان أحدهما وهو الأظهر هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد أما على قول أهل السنة والجماعة فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم بحيث يقهر الكافر المسلم حكم خفية وألطاف مرعية فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء ووجوه المصالح مستورة عن العقول فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين قال القفال لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب بل الانسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ومن المحق للمبطل وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق الثاني أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وينكرون النبوة(9/38)
والبعث فلا جرم ما وثقوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن الله يقويهم وينصرهم
المسألة الثانية غَيْرِ في حكم المصدر ومعناه يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ( وظن الجاهلية ) بدل منه والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة وأقبحها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا وهو ظن أهل الجاهلية كما يقال فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة
المسألة الثالثة في قوله الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ قولان أحدهما أنه كقولك حاتم الجود وعمر العدل يريد الظن المختص بالملة الجاهلية والثاني المراد ظن أهل الجاهلية
الصفة الثانية من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ
واعلم أن قوله ) هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها وهو يحتمل وجوها الأول أن عبدالله بن أبي لما شاوره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ثم ان الصحابة ألحوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يخرج اليهم فغضب عبدالله بن أبي من ذلك فقال عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبدالله بن أبي قيل له قتل بنو الخزرج فقال هل لنا من الأمر من شيء يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ( آل عمران 168 ) والمعنى هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار
الوجه الثاني في التأويل أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا عليه الأمر فقوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته وهذا استفهام على سبيل الانكار الثالث أن يكون التقدير أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ثم ان الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ( كله ) برفع اللام والباقون بالنصب أما وجه الرفع فهو أن قوله ( كله ) مبتدأ وقوله ( لله ) خبره ثم صارت هذه الجملة خبراً لان وأما النصب فلان لفظة ( كل ) للتأكيد فكانت كلفظة أجمع ولو قيل ان الأمر أجمع لم يكن إلا النصب فكذا إذا قال ( كله )
المسألة الثانية الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء والفقر والاغناء والسراء والضراء وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره وذلك لأن(9/39)
المنافقين قالوا ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله وهذا الجواب إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي وذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث أو ممكن دون ممكن فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وذلك هو المراد بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف
ثم انه تعالى قال يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا هل لنا من الأمر من شيء وهذا الكلام محتمل فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين وكان غرضه منه إظهار الشفقة وانه متى يكون الفرج ومن أين تحصل النصرة ولعله كان من المنافقين وإنما قاله طعنا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متحرزا عن مكرهم وكيدهم
النوع الثالث من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين قولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وفيه إشكال وهو أن لقائل أن يقول ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء ويمكن أن يجاب عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء فأجاب عنه بقوله الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد الله فيقول المعتزلي ليس الأمر كذلك فان الانسان مختار مستقل بالفعل ان شاء آمن وإن شاء كفر فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ويكون المراد من قوله لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَى ْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا هو ما كان يقوله عبدالله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه
الوجه الأول من الجواب قوله قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن(9/40)
فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا وكل ذلك محال ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذه الكلمة تفيد الوجوب فان هذه الكلمة في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) تفيد وجوب الفعل وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ثم نقول للمفسرين فيه قولان الأول لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد والثاني كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة قوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها فقال تعالى بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة أن يتميز الموافق من المنافق وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة
فان قيل لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 )
قلنا لما طال الكلام أعاد ذكره وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين والثاني سائر الأحوال
والوجه الثالث في الجواب قوله وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وفيه وجهان أحدهما أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات والثاني أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت وذكر في الابتلاء الصدور وفي التمحيص القلوب وفيه بحث ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور أو غير ذلك لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الالهية أو للاستصلاح
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
واعلم أن المراد أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم وفي الآية مسائل(9/41)
المسألة الأولى اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين وثلثهم انهزموا وثلثهم ثبتوا واختلفوا في المنهزمين فقيل ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل وهو سعد بن عثمان ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تفرونا وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن هاك المغزل اغزل به ومنهم قال ان المسلمين لم يعدوا الجبل قال القفال والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا فمنهم من دخل المدينة ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب وأما الاكثرون فانهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك ومن المنهزمين عمر الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وقالت فاطمة لعلي ما فعل عثمان فنقصه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ) وأما الذين ثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكانوا أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الانصار فمن المهاجرين أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير وخمسة من الانصار أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ثم لم يقتل منهم أحد وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول وجهي لوجهك الفداء ونفسي لنفسك الفداء وعليك السلام غير مودع
المسألة الثانية قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ أي حملهم على الزلة وأزل واستزل بمعنى واحد قال تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا وقال ابن قتيبة استزلهم طلب زلتهم كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته واستعملته طلبت عمله
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله فانه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكقول يوسف ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ) وكقول صاحب موسى ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) ( الكهف 63 )
المسألة الرابعة أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع بأن يكون رغبتهم في الغنيمة وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص وأي ذلك كان فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه وقرأ هذه الآية
أما قوله تعالى بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ففيه وجهان أحدهما أن الباء للالصاق كقولك كتبت بالقلم(9/42)
وقطعت بالسكين والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال الزجاج انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الاخلاص في التوبة فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه الثاني انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة لأن الذنب يجر الى الذنب كما أن الطاعة تجر الى الطاعة ويكون لطفا فيها الثالث لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب
والوجه الثاني أن يكون المعنى استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا لا في كل ما كسبوا والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ثم قالت المعتزلة ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم وان كان ذلك غير مذكور في الآية قال القاضي والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان الأول أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة إنما يقال ذلك في الصغائر الثاني أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق الى ثباتهم في ذلك المكان حاجة فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز فلا حاجة الى هذه التكلفات
ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي غفور لمن تاب وأناب حليم لا يعجل بالعقوبة وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به لأن من يظلم إنسانا فانه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(9/43)
اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج الى الجهاد لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان الله هو المحيي والمميت فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد وهو المراد من قوله وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وأيضا الذي قتل في الجهاد لو أنه ما خرج الى الجهاد لكان يموت لا محالة فاذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة وهو المراد من قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ فهذا هو المقصود من الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بقوله كَالَّذِينَ كَفَرُواْ فقال بعضهم هو على إطلاقه فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن وقال آخرون انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم وقال آخرون هذا مختص بعبدالله بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وسائر أصحابه وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ولو كان مؤمناً لما سماه الله كافراً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخراجهم كقوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأقول تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول فوجب أن يكون المراد من قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع اخوانهم
المسألة الثالثة قوله إِخْوانَهُمْ يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين كقوله تعالى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( الأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا اخوة الدين فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك
المسألة الرابعة المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد وهو المراد بقوله إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ والخارج إلى الغزو وهو المراد بقوله أَوْ كَانُواْ غُزًّى إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل فاذا قيل للمرء ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش وان تقحمت(9/44)
أحدهما وصلت الى الموت أو القتل فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد
فان قيل فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه
قلنا لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر لا ما يقرب منه وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض
المسألة الخامسة في الآية إشكال وهو أن قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ يدل على الماضي وقوله إِذَا ضَرَبُواْ يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما بل لو قال وقالوا لاخوانهم إذ ضربوا في الأرض أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال
والجواب عنه من وجوه الأول أن قوله قَالُواْ تقديره يقولون فكأنه قيل لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لاخوانهم كذا وكذا وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين أحدهما أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وقال إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع
الفائدة الثانية انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم
الوجه الثاني في الجواب أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية والمعنى أن اخوانهم إذا ضربوا في الأرض فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول قالوا فهذا هو المراد بقولنا خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية
الوجه الثالث قال قطرب كلمة ( اذ ) واذا يجوز اقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وأقول هذا الذي قاله قطرب كلام حسن وذلك لانا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى أقصى ما في الباب أن يقال ( اذ ) حقيقة في المستقبل ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة ( اذ ) من المشابهة الشديدة وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الالفاظ الواردة في القرآن فاذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم فانهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى
المسألة السادسة غُزًّى جمع غاز كالقول والركع والسجد جمع قائل وراكع وساجد ومثله من الناقص ( عفا ) ويجوز أيضا غزاة مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي ومعنى الغزو في كلام العرب(9/45)
قصد العدو والمغزى المقصد
المسألة السابعة قال الواحدي في الآية محذوف يدل عليه الكلام والتقدير إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فقوله مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ يدل على موتهم وقتلهم
ثم قال تعالى لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وفيه وجهان الأول أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم مثل ما يقال ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها الأول أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في منعه فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة
الوجه الثاني ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء والفوز بالأماني بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة
الوجه الثالث ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب
الوجه الرابع ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها فرحوا بذلك من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة فالله تعالى يقول إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة
الوجه الخامس ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بالحسرة كقوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ( الأنعام 125 )
الوجه السادس انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا اليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم
والقول الثاني في تفسير الآية أن اللام في قوله لِيَجْعَلَ اللَّهُ متعلقة بما دل عليه النهي والتقدير لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم(9/46)
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وفيه وجهان الأول أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت وان علم الله لا يتغير وان حكمه لا ينقلب وان قضاءه لا يتبدل فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت
فان قيل إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة وهذا يمنع من لزوم التكليف والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته الى نفيه فيكون باطلا
الجواب ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
والوجه الثاني في تأويل الآية أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين قال وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ يريد يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ويميت قلوب أعدائه من المنافقين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَعْمَلُونَ كناية عن الغائبين والتقدير لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ ولما بعده في قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
ثم قال تعالى وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة وهذا جواب في غاية الحسن والقوة وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ولا شك في كمال سعادة الأول وكمال شقاوة الثاني
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي ( متم ) بكسر الميم والباقون بضم الميم والأولون أخذوه من مات يمات مت مثل هاب يهاب هبت وخاف يخاف خفت وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من مات يموت مت مثل قال يقول قلت(9/47)
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله اللام في قوله بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لام القسم بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله واللام في قوله لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ جواب القسم ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء والاصوب عندي أن يقال هذه اللام للتأكيد فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل ان الموت والقتل غير لازم الحصول ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه
المسألة الثالثة قرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة والباقون بالتاء على وجه الخطاب أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه أحدها ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده وقد قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) وثانيها هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا وخيرات الآخرة لا تزول لقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) ولقوله مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ( النحل 96 ) وثالثها بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ومنافع الآخرة ليست كذلك ورابعها بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار وذلك مما لا يخفي وأما منافع الآخرة فليست كذلك وخامسها هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر بل تنقطع وتفنى وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال وسادسها أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية والحسية خسيسة والعقلية شريفة أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ
فان قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ولا خير فيما تجمعون أصلا
قلنا ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات
ثم قال وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة الله وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى الله يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال ماذا تطلبون فقالوا نخشى عذاب الله فقال هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا نطلب الجنة والرحمة فقال هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر(9/48)
فسألهم فقالوا نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون فانظر في ترتيب هذه الآيات فانه قال في الآية الأولى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه ثم قال وَرَحْمَة ً وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه ثم قال في خاتمة الآية لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وهو إشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وقال للمقربين من أهل الثواب عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته وهذا مقام فيه إطناب والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه
ولنرجع إلى التفسير كأنه قيل ان تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ثم تتركونها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ووقوفكم على عتبة رحمة الله وتلذذكم بذكر الله فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين
واعلم أن في قوله لإِلَى الله تُحْشَرُونَ دقائق أحدها أنه لم يقل تحشرون إلى الله بل قال لالى الله تحشرون وهذا يفيد الحصر معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو قال تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) وقال تعالى وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) وثانيها أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد وثالثها إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال لإِلَى الله وهذا ينبهك على أن الالهية تقتضي هذا الحشر والنشر كما قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) ورابعها أن قوله تُحْشَرُونَ فعل ما لم يسم فاعله مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدىء ويعيد ومنه الانشاء والاعادة فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة ونظيره قوله تعالى وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 ) وخامسها أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الالهية وسادسها أن قوله تُحْشَرُونَ خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور كما قال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) فمن تأمل في قوله تعالى لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت قال لأن قوله وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ يقتضي عطف المقتول على الميت وعطف الشيء على نفسه ممتنع(9/49)
فَبِمَا رَحْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاٌّ مْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالتغليط والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم زاد في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن لينه ( صلى الله عليه وسلم ) مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 215 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض الى الله من جهل إمام وخرقه ) فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان النبي وعلي يغسلان السلاح فقالت ما فعل ابن عفان أما والله لا تجدونه امام القوم فقال لها علي ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم فقال عليه الصلاة والسلام ( مه ) وروي أنه قال حيئنذ أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وروي عن بعض الصحابة أنه قال لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إنما أنا لكم مثل الوالد فاذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ) واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران اعتبار حال القائل واعتبار حال الفاعل أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية كما قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) وقال ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وقوله وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 )(9/50)
وأما في القوة العملية فكما وصفه الله بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كأنها من جنس أرواح الملائكة فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ولا تتأثر من حب المال والجاه فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات وإذا لم تمل اليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات وهذه الخواص نظرية وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فانه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الالهية فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب وإذا حصل له محبوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق
المسألة الثانية احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى فنقول رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب فاذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق المكلفين والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ووجب إيصاله اليه ومتى لم يفعل امتنع ايصاله فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله
المسألة الثالثة ذهب الأكثرون الى أن ( ما ) في قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ صلة زائدة ومثله في القرآن كثير كقوله عَمَّا قَلِيلٍ و جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ( ص 11 ) فَبِمَا نَقْضِهِم ( النساء 155 المائدة 13 ) مِنْ خَطَايَاهُمْ ( العنكبوت 12 ) قالوا والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه قال تعالى فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ ( يوسف 96 ) أراد فلما جاء فأكد بأن وقال المحققون دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر وههنا يجوز أن تكون ( ما ) استفهاما للتعجب تقديره فبأي رحمة من الله لنت لهم وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم انه ما أظهر ألبتة تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد فقيل فبأي رحمة من الله لنت لهم وهذا هو الأصوب عندي
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه(9/51)
الصلاة والسلام رحيما بالأمة فاذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا لله سبحانه والذي يقرر ذلك وجوه أحدها أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك واذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الافعال لا محالة وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله ان كل رحيم سوى الله تعالى فانه يستفيد برحمته عوضا اما هربا من العقاب أو طلبا للثواب أو طلبا للذكر الجميل فاذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه وتألم بسبب مشاهدته إياه في الالم فيخلصه عن ذلك الالم دفعا لتلك الرقة عن قلبه فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم ألبتة أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض فلا رحمة إلا لله وثالثها ان كل من رحم غيره فانه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الاعضاء وهي ليست إلا من الله تعالى فلا رحمة في الحقيقة إلا لله وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما قال عليه السلام ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) وقال في صفة محمد عليه السلام بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله تعالى الفظ الغليظ الجانب السيء الخلق يقال فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ وأصله فظظ كقوله حذر من حذرت وفرق من فرقت الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب وأصله صبب وأما ( الفض ) بالضاد فهو تفريق الشيء وانفض القوم تفرقوا قال تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) ومنه فضضت الكتاب ومنه يقال لا يفضض الله فاك
فان قيل ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب
قلنا الفظ الذي يكون سيء الخلق وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء فقد لا يكون الانسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم فظهر الفرق من هذا الوجه
المسألة الثانية ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله الى الخلق وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن إساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل الى إعانة الضعفاء كثير القيام باعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح عن زلاتهم فلهذا المعنى قال وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا اليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم(9/52)
المسألة الثالثة اللين والرفق انما يجوز إذا لم يفض الى إهمال حق من حقوق الله فأما إذا أدى الى ذلك لم يجز قال تعالى الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 )
وههنا دقيقة أخرى وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية وأمره بالغلظة في قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين فهو كقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان والفضيلة في الوسط فورود الامر بالتغليظ تارة وأخرى بالنهي عنه إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم فلهذا السر مدح الله الوسط فقال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 )
ثم قال تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها بالعفو عنهم وفيه مسائل
المسألة الأولى ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى قال عليه السلام ( تخلقوا بأخلاق الله ) ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم ) فيما يتعلق بحق الله تعالى
المسألة الثالثة ظاهر الأمر للوجوب والفاء في قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ يدل على التعقيب فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال وهذا يدل على كمال الرحمة الالهية حيث عفا هو عنهم ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم
واعلم أن قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم بل ندبهم اليه فقال تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين وثانيها قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى قوله فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ( الأنفال 16 ) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالعفو عنهم ثم أمره بالاستغفار لهم وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا
المسألة الثانية قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه اليه لأن ذلك لا يليق بالكريم فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا في حق أصحاب الكبائر فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى(9/53)
المسألة الثالثة أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( آل عمران 155 ) ثم أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم كأنه قيل له يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة وثالثها قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال شاورهم مشاورة وشواراً ومشورة والقوم شورى وهي مصدر سمي القوم بها كقوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 ) قيل المشاورة مأخوذة من قولهم شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم شرت الدابة شورا إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشواراً كأنه بالعرض يعلم خيره وشره فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها
المسألة الثانية الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه الأول أن مشاورة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك اهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة الثاني أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فانه عليه السلام قال ( أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم ) ولهذا السبب قال عليه السلام ( ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم ) الثالث قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته الرابع أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج وكان ميله إلى أن يخرج فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة الخامس وشاورهم في الأمر لا لتستفيد منهم رأياً وعلما لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم السادس وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج اليهم ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد السابع لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق الثامن الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة بل أنا أزيد فيها وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم والآن تعولون على فضلي وعفوي فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم والوجوه الثلاثة الأول مذكورة والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه(9/54)
المسألة الثالثة اتفقوا على ان كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا قال الكلبي وكثير من العلماء هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ ( الأمر ) ليسا للاستغراق لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو فكان قوله وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ مختصا بذلك ثم قال القائلون بهذا القول قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنزول على الماء فقبل منه فأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة ومنهم من قال اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ومدح المستنبطين فقال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاذ إذا لم ينزل عليه الوحي والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة وقد شاورهم يوم بدر في الاساري وكان من أمور الدين والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ثم ان ابليس خص نفسه بالقياس وهو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) فصار ملعونا فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب
المسألة الرابعة ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَشَاوِرْهُمْ يقتضي الوجوب وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( البكر تستأمر في نفسها ) ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا
المسألة الخامسة روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال الذي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعندي فيه اشكال لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية والله أعلم
ثم قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور
المسألة الثانية دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه كما يقوله بعض الجهال وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق(9/55)
المسألة الثالثة حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذَا عَزَمْتَ بضم التاء كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل وهذا ضعيف من وجهين الأول وصف الله بالعزم غير جائز ويمكن أن يقال هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام والمعنى وشاورهم في الأمر فاذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا والثاني أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع الى الله تعالى والاعراض عن كل ما سوى الله
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قال ابن عباس ان ينصركم الله كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله وهو قوله بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين ان من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فانه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه ويصير غالبا لا يغلبه أحد وأما من أتى بالمعصية فان الله يخذله ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها وذل لا عز معه
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا باعانة الله والكفر لا يحصل الا بخذلانه والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله
المسألة الثالثة قرأ عبيد بن عمير وَإِن يَخْذُلْكُمْ من أخذله إذا جعله مخذولا
المسألة الرابعة قوله مِن بَعْدِهِ فيه وجهان الأول يعني من بعد خذلانه والثاني أنه مثل قولك ليس لك من يحسن اليك من بعد فلان
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره(9/56)
وَمَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها المنع من الغلول فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل
المسألة الأولى الغلول هو الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة والغل الحقد الكامن في الصدر والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى وقال عليه الصلاة والسلام ( من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ) وقال ( هدايا الولاة غلول ) وقال ( ليس على المستعير غير المغل ضمان ) وقال ( لا إغلال ولا إسلال ) وأيضا يقال أغله إذا وجده غالا كقولك أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ( يغل ) بفتح الياء وضم الغين أي ما كان للنبي أن يخون وقرأ الباقون من السبعة ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين أي ما كان للنبي أن يخان
واختلفوا في أسباب النزول فبعضها يوافق القراءة الأولى وبعضها يوافق القراءة الثانية
أما النوع الأول ففيه روايات الأولى أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع فجاء قوم وقالوا ألا تقسم غنائمنا فقال عليه الصلاة والسلام ( لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم ) فأنزل الله هذه الآية الثاني أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية الثالث روى عكرمة وسعيد بن جبير أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الجهال لعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها فنزلت هذه الآية الرابع روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية الخامس روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية السادس قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال عليه الصلاة والسلام ( ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم ) فنزلت هذه الآية
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول بأن يعطى للبعض دون البعض(9/57)
وأما ما يوافق القراءة الثانية فروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وعن عبدالله بن عمرو أن رجلا كان على ثقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له كركرة فمات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما وقال عليه الصلاة والسلام ( أدوا الخيط والمخيط فانه عار ونار وشنار يوم القيامة ) وروي رويفع بن ثابت الانصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به فهل علي جناح فقال سلمان كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع وروي أن رجلا جاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشراك أو شراكين من المغنم فقال أصبت هذا يوم خيبر فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( شراك أو شراكان من نار ) ورمى رجل بسهم في خيبر فقال القوم لما مات هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام ( كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا ) واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان
الحالة الأولى أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة قال عبدالله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم حنين فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبن ويقول كلوا على اسم الله
الحالة الثانية إذا احتاج اليه روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به
المسألة الثالثة أما القراءة بفتح الياء وضم الغين بمعنى ما كان لنبي أن يخون فله تأويلان الأول أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان فنظير هذه الآية قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) يعني الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان وقيل اللام منقولة والتقدير وما كان النبي ليغل كقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أي ما كان الله ليتخذ ولدا
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقوله وَلَوْ نَّقُولُ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) فقوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ أي ما كان يحل له ذلك واذا لم يحل له لم يفعله ونظيره قوله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( النور 16 ) أي ما يحل لنا
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول حجة هذه القراءة وجوه أحدها أن أكثر الروايات في سبب(9/58)
نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الغلول فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به وثانيها أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ و مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ( يوسف 76 ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ( يوسف 38 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) وقل أن يقال ما كان زيد ليضرب وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالاعم الأغلب ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة وقال ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب بضم التاء وثالثها أن هذه القراءة اختيار ابن عباس فقيل له ان ابن مسعود يقرأ ( يغل ) فقال ابن عباس كان النبي يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة وأما القراءة الثانية وهي ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان الأول أن يكون المعنى ما كان للنبي أن يخان
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد أحدها أن المجنى عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش وثانيها أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا وثالثها ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش
الوجه الثاني في التأويل أن يكون من الاغل أن يخون أي ينسب الى الخيانة قال المبرد تقول العرب أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته الى الكفر قال العتبي لو كان هذا هو المراد لقيل يعلل كما قيل يفسق ويفجر ويكفر والأولى أن يقال إنه من أغللته أي وجدته غالا كما يقال أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك قال صاحب ( الكشاف ) وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا
المسألة الرابعة قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع ) وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناسا
ثم قال تعالى وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه وجهان الأول وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها قالوا وهي نظير قوله في مانع الزكاة يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ ( التوبة 35 ) ويدل عليه قوله ( لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وعن ابن عباس أنه قال يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له انزل اليه فخذه فينزل اليه فاذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه قال المحققون والفائدة فيه أنه إذا(9/59)
جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته
الوجه الثاني أن يقال ليس المقصود منه ظاهره بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير ونظيره قوله تعالى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( لقمان 16 ) فانه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين الأول قال أبو مسلم المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية الثاني قال أبو القاسم الكعبي المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه وههنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب اثباته
ثم قال تعالى ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه سؤالان
السؤال الأول هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله
والجواب الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب
السؤال الثاني المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا وفي إثبات وعيد الفساق
أما الأول فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه
وأما الثاني فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( النساء 93 ) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساف
والجواب أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو
ثم قال تعالى وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال القاضي هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب قال ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك
الجواب نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه كما أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) لا يدل على صحتهما عليه
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أنه تعالى لما قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ( البقرة 281 آل عمران 161 ) أتبعه بتفصيل هذه الجملة وبين ان جزاء(9/60)
المطيعين ما هو وجزاء المسيئين ما هو فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين فيه وجوه الأول أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك الغلول كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ في فعل الغلول وهو قول الكلبي والضحاك الثاني أفمن اتبع رضوان الله بالايمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته الثالث أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم المهاجرون كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم المنافقون الرابع قال الزجاج لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه الى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم الذين امتثلوا أمره كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم الذين لم يقبلوا قوله وقال القاضي كل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وكل من أخلد الى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب
المسألة الثانية قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ الهمزة فيه للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أمن اتقى فاتبع رضوان الله
المسألة الثالثة قوله بَاء بِسَخْطٍ أي احتمله ورجع به وقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الرابعة قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه رِضْوانِ اللَّهِ بضم الراء والباقون بالكسر وهما مصدران فالضم كالكفران والكسر كالحسبان
المسألة الخامسة قوله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ من صلة ما قبله والتقدير كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم فأما قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها
المسألة السادسة نظير هذه الآية قوله تعالى مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ ( الجاثية 21 ) وقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 ) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار وأن يدخل المذنبين الجنة وقالوا انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ولولا أنه ممتنع في العقول والا لما حسن هذا الاستبعاد وأكد القفال ذلك فقال لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات
هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الكلام لهم درجات عند الله الا أنه حسن هذا الحذف لان اختلاف(9/61)
أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة فبعضها ذكية وبعضها بليدة وبعضها مشرقة نورانية وبعضها كدرة ظلمانية وبعضها خيرة وبعضها نذلة واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية بل لاختلاف ماهيات النفوس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وقال ( الارواح جنود مجندة ) واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات
المسألة الثانية هم عائد الى لفظ ( من ) في قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ( آل عمران 162 ) ولفظ ( من ) يفيد الجمع في المعنى فلهذا صح أن يكون قوله هُمْ عائدا اليه ونظيره قوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ فان قوله يَسْتَوُونَ صيغة الجمع وهو عائد الى ( من )
المسألة الثالثة هم ضمير عائد الى شيء قد تقدم ذكره وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا الى الاول أو الى الثاني أو اليهما معا والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة
الوجه الأول أن يكون عائدا الى مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ اللَّهِ وتقديره أفمن اتبع رضوان الله سواء لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم والذي يدل على ان هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى وجوه الأول ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب والدركات في أهل العقاب الثاني أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير فوجب أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ وصفا لمن اتبع رضوان الله الثالث أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه الى نفسه قال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فما أضاف هذه الدرجات الى نفسه حيث قال هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب ورابعها أنه متأكد بقوله تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ( الإسراء 21 )
والوجه الثاني أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ عائدا على مِنْ بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ والحجة أن الضمير عائد الى الأقرب وهو قول الحسن قال والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب وهو كقوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ ( الأحقاف 19 ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي )
الوجه الثالث أن يكون قوله هُمْ عائدا الى الكل وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق لأنه تعالى قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب(9/62)
المسألة الرابعة قوله عَندَ اللَّهِ أي في حكم الله وعلمه فهو كما يقال هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى وهو قوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) وجها آخر فقال ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به اليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق وسخط الله على سخط الخلق كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ فرجح سخط الخلق على سخط الله ورضوان الخلق على رضوان الله ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران 159 ) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين فأما إذا كان على خلاف الدين فانه غير جائز فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته وبين من اتبع رضوان الخلق وهذا الذي ذكره محتمل لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
اعلم أن في وجه النظم وجوها الأول أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى الله والاعراض عن الدنيا فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة
الوجه الثاني أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ولكني أقول ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة
الوجه الثالث كأنه تعالى يقول انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم وأنتم أرباب الخمول والدناءة فاذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين حصل لكم شرف عظيم(9/63)
بسبب كونه فيكم فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل
الوجه الرابع انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله للمن في كلام العرب معان أحدها الذي يسقط من السماء وهو قوله وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( البقرة 57 ) وثانيها أن تمن بما أعطيت وهو قوله لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) وثالثها القطع وهو قوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ( فصلت 8 ) بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ورابعها الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه ومنه قوله هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ( ص 39 ) وقوله وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ والمنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول
المسألة الثانية أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم الى ثواب الله وهذا عام في حق العالمين لأنه مبعوث الى كل العالمين كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الإسلام فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ونظيره قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) مع أنه هدى للكل كما قال هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 )
المسألة الثالثة اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت مشتملة على الأمرين أحدهما المنافع الحاصلة من أصل البعثة والثاني المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) قال أبو عبدالله الحليمي وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه الأول أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها والثاني ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي والثالث أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها الرابع أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس ونوره عقلي إلهي(9/64)
يجري مجرى طلوع الشمس فيقوي العقول بنور عقله ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه الأول أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب والملازمة على الصدق ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة وبعده عن الخيانة والكذب ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى الثاني أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي الثالث أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها فلما لم يفعل شيئاً من ذلك علم أنه كان صادقا الرابع أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله الخامس أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة ثم لما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها ولا شك أن فيه أعظم المنة
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال مطلعين على هذه الدلائل فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم فهذا هو وجه الفائدة في قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ(9/65)
ثم قال بعد ذلك يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وبعبارة أخرى للنفس الانسانية قوتان نظرية وعملية والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين فقوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق وقوله وَيُزَكّيهِمْ اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية وَالْكِتَابِ إشارة إلى معرفة التأويل وبعبارة أخرى الْكِتَابِ إشارة الى ظواهر الشرعية وَالْحِكْمَة ِ إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين كان أعظم ونظيره قوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 )
أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد وهو المراد من قولهم أنى هذا وأجاب الله عنه بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى تقرير الآية أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ المراد منها واقعة أحد وفي قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين والثاني أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضاً في الأول يوم أحد ثم لما عصوا هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة وهذا اختيار الزجاج وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر
المسألة الثانية الفائدة في قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة أما قوله قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر فكيف صاروا منصورين عليناا(9/66)
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين الأول ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد فاذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة فكيف تستبعدون هذه الواقعة والثاني قوله قل هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الجواب من وجهين الأول أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور أولها أن الرسول عليه السلام قال المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا وهم أبوا إلا الخروج فلما خالفوه توجه إلى أحد وثانيها ما حكى الله عنهم من فشلهم وثالثها ما وقع بينهم من المنازعة ورابعها أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع وخامسها اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية كما قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط
الوجه الثاني في التأويل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر فقال يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لقومه فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر فهو معنى قوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي بأخذ الفداء واختياركم القتل
المسألة الثانية استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ من وجوه أحدها أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه كان قوله مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ كذباً وثانيها أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب وثالثها أن القوم قالوا أَنَّى هَاذَا أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال
والجواب أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد الله تعالى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( فاطر 1 ) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه وإذا كان الله قادرا على إيجاده فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجواً له يفضي إلى هذا المحال وجب أن لا يكون العبد موجدا له والله أعلم(9/67)
وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ ( آل عمران 165 ) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الفرقان 41 ) المراد يوم أحد والجمعان أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان
المسألة الثانية في قوله فَبِإِذْنِ اللَّهِ وجوه الأول أن اذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة استعار الاذن لتخلية الكفار فانه لم يمنعهم منهم ليبتليهم لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز
الوجه الثاني فباذن الله أي بعلمه كقوله وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبرة 3 ) أي إعلام وكقوله مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ ( فصلت 47 ) وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) وكل ذلك بمعنى العلم طعن الواحدي فيه فقال الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 )
الوجه الثالث أن المراد من الاذن الأمر بدليل قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 ) والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره
الوجه الرابع وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم والتسلية إنما تحصل إذا قيل ان ذلك وقع بقضاء الله وقدره فحينئذ يرضون بما قضى الله
ثم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه الأول قال أبو عبيدة هو من نافقاء اليربوع وذلك لأن حجر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فاذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه(9/68)
منافق لأنه وضع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلبته خرج من الآخر الثاني قال ابن الانباري المنافق من النفق وهو السرب ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب الثالث أنه مأخوذ من النافقاء لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ثم انه يرقق بما فوق الجحر حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فاذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام
المسألة الثانية قوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة وهذا يشعر بتجدد علم الله وهذا محال في حق علم الله تعالى فالمراد ههنا من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية حذف تقديره وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين
فان قيل لم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ولم يقل وليعلم المنافقين
قلنا الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى والفعل يدل على تجدده وقوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه وأما نَافَقُواْ فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت
ثم قال تعالى وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في أن هذا القائل من هو وجهان الأول قال الأصم انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال الثاني روي أن عبدالله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا لم نلقي أنفسنا في القتل فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبدالله الأنصاري أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو فهذا هو المراد من قوله تعالى وَقِيلَ لَهُمْ يعني قول عبدالله هذا
المسألة الثانية قوله قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم يعني كونوا إما من رجال الدين أو من رجال الدنيا قال السدي وابن جريج ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا قالوا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة والأول هو الوجه
المسألة الثالثة قوله تعالى قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات
ثم قال تعالى قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان الأول أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة فلهذا رجعنا الثاني أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له(9/69)
قتال وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبدالله كان في الاقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس واما الاستهزاء وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضاً باطل لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة
ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين وأيضاً قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ يدل على أنهم ليسوا من المسلمين وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين وإما على عدم الوثوق بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكل واحد منهما كفر
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد أنهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين
المسألة الثانية قال أكثر العلماء ان هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار قال الحسن إذا قال الله تعالى أَقْرَبُ فهو اليقين بأنهم مشركون وهو مثل قوله مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فهذه الزيادة لا شك فيها وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر وقال الواحدي في ( البسيط ) هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره لانه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله
ثم قال تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر
ثم قال وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(9/70)
فان قيل إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
قلنا المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الاحوال ما لا يعلمه غيره
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ( آل عمران 167 ) وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لاخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا فخوفوا من مراده موافقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه أحدها النصب على البدل من الَّذِينَ نَافَقُواْ وثانيها الرفع على البدل من الضمير في يَكْتُمُونَ وثالثها الرفع على خبر الابتداء بتقدير هم الذين ورابعها أن يكون نصبا على الذم
المسألة الثانية قال المفسرون المراد بِالَّذِينَ قَالُواْ عبدالله بن أبي وأصحابه وقال الأصم هذا لا يجوز لأن عبدالله بن أبي خرج مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد يوم أحد وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد قاله لمن خرج الى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد
المسألة الثالثة قالوا لاخوانهم أي قالوا لأجل إخوانهم وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة الاخوة في النسب أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار أو في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو في عبادة الاوثان والله أعلم
المسألة الرابعة قال الواحدي الواو في قوله وَقَعَدُواْ للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ثم أجاب الله عن ذلك بقوله قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين
فان قيل ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة
والجواب هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر وذلك لأنا إذا(9/71)
قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق فيصح الاستدلال أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله وقوله ان كنتم صادقين يعني إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره والوصول إلى المطالب
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا الجهاد يفضي إلى القتل كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد والقتل شيء مكروه فوجب الحذر عن الجهاد ثم ان الله تعالى بين أن قولهم الجهاد يقضي إلى القتل باطل بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا فان كان المراد منه هو الحقيقة فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء أو(9/72)
المراد أنهم أحياء في الحال وبتقدير أن يكون هذا هو المراد فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية
الاحتمال الأول أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة منهم أبو القاسم الكعبي قال وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى كانوا يقولون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى ان قوله بَلْ أَحْيَاء ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر
الحجة الثانية انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( 25 نوح ) والفاء للتعقيب والتعذيب مشروط بالحياة وأيضا قال تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى
الحجة الثالثة أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام وَلاَ تَحْسَبَنَّ مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم
فان قيل إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور
قلنا قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إنما يتناول الموت لأنه قال وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة وقوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال
الحجة الرابعة قوله تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره
الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صفة الشهداء ( ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل(9/73)
من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية ) وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وفي رواية في روضة خضراء وعن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه الله ثم قال ما تريد يا عبدالله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى ) والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر فكيف يمكن انكارها طعن الكعبي في هذه الروايات وقال إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم وانما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة وأيضا الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح وهذا يناقض كونها في حواصل الطير
والجواب أما الطعن الأول فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم وسنبين أن الأمر ليس كذلك وأما الطعن الثاني فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال
وأما الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ومنهم من أثبتها للبدن وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ويدل عليه أمران أحدهما أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال والتبدل والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل والذي يؤكد ما قلناه أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة ثم انه يكبر وينمو ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه الثاني أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا وان قلنا أنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر كما في هذه الآية وعن عذاب القبر كما في قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك فظاهر الآية دال عليه فوجب المصير اليه والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل أما القرآن فآيات إحداها أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( الفجر 27 30 ) ولا شك أن المراد من قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ الموت ثم قال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت وهذا يدل على ما ذكرناه وثانيها حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ( الأنعام 61 ) وهذا عبارة عن موت البدن(9/74)
ثم قال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) فقوله رُدُّواْ ضمير عنه وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن وثالثها قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) فقيل له يا رسول الله إنهم أموات فكيف تناديهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إنهم أسمع منكم ) أو لفظاً هذا معناه وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد
وأما المعقول فمن وجوه الأول وهو أن وقت النوم يضعف البدن وضعفه لا يقتضي ضعف النفس بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس الثاني وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ وجفافه يؤدي الى الموت وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية وهو غاية كمال النفس فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن الثالث أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا فانا نرى أن الانسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان أو بالفوز بمنصب أو بالوصول الى معشوقه قد ينسى الطعام والشراب بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الانوار وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه واذا عرفت هذه القاعدة فنقول قال بعض المفسرين أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة والدليل عليه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ولفظ ( عند ) فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فاذا فهمت السعادة(9/75)
الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة
الوجه الثالث في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ومنهم من قال يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ومن الناس من طعن فيه وقال انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها أو يقال إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها وكل ذلك مستبعد ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة
الوجه الرابع في تفسير هذه الآية أن نقول ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه الأول قال الأصم البلخي إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة صح أن يقال إنه حي وليس بميت كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد إنه ميت وليس بحي وكما يقال للبليد إنه حمار وللمؤذي إنه سبع وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له ما مات من خلف مثلك وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي الثاني قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وانها لا تبلى تحت الأرض البتة واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء أمر بأن ينادي من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع قال جابر فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما والثالث أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل أحد وقرىء بالياء وفيه وجوه أحدها ولا يحسبن رسول الله والثاني ولا يحسبن حاسب والثالث ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال وقرىء تَحْسَبَنَّ بفتح السين وقرأ ابن عامر قَاتِلُواْ بالتشديد والباقون بالتخفيف
المسألة الرابعة قوله بَلْ أَحْيَاء قال الواحدي التقدير بل هم أحياء قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَحْيَاء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء وأقول إن الزجاج قال ولو قرىء أَحْيَاء بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة وللزجاج أن يجيب فيقول الحسبان ظن لا شك فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر الله بالظن أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن(9/76)
وأقول هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء أَحْيَاء بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة والفارسي نازعه فيه وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ ففيه وجوه أحدها بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى والثاني هم أحياء عند ربهم أي هم أحياء في علمه وحكمه كما يقال هذا عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة بخلافه والثالث ان عِندَ معناه القرب والاكرام كقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 )
أما قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم وأما الحكماء فانهم قالوا إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين أحدهما ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية والثاني بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة قالوا وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الدرجة الثانية ولهذا قال فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني ان فرحهم ليس بالرزق بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب
ثم قال تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
واعلم أن قوله أَلاَّ خَوْفٌ في محل الخفض بدل من الَّذِينَ والتقدير ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الاستشار السرور الحاصل بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة
المسألة الثانية اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر
أما الأول فهو أن يقال ان الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا فهو قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم
وأما الثاني فهو أن يقال ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله والمراد بقوله لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم دليله قوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً ( النساء 95 96 ) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين(9/77)
ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك وأيضا فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم
المسألة الثالثة الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم وانما أعاد لفظ يَسْتَبْشِرُونَ لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة
فان قيل أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار
قلنا الجواب من وجهين الأول ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار والثاني لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة
المسألة الثانية قوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد
المسألة الثالثة الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان وهذا تنبيه من الله تعالى على ان فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الباقون بفتحها على معنى وبأن الله والتقدير يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله
المسألة الثانية المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء(9/78)
ليس حكما مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب فان الله سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة
المسألة الثالثة الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل اليه أجر إيمانه فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن الله تعالى مدح المؤمنين على غزوتين تعرف احداهما بغزوة حمراء الاسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلاهما متصلة بغزوة أحد أما غزوة حمراء الاسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره ان شاء الله تعالى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه الأول وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ الى آخر هذه الآية أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث أن يكون نصبا على المدح
المسألة الثانية في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه الى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع قوم من أصحابه قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة والثاني قال أبو بكر الأصم نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا وصلى عليهم ( صلى الله عليه وسلم ) ودفنهم بدمائهم وذكروا أن صفية جاءت لتنظر الى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها فقالت قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى فقال للزبير فدعها تنظر اليه فقالت خيرا واستغفرت له وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو حي قالت إن كل مصيبة بعدك هدر فهذا ما قيل في سبب نزول هذه(9/79)
الآية وأكثر الروايات على الوجه الأول
المسألة الثالثة استجاب بمعنى أجاب ومنه قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ إِلَى ( البقرة 186 ) وقيل أجاب فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وجوه الأول أَحْسَنُواْ دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات وقوله وَاتَّقَوْاْ دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم الثاني أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت واتقوا الله في التخلف عن الرسول وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض الثالث أحسنوا فيما أتوا به من طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف ( من ) في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو ءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام لعمر قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران وألقى الله تعالى الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا فقال يا نعيم إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن أرجع ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الابل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال ( والذي نفس محمد بيده لأخرجن(9/80)
إليهم ولو وحدي ) ثم خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ولم يلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتشربوا السويق فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها أنه جر صفة للمؤمنين بتقدير والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس الثاني أنه بدل من قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الثالث أنه رفع بالابتداء وخبره فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة المراد بقوله الَّذِينَ من تقدم ذكرهم وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بقوله قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وجوه الأول أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا ( البقرة 72 ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم إلا أنه أضيف اليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد الثاني وهو قول ابن عباس ومحمد بن إسحاق أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا الثالث قال السدي هم المنافقون قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثرين منكم فان ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد
المسألة الرابعة قوله تعالى إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره وقوله قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ أي جمعوا لكم الجموع فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا وقوله فَاخْشَوْهُمْ أي فكونوا خائفين منهم ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا فقال تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله فَزَادَهُمُ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات والثاني أنه عائد إلى نفس قولهم والتقدير فزادهم ذلك القول إيمانا وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ونظيره قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 )
المسألة الثانية المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل(9/81)
ذلك أو خف لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة وكانوا محتاجين إلى المداوة وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة فهذا هو المراد من قوله تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات وإنه يقبل الزيادة والنقصان احتجوا بهذه الآية فانه تعالى نص على وقوع الزيادة والذين لا يقولون بهذا القول قالوا الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا
المسألة الرابعة هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فانه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها
ثم قال تعالى وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل قال ابن الانباري حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله ومثله قول امرىء القيس
وحسبك من غنى شبع وري
أي يكفيك الشبع والري وأما ( الوكيل ) ففيه أقوال أحدها أنه الكفيل قال الشاعر
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
اراد كأنني برد الأمور كفيل الثاني قال الفراء الوكيل الكافي والذي يدل على صحة هذا القول أن ( نعم ) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها تقول رازقنا الله ونعم الرازق وخالقنا الله ونعم الخالق وهذا أحسن من قول من يقول خالقنا الله ونعم الرازق فكذا ههنا تقدير الآية يكفينا الله ونعم الكافي الثالث الوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول اليه والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه
ثم قال تعالى فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) أي فضرب فانفلق وقوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مجاهد والسدي النعمة ههنا العافية والفضل التجارة وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة وقوله لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء وروي أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم(9/82)
واعلم أن أهل المغازي اختلفوا فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد والآية الثانية ببدر الصغرى ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى والأول أولى لأن قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ كأنه يدل على قرب عهد بالقرح فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه والقول الآخر أيضا محتمل والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة فكأنه قيل إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ثم استجابوا لله وللرسسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم
إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله الشَّيْطَانِ خبر ذالِكُمْ بمعنى انما ذلكم المثبط هو الشيطان كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ جملة مستأنفة بيان لتثبيطه أو الشَّيْطَانِ صفة لاسم الاشارة و يُخَوّفُ الخبر والمراد بالشيطان الركب وقيل نعيم بن مسعود وسمي شبطاناً لعتوه وتمرده في الكفر كقوله شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) وقيل هو الشيطان يخوف بالوسوسة
أما قوله تعالى يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ ففيه سؤال وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين فما معنى قوله الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول تقدير الكلام ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه فحذف المفعول الثاني وحذف الجار ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ ( القصص 7 ) أي فاذا خفت عليه فرعون ومثال حذف الجار قوله تعالى لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ( الكهف 2 ) معناه لينذركم ببأس وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ ( غافر 15 ) أي لينذركم بيوم التلاق وهذا قول الفراء والزجاج وأبي علي قالوا ويدل عليه قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه
القول الثاني أن هذا على قول القائل خوفت زيدا عمرا وتقدير الآية يخوفكم أولياءه فحذف المفعول الأول كما تقول أعطيت الأموال أي أعطيت القوم الأموال قال ابن الانباري وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا أي لينذركم بأساً وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول خاف زيد القتال وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ
القول الثالث أن معنى الآية يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره فأما أولياء الله فانهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم وهذا قول الحسن والسدي فالقول الأول فيه محذوفان والثاني فيه محذوف واحد والثالث لا حذف فيه وأما الأولياء فهم المشركون والكفار وقوله فَلاَ تَخَافُوهُمْ الكناية في القولين الأولين عائدة(9/83)
إلى الأولياء وفي القول الثالث عائدة إلى النَّاسِ في قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) فَلاَ تَخَافُوهُمْ فتقعدوا عن القتال وتجنبوا وَخَافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع يَحْزُنكَ بضم الياء وكسر الزاي وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) في سورة الأنبياء فانه فتح الياء وضم الزاي والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي قال الازهري اللغة الجيدة حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء وحجة نافع أنهما لغتان يقال حزن يحزن كنصر ينصر وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه الأول أنها نزلت في كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك فانهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا واذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك الثاني أنها نزلت في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمداً طالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة عليه ولو كان رسولا من عند الله ما غلب وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام فكان الرسول يحزن بسببه قال بعضهم ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك السبب فانه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور الأول أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان الثاني أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن فاستوجب ذلك ثم أحبط الثالث أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود فلما قدر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الانتفاع بايمانهم ثم كفروا حزن ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك لفوات التكثير بهم فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير
القول الرابع أن المراد رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لمتاع(9/84)
الدنيا قال القفال رحمه الله ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إلى قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ( المائدة 41 ) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة فكيف نهى الله عن الطاعة
والجواب من وجهين الأول أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به فنهاه الله تعالى عن الاسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثاني أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك ألا ترى إلى قوله إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة
ثم قال إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً وقال عطاء يريد لن يضروا أولياء الله شيئاً
ثم قال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه رد على المعتزلة وتنصيص على أن الخير والشر بارادة الله تعالى قال القاضي المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أنه عدول عن الظاهر والثاني بتقدير أن يكون الأمر كما قال لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الاشكال
المسألة الثانية قالت المعتزلة الارادة لا تتعلق بالعدم وقال أصحابنا ذلك جائز والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال يُرِيدُ اللَّهُ أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم قالت المعتزلة المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) قلنا هذا عدول عن الظاهر
المسألة الثالثة الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين وحمل هذه الآية على اليهود ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما(9/85)
كانوا عليه فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان فاذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى إِنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ( آل عمران 176 ) وقال في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والفائدة في هذا التكرار أمور أحدها أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير وثانيها أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم فامثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم وثالثها ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين لا بناء على الشبهات بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا ومن كان عقله هذا القدر وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد لأن هذا البقاء صار وسيلة الى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( آل عمران 18 ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ ( آل عمران 188 ) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله تَحْسَبَنَّهُمْ وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فانه بالتاء وقرأ حمزة كلها بالتاء واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت(9/86)
فقوله يَحْسَبَنَّ فعل وقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت وقوله حسبت أن زيدا منطلق وحسبت أن يقوم عمرو فقوله في الآية أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ يسد مسد المفعولين ونظيره قوله تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ( الفرقان 44 ) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج وهو أن الَّذِينَ كَفَرُواْ نصب بأنه المفعول الاول و أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ بدل عنه و خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ هو المفعول الثاني والتقدير ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم ومثله مما جعل ( أن ) مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) فقوله أَنَّهَا لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين
المسألة الثانية ( ما ) في قوله إِنَّمَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم وحذف الهاء من ( نملي ) لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك الذي رأيت زيد والآخر أن يقال ( ما ) مع ما بعدها في تقدير المصدر والتقدير لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) ( ما ) مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب وأما في قوله أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ فههنا يجب أن تكون متصلة لانها كافة بخلاف الأولى
المسألة الرابعة معنى ( نملي ) نطيل ونؤخر والاملاء الامهال والتأخير قال الواحدي رحمه الله واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان يقال ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد قال الاصمعي يقال أملى عليه الزمان أي طال وأملى له أي طول له وأمهله قال أبو عبيدة ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر الثاني أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بارادة الله ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين الثالث أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم قالت المعتزلة
أما الوجه الأول فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا(9/87)
وأما الوجه الثاني فقد قالوا ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل أحدها أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ( إبراهيم 30 ) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال بل لطلب الاهتداء ويقال ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك وثانيها أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز ورابعها وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً غير محمول على الغرض باجماع الأمة أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان واذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ثم بعد هذا قول القائل ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل فاذا بطل ذلك سقط استدلاله
وأما الوجه الثالث وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا وهو بالاجماع باطل
والجواب عن الأول أن قوله وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ معناه نفي الخيرية في نفس الأمر وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر
وأما السؤال الثاني وهو تمسكهم بقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وبقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ ( النساء 64 )
فجوابه أن الآية التي تمسكنا بها خاص والآية التي ذكرتموها عام والخاص مقدم على العام
وأما السؤال الثالث وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر وأيضاً فان البرهان العقلي يبطله لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب وعدم حصوله محال وإرادة المحال محال فيمتنع أن يريد منهم الايمان ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة
وأما السؤال الرابع وهو التقديم والتأخير
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن التقديم والتأخير ترك للظاهر وثانيها قال الواحدي(9/88)
رحمه الله هذا إنما يحسن لو جازت قراءة أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ بكسر ( إنما ) وقراءة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً بالفتح ولم توجد هذه القراءة ألبتة وثالثها أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع
وأما السؤال الخامس وهو قوله هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع وأيضاً قوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان اليهم والقوم لا يقولون بذلك فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه
وأما السؤال السادس وهو المعارضة بفعل الله تعالى
فالجواب أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل فهذا تمام المناظرة في هذه الآية
المسألة السادسة اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية اختلف فيه قول أصحابنا فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية وقالوا هذه الآية دالة على أن أطالة العمر وإيصاله الى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة لانه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فانه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما فاذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد فأخبر تعالى ان الاحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة ثم دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اياهم مع ما كان بهم من الجراحات الى الخروج لطلب العدو ثم دعائه اياهم مرة أخرى الى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال(9/89)
صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود الى الجهاد فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ بالتشديد وكذلك في الافعال والباقون يَمِيزَ بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة قال الواحدي رحمه الله وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا او أميزه تمييزاً ومنه الحديث ( من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة ) وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف في اللفظ فكان أولى وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول التشديد للكثرة فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف والله تعالى قال حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ فذكر شيئين وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق وأيضا قال تعالى وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ ( ي س 59 ) وهو مطاوع الميز وحجة من قرأ بالتشديد أن التشديد للتكثير والمبالغة وفي المؤمنين والمنافقين كثرة فلفظ التمييز ههنا أولى ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما
المسألة الثانية قد ذكرنا أن معنى الآية ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب أي المنافق من المؤمن واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها أحدها بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره وثانيها أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين فلما قوي الإسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله وعند ذلك حصل هذا الامتياز وثالثها القرائن الدالة على ذلك مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك
المسألة الثالثة ههنا سأل وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين وان لم يظهر لم يحصل موعود الله
وجوابه أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني لا الامتياز القطعي
ثم قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول إن فلانا منافق وفلانا مؤمن وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار فان سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم الى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات حتى يتميز عندها الموافق من المنافق فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء أي ولكن الله يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان ويحتمل أيضا أن يكون المعنى وما كان الله(9/90)
ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل
ثم قال مَّا كَانَ اللَّهُ والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال مَّا كَانَ اللَّهُ يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وإنما قال وَرُسُلِهِ ولم يقل ورسوله لدقيقة وهي أن الطريق الذي به يتوصل الى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء فلهذه الدقيقة قال وَرُسُلِهِ والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهو ظاهر
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء والباقون بالياء أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان الأول أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ ضمير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو ضمير أحد والتقدير ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم الثاني أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ هم الذين يبخلون وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا وتقديره ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه كقوله من كذب كان شراً له أي الكذب ومثله
إذا نهى السفيه جرى إليه
أي السفه وأنشد الفراء
هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
فقوله به يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك(9/91)
المسألة الثانية هو في قوله هُوَ خَيْراً لَّهُمْ تسميه البصريون فصلا والكوفيون عماداً وذلك لأنه لما ذكر ( يبخلون ) فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل فكأنه قيل ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة وللخبر حقيقة وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر فاذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة ( هو )
المسألة الثالثة اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا وأن يكون علما
فالقول الأول ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال والمعنى لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم بل هو شر لهم وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم وهو المراد من قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
والقول الثاني أن المراد من هذا البخل البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته فكان ذلك الكتمان بخلا يقال فلان يبخل بعلمه ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل فاذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك بخلا
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى قال سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا الى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ولو فسرناها بالمال لم نحتج الى المجاز فكان هذا أولى الثاني أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم إلا على سبيل التكلف فكان الأول أولى
المسألة الرابعة أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب وان منع التطوع لا يكون بخلا واحتجوا عليه بوجوه أحدها ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل والوعيد لا يليق إلا الواجب وثانيها أنه تعالى ذم البخل وعابه ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به وثالثها وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه فيكون لا محالة تاركا التفضل فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا ورابعها قال عليه الصلاة والسلام ( وأي داء أدوأ من البخل ) ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف وخامسها أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل وسادسها أنه تعالى قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 ) وكلمة ( من ) للتبعيض فكان المراد من هذه الآية الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ثم إنه تعالى قال في صفتهم أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 )(9/92)
فوصفهم بالهدى والفلاح ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فانه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم
ثم قال تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذا الوعيد وجوه الأول أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم قيل انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي
القول الثاني في تفسير قوله سَيُطَوَّقُونَ قال مجاهد سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ ( البقرة 184 ) قال المفسرون يكلفونه ولا يطيقونه فكذا قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا
والقول الثالث أن قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ أي سيلزمون إثمه في الآخرة وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا يقال منه فلان كالطوق في رقبة فلان والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق ومنه يقال قلدتك هذا الأمر وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 )
القول الرابع إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار قال عليه الصلاة والسلام ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة ) والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غير بعيد وذلك لأن اليهود والنصارى(9/93)
موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به قال تعالى في صفتهم أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ( النساء 53 ) وقال أيضا فيهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وذلك من أقوال اليهود ولا يبعد أيضاً أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم وفي البخل بالمال ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة أما قوله بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار وأما قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فهو صريح بالوعيد
واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة
ثم قال تعالى وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه وجهان الأول وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونظيره قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( الحديد 7 ) والثاني وهو قول الأكثرين المراد أنه يفنى أهل السموات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى فيصير كالميراث قال ابن الانباري يقال ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه وقال تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( آل عمران 179 ) والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد
لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاٌّ نبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس(9/94)
وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته
فالشبهة الأولى أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ولما كان الفقر على الله تعالى محالا كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى
الوجه الثاني في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض فانه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول ان الله فقير ونحن أغنياء بل الانسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا فقال فنحاص اليهودي إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجحد ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه وقال آخرون لما أنزل الله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً ( البقرة 245 ) قالت اليهود نرى إله محمد يستقرض منا فنحن إذن أغنياء وهو فقير وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا وأرادوا قوله فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا إن يد الله مغلولة يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية وثانيها ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر وثالثها أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير
والوجه الرابع أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا لما كان الاله قادرا فأي حاجة به الى جهادنا وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا لما كان الاله غنيا فأي حاجة به الى أموالنا فكان إسنادهم هذه الشبهة الى اليهود لائقا من هذا الوجه وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني لو صدق محمد في أن الاله يطلب المال من عبيده لكان(9/95)
فقيرا ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال ونظيره قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ ( المجادلة 1 )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة لأنه تعالى قال الَّذِينَ قَالُواْ وظاهر هذا القول يفيد الجميع وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك
ثم قال تعالى سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء وتسمية الفاعل
المسألة الثانية هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها أحدها أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم الثاني سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة والثالث عندي فيه احتمال آخر وهو أن المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق الى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكل ما قدروا عليه
ثم قال اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق وفيه مسألتان
المسألة الأولى الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصاً بهذا الوقت بل هم منذ كانوا مصرون على الجهالات والحماقات
المسألة الثانية في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان أحدهما سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله كقوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا أي قتلها أسلافكم وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ( البقرة 49 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معاً أقوالهم وأفعالهم
والوجه الثاني سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي الله عنه وحسن قتله فقال الشعبي صرت شريكا في دمه ثم قرأ الشعبي قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ( آل عمران 183 ) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة
ثم قال تعالى وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ وفيه مسائل(9/96)
المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب على لفظ ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام وَيِقُولُ ذُوقُواْ بالياء المنقطة من تحت والباقون سَنَكْتُبُ وَنَقُولُ بالنون
المسألة الثانية المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق كما أذقت المسلمين الغصص والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم
المسألة الثالثة يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد وإن لم يكن هناك قول
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال فوجب أن يقال إنه لم يطلب المال من عبيده وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها
فنقول إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الاغنياء
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد منها أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب وذلك من أعظم المنافع فانه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة ومنها أن يتوسل بذلك الانفاق الى الثواب المخلد المؤبد ومنها أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فانه يقوى في حب الله وذلك رأس السعادات وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مراراً وأطوارا كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) وقال وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 ) وقال فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( يونس 58 ) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب وفيه بطلان قول المجبرة ان الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا
والجواب ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مراراً وأطوارا(9/97)
المسألة الثالثة لقائل أن يقول وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) يفيد نفي كونه ظلاما ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب اليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين
المسألة الرابعة اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الانسان لا اليد إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) والكل حسن متعارف في اللغة
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قوله تعالى الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وتقريرها أنهم قالوا ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوب وفنحاص بن عازوراء وغيرهم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً وقد عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء فان جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية قال عطاء كانت بنو اسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين الأول وهو قول السدى أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط وذلك أنه تعالى قال في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام فانهما إذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار قال وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت
القول الثاني ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان ذلك(9/98)
حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان وثانيها أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر وثالثها أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار أو شيء آخر والأول باطل لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة
وأما الثاني فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة لا على ظهور هذه المعجزة المعينة فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها قال الزجاج الجر وهذا نعت العبيد والتقدير وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا وثانيها أن التقدير لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا وثالثها أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير هم الذين قالوا ذلك
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله القربان البر الذي يتقرب به إلى الله وأصله المصدر من قولك قرب قربانا كالكفران والرجحان والخسران ثم سمى به نفس المتقرب به ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة ( يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان ) أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد بل على سبيل التعنت وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام وهم أظهروا هذا المعجز ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة(9/99)
المسألة الثانية إنما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه
المسألة الثالثة المراد بقوله وَبِالَّذِى قُلْتُمْ هو ما طلبوه منه وهو القربان الذي تأكله النار
واعلم أنه تعالى لم يقل قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم بل قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ والفائدة أن القوم قالوا ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ان الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا أما لما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ كان الالزام واردا لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا فثبت أنه لولا قوله جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 28 ) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
في قوله فَإِن كَذَّبُوكَ وجوه أحدها فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم فقد كذب رسل من قبلك نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم والثاني ان المراد فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ولعل هذا الوجه أوجه لأنه تعالى لم يخصص ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ومع هذا فانهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت فأما البينات فهي الحجج والمعجزات وأما الزبر فهي الكتب وهي جمع زبور والزبور الكتاب بمعنى المزبور أي المكتوب يقال زبرت الكتاب أي كتبته وكل كتاب زبور قال الزجاج الزبور كل كتاب ذي حكمة وعلى هذا(9/100)
الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر يقال زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ وقرأ ابن عباس وَبِالزُّبُرِ أعاد الباء للتأكيد وأما ( المنير ) فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام
المسألة الثانية عطف ( الكتاب المنير ) على ( الزبر ) مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر فحسن العطف كما في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة أو كونه باقياً على وجه الدهر ويحتمل أن يكون المراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور
قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ
اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين أحدهما أن عاقبة الكل الموت وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه والثاني ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ سؤال وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات وأيضا قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء وهذا العموم يقتضي موت الكل وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس
وجوابه أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة
المسألة الثانية ذَائِقَة ُ فاعلة من الذوق واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر كقولك زيد ضارب عمرو أمس فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب(9/101)
تقول هو ضارب زيد غدا وضارب زيدا غدا قال تعالى هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال وروي عن الحسن أنه قرأ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بالتنوين ونصب ( الموت ) وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بطرح التنوين مع النصب كقوله
ولا ذاكر الله إلا قليلا
وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النساء 97 النحل 28 ) ان شاء الله تعالى
المسألة الثالثة زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة قالوا وقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن لأنه جعل النفس ذائقة الموت والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن وهذا يدل على أن النفس غير البدن وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن وأيضا لفظ النفس مختص بالأجسام وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية فأما الأرواح المجردة فلا وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك فانه روي عن ابن عباس أنه قال لما نزل قوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) قالت الملائكة مات أهل الأرض ولما نزل قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ قالت الملائكة متنا
المسألة الرابعة قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف
ثم قال تعالى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم والأمن بلا خوف واللذة بلا ألم والسعادة بلا خوف الانقطاع وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة بل يمتزج به راحات وتخفيفات وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة نعوذ بالله منه
ثم قال تعالى فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ الزحزحة التنحية والابعاد وهو تكرير الزح والزح هو الجذب بعجلة وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن )
واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين الخلاص عن العذاب والوصول الى الثواب فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) وقرأ قوله تعالى فَمَن(9/102)
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه )
ثم قال فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الغرور مصدر من قولك غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور وعن سعيد بن جبير أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع والله أعلم
واعلم أن فساد الدنيا من وجوه أولها أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا وثانيها أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته وثالثها أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال لين مسها قاتل سمها وقال بعضهم الدنيا ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور
لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ ( آل عمران 185 ) زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه
أما قوله لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله اللام لام القسم والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ومثله اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 )(9/103)
المسألة الثانية لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد وقال الحسن المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال وهي الصلاة والزكاة والجهاد قال القاضي والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما
وأما قوله وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ولقد هجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويجمعون العساكر على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويثبطون المسلمين عن نصرته فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني
ثم قال عطفا على الأمرين وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون بعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له حين بعثه لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية
المسألة الثانية للآية تأويلان الأول أن المراد منه أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين كما قال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقال قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 35 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) قال الواحدي رحمه الله كان هذا قبل نزول آية السيف قال القفال رحمه الله الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه واعلم أن قول الواحدي ضعيف والقول ما قاله القفال
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد من الصبر والتقوى الصبر على مجاهدة الكفار(9/104)
ومنابذتهم والانكار عليهم فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار والسكوت عن إظهار الانكار
المسألة الثالثة الصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي وفيه وجه آخر وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة
المسألة الرابعة قوله مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه فتأخذ نفسه لا محالة به والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون معناه فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والانجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه الثاني أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) احتمال الأذى من أهل الكتاب وكان من جملة ايذائهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والانجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق أي فقال لهم لتبيننه ونظير هذه الآية قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ( البقرة 83 ) بالتاء(9/105)
والياء وأيضا قوله وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ ( الأسراء 4 )
المسألة الثانية الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أورودا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق وعن سعيد بن جبير قلت لابن عباس ان أصحاب عبدالله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( آل عمران 81 ) فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب والله أعلم
المسألة الثالثة الضمير في قوله لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ إلى ماذا يعود فيه قولان قال سعيد بن جبير والسدي هو عائد إلى محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور وقال الحسن وقتادة يعود إلى الكتاب في قوله أُوتُواْ الْكِتَابَ أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والانجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الرابعة اللام لام التأكيد يدخل على اليمين تقديره استحلفهم ليبيننه
المسألة الخامسة إنما قال ولا تكتمونه ولم يقل ولا تكتمنه لأن الواو واو الحال دون واو العطف والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين
فان قيل البيان يضاد الكتمان فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان
قلنا المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من التوراة والانجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة
المسألة السادسة اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فانه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال ما الذي بلغني عنك فقال ما كل الذي بلغنك عني قلته ولا كل ما قلته بلغك قال أنت الذي قلت إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً فقال نعم فقال وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه قال لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وقال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فوعاه قال عليه الصلاة والسلام ( من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار ) وعن علي رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
ثم قال تعالى فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد ونقيضه جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا(9/106)
فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم أو لجر منفعة أو لتقية وخوف أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت وكذا في قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ أما القراءة الأولى ففيها وجهان أحدهما أن يقرأ كلاهما بفتح الباء والثاني أن يقرأ كلاهما بضم الباء فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون والثاني بمفازة وقوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ تأكيد للأول وحسنت اعادته لطول الكلام كقولك لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله لا يَحْسَبَنَّ ففيها أيضا وجهان الأول بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والباقي كما علمت
والوجه الثاني بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ثم أعاد قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّ بضم الباء وقوله هُمْ رفع باسناد الفعل اليه والمفعول الأول محذوف والتقدير ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب وهو قول ابن عباس وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان(9/107)
مطلوبهم ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك فأطلع رسول الله على هذا السر والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء والثالث يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه الرابع أنه نزل في المنافقين فانهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم الخامس قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغزو ويفرحون بقعودهم عنه فاذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين السادس المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالاقرار بنبوته ودينه ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله
المسألة الثالثة في قوله بِمَا أَتَوْاْ بحثان الأول قال الفراء قوله بِمَا أَتَوْاْ يريد فعلوه كقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) وقوله لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) أي فعلت قال صاحب ( الكشاف ) أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ( مريم 61 ) لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ويدل عليه قراءة أبي يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُواْ
البحث الثاني قرىء آتوا بمعنى أعطوا وعن علي رضي الله عنه بِمَا أُوتُواْ
المسألة الرابعة قوله بِمَفَازَة ٍ مّنَ الْعَذَابِ أي بمنجاة منه من قولهم فاز فلان إذا نجا وقال الفراء أي ببعد من العذاب لأن الفوز معناه التباعد من المكروه وذكر ذلك في قوله فَقَدْ فَازَ ثم حقق ذلك بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ولا شبهة أن الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر على أذاهم
ثم قال وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب
إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاّيَاتٍ لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ(9/108)
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد الى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والالهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية قال ابن عمر قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبكت وأطالت ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال لي يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي فقلت يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها وعن علي رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر الى السماء ويقول إن في خلق السموات والارض وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى من فتيانهم فما اظلته السحابة فقالت له أمه لعل فرطة صدرت منك في مدتك قال ما أذكر قالت لعلك نظرة مرة الى السماء ولم تعتبر قال نعم قالت فما أتيت إلا من ذلك
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة وذكرها هنا أيضا وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وختمها ههنا بقوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة وهي السموات والأرض والليل والنهار فهذه أسئلة ثلاثة
السؤال الأول ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين
والسؤال الثاني لم اكتفي ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية
والسؤال الثالث لم قال هناك لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وقال ههنا لاِوْلِى الاْلْبَابِ
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر فعلى هذا السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل فاذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله واليه الاشارة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( طه 12 )(9/109)
والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما وقيل له إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل
إذا عرفت هذه القاعدة فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية التنبيه على ما ذكرناه ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية التي هي الدلائل الارضية وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر وانتقال القلب منها الى عظمة الله وكبريائه أشد ثم ختم تلك الآية بقوله لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وختم هذه الآية بقوله لاِوْلِى الاْلْبَابِ لأن العقل له ظاهر وله لب ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الالهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية وأصناف العبودية ثلاثة أقسام التصديق بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالجوارح فقوله تعالى يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان وقوله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ إشارة الى عبودية الجوارح والاعضاء وقوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة الى عبودية القلب والفكر والروح والانسان ليس إلى هذا المجموع فاذا كان اللسان مستغرقا في الذكر والأركان في الشكر والجنان في الفكر كان هذا العبد مستغرفا بجميع أجزائه في العبودية فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية وهذه الآية دالة على كمال العبودية فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور الى جناب الملك الغفور ونقول في الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في هذه الآية قولان الأول أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة(9/110)
والقول الثاني أن المراد من الذكر الصلاة والمعنى أنهم يصلون في حال القيام فان عجزوا ففي حال القعود فان عجزوا ففي حال الاضطجاع والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله )
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه بل يصلى مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب فكان هذا الوضع أولى
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر وأما كونه مضطجعاً على الجنب فانه غير مانع منه وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق فكان هذا الوضع أولى لكونه أقرب إلى اليقظة وإلى الاشتغال بالذكر
المسألة الرابعة محل عَلَى جُنُوبُهُمْ نصب على الحال عطفاً على ما قبله كأنه قيل قياماً وقعوداً ومضطجعين
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر لا جرم قال بعده وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق ) والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل وقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف نفسه عرف ربه ) معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في الجهة ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالفكر في مخلوقاته(9/111)
المسألة الثانية اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ودقائق لطيفة فانه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل
إذا عرفت هذا فنقول دلائل التوحيد محصورة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه فاذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم فاذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض واذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول سبحانكا والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول فقنا عذاب النار وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا عبادة كالتفكر ) وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تفضلوني على يونس بن متى فانه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض ) قالوا وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض
المسألة الثالثة دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء(9/112)
النوع الأول قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار وفيه وجهان قال الواحدي رحمه الله التقدير يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا وقال صاحب ( الكشاف ) انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين
المسألة الثانية هذا في قوله مَا خَلَقْتَ هَذا كناية عن المخلوق يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا وفي كلمة هَاذَا ضرب من التعظيم كقوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 )
المسألة الثالثة في نصب قوله بَاطِلاً وجوه الأول أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا الثاني أنه بنزع الخافض تقديره بالباطل أو للباطل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون ( باطلا ) حالا من ( هذا )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة والمراد منها رعاية مصالح العباد واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا وذلك ضد هذه الآية قالوا وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة ان الله تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها وذلك رد لهذه الآية قالوا وقوله سُبْحَانَكَ تنزيه له عن خلقه لهما باطلا وعن كل قبيح وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم ألا ترى إلى قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( الملك 3 ) وقال وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) فكان المراد من قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً هذا المعنى لا ما ذكره المعتزلة
فان قيل هذا الوجه مدفوع بوجوه الأول لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ومعلوم أن ذلك باطل الثاني أنه إنما يحسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك فقنا عذاب النار لأنه جزاء من عصي ولم يطع فثبت أنا إذا فسرنا قوله وَمَا خَلَقْتُ هَذا بَاطِلاً بما ذكرنا حسن هذا النظم أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم الثالث أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقال في آية أخرى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 38 39 ) وقال في آية أخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً إِلَى ( المؤمنون 115 ) قوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ( المؤمنون 116 ) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى
والجواب اعلم ان بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وشاهده أن كل ممكن لذاته فانه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته وليس في هذه القضية تخصيص(9/113)
بكون ذلك الممكن مغايرا لافعال العباد بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله واذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح إذا عرفت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي قوله ولو كان كذلك لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما وقوله سُبْحَانَكَ معناه انك وان خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله سُبْحَانَكَ معناه هذا قوله ثانيا إنما حسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا فسرناه بقولنا قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال سُبْحَانَكَ اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ونحن نقول بموجبه وان أفعال الله كلها حكمة وصواب لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم
المسألة الخامسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الافلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية قالوا لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة وذلك رد للآية قالوا وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص
أجاب المتكلمون عنه بأن قالوا لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة
أما قوله تعالى سُبْحَانَكَ فقيه مسألتان
المسألة الأولى هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات والأرض يعني أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها
المسألة الثانية المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية
أما قوله تعالى فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في(9/114)
أنه لا يقبح من الله شيء أصلا ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
النوع الثاني من دعواتهم قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ليكون موقع السؤال أعظم لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد والدعاء لا يتصل بالاجابة إلا إذا كان مقروناً بالاخص فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء
المسألة الثانية قال الواحدي الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض قال الزجاج أخزى الله العدو أي أبعده وقال غيره أخزاه الله أي أهانه وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله وفي القرآن وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى ( هود 78 ) وقال المفضل أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الانباري الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء وكل هذه الوجوه متقاربة ثم قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال من سبق فلاناً فقد سبق ومن تعلم من فلان فقد تعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا
والجواب أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر هذا هو الذي صح عندي في الجواب وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه أحدها أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مخصوص بمن يدخل النار للخلود وهذا الجواب عندي ضعيف لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فانما دخلها للخلود فهذا لا يكون سؤالا عنهم ثانيها قال المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة وثالثها قال الاخزاء يحتمل وجهين أحدهما الاهانة والاهلاك والثاني التخجيل يقال خزي خزاية إذا استحيا وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه(9/115)
واعلم أن حاصل هذا الجواب أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا واذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ غير المثبت في قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وعلى هذا يسقط الاستدلال إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد سقط هذا الجواب لأن قوله لا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ لنفي الجنس وقوله فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ لاثبات النوع وحينئذ يحصل بينهما منافاة
المسألة الرابعة احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فانه يخزي فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً والبغي من الكبائر بالاجماع وأيضا قال تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمناً فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) ولقوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 )
ثم قال تعالى فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار وإنما قلنا إن كل من دخل النار فانه يخزى لقوله تعالى إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار
والجواب عنه ما تقدم أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقاً بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر
المسألة الخامسة قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عام دخله الخصوص في مواضع منها أن قوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 71 72 ) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار وأهل الثواب يصانون عن الخزي وثانيها أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار وهم أيضا يصانون عن الخزي قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 )
المسألة السادسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني قالوا لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة(9/116)
المسألة السابعة احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين وقالوا الخزي هو الهلاك فقوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ معناه فقد أهلكته ولو كانوا يخرجون من النار الى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك والجواب أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالاهانة والتخجيل وعند هذا يزول كلامكم
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ونفي الجنس يقتضي نفي النوع
والجواب من وجوه الأول أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر قال تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ وثانيها إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا باذن الله قال تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) واذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن واذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر وليس الحكم إلا لله فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وقال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) لا يقال فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة لأنا نقول بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب فلهم يوم القيامة هذه الحجة اما الفساق فليس لهم ذلك فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق الثالث أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار قالوا لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة
والجواب المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة
النوع الثالث من دعواتهم
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَأامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاٌّ بْرَارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في المنادى قولان أحدهما أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين(9/117)
والدليل عليه قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ( الأحزاب 46 ) أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ( يوسف 108 ) والثاني أنه هو القرآن قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ ( الجن 1 2 ) قالوا والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه قالوا وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( المعارج 17 ) إذ كان مصيرهم اليها والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان قال الشاعر
يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية في قوله يُنَادِى لِلإِيمَانِ وجوه الأول ان اللام بمعنى ( إلى ) كقوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( المجادلة 3 ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( المجادلة 8 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 5 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( الأعراف 43 ) ويقال دعاه لكذا والى كذا وندبه له واليه وناداه له وإليه وهداه للطريق واليه والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا الثاني قال أبو عبيدة هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا كما يقال جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا والثالث أن هذه اللام لام الأجل والمعنى سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ألا تراه قال رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا أي لتؤمن الناس وهو كقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 )
المسألة الثالثة قوله سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى نظيره قولك سمعت رجلا يقول كذا وسمعت زيدا يتكلم فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه وانه يقال سمعت كلام فلان أو قوله
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن يقال ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي
وجوابه ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان ونظيره قولك مررت بهاد يهدي للاسلام وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب أو لاطفاء النائرة أو لاغاثة المكروب أو الكفاية لبعض النوازل وكذلك الهادي وقد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته
المسألة الخامسة قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ فيه حذف أو إضمار والتقدير آمنوا أو بأن آمنوا ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء أولها غفران(9/118)
الذنوب وثانيها تكفير السيئات وثالثها أن تكون وفاتهم مع الأبرار أما الغفران فهو الستر والتغطية والتكفير أيضا هو التغطية يقال رجل مكفر بالسلاح أي مغطى به والكفر منه أيضا وقال لبيد
في ليلة كفر النجوم ظلامها
اذا عرفت هذا فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها أحدها أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب وثانيها المراد بالأول ما تقدم من الذنوب وبالثاني المستأنف وثالثها أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ورابعها أن يكون المراد بالاول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا وبالثاني ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ ففيه بحثان الأول أن الأبرار جمع بر أو بار كرب وأرباب وصاحب وأصحاب الثاني ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين الأول أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد والثاني يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا والثالث أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ومنه قوله فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ( آل عمران 16 ) والاستدلال به من وجهين الأول أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ثم ان الله تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة والثاني وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا فعند هذا قالوا فاغفر لنا ذنوبنا والفاء في قوله فَاغْفِرْ فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ثم ان الله تعالى أجابهم اليه بقوله فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب فلأن يقبل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيه كان أولى
النوع الرابع من دعائهم(9/119)
رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وثانيها وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو الرسول وعقيب قوله مِنَ وهو التصديق
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن الخلف في وعد الله محال فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع
والجواب عنه من وجوه الأول أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة كقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 )
والوجه الثاني في الجواب أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم فانه تعالى وعد المتقين بالثواب ووعد الفساق بالعقاب فقوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا معناه وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية
الوجه الثالث ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم فهم طلبوا تعجيل ذلك وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الثالثة الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك وفي آخر الكلام قالوا إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق
المسألة الرابعة ههنا سؤال آخر وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ طلب للثواب فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما
والجواب من وجهين الأول أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ المراد منه المنافع وقوله وَلاَ تُخْزِنَا المراد منه التعظيم الثاني أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل وفقنا للطاعات واذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك والحاصل كأنه قيل وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك واذا(9/120)
وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك وهو إشارة الى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ولا فعل من الأفعال ولا لمحة ولا حركة إلا باعانة الله وتوفيقه
المسألة الخامسة قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ شبيه بقوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) فانه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ثم قال حكماء الإسلام وذلك هو العذاب الروحاني قالوا وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وعلى التفكر وهو قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( آل عمران 191 ) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) إلى قوله إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف يقال استجابه واستجاب له قال الشاعر وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 34 )(9/121)
المسألة الثالثة أني لا أضيع قرىء بالفتح والتقدير بأني لا أضيع وبالكسر على إرادة القول وقرىء لاَ أُضِيعُ بالتشديد
المسألة الرابعة من في قوله مّن ذِكْرِ قيل للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وقيل إنها مؤكدة للنفي بمعنى عمل عامل منكم ذكر أو أنثى
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله لاَ أُضِيعُ نفي للنفي فيكون اثباتا فيصير المعنى اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا وبمعصيته استحق عقابا فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب
المسألة السادسة جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم
فان قيل القوم أولا طلبوا غفران الذنوب وثانيا إعطاء الثواب فقوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ إجابة لهم في إعطاء الثواب فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب
قلنا إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ اجابة لدعائهم في المطلوبين وعندي في الآية وجه آخر وهو أن المراد من قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ أني لا أضيع دعاءكم وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه
وأما قوله تعالى مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى فالمعنى أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال لا بسائر صفات العاملين لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ومثله قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية
أما قوله تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ففيه وجوه أحسنا أن يقال مِنْ بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية قال القفال هذا من قولهم فلان مني أي على خلقي وسيرتي قال تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من غشنا فليس منا ) وقال ( ليس منا من حمل علينا السلاح ) فقوله بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه(9/122)
ثم قال تعالى فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمراد من قوله الَّذِينَ هَاجَرُواْ الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد من الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم الذين ألجأهم الكفار الى الخروج ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار فكانوا أفضل وقوله وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى أي من أجله وسببه وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لان المقاتلة تكون قبل القتال قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وَقَاتِلُواْ بالالف أولا وَقُتّلُواْ مخففة والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقَاتِلُواْ أولا وَقُتّلُواْ مشددة قيل التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ص 50 ) وقيل قطعوا عن الحسن وقرأ حمزة والكسائي وَقُتّلُواْ بغير ألف أولا وَقَاتِلُواْ بالالف بعده وفيه وجوه الأول أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( آل عمران 43 ) والثاني على قولهم قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل أو إذا قتل قومه وعشائره والثالث باضمار ( قد ) أي قتلوا وقد قاتلوا
ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة أولها محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( آل عمران 193 ) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وثالثها أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله مِنْ عِندِ اللَّهِ وهو الذي قالوه وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته واذا قال السلطان العظيم لعبده اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله ثَوَاباً مصدر مؤكد والتقدير لأثيبنهم ثوابا من عند الله أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم ثم قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات عالما بكل المعلومات غنياً عن الحاجات كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان فكان عنده حسن الثواب روي عن جعفر الصادق أنه قال من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة والكفار كانوا في النعم ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة فقال لاَ يَغُرَّنَّكَ وفيه مسائل(9/123)
المسألة الأولى قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه فيقول غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه رددته على غرة
المسألة الثانية المخاطب في قوله لاَ يَغُرَّنَّكَ من هو فيه قولان الأول أنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد هو الأمة قال قتادة والله ما غروا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قبضه الله والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره ويمكن أن يقال السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه كما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) فسقط قول قتادة ونظيره قوله وَلاَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( هود 42 ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( القلم 8 ) والثاني وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين كأنه قيل لا يغرنك أيها السامع
المسألة الثالثة تقلب الذين كفروا في البلاد فيه وجهان الأول نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية والثاني قال الفراء كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد تصرفهم في التجارات والمكاسب أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب
ثم قال تعالى مَتَاعٌ قَلِيلٌ قيل أي تقلبهم متاع قليل وقال الفراء ذلك متاع قليل وقال الزجاج ذلك الكسب والربح متاع قليل وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد فاذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل
ثم قال تعالى ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة وهو كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) وقوله وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 183 )
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ أي الفراش والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر 16 ) فهم بين أطباق النيران ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ(9/124)
اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل والنزل ما يهيأ للضيف وقوله لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ يتناول جميع الطاعات لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات وعن ترك المأمورات واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من الرؤية لتكون خلعة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وقوله نُزُلاً نصب على الحال من جَنَّاتُ لتخصيصها بالوصف والعامل اللام ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم وقال الفراء هو نصب على التفسير كما تقول هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال وَمَا عِندَ اللَّهِ من الكثير الدائم خَيْرٌ لّلابْرَارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش نُزُلاً بسكون الزاي وقرأ يزيد بن القعقاع لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بالتشديد
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ واختلفوا في نزولها فقال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المنافقون إنه يصلي على نصراني لم يره قط وقال ابن جريج وابن زيد نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا وقال مجاهد نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أولها الايمان بالله وثانيها الايمان بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام ورابعها كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يُؤْمِنُ لأن مَن يُؤْمِنُ في معنى الجمع وخامسها أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته
ثم قال تعالى في صفتهم أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والفائدة في كونه(9/125)
سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب
قوله تعالى الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب وذلك لأن أحوال الانسان قسمان منها ما يتعلق به وحده ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة
أما الصبر فيندرج تحته أنواع أولها أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين وثانيها أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات وثالثها أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات ورابعها الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف فقوله اصْبِرُواْ يدخل تحته هذه الأقسام وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء اليك كما قال وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر ويدخل فيه الجهاد فانه تعريض النفس للهلاك ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين وحل شكوكهم والجواب عن شبههم والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم فثبت ان قوله اصْبِرُواْ تناول كل ما تعلق به وحده وَصَابِرُواْ تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره
واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة فلهذا قال وَرَابِطُواْ ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح فلهذا قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة والاحتراز عن الافعال الذميمة ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة وذلك هو المراد بالمرابطة ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات وذلك هو تقوى الله ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والاخلاق وهو الفلاح فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه(9/126)
ولنذكر ما قاله المفسرون قال الحسن اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد وقال الفراء اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم وقال الأصم لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء
وأما قوله وَرَابِطُواْ ففيه قولان الأول أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر قال تعالى وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( الأنفال 60 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة ) االثاني أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان الأول ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال لم يكن في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة الثاني ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال ( فذلكم الرباط ) ثلاث مرات
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل وأصل الرباط من الربط وهو الشد يقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه وقال آخرون الرباط هو اللزوم والثبات وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم
قال الامام رضي الله تعالى عنه تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة(9/127)
سورة النساء
مائة وسبعون وست آيات مدنية
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاٌّ رْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام والرأفة بهم وإيصال حقوقهم اليهم وحفظ أموالهم عليهم وبهذا المعنى ختمت السورة وهو قوله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا فلهذا قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى الواحدي عن ابن عباس في قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أن هذا الخطاب لأهل مكة وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين وهذا هو الأصح لوجوه أحدها أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق وثانيها أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما وثالثها أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة بل هو عام في حق جميع العالمين وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل وكانت علة هذا التكليف وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق(9/128)
الكل كان القول بالتخصيص في غاية البعد وحجة ابن عباس أن قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون أسألك بالله وبالرحم وأنشدك الله والرحم وإذا كان كذلك كان قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختصا بالعرب فكان أول الآية وهو قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مختصا بهم لأن قوله في أول الآية اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقوله بعد ذلك وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها فكان قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عاما في الكل وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ خاصاً بالعرب
المسألة الثانية أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن إحداهما هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن والثانية سورة الحج وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد وهو قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد وتحت هذا البحث أسرار كثيرة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف فنقول قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة مشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا والثاني كيفية ذلك التخليق وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى
أما القيد الأول وهو أنه تعالى خلقنا فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه وبيان ذلك من وجوه الأول أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق الثاني أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان فانك كنت معدوما فأوجدك وميتا فأحياك وعاجزا فأقدرك وجاهلا فعلمك كما قال إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين ) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد وترك التمرد والعناد وهذا هو المراد بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) الثالث وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر هذا إذا سلمنا(9/129)
أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء فكيف وهذا محال لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة وخلق الداعية على الطاعة ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه
وأما القيد الثاني وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية فبيانه من وجوه الأول أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار لا طبيعة مؤثرة ولا علة موجبة ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فكان ارتباط قوله اتَّقُواْ رَبَّكُمُ بقوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ في غاية الحسن والانتظام
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ويحزن بذمهم والطعن فيهم وقال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وإذا كان الأمر كذلك فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض
الوجه الثالث أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق
الوجه الرابع أن هذا يدل على المعاد لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 )
الوجه الخامس قال الأصم الفائدة فيه أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا فالحاصل أن قوله خَلَقَكُمْ دليل على معرفة التوحيد وقوله مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ دليل على معرفة النبوة
فان قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس(9/130)
قلنا قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا جازت إضافة الخلق أجمع الى آدم
المسألة الرابعة أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ونظيره قوله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( الكهف 74 ) وقال الشاعر أبوك خليفة ولدته أخرى
فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة
قوله تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فيه مسائل
المسألة الأولى المراد من هذا الزوج هو حواء وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه واحتجوا عليه بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها )
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد من قوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي من جنسها وهو كقوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ( النحل 72 ) وكقوله إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) وقوله لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) قال القاضي والقول الأول أقوى لكي يصح قوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم
المسألة الثانية قال ابن عباس إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي فلا جرم سميت بحواء
المسألة الثالثة احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا قوله تعالى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة وقوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا يدل على أن زوجها مخلوقة منها ثم قال في صفة آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) فدل على أن آدم(9/131)
مخلوق من التراب ثم قال في حق الخلائق مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه 55 ) وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال
أجاب المتكلمون فقالوا خلق الشيء من الشيء محال في العقول لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة واذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر وان قلنا ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول وأما كلمة مِنْ في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار بل على وجه الوقوع فقط
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا بلفظ اسم الفاعل وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق
قوله تعالى وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي بث منهما يريد فرق ونشر قال ابن المظفر البث تفريقك الأشياء يقال بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض وبثثت البسط إذا نشرتها قال الله تعالى وَزَرَ أَبِى مَبْثُوثَة ٌ قال الفراء والزجاج وبعض العرب يقول أبث الله الخلق
المسألة الثانية لم يقل وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
فان قيل لم لم يقل وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء
قلنا السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر فلا جرم خصوا بوصف الكثرة وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول
المسألة الثالثة الذين يقولون إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام حملوا قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء على ظاهره والذين أنكروا ذلك قالوا المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز(9/132)
قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَسَاءلُونَ بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن شدد أراد تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده وَالاْرْحَامَ بجر الميم قال القفال رحمه الله وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالاْرْحَامَ بالحركات الثلاث أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة قالوا لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز واحتجوا على عدم جوازه بوجوه أولها قال أبو علي الفارسي المضمر المجرور بمنزلة الحرف فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه الأول أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل وذلك ان الهاء والكاف في قوله به وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين الثاني أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد وذلك كقولهم يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون اذهب أنت وزيد وذهبت أنا وزيد قال تعالى فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا مع ان المضمر المرفوع قد ينفصل فاذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى وثالثها قال أبو عثمان المازني المعطوف والمعطوف عليه متشاركان وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول وههنا هذا المعنى غير حاصل وذلك لأنك لا تقول مررت بزيدوك فكذلك لا تقول مررت بك وزيد
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه بل رواها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت وأيضا فلهذه القراءة وجهان أحدهما أنها على تقدير تكرير الجار كأنه قيل تساءلون به وبالارحام وثانيها أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب(9/133)
وأنشد أيضا نعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحلفوا بآبائكم ) فاذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالارحام ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون أسألك بالله والرحم وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل وأيضاً فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط وههنا ليس كذلك بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث فهذا جملة الكلام في قراءة قوله وَالاْرْحَامَ بالجر أما قراءته بالنصب ففيه وجهان الأول وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني وهو قول أكثر المفسرين أن التقدير واتقوا الأرحام أن تقطعوها وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله اللَّهِ أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالاغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك الأسد الأسد وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ويدل على وجوب صلتها وأما القراءة بالرفع فقال صاحب ( الكشاف ) الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُواْ اللَّهَ وفي هذا التكرير وجوه الأول تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك اعجل الثاني أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض الثالث قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقال ثانيا وَاتَّقُواْ اللَّهَ والرب لفظ يدل على التربية والاحسان والاله لفظ يدل على القهر والهيبة فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وقال وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ( الأنبياء 90 ) كأنه قيل انه رباك وأحسن اليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة
المسألة الرابعة اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال بالله أسألك وبالله أشفع اليك وبالله أحلف عليك الى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول أسألك بالله والرحم وربما أفرد ذلك فقال أسألك بالرحم وكان يكتب المشركون الى رسول(9/134)
الله ( صلى الله عليه وسلم ) نناشدك الله والرحم أن لا تبعث الينا فلانا وفلانا وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع الى ذلك والتقدير واتقوا الله واتقوا الأرحام قال القاضي وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والافضال والاحسان ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الخامسة قال بعضهم اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة واحتج بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي ) ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض وقال آخرون بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل وقال بعضهم بل كل واحد منهما أصل بنفسه والنزاع في مثل هذا قريب
المسألة السادسة دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى روى مجاهد عن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سألكم بالله فأعطوه ) وعن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبع منها ابرار القسم
المسألة السابعة دل قوله تعالى وَالاْرْحَامَ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( محمد 22 ) وقال لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً قيل في الأول إنه القرابة وقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وقال وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( النساء 36 ) وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) قيل الكاشح العدو فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والاخت والعم والخال قال لانه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالاجماع لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم وذلك حرام بناء على هذا الاصل فوجب أن لا يبقى الملك وثانيهما أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع ايحاش يورث قطيعة الرحم فوجب أن لا يجوز والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك ومن هذا صفته فانه يجب أن يخاف ويرجى فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك(9/135)
وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه محترزا عن مساخطه شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف
فالنوع الأول ما يتعلق بأموال اليتامى وهو هذه الآية وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الاشفاق عليهم ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم واليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة وقيل اليتم في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات قال وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال فاذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره زال عنه هذا الاسم وكانت قريش تقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتيم أبي طالب إما على القياس وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتم بعد حلم ) فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة يعني إذا احتلم فانه لا تجرى عليه أحكام الصغار وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب اليه إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه وفي بعض الروايات أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ثم قال أبو بكر واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تستأمر اليتيمة ) وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة قال الشاعر ان القبور تنكح الأيامى
النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن يقال كيف جمع اليتيم على يتامى واليتيم فعيل والفعيل يجمع على فعلى كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى قال صاحب ( الكشاف ) فيه وجهان أحدهما أن يقال جمع اليتيم يتمى ثم يجمع فعلى على فعالى كأسير وأسرى وأسارى والثاني أن يقال جمع يتيم يتائم لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ثم يقلب اليتائم يتامى قال(9/136)
القفال رحمه الله ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف
المسألة الثالثة ههنا سؤال ثان وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماليه إليه لم يبق يتيما فكيف قال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ والجواب عنه على طريقين الأول أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثم فيه وجهان أحدهما أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة والثاني أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ ( الأعراف 120 ) أي الذين كانوا سحرة قبل السجود وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الاجل في قوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ( الطلاق 2 ) والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 6 ) والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وانما يصح بعد البلوغ
الطريق الثاني أن نقول المراد باليتامى الصغار وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان أحدهما ان قوله وَأْتُواْ أمر والامر انما يتناول المستقبل فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم وعلى هذا الوجه زالت المناقضة والثاني المراد وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون اليه لنفقتهم وكسوتهم والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا فأباح الله تعالى ذلك وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال وآتوهم من أموالهم فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك
المسألة الرابعة نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم فشكوا ذلك الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( البقرة 220 ) قال أبو بكر الرازي وأظن أنه غلط من الراوي لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أنزل الله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( البقرة 152 ) و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فاشتد ذلك على اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى شرابه فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم قال المفسرون الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فتراجعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله اليه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره ) أي جنته فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثبت الأجر وبقي الوزر ) فقالوا يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله فقال ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده(9/137)
المسألة الخامسة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين قال لأن قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال اليه وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الآية عامة لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ( النساء 6 ) وبقوله وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ ( النساء 5 ) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ولا شك أن الخاص مقدم على العام
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ولا تتبدلوا أي ولا تستبدلوا والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار وقال الواحدي رحمه الله يقال تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه
المسألة الثانية في تفسير هذا التبدل وجوه
الوجه الأول قال الفراء والزجاج لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه الثاني لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون يجعل الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين وطعن صاحب ( الكشاف ) في هذا الوجه فقال ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي الرابع هو أن هذا التبدل معناه أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ وفيه وجهان الأول معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها والثاني أن يكون ( إلى ) بمعنى ( مع ) قال تعالى مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( آل عمران 52 ) أي مع الله والأول أصح
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل فثبت ان المراد منه التصرف وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف
فان قيل انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم
قلنا لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى كان القبح أبلغ والذم أحق(9/138)
واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً قال الواحدي رحمه الله الكناية تعود إلى الأكل وذلك لأن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ دل على الأكل والحوب الاثم الكبير قال عليه الصلاة والسلام ( ان طلاق أم أيوب لحوب ) وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء الحوب لأهل الحجاز والحاب لتميم ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام ( رب تقبل توبتي واغسل حوبتي ) قال صاحب ( الكشاف ) الحوب والحاب كالقول والقال قال القفال وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه وقال البصريون الحوب بفتح الحاء مصدر والحوب بالضم الاسم والحوبة المرة الواحدة ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فانه اسم ثم يقال قد كلمته كلاما فيصير مصدرا قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن حوبا وقرىء حابا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ
اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاقساط العدل يقال أقسط الرجل إذا عدل قال الله تعالى بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الحجرات 9 ) والقسط العدل والنصفة قال تعالى كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ( النساء 135 ) قال الزجاج وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب فاذا قالوا قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ألا ترى أنهم قالوا قاسطته إذا غلبته على قسطه فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ شرط وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء جزاء ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه الأول روي عن عروة أنه قال قلت لعائشة ما معنى قول الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها فقال تعالى ( وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء قالت عائشة رضي الله عنها ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء قالت وقوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء ( النساء 127 ) المراد منه هذه الآية وهي قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ(9/139)
الوجه الثاني في تأويل الآية انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى فتحرجوا من ولايتهم وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء فقالوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج
الوجه الثالث في التأويل أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات
الوجه الرابع في التأويل ما روي عن عكرمة أنه قال كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوالَ الْيَتَامَى عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه تعالى قال فان خفتم من الأربع فثلاث فان خفتم فاثنتان فان خفتم فواحدة وهذا القول أقرب فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير
أما قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ
ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أصحاب الظاهر النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية وذلك لأن قوله فَانكِحُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) الى قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بمندوب فضلا عن أن يقال إنه واجب
المسألة الثانية إنما قال مَا طَابَ ولم يقل من طاب لوجوه أحدها أنه أراد به الجنس تقول ما عندك فيقول رجل أو امرأة والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك وما تلك الحقيقة التي عندك وثانيها أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر وتقديره فانكحوا الطيب من النساء وثالثها ان ( ما ) و ( من ) ربما يتعاقبان قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقال وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 2 )(9/140)
وحكى أبو عمرو بن العلاء سبحان ما سبح له الرعد وقال فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ ( النور 45 ) ورابعها إنما ذكر ( ما ) تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء ومنه قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 )
المسألة الثالثة قال الواحدي وصاحب ( الكشاف ) قوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ( النساء 23 ) وهذا عندي فيه نظر وذلك لأنا بينا أن قوله فَانكِحُواْ أمر إباحة فلو كان المراد بقوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم وذلك يخرج الآية عن الفائدة وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عاما دخله التخصيص وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل لا يكون حجة أصلا
المسألة الرابعة مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ معناه اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهو غير منصرف وفيه وجهان الأول أنه اجتمع فيها أمران العدل والوصف أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى كما تقول عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا فكذا ههنا تريد بقولك مثنى ثنتين ثنتين فكان معدولا وأما أنه وصف فدليله قوله تعالى أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) ولا شك أنه وصف
الوجه الثاني في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه وأيضا انها معدولة عن تكررها فانك لا تريد بقولك مثنى ثنتين فقط بل ثنتين ثنتين فاذا قلت جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط أما إذا قلت جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه ويدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) فقوله لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ينفي كونه مستقلا بالنكاح وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ) فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون(9/141)
العبيد وقال مالك يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية
والجواب الذي يعتمد عليه أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه الأول أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار والثاني أنه تعالى قال فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر بل يكون لسيده قال مالك إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس قالوا أجمعنا على أن للرق تأثيراً في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم
المسألة السادسة ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد واحتجوا بالقرآن والخبر أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا والثاني أن قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لا يصلح تخصيصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي بل نقول ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا فان الانسان إذا قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة اليه مطلقاً ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فاذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد والثالث أن الواو للجمع المطلق فقوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر لان قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية وأما الخبر فمن وجهين الأول أنه ثبت بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مات عن تسع ثم ان الله تعالى أمرنا باتباعه فقال فَاتَّبَعُوهُ وأقل مراتب الأمر الاباحة الثاني أن سنة الرجل طريقته وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان ذلك سنة له ثم انه عليه السلام قال ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين الأول الخبر وهو ما روي ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك أربعا وفارق باقيهن وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام ( أمسك أربعا وفارق واحدة )
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان(9/142)
ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز والثاني وهو أن الخبر واقعة حال فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله
الطريق الثاني وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد وفيه سؤالان الأول أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ فكيف يقال الاجماع نسخ هذه الآية الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد
والجواب عن الأول الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الثاني أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته
فان قيل فاذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع فلم جاء بواو العطف دون ( أو )
قلنا لو جاء بكلمة ( أو ) لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ونظيره أن يقول الرجل للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة فكذا ههنا الفائدة في ترك ( أو ) وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم
المسألة السابعة قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ محله النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا
قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا عليك أكثرت منهم أم أقللت عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل عزلت عنهن أم لم تعزل
المسألة الثانية قرىء فَواحِدَة ً بنصب التاء والمعنى فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا فان الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتم العدل فعليكم به وقرىء فَواحِدَة ً بالرفع والتقدير فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم
المسألة الثالثة للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات(9/143)
أفضل من النكاح وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة كما إذا قال الطبيب كل التفاح أو الرمان فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض وكما أن الآية دلت على هذه التسوية فكذلك العقل يدل عليها لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت وكل ذلك حاصل بالطريقين وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري واذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان فنقول أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة
ثم قال تعالى ذَلِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الادنى ههنا الاقرب والتقدير ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف ( من ) لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية في تفسير أَن لا تَعُولُواْ وجوه الأول معناه لا تجوروا ولا تميلوا وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ قال ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى ( أن لا تميلوا ) قال الواحدي رحمه الله كلا اللفظين مروي وأصل العول الميل يقال عال الميزان عولا إذا مال وعال الحاكم في حكمه إذا جار لانه إذا جار فقد مال وأنشدوا لأبي طالب
بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له أتعول علي ويقال عالت الفريضة إذا زادت سهامها وقد أعلتها أنا إذا ازدت في سهامها ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون
الوجه الثاني قال بعضهم المراد أن لا تفتقروا يقال رجل عائل أي فقير وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته واذا قلت نفقاته لم يفتقر
الوجه الثالث نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال ( ذلك أدنى أن لا تعولوا معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير تَعُولُواْ بتعيلوا فانه خطأ في اللغة وثالثها أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والاماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا وهو أنه تعالى قال في أول الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً ولم يقل أن تفتقروا(9/144)
فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وذلك هو الجور لا كثرة العيال وأنا أقول
أما السؤال الأول فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية أن لا تجوروا ولا تميلوا ولكنه ذكر فيه وجها آخر وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف وأيضا فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين وكيف لا نقول ذلك ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ ذلك أدنى أن لا تعيلوا واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن
وأما السؤال الثاني فنقول انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام وشدة بلادتك ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد وبيان فساده من وجوه الأول أنه يقال عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة وهذا المعنى قريب من الميل لانه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة واذا كان كذلك كان معنى الآية ذلك أدنى أن لا تكثروا واذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور
الوجه الثاني ان الانسان إذا قال فلان طويل النجاد كثير الرماد فاذا قيل له ما معناه حسن أن يقال معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الاشارة الى الشيء بذكر لوازمه فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه
الوجه الثالث ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة
وأما السؤال الثالث وهو قوله إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين الأول ما ذكره القفال رضي الله عنه وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب وإذا(9/145)
اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق الثاني ان المرأة إذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها أما إذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فانها لا تطالبه بالمهر فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة
وأما السؤال الرابع وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم فالجواب عنه من وجهين الأول ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح لانه لو حمل على الجور لكان تكراراً لانه فهم ذلك من قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى الثاني أن نقول هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول لكن على سبيل الكناية والتعريض واذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق
وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتُواْ النّسَاء خطاب لمن فيه قولان أحدهما ان هذا خطاب لأولياء النساء وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت هنيئا لك النافجة ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه وقال ابن الاعرابي النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق الى أهله وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة
القول الثاني ان الخطاب للأزواج أمروا بايتاء النساء مهورهن وهذا قول علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج
المسألة الثانية قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة ويحتمل أن يكون المراد الالتزام قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الموهوبة ثم قال رحمه الله ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) صَدُقَاتِهِنَّ مهورهن وفي حديث شريح قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ صَدُقَاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة وقرىء صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة ظلمة قال الواحدي موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل(9/146)
المسألة الرابعة في تفسير النحلة وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد فريضة وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب يقال فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به ونحلته كذا أي دينه ومذهبه فقوله أَتَوْا النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً أي آتوهن مهورهن فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة الثاني قال الكلبي نحلة أي عطية وهبة يقال نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا قال القفال وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله يقال هذا شعر منحول أي مضاف إلى غير قائله وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن فيه احتمالان أحدهما أنه عطية من الزوج وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء
والقول الثالث في تفسير النحلة قال أبو عبيدة معنى قوله نِحْلَة ً أي عن طيب نفس وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة
المسألة الخامسة إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان أحدهما أن يكون مفعولا له والمعنى آتوهن مهورهن ديانة والثاني أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان أحدهما أنه نصب على المصدر وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء فكأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم والثاني أنها نصب على الحال ثم فيه وجهان أحدهما على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء والثاني على الحال من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رضي الله عنه الخلوة الصحيحة تقرر المهر وقال الشافعي رضي الله عنه لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام
قوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً(9/147)
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نفسا نصب على التمييز والمعنى طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسرة كما قالوا أنت حسن وجها والفعل في الأصل للوجه فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل ومثله قررت به عيناً وضقت به ذرعا
المسألة الثانية إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما قال الفراء لو جمعت كان صوابا كقوله الاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة من في قوله مِنْهُ ليس للتبعيض بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية
المسألة الرابعة منه أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) بعد ذكر الشهوات وروي أنه لما قال رؤبة
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له الضمير في قوله ( كأنه ) ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول كأنها وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول كأنهما فقال أردت كأن ذاك وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا وفيه وجه ثالث وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق
المسألة الخامسة معنى الآية فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن فكلوه وأنفقوه وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال فَإِن طِبْنَ ولم يقل فان وهبن أو سمحن إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة
المسألة السادسة الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه وقيل الهنىء ما يستلذه الآكل والمريء ما يحمد عاقبته وقيل ما ينساغ في مجراه وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران فالهنيء شفاء من الجرب قال المفسرون المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة وبالجملة فهو عبارة عن التحليل والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة
المسألة السابعة قوله هَنِيئاً مَّرِيئاً وصف للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا أو حال من الضمير أي كلوهو وهو هنيء مريء وقد يوقف على قوله فَكُلُوهُ ثم يبتدأ بقوله هَنِيئاً مَّرِيئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل هنأ مرأ(9/148)
المسألة الثامنة دلت هذه الآية على أمور منها ان المهر لها ولا حق للولي فيه ومنها جواز هبتها المهر للزوج وجواز أن يأخذه الزوج لأن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يدل على المعنيين ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين
وههنا بحث وهو أن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يتناول ما إذ كان المهر عينا أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له فانه لا يقال لما في الذمة كله هنيئاً مريئاً
قلنا المراد بقوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ليس نفس الأكل بل المراد منه حل التصرفات وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
المسألة التاسعة قال بعض العلماء ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً وعن الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح رد عليها فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء فقال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه فلبث شهرا ثم طلقها فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان فقال الرجل أعطتني طيبة به نفسها فقال عبد الملك فان الآية التي بعدها فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً اردد عليها وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته ان النساء يعطين رغبة ورهبة فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال أيها الأولياء لا تؤتوا(9/149)
الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه
فان قيل فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال ولا تؤتوا السفهاء أموالهم فلم قال أموالكم
قلنا في الجواب وجهان الأول أنه تعالى أضاف المال اليهم لا لأنهم ملكوه لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب الثاني إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ونظيره قوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) وقوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 36 ) وقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وقوله ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 85 ) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الانسان ويحتاج اليه فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم
والقول الثاني أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها اليهم لما كان في ذلك من الافساد فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال اليهم حقيقة وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها واذا قرب أجله فانه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم واذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم الثاني أنه قال في آخر الآية وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه لان المرء مشفق بطبعه على ولده فلا يقول له إلا المعروف وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين قال القاضي هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله أَمْوالَكُمْ على الحقيقة والمجاز جميعا ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله أَمْوالَكُمْ يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي إلا أنه يجب تصرفه فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله أَمْوالَكُمْ واذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما
المسألة الثانية ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها الأول قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات وهذا مذهب ابن عمر ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها )
فان قيل لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال السفائه أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة(9/150)
أجاب الزجاج بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز
والقول الثاني قال الزهري وابن زيد عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد يقول لا تعط مالك الذي هو قيامك ولدك السفيه فيفسده
القول الثالث المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده
والقول الرابع أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل ولذلك سمي الفاسق سفيها لانه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله
المسألة الثالثة أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الاموال
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ ( الإسراء 26 27 ) وقال تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً ( الإسراء 29 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 ) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن والعقل أيضاً يؤيد ذلك لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة
المسألة الخامسة قوله تعالى الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم وقرأ نافع وابن عامر الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قَيِّماً وقد يقال هذا قيم وقيم كما قال ( دينا قيما ملة إبراهيم ) وقرأ عبدالله بن عمر ( قواما ) بالواو وقوام الشيء ما يقام به كقولك ملاك الأمر لما يملك به
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يحجر عليه حجة الشافعي أنه سفيه فوجب أن يحجر عليه إنما قلنا إنه سفيه لأن السفيه في اللغة هو من خف وزنه ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء فكان خفيف الوزن عندهم فوجب أن يسمى بالسفيه وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ(9/151)
ثم قال تعالى وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء أولها قوله وَارْزُقُوهُمْ ومعناه وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال فلان رزق عياله أي أجرى عليهم وإنما قال فِيهَا ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال وثانيها قوله وَاكْسُوهُمْ والمراد ظاهر وثالثها قوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها أحدها قال ابن جريج ومجاهد انه العدة الجميلة من البر والصلة وقال ابن عباس هو مثل أن يقول إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله وان غنمت في غزاتي أعطيتك وثانيها قال ابن زيد انه الدعاء مثل أن يقول عافانا الله وإياك بارك الله فيك وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر وثالثها قال الزجاج المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ورابعها قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه ان كان المولى عليه صبيا فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له وأنه إذا زال صباه فانه يرد المال اليه ونظير هذه الآية قوله فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ( الضحى 9 ) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وكذا قوله وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ( وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والاسراف وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها
وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( النساء 2 ) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس الرشد ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم وفي الآية مسائل(9/152)
المسألة الأولى قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه غير صحيحة احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لان قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء يقال وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فثبت أن قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال ليس المراد بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر لأنه لا قائل بالفرق فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي وأما الذي احتجوا به فجوابه أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء وأيضا هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء وهذا محتمل والله أعلم
المسألة الثانية المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ ( النور 59 ) وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث وهو الاحتلام والسن المخصوص ونبات الشعر الخشن على العانة واثنان منها مختصان بالنساء وهما الحيض والحبل
المسألة الثالثة أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد أما الايناس فقوله ءانَسْتُمْ أي عرفتم وقيل رأيتم وأصل الايناس في اللغة الابصار ومنه قوله مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ ( القصص 29 ) وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله بل لا بد وأن يكون هذا مراداً وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر والأول أولى ويدل عليه وجوه أحدها أن أهل اللغة قالوا الرشد هو إصابة الخير والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير وثانيها أن الرشد نقيض الغي قال تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) فجعل العاصي غويا وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين وثالثها أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُ(9/153)
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم
إذا عرفت هذا فنقول فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه
المسألة الرابعة اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام ( مروهم بالصلاة لسبع ) فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال فعندها يدفع اليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ثم قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ ويجب أن يكون المراد فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة وجب أن لا يجوز دفع المال اليه والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي فثبت أنه لا وجه لقول من يقول انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد
المسألة الخامسة إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النسار 5 ) والقياس الجلي أيضا يدل عليه لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء فوجب اعتباره والله أعلم
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فان أحستم بمعنى أحسستم قال(9/154)
أحسن به فهن اليه شوس
وقرىء رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين
ثم قال تعالى فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ قال الواحدي رحمه الله استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه وقال صاحب ( الكشاف ) استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم وفي هذه المسألة أقوال أحدهما أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول أن قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة وثانيها أنه قال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فقوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة وثالثها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فائدة وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف ورابعها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلا قال له ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله قال أفأضربه قال مما كنت ضاربا منه ولدك وخامسها ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف سلام عليكم أما بعد فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار وربعها لعبدالله ابن مسعود وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له أفأشرب من لبن إبله قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها وسادسها أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم فكذا ههنا فهذا تقرير هذا القول
والقول الثاني أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وأكثر الروايات عن ابن عباس وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها فأما التناول من(9/155)
ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره واحتجوا بأن الله تعالى قال فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فحكم في الأموال بدفعها اليهم
والقول الثالث قال أبو بكر الرازي الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنيا أو فقيرا واحتج عليه بآيات منها قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ إلى قوله إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) ومنها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( النساء 10 ) ومنها قَوْلُهُ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ( النساء 127 ) ومنها قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) قال فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر وقوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه أما قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة والخاص مقدم على العام وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم وهل النزاع الا فيه وهو الجواب بعينه عن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ أما قوله وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط والنزاع ليس إلا فيه فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه أحدها أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له وثانيها أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه ثالثها أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ونظيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب ) فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق قال مالك والشافعي لا يصدق وقال أبو حنيفة وأصحابه يصدق واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ أمر وظاهر الأمر الوجوب وأيضا قال الشافعي القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه فيقال له ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه أما النقض بالقاضي فبعيد لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ويلزم التسلسل ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين أحدهما(9/156)
ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره فههنا يجب أن يقبل قوله والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية فيقع الخلل في هذا المهم العظيم فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة وهو قوله وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم
ثم قال بعده فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله فَأَشْهِدُواْ كما أنه يجب لظاهر الايجاب فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب ثم قال هذا الرازي ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه فهو بمنزلة الودائع والمضاربات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة فيقال له أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله ومثل هذا الفقه مسلم لك ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً قال ابن الانباري والأزهري يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب وأن يكون بمعنى الكافي فمن الأول قولهم للرجل للتهديد حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب قولنا الشريب بمعنى المشارب ومن الثاني قولهم حسيبك الله أي كافيك الله
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي
واعلم أن الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَكَفَى بِرَبّكَ ( الإسراء 65 ) في جميع القرآن زائدة هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و حَسِيباً نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا وحال كونه كافيا
لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً(9/157)
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما سويد وعرفجة وأخذا ماله فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت القصة وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا وما دفعا إلى بناته شيئا من المال فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك ) فنزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية فأرسل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الوصيين وقال ( لا تقربا من مال أوس شيئا ) ثم نزل بعد يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( مريم 11 ) ونزل فرض الزوج وفرض المرأة فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه اليها فهذا هو الكلام في سبب النزول
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء فذكر في هذه الآية هذا القدر ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع فاذا كان دفعة عظم وقعه على القلب وإذا كان على التدريج سهل فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل
المسألة الثالثة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الارحام قال لأن العمات والخالات والاخوال وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين أحدهما انه تعالى قال في آخر الآية نَصِيباً مَّفْرُوضاً أي نصيبا مقدرا وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية وثانيهما أن هذه الآية مختصة بالأقربين فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء والأول باطل لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه وما ذاك إلا الوالدان والأولاد فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام لا يقال لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار لأنا نقول الأقرب جنس يندرج تحته نوعان الوالد والولد فثبت أنه تعالى ذكر الوالد ثم ذكر الأقربين فيكون المعنى أنه ذكر النوع ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار(9/158)
المسألة الرابعة قوله نَصِيباً في نصبه وجوه أحدها أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا والثاني يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل قسما واجبا كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( التوبة 60 النساء 11 ) أي قسمة مفروضة
المسألة الخامسة أصل الفرض الحز ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها والفرضة العلامة في مقسم الماء يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب فهذا هو أصل الفرض في اللغة ثم ان أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قالوا لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأما الوجوب فانه عبارة عن السقوط يقال وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذا سقط وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 36 ) يعني سقطت فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأن الوجوب عبارة عن السقوط ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون
إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة فلم يكن توريثهم فرضاً والآية إنما تناولت التوريث المفروض فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام والله أعلم
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ ليس فيه بيان أي قسمة هي فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال الأول أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع اليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن ذلك واجب ومنهم من قال إنه مندوب أما القائلون بالوجوب فقد اختلفوا في أمور أحدها أن منهم من قال الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال ومنهم من قال إن كان الوارث كبيراً وجب عليه الاعطاء من ذلك المال وإن كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال(9/159)
إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق وان يكبروا فسيعرفون حقكم فهذا هو القول المعروف وثانيها قال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فاذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قال لهم قولا معروفا مثل أن يقول لهم ارجعوا بارك الله فيكم وثالثها قالوا مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل ولا تقدير فيه بالاجماع ورابعها أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة قال ابن عباس في رواية عطاء وهذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة روي أن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه وتلا هذه الآية فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب ومنهم من قال انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الفرض والايجاب وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كباراً أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب
القول الثاني في تفسير الآية أن المراد بالقسمة الوصية فاذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا في الوقت فيكون ذلك سببا لوصول السرور اليهم في الحال والاستقبال والقول الأول أولى لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية ويمكن أن يقال هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية
القول الثالث في تفسير الآية أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى فالمراد من أُوْلِى الْقُرْبَى الذين يرثون والمراد من الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ الذين لا يرثون
ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً فقوله فَارْزُقُوهُمْ راجع الى القربى الذين يرثون وقوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً راجع الى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون وهذا القول محكى عن سعيد بن جبير
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الضمير في قوله فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون وقال الواحدي الضمير عائد الى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة لا الى لفظها كقوله ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ( يوسف 76 ) والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث لكن أريد به المشربة فعادت الكناية الى المعنى لا الى اللفظ وعلى هذا التقدير فالمراد بالقسمة المقسوم لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة
المسألة الثالثة إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر وحاجتهم أشد فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر(9/160)
المسألة الرابعة الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الجملة الشرطية وهو قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ هي صلة لقوله الَّذِينَ والمعنى وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه وسنذكر وجوه المفسرين فيه
المسألة الثانية لا شك أن قوله وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ يوجب الاحتياط للذرية الضعاف وللمفسرين فيه وجوه الأول أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية الى الأجانب الى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا فقيل لهم كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم عن أنس قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
والقول الثاني قال حبيب بن أبي ثابت سألت مقسما عن هذه الآية فقال هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده اتق الله وأمسك على ولدك مالك مع أن ذلك الانسان يحب أن يوصي له ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية والأولى أولى لأن قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً أشبه بالوجه الأول وأقرب اليه
والقول الثالث يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث وخبر سعد يدل عليه وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )(9/161)
والقول الرابع أن هذا أمر لأولياء اليتيم فكأنه تعالى قال وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا قال القاضي وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ضعفاء وضعافى وضعافى نحو سكارى وسكارى قال الواحدي قرأ حمزة ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ بالامالة فيهما ثم قال ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف وغلاب وخباب يحسن فيه الإمالة وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة وأما الإمالة في خَافُواْ فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ثم قال فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً وهو كالتقرير لما تقدم فكأنه قال فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل والقول السديد هو العدل والصواب من القول قال صاحب ( الكشاف ) القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني يا ولدي والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تحجف بأولادك مثل قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالاكرام
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك كقوله وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً ( النساء 9 ) ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف
المسألة الثانية قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً فيه قولان الأول أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه(9/162)
وعينيه يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما )
والقول الثاني ان ذلك توسع والمراد ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) قال القاضي وهذا أولى من الأول لأن قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً الاشارة فيه إلى كل واحد فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً
وجوابه أنه كقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والقول لا يكون إلا بالفهم وقال وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) والقلب لا يكون إلا في الصدر وقال وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) والطيران لا يكون إلا بالجناح والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة
المسألة الرابعة انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل أو بطريق آخر وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه أحدها أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم وثانيها أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا أنه يقال إنه أكل ماله وثالثها أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل سواء كان مسلما أو لم يكن لأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ثم قالت المعتزلة ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية وإذا كان كذلك فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله فقال أبو علي الجبائي قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة هذا جملة ما ذكره القاضي فيقال له فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما أنك زدت فيه شرط عدم التوبة والثاني أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو أقصى ما في الباب أن يقال ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو لكنا نجيب عنه من وجهين أحدهما أنا لا نسلم عدم دلائل العفو بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة والثاني هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا(9/163)
يفيد القطع بعدم الوجود بل يبقى الاحتمال وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم
المسألة السادسة أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ولا شك أن هذا الوعيد أشد والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح فكان الوعيد أشد ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد
ثم قال تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء وهو صالي النار وقوم صالون وصلاء قال تعالى إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقال أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ( مريم 70 ) وقال جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ( إبراهيم 29 ص 56 المجادلة 8 ) قال الفراء الصلي اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت وإذا فتحت قصرت ومن ضم الياء فهو من قولهم أصلاه الله حر النار اصلاء قال فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 30 ) وقال تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر 26 ) قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سيصلون بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها
المسألة الثانية السعير هو النار المستعرة يقال سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة وإنما قال وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى
المسألة الثالثة روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) ومن الجهال من قال صارت هذه الآية منسوخة بتلك وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر كما في قوله وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة ً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّ مِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاٌّ مِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(9/164)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر العهد أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة وأما العهد فمن وجهين الأول الحلف كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فاذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت والثاني التبني فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ولما بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ومن العلماء من قال بل قررهم الله على ذلك فقال وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 33 ) والمراد التوارث بالنسب ثم قال وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ( النساء 33 ) والمراد به التوارث بالعهد والأولون قالوا المراد بقوله وَالَّذِينَ عَلِيماً وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ ليس المراد منه النصيب من المال بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية
وأما أسباب التوارث في الإسلام فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني وزاد فيه أمرين آخرين أحدهما الهجرة فكان المهاجر يرث من المهاجر وان كان أجنبيا عنه إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه والثاني المؤاخاة كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يؤاخي بين كل اثنين منهم وكان ذلك سببا للتوارث ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأحزاب 6 ) والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة النسب والنكاح والولاء
المسألة الثانية روى عطاء قال استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما فقال عليه الصلاة والسلام ( ارجعي فلعل الله سيقضي فيه ) ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمهما وقال ( أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك فهذا أول ميراث قسم في الاسلام
المسألة الثالثة في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث الثاني أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) فذكر عقيب ذلك المجمل هذا المفصل فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ
المسألة الرابعة قال القفال قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وأصل الايصاء هو الايصال يقال وصى يصي إذا وصل وأوصى يوصي إذا أوصل فاذا قيل أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج معنى قوله ههنا يُوصِيكُمُ أي يفرض عليكم لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله(9/165)
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا شك في كون ذلك واجبا علينا
فان قيل انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
قلنا لما كانت الوصية قولا لا جرم ذكر بعد قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ خبرا مستأنفا وقال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ونظيره قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الفتح 29 ) أي قال الله لهم مغفرة لأن الوعد قول
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الانسان بولده أشد التعلقات ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم
واعلم أن للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع الوالدين أما حال الانفراد فثلاثة وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والاناث معا وإما أن يخلف الاناث فقط أو الذكور فقط
القسم الأول ما إذا خلف الذكران والاناث معا وقد بين الله الحكم فيه بقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن هذا يفيد أحكاما أحدهما إذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم وثانيها إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان ولك أنثى سهم وثالثها إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد هذه الأحكام الكثيرة
القسم الثاني ما إذا مات وخلف الاناث فقط بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين فلهن الثلثان وإن كانت واحدة فلها النصف إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح واختلفوا فيه فعن ابن عباس أنه قال الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف واحتج عليه بأنه تعالى قال فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وكلمة ( إن ) في اللغة للاشتراط وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين
والجواب من وجوه الأول أن هذا الكلام لازم على ابن عباس لأنه تعالى قال وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله الثاني أنا لا نسلم أن كلمة ( ان ) تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف وإما الثلثان وبتقدير أن يكون كلمة ( إن ) للاشتراط وجب القول بفسادهما فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ولأنه تعالى قال وَإِن لَّمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ ( البقرة 283 ) وقال لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات(9/166)
الوجه الثالث في الجواب هو أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان قالوا وإنما عرفنا ذلك بوجوه الأول قال أبو مسلم الاصفهاني عرفناه من قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين الثاني قال أبو بكر الرازي إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى الثالث أن قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص واذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان لأنه لا قائل بالفرق والرابع أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين وذلك يدل على ما قلناه الخامس أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وقال في شرح ميراث الأخوات إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه فنقول لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب الى الميت من الأختين ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب فالوجوه الثلاثة الاول مستنبطة من الآية والرابع مأخوذ من السنة والخامس من القياس الجلي
أما القسم الثالث وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول أما الابن الواحد فانه إذا انفرد أخذ كل المال وبيانه من وجوه الاول من دلالة قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين
ثم قال تعالى في البنات وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال الثاني أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام ( ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر ) ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل الثالث ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث فاذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد فوجب أن يأخذ الكل
فان قيل حظ الانثيين هو الثلثان فقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث وذلك ينفي أن يأخذ كل المال(9/167)
قلنا المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ويدل عليه وجهان أحدهما ان قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ يقتضي حصول الأولاد وقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي حصول الذكر والانثى هناك والثاني أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك وأما ثانيا فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها وأما ثالثا فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل
والجواب عنه من وجوه الأول أن خرج المرأة أقل لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج الثاني أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية مثل صلاحية القضاء والامامة وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد الثالث ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة فاذا انضاف اليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وحال الرجل بخلاف ذلك والرابع أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة نحو بناء الرباطات وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك الخامس روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل
السؤال الثاني لم لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر
والجواب من وجوه الأول لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى الثاني أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ولو قال كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ولهذا قال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فذكر الاحسان مرتين والاساءة مرة واحدة الثالث أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية فقيل كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم(9/168)
المسألة السادسة لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ ( الأعراف 26 ) وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ( البقرة 40 ) الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة
فان قلنا إنه مجاز فنقول ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ولد الصلب وولد الابن معا
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين إما عند عدم ولد الصلب رأسا وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث فحينئذ يقتسمون الباقي وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً أما إذا قلنا ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الانسان والفرس والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ( النساء 23 ) وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن فعلمنا أن لفظ الابن متواطىء بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الاجداد والجدات ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ زعموا أنه مخصوص في صور أربعة أحدها أن الحر والعبد لا يتوارثان وثانيها أن القاتل على سبيل العمد لا يرث وثالثها أنه لا يتوارث أهل ملتين وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ويتفرع عليه فرعان
الفرع الأول اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم أما المسلم فهل يرث من الكافر ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث وقال بعضهم إنه يرث قال الشعبي قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث فلما أمره زياد(9/169)
بذلك كان يقضي به ويقول هكذا قضى أمير المؤمنين
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) وحجة القول الثاني ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي توريث الكافر من المسلم والمسلم من الكافر إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) أخص من قوله ( لا يتوارث أهل ملتين ) فوجب تقديمه عليه بل هذا التخصيص أولى لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية والخبر الأول ليس كذلك وأقصى ما قيل في جوابه أن قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الاحوال
الفرع الثاني المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث بل يكون لبيت المال أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان قال الشافعي لا يورث بل يكون لبيت المال وقال أبو حنيفة يرثه ورثته من المسلمين حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) على عموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين فوجب أن لا يحصل التوارث
فان قيل لا يجوز أن يقال إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر
قلنا لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته والأول باطل ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) وهو بالاجماع باطل والثاني باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين وهو خلاف الخبر ولا يبقى ههنا إلا أن يقال إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه إلا أن القول بالاستناد باطل لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي وذلك باطل في بداهة العقول وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد وقد أبطلناه والله أعلم
الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون والشيعة خالفوا فيه روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ثم ان الشيعة قالوا بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا وبيانه من ثلاثة أوجه أحدها أنه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ ( مريم 6 ) وقوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة بل(9/170)
يكون كسباً جديداً مبتدأ إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة وثانيها أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة وثالثها يحتمل أن قوله ( ما تركناه صدقة ) صلة لقوله ( لا نورث ) والتقدير أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث
فان قيل فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك
قلنا بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم
والجواب أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم
المسألة الثامنة من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ معناه للذكر منهم فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم كقولك السمن منوان بدرهم والله أعلم
أما قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن وقوله فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان وأن يكون صفة لقوله نِسَاء أي نساء زائدات على اثنتين وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين فكيف يحسن إرادته بقوله فَإِن كُنَّ نِسَاء وهو لبيان حظ الاناث
والجواب من وجهين الأول أنا بينا أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ على معنى فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت فثبت أن هذا العطف متناسب الثاني أنه قد تقدم ذكر الأنثيين فكفى هذا القول في حسن هذا العطف
السؤال الثاني هل يصح أن يكون الضميران في ( كن ) و ( كانت ) مبهمين ويكون ( نساء ) و ( واحدة ) تفسيراً لهما على ان ( كان ) تامة
الجواب ذكر صاحب ( الكشاف ) أنه ليس ببعيد
السؤال الثالث النساء جمع وأقل الجمع ثلاثة فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين
الجواب من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ومن يقول هو ثلاثة قال هذا للتأكيد كما في قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ(9/171)
أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فنقول قرأ نافع ( واحدة ) بالرفع والباقون بالنصب أما الرفع فعلى كان التامة والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله فَإِن كُنَّ نِسَاء ( النحل 51 ) والتقدير فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا التقدير وإن كانت المتروكة واحدة وقرأ زيد بن علي النصف بضم النون
قوله تعالى وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع و الثُّمُنُ
المسألة الثانية اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال
الحالة الأولى أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية واعلم أنه لا نزاع أن اسم لولد يقع على الذكر والانثى فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه أحدها أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد أو أكثر من واحد فههنا الابوان لكل واحد منهما السدس وثانيها أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا وثالثها أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب وههنا سؤالات
السؤال الأول لا شك أن حق الوالدين على الانسان أعظم من حق ولده عليه وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق
السؤال الثاني الضمير في قوله وَلاِبَوَيْهِ إلى ماذا يعود
الجواب أنه ضمير عن غير مذكور والمراد ولأبوي الميت
السؤال الثالث ما المراد بالأبوين
والجواب هما الأب والأم والأصل في الأم أن يقال لها أبة فأبوان تثنية أب وأبة
السؤال الرابع كيف تركيب هذه الآية
الجواب قوله لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا بدل من قوله لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه
فان قيل فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس(9/172)
قلنا لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا والسدس مبتدأ وخبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان
قوله تعالى وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ولا يكون هناك وارث سواهما وهو المراد من قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فههنا للأم الثلث وذلك فرض لها والباقي للأب وذلك لأن قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما واذا كان كذلك كان مجموع المال لهما فاذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ويتفرع على ما ذكرنا فرعان الأول أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب الثاني لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم ويدفع الباقي الى الأب وقال ابن عباس يدفع الى الزوج نصيبه والى الأم الثلث ويدفع الباقي الى الأب وقال لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وأما في الزوجة فانه لا يفضي الى ذلك وحجة الجمهور وجوه الأول أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ وأيضا الأم مع الأب كذلك لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث وللأب الثلثان إذا ثبت هذا فنقول إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين الثاني أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال فاذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول الثالث أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي الرابع أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وهذا خلاف قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس
وأما الوجه الرابع فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني(9/173)
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي فَلاِمّهِ بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسرواً أو ياء
أما الأول فكقوله فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( الزمر 6 )
وأما الثاني فكقوله فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وأما الباقون فانهم قرؤا بضم الهمزة أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله فَلاِمّهِ وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين فلا جرم جعلت الضمة كسرة وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللازم في حكم المنفصل والله أعلم
قوله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاِمِهِ السُّدُسُ
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الاخوة والأخوات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون واختلفوا في الأختين فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات الحجب كما في الثلاثة وقال ابن عباس لا يحجبان كما في حق الواحدة حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه فاذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب فوجب أن لا يحصل الحجب روي أن ابن عباس قال لعثمان بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس وإنما قال الله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة فقال عثمان لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان وعثمان ما أنكره وهما كانا من صميم العرب ومن علماء اللسان فكان اتفاقهما حجة في ذلك
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين الأول أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه واحتجوا فيه بوجوه أحدها قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد وثانيها قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ والتقييد بقوله فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين وثالثها قوله ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين وإنما الموجب لذلك هو القياس وتقريره أن نقول الأختان يوجبان الحجب وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا إنما(9/174)
قلنا إن الأختين يحجبان وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة فثبت أن الأختين يحجبان واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين لأنه لا قائل بالفرق فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ويمكن أن يقال لا يتمسك به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم
المسألة الثانية الاخوة إذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس سدس بالفرض والباقي بالتعصيب وقال ابن عباس الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين كما كان قبل ذلك والله أعلم
قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين قال السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق فأما إذا لم يكن دين أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله
المسألة الثانية روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالدين قبل الوصية
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة ( أو ) لا تفيد الترتيب ألبتة
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين الأول أن الوصية مال يؤخذ(9/175)
بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة ( أو ) على الوصية والدين تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية الثاني أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث وليس كذلك الدين فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا فالوصية تشبه الارب من وجه والدين من وجه آخر أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول ما معنى ( أو ) ههنا وهلا قيل من بعد وصية يوصى بها ودين والجواب من وجهين الأول أن ( أو ) معناها الاباحة كما لو قال قائل جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس فان جالست الحسن فأنت مصيب أو ابن سيرين فأنت مصيب وإن جمعتهما فأنت مصيب أما لو قال جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر فكذا ههنا لو قال من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ومعلوم أنه ليس كذلك أما إذا ذكره بلفظ ( أو ) كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده وكذلك إن كان كلاهما الثاني أن كلمة ( أو ) إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) وقوله حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ( الأنعام 146 ) فكانت ( أو ) ههنا بمعنى الواو فكذا قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يُوصِى بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
قوله تعالى وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه فنقول إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد(9/176)
وأنصباء الأبوين وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها فكأنه قيل أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم فقوله وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة وقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها وذكروا في المراد من قوله أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وجوها الأول المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة قال ابن عباس إن الله ليشفع بعضهم في بعض فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه فقال لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك الثاني المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد
قوله تعالى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل اليها طباعكم لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها وهذا نظير قوله للملائكة إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 )
فان قيل لم قال كَانَ عَلِيماً حَكِيماً مع أنه الآن كذلك
قلنا قال الخليل الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان وقال سيبويه القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا فقيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل موصوفا بهذه الصفات
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(9/177)
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية فحصل ههنا أقسام ثلاثة أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب وذلك هو قرابة الولاد ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية وثانيها أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة وثالثها أن مخالطة الانسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الانثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الانثيين واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجوز للزوج غسل زوجته وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها بيان أنها زوجته قوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها وعند حصول الزوجية حل له غسلها والدوران دليل العلية ظاهرا وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ ( المؤمنون 6 ) وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام ( غض بصرك إلا عن زوجتك ) أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع
والجواب لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول لو لم تكن زوجة لكان قوله نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى فكان الترجيح من جانبنا وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت(9/178)
الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن
قوله تعالى وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً ءانٍ امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثُّلُثِ مِن
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد وهذا هو المختار والقول الصحيح وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول الكلالة من سوى الولد وروي أنه لما طعن قال كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر الكلالة من عدا الوالد والولد وعن عمر فيه رواية أخرى وهي التوقف وكان يقول ثلاثة لأن يكون بينها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لنا أحب الي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه الأول التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه الأول يقال كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه الثاني يقال كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة الثالث الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما(9/179)
سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد ولهذا قال الشاعر نسب تتابع كابراً عن كابر
كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد
الحجة الثانية أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين في هذه السورة أحدهما في هذه الآية والثاني في آخر السورة وهو قوله قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ( النساء 176 ) واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط قال لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة هو أنه ليس له ولد إلا أنا نقول هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين
الحجة الثانية انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد
الحجة الرابعة قول الفرزدق ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم
المسألة الثانية الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين واذا جعلناها وصفا للمورث فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث إذا عرفت هذا فنقول المراد من الكلالة في هذه الآية الميت الذي لا يختلف الوالدين والولد لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا
المسألة الثالثة يقال رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة
إذا عرفت هذا فنقول إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة كما يقول فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق(9/180)
المسألة الرابعة قوله يُورَثُ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه وفي انتصاب كلالة وجوه أحدها النصب على الحال والتقدير يورث حال كونه كلالة والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره يورث متكلل النسب وثانيها أن يكون قوله يُورَثُ صفة لرجل و كَلَالَة ً خبر كان والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة وثالثها أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة
الاحتمال الثاني في قوله يُورَثُ أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة
المسألة الخامسة قرأ الحسن وأبو رجاء العطاردي يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل
أما قوله تعالى وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ههنا سؤال وهو أنه تعالى قال وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ ثم قال وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه
والجواب قال الفراء هذا جائز فانه إذا جاء حرفان في معنى واحد ( بأو ) جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا تقول من كان له أخ أو أخت فليصله يذهب إلى الأخ أو فليصلها يذهب إلى الأخت وإن قلت فليصلهما جاز أيضا
المسألة الثانية أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت الأخ والأخت من الأم وكان سعد بن أبي قاص يقرأ وله أخ أو أخت من أم وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) فأثبت للأختين الثلثين وللاخوة كل المال وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا ( النساء 11 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده ) فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد إلا أنا نقول هذه العمومات مخصوصة من وجهين الأول في قدر الوصية فانه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا أما المجمل فقوله تعالى حَسِيباً لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ويدل عليه أيضا قوله تعالى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 9 ) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب وهو(9/181)
قوله عليه الصلاة والسلام ( الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام أحدها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث وثانيها أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله ( والثلث كثير ) وثالثها أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام ( ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) ورابعها فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة فعند عدمهم وجب الجواز
الوجه الثاني تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث قال عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث )
المسألة الثانية قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي أن الزكاة الواجبة والحج الواحب دين فيجب اخراجه بهذه الآية وإنما قلنا إنه دين لأن اللغة تدل عليه والشرع أيضاً يدل عليه أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد قيل في الدعوات المشهورة يا من دانت له الرقاب أي انقادت وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحج الذي كان على أبيها فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء فقالت نعم فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي ) إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ قال أبو بكر الرازي المذكور في الآية الدين المطلق والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمى الحج دينا لله والاسم المطلق لا يتناول المقيد
قلنا هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم
المسألة الثالثة اعلم أن قوله تعالى غَيْرَ مُضَارّ نصب على الحال أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه أحدها أن يوصي بأكثر من الثلث وثانيها أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي وثالثها أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة ورابعها أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه وخامسها أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة وسادسها أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة فهذا هو وجه الاضرار في الوصية
واعلم أن العلماء قالوا الأولى أن يوصى بأقل من الثلث قال علي لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث وقال النخعي قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يوص وقبض أبو بكر فوصى فان أوصى الانسان فحسن وإن لم يوص فحسن أيضا(9/182)
واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم
المسألة الرابعة روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال الاضرار في الوصية من الكبائر واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول أما القرآن فقوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 13 ) قال ابن عباس في الوصية وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) قال في الوصية وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الاضرار في الوصية من الكبائر ) وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة ) ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه وذلك من أكبر الكبائر
ثم قال تعالى وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ وفيه سؤالان
السؤال الأول كيف انتصاب قوله وَصِيَّة ٍ
والجواب فيه من وجوه الأول أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( النساء 11 ) الثاني أن تكون منصوبة بقوله غَيْرَ مُضَارّ ( النساء 12 ) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث الثالث أن يكون التقدير وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية وينصر هذا الوجه قراءة الحسن غير مضار وصية بالاضافة
السؤال الثاني لم جعل خاتمة الآية الأولى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ وخاتمة هذه الآية وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ
الجواب ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(9/183)
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول ان قوله تِلْكَ إشارة إلى ماذا فيه قولان الأول أنه إشارة إلى أحوال المواريث
القول الثاني أنه إشارة الى كل ما ذكره من أول السورة الى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم حجة القول الأول أن الضمير يعود الى أقرب المذكورات وحجة القول الثاني أن عوده الى الأقرب إذا لم يمنع من عوده الى الأبعد مانع يوجب عوده الى الكل
البحث الثاني أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره ومنه حدود الدار والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه وغيره هو كل ما سواه
المسألة الثانية قال بعضهم قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة وقال المحققون بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص ثم يقول احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا بالنون في الحرفين والباقون بالياء
أما الأول فعلى طريقة الالتفات كما في قوله بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ثم قال سَنُلْقِى بالنون
وأما الثاني فوجهه ظاهر
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن قوله يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد ذلك خَالِدِينَ فِيهَا إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما
الجواب أن كلمة ( من ) في قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان
المسألة الخامسة انتصب ( خالدين ) ( وخالدا ) على الحال من الهاء في ( ندخله ) والتقدير ندخله خالدا في النار
المسألة السادسة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار وذلك لأن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي(9/184)
سبق ذكرها وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد وعلى ان الوعيد مخلد ولا يقال هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر فانه هو الذي تعدى جميع حدود الله فانا نقول هذا مدفوع من وجهين الأول انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله الثاني هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث فيكون المراد من قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على انه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العف امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ثم نقول هذا العموم مخصوص بالكافر ويدل عليه وجهان الأول انا إذا قلنا لكم ما الدليل على أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم قلتم الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه فنقول ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر والا في الفسق وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فهذا يقتضي أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر وقوله الاتيان بجميع المعاصي محال لأن الاتيان باليهودية والنصرانية معا محال فنقول ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب وقوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار وهو خلاف الأصل فوجب حمله على الكفر وقوله بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث
قلنا هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة والله أعلم(9/185)
وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالاحسان الى النساء ومعاشرتهن بالجميل وما يتصل بهذا الباب ضم الى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن وأيضا ففيه فائدة أخرى وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك وأيضا فيه فائدة ثالثة وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط فقال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللاتي جمع التي وللعرب في جمع ( التي ) لغات اللاتي واللات واللواتي واللوات قال أبو بكر الانباري العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي ومن الحيوان اللاتي كقوله أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وقال في هذه اللاتي واللائي والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأما جمع الحيوان فليس كذلك بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فهذا هو الفرق ومن العرب من يسوي بين البابين فيقول ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا والأول هو المختار
المسألة الثانية قوله يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ أي يفعلنها يقال أتيت أمرا قبيحا أي فعلته قال تعالى لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) وقال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( مريم 89 ) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها بل المكلف كأنه ذهب اليها من عند نفسه واختارها بمجرد طبعه فلهذه الفائدة يقال إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب اليها إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة وفي قراءة ابن مسعود يأتين بالفاحشة وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح
فان قيل الكفر أقبح منه وقتل النفس أقبح منه ولا يسمى ذلك فاحشة
قلنا السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة القوة الناطقة والقوة الغضبية والقوة(9/186)
الشهوانية ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وأخس هذه القوى الثلاثة القوة الشهوانية فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة في المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ قولان الأول المراد منه الزنا وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا فاذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا وهذا قول جمهور المفسرين
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ السحاقات وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) أهل اللواط وحدهما الأذى بالقول والفعل والمراد بالآية المذكورة في سورة النور الزنا بين الرجل والمرأة وحده في البكر الجلد وفي المحصن الرجم واحتج ابو مسلم عليه بوجوه الأول أن قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ مخصوص بالنسوان وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ مخصوص بالرجال لأن قوله وَاللَّذَانَ تثنية الذكور
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله وَاللَّذَانَ الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر
قلنا لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ سقط هذا الاحتمال الثاني هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقرراً وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ فكان هذا القول أولى والثالث أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ في الزنا وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ يكون أيضا في الزنا فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى الرابع أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالرجم والجلد والتغريب وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح ثم قال أبو مسلم ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه الأول أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا والثاني أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال ( قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد ) وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة الثالث أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة
والجواب عن الأول أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد وهو من أكابر المفسرين ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز(9/187)
والجواب عن الثاني أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز
والجواب عن الثالث أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالاثبات فلهذا لم يرجعوا إليها
المسألة الرابعة زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة وقال أبو مسلم إنها غير منسوخة أما المفسرون فقد بنوا هذا على أصلهم وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين فالأول أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم ) ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي لا ينسخ واحد منهما بالآخر
والقول الثاني أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فائدة فوجب أن يكون قوله ( خذوا عني ) متقدما على آية الجلد وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين الأول ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة وذلك لأن قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا فلما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى ) صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لاحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى أولى من الحكم بوقوع النسخ مراراً وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فانه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو فلا بد لها من المبين وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه الأول آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه
الوجه الثاني في دفع كلام الرازي انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فلم قلت انه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه ولم لا يجوز أن يقال إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وتقديره أن قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ مخصوص بالاجماع في حق الثيب المسلم وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة لما أنه يوهم التلبيس واذا كان كذلك فثبت أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وعلى هذا التقدير سقط قولك ان الحديث كان متقدما على آية الجلد هذا كله تفريع على قول من يقول هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة(9/188)
فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات
السؤال الأول ما المراد من قوله مّن نِّسَائِكُمُ
الجواب فيه وجوه أحدها المراد من زوجاتكم كقوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) وقوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( النساء 23 ) وثانيها من نسائكم أي من الحرائر كقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( البقرة 282 ) والغرض بيان أنه لا حد على الاماء وثالثها من نسائكم أي من المؤمنات ورابعها من نسائكم أي من الثيبات دون الأبكار
السؤال الثاني ما معنى قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ
الجواب فخلدوهن محبوسات في بيوتكم والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا
السؤال الثالث ما معنى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ والموت والتوفي بمعنى واحد فصار في التقدير أو يميتهن الموت
الجواب يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت كقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ( النحل 38 قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن
السؤال الرابع انكم تفسرون قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم ) وهذا بعيد لأن هذا السبيل عليها لا لها فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس
والجواب أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) ولما فسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السبيل بذلك وجب القطع بصحته وأيضا له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له سواء كان أخف أو أثقل
( 16 )
وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وَاللَّذَانَ مشددة النون والباقون بالتخفيف وأما أبو عمرو فانه(9/189)
وافق ابن كثير في قوله الرَّهْبِ فَذَانِكَ أما وجه التشديد قال ابن مقسم إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين أحدهما الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة والآخر أن ( الذي وهذا ) مبنيان على حرف واحد وهو الذال فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها وقال غيره سبب التشديد فيها ان النون فيها ليست نون التثنية فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية وقيل زادوا النون تأكيدا كما زادوا اللام وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم فكان استحقاقها العوض أشد
المسألة الثانية الذين قالوا ان الآية الأولى في الزناة قالوا هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه وذكروا فيه وجوها الأول أن المراد من قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ ( النساء 15 ) المراد منه الزواني والمراد من قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الزناة ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية وأما الرجل فانه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى فاذا تاب ترك إيذاؤه ويحتمل أيضاً أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة والحبس كان من خواص المرأة فاذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة وهذا أحسن الوجوه المذكورة الثاني قال السدي المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء وبالآية الأولى الثيب وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين قالوا ويدل على هذا التفسير وجوه الأول أنه تعالى قال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فأضافهن إلى الأزواج والثاني أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب والثالث أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب والرابع قال الحسن هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ثم نزل قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن وهذا القول عندي في غاية البعد لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات الخامس ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره والسادس أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما
المسألة الثالثة اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الايذاء من الايذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير مثل أن يقال بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الايذاء وذلك حاصل بمجرد الايذاء باللسان ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير اليه
ثم قال تعالى فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا يعني فاتركوا ايذاءهما(9/190)
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً معنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب اليه من ذنبه وأما قوله كَانَ تَوبَا فقد تقدم الوجه فيه(9/191)
بداية الجزء العاشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(10/2)
إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الاذى عنهما وأخبر على الاطلاق أيضا أنه تواب رحيم ذكر وقت التوبة وشرطها ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما حقيقة التوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 54 ) واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين الأول ان كلمة ( على ) للوجوب فقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها الثاني لو حملنا قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى عَلَى اللَّهِ على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار
واعلم أن القول بالوجوب على الله باطل ويدل عليه وجوه الأول أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى أو غير ممتنعة في حقه والأول باطل لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار وذلك باطل وأما ان كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم جواز أن يكون الاله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل
الحجة الثانية أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون(10/3)
على السوية أولا يكون على السوية فان كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا
الحجة الثالثة التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل والندم والعزم من باب الكراهات والارادات والكراهة والارادة لا يحصلان باختيار العبد وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر فثبت أن القول بالوجوب باطل
الحجة الرابعة أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثراً في ذات الله وفي صفاته وذلك لا يقوله عاقل
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين فاذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة ( على ) وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
إن قيل فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا
قلنا الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للايقاع والتبع لا يغير الأصل فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق
المسألة الثانية أنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين أحدهما قوله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ وفيه سؤالان أحدهما أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة فعلى هذا الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم الى التوبة والسؤال الثاني أن كلمة ( إنما ) للحصر فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة وذلك بالاجماع باطل
والجواب عن السؤال الأول أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها
والجواب عن السؤال الثاني أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية واذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول(10/4)
التوبة فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
واذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة
الأول قال المفسرون كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ ( يوسف 33 ( وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( يوسف 89 ) وقال تعالى قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 ) وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 ) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل ياجاهل لم فعلت كذا وكذا والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك
والوجه الثاني في تفسير الجهالة أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه وقد علمنا أن الانسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات فانه يصح أن يقال على سبيل المجاز انه جاهل بفعله
والوجه الثالث أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية فانه على هذا التقدير يستحق العقاب ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي فانه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز وفي هذا الوجه على الحقيقة إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه أما المتعمد فانه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة وأما الشرط الثاني فهو قوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه أحدها أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب وثانيها للتنبيه على أن مدة عمر الانسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فانها محفوفة بطرفي الأزل والأبد فاذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم وثالثها أن الانسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به وما هذا حاله فانه يوصف بالقرب
فان قيل ما معنى ( من ) في قوله مِن قَرِيبٍ
الجاب أنه لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فانه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم(10/5)
قبول التوبة على الله بقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فانه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة ( عسى ) في قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ( التوبة 102 ) ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى وقيل معناه التبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذين الشرطين قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
فان قيل فما فائدة قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ
قلنا فيه وجهان الأول أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ إعلام بأنه يجب على الله قبولها وجوب الكرم والفضل والاحسان لا وجوب الاستحقاق وقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إخبار بأنه سيفعل ذلك والثاني أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ يعني إنما الهداية الى التوبة والارشاد اليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها ثم قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه فالمراد بالأول التوفيق على التوبة وبالثاني قبول التوبة
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك ثم إنه تاب عنها من قريب فانه يجب في الكرم قبول توبته
وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاٌّ نَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة وهذه المسألة مشتملة على بحثين
البحث الأول الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه الأول هذه الآية وهي صريحة في المطلوب الثاني قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الثالث قال في صفة فرعون حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(10/6)
ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( يونس 90 91 ) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا الرابع قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ قَائِلُهَا ( المؤمنون 99 100 ) الخامس قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن ( المنافقون 10 11 ) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت السادس روى أبو أيوب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي ما لم تتردد الروح في حلقه وعن عطاء ولو قبل موته بفواق الناقة وعن الحسن أن ابليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده فقال وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر
واعلم أن قوله حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( النساء 18 ) أي علامات نزول الموت وقربه وهو كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( البقرة 180 )
البحث الثاني قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه الأول أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بنى إسرائيل ومثل أولاد أيوب عليه السلام ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف الثاني أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها فاذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد الثالث أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سبباً لعدم قبول التوبة فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق لا يجوز أن يكون مانعاً من قبول التوبة ونقول المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار لا تكون مقبولة
واعلم أن ههنا بحثا عميقاً أصوليا وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة وبتقدير أن يقال هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله فهذا أيضا استدلالي فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان(10/7)
ضروريا منع من صحة التكليف وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الاله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه وإذا كان الأمر كذلك فلم قالوا بأن هذا يوجب زوال التلكيف وأيضا فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا فاذا صار ضروريا سقط التكليف كلام ضعيف لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه فهذا يكون ظنا لا علما وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه وعلى هذا التقدير لا يبقى ألبتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردوداً والمردود مقبولا لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر قسمين فقال في القسم الأول إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب وقال في القسم الثاني وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ فهذاجزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم ولم يجزم برد توبتهم فلما كان القسم الأول هم الذين يعملون السوء بجهالة والقسم الثاني هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد ثم يتوبون فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم بل تركهم في المشيئة كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وفيه وجهان الأول معناه الذين قرب موتهم والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت الثاني المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم
المسألة الرابعة تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين الأول قالوا إنه تعالى قال وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار ثم إنه تعالى قال في حق الكل أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق الثاني أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الاعلام معنى
والجواب أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات ثم نقول الضمير يجب أن يعود الى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات من قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً هو قوله وَلاَ(10/8)
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلم لا يجوز أن يكون قوله أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً عائدا إلى الكفار فقط وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة ثم ذكر الكافرين بعد ذلك فبين أن ايمانهم عند الموت غير مقبول ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مختصاً بالكافرين بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والاذلال
أما الوجه الثاني مما عولوا عليه فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة واذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) على أن هذا تمسك بدليل الخطاب والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم
المسألة الخامسة أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت الكفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر ويبطل به قول الخوارج إن الفاسق كافر ولا يمكن أن يقال المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 ) والله أعلم
المسألة السادسة أعتدنا أي أعددنا وهيأنا ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 آل عمران 131 ) احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن الماضي فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد الى أحكام النساء واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء ويظلمونهن بضروب من الظلم فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات
فالنوع الأول قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها فان شاء تزوجها بغير صداق إلا لصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أن ذلك حرام وأن الرجل(10/9)
لا يرث امرأة الميت منه فعلى هذا القول المراد بقوله أَن تَرِثُواْ النّسَاء عين النساء وأنهن لا يورثن من الميت
والقول الثاني ان الوراثة تعود الى المال وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها فقال تعالى لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف وفي التوبة أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( التوبة 53 ) وفي الأحقاف حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ( الأحقاف 15 ) كل ذلك بالضم وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم والباقي بالفتح وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد وقال الفراء الكره بالفتح الا الاكراه وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم
النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى في محل وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قولان الأول انه نصب بالعطف على حرف ( أن ) تقديره ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبدالله والثاني أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره ولا ترثوا ولا تعضلوا
المسألة الثانية العضل المنع ومنه الداء العضال وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( البقرة 232 )
المسألة الثالثة المخاطب في قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ من هو فيه أقوال الأول أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها وهذا القول اختيار أكثر المفسرين فكأنه تعالى قال لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الثاني أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت الثالث أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة الرابع أنه خطاب للأزواج فانهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا الخامس أنه عام في الكل
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الفاحشة المبينة قولان الأول أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحش عليكم
والقول الثاني أنها الزنا وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي
المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَأْتِينَ استثناء من ماذا فيه وجوه الأول انه استثناء من أخذ الأموال(10/10)
يعني لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه إلا إذا زنت والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم وما نسخ ومنهم من قال انه منسوخ بآية الجلد الثاني أنه استثناء من الحبس والامساك الذي تقدم ذكره في قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) وهو قول أبي مسلم وزعم أنه غير منسوخ الثالث يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت
المسألة الثالثة قرأ نافع وأبو عمرو مُّبَيّنَة ٍ بكسر الياء و مُّبَيّنَاتٍ وَاللَّهُ ( النور 34 ) بفتح الياء حيث كان قال لأن في قوله مُبَيّنَاتٍ قصد إظهارها وفي قوله بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ لم يقصد اظهارها وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما والباقون بكسر الياء فيهما أما من قرأ بالفتح فله وجهان الأول أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة إنما الله تعالى هو الذي بينهما والثاني ان الفاحشة تتبين فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة وأما الآيات فان الله تعالى بينها وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان اليها كما أن الاصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الاضلال اليها كقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وعاشروهن بالمعروف قال الزجاج هو النصفة في المبيت والنفقة والاجمال في القول
ثم قال تعالى فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن وآثرتم فراقهن فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً والضمير في قوله فِيهِ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله وأنفق عليها وأحسن اليها على خلاف الطبع استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا الثاني أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيراً منه ونظيره قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وهذا قول أبي بكر الأصم قال القاضي وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة فكيف يريد بذلك المفارقة
النوع الرابع من التكاليف المتعلقة بالنساء(10/11)
وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً
فيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ الآية والقنطار المال العظيم وقد مر تفسيره في قوله تعالى وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ ( آل عمران 14 )
المسألة السادسة قالوا الآية تدل على جواز المغالاة في المهر روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية فقال عمر كل الناس أفقه من عمر ورجع عن كراهة المغالاة وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) لا يدل على حصول الآلهة والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع وقال عليه الصلاة والسلام ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ) ولم يلزم منه جواز القتل وقد يقول الرجل لو كان الاله جسما لكان محدثا وهذا حق ولا يلزم منه ان قولنا الاله جسم حق
المسألة الثالثة هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حساً وبين ما إذا لم يؤتها
المسألة الرابعة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر المراد من المسيس الخلوة وقال عبدالله هو الجماع واذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية
والجواب ان هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك
المسألة الخامسة اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج وإما أن يكون من قبل الزوجة فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ(10/12)
وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فانه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع كما ان البيع وقت النداء منهي عنه ثم انه يفيد الملك واذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع لقوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ( النساء 19 )
ثم قال تعالى أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة وأصله من بهت الرجل إذا تحير فالبهتان كذب يحير الانسان لعظمته ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه بُهْتَاناً ومنه الحديث ( إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته )
المسألة الثانية في أنه لم انتصب قوله بُهْتَاناً وجوه الأول قال الزجاج البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً في الحقيقة كقولك قعد عن القتال جبنا الثالث انتصب بنزع الخافض أي ببهتان الرابع فيه اضمار تقديره تصيبون به بهتانا وإثما
المسألة الثالثة في تسمية هذا الأخذ ( بهتانا ) وجوه الأول أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا الثاني أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر اليها وأن لا يأخذه منها فاذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا الثالث أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر جعل كأن أحدهما هو الآخر الرابع أنه تعالى ذكر في الآية السابقة وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله فاذا أخذ منها شيئاً أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة فاذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر الخامس أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوماً عندهم فقوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 )
المسألة الرابعة قوله أَتَأْخُذُونَهُ استفهام على معنى الانكار والاعظام والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا أحدهما أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر وثانيها أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم إلى أخذ المال وهو ظلم آخر فلا شك أن التوسل(10/13)
بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا وثالثها قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال فضا يفضو وفضاء إذا اتسع قال الليث أفضى فلان إلى فلان أي وصل اليه وأصله أنه صار في فرجته وفضائه وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان أحدهما أن الافضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر وإن خلا بها
والقول الثاني في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها قال الكلبي الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن الليث قال أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل الثاني أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب فقال وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة وهو الجماع لا مجرد الخلوة فوجب حمل الافضاء عليه الثالث وهو أن الافضاء اليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية ومجرد الخلوة ليس كذلك لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بمجرد الخلوة
فان قيل فاذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا وأنتم لا تقولون به
قلنا القائل قائلان قائل يقول المهر لا يتقرر إلا بالجماع وآخر انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فكان هذا القول باطلا بالاجماع فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين إما الجماع وإما الخلوة والقول بالخلوة باطل لما بيناه فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع الرابع أن المهر قبل الخلوة ما كان متقرراً والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء هو الخلوة أو الجماع وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان وهو عدم التقرير فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كلمة تعجب أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطبية نفسه إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم
الوجه الرابع من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً في(10/14)
تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه الأول قال السدي وعكرمة والفراء هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان بل سرحها بالاساءة الثاني قال ابن عباس ومجاهد الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله الثالث قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظة لقوته وعظمته وقالوا صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج
النوع الخامس من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وجمهور المفسرين كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي رحمة الله عليه لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه إنما قلنا إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه الأول قوله تعالى فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) أضاف هذا النكاح إلى الزوج والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد لأن الانسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هوالعقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق الثاني قوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( النساء 6 ) والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا الثالث قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب الرابع قوله عليه الصلاة والسلام ( ناكح اليد ملعون ) ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ أي ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية لا يقال كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضاً بمعنى العقد قال تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النسار 3 ) إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 49 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) فلم كان حمل(10/15)
اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه الأول ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سبباً له أطلق اسم المسبب على السبب كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا فلا جرم كان يقول المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أما حكم العقد فانه غير مستفاد من هذه الآية بل من طريق آخر ودليل آخر
الوجه الثاني أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا فكان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن الوطء وعن العقد معا حملا للفظ على كلا مفهوميه
الوجه الثالث في الاستدلال وهو قول من يقول اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا قالوا ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال
والجواب عنه من وجوه الأول لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( النكاح سنتي ) ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة وثبت أن الوطء ليس سنة ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء كذلك التمسك بقوله تناكحوا تكثروا ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء وكذلك التمسك بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 )
لا يقال لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا وذلك لأنا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى
لأنا نقول أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد فلو قلنا إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد أما قولنا ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص فقولكم يوجب المجاز(10/16)
والتخصيص معا وقولنا يوجب المجاز فقط فكان قولنا أولى
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا والسفاح وطء فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا
الوجه الثالث أنه من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة الثاني سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا
أما الوجه الأول وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة وبيانه من وجهين الأول أو الوطء مسبب العقد فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا فكما يحتمل أن يقال النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء فكذلك يحتمل أن يقال النكاح اسم للعقد ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسبباً له فلم كان أحدهما أولى من الآخر بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين فانه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة كالملك فانه يحصل بالبيع والهبة والوصية والارث ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء أولى من عكسه
الوجه الثاني أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة فاذا ثبت باجماع المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مراداً ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع فكان فاسداً مردودا قطعا
أما الوجه الثاني مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه فنقول هذا أيضا باطل وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه
وأما الوجه الثالث فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب وهو أيضاً ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال إن لفظ النكاح حقيقة فيه فاذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد ويقال إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وحينئذ يرجع الكلام إلى(10/17)
الوجهين الأولين فهذا هو الكلام الملخص في هذا
الوجه الثاني في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن لم قلتم إن قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المراد منه المنكوحة والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه ( ما ) حقيقة في غير العقلاء فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز وإنه خلاف الأصل بل أهل العربية اتفقوا على أن ( ما ) مع بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية ولا تنكحوا نكاح آبائكم وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود وكانت موقتة وكانت على سبيل القهر والالجاء فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية
الوجه الثالث في الجواب عن هذا الاستدلال سلمنا أن المراد من قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المنكوحة والتقدير ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه فيقال ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ومعلوم أنه ليس كذلك فثبت أن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ لا يفيد العموم وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع
لا يقال لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه الى الباقي فحينئذ يصير مجملا غير مفيد والأصل أن لا يكون كذلك
لأنا نقول لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء فكان صرفه إلى هذا القسم أولى وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع
الوجه الرابع سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع لكن لم قلتم إنه يفيد التحريم أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم بل يفيد التنزيه فلم قلتم إنه ليس الأمر كذلك أقصى ما في الباب أن يقال هذا على خلاف الأصل ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه
الحجة الأولى هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح(10/18)
الحجة الثانية عموم قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن وإذا انتهى المنع حصل الجواز فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وأيضا نتمسك بقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) وليس لأحد أن يقول إن قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ضمير عائد إلى المذكور السابق ومن جملة المذكور السابق قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات اليه هو من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) فكان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عائدا اليه ولا يدخل فيه قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وأيضاً نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ) وقوله ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) فكل هذه العمومات يتناول محل النزاع واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل
الحجة الثالثة الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( الحرام لا يحرم الحلال ) أقصى ما في الباب أن يقال إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال إلا أنا نقول دخول التخصيص فيه في بعض الصور ولا يمنع من الاستدلال به
الحجة الرابعة من جهة القياس أن نقول المقتضى لجواز النكاح قائم والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر فوجب القول بالجواز أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها بجامع ما في النكاح من المصالح وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا
بيان المقام الأول من تزوج بامرأة فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة فلا يحصل ذلك الضرر فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة(10/19)
فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين وهذا هو من قول الامام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال وطء حمدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول منطبقة على قواعد الفقه ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في قوله إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وجوها الأول وهو أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ قبل نزول آية التحريم فانه معفو عنه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذا كما استثنى ( غير أن سيوفهم ) من قوله وَلاَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فانه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته كما يقال حتى يبيض القار وحتى يلج الجمل في سم الخياط الثالث أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل والمعنى لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه والرابع ( إلا ) ههنا بمعنى بعد كقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى ( الدخان 56 ) أي بعد الموتة الأولى الخامس قال بعضهم معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه قالوا إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج وقيل إن هذا خطأ لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية روى البراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بردة الى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله
المسألة الرابعة الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك لا جرم كان مستقبحا عندهم فبين الله تعالى(10/20)
أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا الثاني أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله وإنما قال كَانَ لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف
المسألة الخامسة أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة أولها أنه فاحشة وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش وثانيها المقت وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار وثالثها قوله وَسَاء سَبِيلاً قال الليث ( ساء ) فعل لازم وفاعله مضمر و ( سبيلا ) منصوب تفسيرا لذلك الفاعل كما قال وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) واعلم أن مراتب القبح ثلاثة القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات فقوله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً إشارة إلى القبح العقلي وقوله وَمَقْتاً إشارة إلى القبح الشرعي وقوله وَسَاء سَبِيلاً إشارة إلى القبح في العرف والعادة ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم
النوع السادس من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاْخِ وَبَنَاتُ الاْخْتِ
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان سبعة منهن من جهة النسب وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وسبعة أخرى لا من جهة النسب الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء وأزواج الابناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة والجمع بين الأختين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان وإنما يمكن إضافته إلى الافعال وذلك الفعل غير مذكور في الآية فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الافعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض فصارت الآية مجملة من هذا الوجه
والجواب عنه من وجهين الأول أن تقديم قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ ( النساء 22 ) يدل على أن المراد من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ تحريم نكاحهن الثاني أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن المراد منه تحريم نكاحهن والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان فالمراد(10/21)
تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فاذا قيل حرمت عليكم الميتة والدم فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما وإذا قيل حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ولما قال عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث ) فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية فكانت في غاية الركاكة والله أعلم
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى أحدها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ مذكور على ما لم يسم فاعله فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ولا سبيل اليه إلا بالاجماع فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة وثانيها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد والى المؤقت كأنه تعالى تارة قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط وأخرى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين لم يكن نصا في التأييد فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية بل من دلالة منفصلة وثالثها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ورابعها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل وخامسها أن ظاهر قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ومعلوم أنه ليس كذلك بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر وسادسها أن قوله حُرُمَاتِ يشعر ظاهره بسبق الحل إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله حُرُمَاتِ تحريماً لما هو في نفسه حرام فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن المراد من قوله حُرُمَاتِ ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور بل المراد الاخبار عن حصول التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الالهية بل ان زرداشت رسول المجوس قال بحله إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا أما نكاح الاخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك وقال انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط وذلك بالاجماع باطل وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة فان الانسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم(10/22)
على الولد أعظم وجوه الانعام فوجب صونها عن هذا الاذلال والبنت بمنزلة جزء من الانسان وبعض منه قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فيجب صونها عن هذا الاذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال وكذا القول في البقية والله أعلم ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول
النوع الأول من المحرمات الأمهات وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر
أمهتى خندف والياس أبي
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي
كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا المسألة الثانية كل امرأة رجع نسبك اليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية فأما في الجدات فاما ان يكون حقيقة أو مجازا فان كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بازاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ومن قال لا يجوز فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع أحدهما أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص بل من الاجماع والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين يريد في كل مرة مفهوما آخر أما إذا قلنا لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) إنما قلنا إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول فلو حصل هذا الانعقاد فاما أن يقال إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال والثاني باطل لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا(10/23)
العقد قطعا ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم
النوع الثاني من المحرمات البنات وفيه مسألتان
المسألة الأولى كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو بدرجات باناث أو بذكرو فهي بنتك وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني وقال أبو حنيفة تحرم حجة الشافعي أنها ليست بنتاً له فوجب أن لا تحرم إنما قلنا إنها ليست بنتا لوجوه الأول أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال لا يثبت نسبها إلا عن الاستلحاق ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة وأما إذا قلنا النسب إنما يثبت بحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب فثبت أن انتسابها اليها غير ممكن لا بناء على الحقيقة ولا بناء على حكم الشرع
الوجه الثاني التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فقوله الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش
الوجه الثالث لو كانت بنتاً له لأخذت الميراث لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ولثبتت له ولاية الاجبار لقوله عليه السلام ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ولحلت الخلوة بها فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية وإذا ثبت أنها ليست بنتاً له وجب أن يحل التزوج بها لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة وهذا الحصر ثابت بالاجماع والبنتية باطلة كما ذكرنا وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم
النوع الثالث من المحرمات الأخوات ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا والأخوات من الأب فقط والأخوات منالأم فقط
النوع الرابع والخامس العمات والخالات قال الواحدي رحمه الله كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك وكل أنثى رجع نسبك اليها بالولادة فأختها خالتك وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك
النوع السادس والسابع بنات الأخ وبنات الأخت والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في(10/24)
بنات الصلب فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالانساب والارحام قال المفسرون كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارىء فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية
النوع الثامن والتاسع
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) لأجل الحرمة
المسألة الثانية أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً والمرضعة أختا فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب وذلك لانه تعالى حرم بسبب النسب سبعا اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما الأمهات والبنات وخمس منها بطريق الأخوة وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ثم انه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية وهذا بيان لطيف
المسألة الثالثة أم الأنسان من الرضاع هي التي أرضعته وكذلك كل امرأة انتسبت الى تلك المرضعة بالأمومة إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع والحال في الأب كما في الأم واذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق وأما الأخوات فثلاثة الأولى أختك لأبيك وأمك وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك والثانية أختك لأبيك دون أمك وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك والثالثة أختك لأمك دون أبيك وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر واذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات وقال أبو حنيفة رضي الله عنه الرضعة الواحدة كافية وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم ثم سأل نفسه فقال ان قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ(10/25)
بمنزلة قول القائل وأمهاتكم اللاتي أعطينكم وأمهاتكم اللاتي كسونكم وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع بل لو أنه تعالى قال اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا
وأجاب عنه بأن قال الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل الى ابن عمر رضي الله عنهما فقال قال ابن الزبير لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ قال فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل
واعلم أن هذا الجواب ركيك جداً أما قوله ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول وهل النزاع الا فيه فان عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات وعندك إنما جاء من أصل الرضاع وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل فاذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات ثم ان أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يتسنبطه من الآية فأما ما سوى ذلك فانما يليق بكتب الفقه
النوع العاشر من المحرمات
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب
المسألة الثانية مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا وحجة القول الأول أن قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه فوجب القول ببقائه على عمومه وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه الأول وهو أن(10/26)
الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فاذا علقناه باحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل وانه لا يجوز الثاني وهو أن عموم هذه الجملة معلوم وعود الشرط اليه محتمل لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصاً بالجملة الأخيرة فقط ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك وانه لا يجوز الثالث وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى فاما أن يكون مقصورا عليها وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضاً والأول باطل لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا وذلك باطل بالاجماع والثاني باطل أيضا لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا التمييز ثم يقول وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا ابتداء الغاية كما يقول بنات الرسول من خديجة فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كلمة ( من ) للاتصال كقوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا
الوجه الرابع في الدلالة على ما قلناه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل واذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث وكان عبدالله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة فاتفق أن ذهب الى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه فلما رجع الى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب الى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم
النوع الحادي عشر من المحرمات
قوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل(10/27)
هو يربها يقال ربيت فلانا أربه وربيته أربيه بمعنى واحد والحجور جمع حجر وفيه لغتان قال ابن السكيت حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر والمراد بقوله فِى حُجُورِكُمْ أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال فلان في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الابط وقال أبو عبيدة في حجوركم أي في بيوتكم
المسألة الثانية روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول فانه يجوز له أن يتزوج الربيبة ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ شرط في كونها ربيبة له كونها في حجره فاذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط فوجب أن لا تثبت الحرمة وهذا استدلال حسن وأما سائر العلماء فانهم قالوا إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن والدليل عليه قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الانسان تكون في تربيته فهذا الكلام على الأعم لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم
المسألة الثالثة تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قال لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت وهذا الاستدلال في نهاية الضعف وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين الأول أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين الأول أن قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها والثاني أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها وإلى من لا تكون كذلك بدليل قوله فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها وأما بيان أن المزنية ليست كذلك فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها أما في الزنا فانه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية الثاني لو أوصى لنساء فلان لا تدخل هذه الزانية فيهن وكذلك لو حلف على نساء بني فلان لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم
النوع الثاني عشر من المحرمات
قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وفيه مسائل(10/28)
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إنه يجوز احتج الشافعي فقال جارية الابن حليلة وحليلة الابن محرمة على الأب أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ففيه وجهان أحدهما أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له الثاني أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد فكانت حليلة له أما إذا قلنا الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضاً الأول أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك الثاني ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ لا يقال إن أهل اللغة يقولون حليلة الرجل زوجته لأنا نقول إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه فكيف وهو شهادة على النفي فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية فقول من يقول إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه
المسألة الثانية قوله الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ احترازاً عن المتبني وكان المتبني في صدر الإسلام بمنزلة الابن ولا يحرم على الانسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه نكح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب وكانت زينب ابنة عمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة فقال المشركون إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ( الأحزاب 4 ) وقال لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ( الأحزاب 37 )
المسألة الثالثة ظاهر قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة فلما قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع إلا أنه عليه السلام قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يتناول الرضاع وغير الرضاع فكان قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) أخص منه فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن أما ما روي ان ابن عباس سئل عن قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص بذلك فقال ابن عباس أبهموا ما أبهمه الله فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة بل المراد من هذا الابهام التأييد ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب انها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد(10/29)
فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة
النوع الثالث عشر من المحرمات
قوله تعالى وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ في محل الرفع لأن التقدير حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين
المسألة الثانية الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه إما أن ينكحهما معا أو يملكهما معاً أو ينكح إحداهما ويمكل الاخرى أما الجمع بين الأختين في النكاح فذلك يقع على وجهين أحدهما أن يعقد عليهما جميعا فالحكم ههنا إما الجمع أو التعيين أو التخيير أو الابطال أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ثم انه يقع وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله
فان قالوا وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ثم انه يقع
قلنا بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل وأما أن التعيين أيضا باطل فلأن الترجيح من غير مرجح باطل وأما أن التخيير أيضا باطل فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين وقد بينا بطلانه فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا
الصورة الثانية من صور الجمع وهي أن يتزوج إحداهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية لأن الدفع أسهل من الرفع وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلفت الصحابة فيه فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر لا يجوز الجمع بينهما والباقون جوزوا ذلك أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وعن عثمان أنه قال أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى فالآية الموجبة للتحليل هي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 24 ) وقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 )
والجواب عنه من وجهين الأول أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا لأن المسلمين(10/30)
أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء فنقول لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك أولى من أن تكون دالة على الجواز
الوجه الثاني إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع لكن نقول الترجيح لجانب الحرمة ويدل عليه وجوه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ) الثاني أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع اليهن مندوب لقوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( البقرة 83 ) ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة والحل إنما ثبت بالعارض وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين فاذا وطىء إحداهما حرمت الثانية ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا يجوز حجة الشافعي أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع إنما قلنا إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل بدليل أنه لا يجوز له وطؤها ولو وطئها يلزمه الحد وإنما قلنا انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع إلا كونه جمعا بين أختين فاذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز
فان قيل النكاح باق من عبض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها
قلنا النكاح له حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا بل لو انقسمت هذه الحقيقة الى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح لأن استثناء عين التالي لا ينتج فبالجملة فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه فذلك مما لا يقبله العقل وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ان كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما وان كان قد(10/31)
تزوج باحداهما أولا وبالأخرى ثانيا اختار الأولى وفارق الثانية واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ قال هذا خطاب عام فيتناول المؤمن والكافر وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا لأن النهي يدل على الفساد فيقال له انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين فان قال فهما صحيحان على قولكم فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول قولنا الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا فانه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الإسلام وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع بل المراد منه أحكام الآخرة وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الإسلام كما يعاقب على ترك الإسلام إذا عرفت هذا فنقول أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود أو تزوج بها على سبيل القهر فبعد الإسلام يقر ذلك النكاح في حقه فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر وحجة الشافعي أن فيروز الديلمي أسلم على ثمان نسوة فقال عليه الصلاة والسلام ( اختر أربعا وفارق سائرهن ) خيره بينهن وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ فيه الاشكال المشهور وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف وهذا يقتضي استنثاء الماضي من المستقبل وإنه لا يجوز وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ مَا سَلَفَ والمعنى أن ما مضى بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
النوع الرابع عشر من المحرمات
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى الاحصان في اللغة المنع وكذلك الحصانة يقال مدينة حصينة ودرع حصينة أي مانعة صاحبها من الجراحة قال تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) معناه لتمنعكم وتحرزكم والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء والحصان بالكسر الفرس الفحل لمنعه صاحبه من الهلاك والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد قال تعالى وَمَرْيَمَ ابْنَة َ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( التحريم 12 )
واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه أحدها الحرية كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) يعني الحرائر ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين وكذلك قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء 25 يعني الحرائر وكذلك قوله مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ( النساء 25 ) وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وقوله وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الأنبياء 91 )(10/32)
أي أعفته وثالثها الإسلام من ذلك قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن ورابعها كون المرأة ذات زوج يقال امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يعني ذوات الأزواج والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك فوجب أن يكون المراد منه المزوجة لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي وهو المنع وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع فالحرية سبب لتحصين الانسان من نفاذ حكم الغير فيه والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي وكذلك الإسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من تزوج فقد حصن ثلثي دينه ) فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم
المسألة الثانية قال الواحدي اختلف القراء في الْمُحْصَنَاتِ فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فانهم أجمعوا على الفتح فيها فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني أسلمن واخترن العفاف وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن يعني أحصنهن أزواجهن والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه الثيب الذمي إذا زنى يرجم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرجم حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لاباحة الدم فوجب أن يثبت إباحة الدم وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم أما قولنا حصل الزنا مع الاحصان فهذا يعتمد اثبات قيدين أحدهما حصول الزنا ولا شك فيه الثاني حصول الاحصان وهو حاصل لأن قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يدل على أن المراد من المحصنة المزوجة وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان وإنما قلنا ان الزنا مع الاحصان علة لاباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم الا لاحدى معان ثلاثة ) ومنها قوله ( وزنا بعد إحصان ) جعل الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم في حق المسلم والمسلم محل لهذا الحكم أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الاحصان بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم أن الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم إلا أن كونه مسلما محل الحكم وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل والا لبطل القياس بالكلية وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل وهي ماهية الزنا بعد الاحصان وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم فثبت أنه مباح الدم ثم ههنا طريقان ان شئنا اكتفينا بهذا القدر فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به(10/33)
فصار محجوجا أو نقول لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق
فان قيل ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن فههنا ما يدل على أنه غير محصن وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( من أشرك بالله فليس بمحصن )
قلنا ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن فنقول إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفة وقوله من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه لا على أنه لا يحد على الزنا لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة وقولنا انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة أما قولنا لا يحد على الزنا لا يصلح أن يكون عقوبة له فكان المراد من قوله من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء قولان أحدهما المراد منها ذوات الأزواج وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها إلا إذا صارت ملكا لانسان فانها تحل للمالك الثاني أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك
القول الثاني أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر فكذا ههنا وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع فصار التقدير حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع الثاني الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة فهذا الأول في تفسير قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ هو المختار ويدل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق الى الصدق والصواب والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه ههنا تزول الزوجية ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها أو بالحيض وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا تزول حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل قال أبو بكر الرازي لو حصلت الفرقة(10/34)
بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها ومعلوم أنه ليس كذلك فيقال له كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي وأيضا فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى فظهر الفرق
المسألة السادسة مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق وعليه إجماع الفقهاء اليوم وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس إنها إذا بيعت طلقت حجة الجمهور أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت مزوجة ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( بيع الأمة طلاقها ) وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وفيه وجهان الأول أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ يدل على معنى الكتبة فالتقدير كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ ( النمل 88 ) الثاني قال الزجاج ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر ويكون ( عليكم ) مفسرا له فيكون المعنى الزموا كتاب الله
ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَأُحِلَّ لَكُمْ على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على كِتَابِ اللَّهِ يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها
الصنف الأول لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ( وهذا خبر مشهور مستفيض وربما قيل إنه بلغ مبلغ التواتر وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز واحتجوا عليه بوجوه الأول أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز الثاني من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال بم تحكم قال بكتاب الله قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب وأيضا فانه قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة ( إن ) وهي للاشتراط والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط الثالث أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب فاذا كان خبر العمة(10/35)
والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده الرابع أن قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ مع قوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه إما أن يقال الآية نزلت بعد الخبر فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص وإما أن يقال الخبر ورد بعد الكتاب فهذا يقتضي نسخ القرآن بخر الواحد وإنه لا يجوز وإما أن يقال وردا معا وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة فكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم
الوجه الخامس أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر وبيانه من وجهين الأول أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ نص صريح في التحليل كما أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ نص صريح في التحريم وأما قوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ) فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار وحمل الاخبار على النهي مجاز ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة الثاني أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات وقوله لا تَنْكِحَ ليس صريحا في العموم بل احتماله للمعهود السابق أظهر
الوجه السادس أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب
والجواب على وجوه الأول ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم وهو أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأييد وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب والدليل عليه أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأييد أم لا والدليل على أنه لا يفيد التأييد أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد فيقال تارة وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أبداً وأخرى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إلى الوقت الفلاني ولو كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا ولأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت إذا ثبت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له فهذا وجه حسن معقول مقرر وبهذا الطريق(10/36)
نقول أيضا إن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) ليس نصا في تأبيد هذا التحريم وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا من هذا اللفظ فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع
الوجه الثاني انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة وبين الحالتين منافرة عظيمة فثبت أن كونها أختاً لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ ( النساء 23 ) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة بل ههنا أولى وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت وهما يشبهان الولد للعمة والخالة واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة فكان قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى الثاني أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( النساء 23 ) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 133 ) فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما وإذا كان العم أباً لزم أن تكون العمة أماً وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ( يوسف 100 ) والمراد أبوه وخالته فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة فكان قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه
وإذا عرفت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو بدلالة خفية وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات
الوجه الثالث في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عام وقوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) خاص والخاص مقدم على العام ثم ههنا طريقان تارة نقول هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز وعندي هذا الوجه كالمكابرة لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد وتارة نقول تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز وتقريره مذكور في الأصول فهذا جملة الكلام في هذا الباب والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول
الصنف الثالث من التخصيصات الداخلة في هذا العموم أن المطلقة ثلاثا لا تحل إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 )
الصنف الرابع تحريم نكاح المعتدة ودليله قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء(10/37)
( البقرة 228 )
الصنف الخامس من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة وهذا بالاتفاق وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ودليل هذا التخصيص قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب
الصنف السادس يحرم عليه التزوج بالخامسة ودليله قوله تعالى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
الصنف السابع الملاعنة ودليله قوله عليه الصلاة والسلام ( المتلاعنان لا يجتمعان أبداً )
قوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَن تَبْتَغُواْ في محله قولان الأول أنه رفع على البدل من ( ما ) والتقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا على قراءة من قرأ ( وأحل ) بضم الألف ومن قرأ بالفتح كان محل ( أن تبتغوا ) نصبا الثاني أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل لأن تبتغوا والمعنى وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين وقوله مُّحْصِنِينَ أي متعففين عن الزنا وقوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي غير زانين وهو تكرير للتأكيد قال الليث السفاح والمسافحة الفجور وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال دموع سوافح ومسفوحة قال تعالى أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( الانعام 145 ) وفلان سفاح للدماء أي سفاك وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة
فان قيل أين مفعول تبتغوا
قلنا التقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوهن أي تبتغوا ما وراء ذلكم فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال الشافعي رضي الله عنه يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه احتج أبو حنيفة بهذه الآية وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد وهو الابتغاء بأموالهم والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا فوجب أن لا يصح جعلها مهرا
فان قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال مع أنكم تجوزون كونها مهرا
قلنا ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز وليس فيها دلالة على(10/38)
أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز إلا على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولون به ثم نقول الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية وذلك لأن قوله بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير
الحجة الثانية التمسك بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم وأنتم لا تقولون به
الحجة الثالثة الأحاديث منها ما روي أن امرأة جيء بها الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد تزوج بها رجل على نعلين فقال عليه الصلاة والسلام ( رضيت من نفسك بنعلين ) فقالت نعم فأجازه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا ومنها ما روي عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل ) ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها ( التمس ولو خاتما من حديد ) وذلك لا يساوي عشرة دراهم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها ثم قال إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فان كان حراً لها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمة سنة وقال الشافعي رحمة الله عليه يجوز جعل ذلك مهرا احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه الأول هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال والمال اسم للأعيان لا للمنافع الثاني قال تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وذلك صفة الأعيان
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا وعن الثاني أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة وعن الثالث أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه
الحجة الأولى قوله تعالى في قصة شعيب إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ ( القصص 27 ) جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء الى أن يطرأ الناسخ
الحجة الثانية ان التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا قال عليه الصلاة والسلام ( هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا قال زوجتكها بما معك من القرآن ) والله أعلم(10/39)
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها لأن الآية تقتضي كون البضع مالا وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فذاك من خواص الرسول عليه السلام
المسألة الخامسة قوله مُّحْصِنِينَ فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح والثاني أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ والأول أولى لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين والمعلق على المجمل يكون مجملا وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا
قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً
فيه مسائل
المسألة الأولى الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع يقال استمتع الرجل بولده ويقال فيمن مات في زمان شبابه لم يتمتع بشبابه قال تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ( الأنعام 128 ) وقال أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ( الأحقاف 20 ) يعني تعجلتم الانتفاع بها وقال فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ ( التوبة 69 ) يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا وفي قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وجهان الأول فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن فآتوهن أجورهن عليه ثم أسقط الراجع إلى ( ما ) لعدم الالتباس كقوله إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 43 ) فأسقط منه والثاني أن يكون ( ما ) في قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ بمعنى النساء و ( من ) في قوله مِنْهُنَّ للتبعيض والضمير في قوله بِهِ راجع إلى لفظ مَا لأنه واحد في اللفظ وفي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ إلى معنى ( ما ) لأنه جمع في المعنى وقوله أُجُورَهُنَّ أي مهورهن قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ( النساء 25 ) إلى قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( النساء 25 ) وهي المهور وكذا قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ ههنا وقال تعالى في آية أخرى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( الممتحنة 10 ) وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع وليس ببدل من الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر وقال أبو حنيفة تقرره واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر(10/40)
المسألة الثالثة في هذه الآية قولان أحدهما وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح وقوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر
والقول الثاني أن المراد بهذه الآية حكم المتعة وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة فشكا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) طول العزوبة فقال استمتعوا من هذه النساء واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة وقال السواد منهم إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات احداها القول بالاباحة المطلقة قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح قال لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال هي متعة كما قال تعالى قلت هل لها عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قالا لا
والرواية الثانية عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق لكني قلت إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له
والرواية الثالثة أنه أقر بأنها صارت منسوخة روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) وروي أيضا أنه قال عند موته اللهم إني أتوب اليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فانه قال نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتمتعنا بها ومات ولم ينهنا عنه ثم قال رجل برأيه ما شاء وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي وروى محمد بن على المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة فقال أمير المؤمنين انه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية فهذا ما يتعلق بالروايات واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه الأول أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة وليست أيضا زوجة ويدل عليه وجوه أحدها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ( النساء 12 ) وبالاتفاق لا توارث بينهما وثانيها ولثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش ) وبالاتفاق لا يثبت وثالثها ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر
الحجة الثانية ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فالحال ههنا لا يخلو(10/41)
إما أن يقال انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك والأول هو المطلوب والثاني يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم باباحة المتعة ثم قال إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا كان كافرا أيضا وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 )
والقسم الثالث وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا فهذا أيضا باطل لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا بل يجب أن يشتهر العلم به فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام
فان قيل ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته ولا شك أن الرجم غير جائز مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل
قلنا لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله ) ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز لكنه قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك للمبالغة في الزجر فكذا ههنا والله أعلم
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة ما روى مالك عن الزهري عن عبدالله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الانسية وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال غدوت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول ( يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( متعة النساء حرام ) وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك أما القائلون باباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان
الطريق الأول أن قول نكاح المتعة داخل في هذه الآية وذلك لأن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يقتضي حل(10/42)
القسمين وذلك يقتضي حل المتعة
الطريق الثاني أن نقول هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة وبيانه من وجوه الأول ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا وكذا ههنا واذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب الثاني أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد ومع الولي والشهود ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة الثالث أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة بل على النكاح ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك الرابع أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة لأنه تعالى قال في أول هذه السورة فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( النساء 3 ) ثم قال وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً ( النساء 4 ) أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه إنما الخلاف في طريان الناسخ فنقول لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر أو بالآحاد فان كان معلوما بالتواتر كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب تكفيرهم وهو باطل قطعا وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر كان ثبوته معلوما قطعا فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعاً للمقطوع وإنه باطل قالوا ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ وقول من يقول انه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات
الحجة الثالثة ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنهما متعة الحج ومتعة النكاح وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما نسخه وإنما عمر هو الذي نسخه وإذا ثبت هذا فنقول هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه عليه السلام ما نسخه وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في(10/43)
زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما نسخه الرسول يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى وأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمتعة وما نهانا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء يريد أن عمر نهى عنها فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة
والجواب عن الوجه الأول أن نقول هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ثم قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح الثاني أنه قال مُّحْصِنِينَ والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح والثالث قوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا هذا ما قاله أبو بكر الرازي أما الذي ذكره في الوجه الأول فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف فأي فساد في هذا الكلام وأما قوله ثانياً الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا وأما قوله ثالثاً الزنا إنما سمي سفاحا لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء والمتعة ليست كذلك فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله فان قلتم المتعة محرمة فنقول هذا أول البحث فلم قلتم إن الأمر كذلك فظهر أن الكلام رخو والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة إنما الذي نقوله إنها صارت منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل ألا على أن المتعة كانت مشروعة ونحن لا ننازع فيه إنما الذي نقوله إن النسخ طرأ عليه وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا وقولهم الناسخ إما أن يكون متواتراً أو آحادا
قلنا لعل بعضهم سمعه ثم نسيه ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له
قوله إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه
قلنا قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه وكل ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نسخها وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة وذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله فَرِيضَة ً ثلاثة أوجه أحدها أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة وثانيها أنها وضعت موضع إيتاء لأن الايتاء مفروض وثالثها أنه مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة(10/44)
ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية فعلى هذا المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه وهو كقوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وقوله إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) وقال الزجاج معناه لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل ألبتة فان قال لها زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة كانت المرأة بالخيار ان شاءت فعلت وان شاءت لم تفعل فهذا هو المراد من قوله وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه إلحاق الزيادة في الصداق جائز وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال الشافعي رحمة الله عليه الزيادة بمنزلة الهبة فان أقبضها ملكته بالقبض وان لم يقبضها بطلت احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق قال بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج والزيادة لا تصح إلا بقبوله فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة
والجواب لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول أو بعد زوال العقد والأول باطل لأن العقد لما انعقد على القدر الأول فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول فثبت فساد ما قالوه والله أعلم ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم
النوع السابع من التكاليف المذكورة في هذه السورة(10/45)
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل بين فيمن يحل أنه متى يحل وعلى أي وجه يحل فقال وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي الْمُحْصَنَاتِ بكسر الصاد وكذلك مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وكذلك فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ كلها بكسر الصاد والباقون بالفتح فالفتح معناه ذوات الأزواج والكسر معناه العفائف والحرائر والله أعلم
المسألة الثانية الطول الفضل ومنه التطول وهو التفضل وقال تعالى ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) ويقال تطاول لهذا الشيء أي تناوله كما يقال يدفلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولا لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر
إذا عرفت هذا فنقول الطول القدرة وانتصابه على أنه مفعول ( يستطع ) و أَن يَنكِحَ في موضع النصب على أنه مفعول القدرة
فان قيل الاستطاعة هي القدرة والطول أيضا هو القدرة فيصير تقدير الآية ومن لم يقدر منكم على القدرة على نكاح المحصنات فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة
قلنا الأمر كما ذكرت والأولى أن يقال المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات وعلى هذا الوجه يزول الاشكال فهذا ما يتعلق باللغة
أما ما قاله المفسرون فوجوه الأول ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة الثاني أن يفسر النكاح بالوطء والمعنى ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فانه يجوز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة سواء قدر على التزوج(10/46)
بالحرة أو لم يقدر والثالث الاكتفاء بالحرة فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن كل هذه الوجوه إنما حصلت لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثالثة المراد بالمحصنات في قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ هو الحرائر ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الأماء فان الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات واما على قراءة من قرأ بكسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن
المسألة الرابعة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الله تعالى شرط في نكاح الاماء شرائط ثلاثة اثنان منها في الناكح والثالث في المنكوحة أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق وهو معنى قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة
فان قيل الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة فمن أين هذا التفاوت
قلنا كانت العادة في الاماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت
وأما الشرط الثاني فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) أي بلغ الشدة في العزوبة
وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة فان الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين الرق والكفر ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين الأول أنه تعالى ذكر عدم القدرة(10/47)
على طول الحرة ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج الى الجماع فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة إذا ثبت هذا فنقول الحكم إذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة الثاني أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه والدليل عليه أن القائل إذا قال الميت اليهودي لا يبصر شيئا فان كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد قال أبو بكر الرازي تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه كقوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً ( آل عمران 130 ) لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة فيقال له ظاهر اللفظ يقتضي ذلك إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه حيث قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء والتقدير ومن لم يستطع منكم وطء الحرة وذلك عند من لا يكون تحته حرة فانه يجوز له نكاح الأمة وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة
وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد لا في عدم القدرة على الوطء واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقوله وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) وهو متناول للاماء الكتابيات والمراد من هذا الاحصان العفة
والجواب ان آيتنا خاصة والخاص مقدم على العام ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة وإنما خصت صونا للولد عن الارقاق وهو قائم في محل النزاع
المسألة الخامسة ظاهر قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ يقتضي كون الايمان معتبرا في الحرة فعلى هذا لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فانه يجوز له أن يتزوج الأمة وأكثر العلماء أن ذكر الايمان في الحرائر ندب واستحباب لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها
المسألة السادسة من الناس من قال انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة واحتجوا بهذه الآيات فقالوا انه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة وذلك ينفي دلالة الآية ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة
المسألة السابعة الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء وأنه لا يجوز الاقدام عليه إلا عند الضرورة والسبب فيه وجوه الأول أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فاذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده والثاني أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة وربما تعودت الفجور وكل ذلك ضرر على الأزواج(10/48)
الثالث أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة فربما احتاج الزوج اليها جدا ولا يجد اليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها الرابع أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر فعلى قول من يقول بيع الأمة طلاقها تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها وذلك من أعظم المضار الخامس أن مهرها ملك لمولاها فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه عنه بخلاف الحرة فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والله أعلم
قوله تعالى فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ فيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم قال ابن عباس يريد جارية أختك فان الانسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه
المسألة الثانية الفتيات المملوكة جمع فتاة والعبد فتى وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي ) ويقال للجارية الحديثة فتاة وللغلام فتى والأمة تسمى فتاة عجوزاً كانت او شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير
المسألة الثالثة قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حراً أو عبدا وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن وقول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز التزوج بالأمة الكتابية
حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة وأيضا قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 )
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه النص والقياس أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة وآكدها قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( المائدة 5 ) وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة والكتابية المملوكة أيضا مباحة فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز
والجواب عن العمومات أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات وعن القياس أن الشافعي قال إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص الرق والكفر فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ قال الزجاج معناه اعملوا على الظاهر في الايمان فانكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق
ثم قال تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ وفيه وجهان الأول كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الاماء عند الضرورة والثاني ان المعنى كلكم مشتركون في الايمان والايمان أعظم الفضائل فاذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت اليه ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ(10/49)
وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) قال الزجاج فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات أو لأن الشرف بشرف الإسلام أولى منه بسائر الصفات وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه ان الايمان شرط لجواز نكاح الأمة
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب فأعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر و يلتفت اليه روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب والفخر بالأحساب والاستسقاء بالانواء ولا يدعها الناس في الإسلام ) وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل ويدل عليه القرآن والقياس أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يقتضي كون الاذن شرطا في جواز النكاح وان لم يكن النكاح واجبا وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) فالسلم ليس بواجب ولكنه إذا إختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وان لم يكن واجبا لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها وأما القياس فهو أن الأمة ملك للسيد وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا تزوج العبد بغير اذن السيد فهو عاهر )
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يصح احتج الشافعي بهذه الآية وتقريره أن الضمير في قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ عائد إلى الاماء والأمة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية وإذا ثبت هذا فنقول قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اشارة إلى الاماء فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن وحصول صفة الحرية لهن وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي في هذه المسألة فقال مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها قال وهذه الآية تبطل ذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية
والجواب من وجوه الأول أن المراد بالاذن الرضا وعندنا أن رضا المولى لا بد منه فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه وثانيها أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن وذلك إما المولى أن كان رجلا أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة وثالثها هب أن الاهل عبارة عن المولى لكنه عام يتناول الذكور(10/50)
والاناث والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام ( العاهر هي التي تنكح نفسها ) فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآية قولان الأول ان المراد من الأجور المهور وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمي لها المهر أو لم يسم لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجاب المهر ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 33 ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الثاني قال القاضي ان المراد من أجورهن النفقة عليهن قال هذا القائل وهذا أولى من الأول لأن المهر مقدر ولا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة ثم قال القاضي اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر وحملوا قوله بِالْمَعْرُوفِ على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير
المسألة الثانية نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية وهو قوله وَمَن لَّمْ وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع وتلك المنافع مملوكة للسيد وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه الأول انا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية الثاني أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور اليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله وَءاتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن ولكنه عليه الصلاة والسلام قال ( العبد وما في يده لمولاه ) فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم
ثم قال تعالى مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس محصنات أي عفائف وهو حال من قوله فَانكِحُوهُنَّ باذن أهلهن فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا وسنذكره في قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي غير زوان وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ جمع خدن كالاتراب جمع ترب والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن قال أكثر المفسرين المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية(10/51)
فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على حرمتهما معاً ونظيره أيضاً قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( الأعراف 33 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا وهذا ليس بشرط
وجوابه أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات بل على قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا شك أن كل ذلك واجب فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أُحْصِنَّ بالفتح في الألف والباقون بضم الألف فمن فتح فمعناه أسلمن هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي ومن ضم الألف فمعناه أنهن أحصن بالازواج هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات ثم يقال فاذا آمن فان حالهن كذا وكذا ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين الأول حال نكاح الاماء فاعتبر الايمان فيه بقوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ والثاني حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم وهو قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ
المسألة الثانية في الآية إشكال قوي وهو أن المحصنات في قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات أو المراد منه الحرائر الأبكار والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن والأول مشكل لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا الرجم فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم ومعلوم أن ذلك باطل والثاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين الاحصان والزنا لأن قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ شرط بعد شرط فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا فهذا إشكال قوي في الآية
والجواب أنا نختار القسم الثاني وقوله فَإِذَا أُحْصِنَّ ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص لأن عند حصول ما يغلظ الحد لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم(10/52)
المسألة الثالثة الخوارج اتفقوا على انكار الرجم واحتجوا بهذه الآية وهو أنه تعالى أوجب على الأمة نصف ما على الحرة المحصنة فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 )
المسألة الرابعة اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر في غير الحد وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم
ثم قال تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد وللمفسرين فيه قولان أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة فهذا هو العنت والثاني أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة أما في حق النساء فقد تؤدي الى اختناق الرحم وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن
ثم قال تعالى وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة ووجود العنت وكون الأمة مؤمنة الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح
المسألة الثانية مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل فان كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم وآن قالوا إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة فحينئذ يسقط هذا الاستدلال إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم
ثم انه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح يعني انه وان حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم اليه فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة والله أعلم
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(10/53)
فيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ فيه وجهان الأول قالوا إنه قد تقام اللام مقام ( أن ) في أردت وأمرت فيقال أردت أن تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم قال تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ( الصف 8 ) يعني يريدون أن يطفؤا وقال وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الأنعام 71 )
والوجه الثاني أن نقول إن في الآية إضمارا والتقدير يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها فقوله يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا وأمرنا بما أمرنا لنسلم
المسألة الثانية قال بعض المفسرين قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ معناهما شي واحد والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف والحق أن المراد من قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح
ثم قال وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وفيه قولان أحدهما أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل والثاني أنه ليس المراد ذلك بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنها متفقة في باب المصالح وفيه قول ثالث وهو أن المعنى أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق
ثم قال تعالى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال القاضي معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها كذلك وقع التقصير والتفريط منا فيريد أن يتوب علينا لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة
واعلم أن في الآية إشكالا وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى والآية مشكلة على كلا القولين أما على القول الأول فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فانه يحصل فاذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ومعلوم أنه ليس كذلك وأما على القول الثاني فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا وقوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة فهذه الآية مشكلة على كلا القولين
والجواب أن نقول إن قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا والعقل أيضا مؤكد له لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل والندم والعزم من باب الارادات والارادة لا يمكن إرادتها وإلا لزم التسلسل فاذن الارادة يمتنع أن تكون فعل الانسان فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة(10/54)
ما أشعر به ظاهر القرآن وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا فأما قوله لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة فنقول قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع الأمة وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التوبة لهم فزال الاشكال والله أعلم
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
فيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المجوس كانوا يحلون الأخوات وبنات الاخوة والأخوات فلما حرمهن الله تعالى قالوا إنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يدل على أنه تعالى يريد التوبة من الكل والطاعة من الكل قال أصحابنا هذا محالا لأنه تعالى علم من الفاسق أنه لا يتوب وعلمه بأنه لا يتوب مع توبته ضدان وذلك العلم ممتنع الزوال ومع وجوب أحد الضدين كانت إرادة الضد الآخر إرادة لما علم كونه محالا وذلك محال وأيضاً إذا كان هو تعالى يريد التوبة من الكل ويريد الشيطان أن تميلوا ميلا عظيما ثم يحصل مراد الشيطان لا مراد الرحمن فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتم من نفاذ الرحمن في ملك نفسه وذلك محال فثبت أن قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التوبة لهم
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في التخفيف قولان الأول المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل والباقون قالوا هذا عام في كل أحكام الشرع وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا إحسانا منه الينا ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل ونظيره قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة )
المسألة الثانية قال القاضي هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان كذلك فالكافرين يخلق فيه الكفر ثم يقول له لا تكفر فهذا أعظم وجوه التثقيل ولا يخلق فيه الايمان ولا قدرة(10/55)
للعبد على خلق الايمان ثم يقول له آمن وهذا أعظم وجوه التثقيل قال ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع لأنه أعظم وجوه التثقيل
والجواب أنه معارض بالعلم والداعي وأكثر ما ذكرناه
ثم قال وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً والمعنى أنه تعالى لضعف الانسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه وإنما قلنا ان هذا الوجه أولى لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن وقوته هذا كله كلام القاضي وهو كلام حسن ولكنه يهدم أصله وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لا بد له من سبب فان كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل وإن كان الكل من الله فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة روي عن ابن عباس أنه قال ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ( النساء 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ( النساء 110 ) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ( آل عمران 147 )
ويقول محمد الرازي مصنف هذا الكتاب ختم الله له بالحسنى اللهم اجعلنا بفضلك ورحمتك أهلا لها يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين
النوع الثامن من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
اعلم أن في كيفية النظم وجيهن الأول أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال والثاني قال القاضي لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(10/56)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة لما أن المقصود الأعظم من الأموال الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 )
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الباطل وجهين الأول أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة لأنه يصير تقدير الآية لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة والثاني ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الانسان بغير عوض وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم إنها منسوخة قالوا لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا وشق ذلك على الخلق فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ( النور 61 ) الآية وأيضا ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه تحرم الصدقات والهبات ويمكن أن يقال هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة
المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل لأن قوله أَمْوالَكُمْ يدخل فيه القسمان معا كقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه
ثم قال إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب فعلى ( كان ) الناقصة والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة وأما من رفع فعلى ( كان ) التامة والتقدير إلا أن توجد وتحصل تجارة وقال الواحدي والاختيار الرفع لأن من نصب أضمر التجارة فقال تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا
المسألة الثانية قوله إِلا فيه وجهان الأول أنه استثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل فكان ( إلا ) ههنا بمعنى ( بل ) والمعنى لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض الثاني ان من الناس من قال الاستثناء متصل وأضمر شيئاً فقال التقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وإن تراضيتم كالربا وغيره إلا أن تكون تجارة عن تراض
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة(10/57)
فان قلنا إن الاستثناء منقطع فلا إشكال فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد من أسباب الملك ولم يذكر سائرها لا بالنفي ولا باثبات
وإن قلنا الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه النهي في المعاملات يدل على البطلان وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يدل عليه واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه الأول أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى وثانيها أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود وإن كان الثاني وجب القول بصحتها قياسا على التصرفات الصحيحة والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال وثالثها أن قوله لا تبيعوا الدرهم بدرهمين كقوله لا تبيعوا الحر بالعبد فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمة الله عليه خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة وقال الشافعي رحمة الله عليه ثابت احتج أبو حنيفة بالنصوص أولها هذه الآية فان قوله إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي سواء حصل التفرق أو لم يحصل وثانيها قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه ) وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع فوجب أن يحصل الحل ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه ) جوز بيعه بعد القبض وخامسها ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان ولم يشترط فيه الافتراق وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص لكنه يقول أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات والله أعلم
قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم(10/58)
بعضا وإنما قال أَنفُسَكُمْ لقوله عليه السلام ( المؤمنون كنفس واحدة ) ولأن العرب يقولون قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم فانكره بعضهم وقال إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم وهو الألم الشديد والذم العظيم والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم وهو استحقاق العذاب العظيم وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند وذلك لا يتأتى من المؤمن ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة وأيضا ففيه احتمال آخر كأنه قيل لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الاحصان ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة
ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ إلى ماذا يعود على وجوه الأول قال عطاء إنه خاص في قتل النفس المحرمة لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات الثاني قال الزجاج إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة والثالث قال ابن عباس إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع
المسألة الثانية إنما قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض وقد يكون ذلك حقا كالقود وفي جملة ما تقدم أخذ المال وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة قالوا وقوله فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال بتخليدهم فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر لأنه لا قائل بالفرق والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع إلا أن الذي نقوله ههنا ان هذا مختص بالكفار لأنه قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير فيحمل الظلم على ما إذا كان قصده التعدي على تكاليف الله ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال أليس أنه وصفهم بالايمان فقال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فكيف يمكن أن يقال المراد بهم الكفار لأنا نقول مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا أنهم كانوا مؤمنين ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه والله أعلم(10/59)
ثم أنه تعالى ختم الآية فقال وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية وحينئذ يمتنع أن يقال ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أو يكون معناه المبالغة في التهديد وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى من الناس من قال جميع الذنوب والمعاصي كبائر روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه
الحجة الأولى هذه الآية فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر
الحجة الثانية قوله تعالى وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( القمر 53 ) وقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 )
الحجة الثالثة ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر كقوله الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر
الحجة الرابعة قوله تعالى وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( الحجرات 7 ) وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة أولها الكفر وثانيها الفسوق وثالثها العصيان فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر فالكبائر هي الفسوق والصغائر هي العصيان واحتج ابن عباس بوجهين أحدهما كثرة نعم من عصى والثاني إجلال من عصى فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة
والجواب من وجهين الأول كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين وكل ذلك يوجب خفة الذنب الثاني هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت(10/60)
إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر فالقائلون بذلك فريقان منهم من قال الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ومنهم من قال هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها بل بحسب حال فاعليها ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين
أما القول الأول فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ونحن نشير إلى بعضها فالأول قال ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف الثاني قال ابن مسعود افتتحوا سورة النساء فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ثم قال مصداق ذلك إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) الثالث قال قوم كل عمد فهو كبيرة واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة
أما الأول فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه
وأما الثاني فهو أيضا ضعيف لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة
وأما الثالث فضعيف أيضا لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم لا يعلمون أنه معصية وهو مع ذلك كفر كبير فبطلت هذه الوجوه الثلاثة وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال فهذا كله قول من قال الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها
وأما القول الثاني وهو قول من يقول الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها فهؤلاء الذين يقولون إن لكل طاعة قدرا من الثواب ولكل معصية قدرا من العقاب فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه أحدها أن يتعادلا ويتساويا وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير
والقسم الثاني أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ويفضل من الثواب شيء ومثل هذه المعصية هي الصغيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير
والقسم الثالث أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ويفضل من العقاب شيء ومثل هذه المعصية هي الكبيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة وهذا قول جمهور المعتزلة(10/61)
واعلم أن هذا الكلام مبني على ول كلها باطلة عندنا أولها أن هذا مبنى على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب وكون المعصية موجبة للعقاب وثانيها أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر فان أصروا وقالوا بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط أبطلوا على أنفسهم أصلهم فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد وثالثها أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات فكان أداء الطاعات أدار لما وجب بسبب النعم السابقة ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر وذلك أيضاً باطل ورابعها أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق
المسألة الثانية اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا فالأكثرون قالوا إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراءا له بالاقدام على تلك الصغائر والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه قالوا ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ووقت الموت في جميع الأوقات والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما تعدون الكبائر ) فقالوا الله ورسوله أعلم فقال ( الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات ) وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها استحلال آمين البيت الحرام وشرب الخمر وعن ابن مسعود أنه زاد فيها القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ثم قال هي إلى السبعين أقرب وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب والله أعلم(10/62)
المسألة الثالثة احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام
وأجاب أصحابنا من وجوه الأول انكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء وهذا أيضا ضعيف ويدل عليه آيات إحداها قوله وَاشْكُرُواْ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( البقرة 172 ) فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد وثانيها قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك وثالثها فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( البقرة 282 ) والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا ورابعها وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده وخامسها وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ( النور 33 ) والاكراه على البغاء محرم سواء أردن التحصن أو لم يردن وسادسها وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل وسابعها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ والقصر جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين وتاسعها قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ ( النساء 35 ) وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وعاشرها قوله إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ( النساء 35 ) وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما والحادي عشر قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة فثبت أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة ( إن ) على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي
الوجه الثاني من الجواب قال أبو مسلم الاصفهاني إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك فقال تعالى إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا وإذا كان هذا الوجه محتملا لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين الأول أن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ عام فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز الثاني أن قوله إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين إما أن يكونوا(10/63)
قد تابوا من كل ما تقدم فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت هذا لفظ القاضي في تفسيره
والجواب عن الأول أنا لا ندعي القطع بأن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ محمول على ما تقدم ذكره لكنا نقول إنه محتمل ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه وعن الثاني أن قولك من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم
الوجه الثالث من الجواب عن هذا الاستدلال هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد وعمومات الوعيد ليست قليلة فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه
الوجه الرابع أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا بالنسبة إلى شيء ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر وكذا القول في الصغائر إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ الكفر وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وإذا كان هذا محتملا بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر وعندنا أنه لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة
ثم قال تعالى وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ المفضل عن عاصم يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ بالياء في الحرفين على ضمير الغائب والباقون بالنون على استئناف الوعد وقرأ نافع مُّدْخَلاً بفتح الميم وفي الحج مثله والباقون بالضم ولم يختلفوا في مُدْخَلَ صِدْقٍ بالضم فبالفتح المراد موضع الدخول وبالضم المراد المصدر وهو الادخال أي ويدخلكم إدخالا كريما وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ( الفرقان 34 )
المسألة الثانية أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة بل لا بد معه من الطاعات فالتقدير ان أتيتم بجميع الواجبات واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي وهو فضل الله وكرمه ورحمته كما قال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( يونس 58 ) والله أعلم(10/64)
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
اعلم أن في النظم وجهين الأول قال القفال رحمه الله انه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل وعن قتل النفس أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له فانه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد واذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال
الوجه الثاني في كيفية النظم هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهراً عن الأفعال القبيحة وهو الشريعة ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ليصير الباطن طاهرا عن الاخلاق الذميمة وذلك هو الطريقة ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى التمني عندنا عبارة عن ارادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قلنا انه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا وقالت المعتزلة النهي عن قول القائل ليته وجد كذا أو ليته لم يوجد كذا وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون
المسألة الثانية اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية أو بدنية أو خارجية
أما السعادات النفسانية فنوعان أحدهما ما يتعلق بالقوة النظرية وهو الذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية وثانيهما ما يتعلق بالقوة العملية وهي العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة ومجموع هذه الأحوال هو العدالة
وأما السعادات البدنية فالصحة والجمال والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة
وأما السعادات الخارجية فهي كثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم مطاع الأمر فيهم فهذا هو الاشارة الى مجامع السعادات وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه وبعضها كسبية وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله فانه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وإلا(10/65)
فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه ويكون الفوز بالسعادة والوصول الى المطلوب غير مشترك فيه فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها
المسألة الثانية أن الانسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لانسان ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان والأخرى أن لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له أما الأول فهو الحسد المذموم لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه الاحسان الى عبيده والجود اليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الايمان وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا فانه يقطع المودة والمحبة والموالاة ويقلب كل ذلك الى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان أما على مذهب أهل السنة والجماعة فهو أنه تعالى فعال لما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) فلا اعتراض عليه في فعله ولا مجال لأحد في منازعته وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه واذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة وطرق الاعتراضات مردودة وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ولهذا المعنى قال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى 27 ) وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ولهذا المعنى حكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن رب العزة أنه قال ( من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي ) فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها ) والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا هذا أيضا لا يجوز لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا فلهذا السبب قال المحققون إنه لا يجوز للانسان أن يقول اللهم أعطني دارا مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغي أن يقول اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وإذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكر الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا ( البقرة 201 ) وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ
المسألة الرابعة ذكروا في سبب النزول وجوها الأول قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول الله يغزو(10/66)
الرجال ولا نغزو ولهم من الميراث ضعف ما لنا فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية الثاني قال السدي لما نزلت آية المواريث قال الرجال نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء نرجو أن يكون الوزر علينا علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية الثالث لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج لأنا ضعفاء وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية الرابع أتت واحدة من النساء الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت رب الرجال والنساء واحد وأنت الرسول الينا واليهم وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا فنزلت الآية فقالت وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فاذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر فاذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس )
ثم قال تعالى لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ
واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة وأن يكون ما يتعلق بهما
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا فينبغي أن يرضى بما قسم الله له الثاني كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به وأن يترك الاعتراض والاكتساب على هذا القول بمعنى الاصابة والاحراز الثالث كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان فأبطل الله ذلك بهذه الآية وبين أن لكل واحد منهم نصيبا ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الآية ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه الأول المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه فلا تتمنوا خلاف ذلك الثاني لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك الثالث للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء وللنساء نصيب مما اكتسبن يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب
وأما الاحتمال الثالث فهو أن يكون المراد من الآية كل هذه الوجوه لأن هذا اللفظ محتمل ولا منافاة
ثم قال تعالى وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ بغير همز بشرط أن يكون أمراً من السؤال وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء والباقون بالهمز في كل القرآن
أما الأول فنقل حركة الهمزة الى السين واستغنى عن ألف الوصل فحذفها
وأما الثاني فعلى الأصل واتفقوا في قوله وَلْيَسْئَلُواْ أنه بالهمزة لأنه أمر لغائب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله مِن فَضْلِهِ في موضع المفعول الثاني في قول أبي(10/67)
الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه والصفة قائمة مقامه كأنه قيل واسألوا الله نعمته من فضله
المسألة الثالثة قوله وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ تنبيه على أن الانسان لا يجوز له أن يعين شيئاً في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الاطلاق
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين فليقتصر السائل على المجمل وليحترز في دعائه عن التعيين فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر والله أعلم
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثاً ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما
أما الأول فهو أن قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ أي ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته ثم كأنه قيل ومن هؤلاء الورثة فقيل هم الوالدان والأقربون وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله مّمَّا تَرَكَ
وأما الثاني ففيه وجهان الأول أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى أي ورثة و جَعَلْنَا في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين لأن معنى جَعَلْنَا خلقنا الثاني أن يكون التقدير ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون فقوله مَوَالِى َ على هذا القول يكون صفة والموصوف يكون محذوفا والراجع إلى قوله وَلِكُلّ محذوفا والخبر وهو قوله نَّصِيبٍ محذوف أيضا وعلى هذا التقدير يكون جَعَلْنَا معتديا إلى مفعولين والوجهان الأولان أولى لكثرة الاضمار في هذا الوجه
المسألة الثانية لفظ مشترك بين معان أحدها المعتق لأنه ولى نعمته في عتقه ولذلك يسمى مولى النعمة وثانيها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له وثالثها الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين ورابعها ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما وخامسها المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ(10/68)
مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وسادسها العصبة وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي عقدت بغير ألف وبالتخفيف والباقون بالألف والتخفيف وعقدت أضافت العقد إلى واحد والاختيار عاقدت لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين
المسألة الثانية الأيمان جمع يمين واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد وأن يكون معناه القسم فان كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه أحدها أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد
والوجه الثاني في المجاز وهو أن التقدير والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه الثالث أن التقدير والذين عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الاضافة والقول في بقية المجازات كما تقدم
المسألة الثالثة من الناس من قال هذه الآية منسوخة ومنهم من قال إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها فالأول هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم الحلفاء في الجاهلية وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول دمي دمك وسلمي سلمك وحربي حربك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) وبقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ الثاني أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم المسمون بالأدعياء وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ثم ان الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها
القول الثاني قول من قال الآية غير منسوخة والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها الأول تقدير الآية ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم فقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ معطوف على قوله الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ والمعنى ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به وسمى الله تعالى الوارث مولى والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية وهذا تأويل(10/69)
أبي علي الجبائي الثاني المراد بالذين عاقدت أيمانكم الزوج والزوجة والنكاح يسمى عقدا قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا وهو قول أبي مسلم الاصفهاني الثالث أن يكون المراد بقوله وَالَّذِينَ فِى أَيْمَانِكُمْ الميراث الحاصل بسبب الولاء وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الرابع أن يكون المراد من الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ الحلفاء والمراد بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة والمخالصة في المخالطة فلا يكون المراد التوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الخامس نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا السادس قال الاصم إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة القائلون بأن قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مبتدأ وخبره قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا قالوا إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن ( الذي ) معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ويجوز أن يكون منصوبا على قولك زيدا فاضربه
المسألة الخامسة قال جمهور الفقهاء لا يرث المولى الأسفل من الأعلى وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال يرث لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ميراثه للغلام المعتق ولأنه داخل في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
والجواب عن التمسك بالحديث أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى الفقراء
المسألة السادسة قال الشافعي ومالك رضي الله عنهما من اسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره انه لا يرثه بل ميراثه للمسلمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يرثه حجة الشافعي أنا بينا أن معنى هذه الآية ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فقد جعلنا له موالى وهم العصبة ثم هؤلاء العصبة إما الخاصة وهم الورثة وإما العامة وهم جماعة المسلمين فوجب صرف هذا المال إلى العصبة العامة ما لم توجد العصبة الخاصة واحتج أبو بكر الرازي لقوله بأن الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده ثم إنه تعالى نسخه بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولو الأرحام فاذا لم يوجدوا لزم بقاء الحكم كما كان
والجواب أنا بينا أنه لا دلالة في الآية على أن الحليف يرث بل بينا أن الآية دالة على أنه لا يرث وبينا أن القول بهذا النسخ باطل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيداً وهو كلمة وعد للمطيعين وكلمة وعيد للعصاة(10/70)
والشهيد الشاهد والمشاهد والمراد منه إما علمه تعالى بجميع الجزئيات والكليات وإما شهادته على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه وعلى التقدير الأول الشهيد هو العالم وعلى التقدير الثاني هو المخبر
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
اعلم أنه تعالى قال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث لأن الرجال قوامون على النساء فانهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمر الله الرجال أن يدفعوا اليهن المهر ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر فكأنه لا فضل ألبتة فهذا هو بيان كيفية النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القوام اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر يقال هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها قال ابن عباس نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار فانه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية وأنه لطمها وان أثر اللطمة باق في وجهها فقال عليه الصلاة والسلام ( اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى أنظر ) فنزلت هذه الآية الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها فلما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أردنا أمراً وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ) ورفع القصاص ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين أحدهما قوله تعالى بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 34 )
واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة بعضها صفات حقيقة وبعضها أحكام شرعية أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين إلى العلم وإلى القدرة ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي وان منهم الأنبياء والعلماء وفيهم الامامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه وزيادة النصيب(10/71)
في الميراث والتعصيب في الميراث وفي تحمل الدية في القتل والخطأ وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء
والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة قوله تعالى وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها ثم انه تعالى قسم النساء قسمين فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ
المسألة الثانية قوله قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ فيه وجهان الأول قانتات أي مطيعات لله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ أي قائمات بحقوق الزوج وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج الثاني أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة وأصل القنوت دوام الطاعة فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن وظاهر هذا إخبار إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها لأن الله تعالى قال فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة قال الواحدي رحمه الله لفظ القنوت يفيد الطاعة وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ واعلم أن الغيب خلاف الشهادة والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب وذلك من وجوه أحدها أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره وثانيها حفظ ماله عن الضياع وثالثها حفظ منزله عما لا ينبغي وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) وتلا هذه الآية
المسألة الثالثة ( ما ) في قوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ فيه وجهان الأول بمعنى الذي والعائد اليه محذوف والتقدير بما حفظه الله لهن والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن فقوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى ما يقال هذا بذاك أي هذا في مقابلة ذاك
والوجه الثاني أن تكون ( ما ) مصدرية والتقدير بحفظ الله وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل والثاني أن المعنى هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات فقال وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل قال(10/72)
الشافعي رضي الله عنه وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ النشوز قد يكون قولا وقد يكون فعلا فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ثم إنها تغيرت عن كل ذلك فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع ومنه يقال للأرض المرتفعة ونشز ونشر
ثم قال تعالى فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه أما الوعظ فانه يقول لها اتقي الله فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا وأيضا فاذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها قال الشافعي رضي الله عنه والضرب مباح وتركه أفضل روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم ) ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا قال الشافعي رضي الله عنه فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة بأن يكون مفرقا على بدنها ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن وأن يكون دون الأربعين ومن أصحابنا من قال لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد ومنهم من قال ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه
وأقول الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع ثم ترقى منه إلى الضرب وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أصحابنا قال بعضهم حكم هذه الآية مشروع على الترتيب فان ظاهر اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعظها بلسانه فان انتهت فلا سبيل له عليها فان أبت هجر مضجعها فان أبت ضربها فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين وقال آخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا(10/73)
بأس بالجمع بين الكل وقال بعض أصحابنا تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها وهل له أن يهجرها فيه احتمال وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها أو يضربها
ثم قال تعالى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقاً على سبيل التعنت والايذاء إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وعلوه لا بعلو الجهة وكبره لا بكبر الجثة بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن وبيانه من وجوه الأول أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن وأكبر درجة منهن الثاني لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم فان الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق الثالث أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فانهن لا يقدرن على ذلك الرابع أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب بل يغفر له فاذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها الخامس أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ثم يهجرها ثم يضربها بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خِفْتُمْ أي علمتم قال وهذا بخلاف قوله وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فان ذلك محمول على الظن والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز فقد حصل العلم بكونها ناشزة فوجب حمل الخوف ههنا على العلم طعن الزجاج فيه فقال خِفْتُمْ ههنا بمعنى أيقنتم خطأ فانا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما الا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى ويمكن أن يقال وجود الشقاق في الحال معلوم ومثل هذا لا يحصل منه خوف إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا فالفائدة في بعث(10/74)
الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فان ذلك محال بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل
المسألة الثانية للشقاق تأويلان أحدهما أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه الثاني أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة
المسألة الثالثة قوله شِقَاقَ بَيْنِهِمَا معناه شقاقا بينهما إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها يقال يعجبني صوم يوم عرفة وقال تعالى بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( سبأ 33 )
المسألة الرابعة المخاطب بقوله فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ من هو فيه خلاف قال بعضهم إنه هو الامام أو من يلي من قبله وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية اليه وقال آخرون المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله خِفْتُمْ خطاب للجميع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون قوله فَإِنْ خِفْتُمْ خطابا لجميع المؤمنين ثم قال فَابْعَثُواْ فوجب أن يكون هذا أمراً لآحاد الآمة بهذا المعنى فثبت أنه سواء وجد الامام أو لم يوجد فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للاصلاح وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ولكل أحد أن يقوم به
المسألة الخامسة إذا وقع الشقاق بينهما فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها أو يشكل فان كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه وان كان منه فان كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى أو تسري بجارية عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق فان قبلت وإلا كان نشوزا وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها فالقول أيضاً ما قلناه
المسألة السادسة قال الشافعي رضي الله عنه المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلباً للصلاح فان كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الاقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع
المسألة السابعة هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها للشافعي فيه قولان أحدهما يجوز وبه قال مالك واسحق والثاني لا يجوز وهو قول أبي حنيفة وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ومع كل واحد منهما جمع من الناس فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تعرفان ما عليكما عليكما ان رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به قال الشافعي رضي الله عنه وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل(10/75)
أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وأقل ما في قوله عليكما أن يجوز لهما ذلك
وأما دليل القول الثاني أن الزوج لما لم يرض توقف على ومعنى قوله كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين لم يضف اليهما إلا الاصلاح وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الاصلاح غير مفوض اليهما
المسألة الثامنة قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي شقاقا بين الزوجين ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء
ثم قال تعالى إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله إِن يُرِيدَا وجوه الأول ان يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير الثاني ان يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الثالث إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الرابع إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثانية أصل التوفيق الموافقة وهي المساواة في أمر من الأمور فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق
النوع التاسع من التكاليف المذكورة في هذه السورة
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً
واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع
النوع الأول قوله واعبدوا الله قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل(10/76)
فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ
النوع الثاني قوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله وَاعْبُدُواْ اللَّهَ أمر بالاخلاص في العبادة بقوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا ولهذا قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 )
النوع الثالث قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً واتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) أي فاضربوها ويقال أحسنت بفلان وإلى فلان قال كثير
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع أحدها في هذه الآية وثانيها قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وثالثها قوله أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَى َّ الْمَصِيرُ ( لقمان 14 ) وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( الإسراء 23 ) وقال وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ أَجْرًا حَسَنًا وقال في الوالدين الكافرين وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( لقمان 15 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أَكْبَرَ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليمن استأذنه في الجهاد فقال عليه السلام ( هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما )
واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما وألا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر وأن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما قال أبو بكر الرازي إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله فحينئذ يجوز له قتله لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه وذلك منهي عنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا
النوع الرابع قوله تعالى اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله وَالاْرْحَامَ
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع فذكر في هذه الآية قرابة الولاد ثم أتبعها بقرابة الرحم
النوع الخامس قوله وَالْيَتَامَى واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز أحدهما الصغر والثاني عدم المنفق ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة قال ابن عباس(10/77)
يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم
النوع السادس قوله وَالْمَسَاكِينُ واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا وأما اليتيم فلا قدرة له عليه فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين والاحسان إلى المسكين اما بالاجمال اليه أو بالرد الجميل كما قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 9 )
النوع السابع قوله وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى قيل هو الذي قرب جواره والجار الجنب هو الذي بعد جواره قال عليه الصلاة والسلام ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون داراً ) وكان الزهري يقول أربعون يمنة وأربعون يسرة وأربعون أماما وأربعون خلفا وعن أبي هريرة قيل يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسنانها شيء يؤذي جيرانها أي هي سليطة فقال عليه الصلاة والسلام ( لا خير فيها هي في النار ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته ) وقال آخرون عني بالجار ذي القربى القريب النسيب وبالجار الجنب الجار الأجنبي وقرىء ( والجار ذا القربى ) نصبا على الاختصاص كما قرىء ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ( البقرة 238 ) تنبيها على عظم حقه لأنه اجتمع فيه موجبان الجوار والقرابة
النوع الثامن قوله وَالْجَارِ الْجُنُبِ وقد ذكرنا تفسيره قال الواحدي الجنب نعت على وزن فعل وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعداً عن أهله ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة وقال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ ( إبراهيم 35 ) أي بعدني والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر وروى المفضل عن عاصم وَالْجَارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين أحدهما أنه يريد بالجنب الناحية ويكون التقدير والجار ذي الجنب فحذف المضاف لأن المعنى مفهوم والآخر أن يكون وصفا على سبيل المبالغة كما يقال فلان كرم وجود
النوع التاسع قوله وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر وإما جارا ملاصقا وإما شريكا في تعلم أو حرفة وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان قيل الصاحب الجنب المرأة فانها تكون معك وتضجع إلى جنبك
النوع العاشر قوله وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر الذي انقطع عن بلده وقيل الضيف
النوع الحادي عشر قوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال(10/78)
( من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام والسيد كان يزيده ضربا فطلع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أعوذ برسول الله فتركه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كان أحق أن يجار عائذه ) قال يا رسول الله فانه حر لوجه الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار )
واعلم أن الاحسان اليهم من وجوه أحدها أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وثانيها أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة وثالثها أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الاماء البغاء وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن وقال بعضهم كل حيوان فهو مملوك والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال مشت رجلك وأخذت يدك قال عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت ) وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( يس 71 ) ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمختال ذو الخيلاء والكبر قال ابن عباس يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد قال الزجاج وإنما ذكر الاختيال ههنا وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) ومعنى الفخر التطاول والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا قال ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع لأن المختال هو المتكبر وكل من كان متكبرا فانه قلما يقوم برعاية الحقوق ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة بل لمحض أمر الله تعالى
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بِالْبُخْلِ بفتح الباء والخاء وفي الحديد مثله وهي لغة الانصار والباقون بِالْبُخْلِ بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية
المسألة الثانية الذين يبخلون بدل من قوله مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمعنى ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون أو نصب على الذم ويجوز أن يكون رفعا على الذم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة(10/79)
المسألة الثالثة قال الواحدي البخل فيه أربع اللغات البخل مثل القفل والبخل مثل الكرم والبخل مثل الفقر والبخل بضمتين ذكره المبرد وهو في كلام العرب عبارة عن منع الاحسان وفي الشريعة منع الواجب
المسألة الرابعة قال ابن عباس انهم اليهود بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد عليه الصلاة والسلام وصفته في التوراة وأمروا قومهم أيضا بالكتمان وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَأَعْتَدْنَا في الآخرة لليهود عَذَاباً مُّهِيناً واحتج من نصر هذا القول بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر وقال آخرون المراد منه البخل بالمال لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال فانه قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( النساء 36 ) ومعلوم أن الاحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال ثم ذم المعرضين عن هذا الاحسان فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ( النساء 36 ) ثم عطف عليه الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله وما ذاك إلا البخل بالمال
والقول الثالث أنه عام في البخل بالعلم والدين وفي البخل بالمال لأن اللفظ عام والكل مذموم فوجب كون اللفظ متناولا للكل
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا أولها كون الانسان بخيلا وهو المراد بقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وثانيها كونهم آمرين لغيرهم بالبخل وهذا هو النهاية في حب البخل وهو المراد بقوله وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وثالثها قوله وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فيوهمون الفقر مع الغنى والاعسار مع اليسار والعجز مع الامكان ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى ولا يرضى بالقضاء والقدر وهذا ينتهي إلى حد الكفر فلذلك قال وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ومن قال الآية مخصوصة باليهود فكلامه في هذا الموضع ظاهر لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر ويمكن أيضاً أن يكون المراد من هذا الكافر من يكون كافرا بالنعمة لا من يكون كافرا بالدين والشرع
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت عطفت الَّذِينَ في هذه الآية على الَّذِينَ في الآية التي قبلها وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(10/80)
المسألة الثانية قال الواحدي نزلت في المنافقين وهو الوجه لذكر الرئاء وهو ضرب من النفاق
وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والأولى أن يقال إنه تعالى لما أمر بالاحسان إلى أرباب الحاجات بين أن من لا يفعل ذلك قسمان فالأول هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة وهم المذمومون في قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) والثاني الذين ينفقون أموالهم لكن لا لغرض الطاعة بل لغرض الرياء والسمعة فهذه الفرقة أيضا مذمومة ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول وهو إنفاق الأموال لغرض الاحسان
ثم قال تعالى وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً والمعنى أن الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الزخرف 36 ) وبين تعالى أنه بئس القرين إذ كان يضله عن دار النعيم ويورده نار السعير وهو كقوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( الحج 3 4 )
ثم انه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الايمان
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَمَاذَا عَلَيْهِمْ استفهام بمعنى الانكار ويجوز أن يكون ( ماذا ) اسما واحدا فيكون المعنى وأي الشيء عليهم ويجوز أن يكون ( ذا ) في معنى الذي ويكون ( ما ) وحدها اسما ويكون المعنى وما الذي عليهم لو آمنوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الايمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا إن قوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ مشعر بأن الاتيان بالايمان في غاية السهولة ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة فانا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم فدل هذا على أن التقليد كاف
أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة واعلم أن في هذا البحث غورا
المسألة الثالثة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة قال الجبائي ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك كما لا يقال لمن هو في النار معذب ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام ماذا عليه لو أكل وقال الكعبي لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول ماذا عليه لو آمن كما لا يقال لمن أمرضه ماذا عليه لو كان صحيحا ولا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى فبطل بهذا ما يقال إنه وإن قبح من غيره لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه وقال القاضي عبد الجبار إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من(10/81)
مفارقة الحبس ثم يقول له ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة
واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت فلا حاجة إلى الاعادة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها فان الانسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب مثل داعية النفاق والرياء والسمعة
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ( النساء 39 ) فكأنه قال فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فرغب بذلك في الايمان والطاعة
واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة الأول قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال كل واحد من هذه الأشياء ذرة و مِثْقَالَ مفعال من الثقل يقال هذا على مثقال هذا أي وزن هذا ومعنى مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أي ما يكون وزنه وزن الذرة
واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيراً ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ( يونس 44 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله وأيضاً لو خلق الظلم في الظالم ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه ولا على دفعه بعد وجوده ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته لم ظلمت ثم يعاقبه عليه كان هذا محض الظلم والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم
والجواب المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مراراً لا حد لها وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت إلا أنها ترجع إلى حرف واحد وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب والسؤال على هذا الحرف معين وهو المعارضة بالعلم والداعي فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال(10/82)
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح إلا إذا كان هو قادرا عليه ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ولم يلزم أن يصح ذلك عليه وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم
والجواب أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم فلهذا أطلق عليه اسم الظلم والذي يدل على أن الظلم محال من الله أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم وهما محالان على الله ومستلزم المحال محال والمحال غير مقدور وأيضاً الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه فيمتنع كونه ظالما وأيضاً الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحاً ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال وحينئذ يحتاج في حصول صفة الالهية له إلى مخصص وفاعل وذلك على الله محال
المسألة الخامسة قالت المعتزلة إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة مدة مائة سنة وقال أصحابنا هذا باطل لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة أزيد من عقاب شرب هذه القطرة فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم وإنه منفي بهذه الآية
المسألة السادسة قال الجبائي إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء وقال ابنه أبو هاشم بل ينحبط واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالاحباط فانا نقول لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط والقسمان باطلان فالقول بالاحباط باطل إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول وذلك محال وإنما قلنا إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك ظلم وهو ينافي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الاحباط على ما تقوله المعتزلة
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة فقالوا لا شك أن ثواب الايمان والمداومة على التوحيد والاقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والاكرام والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر(10/83)
فاذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم فاذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة
النوع الثاني من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية
قوله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير حَسَنَة ٌ بالرفع على تقديره ( كان ) التامة والمعنى وإن حدثت حسنة أو وقعت حسنة والباقون بالنصب على تقدير ( كان ) الناقصة والتقدير وإن تك زنة الذرة حسنة وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضَاعِفْهَا بالتشديد من غير ألف من التضعيف والباقون يُضَاعِفْهَا بالألف والتخفيف من المضاعفة
المسألة الثانية تك أصله من ( كان يكون ) وأصله ( تكون ) سقطت الضمة للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار ( تكن ) ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة وهي تشبه حروف اللين وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم كقولك لم أدر أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والاثبات أما الحذف فههنا وأما الاثبات فكقوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً ( النساء 135 )
المسألة الثالثة ان الله تعالى بين بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أنه لا يبخسهم حقهم أصلا وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءاً أو ثلاثين جزءاً أو أزيد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له أعط هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته مصداق ذلك في كتاب الله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وقال الحسن قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا هذا أحب إلى العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة لأن ذلك الكلام يكون مقداره إنها خير من ألف شهر وقال أبو عثمان النهدي بلغني عن أبي هريرة أنه قال إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجاً أو معتمرا فألفيته فقلت بلغني عنك أنك تقول إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لم أقل ذلك ولكن قلت إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف ثم تلا هذه الآية وقال إذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن يقدر قدره
النوع الثالث من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وفيه مسألتان(10/84)
المسألة الأولى لدن بمعنى ( عند ) إلا أن ( لدن ) أكثر تمكينا يقول الرجل عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر ولا يقال لدي مال ولا لدني إلا ما كان حاضرا
المسألة الثانية اعلم أنه لا بد من الفرق بين هذا وبين قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا والذي يخظر ببالي والعلم عند الله أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة وإنما خص هذا النوع بقوله مِن لَّدُنْهُ لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال لا ينال بالأعمال الجسدانية بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الاشراق والصفاء والنور وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلا ءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسىء أبلغ والتبكيت له أعظم وحسرته أشد ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا ( النساء 40 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابن مسعود ( إقرأ القرآن علي ) قال فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال ( أحب أن أسمعه من غيري ) قال ابن مسعود فافتتحت سورة النساء فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة وذكر السدي أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشهدون للرسل بالبلاغ والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يشهد لأمته بالتصديق فلهذا قال جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه كيف بك إذا كان كذا وكذا وإذا فعل فلان كذا وإذا جاء وقت كذا فمعنى هذا الكلام كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل امة برسولها واستشهدك على هؤلاء يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم )(10/85)
ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو تُسَوَّى مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وابن عامر تُسَوَّى مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى تتسوى فأدغم التاء في السين لقربها منها ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله اطَّيَّرْنَا بِكَ ( النمل 47 ) وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) ويذكرون ( الأنعام 26 ) وفي هذه القراءة اتساع وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي لَوْ تُسَوَّى مفتوحة التاء والسين خفيفة حذفا التاء التى أدغمها نافع لأنها كما اعتلت بالادغام اعتلت بالحذف
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وجوها الأول لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى والثاني يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء الثالث تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 )
المسألة الرابعة قوله وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فيه لأهل التأويل طريقان الأول أن هذا متصل بما قبله والثاني أنه كلام مبتدأ فاذا جعلناه متصلا احتمل وجهين أحدهما ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا كفروا به ولا نافقوا وعلى هذا القول الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين وجاء أن يغفر الله لهم فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا
الطريق الثاني في التأويل أن هذا الكلام مستأنف فان ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه
المسألة الخامسة فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
والجواب من وجوه الأول أن مواطن القيامة كثيرة فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) وموطن يتكلمون فيه كقوله مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ( النحل 28 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيكذبون في مواطن وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا ( الأنعام 27 ) وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم الثاني أن هذا الكتمان غير واقع بل هو داخل(10/86)
في التمني على ما بينا الثالث أنهم لم يقصدوا الكتمان وإنما أخبروا على حسب ما توهموا وتقديره والله ما كنا مشركين عند أنفسنا بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
النوع العاشر من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجهين الأول أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثلموا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد فنزلت هذه الآية فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات فاذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها على الاطلاق في سورة المائدة وعن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه ذلك قال اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة الثاني قال ابن عباس نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فنهاهم الله عنه
المسألة الثانية في لفظ الصلاة قولان أحدهما المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه ذهب الشافعي
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل ويدل عليه وجهان الأول أنه يكون من باب حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة وحذف المضاف مجاز شائع والثاني قوله لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ( الحج 40 ) والمراد بالصلوات مواضع الصلوات فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز
والقول الثاني وعليه الأكثرون أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد وهو قول الشافعي وأما على القول الثاني فيكون المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا تقربوها(10/87)
حال كونكم جنباً إلا عابري سبيل والمراد بعابر السبيل المسافر فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الاقدام على الصلاة عند العجز عن الماء قال أصحاب الشافعي هذا القول الأول أرجح ويدل عليه وجوه الأول أنه قال لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة إنما يصحان على المسجد الثاني أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد فانه يجوز له الصلاة بالتيمم وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى الثالث انا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة ألبتة فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية وأما على ما قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى الرابع أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التييم بعد هذا فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ثم يستأنف قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى لأنه حكم آخر وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الالحاقات فكان ما قلناه أولى ولمن نصر القول الثاني أن يقول إن قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ يدل على أن المراد من قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها فكان حمل لآية على هذا أولى وللقائل الأول ان يجيب بأن الظاهر أن الانسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله السكارى جمع سكران وكل نعت على فعلان فانه يجمع على فعالى وفعالى مثل كسالى وكسالى وأصل السكر في اللغة سد الطريق ومن ذلك سكر البثق وهو سده وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا ( الحجر 15 ) أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه إذا عرفت هذا فنقول في لفظ السكارى في هذه الآية قولان الأول المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين
والقول الثاني وهو قول الضحاك وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر إنما المراد منه سكر النوم قال ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له والدليل دل عليه فوجب المصير إليه أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين الأول ما ذكرنا أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق ولا شك أن عند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن الثاني قول الفرزدق
من السير والادلاج يحسب انما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
واذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول الدليل دل عليه وبيانه من وجوه الأول أن قوله تعالى(10/88)
لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون وتوجيه التكليف على مثل هذا الانسان ممتنع بالعقل والنقل أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الانسان يقتضي تكليف ما لا يطاق وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ) ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون فوجب ارتفاع التكليف عنه
والحجة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فانه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه ) هذا تقرير قول الضحاك
واعلم أن الصحيح هو القول الأول ويدل عليه وجهان الأول أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر والأصل في الكلام الحقيقة فأما حمله على السكر من الشعق أو من الغضب أو من الخوف أو من النوم فكل ذلك مجاز وإنما يستعمل مقيدا قال تعالى وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ ( ق 19 ) وقال وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) الثاني أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر وقد ثبت في أصول الفقه ان الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين امتنع ان لا يكون ذلك السبب مراداً بتلك الآية فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران فنقول وهذا أيضا لازم عليكم لأنه يقال كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا ثم الجواب عنه ان المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية المائدة وأقول الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم المدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز قربن الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلالوت هذه الآية هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ
والجواب عنه أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف ومثل هذا لا يكون نسخا
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سُكَارَى بفتح السين و سُكَارَى على أن يكون جمعا نحو هلكى وجوعى
ثم قال تعالى وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ قوله وَلاَ جُنُباً عطف على قوله وَأَنتُمْ سُكَارَى والواو ههنا للحال والتقدير لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى وحال ما تكونون جنبا والجنب يستوى فيه الواحد والجمع المذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد وقيل للذي يجب عليه الغسل جنب لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى(10/89)
يتطهر ثم قال إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ وقد ذكرنا أن فيه قولين أحدهما أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد الثاني أن المراد بقوله إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ المسافرون وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أصنافا أربعة المرضى والمسافرين والذين جاؤا من الغائط والذين لامسوا النساء
فالقسمان الأولان يلجئان إلى التيمم وهما المرض والسفر
والقسمان الأخيران يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء وبالتيمم عند عدم الماء ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام
أما السبب الأول وهو المرض فاعلم أنه على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة وثانيها أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة وثالثها أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء بدليل أنه قال في آخر الآية فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وإذا كان هذا الشرط معتبرا في جواز التيمم فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم وهو أيضا قول ابن عباس وكان يقول لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده ثم قد دلت السنة على جوازه ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة كان به جراحة عظيمة فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال فلما اغتسل مات فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قتلوه قتلهم الله فدل ذلك على جواز ما ذكرناه
السبب الثاني السفر والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم طال سفره أو قصر لهذه الآية
السبب الثالث قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه
السبب الرابع قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وفيه مسائل(10/90)
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لَامَسْتُمُ بغير ألف من اللمس والباقون لَامَسْتُمُ بالألف من الملامسة
المسألة الثانية اختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين أحدهما أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقول أبي حنيفة رضي الله عنه لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة والثاني أن المراد باللمس ههنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء واللمس حقيقته المس باليد فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز والأصل حمل الكلام على حقيقته وأما القراءة الثانية وهي قوله أَوْ لَامَسْتُمُ فهو مفاعلة من اللمس وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً بل يجب حمله على حقيقته أيضاً لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال المراد باللمس الجماع بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع قال تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 37 ) وقال في آية الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( المجادلة 3 ) وعن ابن عباس أنه قال إن الله حيي كريم يعف ويكني فعبر عن المباشرة بالملامسة وأيضا الحدث نوعان الأصغر وهو المراد بقوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ فلو حملنا قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية فوجب حمله على الحدث الأكبر
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل فوجب أن لا يجوز وأيضاً فحكم الجنابة تقدم في قوله وَلاَ جُنُباً فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار
المسألة الثالثة قال أهل الظاهر إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء أما الملموس فلا وقال الشافعي رضي الله عنه بل ينتقض وضوءهما معا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب
فان قيل قولنا وجد لا يشعر بسبق الطلب بدليل قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) وقوله وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وقوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فان الطلب على الله محال
قلنا الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا إلا أنه لما أخرج محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئاً ثم لم يجده فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه(10/91)
المسألة الثانية أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم قد أوجبه الشافعي رضي الله عنه متمسكا بظاهر لفظ الآية
ثم قال تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفي مسائل
المسألة الأولى التيمم في اللغة عبارة عن القصد يقال أممته وتيممته وتأممته أي قصدته وأما على الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً وقال الشافعي رضي الله عنه بل لا بد من تراب يلتصق بيده احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال التيمم هو القصد والصعيد هو ما تصاعد من الأرض فقوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أي أقصدوا أرضا فوجب أن يكون هذا القدر كافيا وأما الشافعي فانه احتج بوجهين الأول أن هذه الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فان قيل إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية قال صاحب ( الكشاف ) لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض ثم قال والاذعان للحق أحق من المراء الثاني ما ذكره الواحدي رحمه الله وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ ( الأعراف 58 ) فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة فكان قوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أمرا بالتيمم بالتراب فقط وظاهر الأمر للوجوب أن قوله صَعِيداً طَيّباً أمر بايقاع التيمم بالصعيد الطيب والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة فقال ( جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) وقال ( التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء )
المسألة الثالثة قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الابطين إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع فبقي اللفظ متناولا للباقي ثم ختم تعالى الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان من عادته أنه يعفور عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً(10/92)
اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فانه ينشط الخاطر ويقوى القريحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ معناه ألم ينته علمك إلى هؤلاء وقد ذكرنا ما فيه عند قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم
المسألة الثانية الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ويدل عليه وجوه الأول أن قوله بعد هذه الآية مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ( النساء 46 المائدة 41 ) متعلق بهذه الآية الثاني روى ابن عباس ان هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقان عبدالله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام الثالث ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى
المسألة الثالثة لم يقل تعالى انهم أوتوا علم الكتاب بل قال أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام ولم يعرفوا منها نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما الذين أسلموا كعبدالله بن سلام وعرفوا الأمرين فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب فقال قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الضلال والاضلال أما الضلال فهو قوله يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وفيه وجوه الأول قال الزجاج يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره الثاني ان في الآية إضمارا وتأويله يشترون الضلالة بالهدى كقوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أي يستبدلون الضلالة بالهدى ولا إضمار على قول الزجاج الثالث المراد بهذه الآية عوام اليهود فانهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة ولا إضمار على هذا التأويل أيضا ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالاضلال فقال وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الاسلام
واعلم انك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والاضلال
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين بين أن الله تعالى ولى المسلمين وناصرهم ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق وفي الآية سؤالات
السؤالا الأول ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا(10/93)
والجواب ان الولي المتصرف في الشيء والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار
السؤال الثاني لم لم يقل وكفى بالله وليا ونصيرا وما الفائدة في تكرير قوله وَكَفَى بِاللَّهِ
والجواب ان التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة
السؤال الثالث ما فائدة الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً
والجواب ذكروا وجوها الأول لو قيل كفى الله كان يتصل الفعل بالفاعل ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة الثاني قال ابن السراج تقدير الكلام كفى اكتفاؤك بالله وليا ولما ذكرت ( كفى ) دل على الاكتفاء لأنه من لفظه كما تقول من كذب كان شرا له أي كان الكذب شراً له فأضمرته لدلالة الفعل عليه الثالث يخطر ببالي أن الباء في الأصل للالصاق وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير ولو قيل كفى الله دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة فاذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 )
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور أحدها أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق قوله مِنَ الَّذِينَ وجوه الأول أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا والثاني أن يتعلق بقوله نَصِيراً والتقدير وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا وهو كقوله وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) الثالث أن يكون خبر مبتدأ محذوف و يُحَرّفُونَ صفته تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه الرابع أنه تعالى لما قال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ ( النساء 44 ) بقي ذلك مجملا من وجين فكأنه قيل ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فأجيب وقيل من الذين هادوا ثم قيل وكيف يشترون الضلالة فأجيب وقيل(10/94)
يحرفون الكلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول الجمع مؤنث فكان ينبغي أن يقال يحرفون الكلم عن مواضعها
والجواب قال الواحدي هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده وكل جمع يكون كذلك فانه يجوز تذكيره ويمكن أن يقال كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً بل هو أمر لفظي فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرىء يحرفون الكلم
المسألة الثالثة في كيفية التحريف وجوه أحدها أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم ( ربعة ) عن موضعه في التوراة بوضعهم ( آدم طويل ) مكانه ونحو تحريفهم ( الرجم ) بوضعهم ( الحد ) بدله ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 )
فان قيل كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب
قلنا لعله يقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف والثاني أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح الثالث أنهم كانوا يدخلون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فاذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه
المسألة الرابعة ذكر الله تعالى ههنا عَن مَّواضِعِهِ وفي المائدة مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب وأما الآية المذكورة في سورة المائدة فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب فقوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ إشارة إلى التأويل الباطل وقوله مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب
النوع الثاني من ضلالاتهم ما ذكره الله تعالى بقوله وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وفيه وجهان الأول أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في أنفسهم وعصينا والثاني أنهم كانوا يظهرون قولهم سمعنا وعصينا إظهاراً للمخالفة واستحقاراً للأمر
النوع الثالث من ضلالتهم قوله وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
واعلم ان هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم ويحتمل الاهانة والشتم أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه الأول أنهم كانوا يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسمع ويقولون في أنفسهم لا سمعت فقوله غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه غير سامع فان السامع مسمع والمسمع سامع الثاني غير مسمع أي غير مقبول منك ولا تجاب إلى ما تدعو اليه ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك ما أسمعت شيئا الثالث اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ومتى كان كذلك فان الانسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح فكانوا يذكرونها لغرض الشتم(10/95)
النوع الرابع من ضلالاتهم قولهم وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ أما تفسير راعِنَا فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه الأول أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني قوله راعِنَا معناه ارعنا سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام بل إنما يخاطبون بالاجلال والتعظيم الثالث كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم الرابع أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم راعِنَا راعينا وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا وقوله لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ قال الواحدي أصل ( لياً ( لويا لانه من لويت ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون ومثله الطي وفي تفسيره وجوه الأول قال الفراء كانوا يقولون راعنا ويريدون به الشتم فذاك هو اللي وكذلك قولهم ( غير مسمع ) وأرادوا به لا سمعت فهذا هو اللي الثاني انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق الثالث لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية كما جرت عادة من يهزأ بانسان بمثل هذا الأفعال ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم فانقلب ما فعلوه طعناه في نبوته دلالة قاطعة على نبوته لأن الاخبار عن الغيب معجز
فان قيل كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا وقالوا سمعنا وعصينا
والجواب من وجهين الأول أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال إنهم ما كانوا يظهرون قولهم وَعَصَيْنَا بل كانوا يقولونه فى أنفسهم والثاني هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب والشتم
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولاظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات وبدل قولهم وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قولهم واسمع وبدل قولهم راعِنَا قولهم انظُرْنَا أي اسمع منا ما نقول وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم أي أعدل وأصوب ومنه يقال رمح قويم أي مستقيم وقومت الشيء من عوج فتقوم
ثم قال وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه قولان أحدهما أن القليل صفة للقوم والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون ثم منهم من قال كان ذلك القليل عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك
والقول الثاني أن القليل صفة للايمان والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا فانهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول قال لأن ( قليلا ) لفظ مفرد ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 ) ويمكن أن(10/96)
يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا والمراد به الجمع قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وقال وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ( المعارج 10 11 ) فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه اريد بهما الكثرة
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ولقائل أن يقول كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته حتى يكون إيمانهم استدلاليا فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد
والجواب عنه أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة ألا ترى أنه قال في الآية الأولى أَمْ تُرِيدُونَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( النساء 44 ) ولم يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ومن كان كذلك فانه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ولهذا قال تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك
المسألة الثانية الطمس المحو تقول العرب في وصف المفازة إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله وطمست الريح الأثر إذا محته وطمست الكتاب محوته وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين أحدهما حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه والثاني حمل اللفظ على مجازه
أما القول الأول فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس فاذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ومعنى قوله فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا رد الوجوه إلى ناحية القفا وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ومما يقرره قوله تعالى وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ( الانشقاق 10 ) فانه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب(10/97)
من وراء ظهورهم لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان
فاما القول الثاني فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول قال الحسن المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أي على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ونظيره قوله تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ ( الأنفال 24 ) تحقيق القول فيه أن الانسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات فقد امه عالم المعقولات ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم ناكسورؤسهم ( السجدة 12 ) الثاني يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة الثالث قال عبد الرحمن ابن زيد هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام كما جاؤا منها بدءاً وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين أحدهما تقبيح صورتهم يقال طمس الله صورته كقوله قبح الله وجهه والثاني إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها
فان قيل إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة وان فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فانه قال أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ وظاهره ليس هو المسخ الثاني قوله تعالى ءامَنُواْ تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة فصار التقدير آمنوا من قبل أن يجىء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت الثالث أنا قد بينا أن قوله قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مع جميع علمائهم فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبدالله بن سلام وجمع كثير من أصحابه ففات المشروط بفوات الشرط ويقال لما نزلت هذه الآية أتى عبدالله بن سلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل اليك حتى يتحول وجهي في قفاي الرابع أنه تعالى لم يقل من قبل أن نطمس وجوهكم بل قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيابهم بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ فذكرهم على سبيل المغايبة ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه
ثم قال تعالى أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قال مقاتل وغيره نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم وقال أكثر المحققين الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف ألا ترى الى قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ(10/98)
ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير وههنا سؤالات
السؤال الأول الى من يرجع الضمير في قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ
الجواب الى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع الى الذين أوتوا على طريقة الالتفات
السؤال الثاني قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا
والجواب أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه
السؤال الثالث قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مشافهة وقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ خطاب مغايبة فكيف يليق أحدهما بالآخر
الجواب منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) ومنهم من قال هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم وعندي فيه احتمال آخر وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة
ثم قال تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد وإنما قال وَكَانَ إخباراً عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة فكأنه قيل لهم أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال قوله وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً يقتضي أن أمره مفعول والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) والمراد ههنا ذاك
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً
اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك بل هو(10/99)
سبحانه قد يعفو عنها فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ويدل عليه وجهان الأول أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية وبالاجماع هي غير مغفورة فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك الثاني أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك وإلا لم يكن الأمر كذلك
فان قيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ إلى قوله وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( الحج 17 ) عطف المشرك على اليهودي وذلك يقتضي المغايرة
قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول قال الشافعي رضي الله عنه المسلم لا يقتل بالذمي وقال أبو حنيفة يقتل حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه والمشرك مباح الدم لقوله تعالى اقتلوا المشركين فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله
المسألة الثانية هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه
الوجه الأول أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه فاذا كان قوله إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل وجب أن يكون قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ هو أن يغفره على سبيل التفضل حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يعطي أحدا تفضلا ويعطي زائدا فانه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا حتى لو صرح وقال لا يعطي أحدا شيئاً على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام فثبت أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء على سبيل التفضل إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا فلا يمكن حمل الآية عليه فاذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب الثاني أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين الشرك وما سوى الشرك ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة والكبيرة بعد التوبة والصغيرة ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا لتكن في حق من يشاء فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك لكن في حق من شاء ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضاً مغفورة الثالث أنه تعالى قال لِمَن يَشَاء فعلق هذا الغفران بالمشيئة وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به(10/100)
وغير معلق على المشيئة فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء ( النساء 49 ) ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية وإلا كان كذباً والكذب على الله محال فكذا ههنا
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد ونحن نعارضها بعمومات الوعد والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) فلا فائدة في الاعادة وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات وقال ابن عباس إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر وروي مرفوعا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اتسموا بالايمان وأقربوا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه )
المسألة الثانية روي عن ابن عباس انه قال لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك ثم أنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذنبهم وانه لا يمنعهم عن الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) فقالوا قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 70 ) فقالوا هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقالوا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) فدخلوا عند ذلك في الإسلام وطعن القاضي في هذه الرواية وقال ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد ولأن قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) لو كان على اطلاقه لكان ذلك اغراء لهم بالثبات على ما هم عليه
والجواب عنه لا يبعد أن يقال انهم استعظموا قتل حمزة وايذاء الرسول إلى ذلك الحد فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا فلهذا المعنى حصلت المراجعة وقوله هذا إعراء بالقبيح فهو انه إنما يتم على مذهبه أما على قولنا انه تعالى فعال لما يريد فالسؤال ساقط والله أعلم
ثم قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً أي اختلق ذنبا غير مغفور يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه وأصله من الفرى بمعنى القطع
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً(10/101)
اعمل أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا لسنا من المشركين بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم انه قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وحكى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وحكى أيضا أنهم قالوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وبعضهم كانوا يقولون أن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا وعن ابن عباس رضي الله عنه ان قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا محمد هل على هؤلاء ذنب فقال لا فقالوا والله ما نحن إلا كهؤلاء ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الانسان نفسه وإنما العبرة بتزكية الله له وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الانسان نفسه ومنه تزكية المعدل للشاهد قال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( النجم 32 ) وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى والتقوى صفة في الباطن ولا يعلم حقيقتها إلا الله فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله فلهذا قال تعالى بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء
فان قيل أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض )
قلنا إنما قال ذلك حين قال المنافقون له اعدل في القسمة ولأن الله تعالى لما زكاه أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره
المسألة الثانية قوله بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء يدل على أن الايمان يحصل بخلق الله تعالى لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الايمان فلما ذكر تعالى انه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن ايمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى
المسألة الثالثة قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً هو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) والمعنى ان الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم أو يكون المعنى أن الذين زكاهم الله فانه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا والفتيل ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ فعيل بمعنى مفعول وعن ابن السكيت الفتيل ما كان في شق النواة والنقير النقطة التي في ظهر النواة والقطمير القشرة الرقيقة على النواة وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا
ثم قال تعالى انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فريتهم على الله وهي تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم على الله وهو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وقولهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل
المسألة الثانية مذهبنا أن الخبر عن الشيء إذا كان على خلاف المخبر عنه كان كذبا سواء علم قائله كونه كذلك أو لم يعلم وقال الجاحظ شرط كونه كذبا أن يعلم كونه بخلاف ذلك وهذه الآية دليل لنا(10/102)
لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزكاء والطهارة ثم لما أخبروا بالزكاة والطهارة كذبهم الله فيه وهذا يدل على ما قلناه
ثم قال تعالى وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً وإنما يقال كفى به في التعظيم على جهة المدح أو على جهة الذم أما في المدح فكقوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 ) وأما في الذم فكما في هذا الموضع وقوله إِثْماً مُّبِيناً منصوب على التمييز
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَاؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
اعلم أنه تعالى حكى عن اليهود نوعا آخر من المكر وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا الى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب الى محمد منكم الينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام فقال أبو سفيان أنحن أهدى سبيلا أم محمد فقال كعب ماذا يقول محمد يأمر بعبادة الله وحده وينهي عن عبادة الأصنام وترك دين آبائه وأوقع الفرقة قال وما دينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا فهذا هو المراد من قولهم لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
المسألة الثانية اختلف الناس في الجبت والطاغوت وذكروا فيه وجوه الأول قال أهل اللغة كل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت ثم زعم الأكثرون أن الجبت ليس له تصرف في اللغة وحكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الردىء وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان وهو الاسراف في المعصية فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم ثم توسعوا في هذا الاسم حتى أوقعوه على الجماد كما قال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 35 36 ) فأضاف الاضلال إلى الأصنام مع أنها جمادات الثاني قال صاحب ( الكشاف ) الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله والطاغوت الشيطان الثالث الجبت الأصنام والطاغوت تراجمة الأصنام يترجمون للناس عنها الأكاذيب فيضلونهم بها وهو منقول عن ابن عباس الرابع روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الجبت الكاهن والطاغوت الساحر الخامس قال الكلبي الجبت في هذه(10/103)
الآية حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وكانت اليهود يرجعون اليهما فسيما بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم السادس الجبت والطاغوت صنمان لقريش وهما الصنمان اللذان سجد اليهود لهما طلبا لمرضاة قريش وبالجملة فالأقاويل كثيرة وهما كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الشر والفساد
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً فبين أن عليهم اللعن من الله وهو الخذلان والابعاد وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له كما قال مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 61 ) فهذا اللعن حاضر وما في الآخرة أعظم وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وفيه وعد للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية بالضد على الضد كما قال في الآيات المتقدمة وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 )
واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يجري مجرى المكابرة فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله ومن كان دينه الاقبال بالكلية على خدمة الخالق والاعراض عن الدنيا والاقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال والله أعلم
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئاً مما آتاه الله من النعمة والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئاً من النعم فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الانسانية لها قوتان القوة العالمة والقوة العاملة فكمال القوة العالمة العلم ونقصانها الجهل وكمال القوة العاملة الأخلاق الحميدة ونقصانها الأخلاق الذميمة وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله
إذا عرفت هذا فنقول إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين الأول أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية الثاني أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل والسبب مقدم على المسبب لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد وإنما قلنا إن الجهل سبب البخل والحسد أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل وأما الحسد فلأن الالهية عبارة عن إيصال النعم والاحسان إلى العبيد فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الاله عن الالهية وذلك(10/104)
محض الجهل فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب فهذا هو الاشارة إلى نظم هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ( أم ) ههنا فيه وجوه الأول قال بعضهم الميم صلة وتقديره ألهم لأن حرف ( أم ) إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة الثاني أن ( أم ) ههنا متصلة وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين انهم أهدى سبيلا من المؤمنين عطف عليه بقوله أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فكأنه تعالى قال أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل الثالث أن ( أم ) ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها ألبتة كأنه لما تم الكلام الأول قال بل لهم نصيب من الملك وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الانكار يعني ليس لهم شيء من الملك ألبتة وهذا الوجه أصح الوجوه
المسألة الثانية ذكروا في هذا الملك وجوها الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية الثاني أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود اليهم في آخر الزمان وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فكذبهم الله في هذه الآية الثالث المراد بالملك ههنا التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك اليهم ولو كان التمليك اليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والاثبات قال أبو بكر الأصم كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته والانسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمراً مطلوبا مرغوبا فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فاذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن اليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له فلهذا قيل بالبر يستعبد الحر فاذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض فلا يحصل الانقياد ألبتة فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم ان الملك على ثلاثة أقسام ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك وملك على البواطن فقط وهذا هو ملك العلماء وملك على الظواهر والبواطن معاً وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم فاذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الاخلاق سببا لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة قال سيبويه ( إذن ) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير كقولك أظن زيدا قائما وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله كقوله زيد أظن قائم وإن شئت قلت زيداً أظن قائماً وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه تقول زيد منطلق ظننت والسبب فيما ذكرناه أن ( ظن ) وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل لأنها لا تؤثر(10/105)
في معمولاتها فاذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه ولا في محل الاهمال من كل الوجوه بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الاعمال والالغاء جائزا
واعلم أن الاعمال في حال التوسط أحسن والالغاء حال التأخر أحسن
إذا عرفت هذا فنقول كلمة ( إذن ) على هذا الترتيب أيضاً فان تقدمت نصبت الفعل تقول إذن أكرمك وإن توسطت أو تأخرت جاز الالغاء تقول أنا إذن أكرمك وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً كلمة ( إذن ) فيها متقدمة وما عملت فذكروا في العذر وجوها الأول أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير لا يؤتون الناس نقيرا إذن الثاني أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ والثالث قرأ ابن مسعود فَإِذاً لاَّ يُؤْتُواْ على إعمال ( إذن ) عملها الذي هو النصب
المسألة الخامسة قال أهل اللغة النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وأصله أنه فعيل من النقر ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة والغرض انهم يبخلون بأقل القليل
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
فيه مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة والتقدير بل يحسدون الناس
المسألة الثانية في المراد بلفظ ( الناس ) قولان الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم ومن هذا يقال فلان أمة وحده أي يقوم مقام أمة قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 )(10/106)
والقول الثاني المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين وقال من ذهب إلى هذا القول ان لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد
واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لارادة طائفة معينة من الناس لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين
فالقول الأول انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا
والقول الثاني انهم حسدوه على انه كان له من الزوجات تسع
واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة فكلما كانت فضيلة الانسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ثم انه تعالى أعطاها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وضم اليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه فلا يمكن تفسير هذا الفضل به بل ان جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته فأما على سبيل القصر عليه فبعيد
واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه
واعلم أن الْكِتَابِ إشارة إلى ظواهر الشريعة وَالْحِكْمَة ِ إشارة إلى أسرار الحقيقة وذلك هو كمال العلم وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالانسان من الكمالات ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقيل إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم كيف استكثرتهم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية
ثم قال تعالى مِنْهُمْ مّنْ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى واختلفوا في معنى ( به ) فقال بعضهم بمحمد عليه الصلاة والسلام والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والانكار وقال آخرون المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادت أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم فان أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم(10/107)
ثم قال وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سعيرا والسعير الوقود يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى بعدما ذكر الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى يدخل في الآيات كل ما يدل على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد لكن بوجوه منها أن ينكروا كونها آيات ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها ومنها أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ( البقرة 6 )
المسألة الثانية قال سيبويه ( سوف ) كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال سوف أفعل وينوب عنها حرف السين كقوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وقد ترد كلمة ( سوف ) في الوعد أيضا قال تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء وبالجملة فكلمة ( السين ) و ( سوف ) مخصوصتان بالاستقبال
المسألة الثالثة قوله نُصْلِيهِمْ أي ندخلهم النار لكن قوله نُصْلِيهِمْ فيه زيادة على ذلك فانه بمنزلة شويته بالنار يقال شاة مصلية أي مشوية
ثم قال تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول لما كان تعالى قادرا على ابقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل اليها الآلام الشديدة حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى
والجواب أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بل نقول انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع انه تعالى أدخلهم النار
السؤال الثاني الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز
والجواب عنه من وجوه الأول أن يجعل النضج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو(10/108)
الصفة فاذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة الثاني المعذب هو الانسان وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الانسان بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته فاذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجدد سببا لوصول العذاب اليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي الثالث أن المراد بالجلود السرابيل قال تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ ( إبراهيم 50 ) فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات طعن القاضي فيه فقال انه ترك للظاهر وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج وإنما توصف بالاحتراق الرابع يمكن أن يقال هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما وصل الى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذا قوله كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه الخامس قال السدي إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد لأن لحمه متناه فلا بد وأن ينفد وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم
ثم قال تعالى لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول قوله لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للمعزوز أعزك الله أي أدامك على العز وزادك فيه وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه
السؤال الثاني أنه إنما يقال فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب
والجواب المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً والمراد من العزيز القادر الغالب ومن الحكيم الذي لا يفعل إلا الصواب وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الانسان في النار الشديدة أبد الآبادا فقيل هذا ليس بعجيب من الله لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات يقدر على إزالة طبيعة النار ويقع في القلب أنه كريم رحيم فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم فقيل كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم والحكمة تقتضي ذلك فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين ههنا في غاية الحسن(10/109)
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً
اعلم أنه قد جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن الايمان غير العمل لأنه تعالى عطف العمل على الايمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه قال القاضي متى ذكر لفظ الايمان وحده دخل فيه العمل ومتى ذكر معه العمل كان الايمان هو التصديق وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا اليه هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والافراد على السوية وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا أحدها أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقال الزجاج المراد تجري من تحتها مياه الأنهار واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الاقمار وثانيها أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأبيد وثالثها قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية ورابعها قوله وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً قال الواحدي الظليل ليس ينبىء عن الفعل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول بل هو مبالغة في نعت الظل مثل قولهم ليل أليل
واعلم أن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه الصلاة السلام ( السلطان ظل الله في الأرض ) فاذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة هذا ما يميل اليه خاطري وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل وأيضاً نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس اليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات(10/110)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
اعلم انه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح اليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بين أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر علياً أن يرده إلى عثمان ويعتذر اليه فقال عثمان لعلي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن السدانة في أولاد عثمان أبدا فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن اسحق وقال أبو روق قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان أعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك مرة ثانية ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة فقال عثمان في الثالثة هاك بامانة الله ودفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس ثم قال يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك فأنزل الله هذه الآية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان ( هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم ) ثم ان عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم
المسألة الثانية اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات واعلم أن معاملة الانسان اما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد أو مع نفسه ولا بد من رعاية الامانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة
أما رعاية الامانة مع الرب فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود الامانة في كل شيء لازمة في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم وقال ابن عمر رضي الله عنهما إنه تعالى خلق فرج الانسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها واعلم أن هذا باب واسع فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها وكذا القول في جميع الأعضاء
وأما القسم الثاني وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف(10/111)
في الكيل والوزن ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونهيهم عن قولهم للكفار ان ما أنتم عليه أفضل من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره وفي اخبارها عن انقضاء عدتها
وأما القسم الثالث وهو أمانة الانسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والاصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ يدخل فيه الكل وقد عظم الله أمر الامانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا أيمان لمن لا أمانة له وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فوجب أن يكون المراد بهذه الامانة ما يجري مجرى المال لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير
المسألة الثالثة الامانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع فانه جعل اسما خالصا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الاْمَانَة َ على التوحيد
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي من الامانات الودائع ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة وعن بعض السلف أنها مضمونة روى الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أنس قال كان لانسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت فقال عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فألزمني الضمان وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضمان على راع ولا على مؤتمن ) وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه العارية مضمونة بعد الهلاك وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه غير مضمونة حجة الشافعي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وظاهر الأمر للوجوب وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها ورد ضمانها ردها بمعناها فكانت الآية دالة على وجوب التضمين ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة لكن العام بعد التخصيص حجة وأيضاً فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون وأن المودع غير مضمون والعارية وقعت في البين فنقول المشابهة بين العارية وبين المستام(10/112)
أكثر لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه بخلاف المودع فانه أخذ الوديعة لغرض المالك فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضمان على مؤتمن )
قلنا إنه مخصوص في المستام فكذا في العارية ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى
قوله تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الامانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق اليه فهذا هو الأمانة والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لانسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الانسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالامانة أولا ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق فما أحسن هذا الترتيب لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط
المسألة الثانية أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ والتقدير إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) وقال وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وقال مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) وعن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت ) وعن الحسن قال ان الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ إلى قوله وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص 26 ) وقرأ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ( المائدة 44 ) إلى قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ينادي منادي يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار ) وقال أيضا وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُواْ ( النمل 52 )
فان قيل الغرض من الظلم منفعة الدنيا
فأجاب الله عن السؤال بقوله لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ( القصص 58 )(10/113)
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والاقبال عليهما والاستماع منهما والحكم عليهما قال والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب فان كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه قال ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ولا يلقن المدعي عليه الانكار والاقرار ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يضيف الخصم الا وخصمه معه وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر وذلك هو المراد بقوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
المسألة الرابعة قوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لا بد للامة من الامام الأعظم وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الاجمال
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم شيء يعظكم به أو نعم الذي يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي اعملوا بأمر الله ووعظه فانه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع وأعظم أسباب الوعيد للعاصي وإليه الاشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ) وفيه دقيقة أخرى وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في ابصار المبصرات وسماع المسموعات ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع(10/114)
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فاذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة الطاعة موافقة الارادة وقال أصحابنا الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الارادة لنا أنه لا نزاع في أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع أن المأمور به هل يجب أن يكون مراداً أم لا فاذا دللنا على أن المأمور به قد لا يكون مراداً ثبت حيئنذ أن الطاعة ليست عبارة عن موافقة الارادة وإنما قلنا إن الله قد يأمر بما لا يريد لأن علم الله وخبره قد تعلقا بأن الايمان لا يوجد من أبي لهب ألبتة وهذا العلم وهذا الخبر يمتنع زوالهما وانقلابهما جهلا ووجود الايمان مضاد ومناف لهذا العلم ولهذا الخبر والجمع بين الضدين محال فكان صدور الايمان من أبي لهب محالا والله تعالى عالم بكل هذه الأحوال فيكون عالما بكونه محالا والعالم بكون الشيء محالا لا يكون مريداً له فثبت أنه تعالى غير مريد للايمان من أبي لهب وقد أمره بالايمان فثبت أن الأمر قد يوجد بدون الارادة وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن طاعة الله عبارة عن موافقة أمره لا عن موافقة إرادته وأما المعتزلة فقد احتجوا على أن الطاعة اسم لموافقة الارادة بقول الشاعر
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتاً لم يطع
رتب الطاعة على التمني وهو من جنس الارادة
والجواب أن العاقل عالم بأن الدليل القاطع الذي ذكرناه لا يليق معارضته بمثل هذه الحجة الركيكة
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والاجماع والقياس وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب أما الكتاب والسنة فقد وقعت الاشارة إليهما بقوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
فان قيل أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف
قلنا قال القاضي الفائدة في ذلك بيان الدلالتين فالكتاب يدل على أمر الله ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة والسنة تدل على أمر الرسول ثم نعلم منه أمر الله لا محالة فثبت بما ذكرنا أن قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة(10/115)
المسألة الثالثة اعلم أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وانه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ثم نقول ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة لا جائز أن يكون بعض الأمة لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم عاجزون عن الوصول اليهم عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم واذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله وَأُوْلِى الاْمْرِ أهل الحل والعقد من الأمة وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة
فان قيل المفسرون ذكروا في أُوْلِى الاْمْرِ وجوها أخرى سوى ما ذكرتم أحدها أن المراد من أولى الأمر الخلفاء الراشدون والثاني المراد أمراء السرايا قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في عبدالله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميراً على سرية وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر فجرى بينهما اختلاف في شيء فنزلت هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر وثالثها المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك باجماع الأمة باطلا
السؤال الثاني أن نقول حمل أولى الأمر على الأمراء والسلاطين أولي مما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أن الامراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولو الأمر أما أهل الاجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى والثاني أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الاجماع الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء فقال ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ) فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه
والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ على(10/116)
العلماء فاذا قلنا المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة بل كان هذا اختياراً لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة والذي ذكرناه برهان قاطع فكان قولنا أولى على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها فأحدها أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول أما إذا حملناه على الاجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها لأنه ربما دل الاجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين فهذو أولى وثانيها أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق فاذا حملناه على الاجماع لا يدخل الشرط في الآية فكان هذا أولى وثالثها أن قوله من بعد فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مشعر باجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع ورابعها أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا وعندنا أن طاعة أهل الاجماع واجبة قطعا وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فكان حمل الآية على الاجماع أولى لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق وخامسها أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه أحدها ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول اليهم فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا وظاهر قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الاطلاق وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر الثاني أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر وأولو الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر وثالثها أنه قال فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الامام فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه
المسألة الرابعة اعلم أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل عندنا على أن القياس حجة والذي يدل على ذلك أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء إما أن يكون المراد فان اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الاجماع أو المراد فان اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك(10/117)
داخلا تحت قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وحينئذ يصير قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو أن المراد فان تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والاجماع واذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له وأيضاً فلم لا يجوز ان يكون المراد فردوا غير المنصوص إلى المنصوص في أنه لا يحكم فيه إلا بالنص وأيضا لم يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية
قلنا أما الأول فمدفوع وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين منها ما يكون حكمها منصوصا عليه ومنها ما لا يكون كذلك ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد وأمر في القسم الثاني بالرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات واذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة وبهذا الجواب يظهر فساد السؤال الثالث
وأما السؤال الثاني فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل فلا يكون رد الواقعة اليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى
المسألة الخامسة هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جليا أو خفيا سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعة الكتاب والسنة سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجبة ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى أحدها أن كلمة ( ان ) على قول كثير من الناس للاشتراط وعلى هذا المذهب كان قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صريح في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول الثاني انه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله ( فان لم تجد ) الرابع انه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم حيث قال وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( البقرة 34 ) ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وانه غير جائز الخامس أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات والمقطوع(10/118)
راجح على المظنون السادس قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم انا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم السابع قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الجمرات 1 ) فاذا كان عموم القرآن حاضر ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله الثامن قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ ( الأنعام 148 ) إلى قوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلَى الظَّنّ ( النجم 23 28 ) جعل اتباع الظن من صفات الكفار ومن الموجبات القوية في مذمتهم فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل التاسع انه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا ذروه ) ولا شك ان الحديث أقوى من القياس فاذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردوداً فالقياس أولى به العاشر ان القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والقياس يفرق عقل الانسان الضعيف وكل من له عقل سليم علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى
المسألة السادسة هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة أعني الكتاب والسنة والاجماع والقياس مردود باطل وذلك لأنه تعالى جعل الوقائع قسمين أحدهما ما تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالطاعة وهو قوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ والثاني ما لا تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالاجتهاد وهو قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فاذا كان لا مزيد على هذين القسمين وقد أمر الله تعالى في كل واحد منهما بتكليف خاص معين دل ذلك على أنه ليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول الأربعة وإذا ثبت هذا فنقول القول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك رحمه الله إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه وإن كان مغايراً لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعاً لدلالة هذه الآية على بطلانه كما ذكرنا
المسألة السابعة زعم كثير من الفقهاء أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على أن ظاهر الأمر للوجوب واعترض المتكلمون عليه فقالوا قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ فهذا لا يدل على الايجاب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب وهذا يقتضي افتقار الدليل إلى المدلول وهو باطل وللفقهاء أن يجيبوا عنه من وجهين الأول أن الأوامر الواردة في الوقائع المخصوصة دالة على الندبية فقوله أَطِيعُواْ لو كان معناه أن الاتيان بالمأمورات مندوب فحينئذ لا يبقى لهذه الآية فائدة لأن مجرد الندبية كان معلوما من تلك الأوامر فوجب حملها على إفادة الوجوب حتى يقال ان الأوامر دلت على أن فعل تلك المأمورات أولى من تركها وهذه الآية دلت على المنع من تركها فحينئذ يبقى لهذه الآية فائدة والثاني أنه تعالى ختم الآية بقوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وهو وعيد فكما أن احتمال اختصاصه بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم فكذلك احتمال عوده إلى الجملتين أعني قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم ولا شك أن الاحتياط فيه وإذا حكمنا بعود ذلك الوعيد إلى الكل صار قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ موجبا للوجوب فثبت أن هذه الآية دالة(10/119)
على أن ظاهر الامر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع
المسألة الثامنة اعلم أن المنقول عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اما القول واما الفعل أما القول فيجب إطاعته لقوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وأما الفعل فيجب على الأمة الاقتداء به إلا ما خصه الدليل وذلك لأنا بينا ان قوله أَطِيعُواْ يدل على أن أوامر الله للوجوب ثم انه تعالى قال في آية أخرى في صفة محمد عليه الصلاة والسلام فَاتَّبَعُوهُ وهذا أمر فوجب أن يكون للوجوب فثبت أن متابعته واجبة والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله فثبت ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يوجب الاقتداء بالرسول في كل أفعاله وقوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يوجب الاقتداء به في جميع أقواله ولا شك أنهما أصلان معتبران في الشريعة
المسألة التاسعة اعلم أن ظاهر الأمر وان كان في أصل الوضع لا يفيد التكرار ولا الفور إلا أنه في عرف الشرع يدل عليه ويدل عليه وجوه الأول ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يصح منه استثناء أي وقت كان وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل فوجب أن يكون قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ متناولا لكل الأوقات وذلك يقتضي التكرار والتكرار يقتضي الفور الثاني انه لو لم يفد ذلك لصارت الآية مجملة لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة أما لو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وحمل كلام الله على الوجه الذي يكون مبينا أولى من حمله على الوجه الذي به يصير مجملا مجهولا أقصى ما في الباب أنه يدخله التخصيص والتخصيص خير من الاجمال الثالث ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ أضاف لفظ الطاعة إلى لفظ الله فهذا يقتضي أن وجوب الطاعة علينا له إنما كان لكوننا عبيدا له ولكونه إلها فثبت من هذا الوجه ان المنشأ لوجوب الطاعة هو العبودية والربوبية وذلك يقتضي دوام وجوب الطاعة على جميع المكلفين إلى قيام القيامة وهذا أصل معتبر في الشرع
المسألة العاشرة انه قال أَطِيعُواْ اللَّهَ فأفرده في الذكر ثم قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم من الله سبحانه لهذا الأدب وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ذلك بدليل انه قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم لهذا الأدب ولذلك روي أن واحدا ذكر عند الرسول عليه الصلاة والسلام وقال من أطاع الله والرسول فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام ( بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله ) أو لفظ هذا معناه وتحقيق القول فيه أن الجمع بين الذكرين في اللفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة وهو سبحانه متعال عن ذلك
المسألة الحادية عشرة قد دللنا على أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل على أن الاجماع حجة فنقول كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالاجماع ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول مذهبنا أن الاجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه نقول الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء(10/120)
لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث فدل على ما ذكرناه فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الاجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر
الفرع الثاني اختلفوا في أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف هل هو حجة والأصح أنه حجة والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنا بينا أن قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف وما لم يكن كذلك فوجب أن يكون الكل حجة
الفرع الثالث اختلفوا في أن انقراض أهل العصر هل هو شرط والأصح أنه ليس بشرط والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنها تدل على وجوب طاعة المجمعين وذلك يدخل فيه ما إذا انقرض العصر وما إذا لم ينقرض
الفرع الرابع دلت الآية على أن العبرة باجماع المؤمنين لأنه تعالى قال في أول الآية ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم قال وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فدل هذا على أن العبرة باجماع المؤمنين فأما سائر الفرق الذين يشك في إيمانهم فلا عبرة بهم
المسألة الثانية عشرة ذكرنا أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على صحة العمل بالقياس فنقول كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول قد ذكرنا أن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي وحينئذ يتعذر الرد فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر أما الخبر فانهم لما سألوه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو تمضمضت ) يعني المضمضة مقدمة الأكل كما أن القبلة مقدمة الجماع فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم فكذا القبلة ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزى فقالت نعم قال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق بالقضاء ) وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله فَرُدُّوهُ أمر برد الشيء إلى شبيهة واذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله فَرُدُّوهُ هو أنه ردوه إلى شبيهه علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة وهذا بحث فيه طول ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات فأما(10/121)
الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب
الفرع الثاني دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ مشعر بهذا الاشتراط
الفرع الثالث دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والاجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان وبطل به قول من قال لا يجوز استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء عام في كل واقعة لا نص فيها
الفرع الرابع دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله
الفرع الخامس دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وفي قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وكذلك في خبر معاذ
الفرع السادس دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بايماء في كتاب الله والآخر تأيد بايماء خبر من أخبار رسول الله فان الأول مقدم على الثاني يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين ولعل الانسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية
المسألة الثالثة عشرة قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ معناه ذوو الأمر وأولو جمع وواحده ذو على غير القياس كالنساء والابل والخيل كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ
المسألة الرابعة عشرة قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ قال الزجاج اختلفتم وقال كل فريق القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده
ثم قال تعالى إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الوعيد يحتمل أن يكون عائدا إلى قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وإلى قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمنا وهذا يقتضي أن يخرج المذنب عن الايمان لكنه محمول على التهديد
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أي ذلك الذي أمرتكم به في هذه الآية خير لكم وأحسن عاقبة لكم لأن التأويل عبارة عما اليه مآل الشيء ومرجعه وعاقبته(10/122)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
اعلم أنه تعالى لما أوجب في الآية الاولى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه وانما يريدون حكم غيره وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الزعم والزعم لغتان ولا يستعملان في الاكثر الا في القول الذي لا يتحقق قال الليث أهل العربية يقولون زعم فلان إذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق فكذلك تفسير قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي بقولهم الكذب قال الاصمعي الزعوم من الغنم التي لا يعرفون أبها شحم أم لا وقال ابن الاعربي الزعم يستعمل في الحق وأنشد لأمية بن الصلت
واني أدين لكم أنه سينجزكم ربكم ما زعم
اذا عرفت هذا فنقول الذي في هذه الآية المراد به الكذب لأن الآية نزلت في المنافقين
المسألة الثانية ذكروا في أسباب النزول وجوها الأول قال كثير من المفسرين نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهودي بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك كعب بن الاشرف والسبب في ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقضي بالحق ولا يلتفت الى الرشوة وكعب بن الاشرف كان يديد الرغبة في الرشوة واليهودي كان محقا والمنافق كان مبطلا فلهذا المعنى كان اليهودي يريد التحاكم الى الرسول والمنافق كان يريد كعب بن الاشرف ثم أصر اليهودي على قوله فذهبا اليه ( صلى الله عليه وسلم ) فحكم الرسول عليه الصلاة والسلام لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى انطلق بنا الى أبي بكر فحكم أبو بكر رضي الله عنه لليهودي فلم يرض المنافق وقال المنافق بيني وبينك عمر فصارا الى عمر فأخبره اليهودي أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما فقال للمنافق أهكذا فقال نعم قال اصبرا إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج اليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج اليهما فضرب به المنافق حتى برد وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأل عمر عن قصته فقال عمر إنه رد حكمك يا رسول الله فجاء جبريل عليه السلام في الحال وقال انه الفاروق فرق بين الحق والباطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر ( أنت الفاروق ) وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف(10/123)
الرواية الثانية في سبب نزول هذه الآية أنه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضريا قتل به وأخذ منه دية مائة وسق من تمر وإذا قتل نضري قرظيا لم يقتل به لكن أعطي ديته ستين وسقا من التمر وكان بنو النضير أشرف وهم حلفاء الأوس وقريظة حلفاء الخزرج فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة قتل نضري قرظيا فاختصما فيه فقالت بنو النضير لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه من قبل وقالت الخزرج هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا فأبي بنو النضير ذلك فقال المنافقون انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون بل الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام الكاهن إلى الإسلام فأسلم هذا قول السدي وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن
الرواية الثالثة قال الحسن ان رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون اليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل
الرواية الرابعة كانوا يتحاكمون إلى الأوثان وكان طريقهم أنهم يضربون القداح بحضرة الوثن فما خرج على القداح عملوا به وعلى هذا القول فالطاغوت هو الوثن
واعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين ثم قال أبو مسلم ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب مثل أنه كان يهوديا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق لأن قوله تعالى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق
المسألة الثالثة مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القاضي ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ويدل عليه وجوه الأول انه تعالى قال يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله كما أن الكفر بالطغوت إيمان بالله الثاني قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( النساء 65 ) وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( النور 63 ) وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة اليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة ان قوله تعالى وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً يدل على أن كفر الكافر ليس بخلق الله ولا بارادته وبيانه من وجوه الأول أنه لو خلق الله الكفر في الكافر وأراده منه فأي تأثير للشيطان فيه وإذا لم يكن له فيه تأثير فلم ذمه عليه الثاني انه تعالى ذم الشيطان بسبب انه يريد(10/124)
هذه الضلالة فلو كان تعالى مريداً لها لكان هو بالذم أولى من حيث ان كل من عاب شيئا ثم فعله كان بالذم أولى قال تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 3 ) الثالث ان قوله تعالى في أول الآية صريح في إظهار التعجب من أنهم كيف تحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفروا به ولو كان ذلك التحاكم بخلق الله لما بقي التعجب فانه يقال إنما فعلوا لاجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى فان من فعل ذلك فيهم ثم أخذ يتعجب منهم انهم كيف فعلوا ذلك كان التعجب من هذا التعجب أولى
واعلم أن حاصل هذا الاستدلال يرجع إلى التمسك بطريقة المدح أو الذم وقد عرفت منا انا لا نقدح في هذه الطريقة إلا بالمعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى بين في الآية الأولى رغبة المنافقين في التحاكم إلى الطاغوت وبين بهذه الآية نفرتهم عن التحاكم إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال المفسرون إنما صد المنافقون عن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا ظالمين وعلموا أنه لا يأخذ الرشا وانه لا يحكم إلا بمر الحكم وقيل كان ذلك الصد لعداوتهم في الدين
المسألة الثانية يصدون عنك صدودا أي يعرضون عنك وذكر المصدر للتأكيد والمبالغة كأنه قيل صدودا أي صدود
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين الأول أن قوله فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ كلام وقع في البين وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا واذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الاحسان والتوفيق وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي وهذا يسمى اعتراضا وهو كقول الشاعر(10/125)
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله وبلغتها كلام أجنبي وقع في البين إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت فان قوله بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في القول معه والآية أيضا كذلك لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم فان الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي فكيف حال تكل الشدة وحال تلك المصيبة فهذا تقرير هذا القول وهو قول الحسن البصري واختيار الواحدي من المتأخرين
الوجه الثاني أنه كلام متصل بما قبله وتقريره انه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه فلما ذكر ذلك قال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك شاؤا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب انا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة والغرض من هذا الكلام بيان ان ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له سواء غابوا أم حضروا وسواء بعدوا أم قربوا ثم انه تعالى أكد هذا المعنى بقوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني انه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه انه كيف يعاملهم فقال فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار ومن طالع كتب التفسير علم ان المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في تفسير قوله أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ وجوها الأول أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام فهم جاؤا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا انهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة وهذا اختيار الزجاج الثاني قال أبو علي الجبائي المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات وانه يخصهم بمزيد الاذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وقوله قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم فكانت معدودة في مصائبهم وانما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم وعني بقوله ثُمَّ أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار الا الصلاح وكانوا في ذلك كاذبين لانهم أضمروا خلاف ما أظهروه ولم يريدوا بذلك(10/126)
الاحسان الذي هو الصلاح الثالث قال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول بشر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه والى أن يظهروا له الايمان به والى أن يحلفوا بأن مرادهم الاحسان والتوفيق قال ومن عادة العرب عند التبشير والانذار أن يقولوا كيف أنت إذا كان كذا وكذا ومثاله قوله تعالى عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ( النساء 41 ) وقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم
المسألة الثالثة في تفسير الاحسان والتوفيق وجوه الأول معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الا الاحسان الى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا وانما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم ولما قدروا على التمرد من حكمه فاذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا الى الخصوم الثاني أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن الى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول الثالث أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم الى غيرك يا رسول الله الا أنك لا تحكم الا بالحق المر وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالاحسان الى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أنه لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة الا الله
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً واعلم أنه تعالى أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعاملهم بثلاثة أشياء الأول قوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا يفيد أمرين أحدهما أن لا يقبل منهم ذلك العذر ولا يغتر به فان من لا يقبل عذر غيره ويستمر على سخطه قد يوصف بأنه معرض عنه غير ملتفت إليه والثاني أن هذا يجري مجرى أن يقول له اكتف بالاعراض عنهم ولا تهتك سترهم ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم فان من هتك ستر عدوه وأظهر له كونه عالما بما في قلبه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي باظهار العداوة فيزداد الشر ولكن إذا تركه على حاله بقي في خوف ووجل فيقل الشر
النوع الثاني قوله تعالى وَعِظْهُمْ والمراد أنه يزجرهم عن النفاق والمكر والكيد والحسد والكذب ويخوفهم بعقاب الآخرة كما قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 )
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله فِى أَنفُسِهِمْ وجوه الأول أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وقل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعاراً الثاني أن يكون التقدير وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا وإن الله يعلم ما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه فطهروا قلوبكم من النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شراً من ذلك وأغلظ الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم على سبيل السر لأن(10/127)
النصحية على الملأ تقريع وفي السر محض المنفعة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما أن المراد بالوعظ التخويف بعقاب الآخرة والمراد بالقول البليغ التخويف بعقاب الدنيا وهو أن يقول لهم إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الايمان فان واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر للكل بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف الثاني أن القول البليغ صفة للوعظ فأمر تعالى بالوعظ ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ وهو أن يكون كلاما بليغا طويلا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والاحذار والانذار والثواب والعقاب فان الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب وإذا كان مختصرا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر ألبتة في القلب
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) واعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الرسول في قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ثم حكى ان بعضهم تحاكم الى الطاغوت ولم يتحاكم الى الرسول وبين قبح طريقه وفساد منهجه رغب في هذه الآية مرة أخرى في طاعة الرسول فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كلمة ( من ) ههنا صلة زائدة والتقدير وما أرسلنا رسولا ويمكن أن يكون التقدير وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا الا كذا وكذا وعلى هذا التقدير تكون المبالغة أتم
المسألة الثانية قال أبو علي الجبائي معنى الآية وما أرسلت من رسول إلا وأنا مريد أن يطاع ويصدق ولم أرسله ليعصى قال وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لانهم يقولون انه تعالى أرسل رسلا لتعصى والعاصي من المعلوم أنه يبقى على الكفر وقد نص الله على كذبهم في هذه الآية فلو لم يكن في القرآن ما يدل على بطلان قولهم إلا هذه الآية لكفى وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرسل ليطاعوا وليعصوا جميعا فدل ذلك على أن معصيتهم للرسل غير مرادة لله وأنه تعالى ما أراد ألا أن يطاع
واعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وبيانه من وجوه الأول ان قوله إلاَّ لِيُطَاعَ يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد في وقت واحد وليس من شرط تحقق مفهومه أن يطيعه جميع الناس في جميع الاوقات وعلى هذا التقدير فنحن نقول بموجبه وهو أن كل من أرسله الله تعالى فقد أطاعه بعض الناس في بعض الاوقات اللهم الا أن يقال تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه الا أن الجبائي لا يقول بذلك فسقط هذا الاشكال على جميع التقديرات الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد به ان كل كافر فانه لا بد وأن يقربه عند موته كما قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) أو يحمل ذلك على ايمان الكل به يوم القيامة ومن المعلوم أن الوصف في جانب الثبوت(10/128)
يكفي في حصول مسماه ثبوته في بعض الصور وفي بعض الأحوال الثالث أن العلم بعدم الطاعة مع وجود الطاعة متضادان والضدان لا يجتمعان وذلك العلم ممتنع العدم فكانت الطاعة ممتنعة الوجود والله عالم بجميع المعلومات فكان عالما بكون الطاعة ممتنعة الوجود والعالم بكون الشيء ممتنع الوجود لا يكون مريداً له فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعاً فوجب تأويل هذه اللفظة وهو أن يكون المراد من الكلام ليس الارادة بل الأمر والتقدير وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته وعلى هذا التقدير سقط الاشكال
المسألة الثالثة قال أصحابنا الآية دالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والايمان والطاعة والعصيان إلا بارادة الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ولا يمكن أن يكون المراد من هذا الاذن الأمر والتكليف لأنه لا معنى لكونه رسولا الا أن الله أمر بطاعته فلو كان المراد من الاذن هو هذا لصار تقدير الآية وما أذنا في طاعة من أرسلناه الا باذننا وهو تكرار قبيح فوجب حمل الاذن على التوفيق والاعانة وعلى هذا الوجه فيصير تقدير الآية وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بتوفيقنا وإعانتنا وهذا تصريح بأنه سبحانه ما أراد من الكل طاعة الرسول بل لا يريد ذلك الا من الذي وفقه الله لذلك وأعانه عليه وهم المؤمنون وأما المحرومون من التوفيق والاعانة فالله تعالى ما أراد ذلك منهم فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا
المسألة الرابعة الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها اذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من كان قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا بل كان المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع
المسألة الخامسة الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقا فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا فيلزم توارد الايجاب والتحريم على الشيء الواحد وإنه محال
فان قيل ألستم في الاعتراض على كلام الجبائي ذكرتم أن قوله إلاَّ لِيُطَاعَ لا يفيد العموم فكيف تمسكتم به في هذه المسألة مع أن هذا الاستدلال لا يتم إلا مع القول بأنها تفيد العموم
قلنا ظاهر اللفظ يوهم العموم وإنما تركنا العموم في تلك المسألة للدليل العقلي القاطع الذي ذكرناه على أنه يستحيل منه تعالى أن يريد الايمان من الكافر فلأجل ذلك المعارض القاطع صرفنا الظاهر عن العموم وليس في هذه المسألة برهان قاطع عقلي يوجب القدح في عصمة الأنبياء فظهر الفرق
قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
وفيه مسائل(10/129)
المسألة الأولى في سبب النزول وجهان الأول المراد به من تقدم ذكره من المنافقين يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاؤا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفرها لهم عند توبتهم لوجدوا الله توابا رحيما الثاني قال أبو بكر الأصم إن قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم دخلوا عليه لأجل ذلك الغرض فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إن قوما دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه فليقوموا وليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا فقال ألا تقومون فلم يفعلوا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قم يا فلان قم يا فلان حتى عد أثنى عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا كنا عزمنا على ما قلت ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا فقال الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب الى الاجابة اخرجوا عني
المسألة الثانية لقائل أن يقول أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإدخالا للغم في قلبه ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم الثاني أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمر فاذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويطلبوا منه الاستغفار الثالث لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل فاذا انضم اليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول والله أعلم
المسألة الثالثة إنما قال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا للرسول عليه الصلاة والسلام وأنهم إذا جاؤه فقد جاؤا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فان الله لا يرد شفاعته فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة ما ذكرناه
المسألة الرابعة الآية دالة على الجزم بأن الله تعالى يقبل توبة التائب لأنه تعالى لما ذكر عنهم الاستغفار قال بعده لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً وهذا الجواب إنما ينطلق على ذلك الكلام إذا كان المراد من قوله تَوَّاباً رَّحِيماً هو أن يقبل توبتهم ويرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
فيه مسائل(10/130)
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي ان هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها وهذا القول هو المختار عندي والثاني انها مستأنفة نازلة في قصة أخرى وهو ما روي عن عروة بن الزبير أن رجلا من الانصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ) فقال الانصاري لأجل أنه ابن عمتك فتلون وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال للزبير ( اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر )
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمر به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من المسامحة لاجله أمره النبي عليه الصلاة والسلام باستيفاء حقه على سبيل التمام وحمل خصمه على مر الحق
المسألة الثانية ( لا ) في قوله ( فلا وربك ) فيه قولان الأول معناه فوربك كقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و ( لا ) مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لّئَلاَّ يَعْلَمَ لتأكيد وجوب العلم و لاَ يُؤْمِنُونَ جواب القسم والثاني انها مفيدة وعلى هذا التقدير ذكر الواحدي فيه وجهين الأول انه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون انهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله فَوَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ والثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن
المسألة الثالثة يقال شجر يشجر شجورا وشجرا إذا اختلف واختلط وشاجره إذا نازعه وذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض عند المنازعة ومنه يقال لخشبات الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ عندي من التفاف الشجر فان الشجر يتداخل بعض أغصانه في بعض وأما الحرج فهو الضيق قال الواحدي يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل اليه حرج وجمعه حراج وأما التسليم فهو تفعيل يقال سلم فلان أي عوفي ولم ينشب به نائبة وسلم هذا الشيء لفلان أي خلص له من غير منازع فاذا ثقلته بالتشديد فقلت سلم له فمعناه أنه سلمه له وخلصه له هذا هو الأصل في اللغة وجميع استعمالات التسليم راجع إلى الأصل فقولهم سلم عليه أي دعا له بأن يسلم وسلم اليه الوديعة أي دفعها اليه بلا منازعة وسلم اليه أي رضي بحكمه وسلم إلى فلان في كذا أي ترك منازعته فيه وسلم إلى الله أمره أي فوض اليه حكم نفسه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرا ولا شركة وعلم أن المؤثر الصانع هو الله تعالى وحده لا شريك له
المسألة الرابعة اعلم أن قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الايمان إلا عند حصول شرائط أولها قوله تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا
واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل الى معرفة الله تعالى إلا بارشاد النبي المعصوم قال(10/131)
لأن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ تصريح بأنه لا يحصل لهم الايمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى فمن معطل ومن مشبه ومن قدري ومن جبري فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الايمان إلا بحكمه وارشاده وهدايته وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بادراك هذه الحقائق وعقل النبي المعصوم كامل مشرق فاذا اتصل اشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال ومن الضعف إلى القوة فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الالهية والذي يؤكذ ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا جازمين متيقنين كاملي الايمان والمعرفة والذين بعدوا عنه اضطربوا او اختلفوا وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين فثبت ان الأمر كما ذكرنا والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني فيقال له فهذا الاستقلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك فاذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الاله فلو توقفت معرفة الاله على معرفة النبوة لزم الدور وهو محال
الشرط الثاني قوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ قال الزجاج لا تضيق صدورهم من أفضيتك
واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية انه لا بد من حصول الرضا به في القلب واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق
الشرط الثالث قوله تعالى وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فبين تعالى أنه كما لا بد في الايمان من حصول ذلك اليقين في القلب فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر فقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ المراد به الانقياد في الباطن وقوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الخطأ في الفتوى وفي الأحكام لأنه تعالى أوجب الانقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الايجاب وبين انه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم فهذا يدل على أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأن فتواه في أسارى بدر وأن قوله لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وأن قوله عَبَسَ وَتَوَلَّى ( عبس 1 ) كل ذلك محمول على الوجوه التي لخصناها في هذا الكتاب
المسألة السادسة من الفقهاء من تمسك بقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ على أن ظاهر الأمر للوجوب وهو ضعيف لأن القضاء هو الالزام ولا نزاع في أنه للوجوب
المسألة السابعة ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه يدل على أنه يجب(10/132)
متابعة قوله وحكمه على الاطلاق وانه لا يجوز العدول عنه إلى غيره ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس وقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي الى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت الى ذلك الحرج ويسلم النص تسليما كليا وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف
المسألة الثامنة قالت المعتزلة لو كانت الطاعات والمعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض وذلك لأن الرسول إذا قضى على إنسان بأنه ليس له أن يفعل الفعل الفلاني وجب على جميع المكلفين الرضا بذلك لأنه قضاء الرسول والرضا بقضاء الرسول واجب لدلالة هذه الآية ثم لو أن ذلك الرجل فعل ذلك الفعل على خلاف فتوى الرسول فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكان ذلك الفعل بقضاء الله والرضا بقضاء الله واجب فيلزم أن يجب على المكلفين الرضا بذلك الفعل لأنه قضاء الله فوجب أن يلزمهم الرضا بالفعل والترك معا وذلك محال
والجواب أن المراد من قضاء الرسول الفتوى المشروعة والمراد من قضاء الله التكوين والايجاد وهما مفهومان متغايران فالجمع بينهما لا يفضي إلى التناقض
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاّتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ بضم النون في ( أن ) وضم واو ( أو ) والسبب فيه نقل ضمة اقْتُلُواْ وضمة أَخْرِجُواْ اليهما وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو وقال الزجاج ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية وقال غيره أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير واتفق الجمهور(10/133)
على الضم في واو الضمير نحو اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ ( البقرة 237 )
المسألة الثانية الكناية في قوله مَّا فَعَلُوهُ عائدة إلى القتل والخروج معا وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه واختلف القراء في قوله إِلاَّ قَلِيلٌ فقرأ ابن عامر قَلِيلاً بالنصب وكذا هو في مصاحب أهل الشام ومصحف أنس بن مالك والباقون بالرفع أما من نصب فقاس النفي على الاثبات فإن قولك ما جاءني أحد كلام تام كما أن قولك جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوباً في الإثبات فكذا مع النفي والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في فَعَلُوهُ وكذلك كل مستثنى من منفي كقولك ما أتاني أحد إلا زيد برفع زيد على البدل من أحد فيحمل إعراب ما بعد ( إلا ) على ما قبلها وكذلك في النصب والجر كقولك ما رأيت أحداً الا زيداً وما مررت بأحد إلا زيد قال أبو علي الفارسي الرفع أقيس فان معنى ما أتى أحد إلا زيد وما أتاني الا زيد واحد فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته
المسألة الثالثة الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس ومجاهد انه عائد إلى المنافقين وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم فقال تعالى ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم فاذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال الثاني أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق وأما الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ فهو مختص بالمنافقين ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا فقال اليهودي ان موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك فنزلت هذه الآية وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك
المسألة الرابعة قال أبو علي الجبائي لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى فيقال له هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم ومع ذلك فانه تعالى كلفهم فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً(10/134)
اعلم أن المراد من قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والثواب والعقاب وما كان كذلك فانه يسمى وعظا ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع
فالنوع الأول قوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره لأن قولنا ( خير ) يستعمل على الوجهين جميعا
النوع الثاني قوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وفيه وجوه الأول أن المراد أن هذا أقرب الى ثباتهم عليه واستمرارهم لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه الثاني أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق والباطل زائل الثالث أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير فاذا حصله فانه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا فقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى الحالة الأولى وقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً إشارة إلى الحالة الثانية
النوع الثالث قوله تعالى وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم قال صاحب ( الكشاف ) و ( إذاً ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت فقيل هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيما كقوله وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ( النساء 4 )
وأقول إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر أحدها أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله ءاتَيْنَاهُ وقوله مّن لَّدُنَّا والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية وثانيها قوله مّن لَّدُنَّا وهذا التخصيص يدل على المبالغة كما في قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) وثالثها أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة وكيف لا يكون عظيما وقد قال عليه الصلاة والسلام ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )
النوع الرابع قوله وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وفيه قولان أحدهما أن الصراط المستقيم هو الدين الحق ونظيره قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( الشورى 52 53 ) والثاني انه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر والدين الحق مقدم على الثواب والأجر والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج اليه بعد استحقاق الأجر فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى(10/135)
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) ثم رغب في تلك الطاعة بقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 66 67 68 ) أكد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن حاله فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت اليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأنى إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية الثاني قال السدي ان ناسا من الانصار قالوا يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق اليك فكيف نصنع فنزلت الآية الثالث قال مقاتل نزلت في رجل من الانصار قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا اليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع اليك ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك ان دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية فلما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى الانصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه فعمى مكانه فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة الرابع قال الحسن ان المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام مالنا منك إلا الدنيا فاذا كانت الآخرة رفعت فى الأولى فحزن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحزنوا فنزلت هذه الآية قال المحققون لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها فانك تعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة(10/136)
قال القاضي لا بد من حمل هذا على غير ظاهره وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ أي ومن يطع الله في كونه إلها وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والاقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد فالأول هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر وصفاؤها أقوى وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الاجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل والثاني انه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات لأن هذا ممتنع فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد فاذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة فكذا القول في تلك الأرواح فانها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه
المسألة الثالثة ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول وإنه لا يجوز بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه فهذا هو المراد من هذه المعية
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر النبيين ثم ذكر أوصافا ثلاثة الصديقين والشهداء والصالحين واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها قال بعضهم هذه الصفات كلها لموصوف واحد وهي صفات متداخلة فانه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقاً وشهيداً وصالحا وقال الآخرون بل المراد بكل وصف صنف من الناس وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث
الصفة الأولى الصديق وهو اسم لمن عادته الصدق ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل كما يقال سكير وشريب وخمير والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين(10/137)
وكفى الصدق فضيلة أن الايمان ليس إلا التصديق وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في الصديق وجوه الأول أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ( الحديد 19 ) الثاني قال قوم الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الثالث أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان انه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فانه لم يتلعثم ) دل هذا الحديث على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما عرض الإسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف فلو قدرنا أن اسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر بل يكون قدحا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف ألبتة فحصل من مجموع الأمرين ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت لأن عليا كان في ذلك الوقت صبياً صغيراً وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام وكان شديد القرب منه بالقرابة وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام وذلك لأنهم اتفقوا على انه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعذ ذلك بمدة قليلة بعثمان بن عفان رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الإسلام فثبت أن أحق الامة بهذه الصفة أبو بكر رضي الله عنه إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي ذكرناه يقتضي انه كان أفضل الخلق بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه الصلاة والسلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) الثاني أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الإسلام لأكابر الصحابة مثل عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم وجاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ولكن جهاد أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة وجهاد على أفضى إلى قتل الكفار ولا شك أن الأول أفضل وأيضاً فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الضعف وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب وكان الإسلام قويا في هذه الأيام ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ولهذا المعنى قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن نصرة الإسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثواباً من نصرته وقت ما كان قويا فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فانه ينكره ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه(10/138)
لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الانسان صديقا وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه فانه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة فقال في وصف إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وفي صفة إدريس إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً ( مريم 56 ) وقال في هذه الآية مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ يعني انك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ولا متوسط بينهما وقال في آية أخرى وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( الزمر 33 ) فلم يجعل بينهما واسطة وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الامام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر على سبيل الاجماع ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها
الصفة الثانية الشهادة والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الانسان مقتول الكافر والذي يدل عليه وجوه الأول أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين وكون الانسان مقتول الكافر ليس فيه زيارة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله الثاني أن المؤمنين قد يقولون اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وانه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر الثالث روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال المبطون شهيد والغريق شهيد فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل بل نقول الشهيد فعيل بمعنى الفاعل وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل واذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 )
الصفة الثالثة الصالحون والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله فان الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل واذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح ثم ان الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا وليس كل من كان صالحا شهيدا فالشهيد أشرف أنواع الصالح ثم ان الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا وليس كل من كان شهيدا كان صديقا فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام وبعدهم الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله والأنبياء يأخذون(10/139)
عن الملائكة كما قال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) والصديقون يأخذونه عن الأنبياء والشهداء يأخذونه عن الصديقين لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن الأنبياء وصار قدوة لمن بعده والصالحون يأخذونه عن الشهداء فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات
ثم قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنى التعجيب كأنه قيل ما أحسن أولئك رفيقاً
المسألة الثانية الرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيق هذا معناه في اللغة ثم الصاحب يسمي رفيقا لارتفاق بعضهم ببعض
المسألة الثالثة قال الواحدي إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والرسول والبريد تذهب به العرب إلى الواحد والى الجمع قال تعالى فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) ولا يجوز أن يقال حسن أولئك رجلا وبالجملة فهذا إنما يجوز في الاسم الذي يكون صفة أما إذا كان اسما مصرحا مثل رجل وامرأة لم يجز وجوز الزجاج ذلك في الاسم أيضا وزعم أنه مذهب سيبويه وقيل معنى قوله وَحَسُنَ أُولَئِكَ أي حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 )
المسألة الرابعة رَفِيقاً نصب على التمييز وقيل على الحال أي حسن واحد منهم رفيقا
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بين فيمن أطاع الله ورسوله أنه يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم لم يكترث بذلك بل ذكر أنه يكون رفيقا له وقد ذكرنا أن الرفيق هو الذي يرتفق به في الحضر والسفر فبين أن هؤلاء المطيعين يرتفقون بهم وإنما يرتفقون بهم إذا نالوا منهم رفقا وخيرا ولقد ذكرنا مراراً كيفية هذا الارتفاق وأما على حسب الظاهر فلأن الانسان قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقاً له فأما إذا كان عظيم الشفقة عظيم الاعتناء بشأنه كان رفيقا له فبين تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون له كالرفقاء من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته
ثم قال تعالى ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله تعالى ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه الأول القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الداعي ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا الثاني نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر واذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل الثالث أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك وهذا الاستحقاق ينافي الالهية فيمتنع حصوله في حق الاله تعالى فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى فالبراهين العقلية القاطعة دالة(10/140)
على ذلك أيضا وقالت المعتزلة الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به فاذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا
المسألة الثانية قوله ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير ذلك هو الفضل من الله ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء والثاني أن يكون التقدير ذلك الفضل هو من الله أي ذلك الفضل المذكور والثواب المذكور هو من الله لا من غيره ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد الذي تقدم لانه أشق الطاعات ولأنه أعظم الامور التي بها يحصل تقوية الدين فقال عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الحذر والحذر بمعنى واحد كالاثر والاثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وقال الواحدي رحمه الله فيه قولان أحدهما المراد بالحذر ههنا السلاح والمعنى خذوا سلاحكم والسلاح يسمى حذرا أي خذوا سلاحكم وتحذروا والثاني أن يكون خُذُواْ حِذْرَكُمْ بمعنى احذروا عدوكم لأن هذا الأمر بالحذر يتضمن الامر بأخذ السلاح لأن أخذ السلاح هو الحذر من العدو فالتأويل أيضا يعود إلى الأول فعلى القول الاول الأمر مصرح بأخذ السلاح وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام
المسألة الثانية لقائل أن يقول ذلك الذي أمر الله تعالى بالحذر عنه ان كان مقتضى الوجود لم ينفع الحذر وان كان مقتضى العدم لا حاجة إلى الحذر فعلى التقديرين الامر بالحذر عبث وعنه عليه الصلاة والسلام قال ( المقدور كائن والهم فضل ) وقيل أيضا الحذر لا يغني من القدر فنقول ان صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فانه يقال إن كان الانسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الايمان وان كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الايمان والطاعة فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الامر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل أي فائدة في الحذر كلاما متناقضا لأنه لما كان هذا الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر(10/141)
المسألة الثالثة قوله فَانفِرُواْ يقال نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا للحرب واستنفر الامام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون إذا حثهم على النفير ودعاهم اليه ومثله قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإذا استنفرتم فانفروا ) والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ومنه يقال فلان لا في العير ولا في النفير وقال أصحاب العربية أصل هذا الحرف من النفور والنفار وهو الفزع يقال نفر اليه إذا فزع اليه ونفر منه إذا فزع منه وكرهه ومعنى الآية فانفروا إلى قتال عدوكم
المسألة الرابعة قال جميع أهل اللغة الثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة وأصلها من ثبيت الشيء أي جمعته ويقال أيضاً ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه وتأويله جمع محاسنه فقوله فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً معناه انفروا إلى العدو إما ثبات أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية وإما جميعا أي مجتمعين كوكبة واحدة وهذا المعنى أراد الشاعر في قوله
طاروا اليه زرافات ووحدانا
ومثله قوله تعالى فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( البقرة 239 ) أي على أي الحالتين كنتم فصلوا
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِن مّنكُمْ يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ واختلفوا على قولين الأول المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فان قيل قوله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ تقديره يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن فاذا كان هذا المبطىء منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله وَإِن مّنكُمْ
والجواب من وجوه الأول أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط الثاني أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الايمان الثالث كأنه قيل يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 )
القول الثاني أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين قالوا والتبطئة بمعنى الابطاء أيضاً وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه وحكى أهل اللغة أن العرب تقول ما(10/142)
أبطأ بك يا فلان عنا وإدخالهم الباء يدل على أنه في نفسه غير متعد فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطىء عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد فاذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة وان أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين قال وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ قال والذي يدل على أن المراد بقوله لَّيُبَطّئَنَّ الابطاء منهم لا تثبيط غيرهم ما حكاه تعالى من قولهم مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ عند الغنيمة ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى وطعن القاضي في هذا القول وقال انه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى ومثل هذا الكلام انما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يعني الرسول مَّوَدَّة َ فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين وإنما يمكن حمله على المنافقين ثم قال فان حمل على أنه من الابطاء والتثاقل صح في المنافقين لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم فقد كان يثبطون كثيراً من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس فكلا الوصفين موجود في المنافقين وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ فجعلوا الأول لازما والثاني متعدياً كما يقال في أحب وحب فان الأول لازم والثاني متعد
المسألة الثانية قال الزجاج ( من ) في قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ موصولة بالحال للقسم كأن هذا لو كان كلاما لك لقلت إن منكم لمن حلف بالله ليبطئن
ثم قال تعالى فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش يعني لم أكن معهم شهيداً حاضراً حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله من ظفر وغنيمة ليقولن كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كَأَن لَّمْ تَكُنْ بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة والباقون بالياء لتقدم الفعل قال الواحدي وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل قال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وقال في آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 ) فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل
المسألة الثانية قرأ الحسن لَّيَقُولَنَّ بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى ( من ) لأن قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ في معنى الجماعة إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن ( من ) وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ وجانب الافراد قد ترجح في قوله قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ ( النساء 72 ) وفي قوله مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لو كان التنزيل هكذا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا فكيف وقع قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ في البين
وجوابه أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا(10/143)
وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه فاما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ثم أراد أين يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ والمراد التعجب كأنه تعالى يقول انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أنها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا فهذا هو المراد من الكلام وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن
فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذم المبطئين في الجهاد عاد إلى الترغيب فيه فقال فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وللمفسرين في قوله يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وجهان الأول أن يَشْرُونَ معناه يبيعون قال ابن مفرغ
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
قال وبرد هو غلامه وشربته بمعنى بعته وتمنى الموت بعد بيعه فكان معنى الآية فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ
والقول الثاني معنى قوله يَشْرُونَ أي يشرتون قالوا والمخاطبون بهذا الخطاب هم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد وتقرير الكلام فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف تقديره آمنوا ثم قاتلوا لاستحالة حصول الأمر بشرائع الإسلام قبل حصول الإسلام وعندي في الآية احتمالات أخرى أحدها أن الانسان لما أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه بها فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله بطيبة النفس وثانيها أنه تعالى أمر بالقتال مقرونا ببيان فساد ما لأجله يترك الانسان القتال فان من ترك القتال فانما يتركه رغبة في الحياة الدنيا وذلك يوجب فوات سعادة الآخرة فكأنه قيل له اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي وثالثها كأنه قيل الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إنما رجحوا الحياة الدنيا على الآخرة إذا كانت مقرونة بالسعادة والغبطة والكرامة واذا كان كذلك فليقاتلوا فانهم بالمقاتلة يفوزون بالغبطة والكرامة في الدنيا لأنهم بالمقاتلة يستولون على الأعداء ويفوزون بالأموال فهذه وجوه خطرت بالبال والله أعلم بمراده(10/144)
ثم قال تعالى وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى من يقاتل في سبيل الله فسواء صار مقتولا للكفار أو صار غالبا للكفار فسوف نؤتيه أجرا عظيما وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم ومعلوم أنه لا واسطة بين هاتين الحالتين فاذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يوطن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يقتله العدو وإما أن يغلب العدو ويقهره فانه إذا عزم على ذلك لم يفر عن الخصم ولم يحجم عن المحاربة فأما إذا دخل لا على هذا العزم فما أسرع ما يقع في الفرار فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً
اعمل أن المراد منه إنكاره تعالى لتركهم القتال فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ يدل على أن الجهاد واجب ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف فهذا حث شديد على القتال وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ انكار عليهم في ترك القتال وبيان أنه لا عذر لهم ألبتة في تركه ولو كان فعل العبد بخلق الله لبطل هذا الكلام لأن من أعظم العذر أن الله ما خلقه وما أراده وما قضى به وجوابه مذكور
المسألة الثالثة اتفقوا على أن قوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ متصل بما قبله وفيه وجهان أحدهما أن يكون عطفا على السبيل والمعنى مالكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين والثاني أن يكون معطوفا على اسم الله عز وجل أي في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين
المسألة الرابعة المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان
المسألة الخامسة الولدان جمع الولد ونظيره مما جاء على فعل وفعلان نحو حزب وحزبان(10/145)
وورك ووركان كذلك ولد وولدان قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الاحرار والحرائر وبالولدان العبيد والاماء لأن العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلا أنه جعل ههنا الولدان جمعا للذكور والاناث تغليبا للذكور على الاناث كما يقال آباء وإخوة والله أعلم
المسألة السادسة إنما ذكر الله الولدان مبالغة في شرح ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم بمكانهم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما وردت السنة باخراجهم في الاستسقاء ثم حكى تعالى عن هؤلاء المستضعفين أنهم كانوا يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد امن هذه القرية الظالم أهلها مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا مشركين قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأن يكون لأجل أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره
المسألة الثانية لقائل أن يقول القرية مؤنثة وقوله الظَّالِمِ أَهْلُهَا صفة للقرية ولذلك خفض فكان ينبغي أن يقال الظالمة أهلها وجوابه أن النحويين يسمون مثل هذه الصفة الصفة المشبهة باسم الفاعل والأصل في هذا الباب أنك إذا أدخلت الألف واللام في الأخير أجريته على الأول في تذكيره وتأنيثه نحو قولك مررت بامرأة حسنة الزوج كريمة الأب ومررت برجل جميل الجارية واذا لم تدخل الألف واللام في الأخير حملته على الثاني في تذكيره وتأنيثه كقولك مررت بامرأة كريم أبوها ومن هذا قوله تعالى أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ولو أدخلت الألف واللام على الأهل لقلت من هذه القرية الظالمة الأهل وإنما جاز أن يكون الظالم نعتا للقرية لأنه صفة للأهل والأهل منتسبون إلى القرية وهذا القدر كاف في صحة الوصف كقولك مررت برجل قائم أبوه فالقيام للأب وقد جعلته وصفا للرجل وإنما كان هذا القدر كافيا في صحة الوصف لأن المقصود من الوصف التخصيص والتمييز وهذا المقصود حاصل من مثل هذا الوصف والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً قولان فالأول قال ابن عباس يريدون اجعل علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا فأجاب الله تعالى دعاءهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميراً لهم فكان الولي هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان النصير عتاب بن أسيد وكان عتاب ينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز الثاني المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا
الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ(10/146)
أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً
واعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد بل العبرة بالقصد والداعي فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن القتال إما أن يكون في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وان كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة وأما الملوك والجبابرة فاذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه يقال كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه وفائدة إدخال ( كان ) في قوله كَانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده يعني أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين فيه قولان الأول أن الآية نزلت في المؤمنين قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يهاجروا إلى المدينة ويلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفوا أيديكم فاني لم أومر بقتالهم واشتغلوا باقامة دينكم من الصلاة والزكاة فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية واحتج الذاهبون إلى هذا القول بان الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين ويمكن الجواب عنه بأن المنافقين كانوا يظهرون من أنفسهم انا مؤمنون وانا نريد قتال الكفار ومحاربتهم فلما أمر الله بقتالهم الكفار أحجم المنافقون عنه وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه
القول الثاني أن الآية نازلة في حق المنافقين واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على(10/147)
أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين فالأول أنه تعالى قال في وصفهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً ( النساء 77 ) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار والمنافقين الثالث أنه تعالى قال للرسول قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة وذلك من صفات المنافقين
وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذه الوجوه بحرف واحد وهو أن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع فالخشية المذكورة في هذه الآية محمولة على هذا المعنى وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ محمول على التمني لتخفيف التكليف لا على وجه الانكار لايجاب الله تعالى وقوله تعالى قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ مذكور لا لأن القوم كانوا منكرين لذلك بل لأجل إسماع الله لهم هذا الكلام مما يهون على القلب أمر هذه الحياة فحينئذ يزول من قلبهم نفرة القتال وحب الحياة ويقدمون على الجهاد بقلب قوي فهذا ما في تقرير هذين القوين والله أعلم والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( النساء 78 ) ولا شك أن من هذا كلام المنافقين فاذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا
المسألة الثانية دلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد وهذا هو الترتيب المطابق لما في العقول لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله ولا شك أنهما مقدمان على الجهاد
المسألة الثالثة قوله كَخَشْيَة ِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول
المسألة الرابعة ظاهر قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً يوهم الشك وذلك على علام الغيوب محال وفيه وجوه من التأويل الأول المراد منه الابهام على المخاطب بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه بل يوجب إبقاء الابهام في هذين القسمين على المخاطب الثاني أن يكون ( أو ) بمعنى الواو والتقدير يخشونهم كخشية الله وأشد خشية وليس بين هذين القسمين منافاة لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة الثالث أن هذا نظير قوله وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله لكن جزعا من الموت وحبا للحياة وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم(10/148)
فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه ثم قالوا لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهذا كالعلة لكراهتهم لايجاب القتال عليهم أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وإنما قلنا إن الآخرة خير لوجود الأول ان نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة والثاني ان نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة والثالث أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدرات والرابع أن نعم الدنيا مشكوكة فان أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني ونعم الآخرة يقينية وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله لِمَنِ اتَّقَى وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال تعالى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَظْلِمُونَ بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله الم تَرَى إِلَى الَّذِينَ قِيلَ والباقون بالتاء على سبيل الخطاب ويؤيد التاء قوله قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ فان قوله قُلْ يفيد الخطاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم يستحقون على طاعتهم الثواب وإلا لما تحقق نفي الظلم وتدل على أنه تعالى يصح منه الظلم وإن كنا نقطع بأنه لا يفعل وإلا لما صح التمدح به
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقاراً وقد مضى الكلام فيه
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَاؤُلا ءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فقال تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ فبين تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة فاذا كان لا بد من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك ونظير هذه الآية قوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( الأحزاب 16 ) والبروج في كلام العرب هي القصور والحصون وأصلها في اللغة من الظهور يقال تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها والمشيدة المرتفعة وقرىء مُّشَيَّدَة ٍ قال صاحب ( الكشاف ) من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وقرأ نعيم بن ميسرة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازا كما قالوا قصيدة شاعرة وإنما الشاعر قائلها(10/149)
قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائقين من الموت غير راغبين في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى وفي النظم وجه آخر وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا واحدة وغنيمة راحة قالوا هذه من عند الله وإن أصابهم مكروه قالوا هذا من شؤم مصاحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها الأول قال المفسرون كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء فعند هذا قال اليهود والمنافقون ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم فقوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله تعالى فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( الأعراف 131 ) وعن قوم صالح قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
القول الثاني المراد من الحسنة النصر على الاعداء والغنيمة ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي والقول الأول هو المعتبر لأن اضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله وأقول القول كما قال على مذهبه أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره
المسألة الثانية اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( الأعراف 168 ) وقال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يفيد العموم في كل الحسنات وكذلك قوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يفيد العموم في كل السيئات ثم قال بعد ذلك قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله وهو المطلوب
فان قيل المراد ههنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية ويدل عليه وجوه الأول اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما الثاني أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني إنما يقال أصبتها وليس في كلام العرب أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة الثالث لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة وههنا أجمع المفسرون على أن المنفعة(10/150)
مرادة فيمتنع كون الطاعة مرادة ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا
فالجواب عن الأول أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ
والجواب عن الثاني أنه يصح أن يقال أصابني توفيق من الله وعون من الله وأصابه خذلان من الله ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة ومن الخذلان تلك المعصية
والجواب عن الثالث أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة فان كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطىء الاشتراك فزال السؤال فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى والممكن لذاته كل ما سواه فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع وحينئذ يلزم نفي الصانع وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر فاذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستنداً إلى الله وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات فان الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى وهو قوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ
ثم قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى انه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستنداً إلى الله على الوجه الذي لخصانه في غاية الظهور والجلاء قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره قالت المعتزلة بل هذه الآية دالة على صحة قولنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى ألبتة لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها وذلك يبطل هذا التعجب فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بايجاد العبد لا بايجاد الله تعالى
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة أجمع المفسرون على أن المراد من قوله لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أنهم لا يفقهون هذه الآية المذكورة في هذا الموضع وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث والحديث فعيل بمعنى مفعول فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا
والجواب مرادكم بالقرآن ليس إلا هذه العبارات ونحن لا ننازع في كونها محدثة
المسألة الثالثة الفقه الفهم يقال أوتى فلانا فقها ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لابن عباس ( فقهه في التأويل ) أي فهمه(10/151)
مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
قال أبو علي الجبائي قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة وتارة يقع على الذنب والمعصية ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( النساء 78 ) وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) فلا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين قال وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا فَمَنْ فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن
فان قيل فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم
قلنا لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل اليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع
ونحن نقول هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية
إنما قلنا إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة وكل حسنة فمن الله
إنما قلنا إن الايمان حسنة لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح ولا شك أن الايمان كذلك فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله رَّحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 ) المراد به كلمة الشهادة وقيل في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) قيل هو لا إله إلا الله فثبت أن الايمان حسنة وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء 79 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ يفيد العموم في جميع الحسنات ثم حكم على كلها بأنها من الله فيلزم من هاتين المقدمتين أعني أن الايمان حسنة وكل حسنة من الله القطع بأن الايمان من الله
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر
قلنا جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه فكان هذا مناقضا لقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله والخصوم لا(10/152)
يقولون به فصاروا محجوجين في هذه المسألة ثم إذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله
قلنا فيه وجوه الأول أن كل من قال الايمان من الله قال الكفر من الله فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة الثاني أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده وذلك عندهم محال ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور وذلك يمنع من كونه قادرا عليه فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه الثالث أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ فاذا كان العبد موجداً لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق فاذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ
فالجواب عنه من وجهين الأول أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( الشعراء 80 ) أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب فكذا ههنا فانه يقال يا مدبر السموات والأرض ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس فكذا ههنا الثاني أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول ابراهيم هَاذَا رَبّى أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار كأنه قال أهذا ربي فكذا ههنا كأنه قيل الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه بل من الله فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة أفيدخل في العقل أن يقال إنه وقع به فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان والسيئة يدخل فيها الكفر أما قراءة من قرأ فَمَنْ فنقول إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام لأنه لما أضاف السيئة اليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة اليهم فذكر هذا القائل قوله فَمَنْ ( النساء 79 ) لا على اعتقاد أنه من القرآن بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا إنه استفهام على سبيل الانكار ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله تعالى بعد هذه الآية نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفَى بِاللَّهِ(10/153)
شَهِيداً ( النساء 166 ) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله ونظيره قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء وقوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية والله أعلم بأسرار كلامه
ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا فان من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فان أحداً من الخلق لا يقدر على إرشاده
واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا فانك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد ثم إن أحدهما يزداد إيماناً على إيمان عند سماعه والآخر يزداد كفراً على كفر عند سماعه ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محباً فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأنعام 153 155 ) والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعاً لله في قوله فَاتَّبَعُوهُ فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة لله وانقياد لحكم الله
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول ان قوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله هذا معنى كلام الشافعي(10/154)
المسألة الثالثة قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أنه لا طاعة إلا لله ألبتة وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله قال مقاتل في هذه الآية ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله ) فقال المنافقون لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية
واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة ألبتة للرسول وإنما الطاعة لله أما قوله وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ففيه قولان أحدهما أن المراد من التولي هو التولي بالقلب يعني يا محمد حكمك على الظواهر أما البواطن فلا تتعرض لها والثاني أن المراد به التولي بالظاهر ثم ههنا ففي قوله فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً قولان الأول معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن الثاني أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك لتولى وهو كقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد
وَيَقُولُونَ طَاعَة ٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طَاعَة ٌ بالرفع أي أمرنا وشأننا طاعة ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد سمعا وطاعة وسمع وطاعة قال سيبويه سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت فيقول حمدالله وثناء عليه كأنه قال أمرى وشأني حمدا لله
واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل وأما الرفع فانه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ أي خرجوا من عندك بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كل أمر تفكروا فيه كثيراً وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيراً قيل هذا أمر مبيت قال تعالى إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ( النساء 108 ) وفي اشتقاقه وجهان الأول اشتقاقه من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الانسان في بيته بالليل فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل فلما كان الغالب أن الانسان وقت الليل يكون في البيت والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا الثاني اشتقاقه من بيت الشعر قال الأخفش العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا تشبيها له ببيت الشعر من حيث أنه يسوى ويدبر(10/155)
المسألة الثانية أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت وفي هذا التخصيص وجهان أحدهما أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فانه لم يذكرهم والثاني أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طَائِفَة ٌ بادغام التاء في الطاء والباقون بالاظهار أما من أدغم فله فيه وجهان الأول قال الفراء جزموا لكثرة الحركات فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء والثاني أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الادغام ومما يحسن هذا الادغام أن الطاء تزيد على التاء بالاطباق فحسن إدغام الأنقص صوتاً في الأزيد صوتاً أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله
المسألة الرابعة قال بَيَّتَ بالتذكير ولم يقل بيتت بالتأنيث لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي ولأنها في معنى الفريق والفوج قال صاحب ( الكشاف ) بَيَّتَ طَائِفَة ٌ أي زورت وزينت خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ ذكر الزجاج فيه وجهين أحدهما أن معناه ينزل اليك في كتابه والثاني يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فان الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لمن توكل عليه قال المفسرون كان الأمر بالاعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( التوبة 73 التحريم 9 ) وهذا الكلام فيه نظر لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد إلا المرة الواحدة فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته فقال أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها ومنه قوله إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها ويقال في فصيح الكلام لو استقبلت من أمري ما استدبرت أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذ لو(10/156)
تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها ألبتة والعلماء قالوا دلالة القرآن على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ثلاثة أوجه أولها فصاحته وثانيها اشتماله على الاخبار عن الغيوب والثالث سلامته عن الاختلاف وهذا هو المذكور في هذه الآية ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه الأول قال أبو بكر الأصم معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل باخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا باعلام الله تعالى والثاني وهو الذي ذهب اليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله
فان قيل أليس أن قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 23 ) كالمناقض لقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) كالمناقض لقوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 )
قلنا قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها ألبتة
الوجه الثالث في تفسير قولنا القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد ومن المعلوم أن الانسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة فاذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه لمعجز من عند الله تعالى وضرب القاضي لهذا مثلا فقال ان الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الاعجاز فكذا ههنا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والامام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال وعلى القول بفساد التقليد لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته واذا كان لا بد في صحة نبوته من الاستدلال فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى
المسألة الخامسة قال أبو علي الجبائي دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله(10/157)
تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والاختلاف والتفاوت شيء واحد فاذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله
والجواب أن قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره فان فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الاطلاق
وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاٌّ مْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه وكان ذلك سبب الضرر من وجوه الأول أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير والثاني أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة فاذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه
الوجه الثالث وهو أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام وذلك سبب لظهور الأسرار وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة الرابع أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه فكل ما كان آمناً لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني فان وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار فأخذوا في التحصن من المسلمين وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين فظهر من هذا أن ذلك الارجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الاذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه
واعلم أن قوله أذاعه به لغتان
ثم قال تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ(10/158)
وفيه مسائل
المسألة الأولى في أُوْلِى الاْمْرِ قولان أحدهما إلى ذوي العلم والرأي منهم والثاني إلى أمراء السرايا وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس وأهل العلم ليسوا كذلك إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمراً على الناس
وأجيب عنه بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه والذي يدل عليه قوله تعالى لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( التوبة 122 ) فأوجب الحذر بانذراهم وألزم المنذرين قبول قولهم فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم
المسألة الثانية الاستنباط في اللغة الاستخراج يقال استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض
المسألة الثالثة في قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قولان الأول أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون والتقدير ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر
القول الثاني أنهم طائفة من أولي الأمر والتقدير ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر وذلك لأن أولي الأمر فريقان بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك فقوله مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر
فان قيل إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ
قلنا إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ وقوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ والله أعلم
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع وذلك لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ صفة لأولي الأمر وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ولا يخلوا إما أن يرجعوا اليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها أولا مع حصول النص فيها والأول باطل لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال إنه استنبط الحكم فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك فثبت أن الاستنباط حجة والقياس إما استنباط أو داخل فيه فوجب أن يكون حجة إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أمور أحدها أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط وثانيها أن الاستنباط حجة وثالثها أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ورابعها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر(10/159)
ثم قال تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط
فان قيل لا نسلم أن المراد بقوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ هم أولوا الأمر بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية فان قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية فلم قلتم إنه يلزم أيكون القياس حجة بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الاصلية أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الاكثرون ان الاصل في المنافع الاباحة وفي المضار الحرمة سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيداً للعلم بدليل قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فاخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط ولا نزاع في مثل هذا القياس انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا والجواب
أما في السؤال الأول فمدفوع لانه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه لأن عطف المظهر على المضمر وهو قوله وَلَوْ رَدُّوهُ قبيح مستكره
وأما السؤال الثاني فمدفوع لوجهين الأول أن قوله وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ النساء 83 ) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بامر الحروب الثاني هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت اليه فكذا ههنا
وأما السؤال الثالث وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا قوله لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الاصلية قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان ومثل هذا لا يسمى استنباطا ألبتة
وأما السؤال الرابع وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم والقياس الشرعي لا يفيد العلم
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم وذلك لان بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بانه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الاصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الاصل وعند هذا(10/160)
الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم وأما الحكم فمقطوع به وهو يجري مجرى ما إذا قال الله مهما غلب على ظنك كذا فاعلم ان في الواقعة الفلانية حكمي كذا فاذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم والثاني وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن قال عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) شرط العلم في جواز الشهادة وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى ان ظاهر هذا الاستنثاء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم ان ذلك محال فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها قال بعضهم هذا الاستثناء راجع إلى قوله أَذَاعُواْ وقال قوم راجع إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ وقال آخرون إنه راجع إلى قوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل
أما القول الأول فالتقدير وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الاذاعة كما أخرجهم في قوله بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ النّسَاء
والقول الثاني الاستنثاء عائد إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل قال الفراء والمبرد القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك قال الزجاج هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والاراجيف أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد
القول الثالث انه متعلق بقوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه
واعلم أن هذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان الأول وهو قول جماعة من المفسرين أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والتقدير ولولا بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله الا قليلا منكم فان ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( النساء 73 ) فبين تعالى أنه لولا حصول النصر(10/161)
والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا اقليل منكم وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا بل الامر في كونه حقا وباطلا على الدليل وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق
المسألة الثانية دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم الله فضله ورحمته والا ما كان يتبع وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله رعاية الاصلح في الدين أجاب الكعبي عنه بأن فضل الله ورحمته عامان في حق الكل لكن المؤمنين انتفعوا به والكافرين لم ينتفعوا به فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من الله فضل ورحمة في الدين
والجواب أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الاصل
فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
اعلم انه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الامر بالجهاد فقال فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل(10/162)
المسألة الأولى الفاء في قوله فَقَاتِلْ بماذا تتعلق فيه وجوه الأول أنها جواب لقوله وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ( النساء 74 ) من طريق المعنى لأنه يدل على معنى ان أردت الفوز فقاتل الثاني أن يكون متصلا بقوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 75 ) فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 84 ) والثالث أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم بل قاتل
المسألة الثانية دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج وما معه الا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد ولو لم يتبعوه لخرج وحده
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو ( صلى الله عليه وسلم ) موصوف بهذه الصفات ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن علم ان الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه
ثم قال تعالى لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لاَ تُكَلَّفُ بالجزم على النهي و لاَ نُكَلّفُ بالنون وكسر اللام أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله انتصاب قوله نَّفْسَكَ على مفعول ما لم يسم فاعله
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك فاذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فانه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وبدليل قوله ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ و ( عسى ) من الله جزم فلزمه الجهاد وان كان وحده
ثم قال تعالى وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ والمعنى ان الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد فان أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء
ثم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى عسى حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع وذلك على الله تعالى محال
والجواب عنه ان ( عسى ) معناها الاطماع وليس في الاطماع أنه شك أو يقين وقال بعضهم إطماع الكريم إيجاب
المسألة الثانية الكف المنع والبأس أصله المكروه يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي مكروه والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها قال تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 9 ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( الأنبياء 12 ) قال المفسرون عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا وقد كف بأسهم فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً يقال نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله من قولهم نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه قال تعالى فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ( البقرة 66 ) وقال في السرقة بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) ويقال نكل فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه
إذا عرفت هذا فنقول الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما وعذاب الله دائم في الآخرة وعذاب غير الله قد يخلص الله منه وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه وأيضاً عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والابعاض والروح والبدن(10/163)
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً حَسَنَة ً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيِّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقِيتاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها والغرض منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما الثاني أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام حرضهم على الجهاد فان لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع اليه عند طاعتهم أجر عظيم وما كان يرجع اليه من معصيتهم شيء من الوزر هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم ألبتة في المعصية فلا جرم يرجع اليه من طاعتهم أجر ولا يرجع اليه من معصيتهم وزر الثالث يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله فأما إذا كانت وسيلة الى معصيته كانت محرمة منكرة الرابع يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها
المسألة الثانية الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الانسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها
إذا عرفت هذا فنقول في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه الأول أن المراد منها تحريض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم على الجهاد وذلك لأنه إذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد بل على سبيل الرفق والتلطف وذلك يجري مجرى الشفاعة الثاني أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين(10/164)
كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسوله عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد الثالث نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم الرابع قال مقاتل الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك ) فهذا هو النصيب وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا السام عليكم والسام هو الموت فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة أتقولون هذا للرسولا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم فنزلت هذه الآية الخامس قال الحسن ومجاهدي والكلبي وابن زيد المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة ثم قال الحسن من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر وإن لم يشفع لأن الله تعالى يقول مَّن يَشْفَعْ ولم يقل ومن يشفع ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( اشفعوا تؤجروا )
وأقول هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فان كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الكفل هو الحظ ومنه قوله تعالى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) أي حظين وهو مأخوذ من قولهم كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه وإنما قيل كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر وإنما استعمل نصيبا من الظهر قال ابن المظفر لا يقال هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله وكذا القول في النصيب فان أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب
فان قيل لم قال في الشفاعة الحسنة يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وقال في الشفاعة السيئة يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة
قلنا الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به ويقال للضامن كفيل وقال عليه الصلاة والسلام ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه إذا ثبت هذا فنقول وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده والمقصود حصول ضد ذلك فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً وفيه مسألتان(10/165)
المسألة الأولى في المقيت قولان الأول المقيت القادر على الشيء وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على إساءته مقيتا
وقال آخر
ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها منشورة ودعيت
إلي الفضل أم علي إذا حو سبت اني على الحساب مقيت
وأنشد النضر بن شميل
تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة فاني على ما ساءهم لمقيت
الثاني المقيت مشتق من القوت يقال قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته واسم ذلك الشيء هو القوت وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة ثم قال القفال رحمه الله وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه
المسألة الثانية انما قال وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الازل وليست صفة محدثة فقوله كَانَ مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا يدل على أنه كان حاصلا من الازل إلى الأبد
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَسِيباً
في النظم وجهان الأول أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم ايضا بأن الاعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها فقوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا كقوله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) الثاني ان الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت الى سلامه عليه ويقتله وربما ظهر أنه كان مسلما فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم ان كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الاكرام يقابلونه بمثل ذلك الاكرام أو أزيد فانه ان كان كافرا لا يضر المسلم ان قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الاكرام أما ان كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التحية تفعلة من حييت وكان في الاصل تحيية مثل التوصية والتسمية والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الاربعة نحو قوله وَتَصْلِيَة ُ جَحِيمٍ ( الواقعة 94 ) فثبت أن التحية أصلها(10/166)
التحيية ثم أدغموا الياء في الياء
المسألة الثانية اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام فجعلوا التحية اسما للسلام قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) ومنه قول المصلى التحيات لله أي السلام من الآفات لله والأشعار ناطقة بذلك قال عنترة
حييت من طلل تقادم عهده
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وقال آخر
واعلم أن قول القائل لغيره السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله وبيانه من وجوه الأول أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة وليس إذا كان حياً كان سليما فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات فثبت أن قوله السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله الثاني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السلامة على عباده أكمل من قوله حياك الله الثالث أن قول الانسان لغيره السلام عليك فيه بشارة بالسلامة وقوله حياك الله لا يفيد ذلك فكان هذا أكمل ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول أما القرآن فمن وجوه الأول اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا أولها أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل ألا ترى أنه قال في وصف ذاته الملك القدوس السلام وثانيها أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا فقال قِيلَ يانُوحُ نُوحٌ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ والمراد منه أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها سلم عليك على لسان جبريل فقال تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( القدر 5 ) قال المفسرون إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقال الله لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا إلا أني جعلت جبريل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني ورابعها سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فاذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك وخامسها سلم عليك على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وكل من هدى الله إلى الايمان فقد اصطفاه كما قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) وسادسها أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالسلام على سبيل المشافهة فقال وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وسابعها أمر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالتسليم عليك قال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وثامنها سلم عليك على لسان ملك الموت فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ قيل إن ملك الموت يقول في أذن المسلم السلام يقرئك السلام ويقول أجبني فاني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك فاذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك الموت للبشير مني هدية ولا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك وتاسعها السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة قال تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) وعاشرها سلم الله عليك على لسان رضوان خاون(10/167)
الجنة فقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً إلى قوله وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ( الزمر 73 ) والحادي عشر إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) والثاني عشر السلام من الله من غير واسطة وهو قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق
الوجه الثاني من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات وقت الابتداء ووقت الموت ووقت البعث والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فانما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( مريم 33 )
الوجه الثالث أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا السام عليك فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى فبعث الله جبريل عليه السلام وقال إن كان اليهود يقولون السام عليك فأنا أقول من سرادقات الجلال السلام عليك وأنزل قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ إلى قوله وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبدالله بن سلام قال لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت منه ( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه الأول قالوا تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود بعضهم لبعض الاشارة بالأصابع وتحية المجوس الانحناء وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا حياك الله وللملوك أن يقولوا أنعم صباحا وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا السلام عليك ورحمة الله وبركاته ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها الثاني أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع الثالث أن الوعد بالنفع يقدر الانسان على الوفاء به وقد لا يقدر أما الوعد بترك الضرر فانه يكون قادرا عليه لا محالة والسلام يدل عليه فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية
المسألة الثالثة من الناس من قال من دخل داراً وجب عليه أن يسلم على الحاضرين واحتج عليه بوجوه الأول قوله تعالى كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفشوا السلام ) والأمر للوجوب الثاني أن من دخل على إنسان كان كالطالب له ثم المدخول عليه لا يعلم أنه يطلبه لخير أو لشر فاذا قال السلام عليك فقد بشره بالسلامة وآمنه من الخوف وإزالة الضرر عن المسلم واجبة قال عليه الصلاة والسلام ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) فوجب أن يكون السلام واجبا الثالث أن السلام من شعائر أهل الإسلام وإظهار شعائر(10/168)
الاسلام واجب وأما المشهور فهو أن السلام سنة وهو قول ابن عباس والنخعي
وأما الجواب على السلام فقد أجمعوا على وجوبه ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الثاني أن ترك الجواب إهانة والاهانة ضرر والضرر حرام
المسألة الرابعة منتهى الأمر في السلام أن يقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد
واعلم أنه تعالى قال فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فقال العلماء الأحسن هو أن المسلم إذا قال السلام عليك زيد في جوابه الرحمة وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعادها في الجواب روي أن رجلا قال للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السلام عليك يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وآخر قال السلام عليك ورحمة الله فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وجاء ثالث فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل نقصتني فأين قول الله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إنك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت
المسألة الخامسة المبتدىء يقول السلام عليك والمجيب يقول وعليكم السلام هذا هو الترتيب الحسن والذي خطر ببالي فيه أنه إذا قال السلام عليكم كان الابتداء واقعا بذكر الله فاذا قال المجيب وعليكم السلام كان الاختتام واقعا بذكر الله وهذا يطابق قوله هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ ( الحديد 3 ) وأيضا لما وقع الابتداء والاختتام بذكر الله فانه يرجى أن يكون ما وقع بينهما يصير مقبولا ببركته كما في قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ ( هود 114 ) فلو خالف المبتدىء فقال وعليكم السلام فقد خالف السنة فالأولى للمجيب أن يقول وعليكم السلام لأن الأول لما ترك الافتتاح بذكر الله فهذا لا ينبغي أن يترك الاختتام بذكر الله
المسألة السادسة ان شاء قال سلام عليكم وان شاء قال السلام عليكم قال تعالى في حق نوح قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا ( هود 48 ) وقال عن الخليل قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال في قصة لوط قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ( هود 69 ) وقال عن يحيى وَسَلَامٌ عَلَيْهِ وقال عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ ( النمل 59 ) وقال عن الملائكة وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال عن رب العزة سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وقال فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ ( طه 47 ) وقال عن عيسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) فثبت أن الكل جائز وأما في التحليل من الصلاة فلا بد من الألف واللام بالاتفاق واختلفوا في سائر المواضع أن التنكير أفضل أم التعريف فقيل التنكير أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ السلام على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل الثاني ان كل ما ورد من الله والملائكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير على ما عددناه في الآيات وأما بالألف واللام فانما ورد في تسليم الانسان على نفسه قال موسى ( صلى الله عليه وسلم ) وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وقال عيسى عليه(10/169)
الصلاة والسلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ ( مريم 33 ) والثالث وهو المعنى المعقول ان لفظ السلام بالألف واللام يدل على أصل الماهية والتنكير يدل على أصل الماهية مع وصف الكمال فكان هذا أولى
المسألة السابعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( السنة أن يسلم الراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والأقل على الأكثر والقائم على القاعد )
وأقول أما الأول فلوجهين أحدهما ان الراكب أكثر هيبة فسلامه يفيد زوال الخوف والثاني أن التكبر به أليق فأمر بالابتداء بالتسليم كسرا لذلك التكبر وأما أن القائم يسلم على القاعد فلأنه هو الذي وصل اليه فلا بد وأن يفتتح هذا الواصل الموصول بالخير
المسألة الثامنة السنة في السلام الجهر لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب
المسألة التاسعة السنة في السلام الافشاء والتعميم لأن في التخصيص ايحاشا
المسألة العاشرة المصافحة عند السلام عادة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال عليه الصلاة والسلام ( إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر )
المسألة الحادية عشرة قال أبو يوسف من قال لآخر اقرىء فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل
المسألة الثانية عشرة إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فانك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله
المسألة الثالثة عشرة إذا دخلت بيتا خاليا فسلم وفيه وجوه الأول انك تسلم من الله على نفسك والثاني انك تسلم على من فيه من مؤمني الجن والثالث أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات
المسألة الرابعة عشرة السنة أن يكون المبتديى بالسلام على الطهارة وكذا المجيب روي أن واحداً سلم على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كان في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد السلام
المسألة الخامسة عشرة السنة إذا التقى إنسانان أن يبتدرا بالسلام إظهاراً للتواضع
المسألة السادسة عشرة لنذكر المواضع التي لا يسلم فيها وهي ثمانية الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا يبدأ اليهودي بالسلام وعن أبي حنيفة أنه قال لا يبدأ بالسلام في كتاب ولا في غيره وعن أبي يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل السلام على من اتبع الهدى ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن يقال وعليك والأصل فيه أنهم كانوا يقولون عند الدخول على الرسول السام عليك فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وعليكم فجرت السنة بذلك ثم ههنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة فيه قال الحسن يجوز أن يقال للكافر وعليكم السلام لكن لا يقال ورحمة الله لأنها استغفار وعن الشعبي انه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله فقيل له فيه فقال أليس في رحمة الله يعيش الثاني إذا دخل يوم الجمعة والامام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاجتماع فان سلم فرد بعضهم فلا بأس ولو اقتصروا على الاشارة كان أحسن الثالث إذا دخل الحمام فرأى الناس متزرين يسلم عليهم وإن لم يكونوا(10/170)
متزرين لم يسلم عليهم الرابع الأولى ترك السلام على القارىء لأنه إذا اشتغل بالجواب يقطع عليه التلاوة وكذلك القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم الخامس لا يسلم على المشتغل بالأذان والاقامة للعلة التي ذكرناها السادس قال أبو يوسف لا يسلم على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وفي معناه كل من كان مشتغلا بنوع معصية السابع لا يسلم على من كان مشتغلا بقضاء الحاجة مر على الرسول عليه الصلاة والسلام رجل وهو يقضي حاجته فسلم عليه فقام الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الجدار فتيمم ثم رد الجواب وقال ( لولا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد الجواب لما أجبتك إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فانك إن سلمت علي لم أرد عليك ) الثامن إذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فان حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليهما
المسألة السابعة عشرة في أحكام الجواب وهي ثمانية الأول رد الجواب واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ولأن ترك الجواب إهانة وضرر وحرام وعن عباس ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة الثاني رد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للاكرام ومبالغة فيه الثالث أنه واجب على الفور فان أخر حتى انقضى الوقت فان أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام ولا يكون جوابا الرابع إذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتبة أيضا واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الخامس إذا قال السلام عليكم فالواجب أن يقول وعليكم السلام السادس روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير السابع إن سلمت المرأة الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل الثامن حيث قلنا انه لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهى عنه فكان وجوده كعدمه
المسألة الثامنة عشرة اعلم أن لفظ التحية على ما بيناه صار كناية عن الاكرام فجميع أنواع الاكرام يدخل تحت لفظ التحية
إذا عرفت هذا فنقول قال أبو حنيفة رضي الله عنه من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها فاذا أثيب منها فلا رجوع فيها وقال الشافعي رضي الله عنه له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على صحة قول أبي حنيفة فان قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا يدخل فيه التسليم ويدخل فيه الهبة ومقتضاه وجوب الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن فاذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز وقال الشافعي هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالاجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بالأحسن ثم احتج الشافعي على قوله بما روى ابن عباس وابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) وهذا نص في أن هبة الأجنبي يحرم الرجوع(10/171)
فيها وهبة الولد يجوز الرجوع فيها
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الحسيب قولان الأول أنه بمعنى المحاسب على العمل كالأكيل والشريب والجليس بمعنى المؤاكل والمشارب والمجالس الثاني أنه بمعنى الكافي في قولهم حسبي كذا أي كافي ومنه قوله تعالى حَسْبِى َ اللَّهُ ( التوبة 129 الزمر 38 )
المسألة الثانية المقصود منه الوعيد فانا بينا أن الواحد منهم قد كان يسلم على الرجل المسلم ثم إن ذلك المسلم ما كان يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فقال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وإياكم أن تتعرضوا له بالقتل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً أي هو محاسبكم على أعمالكم وكافي في إيصال جزاء أعمالكم اليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف وهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء والمنع من إهدارها
اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنا بينا أن المقصود من قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى التوحيد وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ إشارة إلى العدل وهو كقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وكقوله في طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى ( طه 14 ) وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وهو إشارة إلى العدل فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين ولا شك أنه تهديد شديد الثاني كأنه تعالى يقول من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فان البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو إنما تنكشف بواطن الخلق للخق في يوم القيامة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إما خبر للمبتدا وإما اعتراض والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ واللام لام القسم والتقدير والله ليجمعنكم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لم لم يقل ليجمعنكم في يوم القيامة
والجواب من وجهين الأول المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة الثاني التقدير(10/172)
ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه
المسألة الرابعة قال الزجاج يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ويجوز أيضاً أن يقال سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب قال تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 ) قال صاحب ( الكشاف ) القيام القيامة كالطلاب والطلابة
المسألة الخامسة اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار الله تعالى عنه وهذا حق وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته ومنها ما لا يكون كذلك والأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات فانا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء فكل مسألة هذا شأنها فانه يمتنع اثباتها بالقرآن واخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والا وقع الدور
وأما القسم الثاني وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن اثباته بكلام الله واخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة باخبار الله عنه استدلال صحيح
المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الانكار والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال وأما المعتزلة فقد بنوا ذلك على أصلهم وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحاً وعالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك استحال أن يكذب إنما قلنا انه عالم بقبح الكذب وعالم بكونه غنياً عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا والله تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين وأما أن كل من كان كذلك استحال أن يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء فاذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه وأما أصحابنا فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع لانا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فانه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق للمحكوم عليه والعلم بهذه الصحة ضروري فاذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا
المسألة السابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن كلام الله تعالى محدث قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) والحديث هو الحادث أو المحدث وجوابنا عنه انكما إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء ألبتة بالاتفاق منا ومنكم فأما منا فظاهر وأما منكم فانكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه والله أعلم(10/173)
فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره الله تعالى وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول أنها نزلت في قوم قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه فأذن لهم فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية الثاني نزلت الآية في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا فنزلت الآية وهو قول ابن عباس وقتادة الثالث نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فاختلف أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فمنهم فرقة يقولون كفروا وآخرون قالوا لم يكفروا فنزلت هذه الآية وهو قول زيد بن ثابت ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال في نسق الآية ما يقدح فيه وإنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 89 ) الرابع نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت الآية وهو قول عكرمة الخامس هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السادس قال ابن زيد نزلت في أهل الافك
المسألة الثانية في معنى الآية وجهان الأول أن ( فئتين ) نصب على الحال كقولك مالك قائما أي مالك في حال القيام وهذا قول سيبويه الثاني أنه نصب على خبر كان والتقدير مالكم صرتم في المنافقين فئتين وهو استفهام على سبيل الانكار اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم
المسألة الثالثة قال الحسن إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل والمراد بقوله فِئَتَيْنِ ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل اليهم وتذب عنهم وتواليهم وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير والله أعلم
ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الركس رد الشيء من آخره إلى أوله فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حالة النجاسة ويسمى رجيعا لهذا المعنى(10/174)
أيضا وفيه لغتان ركسهم وأركسهم فارتكسوا أي ارتدوا وقال أمية
فأركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
المسألة الثانية معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله فاذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار
المسألة الثالثة قرأ ابي كعب وعبدالله بن مسعود وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ وقد ذكرنا أن أركس وركس لغتان
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً قالت المعتزلة المراد من قوله أَضَلَّ اللَّهُ ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم وذلك ينفي القول بان إضلالهم حصل بخلق الله وعند هذا حملوا قوله مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على وجوه الأول المراد منه ان الله تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه الثاني أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله الله عن طريق الجنة وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة الثالث أن يكون هذا الاضلال مفسرا بمنع الالطاف
واعلم أنا قد ذكرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ضعف هذه الوجوه ثم نقول هب أنها صحيحة ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الاشكال لأن انقلاب علم الله تعالى جهلا محال والمفضي الى المحال محال ومما يدل على أن المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا الى ادخاله في الايمان وهذا ظاهر
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى انه تعالى لما قال قبل هذه الآية أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( النساء 88 ) وكان ذلك استفهاما على سبيل الانكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال انهم بلغوا في الكفر الى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر الى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم(10/175)
المسألة الثانية قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء رفع بالنسق على تَكْفُرُونِ والمعنى ودوا لو تكونون والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا ومثله قوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) ولو قيل فيدهنوا على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب ومثله وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ ( النساء 102 ) ومعنى قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء أي في الكفر والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم واعلم أنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والالحاد وهذا متأكد بعموم قوله تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء والسبب فيه أن أعز الاشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين لأن ذلك هو الامر الذي به يتقرب الى الله تعالى ويتوسل به الى طلب السعادة في الآخرة وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ قال أبو بكر الرازي التقدير حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الإسلام فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ونظيره قوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك ) فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة ثم نسخ فرض الهجرة عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
المسألة الثالثة اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) وقال المحققون الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فانه تعالى لم يقل حتى يهاجروا عن الكفر بل قال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة بل قيده بكونه في سبيل الله فانه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى(10/176)
ثم قال تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً والمعنى فان أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة ولياً يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم
واعلم أنه تعالى لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
وفيه مسائل(10/177)
المسألة الأولى في قوله يَصِلُونَ قولان الأول ينتهون اليهم ويتصلون بهم والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم قال القفال رحمه الله وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل اليه
القول الثاني أن قوله يَصِلُونَ معناه ينتسبون وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أباح دم الكفار منهم
المسألة الثانية اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم قال بعضهم هم الأسلميون فانه كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فانه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال وقال ابن عباس هم بنو بكر بن زيد مناة وقال مقاتل هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة
واعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم
الموضع الثاني في الاستثناء قوله تعالى أَوْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أَوْ يحتمل أن يكون عطفا على صلة يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ والتقدير إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم ويحتمل أن يكون عطفا على صفة ( قوم ) والتقدير إلا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم والاول أولى لوجهين أحدهما قوله تعالى فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) وهذا يدل على ان السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال وهذا انما يتمشى على الاحتمال الاول وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال الثاني أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض لان على التقدير الاول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا
المسألة الثانية قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لانكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لانهم أقاربهم واختلفوا في موضع قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وذكروا وجوها الأول أنه في موضع الحال باضمار ( قد ) وذلك لان ( قد ) تقرب الماضي من الحال ألا تراهم يقولون قد قامت الصلاة ويقال أتاني فلان ذهب عقله أي أتاني فلان قد ذهب عقله وتقدير الآية أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم الثاني أنه خبر بعد خبر كأنه قال أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وعلى هذا التقدير يكون قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بدلا من جاؤكم الثالث أن يكون التقدير جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم فعلى هذا التقدير قوله جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال الا انه حذف الموصوف المنتصب على الحال وأقيمت صفته مقامه وقوله ءانٍ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين فقال الجمهور هم من الكفار والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فانه لا يجوز قتلهم وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وان ترك القتال فانه يجوز قتله وقال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا اليه خوفا من أولئك الكفار فصاروا الى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم الى أن يمكنهم الخلاص واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله تعالى فيه ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لانه أبقى أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وان كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار
المسألة الرابعة قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين والمعنى أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم قال أصحابنا وهذا يدل على أنه لا يقبح من الله تعالى تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه(10/178)
وأما المعتزلة فقد أجابوا عنه من وجهين الأول قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم الله تعالى قوم مؤمنون لا كافرون وعلى هذا فمعنى الآية ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم والثاني قال الكلبي انه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على الظلم وهذا مذهبنا إلا أنا نقول إنه تعالى لا يفعل الظلم وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده
المسألة الخامسة اللام في قوله فَلَقَاتَلُوكُمْ جواب ( للو ) على التكرير أو البدل على تأويل ولو شاء الله لسلطهم عليكم ولو شاء الله لقاتلوكم قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء فَلَقَاتَلُوكُمْ بالتخفيف والتشديد
ثم قال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فان لم يتعرضوا لكم وألقوا اليكم السلم أي الانقياد والاستسلام وقرىء بسكون اللام مع فتح السين فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم واختلف المفسرون فقال بعضهم الآية منسوخة بآية السيف وهي قوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) وقال قوم انها غير منسوخة أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال انها منسوخة
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنِة ِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قال المفسرون هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا وغرضهم أن يأمنوا المسلمين فاذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِة ِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُواْ فِيِهَا أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
والمعنى فان لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ونظيره قوله تعالى رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 ) وقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( البقرة 190 ) فخص(10/179)
الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشرط عدم عند عدم الشرط وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 )
ثم قال وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً
وفي السلطان المبين وجهان الأول أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام الثاني أن السلطان المبين هو إذن الله تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين انه كان مسلما فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول انه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فلما سمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ازداد وقع حذيفة عنده فنزلت هذه الآية
الرواية الثانية أن الآية نزلت في أبي الدرداء وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال الرجل لا إله إلا الله فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه الصلاة والسلام ( هلا شققت عن قلبه ) وندم أبو الدرداء فنزلت الآية(10/180)
الرواية الثالثة روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا لأبي جهل من أمه أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث فقال أبو جهل أليس أن محمداً يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه وجلده أبو جهل مائة جلدة وجلده الحرث مائة أخرى فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله علي إن وجدتك خالي أن أقتلك وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع ان كان دينك الأول هدى فقد تركته وان كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر فلقيه عياش خالياً ولم يشعر باسلامه فقتله فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قتلته ولم أشعر باسلامه فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قوله تعالى الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ فيه وجهان الأول أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه الثاني ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف
المسألة الثالثة قوله إِلا فيه قولان الأول أنه استثناء متصل والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها الأول ان هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى لأن قوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ معناه أنه يؤاخذ الانسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فانه لا يؤاخذ به الثاني أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فانه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا الثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير وما كان مؤمن ليقتل مؤمناً إلا خطأ ومثله قوله تعالى يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) تأويله ما كان الله ليتخذ من ولد لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء إنما ينفي عنه ما لا يليق به وأيضا قال تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( النمل 60 ) معناه ما كنتم لتنبتوا لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها فانه تعالى هو القادر على إنبات الشجر الرابع أن وجه الاشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل وهو أن يقال الاستثناء من النفي إثبات وهذا يقتضي الاطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال وذلك محال إلا أن هذا الاشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات وذلك مختلف فيه بين الأصوليين والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه واذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالاثبات وحينئذ يندفع الاشكال ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس باثبات قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي ) ويقال لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم الخامس قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا الا أن يقتله(10/181)
خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا قال والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا الا أن يكون خطأ فانه لا يخرجه عن كونه مؤمنا واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن وهو أصل باطل والله أعلم
القول الثاني أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن ونظيره في القرآن كثير قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ( النجم 53 ) وقال لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً والله أعلم
المسألة الرابعة في انتصاب قوله خطأ وجوه الأول أنه مفعوله له والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا لكونه خطأ الثاني أنه حال والتقدير لا يقتله ألبتة إلا حال كونه خطأ الثالث أنه صفة للمصدر والتقدير إلا قتلا خطأ
قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله القتل على ثلاثة أقسام عمد وخطأ وشبه عمد
أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن وهذا قول الشافعي
وأما الخطأ فضربان أحدهما أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
أما شبه العمد فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه قال الشافعي رحمه الله هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب
المسألة الثانية قال أبو حنيفة القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ وشبه عمد فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة ولا يجب فيه القصاص وقال الشافعي رحمه الله إنه عمد محض يجب فيه القصاص أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ ( القصص 19 ) وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز فثبت أن القبطي سماه قتلا وأيضاً ان موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال رَبّى إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز وأيضا ان الله تعالى سماه قتلا حيث قال وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( طه 40 ) فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) فسماه قتلا فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فان من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم فثبت أنه قتل عمد عدوان فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول(10/182)
أما النص فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ( الإسراء 33 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 )
وأما المعقول فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 ) وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار والاهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الاهدار إنما التفاوت حاصل في آلة الاهدار والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد واحتجوا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا
والجواب أن قوله ( قتيل الخطأ ) يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه وقد بينا أن من خنق إنساناً أو ضرب رأسه بحجر الرحا ثم قال ما كنت أقصد قتله فان كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة القتل العمد لا يوجب الكفارة وقال الشافعي يوجب احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط فيقال له إنه تعالى قال حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) فقوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم فكذلك ههنا ثم نقول الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس
أما الخبر فهو ما روى واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار
وأما القياس فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه الله من النار والحاجة الى هذا المعنى في القتل العمد أتم فكانت الحاجة فيه الى ايجاب الكفارة أتم والله أعلم
وذكر الشافعي رضي الله عنه حجة أخرى من قياس الشبه فقال لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الاحرام سوينا بين العامد وبين الخاطىء إلا في الاثم فكذا في قتل المؤمن ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال نص الله تعالى هناك في العامد وأوجبنا على الخاطىء فههنا نص على الخاطىء فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد الى الاعتاق المخلص له عن النار أشد كان ذلك أولى
المسألة الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي لا تجزى الرقبة إلا إذا صام وصلى وقال الشافعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم يجزى الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما حجة ابن عباس هذه الآية فانه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة والمؤمن من يكون موصوفا بالايمان(10/183)
والايمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي فلم يكن مؤمنا فوجب أن لا يجزى حجة الفقهاء أن قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً يدخل فيه الصغير فكذا قوله خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ فوجب أن يدخل فيه الصغير
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله الدية في العمد المحض وفي شبه العمد مغلظة مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها
وأما في الخطأ المحض فمخففة عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بنو لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وأما أبو حنيفة فهو أيضاً هكذا يقول في الكل إلا في شيء واحد فانه أوجب بني مخاض بدلا عن بنات لبون حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفية الدية فرجعنا في معرفة الكيفية إلى السنة والقياس فلم نجد في السنة ما يدل عليه
وأما القياس فانه لا مجال للمناسبات والتعليلات المعقولة في تعيين الأسباب وتعيين الأعداد فلم يبق ههنا مطمع إلا في قياس الشبه ونرى أن الدية وجبت بسبب أقوى من السبب الموجب للزكاة ثم إنا رأينا أن الشرع لم يجعل لبني مخاض دخلا في باب الزكاة فوجب أن لا يكون لها دخل في باب الدية أيضاً وحجة أبي حنيفة أن البراءة كانت ثابتة والأصل في الثابت البقاء فكانت البراءة الأصلية باقية ولا يعدل عن هذا الدليل إلا لدليل أقوى منه فنقول الأول هو المتفق عليه فاعترفنا بوجوبه وأما الزائد عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي
والجواب أن الذمة مشغولة بوجوب الدية والأصل في الثابت البقاء وقد رأينا حصول الاتفاق على السقوط بأداء أكثر ما قيل فيه فوجب أن لا يحصل ذلك السقوط عند أداء أقل ما فيه والله أعلم
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إذا لم توجد الابل فالواجب إما ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وقال أبو حنيفة بل الواجب عشرة آلاف درهم حجة الشافعي ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم فلما استخلف عمر رضي الله عنه قام خطيبا وقال إن الابل قد غلت أثمانها ثم إن عمر فرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق أثنى عشر ألفا وجه الاستدلال أن عمر ذكر ذلك في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فكان إجماعا حجة أبي حنيفة أن الأخذ بالأقل أولى وقد سبق جوابه
المسألة السابعة قال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج الدية واجبة على القاتل قالوا ويدل عليه وجوه الأول أن قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ لا شك أنه إيجاب لهذا التحرير والايجاب لا بد فيه من شخص يجب عليه ذلك الفعل والمذكور قبل هذه الآية هو القاتل وهو قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً فهذا الترتيب يوجب القطع بأن هذا التحرير إنما أوجبه الله تعالى عليه لا على غيره والثاني أن هذه الجناية صدرت منه والمعقول هو أن الضمان لا يجب إلا على المتلف أقصى ما في الباب أن هذا الفعل صدر عنه على سبيل الخطأ ولكن الفعل الخطأ قائم في قيم المتلفات وأروش الجنايات مع أن تلك الضمانات لا تجب الى على المتلف فكذا ههنا الثالث أنه تعالى أوجب في هذه الآية شيئين تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية الكاملة ثم انعقد الاجماع على أن التحرير واجب على الجاني فكذا الدية يجب أن تكون(10/184)
واجبة على القاتل ضرورة أن اللفظ واحد في الموضعين الرابع أن العاقلة لم يصدر عنهم جناية ولا ما يشبه الجناية فوجب أن لا يلزمهم شيء للقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 29 ) وقال لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما الخبر فما روي أن أبا رمثة دخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه ابنه فقال عليه الصلاة والسلام من هذا فقال ابني قال انه لا يجني عليك ولا تجني عليه ومعلوم أنه ليس المقصود منه الاخبار عن نفس الجناية إنما المقصود بيان أن أثر جنايتك لا يتعدى إلى ولدك وبالعكس وكل ذلك يدل على أن إيجاب الدية على الجاني أولى من إيجابها عل الغير الخامس أن النصوص تدل على أن مال الانسان معصوم وأنه لا سبيل لأحد أن يأخذه منه قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقال ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) وقال ( لا يحل مال المسلم إلا بطيبة من نفسه ) تركنا العمل بهذه العمومات في الأشياء التي عرفنا بنص القرآن كونها موجبة لجواز الأخذ كما قلنا في الزكوات وكما قلنا في أخذ الضمانات وأما في إيجاب الدية على العاقلة فالمعتمد فيه على خبر الواحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز لأن القرآن معلوم وخبر الواحد مظنون وتقديم المظنون على المعلوم غير جائز ولأن هذا خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى فيرد ولأنه خبر واحد ورد على مخالفة جميع أصول الشرائع فوجب رده وأما الفقهاء فقد تمسكوا فيه بالخبر والأثر والآية أما الخبر فما روى المغيرة أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عاقلة الضاربة بالغرة فقام حمل بن مالك فقال كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا من سجع الجاهلية وأما الأثر فهو أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل عن مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها وعلي كان ابن أخي صفية وقضى للزبير بميراثها فهذا يدل على أن الدية إنما تجب على العاقلة والله أعلم
المسألة الثامنة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل وقال الأصم وابن عطية ديتها مثل دية الرجل حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل فكذلك في الدية وحجة الأصم قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية والله أعلم
المسألة التاسعة انفقوا على أن دية الخطأ مخففة في ثلاث سنين الثلث في السنة والثلثان في السنتين والكل في ثلاث سنين استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه فيه أحد من السلف فكان إجماعا
المسألة العاشرة لا فرق في هذه الدية بين أين يقضي منها الدين وتنفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه فشهد بعض من الصحابة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك وإذ قد ذكرنا هذه المسائل فلنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ معناه فعليه تحرير رقبة والتحرير عبارة عن جعله حرا والحر هو الخالص ولما كان الانسان في أصل(10/185)
الخلقة خلق ليكون مالكا للأشياء كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فكونه مملوكا يكون صفة تكدر مقتضى الانسانية وتشوشها فلا جرم سميت إزالة الملك تحريراً أي تخليصا لذلك الانسان عما يكدر إنسانيته والرقبة عبارة عن النسمة كما قد يجعل الرأس أيضا عبارة عن نسمة في قولهم فلان يملك كذا رأسا من الرقيق والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند الفقهاء وعند ابن عباس لا تجزي إلا رقبة قد صلت وصامت وقد ذكرنا هذه المسألة وقوله وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ قال الواحدي الدية من الودي كالشية من الوشي والأصل ودية فحذفت الواو يقال ودى فلانا فلانا أي أدى ديته إلى وليه ثم ان الشرع خصص هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس دون ما يؤدى في بدل المتلفات ودون ما يؤدى في بدل الاطراف والاعضاء
ثم قال تعالى إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد ومعنى التصدق الاعطاء قال الله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ ( يوسف 88 ) والمعنى إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية قال صاحب ( الكشاف ) وتقدير الآية ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه وعلى هذا فقوله أَن يَصَّدَّقُواْ في محل النصب على الظرف ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين
ثم قال تعالى فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ
فاعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة
إذا ثبت هذا فنقول كلمة ( من ) في قوله مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب أو المراد كونه ذا نسب منهم والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام وجميع أقاربه يكونون كفارا فاذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة فأما وجوب الدية فلا قال الشافعي رحمه الله وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب وأما الكفارة فانها حق الله تعالى لأنه لما صار ذلك الانسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله فاذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية ويقتضي بقاء الكفارة والله أعلم(10/186)
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان الأول ان المراد منه المسلم وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك ان هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله وَإِن كَانَ لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ فوجب حمل اللفظ عليه
القول الثاني أن المراد منه الذمي والتقدير وان كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه الأول أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وانه لا يجوز بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب فانه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز الثاني أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه الثالث ان قوله وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما فان كونه منهم مجمل لا يدري أنه منهم في أي الأمور وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الاجمال فكان ذلك أولى وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه
أما الأول فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب فبين أن الدية لا تجب في قتله وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة وبين وجوب الدية والكفارة في قتله والغرض منه اظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله
وأما الثاني فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم
وأما الثالث فجوابه أن كلمة ( من ) صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة ( في ) يعني في قوم عدو لكم فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمى مثل دية المسلم وقال الشافعي رحمه الله تعالى دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ المراد به الذمي ثم قال فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فأوجب تعالى فيهم تمام الدية ونحن نقول إنا بينا أن الآية نازلة(10/187)
في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقداراً معينا ودية الذمي مقداراً آخر فان الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع والنزاع ما وقع إلا فيه فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة ) 58 ) وفي آية أخرى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) وَادْخُلُواْ الْبَابَ ( البقرة 154 الأعراف 161 ) والله أعلم
المسألة الثالثة في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم أهل الذمة من أهل الكتاب الثاني قال الحسن هم المعاهدون من الكفار
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس وقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ انتصب بمعنى صيام ما تقدم كأنه قيل اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم وهو كما يقال فعلت كذا حذر الشر
فان قيل قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ
قلنا فيه وجوه الأول أن فيه نوعين من التقصير فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي فلو أنه بالغ في الاحتياط والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب أنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فانه لا يقع في تلك الواقعة فقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط
الوجه الثاني في الجواب أن قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه وذلك لأن الله تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لارادة التخفيف إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم
الوجه الثالث في الجواب أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فانه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى الله تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ فان الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الانسان إلا بما يختار ويتعمد
واعلم أن أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال الله تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا معنى كونه تعالى(10/188)
حكيما كونه عالما بعواقب الأمور وقالت المعتزلة هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال
والجواب أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله فالأحكام والاعلام عائدان إلى كيفية الفعل والله أعلم
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الاثم والوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين أحدهما على القطع بوعيد الفساق والثاني على خلودهم في النار ووجه الاستدلال أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد الاستغراق وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وبالغنا في الجواب عنها وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة قال وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها اما تخصيص واما معارضة وإما إضمار واللفظ لا يدل على شيء من ذلك قال والذي أعتمده وجهان الأول إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة والثاني أن قوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ معناه الاستقبال أي انه سيجزى بجهنم وهذا وعيد قال وخلف الوعيد كرم وعندنا أنه يجوز ان يخلف الله وعيد المؤمنين فهذا حاصل كلامه الذي زعم انه خير مما قاله غيره
وأقول أما الوجه الأول فضعيف وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فاذا ثبت ان اللفظ الدال على الاستغراق حاصل فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم فيسقط هذا الكلام بالكلية ثم نقول كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر وبيانه من وجوه الأول انه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون اليه عند اشتغالهم بالجهاد فابتدأ بقوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( النساء 92 ) فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات كفارة قتل المسلم في دار الإسلام وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين فان لم(10/189)
يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف وعلى هذا التقدير فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار الثالث أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبهذا الطريق عرفنا أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا ( النور 2 ) الموجب للقطع هو السرقة والموجب للجلد هو الزنا فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم فلزم كون ذلك الحكم معللا به واذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال أينما ثبت هذا المعنى فانه يحصل هذا الحكم وبهذا الوجه لا يبقى لقوله الآية مخصوصة بالكافر وجه
الوجه الرابع أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص فان كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر ألبتة في هذا الوعيد وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال ان من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ومعلوم ان ذلك باطل وان كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد وحينئذ يسقط هذا السؤال فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء
وأما الوجه الثاني من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر فاذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله وهذا خطأ عظيم بل يقرب من أن يكون كفراً فان العقلاء أجمعوا على انه تعالى منزه عن الكذب ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال إن الخلف في الوعيد كرم فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء وحكى القفال في تفسيره وجها آخر هو الجواب وقال الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا إلا أني لا أفعله وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء الى المستحقين قال تعالى مَن يَعْمَلُ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل اليهم هذا الجزاء وهو قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(10/190)
فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا فلو كان قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار فكان ذلك أولى
واعلم أنا نقول هذه الآية مخصوصة في موضعين أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فانه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فانه لا يحصل فيه الوعيد وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وأيضاً فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 )
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة وقال جمهور العلماء إنها مقبولة ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أن الكفر أعظم من هذا القتل فاذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول
الحجة الثانية قوله تعالى في آخر الفرقان وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 68 69 70 ) وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى
الحجة الثالثة قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى والله أعلم
تم الجزء العاشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر وأوله قول تعالى
عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 94 ) من سورة النساء أعان الله على إكماله(10/191)
بداية الجزء الحادى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(11/2)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
قوله تعالى عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ
أعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين وأمر المجاهدين بالتثبيت فيه لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي هنا وكذلك في الحجرات فَثَبّتُواْ من ثبت ثباتاً والباقون بالنون من اليان والمعنيان متقاربان فمن رجح التثبيت قال إنه خلاف الإقدام والمراد في الآية التأني وترك العجلة ومن رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين فكان التبيين أبلغ وأكمل
المسألة الثانية الضرب معناه السير فيها بالفسر للتجارة أو الجهاد وأصله من الضرب باليد وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنساناً كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير قال الزجاج ومعنى ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ( النحل 87 ) أي استسلموا للأمر ومن قرأ السَّلَامُ بالألف فله معنيان أحدها أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين أي لا تقولوا لمن حياتكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذاً فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره والثاني أن يكون المعنى لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقتلكم لست مؤمناً وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة قال صاحب الكشاف قرىء مُؤْمِناً بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك
المسألة الثالثة في سبب نزول هذه الآية روايات
الرواية الأولى أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فذهبت سرية(11/3)
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه فأخبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد وجداً شديداً وقال قتلمتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة يا رسول الله استغفر لي فقال فكيف وقد تلا لا إله إلا الله قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال أعتنق رقبة
الرواية الثانية أن القاتل ملحم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياه بتحية الإسلام وكانت بين ملحم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لا غفر الله لك ) فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الذنب عنده ) ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة
الرواية الثالثة أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال فقلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة فقال أسلمت لله تعالى أفأقتله يا رسول الله بعد ذلك فقال رسول الله لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد ما تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) وعن أبي عبيدة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا إشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح ) قال القفال رحمه الله ولا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه الأول هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره بل أوجب ذلك في الكل
الحجة الثانية قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهو عام في جميع أصناف الكفرة
الحجة الثالثة أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( الشورى 25 ) وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخق
المسألة الخامسة إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة وقال الشافعي لا يصح قال أبو حنيفة دلّت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عام في حق الصبي وفي حق البالغ قال الشافعي لو صح الإسلام منه لوجب لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذناً في الكفر وهو غير جائز لكنه غير واجب عليه لقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث والله أعلم
المسألة السادسة قال أكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فعند قوم لا يحكم بإسلامه لأنه فيهم من يقول إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل ومنهم من(11/4)
يقول إن محمداً الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء وسيجيء بعد ذلك بل لا بدّ وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم
ثم قال تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر والعرض بسكون الراء ما سوى الدراهم والدنانير وإنما سمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير باق ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضاً لقلة لبثه فقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ يعني ثواباً كثيراً فنبّه تعالى بتسميته عرضاً على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء وبقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( مريم 76 )
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السم وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوهاً الأول أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر القول وأن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين وفي إشكال لأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر
الوجه الثاني قال سعيد بن جبير المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه ثم منَّ الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة وهذا أيضاً فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم الثالث قال مقاتل المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كمنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة ( لا إله إلا الله ) فاقبلوا منهم مثل ذلك وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول والأقرب عندي أن يقال إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال فكأنه قيل لهم كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم يقوي تلك الرغبة في صدورهم فهذا ما عندي فيه(11/5)
ثم قال تعالى فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وفيه احتمالان الأول أن يكون هذا متعلقاً بقوله كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلاً بسبب ضعيف ثم منَّ الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له والثاني أن يكون هذا منقطعاً عن هذا الموضع ويكون متعلقاً بما قبله وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر
ثم أعاد الأمر بالتبيّين فقال فَتَبَيَّنُواْ وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار
96 ) لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
أعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد فالنوع الأول من أحكام الجهاد تحذير المسلمين عن قتل المسلمين وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف وعلى سبيل العمد كيف وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية
الوجه الثاني لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة
الوجه الثالث أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد كأنه قيل من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة والله أعلم وفي الآية مسائل(11/6)
المسألة الأولى قرىء غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ بالحركات الثلاث في غَيْرِ فالرفع صفة لقوله الْقَاعِدُونَ والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون ونظيره قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَة ِ ( النور 31 ) وذكرنا جواز أن يكون غَيْرِ صفة المعرفة في قوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ( الفاتحة 7 ) قال الزجاج ويجو أن يكون غَيْرِ رفعاً على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) و ( أما القراءة بالنصل ففيها وجهان الأول أن يكون استثناء القاعدين والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر وهو اختيار الأخفش الثاني أن يكون نصباً على الحال والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون كما تقول جاءني زيد غير مريض أي جاءني زيد صحيحاً وهذا قول الزجاج والفرّاء وكقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ ( المائدة 1 ) وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل غَيْرِ صفة للمؤمنين فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات
ثم ههنا بحث آخر وهو أن الأخفش قال القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حالتنا كما ترى ونحن نشتهي الجهاد فهل لنا من طريق فنزل غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين وقال آخرون القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الإستثناء حاصل منها لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية وإذا كان هذا المقصود حاصلاً على كل التقديرين وكان الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى
المسألة الثانية الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض أو كان بسبب عدم الأهبة
المسألة الثالثة حاصل الآية لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله واختلفوا في أن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا قال بعضهم أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ غَيْرِ على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضاً ذلك أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة وأعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكر الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى إلى قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ( التوبة 91 )
وأعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد ويدل عليه النقل والعقل أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته ( لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا مرض العبد قال الله عز وجلّ اكتبوا لعبدي ما كن يعمله في الصحة إلى أن يبرأ ) وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(11/7)
( التين 5 6 ) أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئاً وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام ( نية المؤمن خير من عمله ) أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبداً خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب وإن كان القاعد أكثر حظاً من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثواباً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( التوبة 111 ) فقدم ذكر النفس على المال وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ قدم ذكر المال على النفس فما السبب فيه
وجوابه أن النفس أشرف من المال فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب
وأعلم أنه تعالى لما بيّن أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان لا جرم كشف تعالى عنه فقال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وفي انتصاب قوله دَرَجَة ً وجوه الأول أنه يحذف الجار والتقتدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني قوله دَرَجَة ً أي فضيلة والتقدير وفضل الله المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمراً إكراماً والفائدة في التنكير والتفخيم الثالث قوله دَرَجَة ً نصب على التمييز
ثم قال وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى وقال الفقهاء وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجباً على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه الحسنى
ثم قال تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله أَجْراً وجهان الأول انتصب بقوله وَفَضَّلَ لأنه في معنى قولهم آجرهم أجراً ثم قوله دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً بدل من قوله أَجْراً الثاني انتصب على التمييز و دَرَجَاتٌ عطف بيان وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً معطوفان على دَرَجَاتٌ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى ذكر أولاً دَرَجَة ً وههنا دَرَجَاتٌ وجوابه من وجوه الأول المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد بل بالجنس والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع وذلك هو الأجر العظيم والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة الثاني أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء(11/8)
الثالث فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة الرابع قال في أول الآية وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط وإلا حصل التكرار فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهداً على الإطلاق في كل الأمور أعني في عمل الظاهر وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة كما قال عليه السلام ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة وفضيلة هذا الثاني درجات
المسألة الثالثة قالت الشيعة دلّت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر وذلك لأن عليا كان أكثر جهاداً فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه وعلي من القائمين وإذا كان كذلك وجب أن يكون عليّ أفضل منه لقوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فيقال لهم إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك فليزمكم بحكم هذه الآية أن يكون عليّ أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا لا يقوله عاقل فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد فنقول فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه وبماله وعلي في ذلك الوقت كان صبياً ما كان أحد يسلم بقوله وما كان قادراً على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً والثاني أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلّت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل وأيضاً لو لم يكن العمل موجباً للثواب لكان الثواب هبة لا أجراً لكنه تعالى سماه أجراً فبطل القول بذلك فيقال لهم لم لا يجوز أن يقال العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل بجعل الشارع ذلك العمل موجباً له
المسألة الخامسة قالت الشافعية دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعوداً من عند الله بالحسنى
إذا ثبت هذا فنقول إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ثم إن قوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يتناول جميع المجاهدين(11/9)
سواء كان جهاده واجباً أو مندوباً والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء إن شئت جعلت تَوَفَّاهُمُ ماضياً ولم تضم تاء مع التاء مثل قوله إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا وإن شئت جعلته مستقبلاً والتقدير إن الذين تتوفاهم الملائكة وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة
المسألة الثانية في هذا التوفي قولان الأول وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت
فإن قيل فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ( السجدة 11 )
قلنا خالق الموت هو الله تعالى والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه
القول الثاني نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ يعني يحشرونهم إلى النار وهو قول الحسن
المسألة الثالثة في خبر ( إن ) وجوه الأول أنه هو قوله قالوا لهم فيم كنتم فحذف ( لهم ) لدلالة الكلام عليه الثاني أن الخبر هو قوله فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فيكون ( قالوا لهم ) في موضع ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ لأنه نكرة الثالث أن الخبر محذوف وهو هلكوا ثم فسّر الهلاك بقوله قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ أما قوله تعالى ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ في محل النصب على الحال والمعنى تتوفاهم الملائكة في(11/10)
حال ظلمهم أنفسهم وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال كأنه قيل ظالمين أنفسهم ءلا أنهم حذفوا النون طلباً للخفة واسم الفاعل سواء أُريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولاً في المعنى وإن كان موصولاً في اللفظ وهو كقوله تعالى هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 ) هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) ثَانِى َ عِطْفِهِ ( الحج 9 ) فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية
المسألة الثانية الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) وفي المراد بالظلم في هذه قولان الأول أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ولم يهاجروا إلى دار الإسلام الثاني أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة
وأما قوله تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ففيه وجوه أحدها فيم كنتم من أمر دينكم وثانيها فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه وثالثها لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار
ثم قال تعالى قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ جواباً عن قولهم فِيمَ كُنتُمْ وكان حق الجواب أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء
وجوابه أن معنى فِيمَ كُنتُمْ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فقالوا كما مستضعفين اعتذاراً عما وبخوا به واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم بل مع القدرة على هذه المفارقة فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً
ثم استثنى تعالى فقال إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً ونظيره قول الشاعر
ولقد أمر على اللئيم يسبني
ويجوز أن يكون لاَ يَسْتَطِيعُونَ في موضع الحال والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة أو كان بهم مرض أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة
ثم قال وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه احملوني فإني لسيت من المستضعفين ولا أني لا أهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً فمات في الطريق
فإن قيل كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا(11/11)
مستحقين للوعيد على بعض الوجوه
قلنا سقوط الوعيد إذا كان بسبب العحز والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا فلا جرم حسن هذا إذا أُريد بالولدان الأطفال ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى وإن أُريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال
ثم قال تعالى فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وفيه سؤال وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة والعاجز عن الشيء غير مكلف به وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة فلم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب وأيضاً عَسَى كلمة الإطماع وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم
والجواب عن الأول أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام
وأما السؤال الثاني وهو قوله ما الفائدة في ذكر لفظة عِيسَى ههنا فنقول الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عني فكيف الحال في غيره هذاهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) في الجواب عن هذا السؤال إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزاً عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة عَسَى لا بالكلمة الدالة على القطع
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ذكر الزجاج في كَانَ ثلاثة أوجه الأول كان قبل أن خلق الخلق موصوفاً بهذه الصفة الثاني أنه قال كَانَ مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه الثالث لو قال إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخباراً عن كونه كذلك فقط ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخباراً وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقاً وحقاً ومبرأ عن الخلف والكذب واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه
وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(11/12)
واعلم أن ذلك المانع أمران الأول أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش فأجاب الله عنه بقوله وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً يقال راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل واشتقاقه من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون رغم أنفه يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن الذل
إذا عرفت هذا فنقول المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم والحاصل كأنه قيل يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سبباً لرغم أنوف أعدائك ويكون سبباً لسعة عيشك وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سبباً لرغم أنوف الأعداء أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث أنها صارت سبباً لسعة العيش عليه
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه وربما لا أصل إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ والمعنى ظاهر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل وأما أجر تمام العمل فذلك محال واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية ههنا في معرض الترغيب في الجهاد وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة فقد وجد ثواب الهجرة ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل فلا يصلح مرغباً لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ( وإنما لك امريء ما نوى ) وأيضاً ما روي في قصلاة جندب بن ضمرة أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول اللّهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لو توفي بالمدينة لكان خيراً له فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأنه تعالى قال(11/13)
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه أحدها أنه ذكر لفظ الوقوع وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط قال تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 26 ) أي وقعت وسقطت وثانيها أنه ذكر بلفظ الأجر والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة فأما الذي لا يكون مستحقاً فذاك لا يسمى أجراً بل هبة وثالثها قوله عَلَى اللَّهِ وكلمة عَلَى للوجوب قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) والجواب أننا لا ننازع في الوجوب لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإل هية وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم
المسألة الثالثة استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة كما وجب أجره وهذا ضعيف لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر وأيضاً فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء ( الأنفال 41 ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال يالواحدي يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس تقصروا من أقصر وقرأالزهري من قصر وهذا دليل على اللغات الثلاث
المسألة الثانية اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف لأنه ليس صريحاً في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها فلا جرم حصل في الآية قولان الأول أن المراد منه صلاة المسافر وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات فإنها تصير في السفر ركعتين فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء أما المغرب والصبح فلا يدخل فيهما القصر الثاني أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر بل صلاة الخوف وهو قول ابن عباس وجابر بن عبدالله وجماعة قال ابن عباس فرض الله صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا المراد من القصر تقليل الركعات
القول الثاني أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات وهو أن يكتفي في الصلاة(11/14)
بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود وأن يجوز المشي في الصلاة وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال وهذا ضعيف لأنه يمكن أن يقال إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصلياً أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا وهو أن القصر مشعر بالتخفيف والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة فائماً مقام الركوع والسجود
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوماً عندهم من معنى الآية الثاني أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء ويقتصر عليه فأما أن يؤتى بشيء آخر فذلك لا يسمى قصراً ولا اقتصاراً ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم ليس شيء من ذلك قصراً بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء رخر فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى
الثالث أن مِنْ في قوله مِنَ الصَّلواة ِ للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة
الرابع أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ولهذا المعنى لما صلّى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر ركعتين قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت الخامس أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات لئلا يلزم التكرار والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القصر رخصة فإن شاء المكلف أتم وإن شاء اكتفى على القصر وقال أبو حنيفة القصر واجب فإن صلّى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه الأول أن ظاهر قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ مشعر بعدم الوجوب فإنه لا يقال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ في أداء الصلاة الواجبة بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات بل تخفيف الأعمال
وأعلم أنا بيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره فسقط هذا العذر وذكر صاحب ( الكشاف ) وجهاً آخر فيه فقال إنهم لما ألفوا الاتمام فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى(11/15)
عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر فيقال له هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الاتمام وجلعته مفسداً لصلاتكم فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلاً فلا يكون هذا الكلام لائقاً به
الحجة الثانية ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت اعتمرت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة إلى مكة فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال أحسنت يا عائشة وما عاب علي وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه
الحجة الثالثة أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز لا على سبيل التعيين جزماً فكذا ههنا واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال فيه ( سدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) فظاهر الأمر للوجوب وعن أبي عباس قال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين
والجواب أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعاً جائزاً إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ولما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصراً في صلاة السفر بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر والله أعلم
المسألة الخامسة زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا إن قوله تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ جملة مركبة من شرط وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض والجزاء هو جواز القصر وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلاً أو قصيراً أقصى ما في الباب أن يقال فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة ومن دار إلى دار إلا أنا نقول
الجواب عنه من وجهين الأول أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض فقد زال الاشكال وإن سمي بذلك فنقول أجمع المسلمون على أنه غير معتبر فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع والعام بعد التخصيص حجة فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر سواء كان قليلاً أو كثيراً والثاني أن قوله وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد ومن المسجد إلى السوق وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطاً لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفراً ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد(11/16)
فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر أما الفقهاء فقالوا أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر قالوا والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات
فالرواية الأولي ما روي عن عمر أنه قال يقصر في يوم تام وبه قال الزهري والأوزاعي الثانية قال ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر والثالثة قال أنس بن مالك المعتبر خمس فراسخ الرابعة قال الحسن مسيرة ليلتين الخامسة قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير من الكوفة إلى المداين وهي مسيرة ثلاثة أيام وهو قول أبي حنيفة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد السادسة قال مالك والشافعي أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر قال أهل الظاهر اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر فكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط فلهذا سكتوا عن هذه المسألة
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً وإذا لم يكن مسافراً لم يحصل الرخص المشروعة في السفر وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان قال أهل الظاهر الكلام عليه من وجوه الأول أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وهو عندنا غير جائز لوجهين الأول إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم والقرآن مقطوع المتن والخبر مظنون المتن فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز والثاني أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه ) دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتب وجب أن يكون مردوداً
الوجه الثاني في دفع هذه الأخبار وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة إنما قلنا إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلاً متواتراً لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة وإذا كان الأمر كذلك(11/17)
فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها الثالث أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة وإذا تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن هذا تمام الكلام في هذا الموضع والذي عندي في هذا الباب أن يقال إن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم بدليل أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة وقع الطلاق وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع وهذا يدل على أن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان العموم البتة وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة ( إذا ) للعموم ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة والله أعلم
المسألة السادسة زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطاً بالحوف وهو قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ(11/18)
والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن قالوا ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوهاً متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام وعندي أنه ليس في هدا غموض وذلك لأتا بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن كلمة ( إن ) وكلمة ( إذا ) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى إِنْ خِفْتُمْ يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن ونحن لا نقول به
فإن قيل فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتاً حال الأمن وحال الخوف فما الفائدة في تقييده بحال الخوف
قلنا إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة ولا تكون محرمة ولا صحيحة والله أعلم ثم يقال لأهل الظاهر إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن إلا أنه بعيد وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم لأنه تعالى قال إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص ولهم أن يقولوا إما أن يقال حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف أو لم يحصل الإجماع فإن حصل الإجماع فنقول خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص والله أعلم
أما قوله إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي تفسير هذه الفتنة قولان الأول خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها الثاني إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة
ثم قال تعالى إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة وإنما قال عَدُوّا ولم يقل أعداء لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع قال تعالى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 )
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً وَاحِدَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ إِنَّ الصَّلَواة َ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً
أعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد بيّن في هذه الآية حالها في الكيفية وفيه مسائل(11/19)
المسألة الأولى قال أبو يوسف والحسن بن زياد صلاة الخوف كانت خاصة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تجوز لغيره وقال المزني كانت ثابتة ثم نسخت واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين الأول أن قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم لأن كلمة ( إذا ) تفيد الاشتراط الثاني أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة وأما سائر الفقهاء فقالوا لما ثبت هدا الحكم في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) ألا ترى أن قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) لم يوجب كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً به دون غيره من الأمة بعده وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض فاندفع هذا الكلام والله أعلم
المسألة الثانية شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون فيه أقوال الأول أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان وللقوم ركعة وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد الثاني أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين وهذا قول الحسن البصري الثالث أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ثم يبقى الإمام قائماً في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائماً في الركعة الثانية ركعة ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي الرابع أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهم في حكم من خلف الإمام وأما لاثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته وهذا قول عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة فلعله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام أما الواحدي رحمه الله فقال الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة وبين ذلك من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت عند إتيان الثانية وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما(11/20)
فرغوا منها الثاني أن قوله فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا الآية مطابقة لقولنا لأنه تعالى قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وهذا يدل عى أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة وأجاب الواحدي عنه فقال هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة وليس الأمر كذلك بل هو لطائفتين السجود للأولى والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم
ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ والمعنى فاجعلهم طائفتين فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا يأخذون من السلام ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه ويحتمل أن يكون ذلك أمراً للفريقين بحمل السلام لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط
ثم قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ
يعني غير المصلين مِن وَرَائِكُمْ يحرسونكم وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها
ثم قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي
ثم قال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين قال الواحدي رحمه الله وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة
فإن قيل لم ذكر في الآية الأولى أَسْلِحَتَهُمْ فقط وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم
قلنا لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
ثم قال تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً واحِدَة ً أي بالقتال عن ابي عباس وجابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلّى بأصحابه الظهر ورأى المشركون ذلك فقالوا بعد ذلك بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى فأطلع الله نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) على أسرارهم بهذه الآية
ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ(11/21)
والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطناً فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء أو لأجل أن الرجل كان مريضاً فيشق عليه حمل السلام فههنا له أن يضع حمل السلاح
ثم قال وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالنيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر لئلا يجترىء العدو عليهم احتيالاً في الميل عليهم واستغناماً منهم لوضع المسلمين أسلحتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله في أول الآية وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فيقتضي أن يكون أمذ السلاح واجباً ثم تأكد هذا بدليل آخر وهو أنه قال ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلاً بسبب وضع السلاح ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحاً نجساً إن أمكنه ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد
المسألة الثانية قال أبو على الجرجاني صاحب النظم قوله تعالى وخذوا حذركم يدل على أنه كان يجوز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين طائفة في وجه العدو وطظائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة وأما حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة والمسلمون كانوا مستقبلين لها فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى خُذُواْ حِذْرَكُمْ يدل على جواز هذه الوجوه والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز والله أعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إن الله تعالى أمر بالحذر وذلك يدل على كون العبد قادراً على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجباً والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وفيه سؤال أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله(11/22)
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وجوابه أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين فحيهئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ونظيره قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الأنفال 45 )
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ وفيه قولان الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه الثاني أن المراد بالذكر الصلاة يعني صلوا قياماً حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة وقعوداً حال اشتغالكم بالرمي وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالاً وهو أن يصير تقدير الآية فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين أولهما بيان القصر وهو صلاة السفر والثاني صلاة الخوف ثم إن قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ يحتمل نقيض الأمرين فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافراً بل يصير مقيماً وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها ولا تغيروا شيئاً من أحوالها وهيآتها ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً أي فرضاً موقتاً والمراد بالكتاب ههنا المكتوب كأنه قيل مكتوبة موقوتة ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعو والمصدر مذكر ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة يقال وقته ووقته مخففاً وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ ( المرسلات 11 ) بالتخفيف
واعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدّر بأوقات مخصوصة إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات وهي خمسة أحدها قوله تعالى بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) فقوله الصَّلَواتِ يدل على وجوب صلوات ثلاثة وقوله حَافِظُواْ عَلَى يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار فلا بدّ وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة وإلا لم يحصل فيها وسطى فلا بدّ من جعلها خمسة لتحصل الوسطى وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلّت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها وثانيها قوله(11/23)
تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ ( الإسراء 78 ) فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتاً واحداً وللمغرب والعشاء وقتاً واحداً وثالثها قوله سبحانه فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح ثم قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الروم 18 ) فقوله وَعَشِيّاً المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء وقوله وَحِينَ تُظْهِرُونَ المراد الصلاة الواقعة في محض النهار وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر فكذلك قدم في قوله وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الليل على ثلاة النهار في الذكر فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله وَالْعَصْرِ تشريفاً لها بالإفراد بالذكر ورابعها قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) فقوله طَرَفَى ِ النَّهَارِ يفيد وجوب صلاة الصبح وجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يفيد وجوب المغرب والعشاء وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال لأن الزلف جمع وأقله ثلاثة فلا بدّ وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملاً بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وخامسها قوله تعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ فقوله قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 130 ) إشارة إلى الصبح والعصر وهو كقوله وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) وقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ إشارة إلى المغرب والعشاء وهو كقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وكما احتجوا بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فكذلك احتجوا عليه بقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظراً إلى المعقول وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة أولها مرتبة الحدوث والدخول في الوجود وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء
والمرتبة الثانية مدة الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب
والمرتبة الثالثة مدة الكهولة وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة
المرتبة الخامسة أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنساناً أو غيره من الحيوانات أو النباتات والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس وذلك لأنها(11/24)
حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذهالأحوال الخمسة لها صلاة فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكراً للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيماً للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة وهو النقصان الخفي ثم لما انقضت مدة الحكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر ونعم ما قال الشافعي رحمه الله أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلاً له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية والله أعلم بأسرار أفعاله
وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال وَلاَ تَهِنُواْ أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ أي في طلب الكفار بالقتال ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال فلما لم يصر خوف الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف صار مانعاً لكم عن قتالهم ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر والمشركين لا يقرون بذلك فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون(11/25)
في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثواباً عظيماً وعليكم في تركه عقاباً عظيماً أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد وهو المراد من قوله تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) وفي قوله حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وفيه وجه ثالث وهو أنكم تعبدون الإل ه العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجوا ثوابه وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات فلا يصح منهم أن يرجوا من تلك الأصنام ثواباً أو يخافوا منها عقاباً وقرأ الأعرج إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ بفتح الهمزة بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ تعليل
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم
إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في كيفية النظم وجوه الأول أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب
والوجه الثاني في بيان النظم أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة بيّن أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قومه
الوجه الثالث أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بيّن أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق ثم في كيفية الواقعة روايات أحدها أن طعمة سرق درعاً فلما طلبت الدرع منه رمى واحداً من اليهود بتلك السرقة ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية وثانيها أن واحداً وضع عنده درعاً على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد فلما طلبها منه جحدها وثالثها أن المودع لما(11/26)
طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع واعلم أن العلماء قالوا هذايدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ومما يؤكد ذلك قوله تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 ) ثم روي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطاً هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله أَرَاكَ اللَّهُ إما أن يكون منقولاً بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر والثاني أيضاً باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما الكاف التي هي للخطاب والآخر المفعول المقدر وتقديره بما أراكه الله ولما بطل السمان بقي الثالث وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد
المسألة الثالثة اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ معناه بما أعلمك الله وسمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور وكان عمر يقول لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه وأما الواحد منا فرأيه يكون ظناً ولا يكون علماً
إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص
وإذا عرفت هذا فنقول تفرع عليه مسألتان إحداهما أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى واتبعوه ( الأعراف 158 ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حراماً
والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملاً بالنص في الحقيقة فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملاً بعين النص
أما قوله ولا تكن للخائنين خصيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ولا تكن لأجل الخائنين مخاصماً لمن كان بريئاً عن الذنب يعني لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين
المسألة الثانية قال الواحيد رحمه الله خصمك الذي يخاصمك وجمعه الخصماء وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه والخصم طرف الزاوية وطرف الأشفار وقيل للخصمين خصمان لأن كل(11/27)
واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى وخصوم السحابة جوانبها
المسألة الثالثة قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام دلّت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه السلاة والسلام فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه
والجواب أن النهي عن الشيء ة يقتضي كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه بل ثبت في الرواية أن قوم طعملاة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب وأن اليهودي برىء عن ذلك الجرم
فإن قيل الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً فلما أمره الله بالاستغفار دلّ على سبق الذنب
والجواب من وجوه الأول لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالستغفار لهذا القدر وحسنات الأبرار سيئات المقربين والثاني لعلّ القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذوراً عند الله فيه الثالث قوله وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ يحتمل أن يكون المراد واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى
وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
والمراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقاً والاختيان كالخيانة يقال خانه واختانه وذكرنا ذلك عند قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 187 ) وءنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم إنهم يختانون أنفسهم لأن من أقدم على المعصية قفد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب فكان ذلك منه خيانة مع نفسه ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره إنه ظلم نفسه
وأعلم أن في الآية تهديداً شديداً وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً قال المفسرون إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أثَيَّمَا(11/28)
فإن قيل لم قال خَوَّاناً أثَيَّمَا مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد
قلنا علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته وأيضاً طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم
وقيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمة تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر وأعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار يقال استخفيت من فلان أي تواريت منه واستترت قال تعالى وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ ( الرعد 10 ) أي مستتر فقوله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله قال ابن عباس يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله قال الواحدي هذا معنى وليس بتفسير وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم فأما أن يقال الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك وقوله وَهُوَ مَعَهُمْ يريد بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجراً للإنسان عن المعاصي وقوله إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله دبيت طائفة منهم ( النساء 81 ) والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي
فإن قيل كيف سمي التبييت قولاً وهو معنى في النفس
قلنا مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس وعلى هذا المذهب فلا إشكال ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه فأما قوله وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء(11/29)
ثم قال تعالى
هَاأَنْتُمْ هَاؤُلا ءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
ثم قال تعالى مُحِيطاً هَأَنْتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ها للتنبيه في وَإِذْ أَنتُمْ و هَؤُلاء وهما مبتدأ وخبر جَادَلْتُمْ جملة مبينة لوقوع أُوْلاء اسماً موصولاً بمعنى الذي و جَادَلْتُمْ صلة وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة وجدل الحبل شدة فتلة ورجل مجدول كأنه فتل والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة هذا قول الزجاج وقال غيره سميت المخاصمة جدالاً لأن كل واحد من المخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه
إذا عرفت هذا فنقول هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه وقرأ عبد الله بن مسعود ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه يعني عن طعمة وقوله فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع
ثم قال تعالى أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً فقوله أَمْ مَّن يَكُونُ عطف على الاستفهام السابق والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية والمعنى من الذي يكون محافظاً ومحامياً لهم من عذاب الله
وأعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول
وَمَن يَعْمَلْ سُو ءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً
والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالاً للضرر إلى الغير والضرر سوء حاضر فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه
وأعلم أن هذه الآية دالة على حكمين الأول أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفراً أو قتلاً عمداً أو غصباً للأموال لأن قوله وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ عم الكل الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف وقال بعضهم أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار وقوله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً معناه غفوراً رحيماً له وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه فإنه لا معنى للترغيب(11/30)
في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك
والنوع الثاني من الكلمات المرغبة في التوبة قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار كأنه تعالى يقول الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزّه عن النفع والضرر ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلبه عند إقدامه على التوبة حَكِيماً تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب
النوع الثالث قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ خَطِي ئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
وذكروا في الخطيئة والإثم وجوهاً الأول أن الخطيئة هي الصغيرة والإثم هو الكبيرة وثانيها الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل وثالثها الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ والإثم ما يحصل بسبب العمد والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ( النساء 111 ) فبيّن أن الإثم ما يكون سبباً لاستحقاق العقوبة
وأما قوله ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فالضمير في بِهِ إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول ثم يرم بأحد هذين المذكورين الثاني أن يكون عائداً إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا الثالث أن يكون عائداً إلى الكسب والتقدير يرم بكسبه بريئاً فدل يكسب على الكسب الرابع أن يكون الضمير راجعاً إلى معنى الخطيئة فكأنه قال ومن يكسب ذنباً ثم يرم به بريئاً
وأما قوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو برىء منه
وأعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب فقوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا وقوله وَإِثْماً مُّبِيناً إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(11/31)
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أن سارق ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء فيه وجهان الأول قال القفال رحمه الله وما يضرونك في المستقبل فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل الثاني أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
وأعلم أنا إن فسرنا قوله وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مؤكداً لذلك الوعد يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذوراً في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر
ثم قال تعالى وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
قال القفال رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ما يتعلق بالدين كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وعلى هذا الوجه تقدير الآية أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك
الوجه الثاني أن يكون المراد وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم ثم قال وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل كما قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسرار 85 ) ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلاً ثم أنه سمى ذلك القليل عظيماً حيث قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وسمى جميع الدنيا قليلاً حيث قال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وذلك يدل على غاية شرف العلم(11/32)
لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله النجوى في اللغة سر بين إثنين يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ويقال نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته والنجوى قد تكون مصدراً بمنزلة المناجاة قال تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون قال تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 )
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ ذكر النحويون في محل مِنْ وجوهاً وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصباً كقوله إِلاَّ أَذًى ( آل عمران 111 ) ويجوز أن يكون رفعاً في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله
إلا اليعافير وإلا العيس
وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف وعلى هذا التقدي يكون مِنْ في محل النجوى لأنه أقيم مقامه ويجوز فيه وجهان إحدهما الخفض بدل من نجواهم كما تقول ما مررت بأحد إلا زيد والثاني النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيداً وهذا استثناء الجنس من الاجنس وأما ان جعلنا النجوى اسماً للقوم المتناجين كان منصوباً على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس ويجوز أن يكون مِنْ في محل الخفض من وجهين أحدهما أن تجلعه تبعاً لكثير على معنى لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة كقولك لا خير في القوم إلا نفر منهم والثاني أن تجعله تبعاً للنجوى كما تقول لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت أتبعت زيداً الجماعة وإن شئت أتبعه القوم والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة والمراد لا خير فما ينتاجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع الأمر بالصدقة والأمر بالمعروف والاصلاح بين الناس وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال وإليه الإشارة بقوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف وإليه الإشارة بقوله بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ وأما إزالة الضرر فإليها(11/33)
الإشارة بقوله أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ فهو هذا بعينه أما مسعت الله يقول وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر ( 1 2 ) فهو هذا بعينه
ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى لها لوجه الله ولطلب مرضاته فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) وقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وههنا سؤالان
السؤال الأول لم انتصب ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ
والجواب لأنه مفعول له والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله
السؤال الثاني كيف قال إِلاَّ مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ
والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ويجوز أن يراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضاً فعل من الأفعال
وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
أعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ونقب جدار إنسان لأجل السرقة فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية أما الشقاق والمشاققة فقد ذكرنا في سورة البقرة أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر أو عن كون كل واحد منهما فاعلاً فعلاً يقتضي لحوق مشقة بصاحبه وقوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أي من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام قال الزجاج لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره وأظهر من سرقته ما دلّه ذلك على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن دين الإسلام فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تبين له الهدى قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ(11/34)
يعني غير دين الموحدين وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان
ثم قال نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه قال بعضهم هذا منسوخ بآية السيف لا سيما في حق المرتد
ثم قال وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يعني نلزمه جنهم وأصله الصلاء وهو لزوم النار وقت الاستدفاء وَسَاءتْ مَصِيراً انتصب مَصِيراً على التمييز كقولك فلان طاب نفساً وتصبب عرقاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجباً بيان المقدمة الأولى أنه تعالى الحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجباً له لكان ذلك ضماً لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وإنه غير جائز فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجباً وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراماً وإذا كان عدم اتباعهم حراماً كان اتباعهم واجباً لأنه لا خروج عن طرفي النقيض
فإن قيل لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين
وأجيب عن هذا السؤال بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين فوجب كونه متبعاً لهم ولقائل أن يقول الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير وإلا لزم أن يقال الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث أنهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله ومعلوم أن ذلك لا يقال بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين فهذا سؤال قوي على هذا الدليل وفيه أبحاث أُخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثانية دلّت هذه الآية على وجوب عصمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن جميع الذنوب والدليل عليه أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققاً له لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أنه يجب الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في أفعاله إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة لكن المشاقة محرمة فيلزم وجوب الاقتداء في أفعاله(11/35)
المسألة الرابعة قال بعض المتقدمين كل مجتهد مصيب في الأصول لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطىء واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلاً
وجوابه وهو دلالة ظنية عند من يقول به والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) والقاطع لا يعارضه المظنون
المسألة الخامسة الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى ولو لم يكن تبين الهدى معتبراً في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى
المسألة السادسة الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لو كان الهدى اسماً للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وأنه فاسد
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاٌّ نْعَامِ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة وفي تكرارها فائدتان الأولى أن عمومات الوعيد وعمومات(11/36)
الوعد متعارضة في القرآن وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين وقد أعاد ههذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد
والفائدة الثانية أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع وقوله وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( النساء 115 ) إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروماً عن رحمتي ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروماً قطع عن رحمة الله ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيداً فلا جرم لا يصير محروماً عن رحمتي وهذه الناسبابت دالة قطعاً على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً سواء حصلت التوبة أو لم تحصل ثم إنه تعالى بيّن كون الشرك ضلالاً بعيداً فقال إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ءانٍ ههنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) و يَدَّعُونَ بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فءنه يدعوه عند احتياجه إليه وقوله إِلاَّ إِنَاثاً فيه أقوال الأول أن المراد هو الألأثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى واللات تأنيث الله والعزى تأنيث العزيز قال الحسن لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها إلا أوثاناً وقراءة ابن عباس إلا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( المرسلات 11 ) قال الزجاج وجائز أن يكون أثن أصلها أثن فأتبعت الضمة الضمة
القول الثاني قوله إِلاَّ إِنَاثاً أي إلا أمواتاً وفي تسمية الأموت إناثاً وجهان الأول أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى تقول هذه الأحجار تعجبني كما تقول هذه المرأة تعجبني الثاني أن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات
القول الثالث أن بعضهم كان يعبد الملائكة وكانوا يقولون الملائكة بنات الله قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاْنثَى ( النجم 27 ) والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السموات والأرض وما بينهما جماداً يسميه بالأنثى
ثم قال وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً قال المفسرون كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم وقال الزجاج المراد بالشيطان ههنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ولا شك أن قائل هذاالقول هو إبليس ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له مارد ومريد قال الزجاج يقال حائط ممرد أي مملس ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء(11/37)
ثم قال تعالى لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع واعلم أن الشيطان ههنا قد ادعى أشياء أولها قوله لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً الفرض في اللغة القطع والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر والفرض الحز الذي في الوتر والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتماً عليهم قطعاً لعذرهم وكذا قوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً ( البقرة 237 ) أي جعلتم لهن قطعة من المال
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك لأتخذن من عبادك حظاً مقدراً معيناً وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس )
فإن قيل النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عدداً من حزب الله
أما النقل فقوله تعالى في صفة البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) وقال حاكياً عن الشيطان لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 ) وحكي عنه أيضاً أنه قال لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) ولا شك أن المخلصين قليلون
وأما العقل فهو أن الفساق والكفار أكثر عدداً من المؤمنين المخلصين ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس
إذا ثبت هذا فنقول لم قال لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر وإنما يتناول الأقل
والجواب أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس وثانيها وَلاَضِلَّنَّهُمْ يعني عن الحق قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا
فالأصل الأول المضل هو الشيطان وليس المضل هو الله تعالى قالوا وإنما قلنا أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ونظيره قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) وأيضاً أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلاً للناس في معرض الذم له وذلك يمنع من كون الإل ه موصوفاً بذلك
والأصل الثاني وهو أن أهل السنة يقولون الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال
والجواب أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة وأيضاً أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب(11/38)
جداً فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى ( القصص 39 ) وتارة يظهر التردد فيه حيث قال رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني أن قول هؤلاء الكفار نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ولا بدّ من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله وثالثها قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال وَلامَنّيَنَّهُمْ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق وطلب الأماني يورث شيئين الحرص والأمل والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل ) والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة ورابعها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ البتك القطع وسيف باتك أي قاطع والتبتيك التقطيع قال الواحدي رحمه الله التبتيك ه هنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها وقال آخرون المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكاً في عبادة الأثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق خامسها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وللمفسرين ههنا قولان الأول أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة وفي تقرير هذا القول وجهان الأول أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
والوجه الثاني في تقرير هذا القول أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً أو الحرام
القول الثاني حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحسن المراد ما روى عبدالله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله الواصلات والواشمات ) قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا الثاني روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله ههنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً عوروا عين فحلها الثالث قال ابن زيد هو التخنث وأقول يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه التشوش والنقصان والبطلان فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين وضرر الدين هو(11/39)
قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية فهذا مرض روحاني من جنس التشوش وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى ومن المعلوم أن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر وهي متوجهة إلى عالم القيامة فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لا بدّ من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييراً للخلقة وهو كما قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً واعلم أن أحداً لا يختار أن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان ولياً لنفسه وترك ولاية الله تعالى وإنما قال خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة والجمع بينهما محال عقلاً فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق
ثم قال تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور والغرور هو أن يظن الأنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع أحوال الدنيا كذلك والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده ويستولي على أعدائه ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره وإن طال فربما لم يجد مطلوبه وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بدّ وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاماً وأعظم تأثيراً في حصول الغم والحسرة فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب(11/40)
وفي الآية وجه آخر وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذاً إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً المحيص المعدل والمفر قال الواحدي رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أنه لا بدّ لهم من ورودها الثاني التخليد الذي هو نصيب الكفار وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله وَلاَ يَجِدُونَ عائد إلى الذين تقدم ذكرهم وهم الذين قال الشيطان لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والأظهر أن الذي يكون نصيباً للشيطان هم الكفار
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع
ثم قال وَعْدَ اللَّهِ حَقّا قال صاحب ( الكشاف ) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه كأنه قال وعد وعداً وحقاً مصدر مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً
ثم قال وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً وهو توكيد ثالث بليغ وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه وقرأ حمزة والكسائي أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً باشمام الصاد الزاي وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو قَصْدُ السَّبِيلِ ( النحل 9 ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( الحجر 94 ) والقيل مصدر قال قولاً وقيلاً وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى
لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِى ِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُو ءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الأمنية أفعولة من المنية وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى ( الحج 52 )
المسألة الثانية بَعِيدٍ لَّيْسَ فعل فلا بدّ من اسم يكون هو مسنداً إليه وفيه وجوه الأول ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى ( النساء 122 ) الآية بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب أي(11/41)
ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح الثاني ليس وضع الدين على أمانيكم الثالث ليس الثواب والعقاب بأمانيكم والوجه الأول أولى لأن إسناد لَّيْسَ إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور
المسألة الثالثة الخطاب في قوله لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ خطاب مع من فيه قولان الأول أنه خطاب مع عبدة الأوثان وأمانيهم أن لا يكون هناك جشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن هُوَ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فلا يعذبنا وقولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 )
القول الثاني أنه خطاب مع المسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم وقال المسلمون نبيّنا خاتم النبيّين وكتابنا ناسخ الكتب فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات وليس لقائل أن يقول هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا الجواب عنه من وجهين الأول أن العام بعد التخصيص حجة والثاني أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر أما القرآن فهو قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا ( المائدة 38 ) سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قرأ هذه الآية فقال أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه فقال يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام ( أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه )
الوجه الثاني في الجواب هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم لقيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول
أما القرآن فقوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )(11/42)
وأما الخبر فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً فكيف الجزاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويلٌ لمن غلبت آحاده أعشاره )
وأما المعقول فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل فيبقى حينئذٍ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة
الوجه الثالث في الجواب أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ اثْنَى ْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية وقولهم خرج عن كونه مؤمناً فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن مثل قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ إلى قوله فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً وقال الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 187 ) سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمناً وقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ ( التحريم 8 ) سماه مؤمناً حال ما أمره بالتوبة فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان مؤمناً كان قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة فوجب أن يكون قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ مخصوصاً بأهل الكفر
الوجه الرابع في الجواب هب أن النص يعم المؤمن والكافر ولكن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) أخص منه والخاص مقدم على العام ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان
المسألة الثانية دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يتناول جميع المحرمات فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله يُجْزَ بِهِ يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا
قلنا إنه لا بدّ وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون نتعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم ههنا أكمل ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ) وإذا كان كذلك امتنع أن يقال إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة دلت الآية على أن العبد فاعل ودلت أيضاً على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد وذلك من وجهين أحدهما أنه لما كان عملاً للعبد امتنع كونه عملاً لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد(11/43)
بقادرين والثاني أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله وأعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قالت المعتزلة دلت الآية على نفي الشفاعة والجواب من وجهين الأول أنا قلنا أنا هذه الآية في حق الكفار والثاني أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى ثم قال تعالى
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
قال مسروق لما نزل قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) قال أهل الكتاب للمسلمين نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية إلى قوله وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعاً على أن الدخول مضاف إليهم وكلاهما حسن والأول أحسن لأنه أفخم ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق وَلاَ يُظْلَمُونَ وأما القراءة الثانية فهي مطابقة لقوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ( الزخرف 70 ) ولقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( الحجر 46 ) ( ق 34 ) والله أعلم
المسألة الثانية قالوا الفرق بين مِنْ الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمناً استحق الثواب
وأعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلداً في النار بل ينقل إلى الجنة وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا ثبت هذا فنقول إن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلّى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار فأما أن يدخل الجنة ثم ينقل إلى لانار فذلك باطل بالإجماع أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه والله أعلم(11/44)
المسألة الثالثة النقير نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة
فإن قيل كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقال وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 )
والجواب من وجهين الأول أن يكون الراجع في قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ عائداً إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعاً والثاني أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ مُّحِيطاً
أعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمناً شرح الإيمان وبين فضله من وجهين أحدهما أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى والثاني وهو أنه الذين الذي كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام
أما الوجه الأول فأعلم أن دين الإسلام مبين على أمرين الاعتقاد والعمل أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع والوجه أحسن أعضاء الإنسان فالإنسان إذا عرف بقلبه ربن وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله وأما العمل فإليه الإشارة بقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض وأيضاً فقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يفيد الحصر معناه أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق وأظهار التبري من الحول والقوة وأيضاً ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم أنهم من أولاد الأنبياء والنصارى كانوا يقولون ثالث ثلاثة فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله وأما المعتزلة فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا لله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله(11/45)
وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام وهو أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( الأنعام 19 ) وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوء الله ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام قد كان قريباً من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) ولما ثبت أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام كان قريباً من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولاً عند الكل
وأما قوله حَنِيفاً ففيه بحثان الأول يجوز أن يكون حالاً للمتبوع وأن يكون حالاً للتابع كما إذا قلت رأيت راكباً فإنه يجوز أن يكون الراكب حالاً للمرئي والرائي
البحث الثاني الحنيف المائل ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها لأن ما سواه باطل والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيداً من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريباً من الباطل الذي يجانسه وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلاً عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة
فإن قيل ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم وعلى هذا التقدير لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة وأنتم لا تقولون بذلك
قلنا يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد عليه الصلاة والسلام مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة
ثم قال تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجهان الأول أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلاً كان جديراً بأن يتبع خلقه وطريقته والثاني أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفاً ثم قال عقيبه وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلاً لأنه كان عالماً بذلك الشرع آتياً بتلك التكاليف ومما يؤكد هذا قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماماً للخلق لأنه أتم تلك الكلمات
وإذ ثبت هذا فنقول لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلاً لله تعالى بسبب أنه كان عاملاً بتلك الشريعة كان هذا تنبيهاً على أن من عمل بهذا الشرع لا بدّ وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين(11/46)
فإن قيل م موقع قوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً
قلنا هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب ونظيره ما جاء في الشعر من قوله
والحوادث جمة
والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام والأمر ههنا كذلك على ما بيناه
المسألة الثانية ذكروا في اشتقاق الخليل وجوهاً الأول أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة
قيل لما طلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماماً للخلق ورسولاً إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه
الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل أنه الذي يوافقك في خلالك أقول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تخلفوا بأخلاق الله ) فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغاً لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف
الوجه الثالث قال صاحب ( الكشاف ) إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله كما أخبر الله عنه بقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 )
الوجه الرابع الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله وهذا القول ضعيف لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلاً مع الله امتنع أن يقال إنه يسد الخلل ومن هاهنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها الأول أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقاً قالت امرأته هذا من عند خليلك المصري فقال إبراهيم بل هو من خليلي الله والثاني قال شهر بن حوشب هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام اذكره مرة أخرى فقال لا أذكره مجاناً فقال لك مالي كله فذكره الملك بصوت أشجى من الأول فقال اذكره مرة ثالثة ولك أولادي فقال الملك أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلاً الثالث روى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه وظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلاً سميناً وقربه إليهم وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فنزل هذا الوصف وأقول فيه عندي وجه آخر وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئاً مشرقاً علوياً قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية(11/47)
والجلايا الإلهية صار مثل هذا الإنسان متوغلاً في عالم القدس والطهارة متبرئاً عن علائق الجسم والحس ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلاّ الله ولا يسمع إلاّ الله ولا يتحرك إلاّ بالله ولا يسكن إلاّ بالله ولا يمشي إلا بالله فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية وتخلل فيها وغاص في جواهرها وتوغل في ماهياتها فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقاً بأنه خليل لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه وإليه الإشارة بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في دعائه ( اللّهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً وفي عصبي نوراً )
المسألة الثالثة قال بعض النصارى لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معين على سبيل الاعزاز والتشريف فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الاعزاز والتشريف
وجوابه أن الفرق أن كونه خليللاً عبارة عن المحبة المفرطة وذلك لا يقتضي الجنسية أما الابن فإنه مشعر بالجنسية وجلّ الإل ه عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجوه الأول أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين وكيف يعقل ذلك وله ملك السماوات والأرض وما كان كذلك فكيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى البشر الضعيف وإنما اتخذه خليلاً بمحض الفضل والإحسان والكرم ولأنه لما كان مخلصاً في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف والحاصل أن كونه خليلاً يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام والثاني أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعاً كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد فبيّن هاهنا أنه إل ه المحدثات وموجد الكائنات والممكنات ومن كان كذلك كان ملكاً مطاعاً فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه الثالث أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلاّ عند حصول أمرين أحدهما القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات والثاني العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء فدل على كمال قدرته بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وعلى كمال علمه بقوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً الرابع أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له وذلك لأنه له ما في السماوات وما في الأرض ويجري هذا مجرى قوله إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) ومجرى قوله لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله كذا هاهنا يعني إذا كان كل من في السماوات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلاهيته فكيف يعقل أن يقال إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلاً يخرجه عن عبودية الله وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأنه ذهب مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنيس ذكر بما(11/48)
المسألة الثالثة قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء فيه وجهان أحدهما المردا منه الإحاطة في العلم والثاني المراد منه الإحاطة بالقدرة كما في قوله لعالى مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( الفتح 21 ) قال القائلون بهذا القول وليس لقائل أن يقول لما دل قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كمال القدرة فلو حملنا قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً على كمال القدرة لزم التكرار وذلك لأنا نقول إن قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لا يفيد ظاهره إلاّ كونه تعالى قادراً مالكاً لكل ما في السماوات وما في الأرض ولا يفيد كونه قادراً على ما يكون خارجاً عنهما ومغايراً لهما فلما قال وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً دل على كونه قادراً على ما لا نهاية له من المقدورات خارجاً عن هذه السماوات والأرض على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه فهذا تقرير هذا القول إلاّ أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإل هية والوفاء بالوعد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم فلا بدّ من ذكرهما معاً وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادراً ثم بعد العلم بكونه قادراً يعلم كونه عالماً لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم ولا شك أن الأول مقدم على الثاني
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إل هيته ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلاّ إذا كان مقروناً بالوعد والوعيد والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلاّ عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق
إذا عرفت هذا فنقول إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وفي الآية مسائل(11/49)
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاستفتاء طلب الفتوى يقال استفتيت الرجل في المسألة فإفتاني إفتاء وفتياً وفتوى وهما إسمان موضوعان موضع الافتاء ويقال أفتيت فلاناً في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بِقُرْءانٍ سِمَانٍ ( يوسف 46 ) ومعنى الافتاء إظهار المشكل وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قوياً فتياً
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين الأول أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئاً من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة فهذه الآية نزلت في توريثهم والثاني أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثالثة اعمل أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهم وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء
أما قوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ففيه الأول أنه رفع بالابتداء والتقدير قل الله يفتيكم في النساء والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً وذلك المتلو في الكتاب هو قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 )
وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم وكما جاز هذا جاز أيضاً أن يقال إن كتاب الله أفتى بكذا
القول الثاني أن قوله وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مبتدأ و فِى الْكِتَابِ خبره وهي جملة معترضة والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله ونظيره في تعظيم القرآن قوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 )
القول الثالث أنه مجرور على القسم كأنه قيل قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب والقسم أيضاً بمعنى التعظيم
والقول الرابع أنه عطف على المجرور في قوله فِيهِنَّ والمعنى قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء قال الزجاج وهذا الوجه بعيد جداً نظراللً إلى اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضاً فيما يتلى من الكتاب ومعلوم أنه ليس المراذ ذلك وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل بقي هاهنا سؤالان
السؤال الأول بم تعلق قوله فِى يَتَامَى النّسَاء(11/50)
قلنا هو في الوجه الأول صلة يُتْلَى أي يتلى عليكم في معناهن وأما في سائر الوجوه فبدل من فِيهِنَّ
السؤال الثاني الإضافة في يَتَامَى النّسَاء ما هي
الجواب قال الكوفيون معناه في النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الجمعة وحق اليقين وقال البصريون إضافة الصفة إلى الاسم غير جائز فلا يقال مررت بطالعة الشمس وذلك لأن الصفة والموصوف شيء واحد وإضافة الشيء إلى نفسه محال وهذا التعليل ضعيف لأن الموصوف قد يبقى بدون الوصف وذلك يدل على أن الموصوف غير الصفة ثم أن البصريين فرعوا على هذا القول وقالوا النساء في الآية غير اليتامى والمراد بالنساء أمهات اليتامى أضيفت إليهن أولادهن اليتامى ويدل عليه أن الآية نزلت في قصة أم كحة وكانت لها يتامى
ثم قال الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ قال ابن عباس يريد ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار وعلى قول الباقين المراد بقوله مَا كُتِبَ لَهُنَّ الصداق
ثم قال تعالى وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ قال أبو عبيدة هذا يحتمل الرغبة والنفرة فإن حملته على الرغبة كان المعنى وترغبون في أن تنكحوهن وإن حملته على النفرة كان المعنى وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه ا ا بهذه الآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة ولا حجة لهم فيها لاحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن والدليل على صحة قولنا أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغب أمها في المال فجاؤا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قدامة أنا عمها ووصي أبيها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلاّ بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة وذلك لا يدل على الجواز
ثم قال تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وهو مجرور معطوف على يتامى النساء كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء وإنما يورثون الرجال الذين بلغوا إلى القيام بالأمور العظيمة دون الأطفال والنساء
ثم قال تعالى وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وهو مجرور معطوف على المستضعفين وتقدير الآية وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستشعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء
وَإِنِ امْرَأَة ٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(11/51)
اعلم أن هذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية شبيهة بقوله وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ( التوبة 6 ) وقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ( الحجزات 9 ) وهاهنا ارتفع امْرَأَتُ بفعل يفسره خَافَتْ وكذا القول في جميع الآيات التي تلوناها والله أعلم
المسألة الثانية قال بعضهم خافت أي علمت وقال آخرون ظنت وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة بل المراد نفس الخوف إلاّ أن الخوف لا يحصل إلاّ عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف وتلك الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لامرأته إنك دميمة أو شيخة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة والبعل هو الزوج والأصل في البعل هو السيد ثم سمي الزوج به لكونه الكسيد للزوجة ويجمع البعل على بعولة وقد سبق هذا في سورة البقرة في قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض ونشوز الرجل في حق المرأة أن يعرض عنها ويعبس وجهه في وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهم بطلاقها فقالت لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة فقال الزوج إن كان الأمر فهو أصلح لي والثاني أنها نزلت في قصة سودة بنت زمعة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يطلقها فالتمست أن يمسكها ويجعل نوبتها لعائشة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ولم يطلقها والثالث روي عن عائشة أنها قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم
المسألة الرابعة قوله نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة والإيذاء وذلك لأن هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة
ثم قال تعالى فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي يُصْلِحَا بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح والباقون يصالحا بفتح الياء والصاد والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح ويصالحا في الأصل هو يتصالحا فسكنت التاء وأدغمت في الصاد ونظيره قوله إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا ( الأعراف 38 ) أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا(11/52)
إذا عرفت هذا فنقول من قرأ يُصْلِحَا فوجهه أن الاصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ( البقرة 182 ) وقال أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( النساء 114 ) ومن قرأ يصالحا وهو الاختيار عند الأكثرين قال أن يصالحا معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله فلا جناح عليهما أن صالحا وانتصب صلحاً في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال تصالحا ولكنه ورد كما في قوله سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) وقوله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( المزمل 8 ) وقول الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقاً له وحق المراأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء
إذا عرفت هذا فنقول هذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو أسقطت عنه القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزاً
ثم قال تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه
وأما إذا قلنا إنه يفيد العموم فهاهنا بحث وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملاً ويخرج عن الإفادة فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول من الناس من حمل قوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على الاستغراق ومنهم من حمله على المعهود السابق يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة والأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا اللفظ على المعهود السابق أولى فاندفع استدلالهم والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة اعتراض وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ إلاّ أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً قوله فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا فقوله لاَّ جُنَاحَ يوهم أنه رخصة والغاية فيه ارتفاع الإثم فبيّن تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض أما قوله تعالى وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ
فأعلم أن الشح هو البخل والمراد أن الشح جعل(11/53)
كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها يعني أن النفوس مطبوعة على الشح ثم يحتمل أن يكن المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها
ثم قال تعالى وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه وجوه الأول أنه خطاب مع الأزواج يعني إن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهمتوهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيراً وهو يشيبكم عليه الثاني أنه خطاب للزوج والمرأة يعني وأن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم الثالث أنه خطاب لغيرهما يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما وحكى صاحب الكشاف أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه يوماً ثم قالت الحمد لله فقال مالك فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
ثم قال تعالى وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ وفيه قولان الأول لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا ملكفين به قالت المعتزلة فهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز الوقوع وقد ذكرنا أن الاشكال لازم عليهم في العلم وفي الدواعي الثاني لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال
ثم قال فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل روى الشافعي رحمة الله عليه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقسم ويقول ( هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك )
ثم قال تعالى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ يعين تبقى لا أيما ولا ذات بعل كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة وفي الحديث ( من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شفيه مائل ) وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمال فقالت عائشة إلى كل أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عمر بمثل هذا فقالوا لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهن بغيره فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعدل بيننا قي القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعاً(11/54)
ثم قال تعالى وَإِن تُصْلِحُواْ بالعدل في القسم وَتَتَّقُواْ الجور فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض
وقيل المعنى وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجاً عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
ثم قال تعالى وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ
وأعلم أنه تعالى ذكر جواز الصلح إن أرادا ذلك فإن رغبا في المفارقة فالله سبحانه بيّن جوازه بهذه الآية أيضاً ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول ويعيش أهنأ من عيشه الأول
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من سعته وصف نفسه بكونه واسعاً وءنما جاز وصف الله تعالى بذلك لأنه تعالى واسع الرزق واسع الفضل واسع الرحمة واسع القدرة واسع العلم فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لاختص ذلك بذلك المذكور ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دلّ على أنه واسع في جميع الكمالات وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة والرحمة والفضل والجود والكرم وقوله حَكِيماً قال ابن عباس يريد فيما حكم ووعظ وقال الكلبي يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً(11/55)
وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلاً من سعته وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعاً فقال وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يعني من كان كذلك فإنه لا بدّ وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة الثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من العضف والقصور بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وفيه مسائل
المسأالة الأولى المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل بل هو وصية الله في الأولين والآخرين
المسألة الثانية قوله مِن قَبْلِكُمْ فيه وجهان الأول أنه متعلق بوصينا يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب والثاني أنه متعلق بأوتوا يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك وقوله وَإِيَّاكُمْ بالعطف على الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية والمراد اليهود والنصارى
المسألة الثالثة قوله أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ كقولك أمرتك الخير قال الكسائي يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا ويقال ألم آمرك أن ائت زيداً وأن تأتي زيداً قال تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( الأنعام 14 ) وقال إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ ( النمل 91 )
ثم قال تعالى وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً قوله وَإِن تَكْفُرُواْ عطف على قوله اتَّقُواْ اللَّهَ والمعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وفيه وجهان الأول أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحق كل عاقل أن يكون منقاداً لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه والثاني أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سمواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه وكان مع ذلك غنياً عن خلقهم وعن عبادتهم ومستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
فإن قيل ما الفائدة في تكرير قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
قلنا إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور فأولها أنه تعالى قال وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) والمراد منه كونه تعالى جواداً متفضلاً فذكر عقيبه قوله وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم وثانيها قال وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والمراد منه أنه تعالى منزّه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين فلا يزذاذ جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات فذكر عقيبه قوله فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ(11/56)
والغرض منه تقرير كونه غنياً لذاته عن الكل وثالثها قال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادراً على جميع المقدورات وإذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني ثم يذكره ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال وأيضاً فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذٍ لكون تخليق السموات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالب جليلة فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده لا جرم كان في غاية الحسن والكمال وقوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع المقدورات فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل
ثم قال تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة ولو كان عاقلاً لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل
قلنا تقرير الكلام فعند الله ثواب الدينا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(11/57)
في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال الآية بما قبلها وجوه الأول أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله وبالجملة فكأنه قيل إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله وءن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت ( صلى الله عليه وسلم ) لا لنفسك ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف فكانت هذه الآية تأكيداً لما تقدم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف أو السبعالذي غاية أمره إيذاء حيوان الثالث أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 ) وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سيل الله وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل أحد بل وعلى أنفسهم فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف
المسألة الثانية القوام مبالغة من قائم والقسط العدل فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل وقوله شُهَدَاء للَّهِ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران الأول أن يقر نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجباً إلزام الحق والثاني أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره
المسألة الثالثة في نصب شُهَدَاء ثلاثة أوجه الأول على الحال من قَوَّامِينَ والثاني أنه خبر على أن كُونُواْ لها خبران والثالث أن تكون صفة لقوامين
المسألة الرابعة إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه الأول أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولاً ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانياً تنبيهاً على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير الثاني أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير وهو الذي عليه الحق ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع(11/58)
الضرر عن الغير الثالث أن القيام بالقسط فعل والشهادة قول والفعل أقوى من القول
فإن قيل ءنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) فقدم الشهادة على القيام بالقسط وههنا قدم القيام بالقسط فما الفرق
قلنا شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقاً للمخلوقات وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعياً للعدل وميايناً للجور ومعلوم أنه ما لم يكون الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة فثبت أن الواجب في قوله شَهِدَ اللَّهُ أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب ههنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي والله أعلم
ثم قال تعالى إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا أي إن يكن المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير فالله أولى بأمورهما ومصالحهما وكان من حق الكلام أن يقال فالله أولى به لأن قوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ أي الله أولى بالفقير والغني وفي قراءة أبي فالله أولى بهم وهو راجع إلى قوله أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وقرأ عبد الله إن يكن غني أو فقير على ( كان ) التامة
ثم قال تعالى فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفيه بصفة العدل وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر فتقدير الآية فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا
ثم قال تعالى وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور وَإِن تَلْوُواْ بواوين وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا وأما قراءة تلووا ففيه وجهان أحدهما أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم لواه حقه إذا مطله ودفعه الثاني أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله ومنه يقال التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيهاً بالشيء المنفتل وأما تلوا ففيه وجهان الأول أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيراً فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته والحاصل إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها والثاني قال الفرّاء والزجاج يجوز أن يقال تلوا أصله تلووا ثم قبلت الواو همزة ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار وَإِن تَلْوُواْ وهذا أضعف الوجهين وأما قوله فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً(11/59)
وفي مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنها متصلة بقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وذلك لأن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإسمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية وثانيهما أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان
المسألة الثانية أعلم أن ظاهر قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل ولا شك أنه محال فلهذا السبب ذكر المفسرون في وجوهاً وهي منحصرة في قولين الأول أن المراد بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ المسلمون ثم في تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه وحاصله يرجع إلى هذا المعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل ونظيره قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) مع أنه كان عالماً بذلك وثانيها يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال وثالثها يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية ورابعها يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا وخامسها روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما بمواه من الكتب والرسل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا
القول الثاني أن المخاطبين بقوله ءامَنُواْ ليس هم المسلمون وفي تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن الخطاب مع اليهود والنصارى والتقدير يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وثانيها أن الخطاب مع المنافقين والتقدير يا أيها الذين آمنوا باللسان رمنوا بالقلب ويتأكد هذا بقوله تعالى مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( المائدة 41 ) وثالثها أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره والتقدير يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضاً آخره ورابعها أنه خطاب للمشركين تقديره يا أيها الذين آمنوا بالّلات والعزى آمنوا بالله وأكثر العلماء رجّحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ على ما لم يسم فاعله والباقون ( نزل وأنزل ) بالفتح فمن ضم فحجته قوله تعالى لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وقال في آية أخرى وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ ( الأنعام 114 ) ومن فتح فحجته قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقوله وَأَنزَلْنَا الذّكْرِ وقال بعض العلماء كلاهما حسن إلا أن الضم إفخم كما في قوله وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 )(11/60)
المسألة الرابعة اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء أولها بالله وثانيها برسوله وثالثها بالكتاب الذي نزل على رسوله ورابعها بالكتاب الذي أنزل من قبل وذكر في الكفر أموراً خمسة فأولها الكفر بالله وثانيها الكفر بملائكته وثالثها الكفر بكتبه ورابعها الكفر برسله وخامسها الكفر باليوم الآخر
ثم قال تعالى فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب وفي مراتب الكفر قلب القضية
الجواب لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدماً على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدماً على الكتاب
السؤال الثاني لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر
والجواب أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله
السؤال الثالث كيف قيل لأهل الكتب وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ مع أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة الثاني أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان هو المعجزة فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعناً في المعجزة وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( النساء 150 151 )
السؤال الرابع لم قال نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنزَلَ مِنَ قَبْلُ
والجواب قال صاحب ( الكشاف ) لأن القرآن نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله وأقول الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ ( آل عمران 3 4 )
السؤال الخامس قوله وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ لفظ مفرد وأي الكتب هو المراد منه
الجواب أنه اسم جنس فيصلح للعموم(11/61)
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية
واعلم أن فيها أقوالاً كثيرة الأول أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيماناً صحيحاً معتبراً فهذا هو المراد بقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق فكذا ههنا الثاني قال بعضهم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام الثالث قال آخرون المراد المنافقون فالإيمان الأول إطهارهم الإسلام وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) قال القفال رحمة الله عليه وليس المراد بيان هذا العدد بل المراد ترددهم كما قال مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( النساء 143 ) قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الرابع قال قوم المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ( آل عمران 72 ) وقوله ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام
المسألة الثانية دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فوجب أن يكون الإيمان أيضاً كذلك لأنهما ضدان متنافيان فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوهاً(11/62)
الأول أنهم ماتوا على كفرهم الثاني أنهم ازدادوا كفراً بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان الثالث أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه
ثم قال تعالى كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وفيه سؤالان الأول أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطاً بما قبل التوبة يأو بما بعدها والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية والثاني أيضاً باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفورة ولو كان ذلك بعد ألف مرة فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم
والجواب عنه من وجوه الأول أنا لا نحمل قوله إِنَّ الَّذِينَ على الاستغراق بل نحمله على المعهود السابق والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني أن الكلام خرج على الغالب المعتاد وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه الثالث أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر وقول السائل إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة
قلنا إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) خصهما بالذكر لأجل التشريف وكذلك قوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الثاني في قوله لِيَغْفِرَ لَهُمْ اللام للتأكيد فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يفيد نفي التأكيد وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي فما الوجه فيه
والجواب أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي
ثم قال تعالى وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً قال أصحابنا هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافاً للمعتزلة وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة
ثم قال تعالى بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة ثم قال وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب وهو المراد من قوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وقوله بُشّرَ تهكم بهم والعرب تقول تحيتك الضرب وعتابك السيف(11/63)
ثم قال تعالى
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
الَّذِينَ نصب على الذم بمعنى أريد الذين أو رفع بمعنى هم الذين واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون المنافقون وبالكافرين اليهود وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض إن أمر محمد لا يتم فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم
ثم قال تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ قال الواحدي أصل العزة في اللغة الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة غزاز ويقال قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد يأن يهلك وعز الهم اشتد ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل
إذا عرفت هذا فنقول إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
فإن قيل هذا كالمناقض لقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقين 8 )
قلنا القدرة الكاملة لله وكل من سواه فباقداره صار قادراً وبإعزازه صار عزيزاً فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعاً لله ثم قال تعالى
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
قال المفسرون إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به فأنزل الله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون فقال تعالى مخاطباً للمنافقين إنه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا(11/64)
والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد به سماع الاستهزاء قال الكسائي وهو كما يقال سمعت عبدالله يلام وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما قال الكسائي فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر والاستهزاء
ثم قال إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ
والمعنى أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر قال أهل العلم هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل ههنا هذا إذا كان الجالس راضياً بذلك الجلوس فأما إذا كان ساخطاً لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة
ثم إنه تعالى حقق كون المنافقين مثل الكافرين في الكفر فقال إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
يريد كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة وأراد جامع بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين استخفافاً من اللفظ وهو مراد في الحقيقة
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
إعلم أن قوله الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين وإما نصب على الذم وقوله يَتَرَبَّصُونَ أي ينتظرون ما يحدث من خير أو شر فإن كان لكم فتح أي ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم أي فأعطونا قسماً من الغنيمة وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب أي ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم يقال استحوذ على فلان أي غلب عليه وفي تفسير هذه(11/65)
الآية وجهان الأول أن يكون بمعنى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئاً من ذلك ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا نصيباً مما أصبتم الثاني أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطعموه أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون ألسنا غلبنانكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى أمركم فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم
فإن قيل لم سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكفار نصيباً
قلنا تعظيماً لشأن المؤمنين واحتقاراً لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة
ثم قال تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي بين المؤمنين والمنافقين والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة
ثم قال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً وفيه قولان الأول وهو قول علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ الثاني أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل الثالث هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل وللشافعي رحمه الله مسائل منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بداء الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً بدلالة هذه الآية ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواة ِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ قد مرّ تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا ( البقرة 9 ) قال الزجاج في تفسير هذه الآية يُخَادِعُونَ اللَّهَ أي يخادعون رسول الله أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله وَهُوَ أي مجازيهم بالعقاب على خداعهم قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه تعالى خادعهم الآخرة وذلك أنه تعالى يعطيهم نوراً كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة ودليله قوله تعالى مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( البقرة 17 )
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا(11/66)
كسالى أي متثاقلين متباطئين وهو معنى الكسل في اللغة وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها في الحال ولا يرجون بها ثواباً ولا من تركها عقاباً فكان الداعي للترك قوياً من هذه الوجوه والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس والداعي إلى الفعل متى كان كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور قال صاحب ( الكشاف ) قرىء كُسَالَى بضم الكاف وفتحها جمع كسلان كسكارى في سكران
ثم قال تعالى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً والمعنى أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين
فإن قيل ما معنى المرآة وهي مفاعلة من الرؤية
قلنا إن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل وفي قوله وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً وجوه الأول أن المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلاً لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلقون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس الثاني أن المراد بذكر الله أنهم كانوا في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وهو الذي يظهر مثل التكبيرات فأما الذي يخفى مثل القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها الثالث المراد أنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات سواء كان ذلك الوقت وقت الصلاة أو لم يكن وقت الصلاة إلا قليلاً نادراً قال صاحب ( الكشاف ) وهكذا نرى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولكن حديث الدنيا يستغرق به أيامه وأوقاته لا يفتر عنه الرابع قال قتادة إنما قيل إلا قليلاً لأن الله تعالى لم يقبله وما رده الله تعالى فكثيره قليل وما قبله الله فقليله كثير ثم قال تعالى
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى مذبذبين إما حال من قوله يراؤن أو من قوله لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) ويحتمل أن يكون منصوباً على الذم
المسألة الثانية مذبذبين أي متحيرين وحقيقة المذبدب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه
وأعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل وإذا كان الفعل تبعاً للداعي والداعي تبعاً للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في(11/67)
الميل والرغبة وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتاً راسخاً فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( إبراهيم 27 ) وقال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ( الفجر 26 )
المسألة الثالثة قرأ ابن عباس مُّذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى وفي مصحف عبد الله بن مسعود متذبذبين وعن أبي جعفر مذبذبين بالدال المهملة وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى فلا يبقون على دبة واحدة والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب
المسألة الرابعة قوله بَيْنَ ذالِكَ أي بين الكفر والإيمان أو بين الكافرين والمؤمنين وكلمة ذالِكَ يشار به إلى الجماعة وقد تقدم تقريره في تفسير قوله عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 ) وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 139 ) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا إن قوله مُّذَبْذَبِينَ يقتضي فاعلاً قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين وذلك ليس باختيار العبد فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلاً ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا وإذا كانت تلك الذبذبة لا بدّ لها من فاعل وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى فثبت أن الكل من الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز
قلنا ءن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين وذم المنافقين في بضع عشرة آية وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين الأول أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله مُّذَبْذَبِينَ يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعلى وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله والثاني أنه تصريح بأن الله تعالى تعالى أضله عن الدين قالت المعتزلة معنى هذا الإضلال سلب الألطاف أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مراراً(11/68)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قوله تعالى سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى لما ذم المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والسبب فيه أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نتولى فقال المهاجرين فنزلت هذه الآية
والوجه الثاني ما قاله القفال رحمه الله وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
فإن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطاناً مبيناً على كونكم منافقين والمراد أتريدن أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاٌّ سْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام فالدرك ما يلحق به من الطبقة وظاهره أن جهنم طبقات والظاهر أن أشدها أسفلها قال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بضع
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فِى الدَّرْكِ بسكون الراء والباقون بفتحها قال الزجاج هما لغتان مثل الشمع والشمع إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالاً قال أبو حاتم جمع الدرك أدراك كقولهم جمل وأجمل وفرس وأفرس وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب
المسألة الثالاثة قال ابن الأنباري إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل وقال في آل فرعون النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) فأيهما أشد عذاباً المنافقون أم آل فرعون وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل وقد اجتمع فيه الفريقان
المسألة الرابعة لما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه مثله في الكفر وضم إليه نوع آخر من(11/69)
الكفر وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار
ثم قال تعالى وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وهذا تهديد لهم واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة قالوا إنه تعالى خصّ المنافقين بهذا التهديد ولو كان ذلك حاصلاً في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجراً عن النفاق من حيث أنه نفاق وليس هذا استدلالاً بدليل الخطاب بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجراً عنه من حيث إنه نفاق ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أموراً أربعة أولها التوبة وثانيها إصلاح العمل فالتوبة عن القبيح وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن وثالثها الاعتصام بالله وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعاً أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها ورابعها الإخلاص والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولاً بترك القبيح وثانياً بفعل الحسن وثالثاً أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى ورابعاً أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصاً وأن لا يمتزج به غرض آخر فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل فأولئك مؤمنون ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم فقال وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى
مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى أيعذبكم لأجل التشفي أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غنى لذاته عن الحاجات منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وإنما المقصود منه حمل(11/70)
مفاتيح الغيب ـ شركة التراث(11/71)
المكلفين على فعل الاحسن والاحتراز عن القبيح فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على قولنا وذلك لأنها دالة على أنه سبحانه ما خلق خلقاً لأجل التعذيب والعقاب فإن قوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ صريح في أنه لم يخلق أحداف لغرض التعذيب وأيضاً الآية تدل على أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وليس ذلك فعلاً لله تعالى وإلا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إذا خلق الشكر والإيمان فيكم ومعلوم أن هذا غير منتظم وقد سبق الجواب عن هذه الكلمات
المسألة الثالثة قال أصحابنا دلت هذه الآية على أنه لا يعذب صاحب الكبيرة لأنا نفرض الكلام فيمن شكر ورمن ثم أقدم على الشرب أو الزنا فهذا وجب أن لا يعاقب بدليل قوله تعالى مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ فإن قالوا لا نسلم أن صاحب الكبيرة نؤمن قلنا ذكرنا الوجوه الكثيرة في هذا الكتاب على أنه مؤمن
المسألة الرابعة في تقدم الشكر على الإيمان وجهان الأول أنه على التقديم والتأخير أي إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات الثاني إذا قلنا الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل الثالث أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكراً مجملاً ثم إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان ذلك الشكر المجمل مقدماً على الإيمان فلهذا قدمه عليه في الذكر
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً لأنه تعالى لما أمرهم بالشكر سمى جزاء الشكر شكراً على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في حقه تعالى كونه مثيباً على الشكر والمراد من كونه عليماً أنه عالم بجميع الجزئيات فلا يقع الغلط له ألبتة فلا جرم يوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّو ءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك التسر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( أذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس ) وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم الثاني أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا أخلصوا صاروا من المؤمنين فيحتمل أنه كان يثوب بعضهم ويخلص في توبته(11/72)
ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته فلما قال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ علمنا أنه لا يريد ذلك وأيضاً لو كان خالقاً لأفعال العباد لكان مريداً لها ولو كان مريداً لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول وإنه خلاف الآية
والجواب المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل وعلى هذا الوجه يصح أن يقال إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أهل العلم إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا غير الجهر أيضاً ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ ( النساء 94 ) والتبين واجب في الطعن والإقامة فكذا ههنا
المسألة الرابعة في قوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ قولان وذلك لأنه إما ى ن يكون استثناءً منقطعاً أو متصلاً
القول الأول أنه استثناء متصل وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير إلا جهر من ظلم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه الثاني قال الزجاج المصدر ههنا أقيم مقام الفاعل والتقدير لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم
القول الثاني إن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته
المسألة الخامسة المظلوم ماذا يفعل فيه وجوه الأول قال قتادة وابن عباس لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه الثاني قال مجاهد إلا أن يخبر بظلم ظالمه له الثالث لا يجوز إظهار الأحوال المتسورة المكتومة لأن ذلك يصير سبباً لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم الرابع قال الحسن إلا أن ينتصر من ظالمه قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه فإن رجلاً شتمه فسكت مراراً ثم رد عليه فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو بكر شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت قال إن ملكاً كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان فنزلت هذه الآية
المسألة السادسة قرأ جماعة من الكبار الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إَلاَّ مَن ظَلَمَ بفتح الظاء وفيه وجهان الأول أن قوله لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ كلام تام وقوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ كلام منقطع عما قبله والتقدير لكن من ظلم فدعوه وخلوه وقال الفرّاء والزجاج يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداء الثاني أن يكون الاستثناء متصلاً والتقدير إَلاَّ مَن(11/73)
ظَلَمَ فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه ويعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستوراً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره
إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُو ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
أعلم أن معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر
ثم قال تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً وفيه وجوه الأول أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن الثاني أن الله كان عفواً لمن عفا قديراً على إيصال الثواب إليه الثالث قال الكلبي إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
أعلم أنه تعالى لما تكلم على طريقة المنافقين عاد يتكلم على مذاهب اليهود والنصارى ومناقضاتهم وذكر في آخر هذه السورة من هذا الجنس أنواعاً
النوع الأول من أباطيلهم إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض فقال إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فإن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلاً أي واسطة وهي الإيمان بالبعض دون البعض
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وفيه مسائل(11/74)
المسألة الأولى في خبر ءانٍ قولان أحدهما أنه محذوف كأنه قيل جمعوا المخازي والثاني هو قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ والأول أحسن لوجهين أحدهما أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب وإذا ذكر بقي مقتصراً على المذكور والثاني أنه رأس الآية والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلاً عن المبتدأ
المسألة الثانية أنهم إنما كانوا كافرين حقاً لوجهين الأول أن الدليل الذي يدل على نبوّة البعض ليس إلاّ المعجز وإذا كان دليلاً على النبوّة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوّة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوّة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم
فإن قيل هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الالزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلاً به فإلزام الكفر غير والتزام الكفر غير والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر
قلنا الإلزام إذا كان خفياً بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم أما إذا كان جلياً واضحاً لم يبقَ بين الالزام والالتزام فرق والثاني وهو أن قبول بعض الأنبياء أن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفراً بكل الأنبياء
المسألة الثالثة في قوله حَقّاً وجهان الأول أنه انتصب على مثل قولك زيد أخوك حقاً والتقدير أخبرتك بهذا المعنى إخباراً حقاً والثاني أن يكون التقدير أولئك هم الكافرون كفراً حقاً طعن الواحدي فيه وقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل المعنى أولئك هم الكافرون كفراً كاملاً ثابتاً حقاً يقيناً
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إنما قال وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعداً إلاّ أن أحداً لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويدل عليه وجهان الأول صحة الاستثناء والثاني قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 )
إذا عرفت هذا فتقدير الآية ولم يفرقوا بين أثنين منهم أو بين جماعة
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان وإلاّ لم تصلح هذه(11/75)
الآية لأن تكون ترغيباً في الإيمان وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية حفص يُؤْتِيهِمْ بالياء والضمير راجع إلى اسم الله والباقون بالنون وذلك أولى لوجهين أحدهما أنه أفخم والثاني أنه مشاكل لقوله وَأَعْتَدْنَا ( الأحزاب 31 )
المسألة الرابعة قوله تعالى سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخراً
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود فإنهم قالوا إن كنت رسولاً من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح وقيل طلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنك رسول الله وقيل كتاباً نعاينه حين ينزل وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت
واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت كأنه قيل إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ وهذه(11/76)
القصة قد فسرناها في سورة البقرة واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك
ثم قال تعالى ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين والمراد بالبينات من قوله مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أمور أحدها أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات فإن الصاعقة وإن كانت شيئاً واحداً إلاّ أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة وثانيها أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم وثالثها أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل وكل لذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق
ثم قال فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ يعني لم نستأصل عبدة العجل يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه وفيه بشارة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التنبيه والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم فأحدها أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم وفيه وجوه الأول أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق الثاني أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا وصار المعنى ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين الثالث أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وثانيها قوله وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ومضى بيانه في سورة البقرة وثالثها قوله وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ فيه وجهان الأول لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان أي ظلمه وجاوز الحد ومنه قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً ( الأنعام 108 ) الثاني لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قال لهم اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق
المسألة الثانية قرأ نافع لاَ تَعْدُواْ ساكنة العين مشددة الدال وأراد لا تعتدوا وحجته قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ ( البقرة 65 ) فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا(11/77)
كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة وقيل لهم ويقولون إن المد يصير عوضاً عن الحركة وروى ورش عن نافع لاَ تَعْدُواْ بفتح العين وتشديد الدال وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين والباقون تَعْدُواْ بضم الدال وسكون العين حقيقة
المسألة الثالثة قال القفال الميثاق الغليط هو العهد المؤكد غاية التوكيد وذلك بين فيما يدعونه من التوراة ثم قال تعالى
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَأايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق الباء في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم قولان الأول أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا لعنادهم وسخطنا عليهم والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن الثاني أن متعلق الباء هو قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ بدل من قوله فِيمَا نَقْضِهِم
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان أحدهما أن من قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ إلى قوله فَبِظُلْمٍ الآيتين بعيد جداً فجعل أحدهما بدلاً عن الآخر بعيد الثاني أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جداً لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم قلوبنا غلف أعظم الذنوب وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة
المسألة الثانية اتفقوا على أن ( ما في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ صلة زائدة والتقدير فبنقضهم ميثاقهم وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 )
المسألة الثالثة أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور أولها نقض الميثاق وثانيها كفرهم بآيات الله والمراد منه كفرهم بالمعجزات وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله وثالثها قتلهم الأنبياء بغير حق وذكرنا تفسيره في سورة البقرة ورابعها قولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ وذكر القفال فيه وجهين أحدهما أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا فكذبوا الأنبياء بهذا القول والثاني أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون نظيره ما حكى الله في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 )(11/78)
ثم قال تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها وهذا يليق بمذهبنا وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية وهذا يليق بمذهب المعتزلة إلاّ أن الوجه الأول أولى وهو المطابق لقوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل البتة
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
وخامسها قوله وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
اعلم أنهم لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر والقدح في وجود الصانع المختار فالقوم لا شك أنهم أولاً أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب وثانياً نسبوا مريم إلى الزنا فالمراد بقوله وَبِكُفْرِهِمْ هو إنكارهم قدرة الله تعالى وبقوله وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً نسبتهم إياها إلى الزنا ولما حصل التغير لا جرم حسن العطف وإنما صار هذا الطعن بهتاناً عظيماً لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلّ على براءتها من كل عيب نحو قوله وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ( مريم 25 ) ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلاً منفصلاً عن أمه فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( النور 16 ) وذلك يدل على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم عليها السلام
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
وسادسها قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك وهذا يدل على أنهك كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم
فإن قيل اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن(11/79)
الفاعلة فكيف قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكقول كفار قريش لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجز 6 ) والثاني أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ وفي الآية سؤالان
السؤال الأول قوله شُبّهَ مسند إلى ماذا إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبّه به وليس بمشبه وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر
والجواب من وجهين الأول أنه مسند إلى الجار والمجرور وهو كقولك خيل إليه كأنه قيل ولكن وقع لهم الشبه الثاني أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله وَمَا قَتَلُوهُ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكوراً بهذا الطريق فحسن إسناد شُبّهَ إليه
السؤال الثاني أنه إن جاز أن يقال أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة فإنا إذا رأينا زيداً فلعله ليس بزيد ولكنه ألقى شبه زيد عليه وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك وثوقاً به وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنا نقول لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة وأيضاً ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر والطعن فيه يوجب الطعن في نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردوداً
والجواب اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً
الأول قال كثير من المتكلمين إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس وبهذا الطريق زال السؤال لا يقال إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً لأنا نقول إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب
والطريق الثاني أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه الأول أن اليهود لما علموا أنه(11/80)
حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه الثاني وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى الثالث أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي فقال واحد منهم أنا فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى عليه السلام الرابع كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام وكان منافقاً فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال تعالى أَعْلَمُ أَنَّ فِى قَوْلُهُ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ قولين الأول أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة النسطورية والملكانية واليعقوبية
أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول قالوا لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن وءما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه لا يقال فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص لأنا نقول إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة
وأما الملكانية فقالوا القتل والصلب وصلا إلى الاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة
وقالت اليعقوبية القتل واللصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب وهو المراد من قوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ
القول الثاني أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود وفيه وجهان الأول أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره الثاني قال السدي إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من(11/81)
الحواريين في بيت فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فذلك اختلافهم فيه
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا العمل بالقياس اتباع للظن واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ لا يَخْرُصُونَ ( الأنعام 116 ) وقال في آية أخرى وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( يونس 36 ) وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم
والجواب لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً لا مظنوناً وهذا الكلام له غور وفيه بحث
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
واعلم أن هذا اللفظ يحتمل وجهين أحدهما يقين عدم القتل والآخر يقين عدم الفعل فعلى التقدير الأول يكون المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام بلحين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا والاحتمال الأول أولى لأنه تعالى قال بعده بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل
أما قوله بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو والكسائي بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بإدغام اللام في الراء والباقون بترك الإدغام حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى ترك الإدغام
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بقوله تعالى بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ في إثبات الجهة
والجواب المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( البقرة 210 ) وقال تعالى وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 100 ) وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة وقال إبراهيم إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 )
المسألة الثالثة رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية ونظير هذه الآية قوله في آل عمران إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب(11/82)
ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
والمراد من العزة كمال القدرة ومن الحكمة كمال العلم فنبجه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمعتذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي وهو نظير قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) فإن الإسراء وإن كان متعذراً بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه ثم قال تعالى
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بيّن تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداواته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
واعلم أن كلمة ءانٍ بمعنى ( ما ) النافية كقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) فصار التقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام
والجواب من وجهين الأول ما روي عن شهر بن حوشب قال قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به فيقول آمنت أنه عبدالله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبدالله فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان فاستوى الحجاج جالساً وقال عمن نقلت هذا فقلت حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال لقد أخذتها من عين صافية وعن ابن عباس أنه فسّره كذلك فقال له عكرمة فإن خر من سفق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به ويدل عليه قراءة أُبي إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحداً يصلح للجميع قال صاحب ( الكشاف ) والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان
والوجه الثاني في الجواب عن أصل السؤال أن قوله قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى والمراد أن(11/83)
أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لا بدّ وأن يؤمنوا به قال بعض المتكلمين إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبياً ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء وهذا الاشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعند مبعثه انتهت تلك المدة فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قيل يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكذلك كل نبي شاهد على أمته ثم قال تعالى
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما شرح فضائح أعمال اليهود وقبائح الكافرين وأفعالهم ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما تشديده عليهم في الدنيا فهو أنه تعالى حرّم عليهم طيبات كانت محللة لهم قبل ذلك كما قال تعالى في موضع آخر وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) ثم إنه تعالى بيّن ما هو كالعلة الموجبة لهذه التشديدات
واعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين الظلم للخلق والإعراض عن الدين الحق أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ونظيره قوله تعالى سَمَّاعُونَ الْكَذِبَ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( المائدة 43 ) فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدنم ذكره من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم
لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً(11/84)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من ذلك عبدالله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و يُؤْمِنُونَ خبره وأما قوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ففيه أقوال الأول روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها
واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه الثاني وهو قول البصريين أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة قالوا إذا قلت مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد ولك أن تنصبه على تقدير أعني وءن شئت رفعت على تقدير هو الكريم وعلى هذا يقال جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية أعني المقيمين اللاة وهم المؤتون الزكاة طعن الكسائي في هذا القول وقال النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وههنا لم يتم الكلام لأن قوله لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ منتظر للخبر والخبر هو قوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
والجواب لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله أُوْلَائِكَ لأنا بينا أن الخبر هو قوله يُؤْمِنُونَ وأيضاً لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر وما الدليل على امتناعه فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية
والقول الثالث وهو اختيار الكسائي وهو أن المقيمين خفض بالعطف على ( ما ) في قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمعنى والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة ثم عطف على قوله وَالْمُؤْمِنُونَ قوله وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة قال تعالى في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذكر أعداداً منهم وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 73 ) وقيل المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون فقوله يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يعني يؤمنون بالكتب وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ يعني يؤمنون بالرسل الرابع جاء في مصحف عبدالله بن مسعود إِلَى الصَّلَواة ِ بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي
المسألة الثانية اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام الأول العلماء بأحكام الله تعالى فقط والثاني العلماء بذات الله وصفات الله فقط والثالث العلماء بأحكام الله وبذات الله أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتاليفه وشرائعه وأما الثاني فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة وأما الثالث فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء )
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصفهم(11/85)
بكونهم راسخين في العلم ثم شرح ذلك فبيّن أولاً كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة والزكاة أشرف الطاعات المالية ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والعلم بالمعاد هو المراد من قوله وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة ثم أخبر عنهم بقوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد وللجاج وحكى أنواعاً كثيرة من فضائحهم وقبائحهم وامتد الكلام إلى هذا المقام شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ والمعنى أنا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين وما أنزل الله على كل واحد من أنواع المعجزات عليهم علمنا أن هذه الشبهة زائلة وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل وتحقيق القول فيه أن(11/86)
إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزاً آخر وهذا الجواب المذكور ههنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني أنك إنما ادعيت الرسالة والرسول لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه وذلك قد حصل وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود وهو المقصود الأصلي من هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) أي أشار إليهم وقال وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى ( المائدة 111 ) وقال وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام
المسألة الثالثة قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام ثم قال تعالى وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ ثم خصّ بعض النبيّين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى عليه السلام إثنا عشر ولم يذكر موسى معهم وذلك لأن اليهود قالوا إن كنت يا محمد نبياً فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الأثنى عشر كلهم كانوا أنبياءً ورسلاً مع أن واحداً منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله وهذا إلزام حسن قوي
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الزبور الكتاب وكل كتاب زبور وهو مفعول بمعنى مفعول كالرسول والركوب والحلوب وأصله من زبرت بمعنى كتبت وقد ذكرنا ما فيه عند قوله جَاءوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( آل عمران 184 )
المسألة الخامسة قرأ حمزة زَبُوراً بضم الزاي في كل القرآن والباقون بفتحها حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل ثم استعمل في المفعول كقولهم ضرب الأمير ونسج فلان فصار اسماً ثم جمع على زبر كشهود وشهد والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب فعلى هذا الزبور الكتاب والزبر بضم الزاي الكتب أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر والقراءة بها أكثر
ثم قال تعالى وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ(11/87)
وأعلم أنه انتصب قوله رُسُلاً بمضمر يفسره قوله قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل
ثم قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف الطعن في نبوّة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب لا على هذا الوجه وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقال بعضهم وكلم الله معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وهذا تفسير باطل
ثم قال تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله رُسُلاً وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الأوجه أن ينتصب على المدح والثاني أنه انتصب على البدل من قوله وَرُسُلاً الثالث أن يكون التقدير أوحينا إليهم رسلاً فيكون منصوباً على الحال والله أعلم
المسألة الثانية أعلم أن هذا الكلام أيضاً جواب عن شبهة اليهود وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتمّ المطلوب وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوباف في الألواح أو لم يكن وبأن يكون نازلاً دفعة واحدة أو منجماً مفرقاً بل لو قيل إن إنزال الكتاب منجماً مفرقاً أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف أما إذا نزل الكتاب منجماً مفرقاً لم يكن كذلك بل ينزل التكاليف شيئاً فشيئاً وجزءاً فجزءاً فحينئذٍ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا لجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك فكان اقتراح اليهود في أنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحاً فاسداً وهذا أيضاً جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن ثم ختم الآية بقوله وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار وللجاج والله أعلم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات ونظيره قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسرار 15 ) وقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )(11/88)
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب وأن الذي يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل وذلك يبطل قول أهل السنة
والجواب المراد لئلا يكون للناس على لله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم قالت المعتزلة وتدل هذه الآية أيضاً على أن تكليق ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذراً فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحاً لأن يكون عذراً كان أولى وجوابه المعرضة بالعلم والله أعلم
لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى أعلم أن قوله لَكِنِ لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق وفي ذلك المستدرك قولان الأول أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء ( النساء 153 ) وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتاباً نازلاً عليهم من السماء فكأنه قيل إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء الثاني أنه تعالى لما قال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( النساء 163 ) قال القوم نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
المسألة الثانية شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته فكان ذلك معجزاً وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي يشهد لك بالنبوّة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك
ثم قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة فصار قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ جارياً مجرى قول القائل كتبت بالقلم وقطعت بالسكين والمراد من قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفشل والعلم إذا صنف كتاباً واستقصى في تحريره إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا ههنا والله أعلم(11/89)
المسألة الثانية قال أصحابنا دلت الآية على أن لله تعالى علماً وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال
ثم قال وَالْمَلَئِكَة ُ يَشْهَدُونَ وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد به بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول والمقصود كأنه قيل يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك ومن صدقه ربّ العالمين وملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وهم هؤلاء اليهود
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً والمعنى وكفى الله شهيداً وقد سبق الكلام في مثل هذا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
أعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم لو كان رسولاً لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى وقولهم إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة وقولهم إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود وقوله قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً وذلك لأن أشد الناس ضلالاً من كان ضالاً ويعتقد في نفسه أنه محق ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه ثم إنه يبل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات فلهذا قال تعالى في حقهم قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ محمداً بكتمان ذكر بعثته وصلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وأعلم أنا إن حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة ثم قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انتصب خالدين على الحال والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه(11/90)
بمنزلة نعاقبهم خالدين وانتصب أَبَدًا على الظرف وكان ذلك على الله يسيراً والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئاً بعد شيء إلى غير النهاية يسيراً عليه وإن كان معتذراً على غيره
ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
أعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة اليهود على الوجوه الكثيرة وبيّن فساد طريقتهم ذكر خطاباً عاماً يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فقال يَسِيراً يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ مِن رَّبّكُمْ وهذا الحق فيه وجهان الأول أنه جاء بالقرآن القرآن معجز فيلزم أنه جاء بالحق من ربه والثاني أنه جاء بالدعوة إلى عبادة الله والاعراض عن غيره والعقل يدل على أن هذا هو الحق فيلزم أنه جاء بالحق من ربه
ثم قال تعالى يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ يعين فآمنوا يكن ذلك الإيمان خيراً لكم مما أنتم فيه أي أحمد عقبة من الكفر وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء ويحتمل أن يكون المراد فإن ( صلى الله عليه وسلم ) ما في السموات والأرض ومن كان كذلك كان قادراً على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم ويحتمل أن يكون المراد أنكم إن كفرتم فله ملك السموات والأرض وله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي عليماً لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء و حَكِيماً لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن وهو كقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )(11/91)
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم فلهذا قال النصارى لا تغلوا في دينكم وقوله ولا تقولوا على الله إلا الحق يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه ونزهوه عن هذه الأحوال ولما منهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده
وأما وقوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فاعلم أنا فسرنا الكلمة في قوله تعالى إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح آل عمران 45 والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون آل عمران 59 وأما قوله وروح منه ففيه وجوه الأول أنه جرت عادة الناتس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح والمراد من قوله منه التشريف والتفضيل كما يقال هذه نعمة من الله والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة الثاني أنه كانم سببا لحياة الخلق في أديانهم ومن كان كذلك وصف بأنه روح قال تعالى في صفة القرآن وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا الشورى 52 الثالث روح منه أي رحمة منه قيل في تفسير قوله تعالى وأيدهم بروح منه المجادلة 22 أي برحمة منه وقال عليه الصلاة والسلام { إنما رحمة مهداة } فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه الرابع أن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا الخامس قوله روح أدخل التنكير في لفظ روح وذلك يفيد التعظيم فكان المعنى وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية وقوله منه إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم(11/92)
ثم قال تعالى فآمنوا بالله ورسله أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها
ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم زفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجواهر ثلاثة بالأقانيم
واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا والذي يتحصل منه أهم أثبوت ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات غلا أنهم في الحقيقة يثبتون دوات متعددة قائمة بأنفسها وذلك محض الكفر فلهذا المعنى قال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة فهذا لا يمكن إنكاره وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك فلو كان القول بتعدد الصفات كفرا لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه تعالى قادرا أو حيا
المسألة الثانية قوله ثلاثة خبر مبتدأ محذوف ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه الأول ما ذكرناه أي ولا تقولوا الأقاليم ثلاثة الثاني قال الزجاج ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون إن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة والدليل عليه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله المائدة 116 الثالث قال الفراء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة الكهف 22 زذلك لأن عيسى بن مريم مع الله تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما ألهين وبالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى
ثم قال تعالى انتهوا خير لكم وقد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله فآمنوا خيرا لكم النساء 170
ثم أكد التوحيد بقوله إنما الله إله واحد ثم نزه نسه عن الولد بقوله سبحانه أن يكون له ولد ودلائل تنزيه الله عن الولد فد ذكرناها في سورة آل عمران وفي سورة مريم على الاستقصاء وقرأ الحسن إن يكون بكسر الهمزة من أن ورفع النون من يكون أي سبحانه ما يكون له ولد وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان
ثم قال تعالى له ما في السموات والأرض
واعلم أنه سبحانه في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السموات وما في الأرض فقال في مريم إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا مريم 93 والمعنى من كان مالكا لكل السموات والأرض ولكل ما فيها كان مالكا لعيسى ولمريم لأنهما كانا في السموات وفي الأرض وما كانا أعظم من عيرهما في الذوات والصفات وإذا كان مالكا لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكا(11/93)
لهما أولى وإذا كانا مملوكين له فكيف مع هذا توهم كونهما له ولدا وزوجة
ثم قال وكفى بالله وكيلا والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات كان كافيا في الإلهية ولو فرضنا إلها معه آخر معه لكان معطلا لا فائدة فيه وذلك نقص والناقص لا يكون إلها
ثم قال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج لن يستنكف أي لن يأنف وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك فتأويل لن يستنكف أي لن يتنغص ولن يمتنع وقال الأزهري سمعت المنذري يقول سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال هو من النكف يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف والنكف أن يقال له سوء واستنكف إذا وفع ذلك السوء عنه
المسألة الثانية روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي سيء قلت قالوا تقول إنه عبد الله ورسوله قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله فنزلت هذه الآية وأنا أقول إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله ولا يجوز أن يكون ابنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى
المسألة الثالثة استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم البقرة 34 وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة والذي نقول ههنا إنا نسلن أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر كيف ويقال إن جبريل قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر وهذه الآية لا تدل على ذلك البتة وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العلم وفي هذه القدرة من البشر ونحن نقول بموجبه فأما أن يقال المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية سؤال وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير ولا(11/94)
الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز
والجواب فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين والثاني أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قول عبدا لله عليه على طريق الإيجاز
المسألة الخامسة قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيد الله على التصغير
المسألة السادسة قوله ولا الملائكة المقربون يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله وإذا قال ربك للملائكة البقرة 30
ثم قال تعالى ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا والمعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين
فقال فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ثم ذكر آخرا عقاب المستنكفين المستكبرين
فقال وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا والمعنى ظاهر لا إشكال فيه وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين لأنهم إذا رأوا أولا ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
واعلم أنه تعالى لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجااب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام فقال نَصِيراً يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه برهاناً لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل والنور المبين هو القرآن وسماه نوراً لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولاً وكون القرآن كتاباً حقاً أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووعدهم عليه بالثواب فقال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزع الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً فوعد بأمور ثلاثة الرحمة(11/95)
والفضل والهداية قال ابن عباس الرحمة الجنة والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً يريد ديناً مستقيماً
وأقول الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيهاً على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَة ً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلاً للأول ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين قال أهل العلم إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة والأخرى في الصيف وهي هذه الآية ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد ثم قال إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد
واعلم أن ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث الأول أن ظاهر الآية يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن فإن كان له بنت فإن الأخت تأخذ النصف الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد وذلك أن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع الثالث أن قوله وَلَهُ أُخْتٌ المراد منه الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم قد بيّن الله حكمه في أول السورة بالإجماع
ثم قال تعالى وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد إلاّ أن هذا الأخ من الأب والأم أو من الأب أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث
ثم قال تعالى فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ(11/96)
وهذه الآية دالة على أن الأخت المذكورة ليست هي الأخت من الأم فقط وروي أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته ألا أن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض فأولها في الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام
ثم قال تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وفيه وجوه الأول قال البصريون المضاف هاهنا محذوف وتقديره يبين الله لكمم كراهة أن تضلوا إلاّ أنه حذف المضاف كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) الثاني قال الكوفيون حرف النفي محذوف والتقدير يبين الله لكم لئلا تضلوا ونظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) أي لئلا تزولا الثالث قال الجرجاني صاحب ( النظم ) يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجنبوها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ فيكون بيانه حقاً وتعريفه صدقاً
واعلم أن في هذه الصورة لطيفة عجيبة وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ( النساء 1 ) وهذا دال على سعة القدرة وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإل هية والجلالة والعزة وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاً للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف
قال المصنف فرغت من تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة خمس وتسعين وخمسمائة(11/97)
سورة المائدة
مدنية وآياتها مائة وعشرون
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاٌّ نْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ في الآية مسائل
المسألة الأولى يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ( البقرة 177 ) والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام والعهد إلزام والعقد التزام على سبيل الأحكام ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان فلهذا قال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق
واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية وكما في قوله وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( المائدة 89 ) وتارة عهوداً قال تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( النحل 91 ) وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلاً وتركاً(11/98)
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا وقال أبو حنيفة رحمه الله بل يصح حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد ونذر ذبح الولد وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد والآتي بالمركب يكون آتياً بكل واحد من مفرديه فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزماً للصوم والذبح
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ولقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 ) ولقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ف بنذرك ) أقصء ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح واقعاً في الولد إلاّ أن العام بعد التخصيص حجة وحجة الشافعي رحمه الله أن هذا نذر في المعصية فيكون لغواً لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا نذر في معصية الله )
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رحمه الله خيار المجلس غير ثابت وقال الشافعي رحمه الله ثابت حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا )
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله الجمع بين الطلقات حرام وقال الشافعي رحمه الله ليس بحرام حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم
قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ
إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر والأنعام هي الإبل والبقر والغنم قال تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء إلى قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ( النحل 5 8 ) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 71 72 ) وقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ(11/99)
إلى قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وإلى قوله وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( للأنعام 142 144 ) قال الواحدي رحمه الله ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء
إذا عرفت هذا فنقول في لفظ الآية سؤالات الأول أن البهيمة اسم الجنس والأنعام اسم النوع فقوله بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يجري مجرى قول القائل حيوان الإنسان وهو مستدرك الثاني أنه تعالى لو قال أحلت لكم الأنعام لكان الكلام تاماً بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( الحج 30 ) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية الثالث أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان ولفظ الأنعام بلفظ الجمع فما الفائدة فيه
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان وهذه الإضافة بمعنى مِنْ كخاتم فضة ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا نفس الشيء وذاته وعينه الثاني أن المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة الثاني أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال هذا من بهيمة الأنعام وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمه
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم
المسألة الثانية قالت الثنوية ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح والقبيح لا يرضى به الإل ه الرحيم الحكيم فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله قالوا والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها وهذا كالمكابرة في الضروريات وقالت المعتزلة لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً قالوا والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة فكذلك القول في الذبح وقال أصحابنا إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثالثة قال بعضهم قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ مجملل لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بدّ من إضمار فعل وليس إضمار بعض(11/100)
الأفعال أولى من بعض فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة إلاّ أن قوله تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( النحل 5 ) دل على أن المراد بقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ ألحق به نوعين من الاستثناء الأول قوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً أيضاً إلاّ أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ( المائدة 3 ) ووجه هذا أن قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة
النوع الثاني من الاستثناء قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها فعرفنا أن ما كان منها صيداً فإنه حلال في الإحلال فون الإحرام وما لم يكن صيداً فإنه حلال في الحالين جميعاً والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما يقال أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم كما يقال أجنب فهو مجنب وجنب ويستوي فيه الواحد والجمع يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب قال تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ ( المائدة 65 )
وأعلم أنا إذا قلنا أحرم الرجل فله معنيان الأول هذا والثاني أنه دخل الحرم فقوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ يشتمل على الوجهين فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرماً بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء
المسألة الثالثة أعلم أن ظاهر لآية يقتضي أن لصيد حرام على المحرم ونظير هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ فإن إِذَا للشرط والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء إلا أنه تعالى بيّن في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فصارت هذه الآية بياناً لتلك الآيات المطلقة
المسألة الرابعة انتصب غَيْرِ على الحال من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ كما تقول أحل لكم الطعام غير معتدين فيه قال الفرّاء هو مثل قولك أحل لك الشيء لا مفرطاً فيه ولا متعدياً والمعنى أحلت لكم بهيمة(11/101)
الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذ كنتم محرمين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض فلو قال قائل ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ
قوله تعالى حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ
أعلم أنه تعالى لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ
وأعلم أن الشعائر جمع والأكثرون على أنها جمع شعيرة وقال ابن فارس واحدها شعارة والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة والمشعرة المعلمة والأشعار الأعلام وكل شيء أشعر فقد أعلم وكل شيء جعل علماً على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدايا واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله وفيه قولان الأول قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين ويقرب منه قول الحسن شعائر الله دين الله والثاني أن المراد منه شيء خاص من التكاليف وعلى هذا القول فذكروا وجوهاً الأول المراد لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد والثاني قال ابن عباس إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ الثالث قال الفراء كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما فأنزل الله تعالى لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتما الرابع قال بعضهم الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى وهو قول أبي عبيدة قال ويدل عليه قوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( الحج 36 ) وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى والعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه
ثم قال تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه
وأعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه قال تعالى إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ( التوبة 36 ) فقيل هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب فقوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يجوز أن يكون إشارة إلى(11/102)
جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة
ثم قال تعالى وَلاَ الْهَدْى َ قال الواحدي الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة واحدها هدية بتسكين الدال ويقال أيضاً هدية وجمعها هدى قال الشاعر
حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات ونظير هذه الآية قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) وقوله وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( الفتح 25 )
ثم قال تعالى وَلاَ الْقَلَائِدَ والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة وفي التفسير وجوه الأول المراد منه الهدى ذوات القلائد وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) كأنه قيل والقلائد منها خصوصاً الثاني أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى ولا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) فهنى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها الثالث قال بعضهم كانت العرب في الجاهلية موظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه إلا أن يكون مشعراً بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم أو محرماً بعمرة إلى البيت فحينئذٍ لا يتعرض له فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى
ثم قال وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ أي قوماً قاصدين المسجد الحرام وقرأ عبد الله ولا آمي البيت الحرام على الإضافة
ثم قال تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حميد بن قيس الأعرج تَبْتَغُونَ بالتاء على خطاب المؤمنين
المسألة الثانية في تفسير الفضل والرضوان وجهان الأول يبتغون فضلاً من ربهم بالتجارة المباحة لهم في جحهم كقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( البقرة 198 ) قالوا نزلت في تجاراتهم أيام الموسم والمعنى لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم فابتغاء الفضل للدنيا وابتغاء الرضوان للآخرة قال أهل العلم إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة(11/103)
والوجه الثاني أن المراد بفضل الله الثواب وبالرضون أن يرضى عنهم وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما فيجوز أن يوصف بذلك بناءً على ظنه قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ ( طه 97 ) وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 )
المسألة الثالثة ااختلف الناس فقال بعضهم هذه الآية منسوخة لأن قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام وذلك منسوخ بقوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( البقرة 28 ) وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وقال الشعبي لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية وقال قوم آخرون من المفسرين هذه الآية غير منسوخة وهؤلاء لهم طريقان الأول أن الله تعالى أمرن في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين والدليل عليه أول الآية وآخرها أما أول الآية فهو قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار وأما رخر ااية فهو قوله يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا
ثم قال تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وفي مسائل
المسألة الأولى قريء وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل وقريء بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء
المسألة الثانية هذه الآية متعلقة بقوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع
المسألة الثالثة ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا بالإباحة وكذا في قوله فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ ( الجمعة 10 ) ونظيره قول القائل لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذا معطوف على قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ إلى قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به وليس للناس أن يعين بعضهم بعضاً على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضاً على ما فيه البر والتقوى فهذا هو المقصود من الآية(11/104)
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) جَرَمَ يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد وتارة إلى إثنين تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه ويقال أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولهم أكسبته ذنباً وعليه قراءة عبد الله وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين والثاني أن تعتدوا والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه
المسألة الثالثة الشنآن البغض يقال شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ
ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها ويقال رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان ويقال شنآن بغير صرف وفعلان قد جاء وصفاً وقد جاء مصدراً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى والباقون بالفتح قالوا والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفاً قال الواحدي ومما جاء مصدراً كقولهم لويته حقه ليانا وشنان في قول أبي عبيدة وأنشد للأحوص
وإن غاب فيه ذو الشنان وفندا
فقوله ذو الشنان على التخفيف كقولهم إني ظمان وفلان ظمان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها
المسألة الخامسة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن صَدُّوكُمْ بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف يعني لأن صدوكم قال محمد بن جرير الطبري وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة وهذه السورة نزلت بعد الحديبية وكان هذا الصد متقدماً لا محالة على نزول هذه الآية
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ والمراد منه التهديد والوعيد يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئاً من محارمه إن الله شديد العقاب لا يطيق أحد عقابه
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاٌّ زْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ
إعلم أنه تعالى قال في أول السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ ( المائدة 1 ) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم وهي أحد عشر نوعاً الأول الميتة وكانوا(11/105)
يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله
وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول لأن الدم جوهر لطيف جداً فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة والثاني الدم قال صاحب ( الكشاف ) كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف فالله تعالى حرم ذلك عليهم والثالث لحم الخنزير قال أهل العلم الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي فلا بدّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان الرابع ما ى هل لغير الله به والإهلال رفع الصوت ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك والخامس المنخنقة يقال خنقة فاختنق والخنق والاختناق انعصار الحلق
وأعلم أن المنخنقة على وجوه منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها ومنها ما يخنق بحبل الصائد ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام
وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه والسادس الموقوذة وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات وهي أيضاً في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها السابع المتردية والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك قال تعالى لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ( الليل 11 ) أي وقع في النار ويقال فلان تردى من السطح فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت وهذا أيضاً من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم والثامن النطيحة وهي المنطوحة إلى أن ماتت وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما وهذا أيضاً داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم
وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل
فإن قيل لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة كقولهم كف خضيب ولحية دهين وعين كحيل
قلنا إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة والتاسع قوله(11/106)
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ذَكَّيْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها مثل الأسد وما دونه ويجوز التخفيف في سبع فيقال سبع وسبعة وفي رواية عن أبي عمرون السبع بسكون الباء وقرأ ابن عباس وأكيل السبع
المسألة الثانية قال قتادة كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى وفي الآية محذوف تقديره وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له وإنما الحكم للباقي
المسألة الثالثة أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه ومنه الذكاء في السن وقيل جري المذكيات غلاب أي جري المسنات التي قد أسنت وتأويل تمام السن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها
إذا عرفت هذا الأصل فنقول الاستثناء المذكور في قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ فيه أقوال الأول أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله وَالْمُنْخَنِقَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك إو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه
والقول الثاني أن هذا الاستثناء مختص بقوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
والقول الثالث أنه استثناء منقطع كأنه قيل لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال
والقول الرابع أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعاً أيضاً العاشر من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى النصب يحتمل أن يكون جمعاً وأن يكون واحداً فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه الأول أن واحده نصاب فقولنا نصاب ونصب كقولنا حما وحمر الثاني أن واحده النصب فقولنا نصب ونصب كقولنا سقف وسقف ورهن ورهن وهو قول ابن الأنباري والثالث أن واحدة النصبة قال الليث النصب جمع النصبة وهي علامة تنصب لقوم أما إن قلنا أن النصب واحد فجمعه أنصاب قفولنا نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب قال الأزهري وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه
لعاقبة والله ربك فاعبدا المسألة الثانية من الناس من قال النصب هي الأوثان وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وذلك هو الذبح على اسم الأثان ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه وقال ابن جريج النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا(11/107)
ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظنون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينكره فأنزل الله تعالى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ( الحج 37 )
واعلم أن مَا في قوله وَمَا ذُبِحَ في محل الرفع لأنه عطف على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
واعلم أن قوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فيه وجهان أحدهما وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب والثاني وما ذبح للنصب و ( اللام ) و ( على ) يتعاقبان قال تعالى فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) أي فسلام عليك منهم وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) أي فعليها
النوع الحادي عشر قوله تعالى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاْزْلاَمِ قال القفال رحمه الله ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح وكانوا قد كتبوا على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح الثاني قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه والأزلام قداح الميسر والقول الأول اختيار الجمهور
المسألة الثانية الأزلام القداح واحدها زلم ذكره الأخفش وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت ويقال رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفاً قليل العلائق ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته وما أحسن ما زلم سهمه أي سواه ويقال لقوائم البقر أزلام شبهت بالقداح للطافتها
ثم قال تعالى ذالِكُمْ فِسْقٌ وفيه وجهان الأول أن يكون راجعاً إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصراً عليه والثاني أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم فمن خالف فيه راداً على الله تعالى كفر
فإن قيل على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقاً أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب الفأل وهذا أيضاً من جملة الفأل فلم صار فسقاً
قلنا قال الواحدي إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام لقوله تعالى وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ( لقمان 34 ) وقال قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( النمل 65 ) وروى أبو الدرداء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة )
ولقائل أن يقول لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلباً لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم(11/108)
التعبير غيباً أو كفراً لأنه طلب للغيب ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفراً لأنه طلب للغيب ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً ومعلوم أن ذلك كله باطل وأيضاً فالآيات إنما وردت في العلم والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علماً وإنما يستفيد من ذلك ظناً ضعيفاً فلم يكن ذلك داخلاً تحت هذه الآيات وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم فلهذا السبب كان ذلك فسقاً وكفراً وهذا القول عندي أولى وأقرب
قوله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله ذالِكُمْ فِسْقٌ والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ونظيره قوله كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ولا باليوم يومك الذي أنت فيه
والقول الثاني أن المراد به يوم نزول هذه الآية وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفات على ناقته العضباء
المسألة الثانية قوله يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة والثاني يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان وهو قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهذا القول أولى(11/109)
المسألة الثالثة قال قوم الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أن قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقتضي أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أن الدين الذي كان ( صلى الله عليه وسلم ) مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوهاً الأول أن المراد من قوله أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهراً كلياً اليوم كمل ملكنا وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصاً الثاني أن المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز الثالث وهو الذي ذكره القفال وهو المختار أن الدين ما كان ناقصاً البتة بل كان أبداً كاملاً يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم وأما في رخر زمان المبعث فأنزل الله سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
المسألة الثانية قال نفاة القياس دلت الآية على أن القياس بالطل وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملاً وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثاً وإن كان على خلافه كان باطلاً
أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بياناً لكل الأحكام وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالاً للدين قال نفاة القياس الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحداً والمخالف يكون مستحقاً للعقاب وينقض(11/110)
قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكيناً لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالاً للدين بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات قال مثبتو القياس إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالاً للدين ويكون كل مكلف قاطعاً بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة وذلك لأنه تعالى بيّن أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين وأكد ذلك بقوله فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصاً عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) نصاً واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه ولما لم يكن الأمر كذلك بل لم يجر لهذا النص ذكر ولا ظهر منه خبر ولا أثر علمنا أن ادعاء هذا النص كذب وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصاً عليه بالإمامة
المسألة الرابعة قال أصحاب الآثار إنه لما نزلت هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قرب وفاته وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً ومما يؤكد ذلك ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فكان ذلك دليلاً على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره
المسألة الخامسة قال أصحابنا دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضاً منه
واعلم أنا سواء قلنا الدين عبارة عن العمل أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر
وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز
ثم قال تعالى وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام
واعلم أن هذه الآية أيضاً دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى وذلك لأنا نقول الدين الذي هو الإسلام نعمة وكل نعمة فمن الله فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله
إنما قلنا إن الإسلام نعمة لوجهين الأول الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم الحمد لله على نعمة الإسلام(11/111)
والوجه الثاني أنه تعالى قال في هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ذكر لفظ النعمة مبهمة والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ
قلنا أما الأول فقد عرف بقوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فحمل هذه الآية عليه أيضاً يكون تكريراً
وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماماً للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة فثبت أن دين الإسلام نعمة
وإاذ ثبت هذا فنقول كل نعمة فهي من الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده
ثم قال تعالى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
ثم قال تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار ومن قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض وقع في البين والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة والمخمصة المجاعة قال أهل اللغة الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن يقال رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات وقوله غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ أي غير متعمد وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ( البقرة 182 ) أي ميلاً فقوله غير مُتَجَانِفٍ أي غير مائل وغير منحرف ويجوز أن ينتصب غَيْرِ بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف ويجوز أن ينصب بقوله اضْطُرَّ ويكون المقدر متأخراً على معنى فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذاً وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصياً بسفره وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) وقوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(11/112)
قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وهذا أيضاً متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في السؤال معنى القول فلذلك وقع بعده مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كأنه قيل يقولون لك ماذا أحل لهم وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك بل إنما يقولون ماذا أحل لنا بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم بل هو بيان لكيفية الواقعة
المسألة الثانية قال الواحدي مَاذَا إن جعلته اسماً واحداً فهو رفع بالابتداء وخبره أَحَلَّ وإن شئت جعلت مَا وحدها اسماً ويكون خبرها ذَا و أَحَلَّ من صلة ذَا لأنه بمعنى ما الذي أحل لهم
المسألة الثالثة أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال وأكد هذه الآية بقوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وبقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 )
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ والحلال المأذون فيه يسمى أيضاً طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات وإلا لصار تقدير الآية قل أحل لكم المحلللات ومعلوم أن هذا ركيك فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى فصار التقدير أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلاً كبيراً وقانون مرجوعاً إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب والعلم به ضروري وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح وعند أبي حنيفة حرام حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ فوجب أن يحل لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ويدل أيضاً على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر وقد حصل ذلك في الخيل فوجب أن تكون مذكاة فوجب أن تحل لعموم قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضاً حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسياً فهي مذكاة وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءاً من ماهية الذكاة وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكناً فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ومنها أن لحم الحمر الأهلية(11/113)
مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر
ثم قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول أن فيها إضماراً والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه وهو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الثاني أن يقال إن قوله وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ ابتداء كلام وخبره هو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار
المسألة الثانية في الجوارح قولان أحدهما أنها الكواسب من الطير والسباع واحدها جارحة سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب قال تعالى الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ ( الجاثية 21 ) أي اكتسبوا وقال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 ) أي ما كسبتم والثاني أن الجوارح هي التي تجرح وقالوا أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل
المسألة الثالثة نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله وتمسكوا بقوله تعالى مُكَلّبِينَ قَالُواْ لاِنْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به كالفهد والسباع من الطير مثل الشاهين والباشق والعقاب قال الليث سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى مُكَلّبِينَ من وجوه الأول أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه الثاني أن كل سبع فإنه يسمى كلباً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد ) الثالث أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة يقال فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه والرابع هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز وهو غير مذكور في الآية والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة لأنه تعالى قال وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لعدي بن حاتم ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ) قال الشافعي رحمه الله والكلب لا يصير معلماً إلاّ عند أمور وهي إذا أرسل استرسل وإذا أخذ حبس ولا يأكل وإذا دعاه أجابه وإذا أراده لم يفر منه فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ولم يذكر رحمه الله فيه حداً معيناً بل قال أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات وقال الحسن البصري رحمه الله يصير معلماً بمرة واحدة وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلماً بتكرير ذلك مرتين وهو قول أحمد رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يصير معلماً بثلاث مرات(11/114)
المسألة الخامسة الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم ومؤدب صاحب التأديب قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء مكلبين بالتخفيف وأفعل وفعل يشتركان كثيراً
المسألة السادسة انتصاب مكلبين على الحال من عَلِمْتُمُ
فإن قيل ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم
قلنا فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم
ثم قال تعالى اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعمل أنه إذا كان الكلب معلماً ثم صاد صيداً وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال وجرح الجارحة الكذبح وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة وكذا في السهم والرمح أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم لا يجوز أكله لأنه ميتة وقال آخرون يحل لدخوله تحت قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهذا كله إذا لم يأكل فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل وهو أظهر أقوال الشافعي قالوا لأنه أمسك الصيد على نفسه والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه ويدل عليه أيضاً ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعدي ابن حاتم ( إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئاً فإنما أمسك على نفسه وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية مِنْ في قوله مِمَّا أَمْسَكْنَ فيه وجهان الأول أنه صلة زائدة كقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ( الأنعام 141 ) والثاني أنه للتبعيض وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل الثاني أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالاً قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وفيه أقوال الأول أن المعنى سم الله إذا أرسلت كلبك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ) وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله عَلَيْهِ عائد إلى مَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ أي سموا عليه عند إرساله(11/115)
القول الثاني الضمير عائد إلى ما أمسكن يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته الثالث أن يكون الضمير عائداً إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله على الأكل روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمر بن أبي سلمة ( سم الله وكل مما يليك )
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامداً يحل أكله فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام وإن حملناه على الأول والثالني كان المراد من الأمر الندب توفيقاً بينه وبين النصوص الدالة على حله وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 )
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم ثم أعاد ذكره في هذه الآية والغرض من ذكره أنه قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا ومنها إحلال الطيبات والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة
ثم قال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة الأول أنه الذبائح يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر وبه أخذ الشافعي رحمه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله
والوجه الثاني أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية والثالث أن المراد جميع المطعومات والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه أحدها أن الذبائح هي التي تصير طعاماً بفعل الذابح فحمل قوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ على الذبائح أولى وثانيها أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة وثالثها ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى(11/116)
ثم قال تعالى وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وفي المحصنات قولان أحدهما أنها الحرائر والثاني أنها العفائف وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة والقول الأول أولى لوجوه أحدها أنه تعالى قال بهد هذه الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها وثانيها أنا بينا في تفسير قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( النساء 25 ) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين عدم طول الحرة وحصول الخوف من العنت وثالثها أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية وقد ثبت أنه غير محرم أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ورابعها أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتاً منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من الليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) ويقول لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بوجوه الأول أن المراد الذين آمنوا منهم فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا فبيّن تعالى بهذه الآية جواز ذلك والثاني روي عن عطاء أنه قال إنما رخص الله تعالى في الزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة والثالث الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) و قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة الرابع قوله تعالى في خاتمة هذه الآية وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا من أعظم الكافرات عن التزوج بالكافرة فلو كان المراد بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز
المسألة الثانية إن قلنا المراد بالمحصنات الحرائر لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية وإن قلنا المراد بالمحصنات العفائف دخلت وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند(11/117)
الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكاتبية قال لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان الكفر والرق وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة قالل سعيد بن المسب والحسن وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يدخل فيه الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط وهذا قول ابن عباس فإنه قال من نساء أهل الكتاب من يحل لنا ومنهن من لا يحل لنا وقرأ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) فمن أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل
المسألة الرابعة اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس وقال أبو ثور وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس
المسألة الخامسة قال الكثير من الفقهاء إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن قالوا والدليل عليه قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ فقوله مِن قَبْلِكُمْ يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات
ثم قال تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى قال الشعبي الزنا ضربان السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر والله تعالى حرّمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج
ثن قال تعالى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة والثاني قال القفال المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة
المسألة الثانية قوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فيه إشكال وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله فأما الكفر بالإيمان فهو محال فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه الأول قال ابن عباس ومجاهد وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي ومن يكفر بالله إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز والثاني قال الكلبي وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي بشهادة(11/118)
أن لا إله إلاّ الله فجعل كلمة التوحيد إيماناً فإن الإيمان بها لما كان واجباً كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور والثالث قال قتادة إن ناساً من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير دينناا فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا فسمى القرآن إيماناً لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بدّ منه في الإيمان
المسألة الثالثة القائلون بالاحباط قالوا المراد بقوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب إيمانه والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها فهذا هو المراد من قوله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
المسألة الرابعة قوله تعالى وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ مشروط بشرط غير مذكور في الآية وهو أن يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين والدليل على أنه لا بدّ من هذا الشرط قوله تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( البقرة 217 ) الآية
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ثم قال تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا باللعقود ( المائدة 1 ) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية فقوله بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية فكأنه قيل إل هنا العهد نوعان عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان فقال تعالى نعم أنا أوفي أولاً بعهد الربوبية والكرم ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين لذات المطعم ولذات المنكح فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح وعند تمام هذا البيان كأنه يقول قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن المراد بقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس نفس القيام ويدل عليه وجهان الأول أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وأنه باطل بالإجماع الثاني أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لكان قد خرج عن العهدة بل المراد منه إذا شمرتم(11/119)
للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه مشهور متعارف ويدل عليه وجهان الأول أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور الثاني قوله تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( النساء 34 ) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب يقال فلان قائم بذلك الأمر قال تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وليس المراد منه ألبتة الانتصاب بل المراد كونه مريداً لذلك الفعل متهيئاً له مستعداً لإدخاله في الوجود فكذا ههنا قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها
المسألة الثانية قال قوم الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس ذلك تكليفاً مستقلاً بنفسه واحتجوا بأن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ جملة شرطية الشرط فيها القيام إلى الصلاة والجزاء الأمر بالغسل والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وقال آخرون المقصود من الوضوء الطهارة والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام ( بني الدين على النظافة ) وقال ( أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة ) ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب والله أعلم
المسألة الثالثة قال داود يجب الوضوء لكل صلاة وقال أكثر الفقهاء لا يجب احتج داود بهذه الآية من وجهين لأول أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك فإن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إما أن يكون المراد منه قياماً واحداً وصلاة واحدة فيكون المراد منه الخصوص أو يكون المراد منه العموم والأول باطل لوجوه الأول أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة وذلك خلاف الأصل وثانيها أنه يصح إدخال الاستثناء عليه ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل وذلك يوجب العموم وثالثها أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل فتصير هذه الآية وحدها مجملة وقد بينا أنه خلاف الأصل فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الووء عند كل قيام إلى الصلاة
الوجه الثاني أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقوناً بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم ومن وجوه التعظيم كونه آتياً بالخدمة حال كونه في غاية النظافة ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف المناسب وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة ثم قال داود ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو يقال إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه قال أما القراءة الشاذة فمردودة قطعاً لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن وهو أن يقال إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل وأيضاً فلأن(11/120)
معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها فلو كان ذلك قرآناً لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ وأما التمسك بخبر الواحد فقال هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر وذلك لا يجوز قال الفقهاء ءن كلمة إِذَا لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت ثم لو دخلت ثانياً لم تطلق ثانياً وذلك يدل على أن كلمة إِذَا لا تفيد العموم وأيضاً أن السيد إذ قال لعبده إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم فلعله يلتزم العموم وأيضاً فله أن يقول إنا قد دللنا على أن كلمة إِذَا في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير وأما الفقهاء فإنهم استدولا على صحة قولهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد قال عمر رضي الله عنه فقلت له في ذلك فقال عمداً فعلت ذلك يا عمر
أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن وأيضاً فهذا الخبر يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مواظباً على تجديد الوضوء لكل صلاة وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) بقي أن يقال قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح فنقول لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه الأول هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب والظاهر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها والثاني أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحاً لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد والرابع أن دلالة القرآن على قولنا لفظية ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء وذلك يدل على كون كل واحد منهما سبباً لوجوب الطهارة عند وجود الماء وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة وذلك يدل على ما قلناه
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة والأصح أنها تدل عليه من وجيهن الأول أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء ثم بيّن أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم ولو لم يكن شرطاً لما صح ذلك الثاني أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به وتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله النيّة شرط لصحة الوضوء والغسل وقال أبو حنيفة رحمه(11/121)
الله ليس كذلك
وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية
أما الشافعي رحمه الله فإنه قال الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً فالوضوء يجب أن يكون منوياً وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطاً لأنه لا قائل بالفرق وإنما قلنا إن الوضوء مأمور به لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ( المائدة 6 ) ولا شك أن قوله فاغْسِلُواْ وَامْسَحُواْ أمر وإنما قلنا إن كل مأمور به أن يكون منوياً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) واللام في قوله لِيَعْبُدُواْ ظاهر للتعليل لكن تعليل أحكام الله تعالى محال فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض فيصير التقدير وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة ومتى كانتالنية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبراً وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً مخصوص في بعض الصور لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص والعام حجة في غير محل التخصيص
وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء فقال إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز
وجوابنا إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله الترتيب شرط لصحة الوضوء وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله ليس كذلك احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه الأول أن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق
فإن قالوا فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال
قلنا فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه ثم ءن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع فكان قولنا أولى
والوجه الثاني أن نقول وقعت البداءة في الذكر بالوجه فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله(11/122)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ابدؤا بما بدأ الله ) وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص والثالث أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع وذلك يدل على أن الترتيب واجب بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلاً إلى القدم أو من القدم صاعداً إلى الرأس والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك وأما الترتيب المعتبر في لاشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة ويفرد الممسوحة عنها والآية ليست كذلك فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات إذ ثبت هد فنقول هذا يدل على أن الترتيب واجب والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملاً للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل الرابع أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص بيان المقام الأول من وجوه أحدها أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول وثانيها أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة ءنما للحصر وقوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة الثامنة قال أبو حنيفة رحمه الله الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء وقال الشافعي(11/123)
رحمه الله لا ينقض احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال ظاهرها يقتضي لإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس والشافعي رحمه الله عول على ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) احتجم وصلّى ولم يزد على غسل أثر محاجمه
المسألة التاسعة قال مالك رحمه الله لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة وقال ربيعة لا وضوء أيضاً في دم الاستحضانة لنا التمسك بعموم الآية
المسألة العاشرة قال أبو حنيفة رحمه الله القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء وقال الباقون لا تنقض ولأبي حنيفة رحمه الله التمسك بعموم الآية على ما قررناه
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله لمس المرأة ينقض الوضوء وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وحجة الخصم خبر واحد أو قياس فلا يصير معارضاً له
المسألة الثانية عشرة مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي رحمه الله أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام ( من مسّ ذكره فليتوضأ ) والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا
المسألة الثالثة عشرة لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا والذي أقوله إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه كذا ههنا وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( لكل امريء ما نوى ) وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي والله أعلم
المسألة الرابعة عشر لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا يمكن أن يقال لا يصح لأنه أمر بالغسل والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل ويمكن أن يقال يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلاً
المسألة الخامسة عشرة إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقضرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد تقلصت وسقطت
المسألة السادسة عشرة الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو فلو رطب هذه الأعضاء ولكن ما سال الماء عليها لم يكف لأن الله تعالى أمر بإمرا الماء على العضو وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء وفي الجناية المأمور به الطهر وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وذلك حاصل بمجرد الترطيب
المسألة السابعة عشرة لو أخذ الثلج وأمره على وجهه فإن كان الهواء حاراً يذيب الثلج ويسيل(11/124)
جاز وإن كان بخلافه لم يجز خلافاً لمالك والأوزاعي لنا أن قوله فاغْسِلُواْ يقتضي كونه مأموراً بالغسل وهذا لا يسمى غسلاً فوجب أن لا يجزى ء
المسألة الثامنة عشرة التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب إنما الواجب هو المرة الواحدة والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
المسألة التاسعة عشرة السواك سنة وقال داود واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة لنا أن السواك غير مذكور في الآية ثم حكم بحصول الطهارة بقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة العشرون التسمية في أول الوضوء سنة وقال أحمد وإسحاق واجبة وإن تركها عامداً بطلت الطهارة لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من توضأ فذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه )
المسألة الحادية والعشرون قال بعض الفقهاء تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب وعندنا أنه سنة وليس بواجب والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية
المسألة الثانية والعشرون حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك
المسألة الثالثة والعشرون قال ابن عباس رضي الله عنهما يجب إيصال الماء إلى داخل العين وقال الباقون لا يجب حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والعين جزء من الوجه فوجب أن يجب غسله حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجاً والله أعلم
المسألة الرابعة والعشرون المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه الله وعند أحمد وإسحاق رحمهما الله واجبان فيهما وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب في الغسل غير واجب في الوضوء لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه
إذ ثبت هذا فنقول إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه
المسألة الخامسة والعشرون غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجب لنا أنه من الوجه والوجه يجب غسله بالآية(11/125)
ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضاً بعده
المسألة السادسة والعشرون قال الشافعي رحمه الله يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب لنا أن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يوجب غسل الوجه والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن ترك العمل به عند كثافة اللحية عملاً بقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج فكانت الآية دالة على وجوب غسله
المسألة السابعة والعشرون هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضاً للشافعي رحمه الله فيه قولان أحدهما أنه يجب والثاني أنه لا يجب وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني حجة الشافعي رحمه الله أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة الوجه في كونه وجهاً وإذا كان ظاهر اللحية يسمى وجهاً والوجه يجب غسله بالتمام بدليل قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ لزم بحكم هذا الدليل إيصال الماء إلى ظاهر جميع اللحية
المسألة الثامنة والعشرون لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل الوجه والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن تركنا العمل به في حق الرجال دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل
واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع العنفقة والحاجبان والشاربان والعذاران وأهداب العين لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة فوجب أن تبقى على الأصل
المسألة التاسعة والعشرون قال الشعبي ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة والأذن ليست كذلك
المسألة الثلاثون قال الجمهور غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما وقال مالك وزفر رحمهما الله لا يجب غسل المرفقين وهذا الخلاف حاصل أيضاً في قوله وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ حجة زفر أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجاً عنه كما في قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) فوجب أن لا يجب غسل المرفقين
والجواب من وجهين الأول أن حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس وهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود وهو كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ فإن النهار منفصل عن الليل انفصالاً محسوساً لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس وقد لا يكون كذلك كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس(11/126)
إذا عرفت هذا فنقول لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب القول بإيجاب غسل كل المرفق
الوجه الثاني من الجواب سلمنا أن المرفق لا يجب غسله لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله وهذا الجواب اختيار الزجاج والله أعلم
المسألة الحادية والثلاثون الرجل إن كان أقطع فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه الله يجب إمساس الماء لطرف العظم وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجباً والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة
المسألة الثانية والثلاثون تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب وقال أحمد هو واجب لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان والله أعلم
المسألة الثالثة والثلاثون السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فقال بعضهم هذا لا يجوز لأنه تعالى قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ فجعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز وقال جمهور الفقهاء أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركاً للسنة
المسألة الرابعة والثلاثون لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية
المسألة الخامسة والثلاثون قوله تعالى إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به يعني أن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ أكر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد فبقي الواجب الواجب هو هذا القدر فقط أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة
المسألة السادسة والثلاثون قال الشافعي رحمه الله الواجب في مسح الرأس أقل شيء يسمى مسحاً للرأس وقال مالك يجب مسح الكل وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب مسح ربع الرأس حجة الشافعي أنه لو قال مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية أما لو قال مسحت يدي بالمنديل فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل
إذا ثبت هذا فنقول قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس ثم ذلك الجزء غير مقدر في الآية فإن أوجبنا تقديره بمقدار معين لم يمكن تعيين ذلك المقدار إلا بدليل(11/127)
مغاير لهذه الآية فيلزم صيرورة الآية مجملة وهو خلاف الأصل وإن قلنا أنه يكفي فيه إيقاع المسح على أي جزء كان من أجزاء الرأس كانت الآية مبينة مفيدة ومعلوم أن حمل الآية على محمل تبقى الآية معه مفيدة أولى من حملها على محمل تبقى الآية معه مجملة فكان المصير إلى ما قلناه أولى وهذا استنباط حسن من الآية
المسألة السابعة والثلاثون لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة وقال الأوزاعي والثوري وأحمد يجوز لنا أن الآية دالة على أنه يجب المسح على الرأس ومسح العمامة ليس مسحاً للرأس واحتجبوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة
جوابنا لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة
المسألة الثامنة والثلاثون اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل الفقال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية من الشيعة وقال جمهور الفقهاء والمفسرين فرضهما الغسل وقال داود الأصفهاني يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري المكلف مخير بين المسح والغسل
حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله وَأَرْجُلَكُمْ فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب فنقول أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله جحر ضب خرب وقوله
كبير أناس في بجاد مزمل
قلنا هذا باطل من وجوه الأول أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله جحر ضب خرب فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل وثالثها أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً إنها توجب المسح وذلك لأن قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس والجر عطفاً على الظاهر وهذا مذهب مشهور للنحاة
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ ويجوز أن يكون هو قوله فاغْسِلُواْ لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى فوجب أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ فثبت أن قراءة وَأَرْجُلَكُمْ(11/128)
بنصب اللام توجب المسح أيضاً فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ثم قالوا ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخير الواحد لا يجوز
واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها والثاني أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح والقوم أجابوا عنه بوجهين الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم وعلى هذا التقدير فيجب المسح على ظهر القدمين والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال
المسألة التاسعة والثلاثون مذهب جمهور الفقهاء أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح إن الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول الطرفان الناتئان يسميان المنجمين هكذا رواه القفال في تفسيره
حجة الجمهور وجوه الأول أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً فكان ينبغي أن يقال وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ والثاني أن العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكل أحد ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا أمراً خفياً الثالث روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ألصقوا الكعب بالكاعب ) ولا شك أن المراد ما ذكرناه الرابع أن الكعب مأخوذ من الشرف والارتفاع ومنه جارية كاعب إذا نتأ ثدياها ومنه الكعب لكل ما له ارتفاع
حجة الإمامية أن اسم الكعب واقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك وأيضاً المفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله وفي وسط القدم مفصل فوجب أن يكون الكعب هو هو
والجواب أن مناط التكاليف الظاهرة يجب أن يكون شيئاً ظاهراً والذي ذكرناه أظهر فوجب أن يكون الكعب هو هو
المسألة الأربعون أثبت جمهور الفقهاء جواز المسح على الخفين وأطبقت الشيعة والخوارج على إنكاره واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ يقتضي إما غسل الرجلين أو مسحهما والمسح على الخفين ليس مسحاً للرجلين ولا غسلاً لهما فوجب أن لا يجوز بحكم نص هذه الآية ثم قالوا إن القائلين بجواز المسح على الخفين إنما يعولون على الخبر لكن الرجوع إلى القرآن أولى من الرجوع إلى هذا الخبر ويدل عليه وجوه الأول أن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز والثاني أن هذه الآية في سورة المائدة وأجمع المفسرون على أن هذه السورة لا منسوخ فيها ألبتة إلا قوله(11/129)
تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( المائدة 2 ) فإن بعضهم قال هذه الآية منسوخة وإذا كان كذلك امتنع القول بأن وجوب غسل الرجلين منسوخ والثالث خبر المسح على الخفين بتقدير أنه كان متقدماً على نزول الآية كان خبر الواحد منسوخاً بالقرآن ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخاً للقرآن ولا شك أن الأول أولى لوجوه الأول أن ترجيح القرآن المتواتر على خبر الواحد أولى من العكس وثانيها أن العمل بالآية أقرب إلى الاحتياط وثالثها أنه قد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) وذلك يقتضي تقديم القرآن على الخبر ورابعها أن قصة معاذ تقتضي تقديم القرآن على الخبر
الوجه الرابع في بيان ضعف هذا الخبر أن العلماء اختلفوا فيه فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأن تقطع قدماي أحب إليّ من أن أمسح على الخفين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لأن أمسح على جلد حمار أحبّ إلي من أن أمسح على الخفين وأما مالك فإحدى الروايتين عنه أنه أنكر جواز المسح على الخفين ولا نزاع أنه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلولا أنه عرف فيه ضعفاً وإلا لما قال ذلك والرواية الثانية عن مالك أنه ما أباح المسح على الخفين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه
وأما الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء فإنهم جوزوه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها من وقت الحدث بعد اللبس وقال الحسن البصري ابتداؤه من وقت لبس الخفين وقال الأوزاعي وأحمد يعتبر وقت المسح بعد الحدث قالوا فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء يدل على أن الخبر ما بلغ مبلغ الظهور والشهرة وإذا كان كذلك وجب القول بأن هذه الأقوال لما تعارضت تساقطت وعند ذلك يجب الرجوع إلى ظاهر كتاب الله تعالى الخامس أن الحاجة إلى معرفة جواز المسح على الخفين حاجة عامة في حق كل المكلفين فلو كان ذلك مشروعاً لعرفه الكل ولبلغ مبلغ التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر ضعفه فهذا جملة كلام من أنكر المسح على الخفين
وأما الفقهاء فقالوا ظهر عن بعض الصحابة القول به ولم يظهر من الباقين إنكار فكان ذلك إجماعاً من الصحابة فهذا أقوى ما يقال فيه وقال الحسن البصري حدّثني سبعون من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مسح على الخفين وأما إنكار ابن عباس رضي الله عنهما فروي أن عكرمة روى ذلك عنه فلما سئل ابن عباس عنه فقال كذب علي وقال عطاء كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم وأما عائشة رضي الله عنها فروي أن شريح بن هانيء قال سألتها عن مسح الخفين فقالت اذهب إلى علي فاسأله فإنه كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أسفاره قال فسألته فقال امسح وهذا يدل على أن عائشة تركت ذلك الإنكار
المسألة الحادية والأربعون رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه يسقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ مشروط بالقدرة عليه لا محالة فإذا فاتت القدرة سقط التكليف فهذا جملة ما يتعلق من المسائل بآية الوضوء(11/130)
قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ قال الزجاج معناه فتطهروا إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا أدغمت التاء في الطاء سكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ليبتدأ بها فقيل اطهروا
واعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية الطهارة الصغرى ذكر بعدها كيفية الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجناية وفيه مسائل
المسألة الأولى لحصول الجناية سببان الأول نزول المني قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) والثاني التقاء الختانين وقال زيد بن ثابت ومعاذ وأبو سعيد الخدري لا يجب الغسل إلا عند نزول الماء لنا قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا التقى الختانان وجب الغسل )
واعلم أن ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وأمات ختان المرأة فاعلم أن شفريها محيطان بثلاثة أشياء ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير والثالث فوق ثقبة البول موضع ختانها وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانه
المسألة الثانية قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر على الاطلاق بحيث لم يكن مخصوصاً بعضو معين دون عضو فكان ذلك أمراً بتحصيل الطهارة في كل البدن على الاطلاق ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر الله تعالى تلك الأعضاء على التعيين فههنا لما لم يذكر شيئاً من الأعضاء على التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن
واعلم أن هذا التطهير هو الاغتسال كما قال في موضع آخر وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ( النساء 43 )
المسألة الثالثة الدلك غير واجب في الغسل وقال مالك رحمه الله واجب لنا أن أقوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن الاغتسال من الجناية قال ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات خفيفات من الماء فإذا أنا قد طهرت ) أثبت حصول الطهارة بدون الدلك فدل على أن التطهير لا يتوقف على الدلك
المسألة الربعة لا يجوز للجنب مس المصحف وقال داود يجوز لنا قوله فَاطَّهَّرُواْ فدل على أنه ليس بطاهر وإلا لكان ذلك أمراً بتطهير الطاهر وإنه غير جائز وإذا لم يكن طاهراً لم يجز له مس المصحف لقوله تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( الواقعة 79 )
المسألة الخامسة لا يجب تقديم الوضوء على الغسل وقال أبو ثور وداود يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير والتطهير حاصل بمجرد الاغتسال ولا يتوقف على الوضوء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل وقال أبو(11/131)
حنيفة رحمه الله هما واجبان
حجة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
وحجة أبي حنيفة الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَاطَّهَّرُواْ وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ترك العمل به في الأجزاء الباطنة التي يتعذر تطهيرها وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فوجب بقاؤهما تحت النص وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( بلوا الشعر وانقوا البشرة ) فإن تحت كل شعرة جنابة ) فقوله ( بلوا الشعر ) يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً وقوله ( وانقوا البشرة ) يدخل فيه جلدة داخل الفم
المسألة الرابعة شعر الرأس إن كان مفتولاً لا مشدوداً بعضه ببعض نظر فإن كان ذلك يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس وجب نقضه وقال مالك لا يجب وإن كان لا يمنع لم يجب وقال النخعي يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ عبارة عن إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن فإن كان شد بعض الشعور بالبعض مانعاً منه وجب إزالة ذلك الشد ليزول ذلك المانع فإن لم يكن مانعاً منه لم يجب إزالته لأن ما هو المقصود قد حصل فلا حاجة إليه
المسألة الثامنة قال الأكثرون لا ترتيب في الغسل وقال إسحاق تجب البداءة بأعلى البدن لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير المطلق وذلك حاصل بإيصال الماء إلى كل البدن فإذا حصل التطهير وجب أن يكون كافياً في الخروج عن العهدة
قوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز للمريض أن يتيمم لقوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ولا يجوز أن يقال إنه شرط فيه عدم الماء لأن عدم الماء يبيح التيمم فلا معنى لضمه إلى المرض وإنما يرجع قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء إلى المسافر
المسألة الثانية المرض على ثلاثة أقسام أحدها أن يخاف الضرر والتلف فههنا يجوز التيمم بالاتفاق الثاني أن لا يخاف الضرر ولا التلف فههنا قال الشافعي لا يجوز التيمم وقال مالك وادود يجوز وحجتهما أن قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى يتناول جميع أنواع المرض الثالث أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله والدليل عليه عموم قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى الرابع أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه قال في ( الجديد ) لا يتيمم قال في ( القديم ) يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية
المسألة الثالثة إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي رحمه الله إنه يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم وقال أبو حنيفة رحمه الله إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم حجة الشافعي رحمه الله الأخذ(11/132)
بالاحتياط وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الله تعالى جعل المرض أحد أسباب جواز التيمم والمرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض فكان داخلاً تحت الآية
المسألة الرابعة لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف قال الشافعي رحمه الله يلزمه نزع اللصوق عند التيمم حتى يصل التراب إليه وقال الأكثرون لا يجب حجة الشافعي رعاية الاحتياط وحجة الجمهور أن مدار الأمر في التيمم على التخفيف وإزالة الحرج على ما قال تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 87 ) فإيجاب نزع للصوق حرج فوجب أن لا يجب
المسألة الخامسة يجوز التيمم في السفر القصير وقال بعض المتأخرين من أصحابنا لا يجوز لنا أن قوله تعالى أَوْ عَلَى سَفَرٍ مطلق وليس فيه تفصيل أن السفر هل هو طويل أو قصير ولقائل أن يقول أنا إذا قلنا السفر الطويل والقصير سببان للرخصة لكون لفظ السفر مطلقاً وجب أن نقول المرض الخفيف والشديد سببان للرخصة لكون لفظ المرض مطلقاً ويدل أيضاً على أن السفر القصير يبيح التيمم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه انصرف من قومه فبلغ موضعاً مشرفاً على المدينة فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد فجعل يتيمم فقال له مولاه أتتيمم وها هي تنظر إليك جدران المدينة ا فقال أو أعيش حتى أبلغها وتيمم وصلّى ودخل المدينة والشمس حية بيضاء وما أعاد الصلاة
المسألة السادسة المسافر إذا كان معه ماء ويخاف الاعطش جاز له أن يتيمم لقوله تعالى في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولأن فرض الوضوء سقط عنه إذا أضر بماله لدليل أنه إذا لم يجد الماء إلا بثمن كثير لم يجب عليه الوضوء فإذا أضر بنفسه كان أولى
المسألة السابعة إذا كان معه ماء وكان حيوان آخر عطشاناً مشرفاً على الهلاك يجوز له التيمم لأن ذلك الماء واجب الصرف إلى ذلك الحيوان لأن حق الحيوان مقدم على الصلاة ألا ترى أنه يجوز له قطع الصلاة عند إشراف صبي أو أعمى على غرق أو حرق فإذا كان كذلك كان ذلك الماء كالمعدوم فدخل حينئذٍ تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ
المسألة الثامنة إذ لم يكن معه ماء ولكن كان مع غيره ماء ولا يمكنه أن يشتري إلا بالغبن الفاحش جاز التيمم له لأن قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) رفع عنه تحمل الغبن الفاحش وحينئذٍ يكون كالفاقد للماء فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وكذا القول إذا كن واجداً لثمن المثل ولم يكن به إليه حاجة ضرورية فهنا يجب شراء الماء
المسألة التاسعة إذا وهب منه ذلك الماء هل يجوز له التيمم قال أصحابنا يجوز له التيمم ولا يجب عليه قبول ذلك الماء لأن المنة في قبول الهبة شاقة وأنا أتعجب منهم فإنهم لما جعلوا هذا القدر من الحرج سبباً لجواز التيمم فلم لم يجدوا خوف زيادة الألم في المرض سبباً لجواز التيمم
المسألة العاشرة إذا أعير منه الدول والرشاء فههنا الأكثرون قالوا لا يجوز له التيمم لأن المنة في هذه الإعارة قليلة وكان هذا الإنسان واجداً للماء من غير حرج فلم يجز له التيمم لأن قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ(11/133)
دليل على أنه يشترط لجواز التيمم عدم وجدان الماء
المسألة الحادية عشرة قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ كناية عن قضاء الحاجة وأكثر العلماء ألحقوا به كل ما يخرج من السبيلين سواء كان معتاداً أو نادراً لدلالة الأحاديث عليه
المسألة الثانية عشرة قال الشافعي رحمه الله الاستنجاء واجب إما بالماء وءما بالأحجار وقال أبو حنيفة رحمه الله غير واجب
حجة الشافعي قوله فليستنج بثلاثة أحجار وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحد وذلك يدل على أنه غير واحب
المسألة الثالثة عشرة لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله ولا ينقض عند أبي حنيفة رحمه الله
المسألة الرابعة عشرة ظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء يدل على انتقاض وضوء اللامس أما انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية بل ءنما أخذ من الخبر أو من القياس الجلي
قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفيه مسائل وهي محصورة في نوعين أحدهما الكلام في أن الماء المطهر ما هو والثاني الكلام في أن التيمم كيف هو
أما النوع الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى الوضوء بلماء المسخن جاز ولا يكره وقال مجاهد يكره لنا وجهان الأول قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والغسل عبارة عن إمرار المء على العضو وقد أتى به فيخرج عن العهدة الثاني أنه قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بفقدان الماء وههنا لم يحصل فقدان الماء فوجب أن لا يجوز التيمم
المسألة الاثانية قال أصحابنا الماء إذا قصد تشميسه في الإناء كره الوضوء به وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله لا يكره حجة أصحابنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلومن إلا نفسه ) ومن أصحابنا من قال لا يكره ذلك من جهة الشرع بل من جهة الطب وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وهذا غسل فيكون كافياً الثاني أنه واجد للماء فلم يجز له التيمم
المسألة الثالثة لا يكره الوضوء بما فضل عن وضوء المشرك وكذا لا يكره الوضوء بالماء الذي يكون في أواني المشركين وقال أحمد وإسحاق لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأنه واجد للماء فلا يتيمم وروى أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جرة نصرانية(11/134)
المسألة الرابعة يجوز الوضوء بماء البحر وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأن شرط جواز التيمم عدم الماء ومن وجد ماء البحر فقد وجد الماء
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز ذلك في السفر حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب الشارع عند عدم الماء التيمم وعند الخصم يجوز له الترك للتيمم بل يجب وذلك بأن يتوضأ بنبيذ التمر فكان ذلك على خلاف الآية فإن تمسكوا بقصة الجن قلنا قيل إن ذلك كان ماء نبذت فيه تميرات لإزالة الملوحة وأيضاً فقصة الجن كانت بمكة وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن فجعل هذا ناسخاً لذلك أولى
المسألة السادسة ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة وقال الأكثرون لا يجوز لنا أن عند عدم الماء أوجب الله التيمم وتجويز الوضوء بسائر المائعات يبطل ذلك احتجوا بأن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو يسمى غسلاً كقول الشاعر
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذا كان الغسل اسماً للقدر المشترك بين ما يحصل بالماء وبين ما يحصل بسائر المائعات كان قوله فاغْسِلُواْ إذناً في الوضوء بكل المائعات
قلنا هذا مطلق والدليل الذي ذكرناه مقيد وحمل المطلق على المقيد هو الواجب
لمسألة السابعة قال الشافعي رحمه الله الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به وقال بو حنيفة رحمه ا يجوز حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق قواجده غير واجد للكاء فوجب أن يجب عليه التيمم وحجة أبي حنيفة رحمه الله أو واجده واجد للماء لأن الماء المتغير بالزعفران ماى موصوف بصفة معينة فكان أصل الماى موجوداً لا محالة فواجده يكون واجداً للماء فوجب أن لا يجوز التيمم لقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بعدم الماء
المسألة الثامنة الماء الذي تغير وتعفن بطول المكث طاهر طهور لدليل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم على عدم الماء وهذا الماء المتعفن ماء فوجب أن لا يجوز التيمم عند وجوده
المسألة التاسعة قال مالك وداود الماء المتسعمل في الوضوء يبقى طاهراً طهوراً وهو قول قديم للشافعي رحمه الله والقول الجديد للشافعي أنه لم يبق طهوراً ولكنه طاهر وهو قول محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة رحمه الله في أكثر الروايات أنه نجس حجة مالك أن جواز التيمم معلق على عدم وجدان الماء وهو قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد الماء المستعمل واجد للماء فوجب أن لا يجوز التيمم وإذا لم يجز التيمم جاز له التوضوء لأنه لا قائل بالفرق وأيضاً قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) والطهور هو الذي يتكرر منه هذا الفعل كالضحوك والقتول والأكول والشروب والتكرار إنما يحصل إذا كان المستعمل في الطهارة يجوز استعماله فيها مرة أخرى
المسألة العاشرة قال مالك الماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير الماء بتلك النجاسة بقي طاهراً(11/135)
طهوراً سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وقال الشافعي رحمه الله إن كان أقل من القلتين ينجس وقال أبو حنيفة إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس حجة مالك أن الله جعل في هذه الآية عدم الماء شرطاً لجواز لتيمم وواجد هذا الماء الذي فيه النزاع واجد للماء فوجب أن لا يجوز له التيمم أقصى ما في الباب أن يقال هذا المعنى موجود عند صيرورة الماء القليل متغيراً إلا أنا نقول العام حجة في غير محل التخصيص وأيضاً قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل ترك العمل به في سائر المائعات وفي الماء القليل الذي تغير بالنجاسة فيبقى حجة في الباقي وقال مالك رحمه الله ثم تأيد التمسك بهذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( خلق الماى طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) ولا يعارض هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) لأن القرآن أولى من خبر الواحد والمنطوق أولى من المفهوم
المسألة الحادية عشرة يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب وقال أحمد وإسحاق لا يجوز بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد هذا الماء فلم يجز له التيمم وإذا لم يجز له ذلك جاز له الوضوء لأنه لا قائل بالفرق
المسألة الثانية عشرة أسار السباع طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار وقال أبو حنيفة رحمه الله نجسة لنا أن واجد هذا السؤر واجد للماء فلم يجز له التيمم ولأن قوله فاغْسِلُواْ يتناول جميع أنواع الماء على ما تقدم تقرير هذين الوجهين
المسألة الثالثة عشرة الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة مغيرة بقي طاهراف مطهورة عند الشافعي رحنه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ينجس لنا أنه واجد للماء فلم يجز له لتيمم ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به فخرج عن العهدة
المسألة الرابعة عشرة الماء الذي تفتتت الأوراق فيه للناس فيه تفاصيل لكن هذه الآية دالة على كونه طاهراً مطهراً ما لم يزل عنه اسم الماء المطلق وبالجملة فهذه الآية دالة على أنه كلما بقي اسم الماىء المطلق كان طاهراف مطهوراً
النوع الثاني من المسائل المستخرجة من هذه الآية من مسائل التيمم
المسألة الأولى قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون رحمهم الله لا بدّ في التيمم من النية وقال زفر رحمه الله لا يجب لنا قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ والتيمم عبارة عن القصد فدل على أنه لا بدّ من لنية
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة يجب تيمم اليدين إلى المرفقين وعن علي وابن عباس إلى الرسغين وعن مالك إلى الكوعين وعن الزهري إلى الآباط
لنا اليد اسم لهذا العضو إلى الإبط فقوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ يقتضي المسح إلى الإبن تركنا العمل بهذا النص في العضدين لأنا نعلم أن التيمم بدل عن الوضوء ومبناه على التخفيف بدليل أن الواجب تطهير أعضاء أربعة في الوضوء وفي التيمم الواجب تطهير عضوين وتأكد هذا المعنى بقوله تعالى في آية التيمم مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ فإذا كان العضدان غير معتبرين في(11/136)
الوضوء فبأن لا يكونا معتبرين في التيمم أولى وإذا خرج العضدان عن ظاهر النص بهذا الدليل بقي اليدان إلى المرفقين فيه فالحاصل أنه تعالى إنما ترك تقييد التيمم في اليدين بالمرفقين لأنه بدل عن الوضوء فتقييده بهما في الوضوء يغني عن ذكر هذا التقييد في التيمم
المسألة الثالثة يجب استيعاب العضوين في التيمم ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز
لنا قوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ والوجه واليد اسم لجملة هذين العضوين وذلك لا يحصل إلا بالاستيعاب ولقئل أن يقول قد ذكرتم في قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ أن الباء تفيد التبغيض فكذا ههنا
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله إذا وضع يده على الأرض فما لم يعلق بيده شيء من الغبار لم يجزه وهو قول أبي يوسف رحمه لله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله يجزئه
لنا قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة مِنْهُ تدل على التمسح بشيء من ذلك التراب كما أن من قال فلان يمسح من الدن أفاد هذا المعنى وقد بالغنا في تقرير هذا في تفسير آية التيمم من سورة النساء والله أعلم
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وهو قول أبي يوسف رحمه اا وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز بالتراب وبالرمل وبالخزف المدقوق والجص والنورة والزرنيخ
لنا ما روي أن ابن عباس قال الصعيد هو التراب وأيضاً التيمم طهارة غير معقولة المعنى فوجب الاقتصار فيه على مورد النص والنص المفصل إنما ورد في التراب قال عليه الصلاة والسلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) وقال ( جعلت لي الأرض مسجداً وتربها طهوراً ) والله أعلم
المسألة السادسة لو وقف على مهب الرياح فسفت الرياح التراب عليه فأمر يده عليه أو لم يمر ظاهر مدهب الشافعي رحمه الله أنه لا يكفي وقال بعض المحققين يكفي لأنه لما وصل الغبار إلى أعضائه ثم أمر الغبار على تلك الأعضاء فقد قصد إلى استعمال الصعيد الطيب في أعضائه فكان كافياً
المسألة السابعة المذهب أنه إذا يممه غيره صح وقيل لا يصح لأن قوله فَتَيَمَّمُواْ أمر له بالفعل ولم يوجد
المسألة الثامنة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها
والمسألة التاسعة إذا ضرب رجله حتى ارتفع عنه غبار قال أبو حنيفة رحمه الله يجوز له أن يتيمم وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز حجة أبي يوسف قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والغبار المنفصل عن(11/137)
التراب لا يقال إنه صعيد طيب فوجب أن لا يجزى
المسألة العاشرة لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والنجس لا يكون طيباً
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله المسافر إذا لم يجد الماء بقربه لم يجز له التيمم إلا بعد الطلب عن اليمين واليسار وإن كان هناك وادٍ هبط إليه وإن كان جبل صعده وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غلب على ظنه عدم الماء لم يجب طلبه
لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جعل عدم وجدان الماء شرطاً لجواز التيمم وعدم الوجدان مشروط بتقديم الطلب فدل هذا على أنه لا بدّ من تقديم الطلب
المسألة الثانية عشرة لا يصح الطلب إلاّ بعد دخول وقت الصلاة فإن طلب قبله يلزمه الطلب ثانياً بعد دخول الوقت إلاّ أن يحصل عنده يقين أن الأمر بقي كما كان ولم يتغير
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ فقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا عبارة عن دخول الوقت فوجب أن يكون قوله فَلَمْ تَجِدُواْ عبارة عن عدم الوجدان بعد دخول الوقت وعدم الوجدان بعد دخول الوقت مشروط بحصول الطلب بعد دخول الوقت فعلمنا أنه لا بدّ من الطلب بعد دخول الوقت
المسألة الثالثة عشرة لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء وأما التيمم بدلاً عن الغسل في حق الجنب فعن علي وابن عباس جوازه وهو قال أكثر الفقهاء وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز
لنا أن قوله إما أن يكون مختصاً بالجماع أو يدخل فيه الجماع فوجب جواز التيمم بدلاً عن الغسل لقوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً
المسألة الرابعة عشرة قال الشافعي رحمه الله لا يجمع بالتيمم بين فرضين وإن لم يحدث كما في الوضوء وقال أحمد يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين
حجة الشافعي قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى قوله وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء
وجه الاستدلال به أن ظاهره يقتضي الأمر بكل وضوء عند كل صلاة إن وجد الماء وبالتيمم إن فقد الماء ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيبقى في التيمم على مقتضى ظاهر الآية
المسألة الخامسة عشرة قال الشافعي رحمه الله إذا لم يجد الماء في أول الوقت ويتوقع وجدانه في آخر الوقت جاز له التيمم في أول الوقت وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بل يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت
حجة الشافعي قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس المراد منه القيام إلى الصلاة بل المراد دخول وقت الصلاة وهذا يدل على أن عند دخول الوقت إذا لم يجد الماء جاز له التيمم(11/138)
المسألة السادسة عشرة إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه وقال أبو موسى الأشعري والشعبي لا يبطل
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ شرط عدم وجدان الماء بجواز الشروع في الصلاة بالتيمم ومن وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة فقد فاته هذا الشرط فوجب أن لا يجوز له الشروع في الصلاة بذلك التيمم
المسألة السابعة عشرة لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة قال طاوس يلزمه
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جوّز له الشروع في الصلاة بالتيمم عند عدم وجدان الماء وقد حصل ذلك فوجب أن يكون سبباً لخروجه عن عهدة التكليف لأن الإتيان بالمأمور به سبب للأجزاء
المسألة الثامنة عشرة لو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة والثوري وهو اختيار المزني وابن شريح
لنا أن عدم وجدان الماء يقتضي جواز الشروع في الصلاة بحكمم التيمم على ما دلّت الآية عليه فقد انعقدت عليه صلاته صحيحة فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة فنقول ما لم يبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لا تبطل صلاته فيتوقف كل واحد منهما على الآخر فيكون دوراً وهو باطل والله أعلم
المسألة التاسعة عشرة لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلّى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي رحمه الله وهو قول أحمد وأبي يوسف والقول الثاني أنه لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة حجة القول الثاني أنه عاجز عن الماء لأن عدم الماء كما أنه سبب للعجز عن استعمال الماء فكذلك النسيان سبب للعجز فثبت أنه عند النسيان عاجز فيه فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وحجة القول الأول أنه غير معذور في ذلك النسيان
المسألة العشرون إذا ضل رحله في الرحال ففيه الخلاف المذكور والأولى أن لا تجب الإعادة
المسألة الحادية والعشرون إذا نسي كون الماء في رحله ولكنه استقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلّى ثم وجده فالأكثرون على أنه تجب الإعادة لأن العذر ضعيف وقال قوم لا تجب الإعادة لأنه لما استقصى في الطلب صار عاجزاً عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً
المسألة الثانية والعشرون لو صلّى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكن استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أولاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله وإن لم يكن عالماً بها قط فإن كان عليها علامة ظاهرة لزمه الإعادة وإن لم يكن عليها علامة فلا إعادة لأنه عاجز عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية وهي مائة مسألة وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة وكان القلب مشوشاً بسبب(11/139)
استيلاء الكفار على بلاد المسلمين فنسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم وأن يجعل كدنا في استنباط أحكام الله من نص الله سبباً لرجحان الحسنات على السيآت أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول
قوله تعالى مَا يُرِيدُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أنه تعالى مريد وهذا متفق عليه بين الأئمة إلاّ أنهم اختلفوا في تفسير كونه مريداً فقال الحسن النجار أنه مريد بعمنى أنه غير مغلوب ولا مكره وعلى هذا التقدير فكونه تعالى مَّرِيداً صفة سلبية ومنهم من قال إنه صفة ثبوتية ثم اختلفوا فقال بعضهم معنى كونه مريداً لأفعال نفسه أنه دعاه الداعي إلى أيجادها ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره أنه دعاه الداعي إلى الأمر بها وهو قول الجاحظ وأبي قاسم الكعبي وأبي الحسين البصري من المعتزلة وقال الباقون كونه مريداً صفة زائدة على العلم وهو الذي سميناه بالداعي ثم منهم من قال إنه مريد لذاته وهذه هي الرواية الثانية عن الحسن النجار وقال آخرون إنه مريد بإرادة ثم قال أصحابنا مريد بإرادة قديمة قالت المعتزلة البصرية مريد بإرادة محدثة لا في محله وقالت الكرامية مريد بإرادة محدثة قائمة بذاته والله أعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أن تكليف ما لا يطاق لا يوجد لأنه تعالى أخبر أنه ما جعل عليكم في الدين من حرج ومعلوم أن تكليف ما لا يطاق أشد أنواع الحرج قال أصحابنا لما كان خلاف المعلوم محال الوقوع فقد لزمكم ما ألزمتموه علينا
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ويدل عليه أيضاً أن دفع الضرر مستحسن في العقول فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وأما بيان أن الأصل في المنافع الإباحة فوجوه أحدها قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وثانيها قوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) وقد بينا أن المراد من الطيبات المستلذات والأشياء التي ينتفع بها وإذا ثبت هذان الأصلان فعند هذا قال نفاة القياس لا حاجة البتة أصلاً إلى القياس في الشرع لأن كل حادثة تقع فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك هو المراد وإن لم يكن كذلك فإن كان من باب المضار حرمناه بالدلائل الدالة على أن الأصل في المضار الحرمة وإن كان من باب المنافع إبحناه بالدلائل الدالة على إباحة المنافع وليس لأحد أن يقدح في هذين الأصلين بشيء من الأقسية لأن القياس المعارض لهذين(11/140)
الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص وأنه مردود فكان باطلاً
المسألة الرابعة قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ اختلفوا في تفسير هذا التطهير فقال جمهور أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية وهذا الكلام عندنا بعيد جداً ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة إِنَّمَا للحصر وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة الثاني قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه الثالث أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطباً فأصابه ثوب لم يتنجس ولو حمله إنسان وصلّى لم تفسد صلاته وذلك بدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث الرابع أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك الخامس أن خروج النلجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخرا السادس أن قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ مذكور عقيب التيمم ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة وأنه لا يزيل شيئاً من النجاسات أصلاً السابع أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئاً البتة عن الرجلين الثامن أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك وإن كان من جملة الإعراض فهو محال لأن انتقال الأعراض محال فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد
الوجه الثاني في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده والكفر المعاصي كذلك فكانت نجاسات روحانية وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة ولهذا التأويل قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فجعل رأيهم نجاسة وقال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم وقال في حق عيسى عليه السلام إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيراً له
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إللى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجائه
واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه الله وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم(11/141)
أما قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ففيه وجهان الأول أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولاً وهي نعمة الدنيا والنعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين الثاني أن المراد وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والكلام في ( لعل ) مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) والله أعلم
وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
إعلم أٌّ ه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد وذلك من وجهين الأول كثرة نعمة الله عليهم وهو المراد من قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقل نعم الله عليكم لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم الله بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنيس جنس لا يقدر غير الله عليه فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فقوله تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل
المسألة الثانية قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ مشعر بسبق النسيان فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات إلاّ أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النيسان ولهذا المعنى قال المحققون إنه تعالى إنما كان باطناً لكونه ظاهراً وهو المراد من قولهم سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره
السبب الثاني من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وحوه الأول أن المراد هو المواثيق التي(11/142)
جرت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها فإنه إن خطر ذلك ببالكم فالله يعلم بذلك وكفى به مجازياً والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام والثالث قال مجاهد والكلبي ومقاتل هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
فإن قيل على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه
قلنا لما أخبر الله تعالى بأنه كان ذلك حاصلاً حصل القطع بحصوله وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد الرابع قال السيد المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
قوله تعالى الصُّدُورِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ هذا أيضاً متصل بما قبله والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ إشارة إلى النوع الأولل وهو التعظيم لأمر الله ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية وقوله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان الأول قال عطاء يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك الثاني قال الزجاج المعنى تبينون عن دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم وفي الآية قولان الأول أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم وأحسنوا إليهم(11/143)
وإن بالغوا في إيحاشكم فهذا خطاب عام ومعناه أمر الله تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحداً إلاّ على سبيل العدل والانصاف وترك الميل والظلم والاعتساف والثاني أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام
فإن قيل فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم
قلنا يمكن ظلمهم أيضاً من وجوه كثيرة منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء ومنها إيقاع المثلة بهم ومنها نقض عهودهم والقول الأول أولى
ثم قال تعالى اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فنهاهم أولاً عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ونظيره قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) أي هو أقرب للتقوى وفيه وجهان الأول هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى والثاني هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب الله وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالى فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه
ثم ذكر الكلام الذي يكون وعداً مع المطيعين ووعيداً للمذنبين وهو قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أْوالكم
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
ثم ذكر وعد المؤمنين فقال تعاللى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فالمغفرة إسقاط السيئات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) والأجر العظيم إيصال الثواب وقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فيه وجوه الأول أنه قال أولاً وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكأنه قيل وأي شيء وعدهم فقال لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الثاني التقدير كأنه قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجرٌ عظيم والثالث أجرى قوله وَعْدُ مجرى قال والتقدير قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والرابع أن يكون وَعْدُ واقعاً على جملة لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي وعدهم بهذا المجموع
فإن قيل لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى
قلنا بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد الله أقوى وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى الله تعالى فقال وَعَدَ اللَّهُ والإله هو الذي يكون قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات وهذا يمتنع الخلف في وعده لأن دخول الخلف إنما يكون إما للجهل حيث ينسى وعده وإما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده وإما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد وإما للحاجة فإذا كان الإله هو الذي يكون منزّهاً عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالاً فكان الإخبار عن(11/144)
هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به وأيضاً فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه تلك الشدائد وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك الأهوال
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار لأن قوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال أصحاب الصحراء أي الملازمون لها
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
وقوله تعالى الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجهان الأول أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين ولقد كان المشركون أبداً يريدون أيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كن يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وهو المشركون أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون ومثل هذا الأنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعات الله تعالى
الوجه الثاني أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس والكلبي ومقاتل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر أحدهم عمرو بن امية الضمري وانصرف هو وآخر معه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبراه خبر القوم فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا فجاء قومهما يطلبون الدية فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى حتى دخلوا على بني النضير وقد كانوا عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد ثم خموا بالفتك برسول الله وبأصحابه فنزل جبريل وأخبره بذلك فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحال مع أصحابه وخرجوا فقال اليهود إن قدورنا تغلي فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه قال عطاء توامروا على أن يطرحوا عليه رحاً أو حجراً وقيل بل(11/145)
ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام والثاني قال آخرون إن الرسول نزل منزلاً وتفرق الناس عنه وعلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلاحه بشجرة فجاء إعرابي وسل سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال من يمنعك مني فقال لا أحد ثم صاح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه وعلى هذين القولين فالمراد من قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم فأنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن والثالث روي أن المسلمين قاموا ءلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم فقيل لهم إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم يعنون صلاة العصر فهموا بأن يوقعوا بهم إذ قامو إليه فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف
المسألة الثانية يقال بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به ومعنى بسط اليد مده إلى المطبوش به ألا ترى أن قولهم فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ أي منعها أن تصل إليكم
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ اللَّهَ وَأَطَعْنَا ( المئدة 7 ) ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة والثاني أنه لما ذكر قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ( المائدة 11 ) وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود وأنهم أرادوا أيقاع الشر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبداً كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق الثالث أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم بل هي عادة جارية له مع جميع عباده
المسألة الثانية قال الزجاج النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخرة ومنه النقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها ويقال كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف(11/146)
إذ عرفت هذا فنقول النقيب فعيل والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها وقال أبو مسلم النقيب ههنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على بهم ونظيره أنه يقال للمضروب ضريب وللمقتول قتيل وقال الأصم هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم
المسألة الثالثة أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطاً فاختار الله تعالى من كل سبط رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم وقال مجاهد والكلبي والسدي أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف وهما اللذان قال الله تعالى فيهما قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( المائدة 23 ) الآية
قوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير وقال الله لهم إني معكم إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم
المسألة الثانية قوله إِنّى مَعَكُمْ خطاب لمن فيه قولان الأول أنه خطاب للنقباء أي وقال الله للنقباء إني معكم والثاني أنه خطاب لكل بني إسرائيل وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى لأن الضمير يكون عائداً إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكور هنا النقباء والله أعلم
المسألة الثالثة أن الكلام قد تم عند قوله وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم فقوله إِنّى مَعَكُمْ مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب ثم لما وضع الله تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية والشرط فيها مركب من أمور خمسة وهي قوله لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً والجزاء هو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ وذلك إشارة إلى إزالة العقاب وقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهو إشارة إلى إيصال الثواب وفي الآية سؤالات(11/147)
السؤال الأول لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها
والجواب أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسلد فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل
والسؤال الثاني ما معنى التعزيز الجواب قال الزجاج العزز في اللغة الرد وتأويل عززت فلاناً أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه ولهذا قال الأكثرون معنى قوله وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم وذلك لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه قال ولو كان التعزيز هو التوقير لكان قوله وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( الفتح 9 ) تكراراً
والسؤال الثالث قوله وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دخل تحت إيتاء الزكاة فما الفائدة في الإعادة
والجواب المراد بإيتاء الزكاة الواجبات وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة وخصها بالذكر تنبيهاً على شرفها وعلو مرتبتها قال الفرّاء ولو قال وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلا أنه قد يقام الإسم مقام المصدر ومثله قوله فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ( آل عمران 37 ) ولم يقل يتقبل وقوله وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ولم يقل إنباتاً
ثم قال تعالى فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم
فإن قيل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل
قلنا أجل ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَة ٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ثم قال تعالى فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في نقضهم الميثاق وجوه الأول بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء الثاني بكتمانهم صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث مجموع هذه الأمور
المسألة الثانية في تفسير ( اللعن ) وجوه الأول قال عطاء لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا الثاني قال الحسن ومقاتل مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم(11/148)
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساي ( قسية ) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية والباقون بالألف والتخفيف وفي قوله ( قسية ) وجهان أحدهما أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي كما يقال قادر وقدير وعالم وعليم وشاهد وشهيد فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي الثاني أنه مأخوذ من قولهم درهم قسي على وزن شقي أي فاسد رديء قال صاحب ( الكشاف ) وهو أيضاً من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وضلابة وقرىء ( قسية ) بكسر القاف للاتباع
المسألة الثانية قال أصحابنا وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل وقالت المعتزلة وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال فلان جعل فلاناً فاسقاً وعدلاً
ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل ويحتمل تغيير اللفظ وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ
ثم قال تعالى وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ قال ابن عباس تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة ٍ مّنْهُمْ وفي الخائنة وجهان الأول أن الخائنة بمعنى المصدر ونظيره كثير كالكافية والعافية وقال تعالى فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ ( الحاقة 5 ) أي بالطغيان وقال لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) أي كذب وقال لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) أي لغواً وتقول العرب سمعت راغية الإبل وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها وقال الزجاج ويقال عافاه الله عافية والثاني أن يقال الخائنة صفة والمعنى تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة وقيل أراد الخائن والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء على خيانة منهم
ثم قال تعالى إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه وقيل يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه
ثم قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وفيه قولان الأول أنه منسوخ بآية السيف وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار ولا شك أنه منسوخ بآية السيف
والقول الثاني أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان أحدهما المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم والثاني أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد وهو قول أبي مسلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجهان الأول قال ابن عباس إذا عفوت فأنت(11/149)
محسن وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله والثاني أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين نقضوا عهد الله والقول الأول أولى لأن صرف قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على القول الأول إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح وعلى القول الثاني إلى غير الرسول ولا شك أن الأول أولى
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
والمراد أن سبيل الصنارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله وإنما قال وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ولم يقل ومن النصارى وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى وهم الذين قالوا لعيسى نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح فبيّن الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى وقوله أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير الحظ في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هدا هو المعظم والمهم وقوله بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم يقال أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به ويقال لما التصق به ويقال لما التصق به الشيء الغراء وفي قوله بَيْنَهُمْ وجهان أحدهما بين اليهود والنصارى والثاني بين فرق النصارى فءن بعضهم يكفر بعضاً إلى يوم القيامة ونظيره قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ( الأنعام 65 ) وقوله وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وعيد لهم
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(11/150)
وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما وحد الكتاب لأنه خرج الجنس ثم وصف الرسول بأمرين الأول أنه يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون قال ابن عباس أخفوا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخفوا أمر الرجم ثم إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن ذلك لهم وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
والوصف الثاني للرسول قوله وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيراً مما تكتمونه أنتم وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالماً بكل ما يخفونه فيصير ذلك داعياً لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا
ثم قال تعالى قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ وفيه أقوال الأول أن المراد بالنور محمد وبالكتاب القرآن والثاني أن المراد بالنور الإسلام وبالكتاب القرآن الثالث النور والكتاب هو القرآن وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة والنور الباطن أيضاً هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات
يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
ثم قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ أي بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذخ من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى سُبُلَ السَّلَامِ أي طرق السلامة ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي سبل دار السلام ونظيره قوله وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ( محمد 4 5 ) ومعلوم أنه ليس المراد هداية الإسلام بل الهداية إلى طريق الجنة
ثم قال وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور وقوله بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق بالاتباع أي اتبع رضوانه بإذنه ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان الله إلاّ من أراد الله منه ذلك
وقوله تعالى وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو الدين الحق لأن الحق واحد لذاته ومتفق من جميع جهاته وأما الباطل ففيه كثرة وكلها معوجة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ(11/151)
وقوله تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في الآية سؤال وهو أن أحداً من النصارى لا يقول إن الله هو المسيح ابن مريم فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به
وجوابه أن كثيراً من الحلولية يقولون إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إن قوماً من النصارى ذهبوا إلى هذا القول بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى وذلك لأنهم يقولون أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتاً أو صفة فإن كان ذاتاً فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإل ه على هذا القول وإن قلنا إن الأقنوم عبارة عن الصفة فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات الله عن العلم ومن لم يكن عالماً لم يكن إل هاً فحينئذ يكون الإل ه هو عيسى على قولهم فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلاّ أن حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك
ثم أنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط والتقدير إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره وقوله فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده وقوله وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المعارج 14 ) يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال فلما سلمتم كونه تعالى خالقاً للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إنما قال وَمَا بَيْنَهُمَا بعد ذكر السماوات والأرض ولم يقل بينهن لأنه ذهب بذلك مذهب الصنفين والنوعين
ثم قال يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وفيه وجهان الأول يعني يخلق ما يشاء فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى كما هو معتاد وتارة لا من الأب والأم كما في خلق آدم عليه السلام وتارة من الأم لا من الأب كما في حق عيسى عليه السلام والثاني يخلق ما يشاء يعني أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فالله تعالى يخلق فيه اللحمية والحياة والقدرة معجزة لعيسى وتارة يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص معجزة له ولا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وفيه سؤال وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة فكيف نقل هذا القول عنهم وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق(11/152)
أنفسهم فكيف يجوز هذا النقل عنهم
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أن هذا من باب حذف المضاف والتقدير نحن أبناء رسل الله فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله ونظيره قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) والثاني أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضاً على من يتخذ ابناً واتخاذه ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله الثالث أن اليهود لما زعموا أن عزيراً ابن الله والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله ثم زعموا أن عزيراً والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنساناً آخر فقد يقولون نحن ملوك الدنيا ونحن سلاطين العالم وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا والرابع قال ابن عباس إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه
ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم وفيه سؤال وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه والاشكال عليه أن يقال إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا انظروا إلى وقعة أحد وإلى قتل الحسن والحسين وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك ومجرد إخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بكاف في هذا الباب إذ لو كان كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافياً وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعاً
والجواب من وجوه الأول أن موضع الالزام هو عذا الدنيا والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال الثاني أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) والثالث المراد بقوله قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم فلم مسخكم فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ أنهم لما كانوا من جنيس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قوياً متيناً(11/153)
ثم قال تعالى بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم
وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلاً إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إل هيته ولخرج عن صفة الحكمة وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وكما أن قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء إبطال لقول اليهود فبأن يكون إبطالاً لقول المعتزلة أولى وأكمل
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقاً واجباً وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه ديناً إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذباً
ثم قال تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الانفطار 19 )
يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله يُبَيّنُ لَكُمْ وجهان الأول أن يقدر المبين وعلى هذا التقدير ففيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع وثانيها أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره
الوجه الثاني أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة
المسألة الثانية قوله يُبَيّنُ لَكُمْ في محل النصب على الحال أي مبيناً لكم
المسألة الثالثة قوله عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس يريد على انقطاع من الأنبياء يقال فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع
واعلم أن قوله عَلَى فَتْرَة ٍ متعلق جَاءكُمْ أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل قيل كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل ألأ أكثر وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى(11/154)
عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة وألفا نبي وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي
المسألة الرابعة الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذراً ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا يا إل هنا عرفنا أنه لا بدّ من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمداً عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر وهو أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير
ثم قال تعالى فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ والمعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل والله تعالى قادر على كل شيء فكان قادراً على البعثة ولكا كان الخلق محتاجين إلى البعثة والرحيم الكريم قادراً على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم فالمراد بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ الإشارة إلى الدلالة التي قررناها
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ
واعلم أن وجه الاتصال هو أن الواو في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ واو عطف وهو متصل بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ ( المائدة 12 ) كأنه قيل أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى نعم الله تعالى وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في القول في الميثاق وخالفوه في محاربة الجبارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى منّ عليهم بأمور ثلاثة أولها قوله إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل وأيضاً كانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهؤلاء الثلاثة بالاتفاق كانوا من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب أيضاً كانوا على قول الأكثرين أنبياء والله تعالى أعلم موسى أنه لا يبعث الأنبياء إلاّ من ولد بعقوب ومن ولد إسماعيل فهذا الشرف حصل بمن مضى من الأنبياء وبالذين كانوا حاضرين مع موسى وبالذين أخبر الله موسى أنه سيبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك ولا شك أنه شرف عظيم وثانيها قوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وفيه وجوه أحدها قال السدي يعني وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما(11/155)
كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا ولا يغلبكم على أنفسكم غالب وثانيها أن كل من كان رسولاً ونبياً كان ملكاً لأنه يملك أمر أمته ويملك التصرف فيهم وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكاً ولهذا قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) وثالثها أنه كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء وقد يقال فيمن حصل فيهم ملوك أنتم ملوك على سبيل الاستعارة ورابعها أن كل من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك قال الزجاج الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً
والنوع الثالث من النعم التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الاكرام أحدها أنه تعالى فلق البحر لهم وثانيها أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم وثالثها أنه أنزل عليهم المن والسلوى ورابعها أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر وخامسها أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام وسادسها أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوّة كما جمع لهم وسابعها أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء بالله وهم أحباب الله وأنصار دينه
واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكرهم هذه النعمة وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بمجاهدة العدو فقال
يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك وقيل لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشام وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة قال المفسرون لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا فإنهما سهلا الأمر وقالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم فقالوا لموسى عليه السلام إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24 ) فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة قالوا وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوماً فعوقبوا بالتيه أربعين سنة ومات أولئك العصاة في التيه وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة ومن الناس من قال إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضاً في التيه ومنهم من قال إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم(11/156)
ودخلوا تلك البلاد فهذه هي القصة والله أعلم بكيفية الأمور
المسألة الثانية الأرض المقدسلا هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات قال المفسرون طهرت من الشرك وجعلت مسكناً وقراراً للأنبياء وهذا فيه نظر لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ ما كانت مقدسة عن الشرك وما كانت مقراً للأنبياء ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك الأرض فقال عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا وقال الكلبي دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل الطور
المسألة الرابعة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وجوه أحدها كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم وثانيها وهبها الله لكم وثالثها أمركم بدخولها
فإن قيل لم قال كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثم قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ ( المائدة 26 )
والجواب قال ابن عباس كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم وقيل اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد هو الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم وقيل إن الوعد بقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط وقيل إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب
المسألة الخامسة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فائدة عظيمة وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعاً أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بدّ وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة
ثم قال وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ وفيه وجهان الأول لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعداً بأن الله تعالى ينصرهم عليهم فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوّة
والوجه الثاني المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مثر وقوله فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ فيه وجوه أحدها خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب وثانيها ترجعون إلى الذل وثالثها تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة
قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(11/157)
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وفي تفسير الجبارين وجهان الأول الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهذا هو اختيار الفرّاء والزجاج قال الفرّاء لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك والثاني أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلاً عظيماً قوياً تشبيهاً بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى
ثم قال القوم وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ( الأعراف 40 )
ثم قال تعالى
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الرجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وكانا من الذين يخافون الله وأنعم الله عليهما بالهداية والثقة بعون الله تعالى والاعتماد على نصرة الله قال القفال ويجوز أن يكون التقدير قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعاً لهم على قتالهم وقراءة من قرأ يَخَافُونَ بالضم شاهدة لهذا الوجه
المسألة الثانية في قوله أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وجهان الأول أنه صفة لقوله رَجُلاَنِ والثاني أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام
المسألة الثالثة قوله ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار فلا تخافوهم والله أعلم
المسألة الرابعة إنما جزم هذان الرجلان في قولهما فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ لأنهما كانا جازمين بنبوّة موسى عليه السلام فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 21 ) لا جرم قطعاً بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم ولذلك ختموا كلامهم بقولهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإل ه القادر ومؤمنين بصحة نبوّة موسى عليه السلام
ثم قال تعالى
قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(11/158)
وفي قوله اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ وجوه الأول لعلّ القوم كانوا مجسمة وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى الثاني يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال كلمته قذهب يجيبني يعني يردي أن يجيبني فكأنهم قالوا كن أنت وربك مردين لقتالهم والثالث التقدير اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء
فإن قيل إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله فَقَاتِلا خبراً أيضاً
قلنا لا يمتنع خبر بعد خبر والرابع المراد بقوله وَرَبُّكَ أخوه هارون وسموه رباً لأنه كان أكبر من موسى قال المفسرون قولهم اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 26 ) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء الله تعالى منذ كانوا
قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى ذكر الزجاج في إعراب قوله وَأَخِى وجهين الرفع والنصب أما الرفع فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على موضع إِنّى والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك ومثله قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) والثاني أن يكون عطفاً على الضمير في أَمْلِكُ وهو ( أنا ) والمعنى لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا وأما النصب فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على الياء والتقدير إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا والثاني أن يكون أَخِى معطوفاً على نَفْسِى فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا أخي لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته
فإن قيل لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي وكان معه الرجلان المذكوران
قلنا كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد وأيضاً لعلّه إنما قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه وأيضاً يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله وَأَخِى
ثم قال فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون وهو في معنى الدعاء عليهم ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم وهو كقوله وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( القصص 21 )
ثم إنه تعالى قال
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَإِنَّهَا أي الأرض المقدسة محرمة عليهم وفي قوله أَرْبَعِينَ سَنَة ً قولان أحدهما أنها منضصوبة بالتحريم أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة هكذا ذكره الربيع بن أنس(11/159)
والقول الثاني أنها منصوبة بقوله يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة
المسألة الثانية يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 25 ) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب بل أخف منه فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه فقال فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قال مقاتل إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذكل فقالوا له لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل فأوحى الله تعالى إليه لا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم
المسألة الثالثة اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا فقال قوم إنهما ما كانا في التيه قالوا ويدل عليه وجوه الأول أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع والثاني أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون والثالث أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب وقال آخرون إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه فقال قوم إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته وهو الذي فتح الأرض المقدسة
وقيل إنه ملك الشأم بعد ذلك وقال آخرون بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد وقيل يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم
المسألة الخامسة اختلفوا في التيه فقال الربيع مقدار ستة فراسخ وقيل تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً وقيل ستة في اثنى عشر فرسخاً وقيل كانوا ستمائة ألف فارس
فإن قيل كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغيرل من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم فكيف في المفازة الصغيرة
قلنا فيه وجهان الأول أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات وإنه باطل الثاني إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال(11/160)
المسألة السادسة يقال تاه يتيه تيهاً وتيهاً وتوها والتيه أعمها والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها قال الحسن كانوا يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بدّ وأن يخرجوا عن المفازة بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاٌّ خَرِ قَالَ لاّقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى قال فيما تقدم الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ( المائدة 11 ) فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصاً كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسداً وبغياً فذكر أولاً قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما آتاه الله من الدين الحق ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة ابنى آدم أن أحدهما قتل الآخر حسداً منه على أن الله تعالى قبل قربانه وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة والثاني أن هذا متعلق بقوله دَابَّة ٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( المائدة 15 ) وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة والثالث أن هذه القصة متعلقة بما قبلها وهي قصة محاربة الجبارين أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر والرابع قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبياً معظماً عند الله تعالى الخامس لما كفر أهل الكتاب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حسداً أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة والمقصود منه التحذير عن الحسد
المسألة الثانية قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ فيه قولان أحدهما واتل على الناس والثاني واتل على أهل(11/161)
الكتاب وفي قوله ابْنَى ْ ءادَمَ قولان الأول أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان أحدهما أن هابيل كان صاحب غنم وقابيل كان صاحب زرع فقرب كل واحد منهما قرباناً فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قرباناً ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى الله فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل فعلم قابيل أن الله تعالى قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله وثانيهما ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر فولد له قابيل وتوأمته وبعدهما هابيل وتوأمته وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجهاً فأراد آدم أن يزوجها من هابيل فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها وهو أحق بأخته وليس هذا من الله تعالى وإنما هو رأيك فقال آدم عليه السلام لهما قربا قرباناً فأيكما قبل قربانه زوجتها منه فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل الله تعالى على قربانه ناراً فقتله قابيل حسداً له
والقول الثاني وهو قول الحسن والضحاك أن ابنى قوله تعالى في آخر القصة مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ( المائدة 32 ) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سبباً لإيجاب القصاص عليهم زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب ومما يدل على ذلك أيضاً أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبداً من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل
واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار وفي الآية أيضاً ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر وهو الحق والله أعلم
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ فيه وجوه الأول بالحق أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى والثاني أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل الثالث بالحق أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبعون عليه الرابع بالحق أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها وإنما هي لهو الحديث وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
ثم قال تعالى إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً وفيه مسائل(11/162)
المسألة الأولى إذ نصب بماذا فيه قولان الأول أنه نصب بالنبأ أي قصتهم في ذلك الوقت الثاني يجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف
المسألة الثانية القربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران
المسألة الثالثة تقدير الكلام وهو قوله إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا وقيل إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد وأيضاً فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع
ثم قال تعالى فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين وقال مجاهد علامة الرد أن تأكله النار والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه وقيل ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت النار تنزل من السماء فتأكله
المسألة الثانية إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام ( التقوى هاهنا ) وأشار إلى القلب وحقيقة التقوى أمور أحدها أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير وثانيها أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى وثالثها أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة وما أصعب رعاية هذه الشرائطا وقيل في هذه القصة إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه وقيل إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل وقيل كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة فلذلك لم يقبل الله قربانه
ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل اقتلنك فقال هابيل قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وفي الكلام حذف والتقدير كأن هابيل قال لم تقتلني قال لأن قربانك صار مقبولاً فقال هابيل وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين وقيل هذا من كلام الله تعالى لنبيّه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اعتراضاً بين القصة كأنه تعالى بيّن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال
لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاًّقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
والسؤال الأول وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام فلم قال إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(11/163)
والجواب من وجوه الأول يحتمل أن يقال لاح للمقتول بأمرات تغلب على الظن أنه يريد قتلهد فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان وإنما لا أفعله خوفاً من الله تعالى وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه ولهذا يروى أن قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله
والوجه الثاني في الجواب أن المذكور في الآية قوله مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع وقال أهل العلم الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجل عليه أن يقصد الدفع ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك
الوجه الثالث قال بعضهم المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك وهكذا فعل عثمان رضي الله تعالى عنه وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة ( ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )
الوجه الرابع وجوب الدفع عن النفس أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع وقال مجاهد ءن الدفع عن النفس ما كان مباحاً في ذلك الوقت
السؤال الثاني لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ
والجواب ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي ثم قال تعالى
إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
وفيه سؤالان
الأول كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال وَلاَ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 )
والجواب من وجهين الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم معناه تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وهذا بحذف المضاف والثاني قال الزجاج معناه ترجع إلى الله فلم قال إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ
والجواب من وجوه الأول قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه(11/164)
يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به وكأنه لما وعظه ونصحه قال له وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بدّ وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلاً عنك وعاجزاً عن دفعك فحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداءً بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراماً بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص
والوجه الثاني في الجواب أن المراد إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه والثالث روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم فعلى هذا يجوز أن يقال إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جواباً عن السؤال الأول والله أعلم ثم قال تعالى
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
ثم قال المفسرون سهلت له نفسه قتل أخيه ومنهم من قال شجعته وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفاً له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلاً عليه فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه فهذا هو المراد بقوله فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قالت المعتزلة لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافاً إلى الله تعالى لا إلى النفس
وجوابه أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَقَتَلَهُ قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر فتعلم قابيل ذلك منه ثم إنه وجد هابيل نائماً يوماً فضرب رأسه بحجر فمات وعن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ) وذلك أنه أول من سن القتل
ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ قال ابن عباس خسر دنياه وآخرته أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة وأما الآخرة فهو العقاب العظيم قيل إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدت النار أيضاً حصل مقصودك فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة وكان قتله عند عقبة حراء وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط قال صاحب ( الكشاف ) يروى أنه رثاه بشعر قال وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون والأنبياء معصومون عن الشعر وصدق صاحب ( الكشاف ) فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة(11/165)
ثم قال تعالى
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَة َ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غراباً وفيه وجوه الأول بعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم قابيل ذلك من الغراب الثاني قال الأصم لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثو التراب على المقتول فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال يا ويلتى الثالث قال أبو مسلم عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه
المسألة الثانية لِيُرِيَهُ فيه وجهان الأول ليريه الله أو ليريه الغراب أي ليعلمه لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز
المسألة الثالثة مِنْ أَخِيهِ عورة أخيه وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده والسوأة الفضيحة لقبحها وقيل سوأة أخيه أي جيفة أخيه
ثم قال تعالى قَالَ يَاءادَمُ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله يا ويلتى كلمة تحسر وتلهف وفي الآية احتمالان الأول أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علماً منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته فندم وتلهف وتحسر على فعله الثاني أنه كان عالماً بكيفية دفنه فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلمل إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض فلا جرم قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
المسألة الثانية قوله يا ويلتى اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك وذكر يا زيادة بيان كما في قوله يا ويلتى أأكد ( هود 72 ) والله أعلم
المسألة الثالثة لفظ الندم وضع للزوم ومنه سمي النديم نديماً لأنه يلازم المجلس وفيه سؤال(11/166)
وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الندم توبة ) فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته
أجابوا عنه من وجوه أحدها أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة والثاني أنه صار من النادمين على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية والثالث أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجد الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى
مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي بسبب فعلته
فإن قيل عليه سؤالان الأول ى ن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي من أجل ما مرّ من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل الثاني أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما قال الحسن هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم والثاني أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه ولكن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام منها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( المائدة 30 ) ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( المائدة 31 ) فقوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا وقوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة فقوله مِنْ أَجِدُ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل وهذا جواب حسن والله أعلم
وأما السؤال الثاني والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاماً في جميع لأديان والملل إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا(11/167)
بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبأكابر أصحابه كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود
المسألة الثانية قرىء ( من أجل ذلك ) بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر ( من أجل ذلك ) بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسر الهمزة عليها
المسألة الثالثة قال القائلون بالقياس دلت الآية على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل وذلك لأنه تعالى قال مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ كذا وكذا وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ والمعزلة أيضاً قالوا دلت هذه الآية على أن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح فيهم مريداً وقوعها منهم لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعياً للمصالح وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية
قال أصحابنا القول بتعليل أحكام الله تعالى محال لوجوه أحدها أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل وثانيها لو كان معللاً بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى وذلك يقتضي كونه مستفيداً تلك الأولوية من ذلك الفعل فيكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وهو محال وثالثها أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من الله وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل وعلى هذا التقدير فالكل من الله وهذا يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات والذي يؤكد ذلك قوله تعالى قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) وذلك نص صريح في أنه يحسن من الله كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح
المسألة الرابعة قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ قال الزجاج إنه معطوف على قوله نَفْسٌ والتقدير من قتل نفساً بغير نفس أو بغير فساد في الأرض وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد بقوله مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ ومنها الكفر مع الحراب ومنها الكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ
المسألة الخامسة قوله فكأنما قتل الناس جميعاً وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا(11/168)
السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ( النساء 93 )
الوجه الثاني في الجواب هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعاً لا يمكنه تحصيل مقصوده فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى
الوجه الثالث في الجواب وهو أنه لما أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجّح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ومتى كان الأمر كذلك كان هذا الترجيح حاصلاً بالنسبة إلى كل واحد فكان في قلبه أن كل أحد نازعه في شيء من مطالبه فإنه لو قدر عليه لقتله ونيّة المؤمن في الخيرات خير من عمله فكذلك نيّة المؤمن في الشرور شر من عمله فيصير المعنى ومن يقتل إنساناً قتلاً عمداً عدواناً فكأنما قتل جميع الناس وهذه الأجوبة الثلاثة حسنة المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المراد من إحياء النفس تخليصها عن المهلكات مثل الحرق والغرق والجوع المفرط والبرد والحر المفرطين والكلام في أن إحياء النفس الواحدة مثل إحياء النفوس على قياس ما قررناه في أن قتل النفس الواحدة مثل قتل النفوس
ثم قال تعالى وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ
والمعنى أن كثيراً من اليهود بعد ذلك أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لمسرفون يعني في التقل لا يبالون بعظمته
إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب قتل فقال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفي الآية مسائل(11/169)
المسألة الأولى في أول الآية سؤال وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازاً لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة فلفظ يحاربون في قوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يلزم أن يكون محمولاً على المجاز والحقيقة معاً وذلك ممتنع فهذا تقرير السؤال
وجوابه من وجهين الأول أنا نحمل المحاربة على المخالفة الأمر والتكليف والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فساداً كذا وكذا والثاني تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا وفي الخبر أن الله تعالى قال ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة )
المسألة الثانية من الناس من قال هذا الوعيد مختص بالكفار ومنهم من قال إنه في فساق المؤمنين أما الأولون فقد ذكروا وجوها الأول أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم فبعثهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أثرهم وإمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا فنزلت هذه الآية نسخاً لما فعله الرسول فصارت تلك السنة مسنوخة بهذا القرآن وعند الشافعي رحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاً للسنة الناسخة والثاني أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي وكان قد عاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم الثالث أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا
والوجه الرابع أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء قالوا والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه أحدها أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام والآية تقتضي ذلك وثانيها لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي والآية تقتضي ذلك وثالثها أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ( المائدة 34 ) والمرتد يسقط حذه بالتوبة قبل القدرة وبعدها فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين ورابعها أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد وخامسها أن قوله الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً يتناول كل من كان موصوفاً بهذه الصفة سواء كان كافراً أو مسلماً أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثالثة المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهلم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن(11/170)
قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعي رحمه الله إنه يكون أيضاً ساعياً في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد قال وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنباً فلا أقل من المساواة وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد وجه قول الشافعي رحمه الله النص والقياس أما النص فعموم قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلاً تحت عموم هذا النص وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق
المسألة الرابعة قوله أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ للعلماء في لفظ أَوْ في هذه الآية قولان الأول أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل وقال ابن عباس في رواية عطاء كلمة أَوْ هاهنا ليست للتخيير بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات فمن اقتصر على القتل قتل ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض وهذا قول الأكثرين من العلماء وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان الأول أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير والثاني أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلاً على حدة فصار التقدير أن يقتلوا أن قتلوا أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل والقياس الجلي أيضاً يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتماً لا يجوز العفو عنه وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين وإن جمعوا بين القتل وبين أخد المال جمع في حقهم بين القتل وبني الصلب لأن بقاءه مصلوباً في ممر الطريق يكون سبباً لاشتهار إيقاع هذه العقوبة فيصير ذلك زاجراً لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض
المسألة الخامسة قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء أن يقتلهم فقط أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل أو يقتلهم ويصلبهم وعند الشافعي رحمه الله لا بدّ من الصلب وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب(11/171)
كما لم يجز إسقاط القتل ثم اختلفوا في كيفية الصلب فقيل يصلب حياً ثم بطنه برمح حتى يموت وقال الشافعي رحمه الله يقتل ويصلى عليه ثم يصلب
المسألة السادسة اختلفوا في تفسير النفي من الأرض قال الشافعي رحمه الله معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن لم يجدهم طلبهم أبداً حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة قالوا ويدل علليه أن قوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى وهو أيضاً غير جائز لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضاً غير جائز لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز ولما بطل الكل لم يبق إلاّ أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلاّ مكان الحبس قالوا والمحبوس قد يسمى منفياً من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها ولا يرى أحداً من أحبابه فصار منفياً عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعراً منه قوله
خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها
فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين الأول أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي الثاني القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فيقوم الشافعي هاهنا إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير والله أعلم
ثم قال تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا أي فضيحة وهوان وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قالت المعتزلة الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق وثبت القول بالإحباط(11/172)
والجواب لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعاً على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط فنحن أيضاً نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو وحينئذ لا يبقى الكلام إلاّ في أنه هل دلّ هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنساناً ثم تابوا قبل القدرة علليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة وإن أخذ مالاً وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه قال الشافعي رحمه الله تعالى ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة لأن ماعزاً لما رجم أظهر توبته فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( هلا تركتموه ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى
يَأأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوماً من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم الله تعالى عن مرادهم فعند ذلك شرح للرسول شدة عيتهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم وامتد الكلام إلى هذا الموضع فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود الأول وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ كأنه قيل قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك وكونوا متقين عن معاصي الله متوسلين إلى الله بطاعات الله
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي نحن أبناء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم فاتقوا وابتغوا إليه اللوسيلة والله أعلم(11/173)
المسألة الثانية اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانيهما فعل المأمورات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ولما كان ترك المنهيات مقدماً على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر وإنما قلنا إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي والفعل هو الايقاع والتحصيل ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها فكان الترك قبل الفعل لا محالة
فإن قيل ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى الله تعالى
قلنا الترك إبقاء الشيء على عدمه الأصلي وذلك العدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى شيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة بل من دعاه داعي الشهورة إلى فعل قبيح ثم تركه لطلب مرضاة الله تعالى فهاهنا يحصل الوسل بذلك الامتناع إلى الله تعالى إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال ولهذا قال المحققون ترك الشيء عبارة عن فعل ضده
إذا عرفت هذا فنقول إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال فالذي يجب تركه هو المحرمات والذي يجب فعله هو الواجبات ومعتبران أيضاً في الأخلاق فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة ومعتبران أيضاً في الأفكار فالذي يجب فعله هو الفتكر في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوّة والمعاد والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات ومعتبران أيضاً في مقام التجلي فالفعل هن الاستغراق في الله تعالى والترك هو الالتفات إلى غير الله تعالى وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية وبالمحو والصحو وبالنفي والاثبات وبالفناء والبقاء وفي جميع المقامات النفي مقدم على الاثبات ولذلك كان قولنا ( لا إل ه إلاّ الله ) النفي مقدم فيه إلى الاثبات
المسألة الثالثة الوسيلة فعلية من وسل إليه إذا تقرب إليه قال لبيد الشاعر
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
ألاكل ذي لب إلى الله واسل أي متوسل فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود قالت التعليمية دلت الآية على أنه لا سبيل إلى الله تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته ومرشد يرشدنا إلى العلم به وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقاً والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد فلا بدّ فيه من الوسيلة
وجوابنا أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمراً بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته فيمتنع أن يكون هذا أمراً بطلب الوسيلة إليه في معرفته فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وبفعل ما ينبغي بقوله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحصوصات وكان بين الحالتين تضاد وتناف ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان(11/174)
تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين وبالمشرق والمغرب وبالليل والنهار وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تهالى اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلاً على الطبع فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله ومنهم من يعبده لغرض آخر
والمقام الأول هو المقام الشريف العالي وإليه الإشارة بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته
والمقام الثاني دون الأول وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب
واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أحدهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا وفيه مسائل
فإن قيل لم وحد الراجع في قوله لِيَفْتَدُواْ بِهِ مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعاً ومثله
قلنا التقدير كأنه قيل ليفتدوا بذلك المذكور
المسألة الثانية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون في موضع الحال ويحتمل أن يكون عطفاً على الخبر
المسألة الثالثة المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت )(11/175)
النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية
قوله يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إرادتهم الخروج تحتمل وجهين الأول أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 2 )
قيل إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج وقيل يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين والثاني أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم كقوله تعالى في موضع آخر رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ بضم الياء
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال ( لا إله إلا الله ) على سبيل الإخلاص قالوا لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد ولولا أن هذا لامعنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى والله أعلم ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وهذا يفيد الحصر فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم كما أن قوله لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) أي لكم لا لغيركم فكذا ههنا
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في اتصال الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً والثاني أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ( المائدة 32 ) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام فذكر أولاً قطع الطريق وثانياً أمر السرقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أختلف النحويون في الرفع في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ على وجوه الأول وهو قول سيبويه والأخفش أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مرفوعان بالابتداء والخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما كذا وكذا القول في قوله دالزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ( النور 2 ) وفي قوله ( النور 2 ) وفي قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا ( النساء 16 ) وقرأ عيسى بن عمر وَالسَّارِقُ(11/176)
وَالسَّارِقَة ُ بالنصب ومثله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى والاختيار عند سيبويه النصب في هذا قال لأن قول القائل زيداً فاضربه أحسن من قولك زيد فاضربه وأيضاً لا يجوز أن يكون فاطعوا خبر المبتدأ لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء
والقول الثاني وهو اختيار الفراء أن الرفع أولى من النصب لأن الألف واللام في قوله مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يقومان مقام ( الذي ) فصار التقدير الذي سرق قاقطعوا يده وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء وأيضاً النصب إنما يحسن إذا أردت سارقاً بعينه أو سارقة بعينها فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد
ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه الأول أن الله تعالى صرّح بذلك وهو قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط والثاني أن السرقة جناية والقطع عقوبة وربط العقوبة بالجناية مناسب وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم والثالث أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة فكان الأول أولى
وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء ويدل عليه وجوه الأول أنه طعن في القررن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة وذلك باطل قطعاً فإن قال لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول القراءة بالنصب أولى فنقول وهذا أيضاً رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود والثاني أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ ( واللذين يأتيانها منكم ) بالنصب ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول
الوجه الثالث أنا إذا قلنا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مبتدأ وخبره هو الذي نضمره وهو قولنا فيما يتلى عليكم فحينئذٍ قد تمت هذه الجملة بمتداها وخبرها فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا فإن قال الفاء تتعلق بالفعل الذي دلّ عليه قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه فنقول إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته والرابع أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ثم هذا المعنى متأكد بقوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا فثبت أن القراءة بالرفع أولى الخامس أن سيبويه قال هم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتلعق بحال السارق من حيث إنه سارق وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقاً ومعلوم أنه ليس كذلك فءن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً والله أعلم
المسألة الثانية قال كثير من المفسرين الأصوليين هذه الآية مجملة من وجوه أحدها أن الحكم(11/177)
معلق على السرقة ومطلق السرقة غير موجب للقطع بل لا بدّ وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة وثانيها أنه تعالى أوجب قطع الأيدي وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل وبالاجماع لا يجب قطعهما معاً فكانت الآية مجملة وثالثها أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلاناً بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها ويقع على الأصابع مع الكف ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين ويقع على كل ذلك إلى المنكبين وإذا كان لفظ اليد محتملاً لكل هذه الأقسام والعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة ورابعها أن قوله فَاقْطَعُواْ خطاب مع قوم فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعاً على مجموع الأمة وأن يكون واقعاً على طائفة مخصوصة منهم وأن يكون واقعاً على شخص معين منهم وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون ولما لم يكن التعيين مذكوراً في الآية كانت الآية مجملة فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق هذا تقرير هذا المذهب
وقال قوم من المحققين الآية ليست مجملة ألبتة وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ قائمام مقام ( الذي ) والفاء في قوله فَاقْطَعُواْ للجزاء فكان التقدير الذي سرق فاقطعوا يده ثم تأكد هذا بقوله تعالى جَزَاء بِمَا كَسَبَا وذلك الكسب لا بدّ وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة فصار هذا دليلاً على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط اللهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام وءما قوله ( الأيدي ) عامة فنقول مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الاتبداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم
وأما قوله لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول لا نسلم بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب ولهذا السبب قال تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ( المائدة 6 ) فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله إِلَى الْمَرَافِقِ فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل
وأما قوله رابعا يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد وأن يكون مع واحد معين
قلنا ظاهره أنه خطاب مع كل أحد ترك العمل به فيما صار مخصوصاً بدليل منفصل فيبقى معمولاً به في الباقي
والحاصل أنا نقول الآية عامة فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها ومعلوم أن هذا القول أولى من قول من قال إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلاً
المسألة الثالثة قال جمهور الفقهاء القطع لا يجب إلا عند شرطين قدر النصاب وأن تكون السرقة من الحرز وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري القدر غير معتبر فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير والحرز أيضاً غير معتبر وهو قول داود الأصفهاني وقول الخوارج وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه فإن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من(11/178)
الحرز أو من غير الحرز
إذا ثبت هذا فنقول لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص بل نقول إن لفظ السرقة لفظة عربية ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير أو تبنة واحدة أو كسرة صغيرة من خبز إنه سرق ماله فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة وأيضاً السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمراً يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل لأن ما لا يكون موضوعاً في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة وقال داود نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة ولا في سرقة التبنة الواحدة بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة فربما استحقر الملك الكبير لآلافاً مؤلفة وربما استعظم الفقير طسوجاً ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو قال لفلان على مال عظيم ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيماً عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالاً وليس لقائل أن يستبعد ويقول كيد يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعناً في الشريعة فقالوا اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب فكيف تقطع لأجل القليل من المال ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن أيضاً مقبولاً منا في إيجاب القطع في القليل والكثير قال ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه فقال الشافعي رحمه لله يجب القطع في ربع دينار وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا ربع دينار ) وقال أو حنيفة رحمه الله لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم وقال مالك وأحمد وإسحاق إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار وقال ابن أبي ليلى مقدر بخمسة دراهم وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن قال وليس لأحد أن يقول إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين قال لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة وكان يقول احذر من قطع يدك بدرهم ولو كان الاجماع منعقداً لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني
وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بدّ في وجوب القطع من القدر ثم قال الشافعي رحمه الله القطع في ربع دينار فصاعداً وهو نصاب السرقة وسائر الأشياء تقوم به وقال أبو حنيفة والثوري لا يجب القطع(11/179)
في أقل من عشرة دارهم مضروبة ويقوم غيرها بها وقال مالك رحمه الله ربع دينار أو ثلاثة دراهم وقال ابن أبي ليلى خمسة دراهم
حجة الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يوجب القطع في القليل والكثير إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعداً على ظاهر النص ثم أكد هذ بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لا قطع إلا في ربع دينار )
وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) فهو ضعيف لوجهين الأول أن ثمن المجن مجهول فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز الثاني أنه إن كان ثمن المجن مقدراً بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ربع دينار ) فكان الترجيح لهذا الجانب
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى وفي الثانية رجله اليسرى وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وقال أبو حنيفة والثوري لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة
واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجيهن الأول أن السرقة علة لوجوب القطع وقد وجدت في المرة الثالثة فوجب القطع في المرة الثالثة أيضاً إنما قلنا إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا وقد بيّنا أن المعنى الذي سرق فاقطعوا يده وأيضاً الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة فالسرقة علة لوجوب القطع ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة فلا بدّ وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعاً آخر وهو المطلوب والثاني أنه تعالى قال فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ولفظ الأيدي لفظ جمع وأقله ثلاثة والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولاً به عند السرقة الثالثة
فإن قالوا إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما فكان هذا الحكم مختصاً باليمين لا في مطلق الأيدي والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد
قلنا القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضاً القراءة الشذة ليست بحجة عندنا لأنا نقطع أنها ليست قرآناً إذ لو كانت قرآناً لكانت متواترة فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن ولعلّه كان في القررن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصاً وما نقلت إلينا ولعلّه كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلاً بأنه لو كان قرآناً لكان متواتراً فلما لم يكن متواتراً قطعنا أنه ليس بقرآن فثبت أن لاقراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة(11/180)
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله أغرم السارق ما سرق وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق لا يجمع بين القطع والعزم فإن غرم فلا قطع وإن قطع فلا غرم وقال مالك رحمه لله يقطع بكل حال وأما الغرم فليزمه إن كان غنياً ولا يلزمه إن كان فقيراً
حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع وقوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) يوجب الضمان وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة وعليه الدليل على أنا نقول ءن حد الله لا يمنع حق العباد بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك وبدليل أنه لو كان المسروق باقياً وجب رده بالإجماع ويدل عليه أيضاً أن المسروق كان باقياً على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصراً على وقت القطع أو مسنداً إلى أول زمان السرقة والأول لا يقول به الخصم والثاني يقتضي أن يقال إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقاً على ذلك الوقت وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي وهذا محال
حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء والجزاء هو الكافي فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة وإذا كان كافياً وجب أن لا يضم الغرم إليه
والجواب لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائماً والله أعلم بالصواب
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على المماليك وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يملك
حجة الشافعي أن قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا عام في حق الكل لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصاً بالبغض دون البعض ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضاً ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإمام والمولى
المسألة السابعة احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماماً معيناً والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة فلا بدّ من شخص يكون مخاطباً بهذا الخطاب وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام فلما كان هذا التكليف تكليفاً جازماً ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام وما لا يتأتى الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذٍ
المسألة الثامنة قال المعتزلة قوله نَكَالاً مّنَ اللَّهِ يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقاً للاستخفاف والذم والإهانة ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال إنه بقي مستحقاً للمدح والتعظيم لأنهما ضدان والجمع بينهما محال وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات
وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى ( دلا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى ( البقرة 264 )(11/181)
فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله ( البقرة 264 ) فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ لِلَّهِ يدل على تعليل أحكام الله فإن الباء في قوله بِمَا كَسَبَا صريح في أن القطع إنما وجب معللاً بالسرقة
وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( المائدة 32 )
المسألة العاشرة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا قال الزجاج جزاء نصب لأنه مفعول له والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم وكذلك نَكَالاً مّنَ اللَّهِ فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه فَاقْطَعُواْ والتقدير جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله
أما قوله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فالمعنى عزيز في انتقامه حكيم في شرائعه وتكاليفه قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سهواً فقال الأعرابي كلام من هذا فقلت كلام الله قال أعد فأعدت والله غفورٌ رحيم ثم تنبهت فقلت وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فقال الآن أصبت فقلت كيف عرفت قال يا هذا عزيزٌ حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته فإن قيل قوله وَأَصْلَحَ يدل على أن مجرّد التوبة غير مقبول
قلنا المراد من قوله وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض
المسألة الثانية إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه وهل يسقط عنه الحد قال بعض العلماء التابعين يسقط عنه الحد لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد فظاهر الآية يقتضي سقوطها وقال الجمهور لا يسقط عنه هذا الحد بل يقام عليه على سبيل الإمتحان
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان لا بأداء الواجبات ثم قال تعالى
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ(11/182)
واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة قال الواحدي الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع ووجوب العذاب للعاصي على الله وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك
وأقول فيه وجه آخر يبطل قولهم وذلك لأنه تعالى ذكر أولاً قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم رتب عليه قوله يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة والمغفرة أخرى لأنه مالك الخلق وربهم وإل ههم وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكاً لجميع المحدثات والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد أما المعتزلة فإنهم يقولون حسن هذه الأفعال من الله تعالى ليس لأجل كونه إل هاً للخلق ومالكاً لهم بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه
ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ
اعمل أنه تعالى لما بيّن بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك فقال قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله يا أيها النبي في مواضع كثيرة وما خاطبه(11/183)
بقوله يا أيها الرسول إلا في موضعين أحدهما ههنا والثاني قوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ( المائدة 67 ) وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم
المسألة الثانية قرىء لاَ يَحْزُنكَ بضم الياء ويسرعون والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم يقال أسرع فيه الشيب وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة وقوله مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ فيه تقديم وتأخير والتقدير من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون
ثم قال تعالى وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر الفرّاء والزجاج ههنا وجهين الأول أن الكلام إنما يتم عند قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ثم يبتدأ الكلام منقوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين
الوجه الثاني أن الكلام تمّ عند قوله وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ من قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وعلى هذا التقدير فقوله سَمَّاعُونَ صفة محذوف والتقدير ومن الذين هادوا قوم سماعون وقيل خبر مبتدأ محذوف يعني هم سماعون
المسألة الثانية ذكر الزجاج في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وجهين الأول أن معناه قابلون للكذب والسمع يستعمل ويراد منه القبول كما يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه ومنه ( سمع الله لمن حمده ) وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة وفي الطعن في محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والوجه الثاني أن المراد من قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ نفس السماع واللام في قوله لِلْكَذِبِ لام كي أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك وأما قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك فعلى هذا التقدير قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي سماعون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه الله مواضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه قال المفسرون إن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكان حد الزنا في التوراة الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوا قوماً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا وقالوا إن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا فلما سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل(11/184)
عليه السلام اجعل بينك وبينخم ( ابن صوريا ) فقال الرسول هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض فرضوا به حكماً فقال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي لا إل ه إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ) قال ابن صوريا نعم فوثبت عليه سفلة اليهود فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فقال ابن صوريا أشهد أن إل ه إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون ثم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالزانيين فرجما عند باب مسجده
إذا عرفت القصة فنقول قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي وضعوا الجلد مكان الرجم
وقوله تعالى يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن الثيب الذمي يرجم قال لأنه صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أمر برجمه فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول فقد ثبت المقصود وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعاً في ديننا ويدل عليه وجهان الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجباً لقوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأعراف 58 ) والثاني أن ما كان ثابتاً في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم فوجب أن يكون باقياً وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) حكمه باق في شرعنا
ولما شرح الله تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكوراً عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالمراد ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه
ثم أكد تعالى هذا فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ
قال أصحابنا دلّت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تفسير الفتنة وجوهاً أحدها أن الفتنة هي العذاب قال تعالى عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) أي يعذبون فالمراد ههنا أنه يريد عذابه لكفره ونفاقه وثانيها الفتنة الفضيحة يعني ومن يرد الله فضيحته الثالث فتنته إضلاله والمراد من الأضلال الحكم بضلاله وتسميته ضالاً ورابعها الفتنة الاختبار يعني من يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فلن تملك له من الله ثواباً ولا نفعاً
وأما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ فذكروا فيه وجوهاً أحدها لم يرد الله أن يمد قلوبهم بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم وثانيها لم يرد الله(11/185)
أن يطهر قلوبهم عن الحرج والغم والوحشة الدالة على كفرهم وثالثها أن هذا استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله والكلام عن هذه الوجوه قد تقدم مراراً
ثم قال تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وخزي المنافقين هتك سترهم باطلاع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على كذبهم وخوفهم من القتل وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص الله تعالى في إيجاب الرجم وأخذ الجزية منهم
وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النار
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
ثم قال تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي السحت بضم السين والحاء حيث كان وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من سحته ونقل صاحب ( الكشاف ) السحت بفتحتين والسحت بكسر السين وسكون الحاء وكلها لغات
المسألة الثانية ذكروا في لفظ السحت وجوهاً قال الزجاج أصله من سحته إذا استأصله قال تعالى فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( طه 61 ) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت إما لأن الله تعالى يسحتهم بعذاب أي يستأصلهم أو لأنه مسحوت البركة قال تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) الثاني قال الليث إنه حرام يحصل منه العار وهذا قريب من الوجه الأول لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها والثالث قال الفرّاء أصل السحت شدة الجوع يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يلقى إلا جائعاً أبداً فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة وهذا أيضاً قريب من الأول لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه
إذا عرفت هذا فنقول السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستئجار في المعصية روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد وزاد بعضهم ونقص بعضهم وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة ومعلوم أن أخذ الرشوة كذلك فكان سحتاً لا محالة
المسألة الثالثة في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وجوه الأول قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلاً في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت الثاني قال بعضهم كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالاً ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم الثالث سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة أكالون للربا لقوله تعالى وَأَخْذِهِمُ الرّبَا ( النساء 161 )
ثم قال تعالى فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ثم إنه تعالى خيّره بين الحكم فيهم(11/186)
والاعراض عنهم واختلفوا فيه على قولين الأول أنه في أمر خاص ثم اختلف هؤلاء فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم الثاني أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة وفي قريظة نصف دية فتحاكموا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل الدية سواء الثالث أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم
القول الثاني أن الآية عاملاة في كل من الكفار ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم ومنهم من قال إنه منسوخ بقوله تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( المائدة 49 ) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين
ثم قال تعالى وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فبيّن تعالى أنه لا تضره عداوتهم له
ثم قال تعالى وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
ثم قال تعالى وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه أحدها عدولهم عن حكم كتابهم والثاني رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن والثالث إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله وههنا سؤالان
السؤال الأول قوله فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ما موضعه من الاعراب
الجواب إما أن ينصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبرها عِندَهُمُ وإما أن يرتفع خبراً عنها كقولك وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله تعالى وءما أن لا يكون له محل ويكون المقصود أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره
السؤال الثاني لم أنث التوراة والجواب الأمر فيه مبني على ظاهر اللفظ
المسألة الثانية احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما(11/187)
لم ينسخ وهو ضعيف ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه لكن الشرع نهى عن النظر فيها بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم
ثم قال تعالى ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قوله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على قوله يُحَكّمُونَكَ وقوله ذالِكَ إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة ويجوز أن يعود إلى التحكيم وقوله وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فيه وجوه الأول أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها والثاني ما أولئك بالمؤمنين إخبار بأنهم لا يؤمنون أبداً وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي الثالث أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وذلك يدل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن كل مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط(11/188)
بداية الجزء الثانى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(12/2)
إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِأايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء
اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم وفيه مسائل
المسألة الأولى العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد قال الزجاج فِيهَا هُدًى أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَنُورٌ بيان أن أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق
المسألة الثانية احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخاً بهذه الآية وتقريره أنه تعالى قال إن في التوراة هدى ً ونوراً والمراد كونه هدى ً ونوراً في أصول الشرع وفروعه ولو كان منسوخاً غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ٌ ونور ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معاً هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار وأيضاً أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بدّ وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلاً فيها
المسالة الثالثة قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ يريد النبيّين الذين كانوا بعد(12/3)
موسى وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها
فإن قيل كل نبي لا بدّ وأن يكون مسلماً فما الفائدة في قوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ
قلنا فيه وجوه الأول المراد بقوله دأسلموا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ( النساء 45 ) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصالل الهير ما كان حاصلاً لأكثر الأنبياء الثالث قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى فقال تعالى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه الرابع المراد بقوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه والغرض من التنبيه على قبح طريعة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام
المسألة الرابعة قوله لِلَّذِينَ هَادُواْ فيه وجهان الأول المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا أي لأجلهم وفيما بينهم والثاني يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ً ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا
المسألة الخامسة أما الربانيون فقد تقدم تفسيره وأما الأحبار فقال ابن عباس هم الفقهاء واختلف أهل اللغة في واحده قال الفرّاء إنما هو ( حبر ) بكسر الحاء يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك أنه يكون صاحب كتب وكان أبو عبيدة يقول حبر بفتح الحاء قال الليث هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وأما اشتقاقه فقال قوم أصله من التحبير وهو التحسين وفي الحديث ( يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره ) أي جماله وبهاؤه والمحبر للشيء المزين ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به وقال آخرون اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به وهو قول الفرّاء والكسائي وأبي عبيدة والله أعلم
المسألة السادسة دلّت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالاً من الأحبار فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحباء كآحاد العلماء
ثم قال بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وفيه مسألتان(12/4)
المسألة الأولى حفظ كتاب الله على وجهين الأول أن يحفظ فلا ينسى الثاني أن يحفظ فلا يضيع وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين أحدهما أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه
المسألة الثانية الباء في قوله بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ فيه وجهان الأول أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا الثاني أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا وهو قول الزجاج
ثم قال تعالى وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير
ثم قال تعالى فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِى
واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومنعهم من التحريف والتغيير
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بدّ وأن يكون لخوف ورهبة أو لطمع ورغبة ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال فَلاَ تَخْشَوُاْ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي
ولما ذكر أمر الرهبة ابتعه بأمر الرغبة فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة والرشوة لكونها سحتاً تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد والسعادات التي لا نهاية لها
ويحتمل أيضاً أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهاناً قاطعاً في المنع من التحريف والتبديل(12/5)
ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفليه مسألتان
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في ءقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب فهم كافرون على الاطلاق لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن
المسألة الثانية قالت الخوارج كل من عصى الله فهو كافر وقال جمهور الأئمة ليس الأمر كذلك أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة الأول أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ كلام أدخل فيه كلمة مِنْ في معرض الشرط فيكون للعموم وقول من يقول المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز الثاني قال عطاء هو كفر دون كفر وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين وهو أيضاً ضعيف لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين والثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضالهي أفعال الكفار ويشبه من أجل ذلك الكافرين وهذا ضعيف أيضاً لأنه عدولل عن الظاهر والرابع قال عبد العزيز بن يحيى الكناني قوله بِمَا أنزَلَ اللَّهُ صيغة عموم فقوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلاّ في القليل وهو العمل أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم فيدل على سقوط هذا الجواب والخامس قال عكرمة قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم(12/6)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاٌّ نْفَ بِالاٌّ نْفِ وَالاٍّ ذُنَ بِالاٍّ ذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
ثم قال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
والمعنى أنه تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم واليهود غيروه وبدلوه وبيّن في هذه الآية أيضاً أنه تعالى بيّن في التوراة أن النفس بالنفس وهؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم أيضاً ففضلوا بني النضير على بني قريظة وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا هو وجه النظم من الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي العين والأنف والأذن والسن والجروح كلها بالرفع وفيه وجوه أحدها العطف على محل أن النفس لأن المعنى وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس لأن معنى كتبنا قلنا وثانيها أن الكتابة تقع على مثل هذه الجمل تقول كتبت ( الحمد لله ) وقرأت ( سورة أنزلناها ) وثالثها أنها ترتفع على الاستئناف وتقديره أن النفس مقتولة بالنفس والعين مفقوءة بالعين ونظيره قوله تعالى في هذه السورة إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ( البقرة 62 ) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عممرو بنصف الكل سوى الجروح فإنه بالرفع فالعين والأنف والأذن نصب عطفاً على النفس ثم الجروح مبتدأ و وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ خبره وقرأ نافع وعاصم وحمزة كلها بالنصب عطفاً لبعض ذلك على بعض وخبر الجميع قصاص وقرأ نافع الأذن بسكون الذال حيث وقع والباقون بالضم مثقلة وهما لغتان
المسألة الثانية قال ابن عباس يريد وفرضنا عليهم في التوراة أن النفس بالنفس يريد من قتل نفساً بغير قود قيد منه ولم يجعل الله له دية في نفس ولا جرح إنما هو العفو أو القصاص وعن ابن عباس كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ولما ذكر الله تعالى بعض الأعضاء عمم الحكم في كلها فقال بِالسِنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ وهو كل ما يمكن أن يقتص منه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأنف والقدمين واليدين وغيرها فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منه التلف ففيه أرش وحكومة
واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا كان شرعاً في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكر ذلك قال إنها ليست بحجة علينا
المسألة الثالثة قِصَاصٌ هاهنا مصدر يراد به المفعول أي والجروح متقاصة بعضها ببعض(12/7)
ثم قال تعالى فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ الضمير في قوله لَهُ يحتمل أن يكون عائداً إلى العافي أو إلى المعفو عنه أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص 3 في سورة البقرة وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويقرب منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس ) وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه ) وهذا قول أكثر المفسرين
والقول الثاني أن الضمير في قوله فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ عائد إلى القاتل والجارح يعني أن المجنى عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني يعني لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو وأما المجنى عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال أولاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وثانياً هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم فلما ذكر أعظم التهديدات أولاً فأي فائدة في ذكر الأخف بعده
وجوابه أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه
وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاة ِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ
قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ثم يقال عقبته بفلان وقفيته به فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء
فإن قيل فأين المفعول الأول في الآية(12/8)
قلنا هو محذوف والظرف وهو قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه والضمير في ءاثَارِهِمْ للنبيّين في قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ( المائدة 44 ) وهاهنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة ومعلوم أنه لم يكن كذلك فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام فلذلك قال في آخر هذه الآية وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ( المائدة 47 ) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين
والجواب معنى كون عيسى مصدقاً للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزّل من عند الله وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ
السؤال الثاني لم كرر قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والجواب ليس فيه تكرار لأن في الأول أن المسيح يصدق التوراة وفي الثاني الإنجيل يصدق التوراة
السؤال الثالث أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ وفيه مباحثات ثلاثة أحدها ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة وثانيها لم ذكر الهدى مرتين وثالثها لم خصصه بكونه موعظة للمتقين
والجواب على الأول أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد وعلى النبوّة وعلى المعاد فهذا هو المراد بكونه هدى ً وأما كونه نوراً فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وأما كونه مصدقاً لما بين يديه فيمكن حمله على كونه مبشراً بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمقدمه وأما كونه هدى ً مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سبب لاهتداء الناس إلى نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان هذى في هذه اللمسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )
السأال الرابع قوله في صفة الإنجيل وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على ماذا
الجواب أنه عطف على محل فِيهِ هُدًى ومحله النصب على الحال والتقدير وآتيناه الإنجيل حال كونه هدى ً ونوراً ومصدقاً لما بين يديه(12/9)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ قرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بكسر اللام وفتح الميم جعل اللام متعلقة بقوله وَقَفَّيْنَا عَلَى ( المائدة 46 ) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير وقلنا ليحكم أهل الإنجيل فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وَكَتَبْنَا وَقَفَّيْنَا يدل عليه وحذف القول كثير كقوله تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) أي يقولون سلام عليكم والثاني أن يكون قوله وَلْيَحْكُمْ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل
فإن قيل كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الأصم والثاني وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن والثالث المراد من قوله وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة فالمعنى بقوله وَلْيَحْكُمْ أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ واختلف المفسرون فمنهم من جعل هذه الثلاثة أعني قوله ( الكافرون والظالمون الفاسقون ) صفت لموصوف واحد قال القفال وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى بل هو كما يقال من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو البر من أطاع الله فهو المتقي لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد وقال آخرون الأول في الجاحد والثاني والثالث في المقر التارك وقال الأصم الأول والثاني في اليهود والثالث في النصارى
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وهذا خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ أي القرآن وقوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن
وقوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فيه مسائل(12/10)
المسألة الأولى في المهيمن قولان الأول قال الخليل وأبو عبيدة يقال قد هيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً عليه حافظاً قال حسّان فإن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألبب
والثاني قالوا الأصل في قولنا آمن يؤمن فهو مؤمن أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين ثم قبلت الأولى هاء كما في هرقت وأرقت وهياك وإياك وقبلت الثانية ياء فصار مهيمناً فلهذا قال المفسرون وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي أميناً على الكتب التي قبله
المسألة الثانية إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير مسنوخاً ألبتة ولا يتطرق إليه البتديل والتحريف على ما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبداً فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند الله تعالى بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات ولقوله لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) والمهيمن عليه هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله الله تعالى عليك
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وَلاَ تَتَّبِعِ يريد ولا تنحرف ولذلك عداه بعن وكأنه قيل ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم
المسألة الثانية روي أن جماعة من اليهود قالوا تعالوا نذهب إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لعلنا نفتنه عن دينه ثم دخلوا عليه وقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا ونحن نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ
والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي وقيل الخطاب له والمراد غيره(12/11)
ثم قال تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الشرعة في اشتقاقه وجهان الأول معنى شرع بين وأوضح قال ابن لسكيت لفظ الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وسلخته الثاني شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها فالشريعة فعلية بمعنى المعفولة وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها وأما المنهاج فهو الطريق الواضح يقال نهجب لك الطريق وأنهجب لغتان
المسألة الثانية احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر
المسألة الثالثة وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل وآيات دالة على حصول التباين فيها
أما النوع الأول فقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( الشورى 13 ) إلى قوله أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ( الشورى 13 ) وقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 )
وأما النوع الثاني فهو هذه الآية وطريق الجمع أن نقول النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين
المسألة الرابعة الخطاب في قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً خطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) ثم قال وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( المائدة 46 ) ثم قال وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 )
ثم قال لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يعني شرائع مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة
المسألة الخامسة قال بعضهم الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين وقال آخرون بينهما فرق فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة وهي المراد بالمنهاج فالشريعة أول والطريقة رخر وقال المبرد الشريعة ابتداء الطريقة والطريقة المنهاج المستمر وهذا تقرير ما قلناه والله أعلم بأسرار كلامه
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه قال الأصحاب هذا يدل على أن الكل بمشيئة الله تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء
ثم قال تعلى وَلَاكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ من الشرائع المختلفة هل تعملون بها منقادين لله خاضعين لتكاليف الله أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل(12/12)
فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فابدروها وسابقوا نحوها
إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات
فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيخربكم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وموفيكم ومقصركم في العمل والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الكشوك ويحصل مع اليقين وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ يَتَّبِعُ أَهْوَاءهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل قوله وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا
قلنا على الْكِتَابِ في قوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 ) كأنه قيل وأنزلنا إليك أن أحكم و ءانٍ وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله بِالْحَقّ ( المائدة 48 ) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم وقوله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك
المسألة الثانية قالوا هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( المائدة 42 )
المسألة الثالثة أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد وءما لأنهما حكمان أمر بهما جميعاً لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا في قتيل كان فيهم
ثم قال تعالى وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
قال ابن عباس يريد به يردوك إلى أنوائهم فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن ومنه قوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ( الإسرار 73 ) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أعوذ بك من فتنة المحيا ) قال هو أن يعدل عن الطريق قال أهل العلم هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول لأن الله تعالى قال وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول فلم يبق إلا الخطأ والنسيان
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وفيه مسألتان(12/13)
المسألة الأولى المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء وإنما خصّ الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وكان مجازاتهم بالبعض كافياً في إهلاكهم والتدمير عليهم والله أعلم
المسألة الثانية دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
ثم قال تعالى أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تبغون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على المغايبة وقرأ المسلمي لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ برفع الحكم على الابتداء وإيقاع يَبْغُونَ خبراً وإسقاط الاراجع عنه لظهوره وقرأ قتادة تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيّيين حكماً كأولئك الحكام
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول قال مقاتل كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام فلما بعث تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر وأروش جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فقال عليه السلام فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري ودم النضري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ يعني حكمهم الأول وقيل إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية الثاني أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى
ثم قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام في قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ ( يوسف 23 ) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً ولا أحسن منه بياناً(12/14)
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أعلم أنه تمّ الكلام عند قوله أَوْلِيَاء ثم ابتدا فقال بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وروي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتبرأ عنده من موالاة اليهود فقال عبد الله بن أبي لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر فنزلت هذه الآية ومعنى لا تتخذوهم أولياء أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تتوددوا إليهم
ثم قال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عباس يريد كأنه مثلهم وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانية المخالف في الدين ونظيره قوله وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 )
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً فقال مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً أما سمعت قول الله تعالى يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء قلت له فينه ولي كتابته فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدينهم إذ أبعدهم الله قلت لا يتم أمر البصرة إلا به فقال مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره
فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَة ٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ
ثم قال تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة ٌ
وأعلم أن المراد بقوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ المنافقون مثل عبد الله بن ابي وأصحابه وقوله يسارعون فيهم أي يسارعون في مودة اليهود ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهماتهم ويقرضونهم ويقول المنافقون إنما نخالطهم لأنا نخشى أن تصيبنا دائرة قل الواحدي رحمه الله الدائرة من دوائر الدهر كالدولة وهي التي تدور من قوم إلى قوم والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث الخوفة فالدوائر تدور والدوائل تدول قال الزجاج أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدور الأمر كما كان قبل ذلك
ثم قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين(12/15)
قال المفسرون ( عسى ) من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله على أعدائه وإظهار المسلمين على أعدائهم أو أمر من عنده يقطع أصل اليهود أو يخرجهم عن بلادهم فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر الرسول ويقولون لا نظن أنه يتم له أمره والأظهر أن تصير الدولة والغلبة لأعدائه وقيل أو أمر من عنده يعني أن يؤمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على فعالهم
فإن قيل شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين وقوله عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ ليس كذلك لأن الاتيان بالفتح داخل في قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ
قلنا قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ معناه أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر ثم قال تعالى
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يِقُولُ بغير واو وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والشام والباوقن بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل العراق قال الواحدي رحمه الله وحدف الواو ههن كإثباتها وذلك لأن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها فإن الموصوف بقوله يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ( المائدة 52 ) هم الذين قال فيهم المؤمنون أَهُاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حصن العطف بالواو وبغير الواو ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم أغنى ذلك عن ذكر الواو ثم قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( الكهف 22 ) فأدخل الواو فدل ذلك على أن حذف الواو وذكرها جائز وقال صاحب ( الكشاف ) حذف الواو على تقدير أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ فقيل يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا واختلفوا في قراءة هذه الآية من وجه آخر فقرأ أبو عمروا وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُواْ نصبا على معنى وعسى أن يقول الذين آمنوا وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة ويدل على قراءة الرفع قراءة من حذف الواو
المسألة الثانية الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى وقالوا إنهم يقسمون بالله جهد أيمانهم معنا ومن أنصارنا(12/16)
فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم
المسألة الثالثة قوله حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لا ئِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ونافع يَرْتَدِدْ بدالين والباقون بدال واحدة مشددة والأول لإظهار التضعيف والثاني للإدغام قال الزجاج إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف نحو قوله إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ( آل عمران 140 ) ويجوز في اللغة إن يمسكم
المسألة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهناً ادعى النبوّة في اليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى معاذبن جبل وسادات اليمن فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول
وبنو حنيفة قوم مسيلمة ادعى النبوّة وكتب إلى رسول الله من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجابه الرسول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل(12/17)
على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وفي إسلامي
وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد ادعى النبوّة فبعث إليه رسول الله خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه
وسبع في عهد أبي بكر فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوّة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف ذات يوم جاراً رداءه فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه فقال أن أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد
المسألة الثالثة معنى الآية يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن الله تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه وقال الحسن رحمه الله علم الله أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزاً
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك القوم من هم فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة وقالت عائشة رضي الله عنها مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وارتدت العرب واشتهر النفاق ونزل بأبي مالو نزل بالجبال الراسيات لهضابها وقال السدي نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين وقال نجاهد نزلت في أهل اليمن وروي مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال هم قوم هذا وقال آخرون هم الفرس لأنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن هذه الآية ضرب بيده على عاتق سلمان وقال هذا وذووه ثم قال ( لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ) وقال قوم إنها نزلت في علي عليه السلام ويدل عليه وجهان الأول أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال ( لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وهذا هو الصفة المذكورة في الآية
والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) وهذه الآية في حق علي فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه فهذه جملة الأقوال في هذه الآية
ولنا في هذه الآية مقامات
المقام الأول أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض وتقرير مذهبهم(12/18)
أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول ( لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبداً منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم وهذا كلام ظاهر لمن أنصف
المقام الثاني أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين ولأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ وهذا للاستقبال لا للحال فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب
فإن قيل هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجوداً في ذلك الوقت
قلنا الجواب من وجهين الأول أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال والثاني أن معنى الآية أن الله تعالى قال فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب وأبو بكر وإن كان موجوداً في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلاً في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي فزال السؤال فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام ولا يمكن أيضاً أن يكون المراد هو علي عليه السلام لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة فكيف تحمل هذه الآية عليه
فإن قالوا بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً
قلنا هذا باطل من وجهين الأول أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر وما كان أحد يقول إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضاً الثاني أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين ولا يمكن أيضاً أن يقال إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين وبتقدير أن يقال اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعاً وأذنابا وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلاً في هذه العبادة ورئيساً مطاعاً فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر
والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر هو أنا نقول هب أن علياً كان قد حارب(12/19)
المرتدين ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالاً وأكثر موقعاً في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة وذلك لأنه علم بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين وهو الذي حارب مانعي الزكاة ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب وصار ملوك الدنيا مقهورين وصار الإسلام مستولياً على جميع الأديان والملل فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيراً في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية
المقام الثالث في هذه الآية وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات أولها أنه يحبهم ويحبونه
فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وصف لأبي بكر ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالماً وذلك يدل على أنه كان محقاً في إمامته وثانيها قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو صفة أبي بكر أيضاً الدليل الذي ذكرناه ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ارحم أمتي بأمتي أبو بكر ) فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف كان يلازمه ويخدمه وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد وأصر على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزمة وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام فكان قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ لا يليق إلا به وثالثها قوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث وهناك الإسلام كان في غاية الضعف والكفر كان في غاية القوة وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ويذب عن رسول الله بغاية وسعه وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين الأول أنه كان متقدماً عليه في الزمان فكان إفضل لقوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) والثاني أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وجهاد علي كان في وقت القوة ورابعها قوله ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ ( النور 22 ) وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بدّ وأن تكون في أبي بكر ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بدّ وأن تكون(12/20)
لأبي بكر وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه كان موصوفاً بهذه الصفات حال حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت
قلنا هذا باطل قطعاً لأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفاً بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة وذلك هو حال إمامته فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته أما قول الروافض لعنهم الله إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم خيبر ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وكان ذلك هو علي عليه السلام فنقول هذا الخبر من باب الآحاد وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل فكيف يجوز التمسك به في العلم وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محباً لله ولرسوله وكون الله محباً له وراضياً عنه قال تعالى في حق أبي بكر وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 21 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة ) وقال ( ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر ) وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
وأما الوجه الثاني وهو قولهم الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي فجوابنا أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة على وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم
أما قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) فلا فائدة في الإعادة وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له
ثم قال تعالى أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) قال صاحب ( الكشاف ) أذلة جمع ذليل وأما ذلول فجمعه ذلل وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئاً من التكبر والترفع بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا فقوله أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين وقيل يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم عزه يعزه إذا غلبه كأنهم(12/21)
مشدون عليهم بالقهر والغلبة
فإن قيل هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين
قلنا فيه وجهان أحدهما أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة كأنه قيل راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع والثاني أنه تعالى ذكر كلمة عَلَى حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع وقرىء ( أذلة وأعزة ) بالنصب على الحال
ثم قال تعالى يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة دين الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ وفيه وجهان الأول أن تكون هذه الواو للحال فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم الثاني أن تكون هذه الواو للعطف والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين واللومة المرة الواحدة من اللوم والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة كأنه قيل لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين
ثم قال تعالى ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمبة والذلة والعة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة فبيّن تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل فلا بدّ في التخصيص من فائدة زائدة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فالواسع إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ
وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ قولان الأول أن المراد عامة المؤمنين وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله نزلت هذه الآية يعلى وفق قوله وروي أيضاً أن عبدالله بن سلام قال يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية فقال(12/22)
رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء فعلى هذا الآية عامة في حق كل المؤمنين فكل من كان مؤمناً فهو ولي كل المؤمنين ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وعلى هذا فقوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ صفة لك المؤمنين والمراد بذكر هذه الصفلات تمييز عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات قال تعالى في صفة صلاتهم وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ( التوبة 54 ) وقال يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) وقال في صفة زكاتهم أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ ( الأحزاب 19 ) وأما قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ ففيه على هذا القول وجوه الأول قال أبو مسلم المراد من الركوع الخضوع يعني ( أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه والثاني أن يكون المراد من شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر تشريفاً له كما في قوله وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) والثالث قال بعضهم إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعاً فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر الله تعالى كل هذه الصفات
القول الثاني أن المراد من هذه الآية شخص معين وعلى هذا ففيه أقوال روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه والثاني روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام روي أن عبدالله بن سلام قال لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال الّلهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فما أعطاني أحد شيئاً وعلي عليه السلام كان راكعاً فأومأ إليهخ بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( الّلهم إن أخي موسى سألك ) فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى إلى قوله وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى ( طه 25 32 ) فأنزلت قرآناً ناطقاً سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ( القصص 35 ) الّلهم وأنا محمد نبيّك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري قال أبو ذر فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال يا محمد إقرأ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلى أخرها فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة
المسألة الثانية قالت الشيعة هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو علي بن ابي طالب وتقريره أن نقول هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن ابي طالب
بيان المقام الأول أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب كما في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وجاء بمعنى المتصرف قال عليه الصلاة والسلام ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ) فنقول ههنا وجهان الأول أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين الله مراده ولا منافاة بين المعنيين فوجب حمله عليهما فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في(12/23)
الآية متصرفون في الأمة الثاني أن نقول الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرف وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة إِنَّمَا للحصر كقوله إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف لأنه ليس للولي معنى سوى هذين فصار تقدير الآية إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه لآية متصرفون في جميع الأمة ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفاً في كل الأمة فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة
أما بيان المقام الثاني وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن ابي طالب وبيانه من وجوه الأول أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال إن ذلك الشخص هو علي وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي ضرورة أنه لا قائل بالفرق والثاني تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي ولا يمكن المصير إلى قول من يقول ءنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته فبطل هذا القول والثالث أن قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ لا يجوز جعله عطفاً على ما تقدم لأن الصلاة قد تقدمت والصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكراراً فوجب جعله حالاً أي يؤتون الزكاة حال كونهم ءاكعين وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام
والجواب أما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معاً فغير جائز لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهومية معاً
أما الوجه الثاني فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف ثم نجيب عما قالوه فنقول الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه الأول أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( المائدة 51 ) وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون والموصوف والظاهر أن الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله(12/24)
الْغَالِبُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم ( المائدة 57 ) فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة فكذلك الولاية في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ يجب أن تكون هي بمعنى النصرة وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ليس إلا بمعنى الناصر والمحب ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه
الحجة الثانية أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين فلا بدّ وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة والأصل حمل الكلام على الحقيقة
الحجة الرابعة أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( المائدة 54 ) إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر فلو دلّت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين وذلك باطل فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن علياً هو الإمام بعد الرسول
الحجة الخامسة أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل وليس للقوم أن يقولوا إنه تركه للتقية لإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك ألبتة بهذه الآية في إثبات امامته وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله
الحجة السادسة هب أنها دالة على إمامة علي لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال لأن علياً ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن علياً سيصير إماماً بعد ذلك ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت فإن قالوا الأمة في هذه الآية على قولين منهم من قال إنها لا تدل على إمامة علي ومنهم من قال ءنها تدل على إمامته وكل من قال بذلك قال إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل فالقول بدلالة الآية على ءمامة علي(12/25)
لا على هذا الوجه قول ثالث وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول ومن الذين أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول فإن من المحتمل بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي فإن السائل يورد على ذلك لاستدلال هذا السؤال فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقروناً بذكر هذا الاستدلال
الحجة السابعة أن قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لا شك أنه خطاب مع الأمة وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييباً لقول المؤمنين وتعريفاً لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصراً له ومعيناً له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معاف
الحجة الثامنة أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) فإذا حملنا قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ على معنى المحبة والنصرة كان قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يفيد فائدة قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وقوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( المائدة 54 ) يفيد فائدة قوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف
أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة والولاية بمعنى النصرة عامة فجوابه من وجهين
الأول لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ولا نسلم أن كلمة إِنَّمَا للحصر والدليل عليه قوله إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ( يونس 24 ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل وقال إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( محمد 36 ) ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها الثاني لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين أحدهما الذين جعلهم مولياً عليهم وهم المخاطبون بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ والثاني الأولياء وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فإذا فسرنا الولاية ههنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصاراً للقسم الثاني ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم وذلك محال فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة وهذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التأمل فيه
وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في(12/26)
حق الأمة والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين ومنهم من يقول إنها نزلت في حق أبي بكر
وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول هذا أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب وذلك عند أكثر العلماء معصية وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله وَإِذْ أَخَذْنَا ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب الثاني هو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه ولهذا قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) ومن كان قبله مستغرقاً في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير الثالث أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ولذلك فإنهم يقولون إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة أَهْلُ أَتَى ( الإنسان 1 ) وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيراً فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ عليه
الوجه الخامس هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة أعلم أن الذين يقولون المراد من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول المذكور في الآية هو الله تعالى ورسوله والمؤمنون فلم لم يقل إنما أولياؤكم
والجواب أصل الكلام إنما وليكم الله فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله والمؤمنين على سبيل التبع ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله إنما مولاكم الله
السؤال الثاني الَّذِينَ يُقِيمُونَ ما محله
الجواب الرفع على البدل من الَّذِينَ كَفَرُواْ أو يقال هم الذين يقيمون أو النصب على المدح والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقاً لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظباً على الصلاة في حال الركوع أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات لله تعالى(12/27)
وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم وللمفسرين عبارات قال الحسن جند الله وقال أبو روق أولياء الله وقال أبو العالية شيعة الله وقال بعضهم أنصار الله وقال الأخفش حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم
المسألة الثانية قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ جملة واقعة موقع خبر المبتدأ والعائ غير مذكور لكونه معلوماً والتقدير فهو غالب لكونه من جند الله وأنصاره
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياى وساق الكلام في تقريره ثم ذكر ههنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرون والكسائي الْكُفَّارِ بالجر عطفاً على قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ومن الكفار والباقون بالنصب عطفاً على قوله الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بتقدير ولا الكفار
المسألة الثانية قيل كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهر الإيمان ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
المسألة الثالثة هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة وقوه لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( البينة 1 ) صريح في كونهم كفاراً وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر والله أعلم
المسألة الرابعة معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة(12/28)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزواً ولعباً ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزواً ولعباً فقال مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله اتَّخَذُوهَا للصلاة أو المناداة
قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول أشهد أن محمداً رسول الله يقول احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله
وقيل كان منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها فقالت اليهود قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء فنزلت الآية
وقيل كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيراً للناس عنها
وقيل قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع فيما مضى فإن كنت نبياً فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثانية قالوا دلت الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده
المسألة الثالثة قوله هُزُواً وَلَعِباً أمران وذلك لأنهم عند إقامة الصلاة يقولون هذه الأعمال التي أتينا بها استهزاءً بالمسلمين وسخرية منهم فإنهم يظنون أنا على دينهم مع أنا لسنا كذلك ولما اعتقدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا إنها لعب
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزواً ولعباً بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم ولذلك قال بعض الحكماء أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
أعلم أن وجه النظم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً قال لهم ما الذين تنقمون من هذا الدين وما الذي تجدون فه مما يوجب اتخاذه هزواً ولعباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن هَلْ تَنقِمُونَ بفتح القاف والفصيح كسرها يقال نقمت الشيء ونقمته بكسر القاف وفتحها إذا أنكرته وللمفسرين عبارات هل تنقمون منا هل تعيبون هل تنكرون هل(12/29)
تكرهون قال بعضهم سمي العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل وقال آخرون الكراهة التي يتبعها سخط من الكاره تسمى نقمة لأنها تتبعها النقمة التي هي العذاب فعلى القول الأول لفظ النقمة موضوع أولاً للمكروه ثم سمي العذاب نقمة لكونه مكروهاً وعلى القول الثاني لفظ النقمة موضوع للعذاب ثم سمي المنكر والمكروه نقمة لأنه يتبعه العذاب
المسألة الثانية معنى الآية أنه يقول لأهل الكتاب لم اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ثم قال على سبيل التعجب هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله والإيمان بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإيمان بجميع الأنبياء الذين كانوا قبل محمدا يعني أن هذا ليس مما ينقم أما الإيمان بالله فهو رأس جميع الطاعات وأما الإيمان بمحمد وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء في ادعاء الرسالة والنبوّة هو المعجز ثم رأينا أن المعجز حصل على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب الإقرار بكونه رسولاً فأما الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك كلام متناقض ومذهب باطل فثبت أن الذي نحن عليه هو الدين الحق والطريق المستقيم فلم تنقموه عليناا قال ابن عباس إن نفراً من اليهود أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال أؤمن بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها
وأما قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فالقراءة العامة ءانٍ بفتح الألف وقرأ نعيم بن ميسرة ءانٍ بالكسر وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين
والجواب من وجوه الأول قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تخصيص لهم بالفسق فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم فكان المعنى وما تنقمون منا إلا أن آمنا وما فسقنا مثلكم الثاني لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك ببما ينعم ذكر في مقابله فسقهم وهو مما ينقم ومثل هذا حسن في الازدواج يقول القائل هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر وأني غني وأنت فقير فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة والثالث أن يكون الواو بمعنى ( مع ) أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أن أكثركم فاسقون فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفاً بالصفات الذميمة واكتسب الثاني شيئاً كثيراً من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسباً للصفات الذميمة أشد تأثيراً في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم والرابع أن يكون على تقدير حذف المضاف أي واعتقاد أنكم فاسقون الخامس أن يكون التقدير وما تنقمون منا إلا بأن آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا السادس يجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف كأنه قيل وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل أن أكثركم فاسقون
السؤال الثاني اليهود كلهم فساق وكفار فلم خص الأكثر بوصف الفسق
والجواب من وجهين الأول يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك فأنتم في دينكم فساق لا عدول فإن الكافر والمبتدع قد(12/30)
يكون عدل دينه وقد يكون فاسق دينه ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خصّ أكثرهم بهذا الحكم والثاني ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
فيه مسائل
المساألة الأولى قوله مّن ذالِكَ إشالرة إلى المنقم ولا بدّ من حذف المضاف وتقديره بشر من أهل ذلك لأنه قال مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ولا يقال الملعون شر من ذلك الدين بل يقال إنه شر ممن له ذلك الدين
فإن قيل فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشر ومعلوم أنه ليس كذلك
قلنا إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم فإنهم حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم هب أن الأمر كذلك ولكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك
المسألة الثانية مَثُوبَة ً نصب على التمييز ووزنها مفعلة كقولك مقولة ومجوزة وهو بمعنى المصدر وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول والميسور
فإن قيل المثوبة مختصة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة
قلنا هذا على طريقة قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقول الشاعر
تحية بينهم ضرب وجيع
المسألة الثالثة مِنْ في قوله مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ يحتمل وجهين الأول أنه في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف فإنه لما قال قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ فكأن قائلاً قال من ذلك فقيل هو من لعنه الله ونظيره قوله تعالى قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ ( الحج 72 ) كأنه قال هو النار الثاني يجوز أن يكون في موضع خفض بدلاً من ( شر ) والمعنى أنبئكم بمن لعنه الله
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر من صفاتهم أنواعاً أولها أنه تعالى لعنهم وثانيها أنه غضب عليهم وثالثها أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت قال أهل التفسير عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى وروي أيضاً أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير
المسألة الخامسة ذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أنواعاً من القرآات أحدها قرأ(12/31)
أُبي وعبدوا الطاغوت وثانيها قرأ ابن مسعود ومن عبدوا وثالثها وعابد الطاغوت عطفاً على القردة ورابعها وعابدي وخامسها وعباد وسادسها وعبد وسابعها وعبد بوزن حطم وثامنها وعبيد وتاسعها وعبد بضمتين جميع عبيد وعاشرها وعبدة بوزن كفرة والحادي عشر وعبد وأصله عبدة فحذفت التاء للإضافة أو خهو كخدم في جمع خادم والثاني عشر عبد والثالث عشر عباد والرابع عشر وأعبد والخامس عشر وعبد الطاغوت على البناء للمفعول وحذف الراجع بمعنى وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم والسادس عشر وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله تعالى كقولك أمر إذا صار أميراً والسابع عشر قرأ حمزة عبد الطاغزت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت وعابوا هذه القراءة على حمزة ولحنوه ونسبوه إلى ما لا يجوز ذكره وقال قوم إنها ليست بلحن ولا خطأ وذكروا فيها وجوهاً الأول أن العبد هو العبد إلا أنهم ضموا الباء للمبالغة كقولهم رجل حذر وفطن للبليغ في الحذر والفطنة فتأويل عبد الطاغوت أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان وهذا أحسن الوجوه الثاني أن العبد والعبد لغتان كقوللهم سبع وسبع والثالث أن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر ثم استثلقوا ضمتين متواليتين فأبدلت الأولى بالفتحة الرابع يحتمل أنه أراد أعبد الطاغوت فيكون مثل فلس وأفلس ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى العين الخامس يحتمل أنه أراد وعبدة الطاغوت كما قريء ثم حذف الهاء وضم الباء لئلا يشتبه بالفعل
المسألة السادسة قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قال الفرّاء تأويله وجعلل منهم القردة ومن عبد الطاغوت فعلى هذا الموصول محذوف
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله قالوا لأن تقدير الآية وجعل الله منهم من عبد الطاغوت وإنما يعقل معنى هذا الجعل إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة إذ لو كان جعل تلك العبادة منهم لكان الله تعالى ما جعلهم عبدة الطاغوت بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك وذلك على خلاف الآية قالت المعتزلة معناه أنه تعالى حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والكلام فيه قد تقدم مراراً
المسألة الثامنة قيل الطاغوت العجل وقيل الطاغوت الأحبار وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً أي أولئك الملعونون الممسوخون شر مكاناً من المؤمنين وفي لفظ المكان وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه والثاني أنه أضعف الشر في اللفظ إلى المكان وهو في الحقيقة لأهله وهو من باب الكناية كقولهم فلان طويل النجاد كثير الرماد ويرجع حاصله إلى الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه وتوابعه
ثم قال وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ أي عن قصد السبيل والدين الحق قال المفسرون لما نزلت هذه الآية عبر المسلمون أهل الكتاب وقالوا يا إخوان القردة والخنازير فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم(12/32)
وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قالوا نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبره الله عزّ وجلّ بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك
المسألة الثانية الباء في قوله دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ خَرَجُواْ بِهِ يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة كما تقول دخل زيد بثوبه وخرج به أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول
المسألة الثالثة ذكر عند الدخول كلمة قَدْ فقال وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وذكر عند الخروج كلمة هُمْ فقال وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ قالوا الفائدة في ذكر كلمة ( قد ) تقريب الماضي من الحال والفائدة في ذكر كلمة ( هم ) التأكيد في إضافة الكفر إليهم ونفى أن يكون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفراً د فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم وبالغ في تقرير تلك الاضافة بقوله وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ فدل هذا على أنه من العبد لا من الله
والجواب المعارضة بالعلم والداعي
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى
وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة قيل الإثم الكذب والعدوان الظلم وقيل الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة وقد تقدم الاستقصاء في(12/33)
تفسير السحت وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى قال وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك بل كان بعضهم يستحيي فيترك
الفائدة الثانية أن لفظ المسارعة إنما يستعملل في أكثر الأمر في الخير قال تعالى يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( آل عمران 114 ) وقال تعالى نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ( المؤمنون 56 ) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه
الفائدة الثالثة لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دلّ هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم ثم قال تعالى
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
معنى لَوْلاَ هاهنا التخصيص والتوبيخ وهو بمعنى هلا والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( المائدة 62 ) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقراً راسخاً متمكناً فجعل جرم العاملين ذنباً غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنباً راسخاً والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة وعن ابن عباس هي أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ
اعلم أن في الآية مسائل(12/34)
المسألة الأولى في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة وأيضاً المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بدّ وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل لأن قولنا ( الله ) اسم لموجود قديم وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة وإلا فكيف يمكنه مع اللقدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره
إذا ثبت هذا فنقول حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول عندنا فيه وجوه الأول لعلّ القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) قالوا لو احتاج إلى القرض لكان فقيراً عاجزاً فلما حكموا بأن الإل ه الذي يستقرض شيئاً من عباده فقير مغلول اليدين لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني لعلّ القوم لما رأوا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء إن إل ه محمد فقير مغلول اليد فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام الثالث قال المفسرون اليهود كانوا أكثر الناس مالاً وثروة فلما بعث الله محمداً وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ الرابع لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة وهو أنه تعالى مموجب لذاته وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد وأنهه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد الخامس قال بعضهم المراد هو قول اليهود إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه والله أعلم
المسألة الثانية غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود ومنه قوله تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) قالوا والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد وبسط البنان تره الأنامل ويقال للبخيل كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل
فإن قيل فلما كان قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ المراد منه البخل وجب أن يكون قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ المراد منه أيضاً البخل لتصح المطابقة والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك
قلنا قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجلل البخل وتارة يكون لأجل الفقر وتارة يكون لأجل العجز فكذلك قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء(12/35)
عليهم بعدم القدرة والمكنة سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال
المسألة الثالثة قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ فيه وجهان الأول أنه دعاء عليهم والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ( البقرة 10 ) وعلى أبي لهب في قوله تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) الثاني أنه إخبار قال الحسن غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة أي شدت إلى أعناقهم جزاءً لهم على هذا القول
فإن قيل فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاءً لهم على هذا القول فكان ينبغي أن يقال فغلت أيديهم
قلنا حذف العطف وإن كان مضمراً إلا أنه حذف لفائدة وهي أنه لما حذف كان قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ولم يقل فقالوا أتتخذنا هزواً وأما قوله وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار
ثم قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد قال تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وتارة بإثبات اليدين لله تعالى منها هذه الآية ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وتارة بإثبات الأيدي قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ي س 71 )
إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى فقالت المجسمة إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد واحتجوا عليه بقوله تعالى لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( الأعراف 195 ) وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إل هية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إل هاً ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضاً اسم اليد موضوع لهذا العضو فحمله على شيء آخر ترك للغة وإنه لا يجوز
واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار وكل ما كان متناهياً في المقدار فهو محدث ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء وكل ما كان كذلك كان قابلاً للتركيب والانحلال وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركّبه ويؤلفه وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسماً فيمتنع أن تكون يده عضواً جسمانياً(12/36)
وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان الأول قول من يقول القرآن لما دلّ على إثباب اليد لله تعالى آمنا به والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى وهذا هو طريقة السلف
وأما المتكلمون فقالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه أحدها الجارحة وهو معلوم وثانيها النعمة قوله لفلان عندي يد أشكره عليها وثالثها القوة قال تعالى أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ ( ص 45 ) فسروه بذوي القوى والعقول وحكى سيبويه أنهم قالوا لا يد لك بهذا والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه قال تعالى الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) أي يملك ذلك وخامسها شدة العناية والاختصاص قال تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات ويقال يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئاً
إذا عرفت هذا فنقول اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني فكلها حاصلة وههنا قول آخر وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة
فإن قيل إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة وبإثبات الأيدي أخرى وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) ( النحل 18 )
والجواب إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ كناية عن البخل فأجيبوا على وفق كلامهم فقيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل بل هو جواد على سبيل الكمال فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين الأول أنه نسبة بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها فقيل نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدينا أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن أو نعمة النفع ونعمة الدفع أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء الثاني أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة ألا ترى أن قولهم ( لبيك ) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وكذلك ( سعديك ) معناه مساعدة بعد مساعدة وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين فكذلك الآية المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة
ثم قال تعالى يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء أي يرزق ويخلق كيف يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وقال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 ) وقال يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ( الرعد 26 )(12/37)
وقال قل الّلهم مالك الملك إلى قوله قل الّلهم مالك الملك إلى قوله إلى قوله وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( آل عمران 26 )
واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة وذلك لأنهم قالوا يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع ويجب عليه أن لا يعاقبه ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه وليس لأحد عليه استحقاق ولا لأحد عليه اعتراض كما قال قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) فقوله سبحانه بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بالكثير علماء اليهود يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلواً في الانكار كما يقال ما زادتك موعظتي إلا شراً وقيل إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر
المسألة الثانية قال أصحابنا دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفراً وضلالاً فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ونظيره قوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 )
فإن قالوا علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر فلهذا حسن منه تعالى إنزالها
قلنا فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد اكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلاً وذلك تكذيب لنص القرآن
ثم قال تعالى وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ
واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة
ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين فكذلك حرمهم سعادة الدينا لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً وفي قوله وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء قولان الأول المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ( المائدة 51 ) وهو قول الحسن ومجاهد الثاني أن المراد وقوع العداوة(12/38)
بين فرق اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم موحدة وبعضهم مشبهة وكذلك بين فرق النصارى كالملكانية والنسطورية واليعقوبية
فإن قيل فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى
قلنا هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى
ثم قال تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( آل عمران 112 ) قال قتادة لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس
ثم قال تعالى وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة إلا أنهم يسعون في الأرض فساداً وذلك بأن يخدعوا ضعيفاً ويستخرجوا نوعاً من المكر والكيد على سبيل الخفية وقيل إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاٌّ دْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين أحدهما رفع العقاب والثاني إيصال الثواب أما رفع العقاب فهو المراد بقوله لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله سَيّئَاتِهِمْ وَلاْدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
فإن قيل الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيآت وإعطاء الحسنات فلم ضم إليه شرط التقوى(12/39)
قلنا المراد كونه آتياً بالإيمان لغرض التقوى والطاعة لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة بيّن في هذه الآية أيضاً أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه أحدها أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال أقام الصلاة إذا قام بحقوقها ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها أنه أقامها وثالثها أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن
وأما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ففيه قولان الأول أنه القرآن والثاني أنه كتب سائر الأنبياء مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق وكتاب دانيال فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام
وأما قوله تعالى لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة وبلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ فالله تعالى بيّن أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة وفي قوله لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم وجوه الأول أن المراد منه المبالفة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا والمعنى لأكلوا أكلاً متصلاً كثيراً وهو كما تقول فلان في الخير من فرقه إلى قدمه تريد تكاثف الخير وكثرته عنده الثاني أن الأكل من فوق نزول القطر ومن تحت الأرجل حصول النبات كما قال تعالى في سورة الأعراف وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الأعراف 96 ) الثالث الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة ومن تحت الأرجل الزروع المغلة والرابع المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم والخامس يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم
ثم قال تعالى مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير وأصله القصد وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيراً تارة يذهب يميناً وأخرى يساراً فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان أحدهما أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام من اليهود والنجاشي من النصارى فهم على القصد من دينهم وعلى المنهج المستقيم منه ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط والثاني المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولاً في دينهم ولا يكون فيهم عناد(12/40)
شديد ولا غلظة كاملة كما قال وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ ( آل عمران 75 )
ثم قال تعالى وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ وفيه معنى التعجب كأنه قيل وكثير منهم ما أسوأ عملهم والمراد منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا ينجع فيهم القول
يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
قوله تعالى يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال بَلَغَ أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية ) وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أي لا تراقبن أحداً ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع رسالاته في هذه الآية وفي الأنعام حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) على الجمع وفي الأعراف النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأتراف 144 ) على الواحد وقرأ حفص عن عاصم على الضد ففي المائدة والأنعام على الواحد وفي الأعراف على الجمع وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع
حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فهي رسالة فحسن لفظ الجمع وأما من أفرد فقال القرآن كله رسالة واحدة وأيضاً فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 14 ) فوقع الاسم الواحد على الجمع وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قوله وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فأي فائدة في هذا الكلام
أجاب جمهور المفسرين بأن المراد أنك ءن لم تلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها وهذا الجواب عندي ضعيف لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع فسقط هذا الجواب(12/41)
والأصح عندي أن يقال إن هذا خرج على قانون قوله
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه فكذا ههنا فإن لم تبلغ تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود الثاني نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنيبي سكت عنهم فنزلت هذه الآية الثالث لما نزلت آية التخيير وهو قوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدينا فنزلت الرابع نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ( الأحزاب 37 ) الخامس نزلت في الجهاد فإن المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً عن حثهم على الجهاد السادس لما نزل قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال بَلَغَ يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم والله يعصمك منهم السابع نزلت في حقوق المسلمين وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك ( هل بلغت ) قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام ( الّلهم فاشهد ) الثامن روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال يا محمد من يمنعك مني فقال ( الله ) فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس التاسع كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية العاشر نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال ( من كنت مولاه فعلي مولاه الّلهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فلقيه عمر رضي الله عنه فقال هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي
واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها
المسألة الرابعة في قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سؤال وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته
والجواب من وجيهن أحدهما أن المراد بعصمه من القتل وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن(12/42)
يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلاما وثانيها أنها نزلت بعد يوم أحد
وأعلم أن المراد من النَّاسِ ههنا الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون وعن أنس رضي الله عنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة أدم وقال ( انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس )
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وأعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جداً فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ من اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب كما تقول هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه
وقوله حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً
وهذا مذكور فيما قبل والتكرير للتأكيد
ثم قال تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وفيه وجهان الأول لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين الثاني لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من الله تعالى قال بلى قالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها فنزلت هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وبقي ههنا مسائل(12/43)
المسألة الأولى ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال والصائبين وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه الأول وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء علي نية التأخير كأنه قيل إن الذين رمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصائبون كذلك فحذف خبره والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصائبين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً فكأنه قيل كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم حتى الصائبون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك
الوجه الثاني وهو قول الفراء أن كلمة ءانٍ ضعيفة في العمل ههنا وبيانه من وحوه الأول أن كلمة ءانٍ إنما تعمل كلونها مشابهة للفعل ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة الثاني أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في اللاسم فقط أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير وهذا مذهب الكوفيين وقد بيناه بلادليل في سورة البقرة في تفسير قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ ( البقرة 6 ) الثالث أنها ءنما يظهر أثرها في بعض الأسماء أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها والأمر ههنا كذلك لأن الاسم ههنا هو قوله الَّذِينَ وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا كان اسم ءانٍ بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف والرفع على إسقاط عمله فلا يجوز أن يقال إن زيداً وعمرو قائمان لأن زيداً ظهر فيه أثر الإعراب لكن إنما يجوز أن يقال إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا وإن هذا نفسه شجاع وإن قطام وهند عندنا والسبب في جواز ذلك أن كلمة ءانٍ كانت في الأصل ضعيفة العمل وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه وهو كونه مبتدأ فهذا تقرير قول الفراء وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين لأن الذي قالواه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح وإنما تحصل الصحة عند تفكيل هذا النظم وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه فكان ذلك أولى
المسألة الثانية قال بعض النحويين لا شك أن كلمة ( إن ) من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله وكونه مبتدأ يقتضي الرفع
إذا ثبت هذا فنقول المعطوف على اسم ( إن ) يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثً عنه ومخبراً عنه
طعن صاحب ( الكشاف ) فيه وقال إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل ( إن واسمها ) بعد ذكر الخبر وتقول إن زيداً منطلق وعمراً وعمرون بالنصب على اللفظ والرفع على موضع ( إن ) واسمها لأن الخبر قد تقدم وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز لأنا لو رفعناه على محل ( إن واسمها ) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معاً وحينئذٍ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعاً بحرف ( إن ) وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع(12/44)
الواحد رافعان مختلفان وأنه محال
وأعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذه الأشياء التي تسميها االنحويون رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها فإن هذا لا يقوله عاقل بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى
والوجه الثاني في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة ( أن ) مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة
والوجه الثالث وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبراً عنها لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة
وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحداً إلا أنه في التقدير متعدد وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعاً بالحرف والبعض بالابتداء وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبراً وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء
وإذا ثبت هذا فنقول إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسماً على حكم صريح العقل أنه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بين أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وذلك لأن الإنسان له قوتان القوة النظرية والقوة العملية أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم لآخر وأفضل الخيرات في الأعمال أمران المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) ثم بيّن تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل والحزن بالماضي فقال لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا(12/45)
فإن قيل كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوماً عن أهوال القيامة
والجواب من وجيهن الأول أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي والثاني أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به
المسألة الرابعة قالت المعتزلة أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة
والجواب أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة فكان الخوف والحزن حاصلاً قبل إظهار العفو
المسألة الخامسة أنه تعالى قال في أول الآية إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثم قال في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وفي هذا التكرير فائدتان الأولى أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن
الفائدة الثانية أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان والإيمان يدخل تحته أقسام وأشرفها الإيمان بالله واليوم لآخر فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان وقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وكلها صالحة لهذا الموضع
المسألة السادسة لراجع إلى اسم ءانٍ محذوف والتقدير من آمن منهم إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً والله أعلم
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
أعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله وهو متعلق بما افتتح الله به السورة وهو قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فقال لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وأرسلنا إليهم رسلاً بتعريف الشرائع والأحكام وقوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ(12/46)
جملة شرطية وقعت صفة لقوله رُسُلاً والراجع محذوف والتقدير كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف
وههنا سؤالات
الأول أي جواب الشرط فإن قوله فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لا يصلح أن يكون جواباً لهذا الشرط لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين
والجواب أن جواب الشرط محذوف وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه والتقدير كلما جاءهم رسول ناصبوه ثم ءنه قيل فكيف ناصبوه فقيل فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وقوله الرسول الواحد لا يكون فريقين فنقول إن قوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ يدل على كثرة الرسل فلا جرم جعلهم فريقين
السؤال الثاني لم ذكر أحد الفعلين ماضياً والآخر مضارعاً
والجواب أنه تعالى بيّن أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام وكانوا قد قصدوا أيضاً قتل عيسى وءن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريباً فكان كالحاضر
السؤال الثالث ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
والجواب قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح فكان التقديم لهذه الفائدة
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَنَّ فِتْنَة ً في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ برفع نون ( تكون ) والباقون بالنصب وذكر الواحدي لهذا تقريراً حسناً فقال الأفعال على ثلاثة أضرب فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره(12/47)
نحو العلم والتيقن والتبين فما كان مثل هذا يقع بعده ( أن ) الثقيلة ولم يقع بعده ( أن ) الخفيفة الناصبة للفعل وذلك لأن النثقيلة تدل على ثبات الشيء واستقراره فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و ( إن ) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة ومثاله من القرآن قوله تعالى وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( النور 25 ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ لِلَّهِ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( التوبة 104 ) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) والباء زائدة
والضرب الثاني فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو أطمع وأخاف وأرجو فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل قال تعالى وَالَّذِينَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ( الأنفال 26 ) فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ( الكهف 80 )
والضرب الثالث فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو حسب وأخواتها فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتاً ومستقراً وتارة بمعنى العلم فيما يكو مستقراً
إذا عرفت هذا فنقول يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية وإذا كان اللفظ محتملاً لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين فمن رفع قوله أَن لا تَكُونُ كان المعنى أنه لا تكون ثم خففت المشددة وجعلت ( لا ) عوضاً من حدف الضمير فلو قلت علمت أن يقول بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضاً من حذف الضمير نحو السين وسوف وقد كقوله عِلْمٌ إِنَّ ( المزمل 20 ) ووجه النصب ظاهر
ثم قال الواحدي وكلا الوجهين قد جاء به القرآن فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ( العنكبوت 4 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ ( الجاثية 21 ) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ ( العنكبوت 1 2 ) ومثل قراءة من رفع أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم ( الزخرف 80 ) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ ( المؤمنون 55 ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ ( القيامة 3 ) فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها ( لن ) ومثل المذهبين في الظن قوله تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ ( القيامة 25 ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا ( البقرة 230 ) ومن الرفع قوله وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ ( الجن 5 ) وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( الجن 7 ) فأن ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ( المزمل 20 ) لأن ( أن ) الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن لأن ( لن ) تفيد التأكيد و ( أن ) الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه
المسألة الثانية أن باب حسب من الأفعال التي لا بدّ لها من مفعولين إلا أن قوله أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ جملة قامت مقام مفعولي حسب لأن معناه وحسبوا الفتنة غير نامزلة بهم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في ( الفتنة ) وجوهاً وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ثم عذاب الدنيا أقسام منها القحط ومنه الوباء ومنها القتل ومنها العداوة ومنها البغضاء فيما بينهم ومنها الادبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه(12/48)
وأعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين الأول أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله والثاني أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولن نحن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يعتقدون أن نبوّة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب
ثم قال تعالى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين
واختلف المفسرون في المراد بهاتين على وجوه الأول المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان ممحمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكرلوا نبوّته ورسالته وإنما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن جمعاً منهم آمنوا به مثل عبد الله بن سلام وأصحابه الثاني عموا وصموا حين عبدوا العجل ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة ونزول الملائكة الثالث قال القفال رحمه الله تعالى ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( الإسراء 4 6 ) فهذا في معنى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثم قال فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ( الإسراء 7 ) فهذا في معنى قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ الرابع أن قوله فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب الله عليهم ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى
المسألة الثانية قريء وَصَمُّواْ ثُمَّ بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم الله أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك وهو رمح قصير وركبته إذا ضربته بركبتك
المسألة الثالثة في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وجوه الأول على مذهب من يقول من العرب ( أكلوني البراغيث ) والثاني أن يكون كَثِيرٌ مّنْهُمْ بدلاً عن الضمير في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ والإبدال كثير في القرآن قال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) وقال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن لأنه لو قال عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك فلما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل الثالث أن قوله كَثِيرٌ مّنْهُمْ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم كثير منهم
المسألة الرابعة لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر فنقول إن فاعل هذا الجهل(12/49)
هو الله تعالى أو العبد والأول يبطل قوله المعتزلة والثاني باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه
فإن قالوا إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم
قلنا حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بدّ من انتهائها إلى الجهل الأول ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والمقصود منه التهديد
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
قوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ
اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع هاهنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون إن مريم ولدت إل هاً ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى ثم حكلى تعالى عن المسيح أنه قال وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه
ثم قال تعالى إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ومعناه ظاهر واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلداً قالوا وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن الله حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم قال تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ثَلَاثَة ً كسرت بالإضافة ولا يجوز نصبها لأن معناه واحد ثلاثة أما إذا قلت رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم(12/50)
المسألة الثانية في تفسير قول النصارى ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ طريقان الأول قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) فقوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم قال الواحدي ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم لقوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 )
والطريق الثاني أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إل ه واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن وزعموا أن الأب إل هة والابن إل ه والروح إل ه والكل إل ه واحد
واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى
ثم قال تعالى وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ في مِنْ قولان أحدهما أنها صلة زائدة والتقدير وما إل ه إلا إل ه واحد والثاني أنها تفيد معنى الاستغراق والتقدير وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال الزجاج معناه ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية ثم قال تعالى
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الفرّاء هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) في آية تحريم الخمر
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة ٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ثم قال تعالى مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسلل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى وإن كان(12/51)
خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ وفي فسير ذلك وجوه أحدها أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها قال تعالى في صفتها وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ ( التحريم 12 ) وثانيها أنه تعالى قال فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 ) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة وثالثها أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقاً قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
ثم قال تعالى كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ
واعلم أن المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى وبيانه من وجوه الأول أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إل هاً والثاني أنهما كانا محتاجين لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة والإل ه هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث قال بعضهم إن قوله كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بدّ وأن يحدث وهذا عندي ضعيف من وجوه الأول أنه ليس كل من أكل أحدث فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون الثاني أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإل ه فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر الثالث أن الإل ه هو القادر على الخلق والايجاد فلو كان إل هاً لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إل هاً للعالمين وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل
ثم قال تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاْيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يقال أفكه يأفكه إفكاً إذا صرفه والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر ومعنى قوله أَنَّى يُؤْفَكُونَ أنى يصرفون عن الحق قال أصحابنا الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك ثم قال تعالى
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وهذاا دليل آخر على فساد قول النصارى وهو يحتمل أنواعاً من الحجة أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء فما قدر على الاضرار بهم وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إل هاً الثاني أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث أن إل ه العالم يجب أن يكون غنياً عن كل ما سواه ويكون كل ما سواه محتاجاً إليه فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى لأن الإل ه لا يعبد شيئاً إنما العبد هو الذي يبعد الإل ه ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار(12/52)
عنهم وإذا كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم علليه السلام حيث قال لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ والغلو نقيض التقصير ومعناه الخروج عن الحد وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط ودين الله بين الغلو والتقصير وقوله غَيْرَ الْحَقّ صفة المصدر أي لا تغلوا في دينكم غلواً غير الحق أي غلواً باطلاً لأن الغلو في الدين نوعان غلو حق وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا وإلى أنه كذاب والنصارى ادعوا فيه الإل هية
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة قال الشعبي ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ص 26 ) وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ( طه 16 ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) قال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه وقال بعضهم الهوى إل ه يعبد من دون الله وقيل سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار وأنشد في ذم الهوى
إن الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال ابن عباس كل هوى ضلالة
المسألة الثانية أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة نعوذُ بالله منها ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة
واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى(12/53)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودُ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
قال أكثر المفسرين يعني أصحاب السبت وأصحاب المائدة أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود وهم أهل ( ايلة ) لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة الأعراد قال داود اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي قال بعض العلماء إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء وقيلل أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
ثم أنه تعالى فسّر المعصية والاعتداء بقوله
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ وللتناهي هاهنا معنيان أحدهما وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً روى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم )
والمعنى الثاني في التناهي أنه بمعنى الانتهاء يقال انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ اللام في لَبِئْسَ لام القسم كأنه قال أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن قيل الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولاً غير ممكن فلم ذمهم عليه(12/54)
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته الثالث لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه
تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
ثم قال تعالى تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرنا في قوله تعاللى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَّالِ قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة
وقوله تعالى أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ محل ءانٍ رفع تقول بئس رجلا زيد ورفعه كرفع زيد وفي زيد وجهان الأول أن يكون مبتدأ ويكون ( بئس ) وما عملت فيه خبره والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قال بئس رجلا قتل ما هو فقال زيد أي هو زيد
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ والمعنى لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى عليه السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ وفيه وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
قوله تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والصنارى ما كذره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين ولعمري أنهم كذلك وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم(12/55)
وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم
وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام القسم والتقدير قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم
ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وفي الآية مسألتان
الأولى علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصن بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( البقرة 96 ) فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد والحرص معدن الأخرلاق الذميمة لأن من كان حريصاً على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالاً أو جاهاً وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب وهو المراد بقوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
وههنا دقيقة نافعة في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوّات واليهود لا ينازعون إلا في النبوات ولا شك في أن الأول أغلظ ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرّفهم الله بقوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا وذلك ينبهك على صحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حب الدنيا رأس كل خطيئة )
المسألة الثانية القس والقسيس اسم لرئيس النصارى والجمع القسيسون وقال عروة بن الزبير صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه م ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين وكان سمه قسيساً فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس قال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب وفرسان وفارس وقال بعضهم لرهبان واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين وأصله من الرهبة بمعنى المخافة(12/56)
فإن قيل كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا ( الحديد 27 ) وقوله عليه لصلاة والسلام ( لا رهبانية في الإسلام )
قلنا إن ذلك صار ممدوحاً في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحاً على الإطلاق
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
ثم قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضمير في قوله سَمِعُواْ يرجع إلى القسيسين والرهبان الذين آمنوا منهم وَمَا أَنَزلَ يعني القرآن إلى الرسول يعني محمداً عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس يريد النجاشي وأصحابه وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذا وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من لقراءة وأما قوله تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ففيه وجهان الأول المراد أن أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه الثاني أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها
وأما قوله تعالى مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ أي مما نزل على محمد وهو الحق
فإن قيل أي فرق بين ( من ) وبين ( من ) في قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ
قلنا الأولى لابتداء الغاية والتقدير أن فيض الدمع إنما ابتدىء من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه والثانية للتبغيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق وهو القرآن فأبكاهم الله فكيف لو عرفوا كله
وأما قوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا أي بما سمعنا وشهدنا أنه حق فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وفيه وجهان الأول يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون بالحق وهو مأخوذ من قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) والثاني أي مع كل من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك وأما قوله تعالى
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ(12/57)
ففيه مسألتان
الأولى قال صاحب ( الكشاف ) محل لاَ نُؤْمِنُ النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين كقولك قائماً والواو في قوله وَنَطْمَعُ واو الحال
فإن قيل فما العامل في الحال الأولى والثانية
قلنا العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلته وقلت وما لنا نطمع لم يكن كلاماً ويجوز أن يكون وَنَطْمَعُ حالاً من لاَ نُؤْمِنُ على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين وأن يكون معطوفاً على قوله لاَ نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين
المسألة الثانية تقدير الآية ويدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنته ودار رضوانه قال تعالى لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ( الحج 59 ) إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً ثم قال تعالى
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
وفي مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب
وأجابوا عنه من وجهين الأول أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة وذلك هو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان الثاني روى عطء عن ابن عباس أنه قال قوله بِمَا قَالُواْ يريد بما سألوا يعني قولهم فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( المائدة 83 )
المسألة الثانية الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلداً في النار وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وهذا الإحسان لا بدّ وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومن الاقرار به وهو قوله فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وإذ كان كذلك فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار فوجب أن يحصل له هذا الثواب فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع أو يقال يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب
الثاني هو أنه تعالى قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فقوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق(12/58)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
أعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها
النوع الأول ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال الْجَحِيمِ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب وفي الآية قولان الأول روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقالوا لهم ( إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك
فإن قيل ما الحكمة في هذا النهي فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل وحينئذٍ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية
والجواب عنه من وجوه الأول أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل ولا شك أن أكمل السعادت وأعظم القربات إنما هو معرفة الله تعالى فإذا كانت الرهبانية الشديد(12/59)
مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها والثاني وهو أن حاصل ما كذرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال لحسية مانعاً لها من الاستكمال بالسعادات العقلية فإنا نشاهد النفوس قد تكنن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلاً على نوع من الضعف والقصور وإنما الكمال في الوفاء بلجهتين والاستكمال في الناس الثالث وهو أن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن ريضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية فكان الكمال في هذا أتم الربع وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة فكانت هذه الحالة أكمل فهذا جملة الكلام في هذا الوجه
القول الثاني في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال وهو أنه تعالى قال في أول السورة أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فبيّن أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقد حكى الله تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ ( المائدة 1 )
المسألة الثانية قوله لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم وثانيها لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم وثالثها لا تجتنبوا عنها اجتناباً شبيه لاجتناب من المحرمات فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ورابعها لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ونظير هذه الآية قوله تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وسادسها أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يمكنه التمييز وحينئذٍ يحرم الكل فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالاً له وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر والآية محتملة لكل هذه الوجوه ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) فيه وجوه الأول أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها والثاني أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى وَلاَ تَعْتَدُواْ ونظيره قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ ( الأعراف 31 ) الثالث يعني لما أحل لكم الطيبت فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم
ثم قال تعالى
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ(12/60)
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ صيغة أمر وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع وقالوا ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص
المسألة الثانية قوله حَلَالاً طَيّباً يحتمل أن يكون متعلقاً بالأكل وأن يكون متعلقاً بالمأكول فعلى الأول يكون التقدير كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله وعلى التقدير الثاني كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً طيباً أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل ما كان رزقاً كان حلالاً وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراماً لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالاً طيباً ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالاً وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة
المسألة الثالثة لم يقل تعالى كلوا ما رزقكم لكن قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ لِلَّهِ وكلمة ( من ) للتبعيض فكأنه قال اقتصروا في الأكل على البعض وأصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأنعام 141 ) ( الأعراف 31 )
المسألة الرابعة وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وإذا تكفل الله برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد الله تعالى وإحسانه فإنه أكرم من أن يخلف الوعد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) أما قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ فهو تأكيد للتوصية بما أمر به زاده توكيداً بقوله تعالى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاٌّ يْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
النوع الثاني من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ
قد ذكرنا أنه تعالى بيّن في هذا الموضع أنواعاً من الشرائع والأحكام بقي أن يقال أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه فنقول قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوماً من الصحابة حرّموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية(12/61)
واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) فلا وجه للاعادة
ثم قال تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتشديد القاف بغير ألف وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتخفيف القاف بغير ألف وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف قال الواحدي يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقداً إذا وكده وأحكمه ومثل ذلك أيضاً عقد بالتشديد إذا وكد ومثله أيضاً عاقد بالألف
إذا عرفت هذا فنقول أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير يقال عقد زيد يمينه وعقدوا أيمانهم وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر
وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين الأول أن بعضهم قال عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى الثاني هب أنها تفيد التكرير كما في قوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ ( يوسف 23 ) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقداً وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف
المسألة الثانية ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر والتقدير ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة
ثم قال تعالى فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ(12/62)
واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعاً ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير ومن الفقهاء من قال الواحد لا بعينه وهذا الكلام يحتمل وجهين الأول أن يقال الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحداً من هذه الثلاثة لا بعينه وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معيناً في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف الثاني أن يقال الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى إلا أنه مجهول العين عند الفاعل وذلك أيضاً محال لأن كون ذلك الشيء واجباً بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد وهو ثلثا من وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة وصاع من غير الحنطة
حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطاً في العرف أو ما كان متوسطاً في الشرع فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقاً أو جعل خبزاً فإنه يصير قريباً من المن وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهراً وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار فقال الرجل ما أجد فأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطعم هذا وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مد ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان قدرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي فأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله مد معه إدامه والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب
أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جداً يكفيه الرغيف الواحد وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالباً كالسكر ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب(12/63)
والخبز ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة ولما كان اللفظ محتملاً لكل واحد من الأمرين فنقول يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجيهين الأول أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام الثاني أن هذا القدر واجب بيقين والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الواجب تمليك الطعام وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز
حجة الشافعي أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة إما الاطعام أو الكسوة أو الاعتاق ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك
حجة أبي حنيفة أن الآية دلّت على أن الواجب هو الاطعام والعغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 8 ) وقال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك ويقال في العرف فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافياً
أجاب الشافعي رضي الله عنه أن الواجب إما المد أو الأزيد والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز
حجة الشافعي رحمه الله أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص
المسألة الخامسة الكسوة في اللغة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله
المسألة السادسة المراد بالرقبة الجملة وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة ثم جرى ذلك على العتق ومذهب أهل الظاهر أن جميت الرقبات تجزيه وقال الشافعي رحمه الله الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن تكون مؤمنة ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات ولا إعتاق المكاتب ولا شرء القريب وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار
المسألة السابعة لقائل أن يقول أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة
قلنا له وجوه أحدها أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ وثانيها قدم الاطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم(12/64)
وجوداً والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف وثالثها أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادماً
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوماً وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجباً فوجب أن تبقى الآية معمولاً بها في غير هذه الصورة
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة
وقال أبو حنيفة يجب التتابع
حجة الشافعي أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام فوجب أن يخرج عن العهدة
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي في قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود فصوم ثلاثة أيام متتابعات وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما
والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآناً لنقلت نقلاً متواتراً إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة فلا تصلح لأن تكون حجة وأيضاً نقل في قراءة أُبي بن كعب أنه قرأ ( فعدة من أيام أُخر متتابعات ) مع أن التتابع هناك ما كان شرطاً وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك قال بلى قال فالله أحق أن يعفو وأن يصفح )
قلنا فهذا الحديث وإن وقع جواباً عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام وتعليله عام في جميع الصيامات وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق ههنا أيضاً
المسألة الثالثة من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه وقد أتى بها فوجب أن يخرج عن العهدة(12/65)
ثم قال تعالى ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وخنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوماً كما قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر
احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال الآية دلّت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة قال وقوله إِذَا حَلَفْتُمْ فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز
ثم قال تعالى وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ وفيه وجهان الأول المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها قال كثير قليل الألا يا حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الألية برت
فدل قوله ( وإن سبقت منه الألية ) على أن قوله ( حافظ ليمينه ) وصف منه له بأنه لا يحلف الثاني واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التفكير واللفظ محتمل للوجهين إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصاً بقوله عليه السلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه )
ثم قال تعالى كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمعنى ظاهر والكلام في لفظ لعلّ تقدم مراراً
يَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّ نصَابُ وَالاٌّ زْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع ووجه اتصاله بما قبله أنه تعالى قال فيما تقدم لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيّباً ( المائدة 87 88 ) ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر لا جرم أنه تعالى بيّن أنهما غير داخلين في المحللات بل في المحرمات
واعلم أنا قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله رِجْسٌ والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل يقال رجس الرجل رجساً ورجس إذا عمل عملاً قبيحاً وأصله من الرجس بفتح الراء(12/66)
وهو شدة الصوت يقال سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح
الوصف الثاني قوله مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وهذا أيضاً مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ( النور 26 ) وأيضاً كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه قال تعالى فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال فَاجْتَنِبُوهُ أي كونوا جانباً منه والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان الأول أنها عائدة إلى الرجس والرجس واقع على الأربعة المذكورة فكان الأمر بالاجتناب متناولاً للكل الثاني أنها عائدة إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة فالأول ما يتعلق بالدنيا وهو قوله
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولاً في الخمر ثم في الميسر
أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الأجحاف بأرباب الأموال لأن من صار مغلوباً في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالباً فيه وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيراً مسكيناً ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن وكل ذلك مضاد لمصالح العالم(12/67)
فإن قيل لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية
قلنا لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيداً لقبح الخمر والميسر لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر
أما النوع الثاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر المفاسد المتعلقة بالدين وهو قوله تعالى وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فنقول أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر الله فظاهر لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك لأنه إن كان غالباً صار استغراقه في لذة الغلبة مانعاً من أن يخطر بباله شيء سواه ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة
فإن قيل الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلاً وهذا يقدح في صحة هذا التعليل
قلنا هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة
ولما بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين
قال تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ روي أنه لما نزل قوله تعالى حَدِيثاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فلما نزلت هذه الآية قال عمر انتهينا يا رب
واعلم أن هذا وإن كان استفهاماً في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك فكأنه قيل له أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ جارياً مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقروناً بإقرار الملكف بوجوب الانتهاء
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه أحدها تصدير الجملة بإنما وذلك لأن هذه الكلمة للحصر فكأنه تعالى قال للا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وثالثها أنه تعالى أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب ورابعها أنه قال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة وخامسها أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الاعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وسادسها قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ وسابعها أنه تعالى قال بعد ذلك(12/68)
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فظاهره أن المراد وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر وقوله وَاحْذَرُواْ أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف وثامنها قوله
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله وبيانه يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى ولا شك أنه تهديد شديد فصار كل واحد من هذه الوجوه الصمانية دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً في تحريم الخمر
واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ ( المائدة 91 ) قال بعده فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ هي كون الخمر مؤثراً في الاسكار وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصراً على قوله فليس لعناده علاج والله أعلم
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم فنزلت هذه الآية والمعنى لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك كما قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( آل عمران 195 )(12/69)
المسألة الثانية الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات كما قال تعالى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ أي شربوا الخمر ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب وقد تقول العرب تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعاً إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معاً
المسألة الثالثة زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بيّن في الخمر أنها محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والاحسان إلى الخلق قالوا ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان المراد ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) ولكنه لم يقل ذلك بل قال لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ إلى قوله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي
واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي
قجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرّم الخمر وهم يطعمونها فأنزل الله هذه الآيات وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص
المسألة الرابعة أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه الأول عمل الاتقاء والثاني دوام الاتقاء والثبات عليه والثالث اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه
القول الثاني أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية الثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم القول الثالث اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر القول الرابع ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى اللثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق
والقول الخامس أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى فإن قيل لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئاً من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز(12/70)
قلنا ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان ومثاله أن يقال لك هل على زيد فيما فعل جناح وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً تريد أن زيداً إن بقي مؤمناً محسناً فإنه غير مؤاخذ بما فعل
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطاً في نفي الجناح بيَّن أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط بل وفي أن يحبه الله ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله تعالى الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام ووجه النظم أنه تعالى كما قال لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 87 ) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحلالات وبين دخوله في المحرمات
وهاهنا مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ لام القسم لأن اللام والنون قد يكونان جواباً للقسم وإذا ترك القسم جيء بهما دليلاً على القسم
المسألة الثانية الواو في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ مفتوحة لالتقاء الساكنين
المسألة الثالثة ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من ممعصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر
المسألة الرابعة قال مقاتل بن حيّان ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاءً قال الواحدي الذي تناله الأيدي من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش والذي تناله الرماح الكبار وقال بلعضهم هذا غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع
المسألة الخامسة معنى التقليل والتصغير في قوله بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي كون التكليف فيها صعباً شاقاً كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال وإنما هو ابتلاء سهل فإن الله تعالى امتحن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بصيد البركما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر وهو صيد السمك(12/71)
المسألة السادسة من في قوله مّنَ الصَّيْدِ للتبعيض من وجهين أحدهما المراد صيد البر دون البحر والثاني صيد الاحرام دون صيد الاحلال وقال الزجاج يحتمل أن تكون للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
المسألة السابعة أراد بالصيد المفعول بدليل قوله تعالى تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثاً وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا
ثم قال تعالى لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب
المسألة الثانية قوله بِالْغَيْبِ فيه وجهان الأول من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) الثاني من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
المسألة الثالثة الباء في قوله بِالْغَيْبِ في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته ومثل هذا قوله مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ( ق 33 ) وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ( الأنبياء 49 ) وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه قال القفال وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذاباً فقال وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ ( النور 2 ) وقال فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) وقال حاكياً عن سليمان في الهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 )
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قوله تعالى أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد قولان الأول أنه الذي توحش سواء كان مأكولاً أو لم يكن فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال(12/72)
زفر يجب بالغاً ما بلغ
والقول الثاني أن الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع وهو قول الشافعي رحمه الله وسلم أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه الله القرآن والخبر أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد فوجب أن لا يضمن إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية وحل صيد البر خارج وقت الاحرام فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله فوجب أن لا يكون صيداً وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضموناً لأن الأصل عدم الضمان تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور ) وفي رواية أخرى والسبح الضاري والاستدلال به من وجوه أحدها أن قوله والسبع الضاري نص في المسألة وثانيها أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالاً بذلك الوصف وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا ( قتلها وثالثها أن الشارع خصها بإباحة القتل وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء وصفة الايذاء في السباع أتم فوجب القول بجواز قتلها وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول
حجة أبي حنيفة رحمه الله أن السبع صيد فيدخل تحت قوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر
ليث تربى ربية فاصطيدا
ولقول علي عليه السلام فصيد الملوك أرانب وثعالب
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
والجواب قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد وذلك لا يعارضه شعر مجهول وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد لأن عندنا الثعلب حلال
المسألة الثانية حرم جمع حرام وفيه ثلاثة أقوال الأول قيل حرم أي محرمون بالحج وقيل وقد دخلتم الحرم وقيل هما مرادان بالآية وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف
اللمسألة الثالثة قوله لاَ تَقْتُلُواْ يفيد المنع من القتل ابتداء والمنع منه تسبباً فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرماً لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم وإذا قلنا وَأَنتُمْ حُرُمٌ يتناول الأمرين أعني من كان محرماً ومن كان داخلاً في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام(12/73)
ثم قال تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله فَجَزَاء قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى مِنَ النَّعَمِ يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل وأما سائر القراء فهم قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والتقدير ليس هو كشيء وقال أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 122 ) والتقدير كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة
المسألة الثانية قال سعيد بن جبير المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً مذكور في معرض الشرط وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله وَمَنْ عَادَ المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) ولما كان ذلك حرامالً بالاحرام صار فعله محظوراً بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمداً فكذا هاهنا وأيضاً يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم وقول الصحابة في الظبي شاة وليس فيه ذكر العمد
أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول إلا أنهم اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن الصيد ضربان منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فما له مثل يضمن بمثله من النعم وما لا مثل له يضمن بالقيمة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل الواجب هو القيمة
وحجة الشافعي القرآن والخبر والإجماع والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ والاستدلال به من وجوه أربعة الأول أن جماعة من القراء قرؤا فَجَزَاء بالتنوين ومعناه فجزاء من النعم مماثل لما قتل فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص وثانيها أن قوماً آخرين قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ بالإضافة والتقدير فجزاء ما قتل من النعم أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم فمن لم يوجبه فقد خالف النص ثالثها قراءة ابن مسعود فَجَزَاؤُهُ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وذلك صريح فيما قلناه ورابعها أن قوله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم يجب أن يكون هدياً بالغ الكعبة(12/74)
فإن قيل إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى
قلنا النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هدياً وأنتم تقولون الواجب هو القيمة ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هدياً يهدي إلى الكعبة وإن شاء لم يفعل فكان ذلك على خلاف النص وأما الخبر فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الضبع أصيد هو فقال نعم وفيه كبش إذا أخذه المحرم وهذا نص صريح وأما الاجماع فهو أن الشافعي رحمه الله قال تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وفي حمار الوحش ببقرة وفي الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الظبي بشاة وفي الأرنب بجفرة وفي رواية بعناق وفي الضب بسخلة وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى حجة ابي حنيفة رحمه الله تعالى لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد
والجواب أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة
المسألة الرابعة جماعة محرمون قتلوا صيداً قال الشافعي رحمه الله لا يجب عليهم إلا جزاء وحداً وهو قول أحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم الله يجب على كل واحد منهم جزاء واحد حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على وجوب المثل ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمثل قولنا حجة أبي حنيفة رحمه الله أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كل واحد منهم كفارة وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحداً وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فقوله وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً صيغة عموم فيتناول كل القاتلين أجاب الشافعي رحمه الله بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من قاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلاً في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذ القول في إيجاب الكفارات المتعددة
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله المدلول عليه لم(12/75)
يضمن الدال الجزاء وقال أبو حنيفة رحمه الله يضمن حجة الشفعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية وكالدلالة على مال المسلم حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عمر عن هذه المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال أجاب الشافعي رحمه الله بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إن جرح ظبياً فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة وقال داود لا يضمن ألبتة سوى القتل وقال المزني عليه شاة حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل فإذا لم يوجد القتل وجب أن لا يجب الجزاء ألبتة وجوابه أن المعلق على القتل وجوب مثل المقتول وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله
المسألة السابعة إذا رمى من الحل والصيد في الحل فمر في السهم طائفة من الحرم قال الشافعي رحمه الله يحرم وعليه والجزاء وقال أبو حنيفة لا يحرم حجة الشافعي أن سبب الذبح مركب من أجزاء بعضها مباح وبعضها محرم وهو المرور في الحرم وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة
المسألة الثامنة الحلال إذا اصطاد صيداً وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقا الشافعي رحمه الله وقال اشفعي رحمه الله يحل وليس عليه ضمان حجة الشافعي قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى عن قتل الصيد حال كونه محرماً وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل والذي اصطاده في الحرم
المسألة التاسعة إذا قتل المحرم صيداً وأدى جزاءه ثم قتل صيداً آخر لزمة جزاء آخر وقال داود لا يجب حجة الجمهور أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة
فإن قيل إذا قال الرجل لنسائه من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد
قلنا الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة أما ههنا دخول الدار شرط لوقوع الطلاق فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط حجة داود قوله تعالى وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة
المسألة العاشرة قال الشافعي رحمه الله إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب إليّ وعلى هذا الكبير أولى من الصغير ويفدى الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى والأولى أن(12/76)
لا بغير لأن نص القرآن إيجاب المثل والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن
ثم قال تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه الله في إيجاب القيمة فقال التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد وأما الخلقة والصورة فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد
وجوابه أن وجوه المشهابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي بن كعب فقال الأعرابي أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك فقال أبو بكر رضي الله عنه وما أنكرت من ذلك قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به وعن قبيضة بن جابر أنه حين كان محرماً ضرب ظبياً فمات فسأل عمر بن الخطاب رضي لله عنه وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن ما ترى قال عليه شاة قال وأنا أرى ذلك فقال إذهب قاهد شاة قال قبيصة فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتسفه الحكم قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره لأنه شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه الله الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل فإذا حكم به إثنان من الصحابة فقد دخل تحت الآية ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ فيه فإن تعمد لا يجوز لأنه يفسق به وقال مالك لا يجوز كما في تقويم المتلفات حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلاً فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل وأيضاً روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر عنه فقال عمر احكمد فقال أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم فقال عمر رضي الله عنه إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني فقال أرى فيه جدياً جمع الماء والشجر فقال افعل ما ترى وعلى هذا التقدير قال أصحابنا يجوز أن يكونا قاتلين
المسألة الرابعة لو حكم عدلان بمثل وحكم عدلان رخران بمثل آخر فيه وجهان أحدهما(12/77)
يتخير والثاني يأخذ بالأغلظ
المسألة الخامسة قال بعض مثبتي القياس دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوّض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة منها الاجتهاد في القبلة ومنها العمل بشهادة الشاهدين ومنها العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ومنها العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول كما في هذه الآية ومنها عمل العامي بالفتوى ومنها العمل بالظن في مصالح الدنيا إلا أنا نقول إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل وإن سلمتم المغايرة لم يلزم من كون الظن حجة في تلك الصور كونه حجة في مسألة القياس إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس وهو باطل وأيضاً فالفرق ظاهر بين البابين لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر فظهر الفرق والله أعلم
ثم قال تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول أن المعنى يحكمان به هدياً يساق إلى الكعبة فينحر هناك وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئاً يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هدياً وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير الثاني أن يكون المعنى يحكمان به شيئاً يشتري به ما يكون هدياً وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ والحق هو الأول وقوله هَدْياً نصب على الحال من الكناية في قوله بِهِ والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى المثل والهدي حال منه وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة والله أعلم
المسألة الثانية قوله بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صفة لقوله هَدْياً لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافاً ومثله عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 )
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقاً لها ونظير هذه الآية قوله ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 )
المسألة الرابعة معنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم وإذا ذبحه في الحرم قال الشافعي رحمه الله يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً وقال أبو حنيفة رحمه الله له أن يتصدق به حيث شاء وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم(12/78)
حجة الشافعي أن نفس الذبح إيلام فلا يجوز أن يكون قربة بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء فقوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هدياً بالغ الكعبة فوجب أن يخرج عن العهدة
ثم قال تعالى أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ على إضافة الكفارة إلى الطعام والباقون أَوْ كَفَّارَة ٌ بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين أما وجه القراءة الأولى فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والصيام والطعام حسنت الإضافة فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي ولا كفارة صيام فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء وأما وجه قراءة من قرأ أَوْ كَفَّارَة ٌ بالتنوين فهو أنه عطف على قوله فَجَزَاء و طَعَامُ مَسَاكِينَ عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد
المسألة الثانية قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله كلمة أَوْ في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر إنها للترتيب
حجة الأولين أن كلمة ( أو ) في أصل اللغة للتخيير والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر
حجة الباقين أن كلمة ( أو ) قد تجيء لا لمعنى للتخيير كما في قوله تعالى أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ ( المائدة 33 ) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب فنقول والدليل دل على أن المراد هو الترتيب لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والتخيير ينافي التغليظ
والجواب أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل
المسألة الثالثة إذا قتل صيداً له مثل قال الشافعي رحمه الله هو مخير بين ثلاثة أشياء إن شاء أخرج المثل وإن شاء قوم المثل بدراهم ويشتري بها طعاماً ويتصدق به وإن شاء صام وأما الصيد الذي لا مثل له فهو مخير فيه بين شيئين بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقمية مثله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إنما يشتري الطعام بقيمته حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام وأيضاً تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن والطعام إنما وجب مثلاً للمتلف فوجب أن يقدر به
المسألة الرابعة اختلفوا في موضع التقويم فقال أكثر الفقهاء إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه وقال الشعبي يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها(12/79)
المسألة الخامسة قال الفراء العدل ما عادل الشيء من غير جنسه والعدل المثل تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاماً أو شاة تعدل شاة أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل وقال أبو الهيثم العدل المثل والعدل القيمة والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه وقال الزجاج وابن الأعرابي العدل والعدل سواء وقوله صِيَاماً نصب على التمييز كنا تقول عندي رطلان عسلا وملء بيت قتا والأصل فيه إدخال حرف من فيه فإن لم يذكر نصبته تقول رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام
المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يصوم لكل مد يوماً وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة رحمه الله مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين
المسألة السابعة زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد وقال محمد بن الحسن رحمه الله إلى الحكمين حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيراً بين أيها شاء وحجة محمد رحمه الله أنه تعالى جعل الخياة إلى الحكمين فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً أي كذا وكذا
وجوابنا أن تأويل الآة فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وأما الاذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل إما في القيمة أو في الخلقة
ثم قال تعالى لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الوبال في اللغة عبارة عما فيه من الثقل والمكروه يقال مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وماء وبيل إذا لم يستمر أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم قال تعالى فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ( المزمل 16 ) أي ثقيلا
المسألة الثانية إنما سمى الله تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء اثنان منها توجب تنقيص المال وهو ثقيل على الطبع وهما الجزاء بالمثل والاطعام والثالث يوجب إيلام البدن وهو الصوم وذلك أيضاً ثقيل على الطبع والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول عفا الله عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام
القول الثاني وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء فعلى هذا المراد عفا الله عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم الله منه وحجة هذا القول أن(12/80)
الفاء في وقله فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فاء الجزاء والجزاء هو الكافي فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب وكونه كافياً يمنع من وجوب شيء آخر وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه
المسألة الثانية قال سيبويه في قوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وفي قوله وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ( البقرة 126 ) وفي قوله فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) إن في هذه الآيات إضماراً مقدراً والتقدير ومن عاد فهو ينتقم الله منه ومن كفر فأنا أمتعه ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف وبالجملة فلا بدّ من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبراً عنه والدليل عليه أن الفعل يصير بنفسه جزاء فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغواً أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغواً والله أعلم
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد المصيد وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس الحيتان وجميع أنواعها حلال والضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين فقال أبو حنيفة رحمه الله إنه حرام وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار
المسألة الثانية أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوهاً
الأول وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع
والوجه الثاني أن صيد البحر هو الطري وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحاً لأنه لما صار عتيقاً سقط اسم الصيد عنه وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحاً فقد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار والثالث أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله السمكة الطافية في البحر محللة وقال أبو حنيفة رحمه الله محرّمة حجة الشافعي القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاماً فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )(12/81)
المسألة الرابعة قوله للسيارة يعني أحلّ لكم صيد البحر للمقيم والمسافر فالطري للمقيم والمالح للمسافر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وجهان الأول قال الزجاج انتصب لكونه مصدراً مؤكداً إلا أنه لما قيل أُحِلَّ لَكُمُ كان دليلاً على أنه منعم به كما أنه لما قيل حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) كان دليلاً على أنه كتب عليهم ذلك فقال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( النساء 24 ) الثاني قال صاحب ( الكشاف ) انتصب لكونه مفعولاً له أي أحل لكم تمتيعاً لكم
ثم قال تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) إلى قوله وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( المائدة 2 ) ومن ثوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 95 ) إلى قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
المسألة الثانية صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر فعلى هذا السلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ويجب على قاتله الجزاء
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال الأول وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال وعولوا فيه على قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال وكل ذلك صيد البر وروى أبو داود في ( سننه ) عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه قال كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاماً وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي أطعمونا قوتاً حلالاً فإنا حرم ثم قال علي عليه السلام أنشد الله من كان ههنا من أجع أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم
والقول الثاني أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له وهو قول الشافعي رحمه الله والحجة فيه ما روى أبو داود في ( سننه ) عن جابر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم )
والقول الثالث أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه الله روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال ( هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا فقال هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل(12/82)
واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والثاني في غاية الضعف
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظباً على الطاعة محترزاً عن المعصية
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرّم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر قَيِّماً بغير ألف ومعناه المبالغة في كونه قائماً بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) والباقون بالألف وقد استقصينا ذلك في سورة النساء
المسألة الثانية جَعَلَ فيه قولان الأول أنه بين وحكم الثاني أنه صير فالأول بالأمر والتعريف والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب وكعب الإنسان يسمى كعباً لنتوه من الساق فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه
المسألة الرابعة قوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أصله قوام لأنه من قام يقوم وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سبباً لقوام مصالح الناس وجوهاً الأول أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات فصار ذلك سبباً لاسباغ النعم على أهل مكة الثاني أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) الثالث أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم الرابع أنه تعالى جعل الكعبة قواماً للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة وجعل تلك المناسك سبباً لحط الخطيآت ورفع الدرجات وكثرة الكرامات(12/83)
واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني وءما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع فلما كانت الكعبة سبباً لحصول هذه الأقسام الأربعة وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس
المسألة الخامسة المراد بقوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أي لبعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم
المسألة السادسة اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سبباً لقيام الناس وقوامهم الأول الكعبة وقد بيثنا معنى كونها سبباً لقيام الناس وأما الثاني فهو الشهر الحرام ومعنى كونه سبباً لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضاً في سائر الأشهر ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سبباً لقوام معيشتهم في الدنيا أيضاً فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج
واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبّر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس وأما الثالث فهو الهدي وهو إنما كان سبباً لقيام الناس لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكاً للمهدي وقواماً لمعيشة الفقراء وأما الرابع فهو القلائد والوجه في كونها قياماً للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ومن قصده من غير الشهر الحرلاام ومعه هدي وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلداً ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة ولم يتعرض لها صاحبها أيضاً وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمناً من جميع الآفات والمخافات فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد لأن هذه الثلاثة إنما صارت سبباً لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام فكان ذلك دليلاً على عظمة هذا البيت وغاية شرفه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ
والمعنى أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية دبر في ذلك تدبيراً لطيفاً وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقاداً قوياً في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه فصار ذلك سبباً لحصول الأمن في البلد الحرام وفي الشهر الحرام فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان وفي هذا المكان فاستقامت مصالح معاشهم ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل(12/84)
عالماً بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سبباً لحصول الأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالماً فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح وكل من كان كذلك كان عالماً ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سبباً لحصول الأمن في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة فعل في غاية الاتقان والاحكام فيكون ذلك دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات فلا جرم قال ذلك لّتَعْلَمُواْ أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن فتعلموا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم إذا عرفتم ذلك عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك امتنع أن يكون مخصوصاً بالبعض دون البعض فوجب كونه متعلقاً بجميع المعلومات وإذا كان كذلك كان الله سبحانه عالماً بجميع المعلومات فلذلك قال وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده ذكر بعده أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة ثم قال تعالى
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ يعني أنه كان مكلفاً بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون(12/85)
وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاٌّ لْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ثم قال تعالى قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ
اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان أحدهما الذي يكون جسمانياً وهو ظاهر لكل أحد والثاني الذي يكون روحانياً وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل ومنفعته طيبة مختصرة وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية وطيب الطيب الروحاني فمنفتعه عظيمة دائمة أبدية وهو القرب من جوار رب العالمين والانخراط في زمرة الملائكة المقربين والمرافقة من النبيّين والصدّيقين والشهداء الصالحين فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية
ثم قال تعالى وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ يعني أن الذي يكون خبيثاً في عالم الرحانيات قد يكون طيباً في عالم الجسمانيات ويكون كثير المقدار وعظيم اللذة إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية
ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة والتحذيرات من المعصية أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية والتعريفات القوية ولا تقدموا على مخالفته لعلّكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
قوله تعالى تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) صار التقدير كأنه قال ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه الرسول إليك(12/86)
فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم الثاني أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وهذا ادعاء منه للرسالة ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكياً عنهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسرار 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسرار 93 ) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام اليكم والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه المعجزات وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم
الوجه الثالث أن هذا متصل بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) فاتركوا الأمور على ظواهرنا ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم
المسألة الثانية أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه الأول قال الخليل وسيبويه قولنا شيء جمعه في الأصل شيآء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه واحد منها مذكور وإثنان خطرا ببالي
أما الأول وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء مثل حمراء لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء والثاني ى نها لما كانت في الأصل شيآء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيهاً بالمعدول كما في عامر وعمر وزافر وزفر والعدل أحد أسباب منع الصرف الثالث وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة ونصف الكلمة لا يقبل الاعراب ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية بل ألصقناه بأولها كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها فلا جرم منعناه بعض وجوه الاعراب دون البعض تنبيهاً على هذه الحالة فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام
الوجه الثاني في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء وهو أن أشياء وزنه أفعلاء كقوله أصدقاء وأصفياء ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف فكذا ههنا
الوجه الثالث ما ذكره الكسائي وهو أن أشياء على وزن أفعال إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيهاً في الظاهر بحمراء وصفراء وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء لأن للكسائي أن يقول القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء إلا أنه ترك العمل به للنص لأن النص أقوى من القياس ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد ألا ترى أنا إذا قلنا الفاعلية توجب الرفع لزمنا أن نحكم(12/87)
بحصول الرفع في جميع المواضع كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول القياس ذلك فيعمل به إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي
المسألة الثالثة روى أنس أنهم سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال ( سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به ) فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال يا نبي الله من أبي فقال ( أبوك حذافة بن قيس ) وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول الله الحج علين في كل عام فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أعاد مرتين أو ثلاثة فقال عليه الصلاة والسلام ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لتركتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) وقام آخر فقال يا رسول الله أين أبي فقال ( في النار ) ولما اشتد غضب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام عمر وقال رضينا بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد نبياً فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه ( ءن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من كان سبباً لتحريم حلال إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام ) وكان عبيد بن عمير يقول إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني ءن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها
ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن وفيه وجوه الأول أنه بيّن بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم والوجه الثاني في تأويل الآية أن السؤال على قسمين أحدهما السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهى عنه بقوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
والنوع الثاني من السؤال السؤال عن شيء نزل به لقرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا(12/88)
السؤال واجب وهو المراد بقوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزاً لهذا القسم عن ذلك القسم
فإن قيل قوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء فكيف يعقل في أَشْيَاء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعاً قبل نزول القرآن بها ومأموراً به بعد نزول القرآن بها والثاني أنهما وإن كانا نوعين مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد فلهذا حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين
الوجه الثالث في تأويل الآية إن قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء فقوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولاً وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وفيه وجوه الأول عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها فلا تعودوا إلى مثلها الثاني ى نه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم فقال عَفَا اللَّهُ عَنْهَا يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم الثالث في الآية تقديم وتأخير والتقدير لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وهذا ضعيف لأن الكلام إذا اسقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير وعلى هذا الوجه فقوله عَفَا اللَّهُ عَنْهَا أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) أي خففت عنكم بإسقاطها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما كذرناه في الوجه الأول ثم قال تعالى
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فصار ذلك وبالاً عليهم وبنو إسرائيل قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قال تعالى فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم و و قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ( البقرة 246 247 ) فسألوها ثم كفروا بها وقوم عيسى سألوا عن أشياء فلعلّكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل إنه تعالى قال أولاً لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ( المائدة 101 ) ثم قال ههنا قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ وكان الأولى أن يقول قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك(12/89)
قلنا الجواب من وجهين الأول أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله وصفة من صفاته وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه يقال سألته درهماً أي طلبت منه الدرهم ويقال سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء وأما أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم ما سألوا ذلك وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة أيضاً إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد وهو أنه خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه خطر المفسدة والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة يجب على العاقل الاحتراز عنه فبيّن تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولاً وخوضاً فيما لا فائدة فيه
الوجه الثاني في الجواب أن الهاء في قوله قَدْ سَأَلَهَا غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء والتقدير قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
قوله تعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها بيّن تعالى أن ذلك باطل فقال مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ
المسألة الثانية أعلم أنه يقال فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل وبعضها أعم من بعض وأكثرها عموماً فعل لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر وأما إنه واقع على أعمال القلوب فدليل عليه قوله تعالى لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا إلى قوله كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النحل 35 ) وأما عمل فإنه أخص من فعل لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح ولا يقع على الهم والعزم والقصد والدليل عليه قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) جعل النية خيراً من العمل فلو كانت النية عملاً لزم كون النية خيراً من نفسها وأما جعل فله وجوه أحدها الحكم ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ عَمَّ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثانيها الخلق ومنه قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الانعام 1 ) وثالثها بمعنى التصيير(12/90)
ومه قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( الزخرف 3 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله مَّا جَعَلَ اللَّهُ أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء أولها البحيرة وهي فعلية من البحر وهو الشق يقال بحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول قال أبو عبيدة والزجاج الناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم ولا يجز لها وبر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجاً
وأما السائبة فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية فالسائبة هي التيتركت حتى تسيب إلى حيث شاءت وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية وذكروا فيها وجوهاً أحدها ما ذكره أبو عبيدة وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها وثانيها قال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف وثالثها قال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ورابعها السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث
أما الوصيلة فقال المفسرون إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها وأما الحام فيقال حماه يحميه إذا حفظه وفيه وجوه أحدها الفحل إذا ركب ولد ولده قيل حمى ظهره أي حفظه عن الركوب فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت فحينئذٍ تأكله الرجال والنساء وثانيها إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا حمت ظهرها حكاه أبو مسلم وثالثها الحامهو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها وهو قول السدي
فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد هذه البهائم من الذبح والاتعاب والايلام
قلنا الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته فإذا تمرد عن طاعة الله تعالى عوقت بضرب الرق عليه فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى فكان ذلك عبادة مستحسنة وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة فظهر الفرق وأيضاً الإنسان إذا كان عبداً فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(12/91)
قال المفسرون إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ) والقصب المعا وجمعه الاقصاب ويروي يجر قصبه في النار قال ابن عباس قوله وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيب في تحريمهم هذه الأنعام والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء ثم قال تعالى
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة
وأعلم أن الواو في قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون
وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً فوجب أن لا يجوز الاقتداء به
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّة ِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَة ُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواة ِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَة َ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الاٌّ ثِمِينَ
قوله تعالى يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) إلى قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه فلا يضركم ضلالتهم(12/92)
وجهالتهم فلهذا قال يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
المسألة الثانية قوله عَلَيْكَ أَنفُسَكُمْ أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال تقول العرب عليك وعندك ودونك فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل وينصبون بها فيقال عليك زيداً كأنه قيل خذ زيداً فقد علاك أي أشرف عليك وعندك زيداً أي حضرك فخذه ودونك أي قرب منك فخذه فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب ( الكشاف ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ بالرفع عن نافع
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى وثانيها أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين وثالثها أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) ذكر تعالى هذه الآية والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه
المسألة الرابعة فإن قيل ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول وهو الذي عليه أكثر الناس إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل خطب الصديق رضي الله عنه فقال إنكم تقرؤن هذه الآية يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب )
والوجه الثاني في تأول الآية ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يكون هذا في آخر الزمان قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً ووكل كل امرىء ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وهذا القول عندي ضعيف لأن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب عام وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب
والوجه الثالث في تأويل الآية مال ذهب إليه عبد الله بن المبارك قال هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار وهذا كقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) يعني أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني بأن يعظ(12/93)
بعضكم بعضاً ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمراً بأننحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً
والوجه الرابع أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون الكفر بسبب الأمر بالمعروف فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين
الوجه الخامس أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل وكان ابن شبرمة يقول من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر
الوجه السادس لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك
الوجه السابع عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة فإنلم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم
والوجه الثامن أنه تعالى قال لرسوله فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ( النساء 84 ) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا
المسألة الخامسة قريء لا يضركم بفتح الراء مجزوماً على جواب قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وقريء بضم الراء وفيه وجهان أحدهما على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل والثاني أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد
ثم قال تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يريد مصيركم ومصير من خالفكم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني يجازيكم بأعمالكم
يا أيها الذين آمنوا شهداة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله عليكم أنفسكم أمر بحفظ المال في قوله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية تميما الداري وأخاه عديا كان نصرانيين خرجا(12/94)
إلى الشام ومعهما بديل عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا خرجوا للتجارة فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلثمائة مثقال ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء فقالوا لتميم وعدي أين الإناء فقالا لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية قوله شهادة بينكم يعني شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله شهادة بينكم جائز لظهوره ونظيره قوله هذا فراق بيني وبينك الكهف 78 أي ما بيني وبينك وقوله لقد تقطع بينكم الأنعام 94 في قراءة من نصب وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت وحين الوصية بدل من قوله إذا حضر أحدكم لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الرمان بهذين الأمرين الواقعين فيه كما يقال ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه كقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية البقرة 180 قالوا وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية دليل على وجوب الوصية لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية
ثم قال تعالى اثنان ذو عدل منكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية حذف والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم وتقدير الآية شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف هي أن يشهد اثنان ذو عدل منكم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما
المسألة الثانية اختلف المفسرون في قوله منكم على قولين الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين أي من أهل دينكم وملتكم وقوله أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن(12/95)
جبير وسعيد بن المسيب وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج قالوا إذا كان الإنسان في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة قال الشعبي رحمه الله مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله أنهما ما كذبا ولا بدلا وأجاز شهادتهما ثم إن القائلين بهذا القول منهم من قال هذا الحكم بقي محكما ومنهم من قال صار منسوخا
القول الثاني وهو قول الحسن والزهري الفقهاؤ أن قوله ذوا عدل منكم أي من أقاربكم وقوله أو آخران من غيركم أي من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض أي أن توقع الموت في السفر ولم يكن معهم أحد من أقاربكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولا لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم وأرأف واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه
الحجة الأولى أنه تعالى قال في أول الآية يا أيها الذين آمنوا فعمم بهذا الخطاب جميع المؤمنين فلما قال بعده أو آخران من غيركم كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة
الحجة الثانية أنه تعالى قال أو لآخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر فلو كان هذان الشاهدان مسلمين لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر
الحجة الثالثة الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين
الحجة الرابعة أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصاريين على بديل وكان مسلما
الحجة الخامسة ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا
الحجة السادسة إنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمينن والضرورات قد تبيح المحذورات ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة والافطار في رمضان وأكل الميتة في حال الضرورة والضرورة حاصلة في هذه المسألة لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على نفسه ولم تكن شهادة الكفار مقبولة فإنه يضيع أكثر مهماته فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة والاستهلال لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الاحوال فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة فكذا ههنا وأما قول من يقول بأن هذا الحكم صار منسوخا فبعيد لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وليس فيها منسوخ واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله وأشهدوا ذوي عدك منكم الطلاق 2 والكافر لا يكون عدلا(12/96)
أجاب الأولون عنه لم لا يجوز ان يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب لا بد من كان عدلا في الدين والاعتقاد والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله وأشهدوا ذوي عدل منكم عام وقول في هذه الآية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر فهذه الآية خاصة والآية التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متأخرا في النزول ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق والله أعلم
ثم قال تعالى أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله أو آخران عطف على قوله اثنان والتقدير شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم
المسألة الثانية قوله إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيرهم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرا ضاربا في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به
ثم قال تعالى وتحسبونهما من بعد الصلاة وفيه مسألتان
المسألة الأولى تحسبونهما أي توقفونهما كما يقول الرجل مر بي فلان على فرس فحبس علي دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته
فإن قيل ما موقع تحبسونهما
قلنا هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما
المسألة الثانية قوله من بعد الصلاة فيه أقوال الأول قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما والثاني قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر
فإن قيل كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة
قلنا إنما عرف هذا التعيين بوجوه أحدها أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ وثانيها ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد وثالثها أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها
والقول الثالث قال الحسن المراد بعد الظهر أو بعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما(12/97)
القول الرابع أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في أشرف المساجد وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان وهذا على خلاف الآية ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى
ثم قال تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فيقسمان بالله للجزاء يعني تحسبونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم قوله وإن ارتبتم اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة
المسألة الثالثة قوله لا نشتري به ثمنا يعني يقسمان بالله أنا لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا قائلين لا نشتري به ثمنا وهو كقوله إن الذين يشرون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا آل عمران 77 أي لا نأخذ ولا نستبدل ومن باع شيئا فقد اشترى ثمنه وقوله ولو كان ذا قربى أي لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولو كان ذلك الشيء حبوة ذي قربى أو نفسه وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بسببهم أعظم وهو كقوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين النساء 135
ثم قال تعالى ولا نكتم شهادة الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا عطف على قوله لا نشتري به ثمنا يعني أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفضها وإظهارها
المسألة الثانية نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وروي عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول الله لقد كان كذا والمعنى تالله
ثم قال تعالى إنا إذا لمن الآثمين يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين(12/98)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاٌّ وْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
ثم قال تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً قال الليث رحمه الله عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وأعثرت فلاناً على أمري أي أطلعته عليه وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء قال أهل اللغة وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه وأعثر غيره إذا أطلعه عليه ومنه قوله تعالى وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ( الكهف 21 ) أي اطلعنا ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة
ثم قال تعالى فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثماً أي حنثاً في اليمين بكذب في قول أو خيانة في ممال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلّى رسولل الله ( صلى الله عليه وسلم ) العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إل ه إلا هو أنه لم يوجد منال خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واخلفوا فقيل وجد بمكة
وقيل لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئاً فقلتما لا فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأننزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال حلفت كاذباً وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت
المسألة الثانية قوله فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ المراد به موالي الميت وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق(12/99)
عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعلياً على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال
المسألة الثالثة أما قوله الأليان ففيه وجوه الأول أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير هما الأليان وذلك لأنه لما قال إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا فكأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان والثاني أن يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان والثالث أجاز الأخفش أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ صفة لقوله فَآخَرَانِ وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله تعالى كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) فمصباح نكرة قم قال الْمِصْبَاحُ ثم قال في زُجَاجَة ٍ ثم قال الزُّجَاجَة ُ وهذا مثل قولك رأيت رجلاً ثم يقول إنسان من الرجل فصار بالعود إلى ذكره معرفة الرابع يجوز أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ بدلاً من قوله آخران وإبدال المعرفة من النكرة كثير
المسألة الرابعة إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين الأول معنى الأوليان الأقربان إلى الميت الثاني يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك فكان اليمين حقاً لهما وهذا كما أن إنساناً أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولاً لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه
المسألة الخامسة القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء والأليان تثنية الأولى وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ألا ترى أنه قد تقدم تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ ( المائدة 106 ) وكذلك اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ ( المائدة 106 ) ذكرا في اللفظ قبل قوله يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم
ثم قال تعالى فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
والمعنى ظاهر أي وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الخيانة وقوله إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ أي إنا إذا حلفنا موقنين بالكذب معتقدين الزور والباطل
ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
ثم قال تعالى ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ
والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس(12/100)
ثم قال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
والمعنى اتقوا الله أن تخونوا في اومانات واسمعوا مواقظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً وروى الواحدي رحمه الله في ( البسيط ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات وءما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولاً ثم ذكر أحوال عيسى أما وصف أحوال القيامة فهو قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال الزجاج تقديره واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على المفعول له الثاني قال القفال رحمه الله يجوز أن يكون التقدير والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 )
والقول الثاني أنها منقطعة عما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه أيضاً وجهان الأول أن التقدير اذكر يوم يجمع الله الرسل والثاني أن يكون التقدير يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم فإن قيل وأي فائدة في هذا السؤال قلنا توبيخ قومهم كما أن قوله وَإِذَا الْمَوْءودَة ُ سُئِلَتْ بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 8 9 ) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم والجمع بين هذا وبين قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 )(12/101)
مشكل وأيضاً قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك
والجواب عنه من وجوه الأول قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالاً بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون لا علم لنا فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وقال أيضاً وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) بل إنه تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون ألبتة والوجه الثاني أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان فيقول أنت أعلم به مني كأنه قيل لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره وهذا أيضاً ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم
والوجه الثالث في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أطهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم
والوجه الرابع في الجواب أنهم قالوا لا علم لنا إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يشهد بصحة هذين الجوابين
الوجه الخامس وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنكم لتختصمون لدي ولعلّ بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار ) أو لفظ هذا معناه فالأنبياء قالوا لا علام لنا ألبتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة
الوجه السادس أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل حكيم لا يسفه عادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت(12/102)
المسألة الرابعة قريء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب قال صاحب ( الكشاف ) والتقدير أن الكلام قد تمّ بقوله إِنَّكَ أَنتَ أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء أو وصفاً لاسم إن
المسألة الخامسة دلّت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه أما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ وَالاٌّ بْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
قوله تعالى إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل مَاذَا أَجَبْتُمُ ( المائدة 109 ) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملاملا النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإل ه به وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم
المسألة الثانية موضع إِذْ يجوز أن يكون رفعاً بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال الله ويجوز أن يكون المعنى اذكر إذ قال الله
المسألة الثالثة خرج قوله إِذَا قَالَ اللَّهُ على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه
الأول الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم قال الله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) الثاني أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ( سبأ 51 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنفال 50 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ ( سبأ 31 ) والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال
المسألة الرابعة وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يجوز أن يكون عِيسَى في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا(12/103)
جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو ويا زيد بن عمرو وأنشد النحويون
يا حكم بن المنذر بن الجارود
برفع الأول ونصبه على ما بيناه
المسألة الخامسة قوله نِعْمَتِى عَلَيْكَ أراد الجمع كقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس
واعلم أن الله تعالى فسّر نعمته عليه بأمور أولها قوله إِذَا أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وفيه وجهان الأول روح القدس هو جبريل عليه السلام الروح جبريل والقدس هو الله تعالى كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له الثاني أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ومنها مشرقة ومنها كدرة ومنها خيرة ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) فالله تعالى خصّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة ولقائل أن يقول لما دلّت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوّة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل فيلزم الدور وجوابه ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال
وثانيها قوله تعالى تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً أما كلام عيسى في المهد فهو قوله إِنّى ءاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى ( مريم 30 ) وقوله تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً في موضع الحال والمعنى يكلمهم طفلاً وكهلاً من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده
وثالثها قوله تعالى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ
وفي الْكِتَابِ قولان أحدهما المراد به الكتابة وهي الخط والثاني المراد منه جنس الكتب فإن الإنسان يتعلم أولاً كتباً سهلة مختصرة ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة وأما الْحِكْمَة َ فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العملية ثم ذكر بعده التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه وجهان الأول أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) والثاني وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار بانياً في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء فقوله وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام(12/104)
ورابعها قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَتَكُونُ والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر ههنا فَتَنفُخُ فِيهَا وذكر في آل عمران فَأَنفُخُ فِيهِ ( آل عمران 49 )
والجواب أن قوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله فَتَنفُخُ فِيهَا الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء
إذا عرفت هذا فنقول الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث
المسألة الثالثة أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير وفي صيرورته ذلك الشيء طيراً وإنما أعاد قوله بِإِذْنِى تأكيداً لكون ذلك واقعاً بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده
وخامسها قوله تعالى وَتُبْرِىء الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ بِإِذْنِى وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي
وسادسها قوله تعالى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت أخرج بإذن الله من قبرك وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله تعالى كقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بخلق الله الموت فيها
وسابعها قوله تعالى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْراءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ وفيه مسألتان(12/105)
المسألة الأولى قوله إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللام للعهد ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات
المسألة الثانية روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء
ثم قال تعالى فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَاحِرٌ بالألف وكذلك في يونس وهود والصف وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون سَاحِرٌ فمن قرأ سَاحِرٌ أشار إلى الرجل ومن قرأ سَاحِرٌ أشار به إلى ما جاء به وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره قال الواحدي رحمه الله والاختيار سَاحِرٌ لجواز وعوعه على الحدث والشخص أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص فتقول هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( البقرة 177 ) أي ذا البر قال الشاعر
فإنما هي إقبال وإدبار
المسألة الثانية فإن قيل إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ليس من النعم فكيف ذكره ههنا
والجواب أن من الأمثال المشهورة أن كل ذي نعمة محسود وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
وثامنها قوله تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى وقد تقدم تفسير الوحي فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر يعني رمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم
فإن قيل إنه تعالى قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ ( المائدة 110 ) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام وليس لأمه بشيء منها تعلق
قلنا كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم ولذلك قال تعالى الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ويقول مع كل يوم رزقه ومن لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أمسى بات(12/106)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذَا قَالَ وجهان الأول أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون الثاني اذكر إذ قال الحواريون
المسألة الثانية هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الكسائي هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب وبإدغام اللام في التاء وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانوا أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك وعن معاذ بن جبل أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها هل تسطيع سؤال ربك قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى والثانية توجب شكهم في استطاعة الله ولا شك أن الأولى أولى وأما القراءة الثانية ففيها إشكال وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم قَالُواْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( المائدة 111 ) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَة ً مّنَ السَّمَاء فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملاً في الإيمان وقالوا ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان
والوجه الثاني في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا
والوجه الثالث في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعاً فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة وهذا الجواب(12/107)
يتمشى على قول المعتزلة وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدرو لأن خلاف المعلوم غير مقدور
الوجه الرابع قال السدي هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي هل يطيعك ربك إن سألته وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة
الوجه الخامس لعلّ المراد بالرب هو جبريل عليه السلام لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال تعالى في أول الآية إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك
والوجه السادس أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح لا يجوز لعاقل أن يشك فيه فكذا ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن الأنباري سميت مائدة لأنها عطية من قول العرب ماد فلان فلانا يميده ميداً إذا أحسن إليه فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية وقال أبو عبيدة المائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية وأصلها مميدة ميد بها صاحبها أي أعطيها وتفضل عليه بها والعرب تقول مادني فلان يميدني إذا أحسن إليه
ثم قال تعالى قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وفيه وجهان الأول قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة فإنه جار مجرى التعنت والتحكم وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم ولأنه أيضاً اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة وهو جرم عظيم الثاني أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ( المائدة 35 ) وقوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادراً على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب
ثم قال تعالى
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عليس لهم إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب(12/108)
هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة أحدها أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاماً آخر وثانيها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة وثالثها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة وثالثها أنا وءن علمنا بسائر المعجزات صدقك ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة ورابعها أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة ثم قال تعالى
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَة ً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في اللَّهُمَّ فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله ( آل عمران 26 ) فقوله اللَّهُمَّ نداء وقوله رَبَّنَا نداء ثان وأما قوله تَكُونُ لَنَا صفة للمائدة وليس بجواب للأمر وفي قراءة عبد الله تَكُنْ لأنه جعله جواب الأمر قال الفراء وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع ومثاله قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بالجزم والرفع فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ( القصص 34 ) بالجزم والرفع وأما قوله عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيداً نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود فسمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح جديد وقوله قَالَ عِيسَى أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك وَارْزُقْنَا أي وارزقنا طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين
المسألة الثانية تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل فقالوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ( المائدة 113 ) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال وَارْزُقْنَا وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله وَارْزُقْنَا لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فقوله رَبَّنَا ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى وقوله أُنزِلَ عَلَيْنَا انتقال من الذات إلى الصفات وقوله تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى إشارة إلى كون هذه المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله وَارْزُقْنَا إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله(12/109)
المسألة الثالثة في قراءة زيد يَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا والتأنيث بمعنى الآية ثم قال تعالى
قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم ونافع مُنَزّلُهَا بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى وبالتخفيف مرة واحدة
المسألة الثانية فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ أي بعد إنزال المائدة فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ قال ابن عباس يعني مسخهم خنازير وقيل قردة وقيل جنساً من العذاب لا يعذب به غيرهم قال الزجاج ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلاً لهم في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخراً إلى الآخرة وقوله مّن الْعَالَمِينَ يعني عالمي زمانهم
المسألة الثالثة قيل إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها
المسألة الرابعة اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى فنسه في الظاهر وكلاهما محتمل والله أعلم
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة فقال الحسن ومجاهد ما نزلت واحتجوا عليه بوجهين الأول أن القوم لما سمعوا قوله أُعَذّبُهُ عَذَاباً أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ استغفروا وقالوا لا نريدها الثاني أنه وصف المائدة بكونها عيداً لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة وقال الجمهور الأعظم من المفسرين أنها نزلت لأنه تعالى قال إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ وهذا وعد بالإنزال جزماً من غير تعليق على شرط فوجب حصول هذا النزول
والجواب عن الأول أن قوله فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ شرط وجزاء لا تعلق له بقوله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ
والجواب عن الثاني أن يوم نزولها كان عيداً لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم
المسألة السادسة روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ثم قال اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم(12/110)
ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها فقال شمعون رأس الحواريين أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدينا أمن طعام الآخرة فقال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزيدكم من فضله فقال الحواريون يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها فمسخوا قردة وخنازير
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
فيه مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على قوله إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة ومنهم من قال إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله وَإِذْ قَالَ اللَّهُ وإذ تستعمل للماضي والقول الأول أصح لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) والمراد به يوم القيامة وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه
المسألة الثانية في قوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سؤالان أحدهما أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب وثانيهما أنه كان عالماً بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول ينفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحداً منهم لم يقل به
والجواب عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار
والجواب عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم والله تعالى ما خلقها ألبتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها فصح أنهم أثبتوا في حق بعض(12/111)
الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلهاً له فصح بهذ التأويل هذه الحكاية والرواية
ثم قال تعالى قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ أما قوله سُبْحَانَكَ فقد فسرناه في قوله سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ( البقرة 32 )
وأعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة والمقام مقام الخضوع والتواضع ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى عمله المحيط بالكل
فقال إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه
ثم قال تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك وقيل تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة وقيل تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل
المسألة الثانية تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسماً
والجواب من وجهين الأول أن النفس عبارة عن الذات يقال نفس الشيى وذاته بمعنى واحد والثاني أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام
ثم قال تعالى إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وقوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
ثم قال تعالى حكاية عن عيسى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولاً أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معاً ودلّ على(12/112)
الأصل بذكر أن المفسرة
ثم قال تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيماً فيهم
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى والمراد منه وفاة الرفع إلى السماء من قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ ( آل عمران 55 )
كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قال الزجاج الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم
وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية ويجوز حمله على العلم ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات ثم قال تعالى
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
فيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ظاهر وفيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ والله لا يغفر الشرك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا اللكلام عنه والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز فلهذا المعنى طلب المغفرة من الله تعالى والثاني أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه فذكر عيسى هذا الكرم ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله وترك التعرض والاعتراض بالكلية ولذلك ختم الكلام بقوله فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني أنت قادر على ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب وليس في إسقاطه على الله مضرة فوجب أن يكون حسناً بل دلّ الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام
الوجه الثالث في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه فقال ءانٍ علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك وأنت قد حكمت على كل من كفر ممن عبادك بالعقوبة وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة
الوجه الرابع أنا ذكرنا أن من الناس من قال إن قول الله تعالى لعيسى أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة وعلى هذا القول فالجواب سهل(12/113)
لأن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ يعني ان توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضاً ذاك على هذا التقدير فلا إشكال
المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق الفساق قالوا لأن قول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم وليس أيضاً في حق الكفار لأن قوله وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل
المسألة الثالثة روى الواحدي رحمه الله أن في مصحف عبد الله ( وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول العَزِيزُ الحَكِيمُ هاهنا أولى من الغفور الرحيم لأن كونة غفوراً رحيماً يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج وأنا العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة فإن كونه عزيزاً يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه لا اعتراض عليه لأحد فإذا كان عزيزاً متعالياً عن جميع جهات الاستحقاق ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفوراً رحيماً يوجب المغفرة والرحمة فكانت عبارته رحمه الله أن يقول عز عن الكل ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل وقال قوم آخرون إنه لو قال فإنك أنت الغفور الرحيم أشعر ذلك بكونه شفيعاً لهم فلما قال فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه
قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ثم قال تعالى قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة والدليل على أن المراد ما ذكرنا أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم ألا ترى أن إبليس قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ( إبراهيم 22 ) فلم ينفعه هذا الصدق وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية قرأ جمهور القرّاء يَوْمٍ بالرفع وقرأ نافع بالنصب واختاره أبو عبيدة فمن قرأ بالرفع قال الزجاج التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين وأما النصب ففيه وجوه الأول على أنه ظرف لقال والتقدير قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع الثاني أن يكون التقدير هذا الصدق واقع يوم ينفع(12/114)
الصادقين صدقهم ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخباراً عن الأحداث بهذا التأويل كقولك القتال يوم السبت والحج يوم عرفة أي واقع في ذلك اليوم والثالث قال الفرّاء يَوْمٍ أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة
على حين عاتبت المشيب على الصبا
بنى ( حين ) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( الإنفطار 19 ) بني لإضافته إلى ( لا ) وهي مبنية أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم
ثم قال تعالى لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب وحقيقة الثواب أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم وقوله خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة فإنه أينما ذكر الثواب قال خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد وأما قوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فهو إشارة إلى التعظيم هذا ظاهر قول المتكلمين وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله رّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها وقوله ذالِكَ الْفَوْزُ الجمهور على أن قوله يَفْعَلْ ذالِكَ عائد إلى جملة ما تقدم من قوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي إلى قوله وَرَضُواْ عَنْهُ وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصاً بقوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري ولكن كل ميسر لما خلق له ثم قال تعالى
للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
قيل إن هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل من يعطيهم ذلك الفوز العظيم فقيل الذي له ملك السماوات والأرض وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها فالأول أنه تعالى قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة والثاني أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية فالأول هو الشريعة وهو البداية والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وعزته وقدرته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن(12/115)
المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتما والثالث أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم فمنها بيان الشرائع والأحكام والتكاليف ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب فإنه قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ومعناه أن كل ما سوى الحق سبحانه فانه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى وإذا كان الأمر كذلك كان مالكاً لجميع الممكنات والكائنات موجداً لجميع الأرواح والأجساد وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد فذاك ثابت لأنه سبحانه لما كان مالكاً للكل كان لله أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله لأنا بينا أن الموجد إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره وعيسى ومريم لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم فإذا دلنا على أن كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله كان عيسى ومريم عليهما السلام كذلك ولا معنى للعبودية إلا ذلك فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها والله أعلم بأسرار كلامه(12/116)
سورة الأنعام
مكية إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153
فمدنية وآياتها 165 نزلت بعد سورة الحجر
قال ابن عباس رضي الله عنه إنها مكيّة نزلت جملة واحدة فامتلأ منها الوادي وشيعها سبعون ألف ملك ونزلت الملائكة فملؤوا ما بين الأخشبين فدعا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات فانها مدنيات قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث وقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) الآية وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها وقد بعث بها إليّ مع جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض ولقد أعزني الله وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعده أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه ) وعن ابن المنكدر لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق )
قال الأصليون هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة والثاني أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة وأيضاً فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي(12/117)
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قد سبق في تفسير سورة الفاتحة ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفرق بين المدح والحمد والشكر
اعلم أن المدح أعم من الحمد والحمد أعم من الشكر
أما بيان أن المح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل اللعاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالتها فيقال ما أحسنه وما أصفاه وأما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فون الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر
إذا عرفت هذا فنقول إنما لم يقل المدح لله ونا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره أما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار فكان قوله الْحَمْدُ للَّهِ تصريحاً بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين وإنما لم يقل الشكر لله لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمة بسبب انعام صدر منه ووصل إليك وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقاً للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون الاخلاص أكمل واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت
المسألة الثانية الحمد لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية(12/118)
إذا ثبت هذا فنقول قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد أن هذه الماهية لله وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل إن شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )
قلنا المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله وبيانه من وجوه الأول صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى وثانيها أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة أما جلب المنفعة فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سبباً لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيواناً في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسيّة فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع ممضرة وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله فقال الْحَمْدُ للَّهِ وثالثها أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير وأيضاً فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا الله فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ ورابعها أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حياً قادراً عالماً ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما ألأدع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة ونعم الله لا نهاية لها أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ
المسألة الثالثة إنما قال الْحَمْدُ للَّهِ ولم يقل أحمد الله لوجوه أحدها أن الحمد صفة القلب(12/119)
وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلاً بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله كان كاذباً واستحق عليه الذم والعقاب حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجوداً أما إذا قال الحمد لله فمعناه أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضراً في قلبه أو لم يكن وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين وثانيها روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر فقال داود يا رب وكيف أشكرك وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضاً وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له فأوحى الله تعالى إلى داود لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني
إذا عرفت هذا فنقول لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال أنما لو قال الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذني اللفظين من هذا الوجه وثالثها أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعراً بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره أما إذا قال الحمد لله فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران كما قال تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فكان هذا الكلام أفضل وأكمل
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة أولها الفاتحة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وثانيها في يأول هذه السورة فقال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى فقوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يدخل فيه إلا خلق السموات والأرض والظلمات والنور ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة وثالثها سورة الكهف فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وذلك أيضاً تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل ورابعها سورة سبأ وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( سبأ 1 ) وهو أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وخامسها سورة فاطر فقال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 ) وظاهر أيضاً أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية فلهذا السبب قال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي(12/120)
بالمقصود أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه
فإن قيل ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب وأيضاً لم قال ههنا خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة فعل الماضي وقال في سورة فاطر الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة اسم الفاعل
فنقول في الجواب عن الأول الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطراً فهو عبارة عن الإيجاد والابداع فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة وكونه تعالى رباً ومربياً مشتمل على الأمرين فكان ذلك أكمل
والجواب عن الثاني أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات والعمل بالشيء سصح تقدمه على وجود المعلوم ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دهوله في الوجود أما إيجاد الشيء فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور فلهذا السبب قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ والمراد أنه كان عالماً بها قبل وجودها وقال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطراً لها وموجداً لها عند وجودها
المسألة الخامسة في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قولان الأول المراد منه احمدوا الله تعالى وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد إحداها أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد تعليم اللفظ والمعنى ولو قال احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين وثانيها أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده وثالثها أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله قالوا والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام فحينئذ يصير هذا الأمر حاملاً للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين أحدهما أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بدّ لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره لوجب أن يكون كل واحد واصلأْ إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه ولما ثبت أنه لا بدّ لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر وهو الله سبحانه وتعالى
والنوع الثاني من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى صار ذلك التكليف حاملاً للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد فثبت أن تذكيرالنعم يفيد(12/121)
هاتين الفائدتين الشريفتين إحداهما الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى وثانيهما أن الشعور بكونها نعماً يوجب ظهور حب الله في القلب ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه وهو الأرواح ثم الأجسام إما فلكية وءما عنصرية أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ثم الكرسي الرفيع ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو وأن الكرسي ما هو وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي وأن يعرف حقائقها ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم وهو كل ما سوى الله تعالى ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده فعند هذا يعرف من معنى قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ذرة وهذا بحر لا ساحل له وكلام لا آخر له والله أعلم
المسألة السادسة إنا وإن ذكرنا أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أُجري مجرى قوله قولوا الحمد لله ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار أما هذه السورة وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول إن هذا يدل من بعض الوجوه على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله الْحَمْدُ للَّهِ جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق وذاته لا تشبه ذوات الخلق وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهاً لغيره في الذات والصفات والأفعال فهو الله سبحانه واحد في ذاته لا شريك له في صفاته ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم(12/122)
أما قوله سبحانه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسألتان الأولى في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة
السؤال الأول أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جار مجرى ما يقال جاءني الرجل الفقيه فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن هناك إلهاً لم يخلق السموات والأرض وإلا فأي فائدة في هذه الصفة
والجواب أنا بينا أن قوله ( الله ) جار مجرى اسم العلم فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى موصوفاً بتلك الصفة مثاله إذا قلنا الرجل العالم فقولنا الرجل اسم الماهية والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة أما إذا قلنا زيد العالم فلفظ زيد اسم علم وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ ( الله ) من باب أسماء الأعلام لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم
السؤال الثاني لم قدم ذكر السماء على الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء والجواب السماء كالدائرة والأرض كالمركز وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضاً كثيرة بدليل قوله تعالى وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ ( الطلاق 12 )
والجواب أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر وذلك يخل بمصالح هذا العالم أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع وتقريره أن أجرام السموات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فمن وجوه الأول أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلاً مقداراً أزيد منه أو أنقص منه والثاني أن كل فلك بمقدار مركب من(12/123)
أحزاء والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجاً وبالعكس فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز والثالث أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن والرابع أن كل حركة فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن والخامس أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن والسادس أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمراً ممكناً بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية فكل ما صحّ على بعضها صح على كلها فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمراً ممكناً والسابع وهو أن لحركة كل فلك أولاً لأن وجو حركة لا أول لها محال لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير والأول ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال فثبت أن لكل حركة أولاً واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن والثامن هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس اختصاصاً بأمر ممكن والتاسع وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ومتى كان كذلك فلها أول بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها فيلزم من دوام تلك العلة دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة ولما كان ذلك محالاً ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات بل فاعلاً مختاراً وإذا كان كذلك وجب كون ذلك الفاعل متقدماً على هذه الحركات وذلك يوجب أن يكون لها بداية العاشر أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن فثبت بهذه الوجوه العشرة أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال فكان يجوز في العقل حضول أضدادها ومقابلاتها فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وإذا ثبت هذا فنقول إنه لا معنى للخلق إلا التقدير فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة فلهذا المعنى قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية(12/124)
والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له
أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ جَعَلَ يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء وتصيير شيء شيئاً ومنه قوله تعالى وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) وقوله وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا ( الرعد 38 ) وقوله أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَيْهَا واحِداً ( ص 5 ) وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر
المسألة الثانية في لفظ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ قولان الأول أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما وأيضاً هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أي ظلمة الشرلاك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين ونقل عن الحسن أنه قال يعني الكفر والإيمان ولا تفاوت بين هذين القولين فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقروناً بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه قال الواحدي والأولى حمل اللفظ عليهما معاً وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معاً
المسألة الثالثة إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج وجلس إنسان آخر بالبعد منه فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلماً فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية
وإذ ثبت هذا فنقول عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور فوجب تقديمها في اللفظ ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع والنور بصيغة الواحد فنقول أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان فكلامه ههنا ظاهر لأن الحق واحد والباطل كثير وأما من حملها على الكيفية المحسوسة فالجواب أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ثم إنها تقبل التناقص قليلاً قليلاً وتلك المراتب كثيرة فلهذا السبب عبّر عن الظلمات بصيغة الجمع(12/125)
أما قوله تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
فأعلم أن العدل هو التسوية يقول عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يَعْدِلُونَ يشركون به غيره
فإن قيل على أي شيء عطف قوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
قلنا يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله الْحَمْدُ للَّهِ على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ فيكفرون بنعمته ويحتمل أن يكون معطوفاف على قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جماداً لا يقدر على شيء أصلاً
فإن قيل فما معنى ثم
قلنا الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر
أما الوجه الأول فتقريره أن الله تعالى لما استدل بخلقه السموات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاتسدلال بخلقه الإنسان على إثبات هذا المطلوب فقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقاً من طين فهلذا السبب قال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما يتوالدان من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما يحوانية وإمانباتية فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان فبقي أن تكون نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب
إذا عرفت هذا فنقول هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب(12/126)
وأما الوجه الثاني وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد
وأما قوله تعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ففيه مباحث
المبحث الأول لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر قال تعالى دوقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسرار 4 ) وبمعنى صفة الفعل إذا تم قال تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 12 ) ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولاً وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل
إذا عرفت هذا فقوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت دي ذلك الوقت ونظير هذه الآية قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ ( المؤمنون 15 )
وأما قوله تعالى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ
فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه الأول قال أبو مسلم قوله ثُمَّ لَهُمْ أَجَلاً المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل الثاني بكونه مسمى عنده لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة فلهذا المعنى قال وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والثاني أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى والثالث الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ والرابع أن الأول هو النوم والثاني الموت والخامس أو الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد والأجل الثاني مقدار ما بقي من عمر كل أحد والسادس وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين أحدهما الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصوناً من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة وقوله مُّسمًّى عِندَهُ أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ ومعنى عنده شيبه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي
فإن قيل المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ(12/127)
قلنا لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
وأما قوله ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ فنقول المرية والامتراء هو الشك
وأعلم أنا إن قلنا المقصود من ذكر هذا الكلام الاستدلال على وجود الصانع كان معناه أن بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم تمترون في صحة التوحيد وإن كان المقصود تصحيح القول بالمعاد فكذلك والله أعلم
وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
واعلم أنا إن قلنا إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار
قلنا المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية وإن قلنا المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً والثاني أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرون ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة وأثبا بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ( الملك 16 ) قالوا ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل فوجب أن يبقى ظاهر قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ على ذلك الظاهر ولأن من القراء من وقف عند قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ثم يبتدىء فيقول وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله فِى الاْرْضِ صلة لقوله سِرَّكُمْ هذا تمام الكلام
وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وذلك من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه السورة قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فبيّن بهذه الآية أن كل(12/128)
ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له فلو كان الله أحد الأشيء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال ونظير هذه الآية قوله في سورة طه لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ( طه 6 ) فإن قالوا قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاء والاْرْضِ هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى
قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 5 7 ) ونظيره وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 3 ) ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات أو المراد أنه موجود في سماء واحدة والثاني ترك للظاهر والأول على قسمين لأنه ءما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره والأول يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث أنه لو كان موجوداً في المسوات لكان محدوداً متنايهاً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلز فهو محدث والرابع أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق السموات أو لا يقدر والثاني يوجب تعجيزه والأول يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم والخامس أنه تعالى قال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وقال وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ ( الزخرف 84 ) وقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه الأول أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يعني وهو الله في تدبير السموات والارض كما يقال فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته ونظيره قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ كلام تام ثم ابتدأ وقال فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْمَلُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن والثالث أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسماً مشتقاً فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه وإذا جعلنا قولنا الله لفظاً مفيداً صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم
المسألة الثانية المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف والمراد بالجهر أعمال الجوارح وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول والعلة متقدمة على المعلول والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ(12/129)
المسألة الثالثة قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه سؤال وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يقتضي عطف الشيء على نفسه وأنه فاسد
والجواب يجب حمل قوله مَا تَكْسِبُونَ على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل عى كون الإنسان مكتسباً للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة ٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل والتأمل في الدلائل واجب ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل قال الواحدي رحمه الله من في قوله مّنْ ءايَة ٍ لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله مّنْ ءايَة ٍ مّنْ للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
أعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب فالمرتبة الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات والمرتبة الثانية كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض والمرتبة الثالثة كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات قال ابن مسعود انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة وقيل إنه القرآن وقيل إنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأحكام التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الوعد والوعيد الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى والأولى دخول الكل فيه(12/130)
وأما قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أبنأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى لّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ص 88 ) والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر حتى تزول عنه الشبهة ثم المراد من هذ العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاٌّ نْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم
فإن قيل ما القرن قلنا قال الواحدي القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر والدليل عليه قوله عليه السلام ( خير القرون قرني ) واشتقاقه من الأقران ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم القرن هو الستون وقال آخرون هو السبعون وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن
واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف 84 ) أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ ( القصص 57 ) وأما مكنته في الأرض فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ( الأحقاف 26 ) ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة مثل ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا
والصفة الثانية قوله وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً يريد الغيث والمطر فالسماء معناه المطر ههنا والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن(12/131)
يكون من نعت السحاب ويجوز أن يكون من نعت المطر يقال سحاب مدرار إذا تتابع أمطاره ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه قال مقاتل مُّدْرَاراً متتابعاً مرة بعد أخرى ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث
والصفة الثالثة قوله وَجَعَلْنَا الاْنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ والمراد منه كثرة البساتين
واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة ثم بيّن تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة بقي هاهنا سؤالات
السؤال الأول ليس في هذا الكرم إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره
والجواب ليس المقصود مننه الزجر بمجرد الموت والهلاك بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن
السؤال الثاني كيف قال أَلَمْ يَرَوْاْ مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضاً ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة
والجواب أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار
والسؤال الثالث ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم
والجواب أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم قوماً آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( الشمس 15 ) والله أعلم
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
اعلم أن الذين يتمردون عن قبولل دعوة الأنبياء طوائف كثيرة فالطائفة الأولى الذين بالغوا في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها إلى أن استغرقوا فيها واغتنموا وجدانها فصار ذلك مانعاً لهم عن قبول دعوة الأنبياء وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وبين أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق وليس من العقل تحممل العقاب الدائم لأجل اللذات المنقرضة الخسيسة والطائفة الثانية الذين يحملون معجزات(12/132)
الأنبياء عليهم السلام على أنها من باب السحر لا من باب المعجزة هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وهاهنا مسائل
المسألة الأولى بيّن الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر ومخرقة والمراد من قوله فِى قِرْطَاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر
فإن قيل ظهور الكتاب ونزوله من السماء هل هو من باب المعجزات أم لا فإن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكارهم لدلالته على النبوّة منكراً ولا يجوز أن يقال أنه من باب المعجزات لأن الملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الايمان بصدق الأنبياء والرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة وقبل الإيمان بالرسل لا شك أنا نجوز أن يكون نزول ذلك الكتاب من السماء من قبل بعض الجن والشياطين أو من قبل بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم وإذا كان هذا التجويز قائماً فقد خرج نزول الكتاب من السماء عن كونه دليلاً على الصدق
قلنا ليس المقصود ما ذكرتم بل المقصود أنهم إذا رأوه بقوا شاكين فيه وقالوا إنما سكرت أبصارنا فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الادراك البصري بالادراك اللمسي وبلغ الغاية في الظهور والقوة ثم هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة فهذا هو المقصود من الآية لا ما ذكرتم والله أعلم
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمنع العبد لطفاً علم أنه لو فعله لآمن عنده لأنه بيّن أنه إنما لا ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول ولا يجوز أن يخبر بذلك إلا والمعلوم أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة فثبت بهذا وجوب اللطف ولقائل أن يقول أن قوله لو أنزل الله عليهم هذا الكتاب لقالوا هذا القول لا يدل على أنه تعلى ينزله عليهم لو لم يقولوا هذا القول إلا على سبيل دليل الخطاب وهو عنده ليس بحجة وأيضاً فليس كل مما فعله الله وجب عليه ذلك وهذه الآية إن دلّت فإنما تدل على الوقوع لا على وجوب الوقوع والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاٌّ مْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوّات فإنهم يقولون لو بعث الله إلى الخلق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والشبهات والشكوك في نبوّتهم ورسالتهم أقل(12/133)
والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاءً إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى فلما كان وقوع الشبهات في نبوّة الملائكة أقل وجب لو بعث الله رسولاً إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين أما الأول فقوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة ثم هاهنا وجوه الأول أن إنزال الملك على البشر آية باهرة فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ إلى قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فإن سنّة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال فهاهنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون وتقريره أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر فإن كان الأول لم يبقَ الآدمي حياً ألا ترى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكاً أو بشراً ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط وكالذين تسوروا المحراب وكجبريل حيث تمثل لمريم بشراً سوياً والوجه الثالث أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء وإزالة الاختيار وذلك مخل بصحة التكليف الوجه الرابع أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه
وأما قوله ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ فالفائدة في كلمة ثُمَّ التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأما الثاني فقوله وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً أي لجعلناه في صورة البشر والحكمة فيه أمور أحدها أن الجنس إلى الجنس أميل وثانيها أن البشر لا يطيق رؤية الملك وثالثها ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي ورابعها أن النبوّة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً أو بشراً
ثم قال وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ قال الواحدي يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً وأصله من التستر بالثوب ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشراً فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيراً لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيساً لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم يقولون للقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولاً من عند الله تعالى(12/134)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن بعض الأقوام الذين كانوا يقولون إن رسول الله يجب أن يكون ملكاً من الملائكة كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل الاستهزاء وكان يضيق قلب الرسول عند سماعه فذكر ذلك ليصير سبباً للتخفيف عن القلب لأن أحداً ما يخفف عن القلب المشاركة في سبب المحنة والغم فكأنه قيل له إن هذه الأنواع الكثيرة من سوء الأدب التي يعاملونك بها قد كانت موجودة في سائر القرون مع أنبيائهم فلست أنت فريداً في هذا الطريق وقوله فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ الآية ونظيره قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) وفي تفسيره وجوه كثيرة لأهل اللغة وهي بأسرها متقاربة قال النضر وجب عليهم قال الليث ( الحيق ) ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء يعمله فنزل ذلك به يقول أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم وقال الفرّاء ( حاق بهم ) عالد عليهم وقيل ( حاق بهم ) حل بهم ذلك وقال الزجاج ( حاق ) أي أحاط قال الأزهري فسّر الزجاج ( حاق ) بمعنى أحاط وكان مأخذخ من الحوق وهو ما استدار بالكمرة وفي الآية بحث آخر وهو أن لفظة ( ما ) في قوله مَّا كَانُوا بِهِ فيها قولان الأول أن المراد به القرآن والشرع وهو ما جاء به محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير فتصير هذه الآية من باب حذف المضاف والتقدير فحاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزؤن
والقول الثاني أن المراد به أنهم كانوا يستهزؤن بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى هذا الإضمار
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى فكذلك حذر القوم بهذه الآية وقال لرسوله قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بدّ وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار
فإن قيل ما الفرق بين قوله الاْرْضِ فَانظُرُواْ ( آل عمران 137 ) وبين قوله ثُمَّ انْظُرُواْ
قلنا قوله فَانظُرُواْ يدل على أنه تعالى جعل النظر سبباً عن السير فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين(12/135)
وأما قوله سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ثم نبّه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة ثُمَّ لتباعد ما بين الواجب والمباح والله أعلم
قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع وتقرير المعاد وتقرير النبوّة وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها ومتى كان كذلك فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بدّ وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصّه بتلك الصفة المعينة فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت كونه قادراً على الاعادة والحشر والنشر لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما فوجب صحة الاعادة ثانياً وأيضاً ثبت أنه تعالى ملك مطاع والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده ولا بد من مبلغ وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ سؤال وقوله قُل لِلَّهِ جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا يقدر على دفعه دافع ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة وأيضاً فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ثم إنه(12/136)
تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلاهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه تعالى قال إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام بل أبداً ينعم وأبداً يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعالجلهم بالعقوبة في الدنيا وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لما فرغ الله من الخلق كتب كتاباً أن رحمتي سبقت غضبي )
فإن قيل الرحمة هي إرادة الخير والغضب هو إرادة الانتقام وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى والمسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة
قلنا المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض فعنده تسع وتسعون رحمة وقسم رحمة واحدة بين الخلائق فبها يتعاطفون ويتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين
أما قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ففيه أبحاث الأول ( اللام ) في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قسم مضمر والتقدير والله ليجمعنكم
البحث الثاني اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ وذلك لأنه تعالى بيّن كمال إلهيته بقوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ثم بيّن تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال وبيّن أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أنه يمهلهم وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا
والقول الثاني أنع متعلق بما قبله والتقدير كتب ربكم على نفسه الرحمة وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة
وقيل أنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه قيل وما تلك الرحمة فقيل إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم الققيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فكان قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كالتفسير لقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ
البحث الثالث أن قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ كلام ورد على لفظ الغيبة وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كلام ورد على سبيل المخاطبة والمقصود منه التأكيد في التهديد كأنه قيل لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا(12/137)
يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل
البحث الرابع ان كلمة إِلَى في قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فيها أقوال الأول أنها صلة والتقدير ليجمعنكم يوم القيامة وقيل إِلَى بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة
وقيل فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان وقيل ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه أبحاث الأول في هذه الآية قولان الأول أن قوله الَّذِينَ موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ والمعنى ليجعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش والثاني وهو قول الزجاج أن قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم رفع بالابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ مشتمل على الكل على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم ( والفاء ) في قوله فَهُمُ يفيد معنى الشرط والجزاء كقولهم الذي يكرمني فله درهم لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الاكرام شرطاً والدرهم جزاء
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم والأمر على العكس
قلنا هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع من الايمان وذلك عين مذهب أهل السنّة
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أحسن ما قيل في نظم هذه الآية ما ذكره أبو مسلم رحمه الله تعالى فقال ذكر في الآية الأولى السموات والأرض إذ لا مكان سواهما وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ومالك للزمان والزمانيات وهذا بيان في غاية الجلالة(12/138)
وأقول ههنا دقيقة أخرى وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية قوله وله ما سكن في الليل والنهار يفيد الحصر والتقدير هذه الأشياء له لا لغيره وهذا هو الحق لأن كل موجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته فالواجب لذاته ليس إلا الواحد وما سوى ذلك الواحد ممكن والممكن لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل ما حصل بإيجاده وتكوينه كان ملكا له فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه ومالكه فلهذا السبب قال وله ما سكن في الليل والنهار
المسألة الثالثة في تفسير هذا السكون قولان الأول أن المراد منه الشيء الذي سكن بعد أن تحرك فعلى هذا المراد كل ما استقر في الليل والنهار من الدواب وجملة الحيوانات في البر والبحر وعلى هذا التقدير قالوا في الآية محذوف والتقدير وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر النحل 81 أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك بالقرينة المذكورة كذلك هنا حذف ذكر الحركة لأن ذكر السكون يدل عليه
والقول الثاني أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة بل المراد منه السكون بمعنى الحلول كما يقال فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه ومنه قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم إبراهيم 45 وعلى هذا التقدير كان المراد وله كل ما حصل في الليل والنهار والتقدير كل ما في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا وهذا التفسير أولى وأكمل والسبب فيه أن كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أن انقضى الماضي وسيجيء المستقبل وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث والحدوث ينافي الأزلية والدوام فكل ما مر به الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث وكل حادث فلا بد له من محدث وفاعل ذلك الفعل يجب أن يكون متقدما عليه والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان فلا تجري عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أن كان وسيكون
واعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات بين أنه سميع عليم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين والمقصود منه الرد على من يقول الإله تعالى موجب بالذات فنبه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات لكنه فاعل مختار يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى ولما قرر هذه المعاني قال قل أغير الله أتخذ وليا
واعلم انه فرق بين أن يقال أغير الله أتخذ وليا وبين أن يقال أتخذ غير الله وليا لأن الانكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا لا على اتخاذ الولي وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعني فكان قوله قل أغير الله أتخذ وليا أولى من العبارة الثانية ونظيره قوله تعالى أفغير الله تأمروني أعبد الزمر 64 وقوله تعالى الله أذن لكم يونس 59(12/139)
ثم قال فاطر السموات والأرض وقرئ فاطر السموات بالجر صفة لله وبالرفع على إضمار هو والنصب على المدح وقرأ الزهري فطر السموات وعن ابن عباي ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه فقوله فاطر السموات والأرض يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض فلما كان الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد ففاطر السموات من الاصلاح لا غير وقوله هل ترى من فطور الملك 3 و إذا السماء انفطرت الانفطار 1 من الإفساد وأصلهما واحد
ثم قال تعالى وهو يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد
فإن قيل كيف فسرت الاطعام بالرزق وقد قال تعالى ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون الذاريات 57 والعطف يوجب المغايرة
قلنا لا شك في حصول المغايرة بينهما إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة ~ والمقصود من الآية أن المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وروى ابن المأمون عن يعقوب وهو يطعم ولا يطعم على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل وعلى هذا التقدير فالضمير عائد إلى المذكور في قوله أغير الله وقرأ الأشهب وهو يطعم ولا يطعم على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله وهو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا واحتج عليه بأنه فاطر السموات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا أما بيان أنه فاطر السموات والأرض فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الاطعام عبارة عن إيصال المنافع وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات والأرض وصحة أن يطعم ولا يطعم وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته وترك الغني الجواد والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل
وإذا عرفت هذا فنقول قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة هو القريب وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه فقوله قل أغير الله أتخذ وليا يمنع من القرب من غير الله تعالى فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى
ثم قال تعالى قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم والسبب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سابق أمته في الإسلام(12/140)
لقوله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين الأنعام 163 ولقول موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين الأعراف 143
ثم قال ولا تكونن من المشركين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ثم إنه تعالى لما بين كون رسوله مأمورا بالإسلام ثم عقبه بكونه منهيا عن الشرك قال بعده إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم والمقصود أني إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا للعذاب العظيم
فإن قيل قوله قل إني أخاف غن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يدل على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا
والجواب أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف ومثاله قولنا إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين وهذا يدل على أن الخمسة زوج ولا على كونها منقسمة بمتساويين والله أعلم
وقوله تعالى إني أخاف قرأ ابن كثير ونافع إني بفتح الياء وقرأ أبو عمرو والباقون بالإرسال
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي يُصْرَفْ بفتح الياء وكسر الراء وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى ( الأنعام 15 ) والتقدير من يصرف هو عنه يومئذ العذاب وحجة هذه القراءة قوله فَقَدْ رَحِمَهُ فلما كان هذا فعلاً مسنداً إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان وعلى هذا التقدير صرف العذاب مسنداً إلى الله تعالى وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى وأما الباقون فإنهم قرؤا مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ على فعل ما لم يسم فاعله والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف الغذاب إلى اليوم في قوله عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الإنعام 15 ) فلذلك أضاف الصرف إليه والتقدير من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفاً وذلك محال بل المراد عذاب ذلك اليوم وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعاً على سبيل التفضل أما لو كان واجباً مستحقاً لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه أما إذا حسن منه أن(12/141)
يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى وهو موافق لما يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ووضع يده فوق رأسه وطول بها صوته
المسألة الرابعة قال القاضي الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب فلا بد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب لكنه يتفضل عليه
فإن قيل أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم
قلنا هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه الأول أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى وليس يكون ذلك مطلوباً من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب فلا بدّ وأن يفيد أمراً مطلوباً والثاني أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة وذلك لا يكون إلا ثواباً والثالث أن الآية معطوفة على قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأنعام 15 ) والمقابل للعذاب هو الثواب فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جداً وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدُيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله والدليل على أن الأمر كذلك أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكناً لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب(12/142)
لذاته وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه
فإن قيل قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره وذلك يقدح في عموم الآية وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى ورأس الخيرات هو الإيمان فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا يفعل الإيمان ثواباً وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية
والجواب عن الأول أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين الأول أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة والثاني أنه قال في إمساس الضر فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وذكر في إمساس الخير فَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدُيرٌ فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي )
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن صفات الكماب محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا كيف أهملتم وجوب الوجود
قلنا ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكناً لذاته واجباً بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو وكل من سواه فهو ناقص
إذا عرفت هذا فنقول أما دلالة كونه قاهراً على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهراً لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه(12/143)
كل ما ذكره الله تعالى في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( آل عمران 26 ) إلى آخر الآية وأما كونه حكيماً فلا يمكن حمله ههنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز فوجب حمله على كونه محكماً في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي قال الواحدي وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال والخبر علمك بالشيء تقول لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان موجوداً فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب وإما أن يكون ذاهباً في الأقطار متمدداً في الجهات والأول يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباآت الواقعة في كوة البيت وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني كان متبعضاً متجزئاً وذلك على الله محال والثاني أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص فيكون محدثاً أو يكون متناهياً من بعض الجوانب دون البعض فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهياً غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة والثالث إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء فإن كان الأول فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك فلو صحّ حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخاء لصح حصوله في سائر الأجزاء ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص وكل ما كان واقعاً بالفاعل المختار فهو محدث فحصول ذاته في الجزء محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم كون ذاته محدثة ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز
وإذا ثبت هذا فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال
وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزهاً عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات والخامس أنه ثبت أن العالم كرة
وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين
وإذا ثبت هذا فإما أن يقال إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم أو يقال إنه تعالى فوق الكل والأول باطل لأن كونه فوقاً لبعضهم يوجب كونه تحتاً لآخرين وذلك باطل والثاني يوجب كونه تعالى محيطاً بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم والسادس هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر(12/144)
والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله عِبَادِهِ وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة
فإن قيل ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ دل على كمال القدرة فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار فوجب حمله على فوقية المكان والجهة
قلنا ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله فَوْقَ عِبَادِهِ دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل والسابع وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية رداً على من يتخذ غير الله ولياً والتقدير كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله ولياً وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية الفوقية بالقدرة والقوة أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلاً في جهة فوق أن يكون التويل عليه في كل الأمور مفيداً وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازماً أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم
قُلْ أَى ُّ شَى ْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءَانُ لاٌّ نذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَة ً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى
أما الاحتمال الأول فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك رسولاً وما نرى أحداً يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن وهذا القرآن معجز لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزاً كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقاً في دعواي والحاصل أنهم طلبوا شاهداً(12/145)
مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو لله ثم بيّن أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فهذا تقرير واضح
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة وهي أنا نقول المطالب على أقسام ثلاثة منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع وإلا لزم الدور ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلاً فلا امتناع في أحد الطرفين أصلاً فالقطع على أحد الطرفين يعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معاً وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية
إذا عرفت هذا فنقول قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والاضداد والأنداد والأمثال والأشباه
ثم قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب وأن القول بالشرك باطل مردود
المسألة الثانية نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئاً
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتاً موجوداً وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته اعالى بكونه شيئاً فيكون هذا خلافاً في مجرد العبارة واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ اللَّهُ وهذا يوجب كونه تعالى شيئاً كما أنه لو قال أي الناس أصدق فلو قيل جبريل كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا
فإن قيل قوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله اللَّهِ مبتدأ وقوله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ خبره وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها
قلنا الجواب في وجهين الأول أن نقول قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً لا شك أنه سؤال ولا بدّ له من جواب إما مذكور وإما محذوف
فإن قلنا الجواب محذوف فنقول هذا على خلاف الدليل وأيضاً فبتقدير أن يكون الجواب محذوفاً إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ وأن يكون أمراً يدل المذكور عليه ويكون لائقاً بذلك الموضع
والجواب اللائق بقوله أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً هو أن يقال هو الله ثم يقال بعده اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضاً على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل(12/146)
وفي المسألة دليل رخر وهو قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) والمراد بوجهه ذاته فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله كُلّ شَى ْء والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه الأول قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة والتقدير ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثاً باطلاً لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة والثاني قوله تعالى دالله خالق كل شيء ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتاً من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى الأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال إن هذا اللفظ ليس اسماً من أسماء الله تعالى ألبتة الرابع أن اسم الشيء يتناول المعدوم فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( الكهف 23 ) سمى الشيء الذي سيفعله غداً باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غداف يكون معدوماً في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم
وإذا ثبت هذا فقولنا إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجوداً فيكون هذا لفظاً لا يفيد فائدة في حق الله تعالى ألبتة فكان عبثاً مطلقاً فوجب أو لا يجوز إطلاقه على الله تعالى
والجواب عن هذه الوجوه أن يقال لما تعارضت الدلائل
فنقول لفظ الشيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العام فمتى صدق فيه كونه ذاتاً وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئاً وذلك هو المطلوب والله أعلم
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به وهو خطاب لأهل مكة وقوله دومن بلغ ذ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم وقيل من الثقلين وقيل من بلغه إلى يوم القيامة وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف والتقدير وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه(12/147)
كما يقال الذي رأيت زيد والذي ضربت عمرو وفي تفسير قوله وَمَن بَلَغَ قول آخر وهو أن يكون قوله وَمَن بَلَغَ أي ومن احتلم وبلغ حد التكليف وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ فنقول فيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير ( أينكم ) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد
والبحث الثاني أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار قال لفراء ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال وَاللَّهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( طه 51 ) ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب
ثم قال تعالى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ
واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه أولها قوله قُل لاَّ أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء وثانيها قوله قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء وثالثها قوله إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد قال العلماء المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد
الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته فبيّن الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمداً عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوّة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى(12/148)
وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام فكيف يصح أن يقال علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن كيون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبياً من عند الله تعالى والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك والأول باطل لاْن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علمهم بنبوة أبنائهم وحينئذٍ يسقط هذا الكلام
والجواب عن الأول أن يقال المراد ب الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ اليهود والنصارى وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه قولان الأول أن قوله دالذين صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره وفي قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ وجهان الأول أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلة في الجنة فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بيّن في هذه الآية سبب ذلك الخسران وهو أمران أحدهما أن يفترى على الله كذباً وهذا الافتراء يحتمل وجوهاً الأول أن كفرا(12/149)
مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء الله والله سبحانه وتعالى أمرهم بعبادتها والتقرب إليها وكانوا أيضاً يقولون الملائكة بنات الله ثم نسبوا إلى الله تحريم البحائر والسوائب وثانيها أن اليهود والنصارى كانوا يقولون حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ والتغيير وأنهما لا يجيء بعدهما نبي وثالثها ما ذكره الله تعالى في قوله وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) ورابعها أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وكانوا يقولون لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وخامسها أن بعض الجهال منهم كان يقول إن الله فقير ونحن أغنياء وأمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها ألى الله كثيرة وكلها افتراء منهم على الله
والنوع الثاني من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات الله والمراد منه قدحهم في معجزات محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وطعنهم فيها وإنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا وفي الآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ففي ناصب قوله وَيَوْمَ أقوال الأول أنه محذوف وتقديره وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كان كيت وكيت فترك ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف والثاني التقدير اذكر يوم نحشرهم والثالث أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبداً ويوم نحشرهم
وأما قوله ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ فالمقصود منه التقريع والتبكيت لا السؤال ويحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء ويحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم وعلى كلا الوجهين لا يكون الكلام إلا توبيخاً وتقريعاً في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه وصار ذلك تنبيهاً لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة والعائد على الموصول من قوله الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ محذوف والتقدير الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه قال ابن عباس وكل زعم في كتاب الله كذب
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
أعلم أن ههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحفص عن عاسم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بالتاء المنقطة من فوق وفتنتهم بالرفع وقرأ حمزة والكسائي ثُمَّ لَمْ يَكُنِ بالياء وفتنتهم بالنصب وأما القراءة بالتاء المنقطة من فوق ونصب الفتنة فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لسكونه اسم تكن وإنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك(12/150)
أو لأن ما قالوا فتنة في المعنى ويجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم وأما القراءة بالياء المنقطة من تحت ونصب فتنتهم فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لكونه اسم يكن وفتنتهم هو الخبر قال الواحدي الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر فكما أن المظهر والمضمر إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذا ههنا تقول كنت القائم فجعلت المضمر اسماً والمظهر خبراً فكذا ههنا ونقول قراءة حمزة والكسائي والله ربنا بنصب قوله ربنا لوجيهن أحدهما بإضمار أعني وأذكر والثاني على النداء أي والله يا ربنا والباقون بكسر الباء على أنه صفة لله تعالى
المسألة الثانية قال الزجاج تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك وذلك أن الله تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه فاعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ومثاله أن ترى إنساناً يحب عارياً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة ههنا افتتانهم بالأوثان ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ معناه شركهم في الدنيا وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان إلا أن فررت منه وتركته
المسألة الثالثة ظاهر الآية يقتضي أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة وللناس فيه قولان الأول وهو قول أبي علي الجبائي والقاضي أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه الأول أن أهل القيامة يرعفون الله تعالى بالاضطرار إذ لو عرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف وذلك باطل وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح وأنه لا يجوز فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ءنه لا يجوز منهم فعل القبيح إذ كانوا عقلاء إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم فقالوا هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم أو يقال إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا
والجواب عن الأول أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم ويورد عليهم التوبيخ بقوله أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ ( الأنعام 22 ) ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى وأيضاً فالمكلفون لا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين
والجواب عن الثاني أن النسيان لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا(12/151)
يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال وءن بعد العهد وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهراً طويلاً ومع ذلك فقد نسيه ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة
الحجة الثانية أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب
الحجة الثالثة أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح والذنب وذلك يوجب العقاب فتصير الدار الآخرة دار التكليف وقد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك وأما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب وعلى ذلك الحلف الكاذب عقاباً وذماً فهذا يقتضي حصول الاذن من الله تعالى في ارتكاب القبائح والذنوب وأنه باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب
وإذا ثبت هذا فعند ذلك قالوا يحمل قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أي ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك
فإن قيل فعلى هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عد أنفسهم فلماذا قال الله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولنا أنه ليس تحت قوله انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة والحاصل أن المقصود من قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ اختلاف الحالين وأنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون ولا يحترزون عنه وأنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب ولكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر الله تعالى للرسول ذلك وبين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم ويزعمون أنهم على صواب هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي
والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه الأول أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( المؤمنون 107 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) والثاني قوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَى ْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( المجادلة 18 ) بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( المجادلة 14 ) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا والثالث قوله تعالى حكاية عنهم قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( الكهف 19 ) وكل(12/152)
ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب والرابع قوله حكاية عنهم وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص والخامس أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم أَنَّهُمْ قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر ثم حمل قوله بعد ذلك انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول لا يبعد أي يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك وأما قوله ثانياً المكلفون لا بدّ أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم
أما قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ فالمراد إنكارهم كونهم مشركين وقوله وَضَلَّ عَنْهُم عطف على قوله كَذَّبُواْ تقديره وكيف ضل عنهم ما كانوا يفترون بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأُمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره مثل عنان وأعنة والفعل منه كننت وأكننت وأما قوله أَن يَفْقَهُوهُ فقال الزجاج موضع ءانٍ نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت ( اللام ) نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى ( أن ) وقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال(12/153)
ابن السكيت الوقر الثقل في الأذن
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان الثاني أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) الثالث أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) وقال في آية أخرى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة 88 ) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ وإلا لزم التناقض والرابع أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين والسادس أن قوله حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه الأول قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ والثاني أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون
وإذا ثبت هذا فنقول لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان
والتأويل الثالث أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى
والتأويل الرابع أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً
والتأويل الخامس أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 )
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان وهو أن نقول بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى وذلك لأن العبد(12/154)
الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان وأما إن قلنا إن القادر على الكفر كان قادراً على الإيمان فنقول يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدراً للكفر دون الإيمان إلا عند انضمام تلك الداعية وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كناناً للقلب عن الإيمان ووقراً للسمع عن استماع دلائل الإيمان فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية
وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهرة هذه الآية وجب حمل هذه الآية عليه عملاً بالبرهان وبظاهر القرآن والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى قال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ فذكره بصيغة الإفراد ثم قال عَلَى قُلُوبِهِمْ فذكره بصيغة الجمع وإنما حسن ذلك لأن صيغة ( من ) واحد في اللفظ جمع في المعنى
وأما قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال بان عباس وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ لائقاً بهذا الكلام وأيضاً لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و حَتَّى في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل والجملة هي قوله إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يقول الذين كفروا ويجادلونك في موضع الحال وقوله يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تفسير لقوله يُجَادِلُونَكَ والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسّر مجادلتهم بأنهم يقولون إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قال الواحدي وأصل الأساطير من السطر وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس قال ابن السكيت يقال سطر وسطر فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور ومن قال سطر فجمعه أسطار والأساطير جمع الجمع وقال الجبائي واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة وقال الزجاج واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة وقال أبو زيد الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور أساطير الأولين ما سطره الأولون قال ابن عباس معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها فأما قول من فسر الأساطير بالترهات فهو معنى وليس مفسراً ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاماً لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات
المسألة الرابعة اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ القدح في كون القرآن معجزاً فكأنهم قالوا إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة والقصص المذكورة(12/155)
للأولين وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لمل يكن معجزاً خارقاً للعادة وأجاب القاضي عنه بأن قال هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة ولقائل أن يقول كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلاً لذلك ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزاً أنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة عللى أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
في الآية مسائل
اللمسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم طعنوا في كون القرآن معجزاً بأن قالوا إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام فالضمير في قوله عَنْهُ محتمل أن يكون عائداً إلى القرآن وأن يكون عائداً إلى محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي عن القرآن وتدبره والاستماع له وقال آخرون بل المراد ينهون عن الرسول
واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال بل لا بدّ وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوّته والإقرار برسالته وقال عطاء ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشاً عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه
والقول الأول أشبه لوجهين الأول أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم فكذلك قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ينبغي أن يكون محمولاً على أمر مذموم فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينى عن إيذائه لما حصل هذا النظم والثاني أنه تعالى قال بعد ذلك وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يعني به ما تقدم ذكره ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ النهي عن أذيته لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك
فإن قيل إن قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى قوله وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ لا إلى قوله يَنْهَوْنَ عَنْهُ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه مفارقة دينه وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول(12/156)
قلنا إن ظاهر قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال إن فلاناً يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه فلا يكون هذا الضرر متعلقاً بأحد الأمرين دون الآخر
المسألة الثانية اعلم أن أولئك الكفار كانوا يعاملون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوعين من القبيح الأول إنهم كانوا ينهون الناس عن قبول دينه والاقرار بنبوته والثاني كانوا ينأون عنه والنأي البعد يقال نأى ينأى إذا بعد ثم قال وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ قال ابن عباس أي وما يهلكون إلا أنفسهم بسبب تماديهم في الكفر وغلوهم فيه وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من الكفر والمعصية والله أعلم
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله وَلَوْ تَرَى يقتضي لله جواباً وقد حذف تفخيماً للأمر وتظيماً للشأن وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر ولو قدرت الجواب كان التقدير لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ألا ترى أنك لو قلت لغلامك والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي ولو قلت والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف ومنهم من قال جواب لَوْ مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب
المسألة الثانية قوله وُقِفُواْ يقال وقفته وقفاً ووقفته وقوفاً كما يقال رجعته رجوعاً قال الزجاج ومعنى وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ يحتمل ثلاثة أوجه الأول يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار والثاني يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم والثالث معناه عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك وقفت فلاناً على كلام فلان أي علمته معناه وعرفته وفيه وجه رابع وهم أنهم يكونون في جوف النار وتكون(12/157)
النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم ( على ) مقام ( في ) وإنما صح على هذا التقدير أن يقال وقفوا على النار لأن النار دركات وطبقات وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء
فإن قيل فلماذا قال وَلَوْ تَرَى وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذط وقفوا وكلمة إِذْ للماضي ثم قال بعده فقالوا وهو يدل على الماضي
قلنا أن كلمة ( إذ تقام مقام ( إذا ) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار
المسألة الثالثة قال الزجاج الإمالة في النار حسنة جيدة لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين
أما قوله تعالى فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا فأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه قولان أحدهما أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً
قلنا لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ومثاله أن يقول الرجل ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا تمن في حكم الوعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده
القول الثاني أن التمني تمّ عند قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ وأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان
المسألة الثانية قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع في الثلاثة فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة فأما الذين رفعوا قوله وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ففيه وجهان الأول أن يكون معطوفاً على قوله نُرَدُّ فتكون الثلاثة داخل في التمني فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين
والوجه الثاني أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول فيكون البقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد والمعنى يا ليتنا نرد(12/158)
ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً قال سيبويه وهو مثل قولك دعني ولا أعود فههنا المطلوب بالسؤال تركه فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب فكذا هنا قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ الداخل في هذا التمني الرد فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا الوجه الثاني أقوى وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني ويكون ما بعده إخباراً محضاً واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يجوز تكذيبه وهذا اختيار أبي عمرو وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة وذكرنا أنها ليست قوية وأما من قرأ وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ بالنصب ففيه وجوه الأول بإضمار ( أن ) على جواب التمني والتقدير يا ليتنا نرد وأن لا نكذب والثاني أن تكون الواو مبدلة من الفاء والتقدير يا ليتنات نرد فلا نكذب فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قولن لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( الزمر 58 ) ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ فَلا نُكَذّبَ بالفاء على النصب والثالث أن يكون معناه الحال والتقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين كما تقول العرب لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تأكل السمك شارباً للبن
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع وَلاَ نُكَذّبَ وينصب وَنَكُونَ فالتقدير أنه يجعل قوله وَلاَ نُكَذّبَ داخلاً في التمني بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط ولا بترك التكذيب و لا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني
فإن قيل كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة
والجواب من وجوه الأول لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل والثاني أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ ( المائدة 37 ) وكقوله أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( الأعراف 50 ) فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل فبأن يتمنوه أقرب لأن باب التمني أوسع لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية
ثم قال تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى بَلِ ههنا رد كلامهم والتقدير أنهم ما تمنوا العود إلى الدينا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه(12/159)
وعاينوه وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة فأما الرغبة فيه لطلب الثواب والخوف من العقاب فغير مفيد
المسألة الثانية المراد من الآية أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه الأول قال أبو روق إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل قال الواحدي وعلى هذا القول أهل التفسير الثاني قال المبرد بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم لأن مضار كفرهم كانت خفية فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ الثالث قال الزجاج بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه وَقَالُواْ إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ ( الأنعام 29 ) وهذا قول الحسن الرابع قال بعضهم هذه الآية في المنافقين وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام وبدا لهم يوم القيامة وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين الخامس قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم وهو معنى قوله تعالى لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 )
ثم قال تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب
فإن قيل إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله
قلنا قال القاضي تقرير الآية وَلَوْ رُدُّواْ إلى حالة التكليف وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول قال الواحدي هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك وذلك القضاء السابق فيهم وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ثم قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وفيه سؤال وهو أن يقال إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه(12/160)
والجواب أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ أما الباقي فهو إخبار ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني لأن إدخال التكذيب في التمني أيضاً جائز لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة كقول القائل ليت زيداً جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا ههنا والله أعلم
وَقَالُوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
اعلم أنه حصل في الآية قولان الأول أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبين في هذه الآية أن ذلك الذي يخفونه هو أمر المعاد والحشر والنشر وذلك لأنهم كانوا ينكرونه ويخفون صحته ويقولون ما لنا إلا هذه الحياة الدنيوية وليس بعد هذه الحياة لا ثواب ولا عقاب والثاني أن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا الحشر والنشر وقالوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة فقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ واعلم أن جماعة من المشبهة تمسكوا بهذه الآية وقالوا ظاهر هذه الآية يدل على أن أهل القيامة يقفون عند الله وبالقرب منه وذلك يدل على كونه تعالى بحث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه تارة أخرى
واعلم أن هذا خطأ وذلك لأن ظاهر الآية يدل على كونهم وافقين على الله تعالى كما يقف أحدنا على الأرض وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى وأنه بالاتفاق باطل فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه
التأويل الأول هو أن يكون المراد وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخر
التأويل الثاني أن المراد من هذا الوقوف المعرفة كما يقول الرجل لغيره وفقت على كلامك أي عرفته
التأويل الثالث أن يكون المراد أنهم وقفوا لأجل السؤال فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة(12/161)
من وقوف العبد بين يدي سيده والمقصود منه التعبير عن المقصود بالألفاظ الفصيحة البليغة
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم ينكرون القيامة والبعث في الدينا ثم بيّن أنهم في الآخرة يقرون به فيكون المعنى أن حالهم في هذا الإنكار سيؤل إلى الإقرار وذلك لأنهم شاهدوا القيامة والثواب والعقاب قال الله تعالى أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ
فإن قيل هذا الكلام يدل على أنه تعالى يقول لهم أليس هذا بالحق وهو كالمناقض لقوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( البقرة 174 ) والجواب أن يحمل قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ أي لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع وعلى هذا التقدير يزول التناقض ثم إنه تعالى بيّن أنه إذا قال لهم أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا المقصود أنهم يعترفوتن بكونه حقاً مع القسم واليمين ثم إنه تعالى يقول لهم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وخص لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الاحساس وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم واعلم أنه تعالى ما ذكر هذا الكلام احتجاجاً على صحة القول بالحشر والنشر لأن ذلك الدليل قد تقدم ذكره في أول السورة في قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ( الأنعام 2 ) على ما قررناه وفسرناه بل المقصود من هذه الآية الردع والزجر عن هذا المذهب والقول
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران أحدهما حصول الخسران والثاني حمل الأوزار العظيمة
أما النوع الأول وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجل أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسراناً مبيناً لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضاً وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء فكان هذا هو الخسران المبين وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكراً للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية أما من كان مؤمناً بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر(12/162)
بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسراناً مبيناً وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد
والنوع الثاني من وجوه خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضاً في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها فمن كان منكراً للبعث والقيامة فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم فالأول هو المراد من قوله قَالُواْ يأَبَانَا ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا والثاني هو المراد من قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فهذا تقرير المقصود من هذه الآية
المسألة الثانية المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم فيه لأحد إلا لله تعالى ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا لله وقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ اللَّهِ بَغْتَة ً اعلم أن كلمة ( حتى ) غاية لقوله كَذَّبُواْ لا لقوله قَدْ خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى ( حتى ) ههنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة
فإن قيل إنما يتحسرون عند موتهم
قلنا لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والمراد بالساعة القيامة وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه الأول أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل ما هي إلا ساعة الحساب الثاني الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى ألا ترى أنه تعالى قال بَغْتَة ً والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله بَغْتَة ً انتصابه على الحال بمعنى باغتة أو على المصدر كأنه قيل بغتتهم الساعة بغتة ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا قال الزجاج معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 ) و نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ ( هود 72 ) وهذا أبلغ من أن يقال الحسرة علينا في تفريطنا ومثله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) تأويله يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع بي من الأسف فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة وقال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت يا عجب احضر وتعال فإن هذا زمانك(12/163)
إذا عرفت هذا فنقول حصل للنداء ههنا تأويلان أحدهما أن النداء للحسرة والمراد منه تنبيه المخاطبين وهو قول الزجاج والثاني أن المنادى هو نفس الحسرة على معنى أن هذا وقتك فاحضري وهو قول سيبويه وقوله عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه بحثان
البحث الأول قال أبو عبيدة يقال فرطت في الشيء أي ضيعته فقوله فَرَّطْنَا أي تركنا وضيعنا وقال الزجاج فرطنا أي قدمنا العجز جعله من قولهم فرط فلان إذا سبق وتقدم وفرط الشيء إذا قدمه قال الواحدي فالتفريط عنده تقديم التقصير
والبحث الثاني أن الضمير في قوله فِيهَا إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول قال ابن عباس في الدنيا والسؤال عليه أنه لم يجر للدنيا ذكر فكيف يمكن عود هذا الضمير إليها وجوابه أن العقل دل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عود الضمير إليها لهذا المعنى الثاني قال الحسن المراد يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة والمعنى على ما فرطنا في إعداد الزاد للساعة وتحصيل الأهبة لها والثالث أن تعود الكناية إلى معنى ما في قوله مَّا فَرَّطْنَا أي حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها والرابع قال محمد بن جرير الطبري الكناية تعود إلى الصفقة لأنه تعالى لما ذكر الخسران دل ذلك على حصول الصفقة والمبايعة
ثم قال تعالى وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فاعلم أن المراد من قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب وقوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب العظيم ولا شك أن ذلك نهاية الخسران قال ابن عباس الأوزار الآثام والخطايا قال أهل اللغة الوزر الثقل وأصله من الحمل يقال وزرت الشيء أي حملته أزره وزرا ثم قيل للذنوب أوزار لأنها تثقل ظهر من عملها وقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 ) أي لا تحمل نفس حاملة قال أبو عبيدة يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع أحمل وزرك وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل قال الزجاج وهم يحملون أوزارهم أي يحملون ثقل ذنوبهم واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار فقال المفسرون إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً ويقول أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ( مريم 85 ) قالوا ركباناً وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم فذلك قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وهذا قول قتادة والسدي وقال الزجاج الثقل كما يذكر في المنقول فقد يذكر أيضاً في الحال والصفة يقال ثقل على خطاب فلان والمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم وقال آخرون معنى قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أي لا تزايلهم أوزارهم كما تقول شخصل نصب عيني أي ذكرك ملازم لي
ثم قال تعالى أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ والمعنى بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه والاستقصاء في تفسير هذا اللفظ مذكور في سورة النساء في قوله وَسَاء سَبِيلاً ( سورة النساء 22 )(12/164)
وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة بعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها
واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول أن المراد منه حياة الكافر قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً
والقول الثاني ى ن هذا عام في حياة المؤمن والكافر والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة وإنما سماها باللعب واللهو لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة
واعلم أن تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه الأول أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الإنقضاء والزوال ومدة هذه الحياة كذلك الثاني أن اللعب واللهو لا بدّ وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكارة ولذات الدنيا كذلك الثالث أن اللعب واللهو إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور لا يبقى اللعب واللهو أصلاً وكذلك اللهو واللعب فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين أما العقلاء والحصفاء فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور وأما الحكماء المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة الرابع أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو وليس لهما حقيقة معتبرة ولما بين تعالى ذلك قال بعده وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ وصد الآخرة بكونها خيراً ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه الأول أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان فإن الجمل أكثر أكلاً والديك والعصفور أكثر وقاعاً والذئب أقوى على الفساد والتمزيق والعقرب أقوى على الايلام ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان(12/165)
الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس وأعلاهم درجة ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتاً مستقذراً مستحقراً يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص ومما يدل على ذلك أيضاً أن الناس إذا شتم بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات وإلا لما كان الأمر كذلك ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام ولذلك فإن كل من كان أشد جوعاً وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر ومما يدل عليه أيضاً أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيداف لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وكمال مرتبة اللذات الروحانية
الوجه الثاني في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا وهو أن نقول هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في عد القيامة معلوم قطعاً وأما الوصول إلى الخبرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة ثم أمسى أسيراً حقيراً وهذا التفاوت أيضاً يوجب المباينة بين النوعين
الوجه الثالث هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا أما كل ما جمعه من موجبات السعادات فإنه يعلم قطعاً أنه ينتفع به في الدار الآخرة
الوجه الرابع هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خالياً عن شوائب المكروهات وممازجة المحرمات الخوفات ولذلك قيل من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله قال ( سرور يوم بتمامه )
الوجه الخامس هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا(12/166)
فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ بإضافة الدار إلى الآخرة والباقون وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ على جعل الآخرة نعتاً للدار أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه ونظيره قولهم بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين وعند البصرين لا تجوز هذه الإضافة قالوا لأن الصفة نفس الموصوف وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة
واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل لأنه يعقل تصور الموصوف منفكاً عن الصفة ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالاً ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره إلا أنه لا يليق بهذا المكان ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة ابن عامر وجهاً رخر فقالوا لم يجعل الآخرة صفة للدار لكنه جعلها صفة للساعة فكأنه قال ولدار الساعة الآخرة
فإن قيل فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الأسماء والدليل عليه قوله وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( الضحى 4 ) وأما قراءة العامة فهي ظاهرة لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه قال ابن عباس هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال الحسن المراد نفس الآخرة خير وقال الأصم التمسك بعمل الآخرة خير وقال آخرون نعيم الآخرة من نعيم الدنيا من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض
ثم قال تعالى لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ فبيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر فأما الكافر والفاسق فلاا لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس وقرأ حفص عن عاصم في يس بالياء والباقي بالتاء وقرأ عاصم في وراية يحيى في يوسف بالتاء والباقي بالياء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الأعش والبرجمي جميع ذلك بالياء قال الواحدي من قرأ بالياء معناه أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك ومن قرأ بالتاء فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير والله أعلم(12/167)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن طوائف الكفار كانوا فرقاً كثيرين فمنهم من ينكر نبوته لأنه كان ينكر رسالة البشر ويقول يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شبهة هؤلاء وأجاب عنها ومنهم من يقول إن محمداً يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك محال وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته وقد ذكر الله تعالى ذلك وأجاب عنه بالوجوه الكثيرة التي تقدم ذكرها ومنهم من كان يشافهه بالسفاهة وذكر ما لا ينبغي من القول وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية واختلفوا في أن ذلك المحزن ما هو فقيل كانوا يقولن إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وهو قول الحسن وقيل إنهم كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه وشريعته وقيل كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال
المسألة الثانية قرأ نافع لَيَحْزُنُكَ بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنني كذا وأحزنني
المسألة الثالثة قرأ نافع والكسائي فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان الأول ى ن بينهما فرقاً ظاهراً ثم ذكروا في تقرير الفرق وجيهن أحدهما كان الكسائي يقرأ بالتخفيف ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه قال الزجاج معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويح بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل والفرق الثاني قال أبو علي يجوز أن يكون معنى لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يصادفونك كاذباً لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محموداً فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال
والقول الثاني أنه لا فرق بين هاتين القراءتين قال أبو علي يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة(12/168)
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحداً إلا إن فعلت إذا أرادوا أن يسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت
المسألة الرابعة ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه
الوجه الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات إحداها أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب وثانيها روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجاجة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( النمل 14 )
الوجه الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذباً ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا إنه ما كذب في سائر الأمور بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد
الوجه الثالث في التأويل أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ونظيره أن رجلاً إذا أهان عبداً لرجل آخر فقال هذا الآخر أيها العبد إنه ما أهانك وءنما أهانني وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن وتقريره أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
والوجه الرابع في التأويل وهو كلام خطر بالبال هو أن يقال المراد من قوله فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً وهو المراد من قوله وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل والله أعلم(12/169)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى فذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( الصفات 171 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم قال الأخفش مِنْ ههنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب وإنما تزاد مع النفي كما تقول ما أتاني من أحد وهي ههنا للتبعيض فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( غافر 78 ) وفاعل ( جاء ) مضمر أضمر لدلالة المذكور عليه وتقديره ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين
المسألة الثاني قوله تعالى دولا مبدل لكلمات الله يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الأرض أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَة ٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ(12/170)
في الآية مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نفر من قريش فقالوا يا محمد ائتنا من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فانا نصدق بك فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية والمعنى وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك وصحة القرآن فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فافعل
فالجواب محذوف وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان رخر ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى العقر ثم يصعد من ذلك العقر إلى وجه الأرض من جانب آخر فكأنه ينفق الأرض نفقاً أي يجعل له منفذاً من جانب آخر ومنه أيضاً سمي المنافق منافقاً لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طعمه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر
المسألة الثانية قوله تعالى دلو شاء الله لجمعهم على الهدى تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على(12/171)
السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ نهي له عن هذه الحالة وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) لا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أطاعهم وقبل دينهم والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة والله أعلم
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون وإنما يستجيب من يسمع كقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) قال علي بن عيسى الفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل أتوافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف
وأما قوله وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ففيه قولان الأول أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه
والقول الثاني أن المعنى وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم وقريء يَرْجِعُونَ بفتح الياء وأقول لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى والله أعلم(12/172)
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَة ً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم قالوال لو كان رسولاً من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة ا
ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال لو كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ ولما قال وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
والجواب عنه أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحداهم به فعجزا عن معارضته وذلك يدل على كونه معجزاً
بقي أن يقال فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
فنقول الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً على سبيل اللجاج والعناد وقالوا إنه من جنس الكتب والكتاب لا يكون من جنس المعجزات كما في التوراة والزبور والإنجيل ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة
والوجه الثاني أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى
والوجه الثالث أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفاً وسائر ما حكاه عن الكافرين
والوجه الرابع أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية
ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلٍ ءايَة ً يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جارياً مجرى التحكم والتعنت الباطل والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فإن فاعليته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السنة أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم فإن شاء أجابهم إليها وإن شاء لم يجبهم إليها
والوجه الثاني هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علة فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلّهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً ورابعاً وهكذا إلى ما(12/173)
لا غاية له وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة
والوجه الثالث أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة فلهذا المعنى قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
والوجه الرابع أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك فالمراد من قوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هو أن القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة وحينئذ كان الله تعالى يعطيهم ذلك المطلوب على أكمل الوجوه والله أعلم
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم فنقول فيه وجهان الأول أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها وهذا الجواب إنما يتم إطا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبيّن أن الأمر كذلك وقرره بأن قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في وصلو فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم
الوجه الثاني في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضاً بعده بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في أنهم(12/174)
يحشرون والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضاً حاصل في حق البهائم
المسألة الثانية الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين إما أن يدب وإما أن يطير وفي الآية سؤالات
السؤال الأول من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه
والجواب لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير لأنها تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران
السؤال الثاني ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض
والجواب من وجهين الأول أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجاً بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقاً مثلنا فغير ظاهر والثاني أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه
والجواب فيه من وجوه الأول أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال كلمته بفي ومشيت إليه برجلي الثاني أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير فقد يحصل الطيران لا بالجناح قال الحماسي
طاروا إليه زرافات ووحدانا
ذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير والثالث أنه تعالى قال في صفة الملائكة جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) فذكر ههنا قوله وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالاً من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه
السؤال الرابع كيف قال إِلاَّ أُمَمٌ مع إفراد الدابة والطائر
والجواب لما كان قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ وَلاَ طَائِرٍ دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقول وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله إِلاَّ أُمَمٌ على المعنى
السؤال الخامس قوله إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ قال الفرّاء يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ) فجعل الكلاب أمة
إذا ثبت هذا فنقول الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا وليس فيها ما يدل على أن هذه(12/175)
المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال المراد حصول الممائلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالا لنا في الصورة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك
والجواب اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالاً
القول الأول نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى وَأَنْ مِمَّنْ شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وبقوله في صفة الحيوانات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات
وعن أبي الدرداء أنه قال أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء معرفة الإله وطلب الرزق ومعرفة الذكر والأنثى وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثاً لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض )
والقول الثاني المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمماً وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها
القول الثالث المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة
القول الرابع أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقص للجماء من القرناء )
القول السادس ما اخترناه في نظم الآية وهو أن الكفار طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم(12/176)
القول السابع ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ هذه الآية قال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً إلا رواه عنه
ثم قال فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذار والاحتراز فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع
المسألة الثالثة ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة مخالطة عالم الملائكة وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقاً للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعباً واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه وقالوا قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطوير أمم ثم إنه تعالى قال وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولاً أرسله الله إليها ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد وقصة النمل وسائر القصص المذكورة في القرآن
واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ والله أعلم
ثم قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء وفي المراد بالكتاب قولان
القول الأول المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام كما قال عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
والقول الثاني أن المراد منه القرآن وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول كميف قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع(12/177)
والجواب أن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ولإحاطة بها وبيانه من وجهين الأول أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه الثاني أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيد أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع
فنقول أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها وأما تفاصيل علم الفروع فنقول للعلماء ههنا قولان الأول أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة
المثال الأول روي أن ابن مسعود كان يقول مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت يا بان أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال لعن الله الواشمة والمستوشمة ) وأقول يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( النساء 117 118 ) فحكم عليه باللعن ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ ( النساء 119 ) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن
المثال الثاني ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال ( لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ) فقال رجل ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور فقال ( لا شيء عليه ) فقال أين هذا في كتاب الله فقال قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثم ذكر إسناداً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال للمحرم قتل الزنبور قال الواحدي فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات وأقول ههنا طريق آخر أقرب منه وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات أولها التمسك بعموم قوله(12/178)
وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين وثانيها التسمك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وثالثها بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين ورابعها الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب
المثال الثالث قال الواحدي روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ) ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة إن اعترفت قال الواحدي وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو عين كتاب الله
وأقول هذا المثال حق لأنه تعالى قال لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة وأن خبر الواحد حجة وأن القياس حجة فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن فعند هذا يصح قوله تعالى وَمَا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء هذا تقرير هذا القول وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء ولقائل أن يقول حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول حمل قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة دي مدحه والثناء عليه ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن فوجب أن يقال إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول من يقول القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر ثم أكد هذه الآية بقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) وبقوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الانعام 59 ) فهذا تقرير مذهب هؤلاء والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه والله أعلم(12/179)
ولنرجع الآن إلى التفسير فنقول قوله مِن شَى ْء قال الواحدي مِنْ زائدة كقوله ما جاء لي من أحد وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئاً لم نبينه وأقول كلمة مِنْ للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج الملكف إلى معرفته في هذا الكتاب
وأما قوله ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة ويتأكد هذا بقوله تعالى وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ( التكوير 5 ) وبما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقتص للجماء من القرناء ) وللعقلاء فيه قولان
القول الأول أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض ولما كان إيصال العوض إليها واجباً فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها
والقول الثاني قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور
الحجة الأولى أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزماً للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزماً للذم محال لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزماً للذم بسبب أمر منفصل لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج
والحجة الثانية أنه تعالى مالك لكل المحدثات والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض
والحجة الثالثة أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل فثبت أن القول بالعوض باطل والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب
الفرع الأول قال القاضي كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله حشره عقلاً في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل فمن حيث السمع يقطع بذلك وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلاً فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بدّ وأن يحصل معه شيء من الإيلام وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة
الفرع الثاني كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله وهي أقسام منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية مثل السباع العادية والحشرات المؤذية ومنها آلمها بالأمراض ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضاً فذلك العوض على ذلك الظالم(12/180)
فإن قيل إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح ولذلك نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة
الفرع الثالث المراد من العوض منافع عظيم بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار
الفرع الرابع مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع قال القاضي وهو قول أكثر المفسرين لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها تراباً وعند هذا يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً قال أبو القاسم البخلي يجب أن يكون العوض دائماً واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملاً شاقاً والأجرة منقطعة فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة واحتج البخلي على قوله بأن قال إنه لا يمكن قطع ذلكالعوض إلا بإماتة تلك البهيمة وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهكذا إلى ما لا آخر له
والجواب عنه أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام والله أعلم
الفرع الخامس أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضاً فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم قولان الأول أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ( الأنعام 36 ) فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ( الأنعام 38 ) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم وفي أن عناية الله محيطة بهم ورحمته واصلة إليهم قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاماً ألبتة بكم لا ينطقون بالحق خائضون في ظلمات الكفر غافلون عن تأمل هذه الدلائل(12/181)
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 )
ثم قال تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى قالت المعتزلة الجواب عن هذا من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم
والوجه الثاني قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا فشبههم من هذا الوجه بهم وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه
والوجه الثالث قال الكعبي قوله صُمٌّ وَبُكْمٌ محمول على الشتم والإهانة لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة وأما قوله تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فقال الكعبي ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقوله يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ( المائدة 16 ) وقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 ) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه الأول أن المراد من قوله الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم والثاني مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين
وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيداً جداً وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله وبينا أن عند حصوله يجب الفعل فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله وبتخليقه وتقديره وتكوينه ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسداً قطعاً وأيضاً فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في(12/182)
تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وفي سائر الآيات فلا حاجة إلى الإعادة وأقربها أن هذا الاضلال والهداية معلقان بالمشيئة وعلى ما قالوه فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا اختلفوا في المراد بتلك الآيات فمنهم من قال القرآن ومحمد ومنهم من قال يتناول جميع الدلائل والحجج وهذا هو الأصح والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَة ُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ
أعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضاً أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفرزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ولا يتمردون عن طاعته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء للعرب في ( أرأيت ) لغتان إحداهما رؤية العين فإذا قلت للرجل رأيتك كان المراد أهل رأيت نفسك ثم يثنى ويجمع فنقول أرأيتكما أرأيتكم والمعنى الثاني أن تقول أرأيتك وتريد أخبرني وإذا أردت هذا المعنى تركت التاء مفتوحة على كل حال تقول أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن
إذا عرفت هذا فنقول مذهب البصريين أن الضمير الثاني وهو الكاف في قولك أرأيتك لا محل له من الاعراب والدليل قوله تعالى قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ ( الإسرار 62 ) ويقال أيضا أرأيتك زيداً ما شأنه ولو جعلت الكاف محلاً لكنت كأنك تقول أرأيت نفسك زيداً ما شأنه وذلك كلام فاسد فثبت أن الكاف لا محل له من الاعراب بل هو حرف لأجل الخطاب وقال الفراء لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع على التاء كما يقعان عليها عند عدم الكاف فلما فتحت التاء في خطاب الجمع ووقعت علامة الجمع على الكاف دل ذلك على أن الكاف غير مذكور للتوكيد ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة أرأيت فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها
أجاب الواحد عنه بأن هذه الحجة تبطل بكاف ذلك وأولئك فإن علامة الجمع تقع عليها مع أنها حرف للخطاب مجرد عن الاسمية والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع أَرَأَيْتُكُم وأشباه ذلك بتخفيف الهمزة في كل القرآن والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن والباقون بالهمزة أما تخفيف الهمزة فالمراد جعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي وأما مذهب الكسائي فحسن وبه قرأ عيسى بن عمر وهو(12/183)
كثير في الشعر وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا وسله وكما أنشد أحمد بن يحيى
وإن لم أقاتل فالبسوني برقعا
بحذف الهمزة أراد فألبسوني بإثبات الهمزة وأما الذين قرأوا بتخفيف الهمزة فالسبب أن الهمزة عين الفعل والله أعلم
المسألة الثالثة معنى الآية أن الله تعالى قال لمحمد عليه السلام قل يا محمد لهؤلاء الكفار إن أتاكم عذاب الله في الدنيا وأتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء والضر أو ترجعون فيه إلى الله تعالى ولما كان من المعلوم بالضرورة أنهم إنما يرجعون إلى الله تعالى في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان لا جرم قال تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يعني أنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية والمحنة إلا إلى الله تعالى
ثم قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم وتنسون ما تشركون به وفيه وجوه الأول قال ابن عباس المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع الثاني قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم وهذا قول الحسن لأنه قال يعرضون إعراض الناسي ونظيره قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ ( يونس 22 ) ولا يذكرون الأوثان
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يجيب الدعاء إن شاء وقد لا يجيبه لأنه تعالى قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ولقائل أن يقول إن قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) يفيد الجزم بحصول الإجابة فكيف الطريق إلى الجمع بين الآيتين
والجواب أن نقول تارة يجزم تعالى بالإجابة وتارة لا يجزم إما بحسب محض المشيئة كما هو قول أصحابنا أو بحسب رعاية المصلحة كما هو قول المعتزلة ولما كان كلا الأمرين حاصلاً لا جرم وردت الآيتان على هذين الوجهين
المسألة الخامسة حاصل هذا الكلام كأنه تعالى يقول لبدة الأوثان إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام والأثان فلم تقدمون على عبادة الأصنام التي لا تنتفعون بعبادتها ألبتة وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الحجة والدليل مقبولاً أما لو كان ذلك مردوداً وكان الواجب هو محض التقليد كان هذا الكلام ساقطاً فثبت أن هذه الآية أقوى الدلائل على أن أصل الدين هو الحجة والدليل والله أعلم(12/184)
وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الكفار عند نزول الشدائد يرجعون إلى الله تعالى ثم بين في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله عند كل ما كان من جنس الشدائد بل قد يبقون مصرين على الكفر منجمدين عليه غير راجعين إلى الله تعالى وذلك يدل على مذهبنا من أن الله تعالى إذا لم يهده لم يهتد سواء شاهد الآيات الهائلة أو لم يشاهدها وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء وحسن الحذف لكونه مفهوماً من الكلام المذكور وقال الحسن ( البأساء ) شدة الفقر من البؤس ( والضراء ) الأمراض والأوجاع
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ والمعنى إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوال بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا والمقصود منه التسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل أليس قوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا وههنا يقول قست قلوبهم ولم يتضرعوا
قلنا أولئك أقوام وهؤلاء أقوام آخرون أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الاخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفس والاثبات
ثم قال تعالى فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ معناه نفي التضرع والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وذكر كلمة ( لولا ) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فقال هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وإنما سلّط البأساء والضرّاء عليهم لإرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل
والجواب أن كلمة ( لعل ) تفيد الترجي والتمني وذلك في حق الله تعالى محال وأنتم حملتموه على(12/185)
إرادة هذا المطلوب ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى فإما تعليل حكم الله تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر وذلك لأنها تدل على أنهم لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم
فنقول تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن حصلت بفعل الله فالقول قولنا وأيضاً هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان إلا أن نقول ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد الله تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم والله أعلم
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَى ْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
واعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبين الله تعالى أنه أخذهم أولا بالبأساء والضراء لكي لا يتضرعوا ثم بين في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم أبواب كل شيء ونقلناهم من البأساء والضراء غلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء والمقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلم ينتفعوا به أيضا وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر ولا اقدام على اعتذار وتوبة فلا جرم أخذناهم بغتة
واعلم أن قوله فتحنا عليهم أبواب كل شيء معناه فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حتى إذا فرحوا أي حتى إذا ظنوا أن الذي نزل بهم من البأساء ما كان على سبيل الانتقام من الله ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا أن ذلك باستحقاقهم فعند ذلك ظهر أن قلوبهم قست وماتت في هذه الآية مكر بالقوم ورب الكعبة وقال ( صلى الله عليه وسلم ) { إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى } ثم قرأ هذه الآية قال أهل المعاني وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليمون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية وقوله فإذا هم مبلسون أي أيسون من كل خير قال(12/186)
الفراء المبلس الذي انقطع رجاؤه ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحسرة الحزين والابلاس في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة ويكون بمعنى انقطاع الحجة ويكون بمعنى الحيرة بما يرد على النفس من البلية وهذه المعاني متقاربة
ثم قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا الدابر التابع للشيء من خلفه كالولد للوالد يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم قالل أمية بن أبي الصلت فاستؤصلوا بعذاب حص دابرهم
فما استطاعوا له صرفا ولا انتصرا
وقال أبو عبيدة دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أذهب الله أصله وقوله والحمد لله رب العالمين فيه وجوه الأول معناه أنه تعالى حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم لأن ذلك كان جاريا مجرى النعمة العظيمة على أولئك الرسل في إزالة شرهم عن أولئك الأنبياء والثاني أنه تعالى لما علم قسوة قلوبهم لزم أن يقال إنه كلما ازدادت مدة حياتهم ازدادت أنواع كفرهم ومعاصيهم فكانوا يستوجبون به مزيد العقاب والعذاب فكان افناؤهم واماتتهم في تلك الحالة موجبا أن يصيروا مستوجبين لتلك الزيادات من العقاب فكان ذلك جاريا مجرى الإنعام عليهم والثالث أن يكون هذا الحمد والثناء إنما حصل على وجود انعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل الوجوه الممكنة في التدبير الحسن وذلك بأن أخذهم أولا بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلا الآلاء والنعماء وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم فلما لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والكفر افناهم الله وطهر وجه الأرض من شرهم فكان قوله الحمد لله رب العالمين على تلك النعم الكثيرة المتقدمة
قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب فالأذن محل القوة السامعة والعين محل القوة الباصرة والقلب محل الحياة والعقل والعلم فلو زالت هذه الصفات عن هذه الأعضاء اختل أمر الإنسان وبطلت مصالحه في الدنيا وفي الدين ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها(12/187)
وصونها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله سبحانه وتعالى فوجب أن يقال المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة
المسألة الثانية ذكروا في قوله وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وجوهاً الأول قال ابن عباس معناه وطبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى الثاني معناه وأزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين والثالث المراد بهذا الختم الاماتة أي يميت قلوبكم
المسألة الثالثة قوله مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ رفع بالابتداء وخبره إِلَهٍ و غَيْرِ صفة له وقوله يَأْتِيكُمْ بِهِ هذه الهاء تعود على معنى الفعل والتقدير من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم
المسألة الرابعة روي عن نافع بِهِ انْظُرْ بضم الهاء وهو على لغة من يقرأ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 ) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار بِهِ انْظُرْ والباقون بكسر الهاء وقرأ حمزة والكسائي يَصْدِفُونَ باشمام الزاي والباقون بالصاد أي يعرضون عنه يقال صدف عنه أي أعرض والمراد من تصريف الآيات إيرادها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحث يكون كل واحد منها يقوي ما قبل في الايصال إلى المطلوب فذكر تعالى أن مع هذه المبالغة في التفهيم والتقرير والإيضاح والكشف انظر يا محمد أنهم كيف يصدفون ويعرضون
المسألة الخامسة قال الكعبي دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم ولم يخلق فيهم الاعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيجها وإزالة جهات الشبهات عنها ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تمادياً في الكفر والغي والعناد وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره
فإن قيل ما المراد بقوله بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة فالأول هو البغتة والثاني هو الجهرة والأول(12/188)
سماه الله تعالى بالبغتة لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه
وعن الحسن أنه قال بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً معناه ليلاً أو نهاراً وقال القاضي يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره استقام الكلام
فإن قيل فما المراد بقوله هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز
قلنا إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى فذاك وإن كان بلاء في الظاهر إلا أنه يوجب سعادات عظيمة
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي كيف دارت قضيته واختلفت أحواله والله أعلم
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) وذكر الله تعلى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ مبشرين بالثواب على الطاعات ومنذرين بالعقاب على المعاصي فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل قال القاضي إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك فيقال له هذا معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذباً بآيات الله أن يلحقه الوعيد أصلاً وأيضاً فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللاً بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوّة والمعاد مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء والله أعلم(12/189)
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام إنما بعثت مبشراً ومنذراً وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة أولها قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها ويفتح علينا أبواب سعادتها فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وثانيها قوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فلا بدّ وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ولدفع تلك المضار فقال تعالى قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد وثالثها قوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ ومعناه أن الوقم كانوا يقولون مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) ويتزوج ويخالط الناس فقال تعالى قل لهم إني لست من الملائكة
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة
فالقول الأول أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه الواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام
والقول الثاني أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية كقولهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوّة وأما هذه الأمور التي طلبتموها فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه(12/190)
والقول الثالث أن المراد من قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ معناه إني لا أدعي كوني موصوفاً بالقدرة اللائقة بالإله تعالى وقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أدعي كوني موصوفاً بعلم الله تعالى وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية
ثم قال وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي
المسألة الثانية قال الجبائي الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك قال القاضي إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل
المسألة الثالثة قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين
الحكم الأول
أن هذا النص يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ويتأكد هذا بقوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 )
الحكم الثاني
إن نفاة القياس قالوا ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) وذلك ينفي جواز العمل بالقياس ثم أكد هذا الكلام بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير
ثم قال أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلاً عن معرفته والله أعلم
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(12/191)
اعلم أنه تعالى لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول في هذه الآية بالانذار فقال وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الإنذار ) الاعلام بموضع المخافة وقوله بِهِ قال ابن عباس والزجاج بالقرآن والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقال الضحاك وَأَنذِرْ بِهِ أي بالله والأول أولى لأن الانذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى
وأما قوله الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ ففيه أقوال الأول أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم من عذاب الآخرة وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقاً فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء لا يجوز حمله على المؤمنين لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم والعلم خلاف الخوف والظن ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون لأنهم وإن تيقنوا الحشر فلم يتيقنوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم أن يموت أحدهم على الإيمان والعمل الصالح وتجويز أن لا يموتوا على هذه الحالة فلهذا السبب كانوا خائفين من الحشر بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه
والقول الثاني أن المراد منه المؤمنون لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم
والقول الثالث أنه يتناول الكل لأن لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكاً فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائماً في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل وكان مأموراً بالتبليغ إلى الكل وخص في هذه الآية الذين يخافون الحشر لأن انتفاعهم بذلك الانذار أكمل بسبب أن خوفهم يحملهم على إعداد الزاد ليوم المعاد
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ وهذا يقتضي كون الله تعالى مختصاً بمكان وجهة لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية
والجواب المراد إلى المكان الذي جعله ربهم لاجتماعهم وللقضاء عليهم
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ قال الزجاج موضع لَّيْسَ نصب على الحال كأنه قيل متخلين من ولي ولا شفيع والعامل فيه يخافون ثم ههنا بحث وذلك لأنه إن كان المراد من الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ الكفار فالكلام ظاهر لأنهم ليس لهم عند الله شفعاء وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والله كذبهم فيه وذكر أيضاً في آية أخرى فقال مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) وقال أيضاً فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) وإن كان المراد المسلمين فنقول قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لا ينافي مذهبنا في إثبات الشفاعة للمؤمنين لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى لقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله تعالى(12/192)
المسألة الرابعة قوله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكفار التقوى والطاعة والكلام على هذا النوع من الاستدلال قد سبق مراراً
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَى ْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال مر الملأ من قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أطردهم عن نفسك فلعلك إن طردتهم اتبعناك فقال عليه السلام ( ما أنا بطارد المؤمنين ) فقالوا فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت فقال ( نعم ) طمعاً في إيمانهم وروي أن عمر قال له لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون ثم ألحوا وقالوا للرسول عليه السلام أكتب لنا بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت هذه الآية فرمى الصحيفة واعتذر عمر عن مقالته فقال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات )
المسألة الثانية احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه الأول أنه عليه السلام طردهم والله تعالى نهاه عن ذلك الطرد فكان ذلك الطرد ذنباً والثاني أنه تعالى قال فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد ثبت أنه طردهم فيلزم أن يقال إنه كان من الظالمين والثالث أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( هود 29 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً عليه السلام بمتابعة الأنبياء عليهم السلام في جميع الأعمال الحسنة حيث قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فبهذا الطريق وجب على محمد عليه السلام أن لا يطردهم فلما طردهم كان ذلك ذنباً والرابع أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة الكهف فزاد فيها فقال تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ ( الكهف 28 ) ثم إنه تعالى نهاه عن الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا في آية أخرى فقال تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( طه 131 ) فلما نهى عن الالتفات إلى زينة الدنيا ثم ذكر في تلك الآية أنه يريد زينة الحياة الدنيا كان ذلك ذنباً الخامس نقل أن أولئك الفقراء كلما دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد(12/193)
هذه الواقعة فكان عليه السلانم يقول ( مرحباً بمن عاتبني ربي فيهم ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل أيضاً على الذنب
والجواب عن الأول أنه عليه السلام ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما عين لجلوسهم وقتاً معيناً سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش فكان غرضه منه التلطف في إدخالهم في الإسلام ولعلّه عليه السلام كان يقول هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم بسبب هذه المعاملة أمر مهم في الدنيا وفي الدين وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدين والإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى فأقصى ما يقال إن هذا الاجتهاد وقع خطأ إلا أن الخطأ في الاجتهاد مغفور وأما قوله ثانياً إن طردهم يوجب كونه عليه السلام من الظالمين
فجوابه أن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه والمعنى أو أولئك الضعفاء الفقراء كانوا يستحقون التعظيم من الرسول عليه السلام فإذا طردهم عن ذلك المجلس كان ذلك ظلمأْ إلا أنه من باب ترك الأولى والأفضل لا من باب ترك الواجبات وكذا الجواب عن سائر الوجوه فإنا نحمل كل هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى والأحرى والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ بالواو وضم الغين وفي سورة الكهف مثله والباقون بالألف وفتح الغين قال أبو علي الفارسي الوجه قراءة العامة بالغدة لأنها تستعمل نكرة فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها فأما ( غدوة ) فمعرفة وهو علم صيغ له وإذا كان كذلك فوجب أن يمتنع إدخال لام التعريف عليه كما يمتنع إدخاله على سائر المعارف وكتبة هذه الكلمة بالواو في المصحف لا تدل على قولهم ألا ترى أنهم كتبوا ( الصلوة ) بالواو وهي ألف فكذا ههنا قال سيبويه ( غدوة وبكرة ) جعل كل واحد منهما اسماً للجنس كما جعلوا أم حبين اسماً لدابة معروفة قال وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت لقيته يوماً من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون فهذه الأشياء تقوي قراءة العامة وأما وجه قراءة ابن عامر فهو أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن يقال أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ قولان الأول أن المراد من الدعاء الصلاة يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة وهي صلاة الصبح وصلاة العصر وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد
وقيل المراد من الغداة والعشى طرفا النهار وذكر هذين القسمين تنبيهاً على كونهم مواظبين على الصلوات الخمس
والقول الثاني المراد من الدعاء الذكر قال إبراهيم الدعاء ههنا هو الذكر والمعنى يذكرون ربهم طرفي النهار
المسألة الخامسة المجسمة تمسكوا في إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 )
وجوابه أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) يقتضي الوجدانية التامة وذلك ينافي التركيب من الأعضاء(12/194)
والأجزاء فثبت أنه لا بدّ من التأويل وهو من وجهين الأول قوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل والثاني أن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا وتمام هذا الكلام تقدم في قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 )
ثم قال تعالى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء اختلفوا في أن الضمير في قوله حِسَابَهُمْ وفي قوله عَلَيْهِمْ إلى ماذا يعود
والقول الأول أنه عائد إلى المشركين والمعنى ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد والغرض من هذا الكلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار فلعلّهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر فقال تعالى لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر
القول الثاني أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وهم الفقراء وذلك أشبه بالظاهر والدليل عليه أن الكناية في قوله فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء قولين أحدهما أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولاً وملبوساً عندك وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم كقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
فإن قيل أما كفى قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء حتى ضم إليه قوله وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء
قلنا جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه
القول الثاني ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم ولا حساب رزقك عليهم وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم
وأعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) فأجابهم نوح عليه السلام و قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ ( الشعراء 112 113 ) وعنوا بقولهم الاْرْذَلُونَ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة فكذلك ههنا وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي ومعناه ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون عطفاً على(12/195)
قوله فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن كونه ظالماً معلوم طردهم ومسبب له وأما قوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ففيه قولان الأول فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسك بهذا الطرد الثاني أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلماً لهم والله أعلم
وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَاؤُلا ءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فكان ذلك يشق عليهم ونظيره قوله تعالى الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( القمر 25 ) لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع أنا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة
فقال تعالى وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فأحد الفريقين يرى الآخر متقدماً عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدماً عليه في المناصب الدنيوية فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله الله علينا وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة فكانوا صابرين في وقت البلاء شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال الله تعالى ف حقهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجهين الأول أن قوله وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تصريح بأن إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى والمراد من تلك الفتنة ليس إلا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين والاعتراض على الله كفر وذلك يدل على أنه تعالى هو الخالق للكفر والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا والمراد من قوله مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم هو أنه عليهم بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وذلك يدل على أنم هذه المعاني إنما تحصل من الله تعالى لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما من عليه بهذا الإيمان بل العبد هو الذي من على نفسه بهذا الإيمان فصارت هذه الآية دليلاً على قولنا في هذه المسألة من هذين(12/196)
الوجهين أجاب الجبائي عنه بأن الفتنة في التكليف ما يوجب التشديد وإنما فعلنا ذلك ليقولوا أهؤلاء أي ليقول بعضهم لبعض استفهاماً لا إنكاراً أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا بالإيمان وأجاب الكعبي عنه بأن قال وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليصبروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا على ميثاق قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل لا سيما والدليل العقلي قائم على صحة هذا الظاهر وذلك لأنه لما كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة والأنفة توجب العصيان والاصرار على الكفر وموجب الموجب موجب كان الالزام وارداً والله أعلم
المسألة الثالثة في كيفية افتتان البعض بالبعض وجوه الأول أن الغنى والفقر كانا سببين لحصول هذا الافتتان كما ذكرنا في قصة نوح عليه السلام وكما قال في قصة قوم صالح وَقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِى ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( الاعراف 76 ) والثاني ابتلاء الشريف بالوضيع والثالث ابتلاء الذكي بالأبله وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلق وصفات الكمال محبوبة لذاتها فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله من صفات الكمال
فأما من عرف سر الله تعالى في القضاء والقدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض للخلق وعاش عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة والله أعلم
المسألة الرابعة قال هشام بن الحكم إنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية لأن الافتتان هو الاختبار والامتحان وذلك لا يصح إلا لطلب العلم وجوابه قد مر غير مرة(12/197)
بداية الجزء الثالث عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(13/2)
وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُو ءًا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته وقال آخرون بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم فأكرمهم الله بهذا الإكرام وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولاً عن طردهم ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام قال عكرمة كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها وقال للرسول عليه السلام ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية وقال بعضهم بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ثم جاؤه ( صلى الله عليه وسلم ) مظهرين للندامة والأسف فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف
ولي ههنا إشكال وهو أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه
المسألة الثانية قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه وآيات وحدانيته وما سوى الله فلا نهاية له وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار وكالسابح في تلك البحار ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة(13/3)
فعند هذا أمر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمُ فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال
المسألة الثالثة ذكر الزجاج عن المبرد أن السلامة في اللغة أربعة أشياء فمنها سلمت سلاماً وهو معنى الدعاء ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى ومنها الإسلام ومنها اسم للشجر العظيم أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات وهو أيضاً اسم للحجارة الصلبة وذلك أيضاً لسلامتها من الرخاوة ثم قال الزجاج قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ السلام ههنا يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون مصدر سلمت تسليماً وسلاماً مثل السراح من التسريح ومعنى سلمت عليه سلاماً دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه فالسلام بمعنى التسليم والثاني أن يكون السلام جمع السلامة فمعنى قولك السلام عليكم السلامة عليكم وقال أبو بكر بن الأنباري قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ولو كان معرفاً لصح هذا الوجه وأقول كتبت فصولاً مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم
أما قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب ولكمة ( على ) أيضاً تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب فهذا يقتضي كونه سبحانه راحماً لعباده رحيماً بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم وقالت المعتزلة إن كونه عالماً بقبح القبائح وعالماً بكونه غنياً عنها يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلماً والظلم قبيح والقبيح منه محال وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضاً قوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) يدل عليه والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه لأنه لو كان جسماً لكان مركباً والمركب ممكن وأيضاً أنه أحد والأحد لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ والغني لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان جسماً لحصل له مثل وذلك باطل لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ينافي أن يقال إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه أبد الآباد وينافي أن يقال إنه يمنعه عن الإيمان ثم يأمره حال ذلك المنع(13/4)
بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان وجواب أصحابنا أنه ضار نافع محيي مميت فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الرابعة من الناس من قال إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواماً بأنه يقول لهم بعد الموت سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ثم إن أقواماً أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا ومنهم من قال لا بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله وعلى التقديرين فهو درجة عالية
ثم قال تعالى أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر لأن هذا الكلام خطاب مع الذين وصفهم بقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية والمراد من قوله بِجَهَالَة ٍ ليس هو الخطأ والغلط لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة بل المراد منه أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنباً ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته
المسألة الثانية قرأ نافع أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ بفتح الألف فَأَنَّهُ غَفُورٌ بكسر الألف وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما والباقون بالكسر فيهما أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة كأنه قيل كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلاً من الأولى كقوله أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 85 ) وقوله كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ( الحج 4 ) وقوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( التوبة 63 ) قال أبو علي الفارسي من فتح الأولى فقد جعلها بدلاً من الرحمة وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبراً تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون ( أن ) خبره كأنه قيل فأمره أنه غفور رحيم وأما من كسرهما جميعاً فلأنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فقد تم هذا الكلام ثم ابتدأ وقال أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فدخلت الفاء جواباً للجزاء وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر لأنه أبدل الأولى من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء والله أعلم
المسألة الثالثة قوله مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ قال الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثم اختلفوا فقيل إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل(13/5)
وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلاً إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 )
المسألة الرابعة قوله تعالى ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فقوله تَابَ إشارة إلى الندم على الماضي وقوله وَأَصْلَحَ إشارة إلى كونه آتياً بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل ثم قال فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فهو غفور بسبب إزالة العقاب رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة والله أعلم
وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ
قوله تعالى وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
المراد كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نميز ونفصل لك دلائلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وقوله وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق وليستبين وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً واختلف القراء في قوله ليستبين فقرأ نافع لتستبين بالتاء وسبيل بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ليستبين بالياء مّن سَبِيلٍ بالرفع والباقون بالتاء وسبيل بالرفع على تأنيث سبيل وأهل الحجاز يؤنثون السبيل وبنو تميم يذكرونه وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ( الأعراف 146 ) وقال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( إبراهيم 3 )
فإن قيل لم قال وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ولم يذكر سبيل المؤمنين
قلنا ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كقوله سَرَابِيلَ الْقَتْلَى الْحُرُّ ( النحل 81 ) ولم يذكر البرد وأيضاً فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضاً لا محالة
قوله تعالى قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ(13/6)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم فقال قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَبَيْنَ إِنَّ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ثم قال قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنّى عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي في أنه لا معبود سواه وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب فقال تعالى قل يا محمد مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره ثم قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم يَقْضِى الْحَقّ أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ أي القاضين وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به وكذلك في جميع الأفعال والدليل عليه أنه تعالى قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا حكم إلا لله واحتج المعتزلة بقوله يَقْضِى الْحَقّ ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وعاصم يَقُصُّ الْحَقَّ بالصاد من القصص يعني أن كل ما أنبأ الله به وأمر به فهو من أقاصيص الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وقرأ الباقون يَقْضِ الْحَقّ والمكتوب في المصاحف ( يقض ) بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) فما تغن النذر وقوله وقوله يُقْضَى الْحَقّ قال الزجاج فيه وجهان جائز أن يكون الْحَقّ صفة المصدر والتقدير يقض القضاء الحق ويجوز أن يكون يَقْضِ الْحَقّ يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وعلى هذا التقدير الْحَقّ يكون مفعولاً به وقضى بمعنى صنع قال الهذلي وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما داود واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قال والفصل يكون في القضاء لا في القصص(13/7)
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص ههنا بمعنى القول وقد جاء الفصل في القول قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وقال الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) وقال نُفَصّلُ الآيَاتِ ( الأعراف 32 )
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاٌّ مْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
قوله تعالى قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أن المعنى لَّوْ أَنَّ عِندِى أي في قدرتي وإمكاني مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به ولتخلصت سريعاً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وبما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره والمعنى إني لا أعلم وقت عقوبة الظالمين والله تعالى يعلم ذلك فهو يؤخره إلى وقته والله أعلم
قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه سبحانه هو العالم بكل شيء فهو يعجل ما تعجيله أصلح ويؤخر ما تأخيره أصلح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المفاتح جمع مفتح ومفتح والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله تعالى مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ ( القصص 76 ) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد منه الخزائن أما على التقدير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرىء مفاتيح وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله بِرازِقِينَ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم(13/8)
بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة قالوا وإذا ثبت هذا فنقول الموجود إما أن يكون واجباً لذاته وإما أن يكون ممكناً لذاته والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى وكل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً إذا ثبت هذا فنقول علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى وهي أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالاً من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوماً لكل أحد والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون لأنه قال أولاً وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر والبحر والحس والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول
وفيه دقيقة أخرى وهي إنه تعالى قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فيصير هذا المثال المحسوس مقوياً ومكملاً للعظمة الحاصلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الاْرْضِ وذلك لأن الحبة في غاية الغصر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها(13/9)
مخفياً فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وهو عين المذكور في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية ومن الله التوفيق
المسألة الثانية المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان ومن كان كذلك كان عالماً بها فوجب كونه تعالى عالماً بها والحكماء قالوا إنه تعالى مبدأ لجميع الممكنات والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بكلها
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات الزمانية وذلك لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بهذه التغيرات والزمانيات من حيث إنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب
المسألة الثالثة قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ يدل على كونه تعالى منزهاً عن الضد والند وتقريره أن قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ يفيد الحصر أي عنده لا عند غيره ولو حصل وجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عند ذلك الآخر وحينئذ يبطل الحصر وأيضاً فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد فكذلك البرهان العقلي يساعد عليه وتقريره أن المبدأ لحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم بالمؤثر والمؤثر الأول في كل الممكنات هو الحق سبحانه فالمفتح الأول للعلم بجميع المعلومات هو العلم به سبحانه لكن العلم به ليس إلا له لأن ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب ليست إلا عند الحق سبحانه والله أعلم
المسألة الرابعة قرىء الاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ بالرفع وفيه وجهان الأول أن يكون عطفاً على محل من ورقة وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ كقولك لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار
المسألة الخامسة قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ فيه قولان الأول أن ذلك الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير وهذا هو الصواب والثاني قال الزجاج يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال عز وجل مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( الحديد 22 ) وفائدة هذا الكتاب أمور أحدها أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له وثانيها يجوز أن يقال إنه تعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء لأنه إذا كان(13/10)
لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحول المشتملة على الثواب والعقاب أولى وثالثها أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضاً تغييرها وإلا لزم الكذب فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تاماً وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلوات الله عليه ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادراً على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة
فأما قوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلاله اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ ( الزمر 42 ) فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت وههنا بحث وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حياً لم تكن روحه مقبوضة البتة وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلاً عن بعض الأعمال وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه ثم قال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة قال تعالى وَالَّذِينَ اجْتَرَحُواْ أي اكتسبوا وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح
ثم قال تعالى بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يرد إليكم أرواحكم في النهار والبعث ههنا اليقظة ثم قال لّيَقْضِيَ أَجَلٍ مُّسَمًّى أي أعماركم المكتوبة وهي قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت(13/11)
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة فقال ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهوراً وتقرير هذا القهر من وجوه الأول إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد والثاني أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات والثالث أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار وتمام تقريره في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( آل عمران 26 )
وإذا عرفت منهج الكلام فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد فالفوق ضده التحت والماضي ضده المستقبل والنور ضده الظلمة والحياة ضدها الموت والقدرة ضدها العجز وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبراً قادراً قاهراً منزهاً عن الضد والند مقدساً عن الشبيه والشكل كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ والرابع أن هذا البدن مؤلف من الطبائع الأربع وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف فبينهما أشد المنافرة والمباعدة ثم إنه سبحانه جمع بينهما(13/12)
على سبيل القهر والقدرة وجعل كل واحد منهما مستكملاً بصاحبه منتفعاً بالآخر فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية والمعارف الإلهية فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهراً لعباده من هذه الجهة وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ
وأما قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقوله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والقول الأول أقوى لأن قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً يفيد حفظة الكل من غير تخصيص
والبحث الثاني أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها أما في الأقوال فلقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلُهُ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وأما في الأعمال فلقوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 11 12 ) فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها
البحث الثالث ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوهاً الأول أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح الثاني يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن أما وزن الصحائف فممكن الثالث يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه
الوجه الأول قال المتأخرون منهم وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج(13/13)
لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً تلك النفوس والقوى فإنها هى التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها
والوجه الثاني وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادىء من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادىء تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير
والقول الثالث النفس المتعلقة بهذا الجسد لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضاً تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلاً والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهنا بحثان
البحث الأول أنه تعالى قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى ثم قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت ثم قال في هذه الآية تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة
والجواب أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت وهو الرئيس المطلق في هذا الباب وله أعوان وخدم وأنصار فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم
البحث الثاني من الناس من قال هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله وعند مجيء الموت يتوفونهم والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني وأيضاً فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادىء الكرب والغم والأحزان
البحث الثالث الظاهر من قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ أنه ملك واحد هو(13/14)
رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية أتباعه وأشياعه عن مجاهد جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة
والبحث الرابع قرأ حمزة توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء فالأول لتقديم الفعل ولأن الجمع قد يذكر والثاني على تأنيث الجمع
أما قوله تعالى وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به وقوله في صفة ملائكة النار لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق أما قوله تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ففيه مباحث الأول قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضاً أولئك الملائكة وقيل بل المردودون البشر يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسراً بكونه منقاداً لحكم الله مطيعاً لقضاء الله وما لم يكن حياً لم يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فبقي أن تكون الحياة نصيباً للنفس والروح ولما قال تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ وثبت أن المرد وهو النفس والروح ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وهو المطلوب
واعلم أن قوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره قوله تعالى ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( الفجر 28 ) وقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ( يونس 4 ) ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في ( الكتب العقلية )
البحث الثاني كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه
البحث الثالث أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين أحدهما المولى وقد عرفت أن لفظ المولى ولفظ الولي مشتقان من الولي أي القرب وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وأيضاً المعتق يسمى بالمولى وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) وأيضاً أضاف نفسه إلى العبد فقال مَوْلَاهُمُ الْحَقّ وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة(13/15)
وأيضاً قال مولاهم الحق والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرفات المولى الحق
والاسم الثاني الحق واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى فقيل الحق مصدر وهو نقيض الباطل وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازاً كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل ويمكن أن يقال الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجباً لذاته فكان أحق الأشياء بكونه حقاً هو هو واعلم أنه قرىء الحق بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق
أما قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ معناه أنه لا حكم إلا لله ويتأكد ذلك بقوله إن الحكم إلا لله وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة وإلا لما حصل ذلك
المسألة الثانية قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم وهو أخذ الثواب وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى قال لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم فإنه تعالى كان قبل الخلق عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه قبل ذلك وجد فلم يلزم منه تغير العلم فلم لا يجوز مثله في الكلام والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية هذا الحساب فمنهم من قال إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة لا يشغله كلام عن كلام ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحداً من العباد لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار ولا يكلمهم ( آل عمران 77 ) وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين
فالمقدمة الأولى أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف ع ن صحة ما ذكرناه ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى
المقدمة الثانية إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملائكة الراسخة وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة(13/16)
المثال الأول أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة فهذا القدر من إلقاء الجم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال
المثال الثاني أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسى المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملىء من الماء ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة
والمثال الثالث إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال
فإذا عرفت هذه الأمثلة وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير إلا ويفيد حصول أثر في النفس إما في السعادة وإما في الشقاوة وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جارياً مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس وأما الحساب فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثراً في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الخلق الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد ومقدار ذلك الخلق الذميم وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية والله العالم بحقائق الأمور(13/17)
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية وكمال الرحمة والفضل والإحسان وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ بالتشديد في الكلمتين والباقون بالتخفيف قال الواحدي والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا فن شئت نقلت بالهمزة وإن شئت نقلت بتضعيف العين مثل أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وفي القرآن فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ ( الأعراف 72 ) وفي آية أخرى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( فصلت 18 ) ولما جاء التنزيل باللغتين معاً ظهر استواء القراءتين في الحسن غير أن الاختيار التشديد لأن ذلك من الله كان غير مرة وأيضاً قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان وأيضاً الخفية من الإخفاء والخيفة من الرهب وأيضاً ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا من هذه قرأ عاصم وحمزة والكسائي لَّئِنْ أَنجَانَا على المغايبة والباقون لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا على الخطاب فأما الأولون وهم الذين قرؤا على المغايبة فقد اختلفوا قرأ عاصم بالتفخيم والباقون بالأمالة وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ وما بعده مذكور بلفظ المغايبة فأما ما قبله فقوله تَدْعُونَهُ وأما ما بعده فقوله قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وأيضاً فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار والتقدير يقولون لئن أنجيتنا والإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه ويشتبه عليه كيفية الخروج ويظلم عليه طريق الخلاص ومنهم من حمله على حقيقته فقال أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة السحاب ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى وهو المراد من قوله تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا(13/18)
إلى الله ولا تعويل إلا على فضل الله وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات لكنه ليس كذلك فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك ومن المفسرين من يقول المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان وأنا أقول التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور أحدها الدعاء وثانيها التضرع وثالثها الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وَخُفْيَة ً ورابعها التزام الاشتغال بالشكر وهو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الخوف والكرب ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك ونظير هذه الآية قوله ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ وقوله ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الأمر الهائل أخصلوا وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان الأول حمل اللفظ على حقيقته فنقول العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق كما حصب قوم لوط وكما رمى أصحاب الفيل وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم فمثل الرجفة ومثل خسف قارون وقيل هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق وظهورها من أسفل
القول الثاني أن يحمل هذا اللفظ على مجازه قال ابن عباس في رواية عن عكرمة عذاباً من فوقكم أي من الأمراء ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة أما قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فاعلم أن الشيع جمع الشيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع قال تعالى كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ ( سبأ 54 ) وأصله من الشيع وهو التبع ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً قال الزجاج قوله يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً(13/19)
يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقاً ولا تكونون فرقة واحدة فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً وهو معنى قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ( ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك ) فقال له جبريل إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك فقال جبريل إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذاباً من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعاً بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة ) وفي رواية أخرى كلهم في الجنة إلا الزنادقة
المسألة الثانية ظاهر قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد وما سواه فهو باطل فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية فهذا يدل على كونه تعالى خالقاً للخير والشر أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه وعندنا الله قادر على القبيح إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا
والجواب أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال هُوَ الْقَادِرُ على ذلك وهذا يفيد الحصر فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك وهذا الاختلاف بين الناس حاصل وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادراً عن غير الله فوجب أن يكون صادراً عن الله وذلك يفيد المطلوب
المسألة الثالثة قالت المقلدة والحشوية هذه الآية من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال وذلك لأن فتح تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف والمنازعة في الأديان وتفرق الخلق إلى المذاهب والأديان وذلك مذموم بحكم هذه الآية والمفضي إلى المذموم مذموم فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال في الدين مذموماً وجوابه سهل والله أعلم
ثم قال تعالى في آخر الآية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعِلْمٌ يَفْقَهُونَ قال القاضي هذا يدل على أنه تعالى أراد بتصريف هذه الآيات وتقرير هذه البينات أن يفهم الكل تلك الدلائل ويفقه الكل تلك البينات وجوابنا بل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى ما صرف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم فأما من أعرض وتمرد فهو تعالى ما صرف هذه الآيات لهم والله أعلم
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
الضمير في قوله وَكَذَّبَ بِهِ إلى ماذا يرجع فيه أقوال الأول أنه راجع إلى العذاب المذكور في الآية السابقة وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد وأن ينزل بهم الثاني الضمير في ( به ) للقرآن وهو الحق أي في كونه كتاباً(13/20)
منزلاً من عند الله الثالث يعود إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات ثم قال قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم قال ابن عباس والمفسرون نسختها آية القتال وهو بعيد ثم قال تعالى لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ والمستقر يجوز أن يكون موضع الاستقرار ويجوز أن يكون نفس الاستقرار لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج والمعنى أن لكل خبر يخبره الله تعالى وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وإن جعلت المستقر بمعنى الاستقرار كان المعنى لكل وعد ووعيد من الله تعالى استقرار ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره ونزوله وهذا الذي خوف الكفار به يجوز أن يكون المراد منه عذاب الآخرة ويجوز أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتل والقهر في الدنيا
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فبين به أن الذين يكذبون بهذا الدين فإنه لا يجب على الرسول أن يلازمهم وأن يكون حفيظاً عليهم ثم بين في هذه الآية أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذبيهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مقارنتهم وترك مجالستهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذَا رَأَيْتَ قيل إنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد غيره وقيل الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيها السامع الذين يخوضون في آياتنا ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن فشتموا واستهزؤوا فأمرهم أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ولفظ الخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث واللعب قال تعالى حكاية عن الكفار وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وإذا سئل الرجل عن قوم فقال تركتهم يخوضون أفاد ذلك أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها ومن الحشوية من تمسك بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته قال لأن ذلك خوض في آيات الله والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية والجواب عنه أنا نقلنا عن المفسرين أن المراد من ( الخوض ) الشروع في آيات الله تعالى على سبيل الطعن والاستهزاء وبينا أيضاً أن لفظ ( الخوض ) وضع في أصل اللغة لهذا المعنى فسقط هذا الاستدلال والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يُنسِيَنَّكَ بالتشديد وفعل وأفعل يجريان مجرى واحد كما بينا ذلك في(13/21)
مواضع وفي التنزيل فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( الطارق 17 ) والاختيار قراءة العامة لقوله تعالى وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) ومعنى الآية إن نسيت وقعدت فلا تقعد بعد الذكرى وقم إذا ذكرت والذكرى اسم للتذكرة قاله الليث وقال الفراء الذكرى يكون بمعنى الذكر وقوله مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني مع المشركين
المسألة الثالثة قوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا الإعراض يحتمل أن يحصل بالقيام عنهم ويحتمل بغيره فلما قال بعد ذلك فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى صار ذلك دليلاً على أن المراد أن يعرض عنهم بالقيام من عندهم وههنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز هذا الإعراض بطريق آخر سوى القيام عنهم والجواب الذين يتمسكوا بظواهر الألفاظ ويزعمون وجوب إجرائها على ظواهرها لا يجوزون ذلك والذين يقولون المعنى هو المعتبر جوزوا ذلك قالوا لأن المطلوب إظهار الإنكار فكل طريق أفاد هذا المقصود فإنه يجوز المصير إليه
السؤال الثاني لو خاف الرسول من القيام عنهم هل يجب عليه القيام مع ذلك
الجواب كل ما أوجب على الرسول فعله وجب عليه ذلك سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر فإنا إن جوزنا منه ترك الواجب بسبب الخوف سقط الاعتماد عن التكاليف التي بلغها إلينا أما غير الرسول فإنه عند شدة الخوف قد يسقط عنه الفرض لأنه إقدامه على الترك لا يفضي إلى المحذور المذكور
المسألة الرابعة قوله وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى يفيد أن التكليف ساقط عن الناسي قال الجبائي إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف وهذا يدل على أن تكليف مالا يطاق لا يقع ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لما كانت حاصلة قبل الفعل فوجب أن لا يكون الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان واعلم أن هذه الكلمات كثر ذكرها في هذا الكتاب مع الجواب فلا نطول الكلام بذكر الجواب والله أعلم
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
قال ابن عباس قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا(13/22)
على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت هذه الآية وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكرونهم ويفهمونهم قال ومعنى الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسَابِهِم من آثامهم مّن شَى ْء وَلَاكِن ذِكْرَى قال الزجاج قوله ذِكْرِى يجوز أن يكون في موضع رفع وأن يكون في موضع نصب أما كونه في موضع رفع فمن وجهين الأول ولكن عليكم ذكرى أي أن تذكروهم وجائز أن يكون ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى فعلى الوجه الأولى الذكرى بمعنى التذكير وعلى الوجه الثاني الذكرى تكون بمعنى الذكر وأما كونه في موضع النصب فالتقدير ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون والمعنى لعل ذلك الذكرى يمنعهم من الخوض في ذلك الفضول
قوله تعالى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا ومعنى ذَرْهُمْ أعرض عنهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده وَذَكّرْ بِهِ ونظيره قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم
واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفاً بصفتين
الصفة الأولى أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وفي تفسيره وجوه الأول المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا به الثاني اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم الثالث أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً والرابع قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى ثم إن الناس أكثرهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهواً ولعباً غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى والخامس وهو الأقرب أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو فالمراد من قوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم
الصفة الثانية قوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا
إذا عرفت هذا فقوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزناً وَذَكّرْ بِهِ واختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود(13/23)
قيل وذكر بالقرآن وقيل إه تعالى قال وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً والمراد الدين الذي يجب عليهم أن يتدينوا به ويعتقدوا صحته فقوله وَذَكّرْ بِهِ أي بذلك الدين لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكور والدين أقرب المذكور فوجب عود الضمير إليه أما قوله أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ فقال صاحب ( الكشاف ) أصل الإبسال المنع ومنه هذا عليك بسل أي حرام محظور والباسل الشجاع لامتناعه من خصمه أو لأنه شديد البسور يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه وإذا زاد قالوا بسل والعابس منقبض الوجه
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ أي ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا وقال الحسن ومجاهد تسلم للمهلكة أي تمنع عن مرادها وتخذل وقال قتادة تحبس في جهنم وعن ابن عباس تُبْسَلَ تفضح و أُبْسِلُواْ فضحوا ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن ومقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون فيتقون ثم قال تعالى لَيْسَ لَهَا أي ليس للنفس مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أي وإن تفذ كل فداء والعدل الفدية لا يؤخذ ذلك العدل وتلك الفدية منها قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يؤخذ ليس هو قوله عَدْلٍ لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ وأما في قوله وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه فنقول الأخذ بمعنى القبول وارد قال تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ أي يقبلها وإذا ثبت هذا فيحمل الأخذ ههنا على القبول ويزول السؤال والله أعلم
والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور ولا شفيع يشفع فيها ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين فقال لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ وذلك هو النهاية في صفة الإيلام والله أعلم
قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الأرض حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(13/24)
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فقال قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقدنا الله منه وهدانا للإسلام ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه ورجع القهقرى والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ ( النحل 78 ) فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة فلهذا السبب يقال فلان رد على عقبيه
وأما قوله كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة استهواه بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة
المسألة الثانية اختلفوا في اشتقاق كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ على قولين
القول الأول أنه مشتق من الهوى في الأرض وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة
والقول الثاني أنه مشتق من اتباع الهوى والميل فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة والقول الأول أولى لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف
الصفة الثانية قوله حَيْرَانَ قال الأصمعي يقال حار يحار حيرة وحيراً وزاد الفراء حيراناً وحيرورة ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه ومنه يقال الماء يتحير في الغيم أي يتردد وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير وأيضاً فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالاً للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال
الصفة الثالثة قوله تعالى لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قالوا نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وقيل المراد أن لذلك الكافر الضال أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد والقول الصحيح هو الأول(13/25)
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من تقرير أمر الكمال والشرف
ثم قال تعالى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ واعلم أن قوله إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به فإما أن يكون من باب الأفعال وإما أن يكون من باب التروك
أما القسم الأول فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي والله سبحانه لما بين أولاً أن الهدى النافع هو هدى الله أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ثم بين منافع هذه الأعمال فقال وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة
فإن قيل كيف حسن عطف قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ على قوله وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ
قلنا ذكر الزجاج فيه وجهين الأول أن يكون التقدير وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة
فإن قيل هب أن المراد ما ذكرتم لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل
قلنا وذلك لأن الكافر ما دام يبقى على كفره كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين فيقال له وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام ذكر ههنا ما يدل على أنه لا(13/26)
معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية وذكر فيها أنواعاً كثيرة من الدلائل أولها قوله وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ أما كونه خالقاً للسموات والأرض فقد شرحنا في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وفيه قولان
القول الأول وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق فكان ذلك التصرف حسناً على الإطلاق وحقاً على الإطلاق
والقول الثاني وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقاً أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم قال القاضي ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولاً حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات والأرض ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى وهي أنه يقال أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه وثانيها قوله وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ في تأويل هذه الآية قولان الأول التقدير وهو الذي خلق السموات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون والمراد من هذا اليوم يوم القيامة والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله الْحَقّ مبتدأ و يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظرف دال على الخبر والتقدير قوله الْحَقّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كقولك يوم الجمعة القتال ومعناه القتال واقع يوم الجمعة والمراد من كون قوله حقاً في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث وثالثها قوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يفيد الحصر والمعنى أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى فالمراد بالكلام الثاني تقريراً لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض
فإن قال قائل قول الله حق في كل وقت وقدرته كاملة في كل وقت فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين
قلنا لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر فكان الأمر كما قال سبحانه وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فلهذا السبب حسن هذا التخصيص ورابعها قوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ تقديره وهو عالم الغيب والشهادة
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين أحدهما كونه قادراً على كل الممكنات والثاني كونه عالماً بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادراً على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضاً منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي والمؤمن بالكافر والصديق بالزنديق فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين(13/27)
الصفتين كمل الغرض والمقصود فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ يدل على كمال القدرة وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقاً وأن يكون حكمه صدقاً وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل
ثم قال وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ والمراد من كونه حكيماً أن يكون مصيباً في أفعاله ومن كونه خبيراً كونه عالماً بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله كُنْ فَيَكُونُ خطاباً وأمراً لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجوداً وهو محال بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات
المسألة الثالثة قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر ولاشبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين
القول الأول أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور
والقول الثاني إن الصور جمع صورة والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى وقال أبو عبيدة الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة قال الواحدي رحمه الله أخبرني أبو الفضل العروضي عن الأزهري عن المنذري عن أبي الهيثم أنه قال ادعى قوم أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة وروى ذلك عن أبي عبيدة قال أبو الهيثم وهذا خطأ فاحش لأن الله تعالى قال وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( ي س 51 الزمر 68 ) فمن قرأ ونفخ في الصور وقرأ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فقد افترى الكذب وبدل كتاب الله وكان أبو عبيدة صاحب أخبار وغرائب ولم يكن له معرفة بالنحو قال الفراء كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه وإذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء لأن جمع هذا الباب سبق واحده ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا صوفة وصوف وبسرة وبسر كما قالوا غرفة وغرف وزلفة وزلف وأما الصور القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال واحدته صورة وإنما تجمع صورة الإنسان صوراً لأن واحدته سبقت جمعه قال الأزهري قد أحسن أبو الهيثم في هذا الكلام ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه وأقول ومما يقوي هذا الوجه أنه لو كان المراد نفخ الروح في تلك الصور لأضاف تعالى ذلك النفخ إلى نفسه لأن نفخ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه كما قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وقال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وأما نفح الصور بمعنى النفخ في القرن فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم بالصواب(13/28)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَة ً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين
واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) فإبراهيم وفى بعهد العبودية والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية والثانية قوله تعالى إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وأما التفصيل فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة
فالمقام الأول في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
والمقام الثاني مناظرته مع قومه وهو قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ( الأنعام 76 )
والمقام الثالث مناظرته مع ملك زمانه فقال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والمقام الرابع مناظرته مع الكفارة بالفعل وهو قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ( الأنبياء 58 ) ثم إن القوم قالوا حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( الصافات 102 ) فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال فلا جرم أجاب دعاءه وقبل نداءه وجعله مقبولاً لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب
المسألة الثانية اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حكيم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشر وأما الاشتغال(13/29)
بعبادة غير الله ففي الذاهبين إليه كثرة فمنهم عبدة الكواكب وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم قالوا فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل وهؤلاء هم الدهرية الخالصة وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضاً عبدة الأصنام
واعلم أن هنا بحثاً لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( نوح 23 ) وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجوداً قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم خالقاً للسماء والأرض بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل والعلماء ذكروا فيه وجوهاً كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيراً للفوائد
فالتأويل الأول وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر وبين أحوال هذا العالم وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنماً من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان أحدهما إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة والثاني أنها بتقدير أنها تفعل شيئاً ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة(13/30)
والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له
الوجه الثاني في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضاً صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات فلا جرم اتخذوا صوراً وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان
الوجه الثالث في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك ومدبر الجبال ملك آخر ومدبر الغيوم والأمطار ملك ومدبر الأرزاق ملك ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنماً مخصوصاً وهيكلاً مخصوصاً ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر ومنهم من قال اسمه تارح قال الزجاج لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ومن الملحدة من جعل هذا طعناً في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب وللعلماء ههنا مقامان
المقام الأول أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضاً وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن
المقام الثاني سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا ههنا وجوه
الوجه الأول لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباله فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم فالله تعالى ذكره بالاسم ويحتمل أن يكون بالعكس وهو أن تارح كان اسماً أصلياً وآزر كان لقباً غالباً فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب(13/31)
الوجه الثاني أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتم فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطىء كأنه قيل وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطىء كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهو أيضاً فارسية أصلية
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب
والوجه الثالث أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين أحدهما أنه جعل نفسه مختصاً بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال الله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسراء 71 ) وثانيها أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
الوجه الرابع أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماله والعم قد يطلق عليه اسم الأب كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) ومعلوم أن إسمعيل كان عماً ليعقوب وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم
المسألة الرابعة قالت الشيعة إن أحداً من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافراً وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافراً وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له واحتجوا على قولهم بوجوه
الحجة الأولى أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه منها قوله تعالى الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ ( الشعراء 218 219 )
قيل معناه إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً
فإن قيل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل وجوهاً أخر أحدها إنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم فالمراد من قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين وثانيها المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود وثالثها أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه والدليل عليه(13/32)
قوله عليه السلام ( أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري ) فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية فسقط ما ذكرتم
والجواب لفظ الآية محتمل للكل فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وقال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وذلك يوجب أن يقال إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين
إذا ثبت هذا فنقول ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً وثبت أن آزر كان مشركاً فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر
الحجة الثانية على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم إنما قلنا إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين الأول أنه قرىء وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بضم آزر وهذا يكون محمولاً على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء الثاني أنه قال لآزر إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء وإنما قلنا أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه الأول قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم قال تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا أيضاً عام والثاني أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون فههنا الوالد أولى بالرفق الثالث أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة الرابع أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عماً له فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسمعيل بكونه أباً ليعقوب مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا علي أبي ) يعني العم العباس وأيضاً يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب والدليل عليه قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله عِيسَى فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جداً لعيسى من قبل الأم وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافراً وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافراً وكان والد إبراهيم عليه السلام وأيضاً قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إلى قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وذلك يدل على قولنا وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ قلنا قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله(13/33)
تحمل هذه الآية على الكل قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز وأما قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحاً أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام قلنا لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط والله أعلم
المسألة الخامسة قرىء ءازَرَ بالنصب وهو عطف بيان لقوله لاِبِيهِ وبالضم على النداء وسألني واحد فقال قرىء ءازَرَ بهاتين القراءتين وأما قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ قرىء هَارُونَ بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصراً على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجراً له عن ذلك القبيح وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هرون على قومه فما كان الاستخفاف لائقاً بذلك الموضع فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة
المسألة السادسة اختلف الناس في تفسير لفظ ( الإله ) والأصح أنه هو المعبود وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ وذلك يدل على أن تفسير لفظ ( الإله ) هو المعبود
المسألة السابعة اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين الأول أن قوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا والثاني أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة
المسألة الثامنة احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال لأن ذلك المذهب كان متقدماً على دعوة إبراهيم ولقائل أن يقول إنه كان ضلالاً بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام وهو قوله إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ والمعنى ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض وههنا دقيقة عقلية وهي أن نور جلال الله(13/34)
تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السموات بالتمام فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ معناه وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى فكان قوله وَكَذالِكَ منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان فكان الأولى أن يقال وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله وَكَذَلِكَ نُرِى
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون تقدير الآية وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصباً للدين الحق فكأنه قيل وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السموات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه
الوجه الثاني في الجواب وهو أعلى وأشرف مما تقدم وهو أنا نقول إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السموات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول سمعت إمام الحرمين يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضاً غير متناهية وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضاً وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل فلهذا السبب والله أعلم لم يقل وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض بل قال وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ والاْرْضِ وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم
المسألة الثالثة الملكوت هو الملك و ( التاء ) للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين الأول أن الله أراه الملكوت بالعين قالوا إن الله تعالى شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني ورأى ما في السموات من العجائب والبدائع ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع وعن ابن عباس أنه قال لما أسرى بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في(13/35)
السموات وما في الأرض فأبصر عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك فقال الله تعالى له كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه الأول أن أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله فلا يليق أن يقال إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبداً على فاحشة الثاني أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه الثالث أن ذلك الدعاء إما أن يكون صواباً أو خطأً فإن كان صواباً فلم رده في المرة الثانية وإن كان خطأً فلم قبله في المرة الأولى ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها
والقول الثاني أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر واحتج القائلون بهذا القول بوجوه
الحجة الأولى أن ملكوت السموات عبارة عن ملك السماء والملك عبارة عن القدرة وقدرة الله لا ترى وإنما تعرف بالعقل وهذا كلام قاطع إلا أن يقال المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة
والحجة الثانية أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ ثم فسرها بعد ذلك بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال
والحجة الثالثة أنه تعالى قال في آخر الآية وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم
والحجة الرابعة أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلهاً قادراً على كل الممكنات ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم
والحجة الخامسة أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذلك قال في حق هذه الأمة سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك
الحجة السادسة أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 )(13/36)
فحكم على السموات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس وذلك الدليل لو لم يكن عاماً في كل السموات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ فثبت أن ذلك الدليل كان عاماً فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين
الحجة السابعة أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك وقوله تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال
الحجة الثامنة أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال عى الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفاً واحداً فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروماً عن إدراك الحرف الأول أو عن إبصاره فثبت أن رؤية الأشياء الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى ألا ترى أنه تعالى مدح محمداً عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل لا بحسب البصر الظاهر
فإن قيل فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها
قلنا جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه ( اللهم أرنا الأشياء كما هي ) فزال هذا الإشكال والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في ( الواو ) في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وذكروا فيه وجوهاً الأول الواو زائدة والتقدير نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين الثاني أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السموات والأرض الثالث أن الإراءة قد تحصل وتصير سبباً لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وقد تصير سبباً لمزيد الهداية واليقين فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال(13/37)
تعالى في حق إبراهيم عليه السلام إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم
المسألة الخامسة اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين وذلك لوجوه الأول أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم الثاني أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب فكذا ههنا الثالث أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جداً فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى فيصير الإشراق واللمعان أتم وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات وقوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد والله أعلم
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاٌّ فِلِينَ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبِّى هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(13/38)
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ عطف على قوله قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ وقوله وَكَذَلِكَ نُرِى جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله يقال جن عليه الليل وأجنه الليل ويقال لكل ما سترته جن وأجن ويقال أيضاً جنه الليل ولكن الاختيار جن عليه الليل وأجنه الليل هذا قول جميع أهل اللغة ومعنى جَنَّ ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن وهو المقبور والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار وقال بعض النحويين جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ إذا أظلم عليه الليل ولهذا دخلت ( على ) عليه كما تقول في أظلم فأما جنه فستره من غير تضمين معنى أَظْلَمَ
المسألة الثالثة اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها من ربي فقالت أنا فقال ومن ربك قالت أبوك فقال للأب ومن ربك فقال ملك البلد فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئاً يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء فقال هذا ربي إلى آخر القصة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه ومنهم من قال إن هذا كان قبل البلوغ واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه
الحجة الأولى أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء
الحجة الثانية أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى ( الأنعام 74 )
الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مراراً وأطواراً ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة
الحجة الرابعة أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى ومن كان منصبه في الدين كذلك وعلمه بالله كذلك كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب(13/39)
الحجة الخامسة أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهاً وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيباً من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلاً عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء
الحجة السادسة أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 84 ) وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليماً عن الكفر وأيضاً مدحه فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ( الأنبياء 51 ) أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة وقوله وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
الحجة السابعة قوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين
ثم قال بعده فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ والفاء تقتضي الترتيب فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه
الحجة الثامنة أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ولم يقل على نفسه فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه
الحجة التاسعة أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار وهذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك فكيف يقول إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم
الحجة العاشرة قال تعالى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم
الحجة الحادية عشر أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار
الحجة الثانية عشرة أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم ثم غربت فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضاً في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم(13/40)
فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير فالسؤال غير وارد فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم هذا ربي وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان الأول أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة الأول أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي على سبيل الأخبار بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وآلههم فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله ومثاله أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم فيقول الجسم قديم فإذا كان كذلك فلم نراه ونشاهده مركباً متغيراً فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه فكذا ههنا قال هَاذَا رَبّى والمقصود منه حكاية قول الخصم ثم ذكر غقيبه ما يدل على فساده وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب والدليل عليه أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله هَاذَا رَبّى معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( القصص 62 ) وكان صلوات الله تعالى عليه يقول ( يا إله الآلهة ) والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك
والوجه الثالث في الجواب أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه
والوجه الرابع أن يكون القول مضمراً فيه والتقدير قال يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير كقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ( البقرة 127 ) أي يقولون ربنا وقوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) أي يقولون ما نعبدهم فكذا ههنا التقدير إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه يقولون هذا ربي أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني
والوجه الخامس أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوماً هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء
الوجه السادس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أن عند الإكراه يجوز(13/41)
إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضاً المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب بل نقول أن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء فكذا ههنا أن إبراهيم عليه السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ومما يقوي هذا الوجه أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( الصافات 88 90 ) وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك وأيضاً المتكلمون قالوا إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعى الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا وقوله هَاذَا رَبّى لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزاً والله أعلم
الوجه السابع أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام هَاذَا رَبّى أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زماناً حتى أفل ثم قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ
أما الاحتمال الثاني وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هَاذَا رَبّى فلما شاهد حركته قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فهذا الاحتمال لا بأس به وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وورش عن نافع رئى بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما فإذا كان بعد الألف كاف أو هاء نحو رآك ورآها فحينئذ يكسرها حمزة والكسائي ويفتحها ابن عامر وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم مثل حمزة والكسائي فإذا تلته ألف وصل نحو رأى الشمس ورأى القمر فإن حمزة ويحيى عن أبي بكر ونصر عن الكسائي يكسرون الراء ويفتحون(13/42)
الهمزة والباقون يقرؤن جميع ذلك بفتح الراء والهمزة واتفقوا في رأوك ورأوه أنه بالفتح قال الواحدي أما من فتح الراء والهمزة فعلته واضحة وهي ترك الألف على الأصل نحو رعى ورمى وأما من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسر ليميل الألف التي في رأى نحو الياء ترك الراء مفتوحة على الأصل وأما من كسرهما جيمعاً فلأجل أن تصير حركة الراء مشابهة لحركة الهمزة والواحدي طول في هذا الباب في ( كتاب البسيط ) فليرجع إليه والله أعلم
المسألة الخامسة القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة وقال القاضي كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم
المسألة السادسة أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون رباً له وخالقاً له ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين أحدهما أن الأفول ما هو والثاني أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب فنقول الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضاً دليلاً على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول
والجواب لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم وأيضاً قال بعض المحققين الهوى في خطرة الإمكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزهاً عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلهاً بل الأله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين
وفيه دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن(13/43)
الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعداً إلى وسط السماء كان قوياً عظيماً التأثير أما إذا كان غريباً وقريباً من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزاً عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجباً للقدح في إلهيته والله أعلم
أما المقام الثاني وهو بيان أن كوكب الكوكب آفلاً يمنع من ربوبيته فلقائل أيضاً أن يقول أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالاً على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه رباً لإبراهيم ومعبوداً له ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أرباباً للإنسان وآلهة لهذا العالم والجواب لنا ههنا مقامان
المقام الأول أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثاً فإنه يكون في وجوده محتاجاً إلى الغير وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أرباباً وآلهة بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أرباباً وآلهة بهذا التفسير
المقام الثاني أن يكون المراد من الرب والإله من يكون خالقاً لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنقول أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه الأول أن أفولها يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قادريته أزلية
وإذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدوراً له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدوراً لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدروة لله تعالى
وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينة في علم الأصول
فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة وأيضاً فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات فأما التفريع والتفصيل فذاك إنما يليق بعلم الجدل فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أرباباً وآلهة لحوادث هذا العالم(13/44)
الوجه الثاني أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب ومن كان قادراً على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادراً على خلق الشيء الأضعف وإليه الإشارة بقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وبقوله أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر
الوجه الثالث أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكاً في معرفة خالقه أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأرباباً للحيوان والإنسان والله أعلم فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل
فإن قيل لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة
والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك الكلام وكذا القول في الشمس فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه
المسألة السادسة تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها وزعم أن المراد من قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها والله أعلم
المسألة السابعة دل قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ على أحكام(13/45)
الحكم الأول
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا أبداً فكان آفلاً أبداً وأيضاً يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول
الحكم الثاني
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية وإلا لكان متغيراً وحينئذ يحصل معنى الأفول وذلك محال
الحكم الثالث
تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة
الحكم الرابع
تدل هذه الآية على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال
الحكم الخامس
تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ
ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع وبزغت الشمس إذا بدأ منها طلوع ونجوم بوازغ قال الأزهري كأنه مأخوذ في البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ومعنى الآية أنه اعتبر في القمر مثل ما اعتبر في الكوكب
المسألة الثانية دل قوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ على أن الهداية ليست إلا من الله تعالى ولا يمكن حمل لفظ الهداية على التمكن وإزاحة الأغدار ونصب الدلائل لأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد حصول تلك الأشياء لا بد وأن تكون زائدة عليها
واعلم أن كون إبراهيم عليه السلام على مذهبنا أظهر من أن يشتبه على العاقل لأنه في هذه الآية أضاف الهداية إلى الله تعالى وكذا في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وكذا في قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ(13/46)
أما قوله فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبّى هَاذَا أَكْبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال في الشمس هذا مع أنها مؤنثة ولم يقل هذه لوجوه أحدها أن الشمس بمعنى الضياء والنور فحمل اللفظ على التأويل فذكر وثانيها أن الشمس لم يحصل فيها علامة التأنيث فلما أشبه لفظها لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين وثالثها أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه ورابعها المقصود منه رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند ذكر اللفظ الدال على الربوبية
المسألة الثانية قوله هَاذَا أَكْبَرُ المراد منه أكبر الكواكب جرماً وأقواها قوة فكان أولى بالآلهية
فإن قيل لما كان الأفول حاصلاً في الشمس والأفول يمنع من صفة الربوبية وإذا ثبت امتناع صفة الربوبية للشمس كان امتناع حصولها للقمر ولسائر الكواكب أولى وبهذا الطريق يظهر أن ذكر هذا الكلام في الشمس يغني عن ذكره في القمر والكواكب فلم لم يقتصر على ذكر الشمس رعاية للإيجاز والاختصار
قلنا إن الأخذ من الأدون فالأدون مترقياً إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره فكان ذكره على هذا الوجه أولى
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فالمعنى أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية والإلهية لا جرم تبرأ من الشرك
ولقائل أن يقول هب أنه ثبت بالدليل أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح للربوبية والإلهية لكن لا يلزم من هذا القدر نفي الشريك مطلقاً وإثبات التوحيد فلم فرع على قيام الدليل على كون هذه الكواكب غير صالحة للربوبية الجزم بإثبات التوحيد مطلقاً
والجواب أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أرباباً ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق
أما قوله إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فتح الياء من وَجْهِى َ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم والباقون تركوا هذا الفتح
المسألة الثانية هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة
وأما قوله لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه دقيقة وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السموات والأرض بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى والمعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه لأنه متعال عن الحيز والجهة بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته فترك كلمة ( إلى ) هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود متعالياً عن الحيز والجهة ومعنى فطر أخرجهما(13/47)
إلى الوجود وأصله من الشق يقال تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما وأما الحنيف فهو المائل قال أبو العالية الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّو نِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَى ْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم الحجة المذكورة فالقوم أوردوا عليه حججاً على صحة أقوالهم منها أنهم تمسكوا بالتقليد كقولهم إِنَّا وَجَدْنَا ءابَائِنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 23 ) وكقولهم للرسول عليه السلام أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ومنها أنهم خوفوه بأنك لما طعنت في إلهية هذه الأصنام وقعت من جهة هذه الأصنام في الآفات والبليات ونظيره ما حكاه الله تعالى في قصة قوم هود إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) فذكروا هذا الجنس من الكلام مع إبراهيم عليه السلام
فأجاب الله عن حجتهم بقوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى يعني لما ثبت بالدليل الموجب للهداية واليقين صحة قولي فكيف يلتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة
وأجاب عن حجتهم الثانية وهي أنهم خوفوه بالأصنام بقوله وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا تقدر ولا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها
فإن قيل لا شك أن للطلسمات آثاراً مخصوصة فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة
قلنا الطلسم يرجع حاصله إلى تأثيرات الكواكب وقد دللنا على أن قوى الكواكب على التأثيرات إنما يحصل من خلق الله تعالى فيكون الرجاء والخوف في الحقيقة ليس إلا من الله تعالى
وأما قوله إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى ففيه وجوه أحدها إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي وثانيها إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه وثالثها إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب(13/48)
ثم قال عليه السلام وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً يعني أنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام
ثم قال أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ والمعنى أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب والسعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العقاب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر أَتُحَاجُّونّى خفيفة النون على حذف أحد النونين والباقون على التشديد على الإدغام وأما قوله وَقَدْ هَدَانِى قرأ نافع وابن عامر هَدَانِى بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف
المسألة الثالثة أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ والقوم أيضاً حاجوه في الله وهو قوله تعالى خبراً عنهم وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواح المدح والثناء والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانوناً معتبراً فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق والله أعلم
وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاٌّ مْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاٌّ مْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
اعلم أن هذا من بقية الجواب عن الكلام الأول والتقدير وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو أعظم الذنوب وقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فيه(13/49)
وجهان الأول أن قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان في مثل هذه القصة ونظيره قوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) والمراد منه امتناع حصول البرهان فيه والثاني أنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة فقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً معناه عدم ورود الأمر به وحاصل هذا الكلام مالكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ولم يقل فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه فعدل عنه إلى قوله فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة والمعنى أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذن الوصفين أولهما الإيمان وهو كمال القوة النظرية وثانيهما وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهو كمال القوة العملية
ثم قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ اعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية من وجه والمعتزلة يتمسكون بها من وجه آخر أما وجه تمسك أصحابنا فهو أن نقول إنه تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ولو كان ترك الظلم أحد أجزاء مسمى الإيمان لكان هذا التقييد عبثاً فثبت أن الفاسق مؤمن وبطل به قول المعتزلة وأما وجه تمسك المعتزلة بها فهو أنه تعالى شرط في حصول الأمن حصول الأمرين الإيمان وعدم الظلم فوجب أن لا يحصل الأمن للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين
الوجه الأول أن قوله وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ المراد من الظلم الشرك لقوله تعالى حكاية عن لقمان إذ قال لابنه يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فالمراد ههنا الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا لله شريكاً في المعبودية
والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك
الوجه الثاني في الجواب أن وعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله ويحتمل أن يعفو عنه وعلى كلا التقديرين فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَتِلْكَ إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه الأول أنه إشارة إلى قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ(13/50)
والثاني أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم فقال لهم أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتهم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول والثالث أن المراد هو الكل
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَتِلْكَ مبتدأ وقوله حُجَّتُنَا خبره وقوله إِبْراهِيمَ عَلَى صفة لذلك الخبر
المسألة الثانية قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ويتأكد هذا أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه وحينئذ كان قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء باطلاً فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال
المسألة الثالثة هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة
المسألة الرابعة قرأ عاصم وحمزة والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة فالقراءة الأولى معناها نرفع من نشاء درجات كثيرة فيكون ( من ) في موضع النصب قال ابن مقسم هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة وقال أبو عمرو الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة
المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الدرجات قيل درجات أعماله في الآخرة وقيل تلك الحجج درجات رفيعة لأنها توجب الثواب العظيم وقيل نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة وفي الآخرة بالجنة والثواب وقيل نرفع درجات من نشاء بالعلم واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية
والدليل عليه أنه تعالى قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
ثم قال بعده نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالي العالم الروحاني وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات والله أعلم
وأما معنى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم لا بموجب الشهوة والمجازفة فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل(13/51)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه فأولها قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك فعلنا وقلنا وذكرنا ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم ومن أجل مراتب العطايا والمواهب وثانيها أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة وهي قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وثالثها أنه جعله عزيزاً في الدنيا وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ لصلبه وَيَعْقُوبَ بعده من إسحق
فإن قالوا لم لم يذكر إسمعيل عليه السلام مع إسحق بل أخر ذكره عنه بدرجات قلنا لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب وأما إسمعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام لأنه تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على(13/52)
التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض فلهذا السبب لم يذكر إسمعيل مع إسحق
وأما قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب وذلك لأنه رزقه أولاداً مثل إسحق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وإدريس وشيث فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء
أما قوله وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ فقيل المراد ومن ذرية نوح ويدل عليه وجوه الأول أن نوحاً أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب الثاني أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته بل كان من ذرية نوح عليه السلام وكان رسولاً في زمان إبراهيم الثالث أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته فعلى هذا إسمعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم بل هو من ذرية نوح عليه السلام الرابع قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام وكان من ذرية نوح عليه السلام
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام والتقدير ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان واحتج القائلون بهذا القول بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحاً لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسمعيل واليسع ويونس ولوطاً والمجموع ثمانية عشر
فإن قيل رعاية الترتيب واجبة والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه
قلنا الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق الملك والسلطان والقدرة والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيباً عظيماً
والمرتبة الثانية البلاء الشديد والمحنة العظيمة وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية
والمرتبة الثالثة من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وهو يوسف عليه السلام فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر
والمرتبة الرابعة من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة(13/53)
العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام وذلك كان في حق موسى وهرون
والمرتبة الخامسة الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وترك مخالطة الخلق وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين
والمرتبة السادسة الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه
المسألة الثانية قال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم وكذا الكلام في قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وكذا قوله في آخر الآية ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
قال بعض المحققين المراد من هذه الهداية الثواب العظيم وهي الهداية إلى طريق الجنة وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه فإنه لا يكون جزاء له على عمله وأيضاً لا يبعد أن يقال المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق كما قال وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 )
والقول الثالث أن المراد من هذه الهداية الإرشاد إلى النبوة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك
فإن قالوا لو كان الأمر كذلك لكان قوله وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل وذلك عندكم باطل
قلنا يحمل قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة فيزول الإشكال والله أعلم
المسألة الثالثة احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل في لفظ العالم الملائكة فقوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء لأن عموم قوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يوجب ذلك قال بعضهم وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ معناه فضلناه على عالمي زمانهم قال القاضي ويمكن أن يقال المراد وكلاًّ من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين ثم الكلام بعد ذلك في(13/54)
أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي واللسيع بتشديد اللام وسكون الياء والباقون إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ بلام واحدة قال الزجاج يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها
المسألة الخامسة الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف
المسألة السادسة قوله تعالى وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ يفيد أحكاماً كثيرة الأول أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان فالآباء هم الأصول والذريات هم الفروع والأخوان فروع الأصول وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة والثاني أنه تعالى قال وَمِنْ ءابَائِهِمْ وكلمة ( من ) للتبعيض
فإن قلنا المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة أما لو قلنا المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك الثالث أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان قوله وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولاً من عند الله أن يكون رجلاً وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولاً من عند الله تعالى وقوله تعالى بعد ذلك وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يفيد النبوة لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة
ثم قال تعالى ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك لأنه قال بعده وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جارياً مجرى الأمر المضاد للشرك
وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال وَلَوْ أَشْرَكُواْ والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلا ءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ(13/55)
اعلم أن قوله أُوْلَائِكَ إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة
واعلم أن العطف يوجب المغايرة فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة
واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف أحدها الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم وهم العلماء وثانيها الذين يحكمون على ظواهر الخلق وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة وثالثها الأنبياء وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم وأيضاً أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله الْكِتَابَ مِن إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله وَالْحُكْمَ إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاماً على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر وقوله وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى المرتبة الثالثة وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة والمختار عندنا ما ذكرناه
واعلم أن قوله الْكِتَابَ مِن يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليه السلام وقرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهماً تاماً لما في الكتاب وعلماً محيطاً بحقائقه وأسراره وهذا هو الأولى لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين والتخصيص
ثم قال تعالى فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء والمرادفان يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك القوم من هم على وجوه فقيل هم أهل المدينة وهم الأنصار وقيل المهاجرون والأنصار وقال الحسن هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج قال الزجاج والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ وقال أبو رجاء يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم وقال مجاهد هم الفرس وقال ابن زيد كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو من التابعين
المسألة الثانية قوله تعالى فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً فيه بين المؤمن وغير المؤمن وحينئذ لا يبقى لقوله فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ معنى
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله وذكر في الجواب وجهاً ثانياً فقال وبتقدير أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في(13/56)
العطية فإنه يصح أن يقال إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن والتخصيص عند المعتزلة غير جائز والثاني أيضاً فاسد لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه ويجعله مستعلياً على كل من عاداه قاهراً لكل من نازعه وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع فكان هذا جارياً مجرى الأخبار عن الغيب فيكون معجزاً والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لا شبهة في أن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ولا شك في أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم فمن الناس من قال المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أن شرع من قبلنا يلزمنا وقال آخرون إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
ثم قال في هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أي اقتد بهم في نفس الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب وقال آخرون اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل قال القاضي يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه أحدها أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة وثانيها أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل(13/57)
وإذا ثبت هذا فنقول دليل ثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات لا في غير ذلك الأوقات فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات وثالثها أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم
والجواب عن الأول أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم فنقول ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة
وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأموراً بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلاً في ذلك الحكم ولا تعلق له بمن قبله البتة والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني وبهذا التقرير يسقط السؤال
وعن الثالث أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا
المسألة الثانية احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام وتقريره هو أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد وإسماعيل كان صاحب الصدق ويونس صاحب التضرع فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك امتنع أن يقال إنه قصر في تحصيلها فثبت أنه حصلها ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه اجتمع فيه من فصال الخير ما كان متفرقاً فبهم بإسرهم ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال إنه أفضل منهم بكليتهم والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي قوله هُدَى اللَّهِ دليل على أنهم مخصوصون بالهدى لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فائدة تخصيص
المسألة الرابعة قال الواحدي الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله روى اللحياني عن الكسائي أنه قال يقال لي بك قدوة وقدوة(13/58)
المسألة الخامسة قال الواحدي قرأ ابن عامر اقْتَدِهْ بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء والباقون اقْتَدِهْ ساكنة الهاء غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف والباقون يثبتونها في الوصل والوقف
والحاصل أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف قال الواحدي الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء وذلك لأن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا وأما قراءة ابن عامر فقال أبو بكر ومجاهد هذا غلط لأن هذه الهاء هاء وقف فلا تعرب في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها قال أبو علي الفارسي ليس بغلط ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر والتقدير فبهداهم اقتد الاقتداء فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء لأن هاء الضمير تسكن في الوقف كما تقول اشتره والله أعلم
أما قوله تعالى قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام المتقدمين وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم في ذلك فقال لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا أطلب منكم مالاً ولا جعلاً إِنْ هُوَ يعني القرإن إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم والله أعلم
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَى ْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة فقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث أنكروا النبوة والرسالة فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن وفي الآية مسائل(13/59)
المسألة الأولى في تفسير قوله تعالى مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وجوه قال ابن عباس ما عظموا الله حق تعظيمه وروى عنه أيضاً أنه قال معناه ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير وقال أبو العالية ما وصفوه حق صفته وقال الأخفش ما عرفوه حق معرفته وحقق الواحدي رحمه الله ذلك فقال يقال قدر الشيء إذا سبره وحرره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً ومنه قوله عليه السلام ( وإن غم عليكم فاقدروا له ) أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ثم قال يقال لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره فقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صحيح في كل المعاني المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لما حكى عنهم أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بين السبب فيه وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته وتقريره من وجوه الأول أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول إنه تعالى ما كلف أحداً من الخلق تكليفاً أصلاً أو يقول إنه تعالى كلفهم التكاليف والأول باطل لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله ووصفه بما لا يليق به والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين والإعراض عن شكر النعم ومقابلة الإنعام بالإساءة ومعلوم أن كل ذلك باطل وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين وما ذاك إلا الرسول
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات
قلنا هب أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى وكان ذلك جهلاً بصفة الإلهية وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
الوجه الثاني في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له والقائلون بهذا القول لهم مقامان
المقام الأول أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة
والمقام الثاني الذين يسلمون إمكان ذلك إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى
أما المقام الأول فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلاً للتمزق والتفرق
فإن قلنا إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفاً له بالعجز ونقصان القدرة وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر الله حق قدره
وإن قلنا إنه تعالى قادر عليه فحينئذ لا يمتنع عقلاً انشقاق القمر ولا حصول سائر المعجزات(13/60)
وأما المقام الثاني وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم فهذا أيضاً ظاهر على ما مقرر في كتب الأصول فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره
والوجه الثالث أنه لما ثبت حدوث العالم فنقول حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق وملك لهم على الإطلاق والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده وأن يكون له وعد على الطاعة ووعيد على المعصية وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكاً مطاعاً ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره
المسألة الثالثة في هذه الآية بحث صعب وهو أن يقال هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ عَلَى َّ بَشَرٍ مّن شَى ْء إما أن يقال إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإن كان الأول فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى فهذا أيضاً صعب مشكل لأنهم لا يقولون هذا القول وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى والإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى وأيضاً فهذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين اليهود والنصارى كلها مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين
فالقول الأول إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور قال ابن عباس إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود ) فضحك القوم فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك فقال إنه أغضبني ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية وفيها سؤالات
السؤال الأول اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال إن خرجت من الدار فأنت طالق فإن كثيراً من الفقهاء قالوا اللفظ وإن كان مطلقاً إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا ههنا قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين(13/61)
وإذا صار هذا المطلق محمولاً على هذا المقيد لم يكن قوله مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى مبطلاً لكلامه فهذا أحد السؤالات
السؤال الثاني أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ومع هذا المذهب البتة أن يقول ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله
والسؤال الثالث أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة وأيضاً لما نزلت السورة دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول والأقرب عندي أن يقال لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ما أنزل الله عليك شيئاً البتة ولست رسولاً من قبل الله البتة فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئاً لأني بشر وموسى بشر أيضاً فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئاً فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئاً البتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى فذاك محض الجهالة والتقليد وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين
فأما السؤال الثالث وهو قوله هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي
قلنا القائلون بهذا القول قالوا السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه
والقول الثاني أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم
بقي أن يقال كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش وإنما يليق باليهود وهو قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ وَمَا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ( الأنعام 91 ) فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قول من يقول إن أول الآية خطاب مع الكفار وآخرها خطاب مع اليهود فاسد لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلاً عن كلام رب العالمين فهذا تقرير الإشكال على هذا القول(13/62)
أما السؤال الأول فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعباناً وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك فكان مجموع هذه الكلمات جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاماً عليهم في قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء
وأما السؤال الثاني فجوابه أن كفار قريش واليهود والنصارى لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد وارداً على سبيل أن يكون بعضه خطاباً مع كفار مكة وبقيته يكون خطاباً مع اليهود والنصارى فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب وبالله التوفيق
المسألة الرابعة مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى البتة ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي وما عرفوا الله حق معرفته وهذا الاستدلال بعيد لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة وكذا القول في الموضعين الآخرين وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة والله أعلم
المسألة الخامسة في هذه الآية أحكام
الحكم الأول
أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم والدليل عليه هذه الآية فإن قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء نكرة في موضع النفي فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى إبطالاً له ونقضاً عليه ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال ولما كان ذلك باطلاً ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم والله أعلم
الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام وذلك لأنه تعالى نقض قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء بقوله قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب
واعلم أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر وأبهر من معجزاتك فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا ولو كان الفرق مقبولاً لسقطت هذه الحجة وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم(13/63)
الحكم الثالث
تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وصف بعده كتاب موسى بالصفات
فالصفة الأولى كونه نوراً وهدى للناس
واعلم أنه تعالى سماه نوراً تشبيهاً له بالنور الذي به يبين الطريق
فإن قالوا فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نوراً وبين كونه هدى للناس فرق وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير
قلنا النور له صفتان إحداهما كونه في نفسه ظاهراً جلياً والثانية كونه بحيث يكون سبباً لظهور غيره فالمراد من كونه نوراً وهدى هذان الأمران
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضاً بهذين الوصفين في آية أخرى فقال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
الصفة الثانية قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وفيه مسائل
المسألة الأول قرأ أبو عمرو وابن كثير يجعلونه على لفظ الغيبة وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة فكذلك القول في البواقي ومن قرأ بالتاء على الخطاب فالتقدير قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً والدليل عليه قوله تعالى وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ فجاء على الخطاب فكذلك ماقبله
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي يجعلونه ذات قراطيس أي يودعونه إياها
فإن قيل إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب فما السبب في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم
قلنا الذم لم يقع على هذا المعنى فقط بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس وفرقوه وبعضوه لا جرم قدروا على إبداء البعض وإخفاء البعض وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام(13/64)
فإن قيل كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه فكذا القول في التوراة
قلنا قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن
فإن قيل هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إلا أنها قليلة والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات فلم قال ويخفون كثيراً
قلنا القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن
الصفة الثالثة قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث الله محمداً ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المراد من قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث قال قُلِ اللَّهُ والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الذي صفته كذا وكذا فقال بعده قُلِ اللَّهُ والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى فلما صار هذا المعنى ظاهراً بسبب ظهور الحجة القاطعة لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ونظيره قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ وأيضاً إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة وفي الصماخ القوة السامعة ثم إن ذلك القائل نفسه يقول اللَّهِ والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا
ثم قال تعالى بعده ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة ونظيره قوله تعالى إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ
المسألة الثانية قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مذكور لأجل التهديد وذلك لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوب المقاتلة رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية فلم يحصل النسخ فيه والله أعلم(13/65)
وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال ما أنزل الله على بشر من شيء ذكر بعده أن القرآن كتاب الله أنزله الله تعالى على محمد عليه الصلاة والسلام
واعلم أن قوله وَهَاذَا إشارة إلى القرآن وأخبر عنه بأنه كتاب وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ثم وصفه بصفات كثيرة
الصفة الأولى قوله أَنزَلْنَاهُ والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول لأنه لا يبعد أن يخص الله محمداً عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام
الصفة الثانية قوله تعالى مُّبَارَكٌ قال أهل المعاني كتاب مبارك أي كثير خيره دائم بركته ومنفعته يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية وأقول العلوم إما نظرية وإما عملية أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة
يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم
الصفة الثالثة قوله مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ فالمراد كونه مصدقاً لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول وإما علم الفروع
أما علوم الأصول فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية
وأما علم الفروع فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها إنما(13/66)
تبقى إلى وقت ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق فثبت كون القرآن مصدقاً لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع
الصفة الرابعة قوله تعالى وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وههنا أبحاث
البحث الأول اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير ولتنذر أهل أم القرى واتفقوا على أن أم القرى هي مكة واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة بهذا الاسم فقال ابن عباس سميت بذلك لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها وقال أبو بكر الأصم سميت بذلك لأنها قبل أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحج وهو إنما يحصل في تلك البلدة فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم وأيضاً فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى وقيل إنما سميت مكة أم القرى لأن الكعبة أول بيت وضع للناس وقيل أيضاً إن مكة أول بلدة سكنت في الأرض
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَنْ حَوْلَهَا دخل فيه سائر البلدان والقرى
والبحث الثاني زعمت طائفة من اليهود أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى العرب فقط واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة وإلى القرى المحيطة بها والمراد منها جزيرة العرب ولو كان مبعوثاً إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا باطلاً
والجواب أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة المفهوم وهي ضعيفة لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر المقطوع به من دين محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يدَّعي كونه رسولاً إلى كل العالمين وأيضاً قوله وَمَنْ حَوْلَهَا يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها وبهذا التقدير فيدخل فيه جمع بلاد العالم والله أعلم
البحث الثالث قرأ عاصم في رواية أبي بكر لّيُنذِرَ بالياء جعل الكتاب هو المنذر لأن فيه إنذاراً ألا ترى أنه قال تُحَرّكْ بِهِ أي بالكتاب وقال وَأَنذِرْ بِهِ وقال إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع وأما الباقون فإنهم قرؤا وَلِتُنذِرَ بالتاء خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو قال تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ وقال وَأَنذِرِ الَّذِينَ يَخَافُونَ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوهاً الأول أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب ورهبته عن حلول العقاب ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة فيصل إلى العلم والإيمان والثاني أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني على الإيمان بالبعث والقيامة وليس لأحد من الأنبياء(13/67)
مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين والثالث يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ والمراد أن الإيمان بالآخرة كما يحمل الرجل على الإيمان بالنبوة فكذلك يحمله على المحافظة على الصلوات وليس لقائل أن يقول الإيمان بالآخرة يحمل على كل الطاعات فما الفائدة في تخصيص الصلاة بالذكر لأنا نقول المقصود منه التنبيه على أن الصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله وأعظمها خطراً ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة كما قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي صلاتكم ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة قال عليه الصلاة والسلام ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام والله أعلم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة فأولها أن يفتري على الله كذباً قال المفسرون نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء وكان مسيلمة يقول محمد رسول قريش وأنا رسول بني حنيفة قال القاضي الذي يفتري على الله الكذب(13/68)
يدخل فيه من يدعي الرسالة كذباً ولكن لا يقتصر عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برىء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد قال والافتراء على الله في صفاته كالمجسمة وفي عدله كالمجبرة لأن هؤلاء قد ظلموا أعظم أنواع الظلم بأن افتروا على الله الكذب وأقول أما قوله المجسمة قد افتروا على الله الكذب فهو حق وأما قوله إن هذا افتراء على الله في صفاته فليس بصحيح لأن كون الذات جسماً ومتحيزاً ليس بصفة بل هو نفس الذات المخصوصة فمن زعم أن إله العالم ليس بجسم كان معناه أنه يقول جميع الأجسام والمتحيزات محدثة ولها بأسرها خالق هو موجود ليس بمتحيز والمجسم ينفي هذه الذات فكان الخلاف بين الموحد والمجسم ليس في الصفة بل في نفس الذات لأن الموحد يثبت هذه الذات والمجسم ينفيها فثبت أن هذا الخلاف لم يقع في الصفة بل في الذات وأما قول المجبرة قد افتروا على الله تعالى في صفاته فليس بصحيح لأنه يقال له المجبرة ما زادوا على قولهم الممكن لا بد له من مرجح فإن كذبوا في هذه القضية فكيف يمكنهم أن يعرفوا وجود الإله وإن صدقوا في ذلك لزمهم الإقرار بتوقيف صدور الفعل على حصول الداعي بتخليق الله تعالى وذلك عين ما نسميه بالجبر فثبت أن الذي وصفه بكونه افتراء على الله باطل بل المفتري على الله من يقول الممكن لا يتوقف رجحان أحد طرفيه على الآخر على حصول المرجح فإن من قال هذا الكلام لزمه نفي الصانع بالكلية بل يلزمه نفي الآثار والمؤثرات بالكلية
والنوع الثاني من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْء والفرق بين هذا القول وبين ما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحى إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام وكان هذا جمعاً بين نوعين عظيمين من الكذب وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود
والنوع الثالث قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ قال المفسرون المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا وقوله في القرآن إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله وحاصله أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن وروى أيضاً أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام فلما نزل قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) أملاء الرسول عليه السلام فلما انتهى إلى قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً عجب عبد الله منه فقال فتبارك الله أحسن الخالقينا فقال الرسول هكذا أنزلت الآية فسكت عبد الله وقال إن كان محمد صادقاً فقد أوحى إلي وإن كان كاذباً فقد عارضته فهذا هو المراد من قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ
أما قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فاعلم أن أول الآية وهو قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ كالتفصيل لذلك المجمل والمراد بالظالمين الذين ذكرهم وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه ومنه غمرة الماء وغمرة الحرب ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه وقال الزجاج يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك وغمره الدين إذا كثر(13/69)
عليه هذا هو الأصل ثم يقال للشدائد والمكاره الغمرات وجواب ( لو ) محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم ههنا محذوف والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام
فنقول في تفسير هذه الكلمة وجوه
الوجه الأول ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم
الوجه الثاني أن يكون المعنى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام
والوجه الثالث أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك
والوجه الرابع أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه
والوجه الخامس أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ليس بأمر بل هو وعيد وتقريع كقول القائل امض الآن لترى ما يحل بك قال المفسرون إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج لأنها تصير إلى أشد العذاب كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) وذلك عند نزع الروح فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح
المسألة الثانية الذين قالوا إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل وغير هذا الجسد احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا لا شك أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ معناه أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة لم يتم هذا الاستدلال
ثم قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ قال الزجاج عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد قال تعالى أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ ( النحل 59 ) والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم فكذلك العقاب شرطه أن(13/70)
يكون مضرة مقرونة بالإهانة قال بعضهم الهون هو الهوان والهون هو الرفق والدعة قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقوله بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( الأنعام 93 ) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وأقول هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ومن آثاره ونتائجه وذكر الواحدي أن المراد بقوله وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له قال عليه السلام ( من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر )
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أن قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى يحتمل وجهين الأول أن يكون هذا معطوفاً على قول الملائكة أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم
والقول الثاني أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومنشأ هذا الاختلاف إن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا فقوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وقوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) يقتضي أن أن يكون تعالى يتكلم معهم فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف والقول الأول أقوى لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها والعطف يوجب التشريك
المسألة الثانية فُرَادَى لفظ جمع وفي واحده قولان قال ابن قتيبة فرادى جمع فردان مثل سكارى وسكران وكسالى وكسلان وقال غيره فرادى جمع فريد مثل ردافى ورديف وقال الفراء فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان
إذا عرفت هذا فقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى المراد منه التقريع والتوبيخ وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين أحدهما تحصيل المال والجاه والثاني أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة وتلك(13/71)
المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد
ثم قال تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بَيْنِكُمْ بالنصب والباقون بالرفع قال الزجاج الرفع أجود ومعناه لقد تقطع وصلكم والنصب جائز والمعنى لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم قال أبو علي هذا الاسم يستعمل على ضربين أحدهما أن يكون اسماً منصرفاً كالافتراق والأجود أن يكون ظرفاً والمرفوع في قراءة من قرأ بَيْنِكُمْ هو الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسماً والدليل على جواز كونه اسماً قوله تعالى وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) و هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ( الكهف 78 ) فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تُقَطَّعَ في قول من رفع قال ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر والقسم الثاني باطل وإلا لصار تقدير الآية لقد تقطع افتراقكم وهذا ضد المراد لأن المراد من الآية لقد تقطع وصلكم وما كنتم سالفون عليه
فإن قيل كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين
قلنا هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه كقولهم بيني وبينه شركة وبيني وبينه رحم فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ معناه لقد تقطع وصلكم أما من قرأ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل والتقدير لقد تقطع وصلكم بينكم وقال سيبويه إنهم قالوا إذا كان غداً فأتني والتقدير إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال فكذا ههنا وقال ابن الأنباري التقدير لقد تقطع ما بينكم فحذفت لوضوح معناها
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة فأولها أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة عظمت حسراته وقويت آفاته حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها ثم إنه ضيعها وأبطلها ولم ينتفع بها البتة وهذا هو المراد من قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وثانيها أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية وكمالاً روحانياً فقد عملت عملاً آخر أردأ من الأول وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل الماء والجاه وفي تقوية العشق عليها وتأكيد المحبة وفي تحصيلها والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فهذا المسكين قلب القضية وعكس القضية وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فبقيت الأموال التي اكتسبها وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به وربما بقي(13/72)
منقطع المنفعة معوج الرقبة معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع الهجز عن الانتفاع بها وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة وهو المراد من قوله وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ولكنه قدمها تلقاء وجهه كما قال تعالى وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 ) وثالثها أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب منها عذاب الحسرة والندامة وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء ومنها عذاب الخجلة وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية وهو المراد من قوله وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ورابعها أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فههنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جداً وإليه الإشارة بقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَى ِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما تكلم في التوحيد ثم أردفه بتقرير أمر النبوة ثم تكلم في بعض تفاريع هذا الأصل عاد ههنا إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وحكمته وقدرته تنبيهاً على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله وفي قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى قولان(13/73)
القول الأول وهو مروي عن ابن عباس وقول الضحاك ومقاتل فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى أي خالق الحب والنوى قال الواحدي ذهبوا بفالق مذهب فاطر وأقول الفطر هو الشق وكذلك الفلق فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق فبهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمحدث والمبدع
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق والحب هو الذي يكون مقصوداً بذاته مثل حبة الحنطة والشعير وسائر الأنواع والنوى هو الشيء الموجود في داخل الثمرة مثل نوى الخوخ والتمر وغيرهما
إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر أما الشق الذي يظهر في أعلى الحبة والنواة فإنه يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء وأما الشق الذي يظهر في أسفل تلك الحبة فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض
ثم إن ههنا عجائب فإحداها أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض فلما تولد منها هاتان الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع وثانيها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم وثالثها أنه يتولد من تلك النواة شجرة ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ويتولد على الأغصان الأوراق أولاً ثم الأزهار والأنوار ثانياً ثم الفاكهة ثالثاً ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر مثل الجوز فإن قشره على الأعلى هو ذلك الأخضر وتحت ذلك القشر الذي يشبه الخشب وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف هو أيضاً كالقشر وعلى جرم لطيف وهو الدهن وهو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة والطبائع الأربع يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا بتدبير الطبائع والعناصر ورابعها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة فالأترنج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب(13/74)
وحماضه بارد يابس وبذره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب فتولد هذه الطبائع المضادة والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار وخامسها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة فبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج وتكون الخشبة في الداخل كالخوخ والمشمس وبعضها يكون النواة لها لب كما في نوى المشمش والخوخ وبعضها لا لب له كما في نوى التمر وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر بل يكون كله مطلوباً كالتين فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه وأيضاً هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل العدس كأنه دائرة وشكل الحمص على وجه آخر فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكم علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل وأيضاً فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ومنفعة أخرى وأيضاً فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان وسماً لحيوان آخر فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم وسادسها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت خطاً واحداً مستقيماً في وسطها كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في بدن الإنسان ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار بسبب الصغر فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى ولا يزال يبقى على هذا المنهج حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر والخالق تعالى إنما فعل ذلك حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل
ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل ولما علمت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة فهذا كلام مختصر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له ونسأل الله التوفيق والهداية(13/75)
المسألة الثانية أما قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ ففيه مباحث الأول أن الْحَى ّ اسم لما يكون موصوفاً بالحياة و الْمَيّتِ اسم لما كان خالياً عن صفة الحياة فيه وعلى هذا التقدير النبات لا يكون حياً
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا الْحَى ّ و الْمَيّتِ قولان الأول حمل هذين اللفظين على الحقيقة قال ابن عباس يخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم
والقول الثاني أن يحمل الْحَى ّ و الْمَيّتِ على ما ذكرناه وعلى الوجوه المجازية أيضاً وفيه وجوه الأول قال الزجاج يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ويخرج اليابس من النبات الحي النامي الثاني قال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم والكافر من المؤمن كما في حق ولد نوح والعاصي من المطيع وبالعكس الثالث قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سبباً للنفع العظيم وبالعكس ذكروا في الطب أن إنساناً سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم فخرجت حية عظيمة فلدغته فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه فإن الأفيون يقتل بقوة برده وسم الأفعى يقتل بقوة حره فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر الأفيون فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات وقد يكون بالعكس من ذلك وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبراً حكيماً ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة
البحث الثاني من مباحث هذه الآية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الْمَيّتِ مشددة في الكلمتين والباقون بالتخفيف في الكلمتين وكذلك كل هذا الجنس في القرآن
البحث الثالث أن لقائل أن يقول إنه قال أولاً يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ثم قال وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ وعطف الاسم على الفعل قبيح فما السبب في اختيار ذلك
قلنا قوله وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ معطوف على قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى وقوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ كالبيان والتفسير لقوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وفيه وجه آخر وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة وضرب الشيخ عبد القاهر الجرجاني لهذا مثلاً في كتاب ( دلائل الإعجاز ) فقال قوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله يَرْزُقُكُمْ لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة(13/76)
وأما الاسم فمثاله قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) فقوله بَاسِطٌ يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة
إذا ثبت هدا فنقول الحي أشرف من الميت فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيهاً على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى في آخر الآية ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم معناه ذلكم الله المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ في إثبات القول بعبادة الأصنام والثاني أن المراد أنكم لما شاهدتم أنه تعالى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ثم شاهدتم أنه أخرج البدن الحي من النطفة الميتة مرة واحدة فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحي من ميت التراب الرميم مرة أخرى والمقصود الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر وأيضاً الضدان متساويان في النسبة فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر وجب أن لا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأول فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الحياة وجب أيضاً أن لا يمتنع حصول الحياة بعد الموت وعلى كلا التقديرين فيخرج منه جواز القول بالبعث والحشر والنشر
المسألة الثانية تمسك الصاحب بن عباد بقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ على أن فعل العبد ليس مخلوقاً لله تعالى قال لأنه تعالى لو خلق الأفك فيه فكيف يليق به أن يقول مع ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
والجواب عنه أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فإن ترجح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح فحينئذ لا يكون هذا الرجحان من العبد بل يكون محض الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وأن توقف ذلك المرجح على حصول مرجح وهي الداعية الجاذبة إلى الفعل فحصول تلك الداعية يكون من الله تعالى وعند حصولها يجب الفعل وحينئذ يلزمكم كل ما ألزمتموه علينا والله أعلم
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم كان مأخوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية وتقرير الحجة من وجوه الأول أن نقول الصبح صبحان(13/77)
فالصبح الأول هو الصبح المستطيل كذنب السرحان ثم تعقبه ظلمة خالصة ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق فنقول أما الصبح الأول وهو المستطيل الذي يحصل عقيبه ظلمة خالصة فهو من أقوى الدلائل على قدرة الله وحكمته وذلك لأنا نقول إن ذلك النور إما أن يقال إنه حصل من تأثير قرص الشمس أو ليس الأمر كذلك والأول باطل وذلك لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فأهل الموضع الذي تكون تلك الدائرة أفقاً لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم وفي ذلك الموضع أيضاً نصف كرة الأرض وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتنا وذلك الضوء يكون منتشراً مستطيراً في جميع أجزاء الجو ويجب أن يكون ذلك الضوء في كل ساعة إلى القوة والزيادة والكمال والصبح الأول لو كان أثر قرص الشمس لامتنع كونه خطاً مستطيلاً بل يجب أن يكون مستطيراً في جميع الأفق منتشراً فيه بالكلية وأن يكون متزايداً متكاملاً بحسب كل حين ولحظة ولما لم يكن الأمر كذلك بل علمنا أن الصبح الأول يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى تشبهه العرب بذنب السرحان ثم إنه يحصل عقيبه ظلمة خالصة ثم يحصل الصبح المستطير بعد ذلك علمنا أن ذلك الصبح المستطيل ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره فوجب أن يكون ذلك حاصلاً بتخليق الله تعالى ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بتخليقه وإن الظلمات لا ثبات لها إلا بتقديره كما قال في أول هذه السورة وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
والوجه الثاني في تقرير هذا الدليل أنا لما بحثنا وتأملنا علمنا أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى على الجرم المقابل لها فأما الذي لا يكون مقابلاً لها فيمتنع وقوع أضوائها عليه وهذه مقدمة متفق عليها بين الفلاسفة وبين الرياضيين الباحثين عن أحوال الضوء المضيء ولهم في تقريرها وجوه نفيسة
إذا عرفت هذا نقول الشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلاً لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص الشمس فوجب أن يكون ذلك بتخليق الفاعل المختار
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل له ثم ذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصيره ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سبباً لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء إلى هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا هذا هو الوجه الذي عول عليه أبو علي بن الهيثم في تقرير هذا المعنى في كتابه الذي سماه ( بالمناظر الكثة )
والجواب أن هذا العذر باطل من وجهين الأول أن الهواء جرم شفاف عديم اللون وما كان كذلك فإنه لا يقبل النور واللون في ذاته وجوهره وهذا متفق عليه بين الفلاسفة واحتجوا عليه بأنه لو استقر النور على سطحه لوقف البصر على سطحه ولو كان كذلك لما نفذ البصر فيما وراءه ولصار إبصاره مانعاً عن إبصار ما وراءه فحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يقبل اللون والنور في ذاته وجوهره وما كان كذلك امتنع أن ينعكس النور منه إلى غيره فامتنع أن يصير ضوءه سبباً لضوء هواء آخر مقابل له(13/78)
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم إن بحصول الضوء فيها يصير سبباً لحصول الضوء في الهواء المقابل لها فنقول لو كان السبب ما ذكرتم لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى لكنه ليس الأمر كذلك بل على العكس منه فبطل هذا العذر
الوجه الثاني في إبطال هذا الكلام الذي ذكره ابن الهيثم أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا فهي بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين فإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام
إذا ثبت هذا فنقول إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العام هناك والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محاذياً لهواء الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل الضوء والنور في هواء الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء الربع الشرقي في غاية الإضاءة والإنارة بعد نصف الليل وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم فقد ذكرنا برهانين دقيقين عقليين محضين على أن خالق الضوء والظلمة هو الله تعالى لا قرص الشمس والله أعلم
والوجه الثالث هب أن النور الحاصل في العالم إنما كان بتأثير الشمس إلا أنا نقول الأجسام متماثلة في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك كان حصول هذه الخاصية لقرص الشمس يجب أن يكون بتخليق الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فهو أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً ومتحيزة فلو حصل الاختلاف بينها لكان ذلك الاختلاف واقعاً في مفهوم مغاير لمفهوم الجسمية ضرورة أن ما به المشاركة مغاير لما به المخالفة فنقول ذلك الأمر إما أن يكون محلاً للجسمية أو حالاً فيها أو لا محلاً لها ولا حالاً فيها والأول باطل لأنه يقتضي كون الجسم صفة قائمة بذات أخرى وذلك محال لأن ذلك المحل إن كان متحيزاً ومختصاً بحيز كان محل الجسم غير الجسم وهو محال وإن لم يكن كذلك كان الحاصل في الحيز حالاً في محل لا تعلق له بشيء من الأحياز والجهات وذلك مدفوع في بديهة العقل والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير الذوات هي الأجسام وما به قد حصلت المخالفة هو الصفات وكل ما يصح على الشيء صح على مثله فلما كانت الذوات متماثلة في تمام الماهية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر وهو المطلوب والثالث وهو القول بأن ما به حصلت المخالفة ليس محلاً للجسم ولا حالاً فيه وفساد هذا القسم ظاهر فثبت بهذا البرهان أن الأجسام متماثلة
وإذا ثبت هذا فنقول كل ما يصح على أحد المثلين فإنه يصح أيضاً على المثل الثاني وإذا استوت الأجسام بأسرها في قبول جميع الصفات على البدل كان اختصاص جسم الشمس لهذه الإضاءة وهذه الإنارة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وإذا ثبت هذا كان فالق الإصباح في الحقيقة هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم(13/79)
الوجه الرابع في تقرير هذا المطلوب أن الظلمة شبيهة بالعدم بل البرهان القاطع قد دل على أنه مفهوم عدمي والنور محض الوجود فإذا أظلم الليل حصل الخوف والفزع في قلب الكل فاستولى النوم عليهم وصاروا كالأموات وسكنت المتحركات وتعطلت التأثيرات ورفعت التفعيلات فإذا وصل نور الصباح إلى هذا العالم فكأنه نفخ في الصور مادة الحياة وقوة الإدراك فضعف النوم وابتدأت اليقظة بالظهور وكلما كان نور الصباح أقوى وأكمل كان ظهور قوة الحس والحركة في الحيوانات أكمل ومعلوم أن أعظم نعم الله على الخلق هو قوة الحياة والحس والحركة ولما كان النور هو السبب الأصلي لحصول هذه الأحوال كان تأثير قدرة الله تعالى في تخليق النور من أعظم أقسام النعم وأجل أنواع الفضل والكرم
إذا عرفت هذا فكونه سبحانه فالقاً للأصباح في كونه دليلاً على كمال قدرة الله تعالى أجل أقسام الدلائل وفي كونه فضلاً ورحمة وإحساناً من الله تعالى على الخلق أجل الأقسام وأشرف الأنواع فهذا ما حضرنا في تقرير دلالة قوله تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ على وجود الصانع القادر المختار الحكم والله أعلم
ولنختم هذه الدلائل بخاتمة شريفة فنقول إنه تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح العقل والإدراك وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات
المسألة الثالثة في تفسير الإِصْبَاحِ وجوه الأول قال الليث الصبح والصباح هما أول النهار وهو الإصباح أيضاً قال تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ يعني الصبح قال الشاعر أفنى رياحاً وبنى رياح
تناسخ الإمساء والإصباح
والقول الثاني أن الإِصْبَاحِ مصدر سمي به الصبح
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح وليس الأمر كذلك فإن الحق أنه تعالى فلق الظلمة بالصبح فكيف الوجه فيه فنقول فيه وجوه الأول أن يكون المراد فالق ظلمة الإصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الشمالي والغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور وإنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولاً من النور فيه والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلوماً حسن الحذف والثاني أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي فالق الإصباح ببياض النهار والثالث أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب الرابع قال بعضهم الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
أما قوله تعالى وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية(13/80)
على التوحيد فأولها ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم وثانيها قوله وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وفيه مباحث
المبحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها المؤنسة ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان لأنه أتعب نفسه بالنهار واحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل
فإن قيل أليس أن الخلق يبقون في الجنة في أهنأ عيش وألذ زمان مع أنه ليس هناك ليل فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم أما في الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فيه فظهر الفرق
المبحث الثاني قرأ عاصم والكسائي وَجَعَلَ الَّيْلَ على صيغة الفعل والباقون جاعل على صيغة اسم الفاعل حجة من قرأ باسم الفاعل أن المذكور قبله اسم الفاعل وهو قوله فَالِقُ الْحَبّ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وجاعل أيضاً اسم الفاعل ويجب كون المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد لهذا النصب من عامل وما ذاك إلا أن يقدر قوله وَجَعَلَ بمعنى وجاعل الشمس والقمر حسباناً وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ففيه مباحث
المبحث الأول معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) وقال في سورة الرحمن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً
المبحث الثاني في الحسبان قولان الأول وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان والثاني أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان وقال صاحب ( الكشاف ) الحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب ونظيره الكفران والغفران والشكران
إذا عرفت هذا فنقول معنى جعل الشمس والقمر حسباناً جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات لا يعلم إلا بدورهما وسيرهما
المبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قرئا بالحركات الثلاث فالنصب على إضمار فعل دل عليه قوله جَاعِلِ الَّيْلَ أي وجعل الشمس والقمر حسباناً والجر عطف على لفظ الليل والرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره والشمس والقمر مجعولان حسباناً أي محسوبان
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة(13/81)
إلى كمال علمه ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد وهي من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى خلقها لتهتدي الخلق بها إلى الطرق والمسالك في ظلمات البر والبحر حيث لا يرون شمساً ولا قمراً لأن عند ذلك يهتدون بها إلى المسالك والطرق التي يريدون المرور فيها
الوجه الثاني وهو أن الناس يستدلون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة وإنما يستدلون بحركة الشمس في النهار على القبلة ويستدلون بأحوال الكواكب في الليالي على معرفة القبلة
الوجه الثالث أنه تعالى ذكر في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) وقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ ( الصافات 6 ) وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 )
الوجه الرابع أنه تعالى ذكر في منافعها كونها رجوماً للشياطين
الوجه الخامس يمكن أن يقال لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات التعطيل والتشبيه فإن المعطل ينفي كونه فاعلاً مختاراً والمشبه يثبت كونه تعالى جسماً مختصاً بالمكان فهو تعالى خلق هذه النجوم ليهتدى بها في هذين النوعين من الظلمات أما الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل فذلك لأنا نشاهد هذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة فبعضها سيارة وبعضها ثابتة والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين وأيضاً الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة وأيضاً بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء وبعضها صغيرة خفية قليلة الضوء وأيضاً قدروا مقاديرها على سبع مراتب
إذا عرفت هذا فنقول قد دللنا على أن الأجسام متماثلة وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلاً على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه فلأنا نقول إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه(13/82)
الكواكب إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض وأيضاً إنها متناهية ومحدودة وأيضاً إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال فهذه الأشياء إن لم تكن عيوباً في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها وإن كانت عيوباً في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه وهذا وإن كان عدولاً عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى
الوجه السادس في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالاً مبيناً ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم قال قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه الثاني أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نظير قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي آل عمران في قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) والثالث أن يكون المراد من قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم
فإن قيل فما القول في عيسى
قلنا هو أيضاً مخلوق من مريم التي هي مخلوقة من أبويها
فإن قالوا أليس أن القرآن قد دل على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها فكيف يصح ذلك
قلنا كلمة ( من ) تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء تكون عيسى عليه السلام كان من مريم وهذا(13/83)
القدر كاف في صحة هذا اللفظ قال القاضي فرق بين قوله أَنشَأَكُمْ وبين قوله خَلَقَكُمْ لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء ولكن على وجه النمو والشنوء لا من مظهر من الأبوين كما يقال في النبات إنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء وأما قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف والباقون بفتحها قال أبو علي الفارسي قال سيبويه يقال قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر ( منكم ) أي منكم مستقر ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به لأن استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به فيكون اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر ( منكم ) بل يكون خبره ( لكم ) فيكون التقدير لكم مقر وأما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيداً ألفاً وأودعت مثله فالمستودع يجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه
إذا عرفت هذا فنقول من قرأ مستقراً بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ليكون مثل المعطوف عليه والتقدير فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن قرأ فَمُسْتَقَرٌّ بالكسر فالمعنى منكم مستقر ومنكم مستودع والتقدير منكم من استقر ومنكم من استودع والله أعلم
المبحث الثاني الفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى النبات من المستودع فالشيء الذي حصل في موضع ولا يكون على شرف الزوال يسمى مستقراً فيه وأما إذا حصل فيه وكان على شرف الزوال يسمى مستودعاً لأن المستودع في معرض أن يسترد في كل حين وأوان
إذا عرفت هذا فنقول كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال فالأول وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال كريب كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم قرأ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء ( الحج 5 ) ومما يدل أيضاً على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى
والقول الثاني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم لأن النطفة حصلت في صلب الأب لا من قبل الغير وهي حصلت في رحم الأم بفعل الغير فحصول تلك النطفة في الرحم من قبل الرجل مشبه بالوديعة لأن قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يقتضي كون المستقر متقدماً على المستودع وحصول النطفة في صلب الأب مقدم على حصولها في رحم الأم فوجب أن يكون المستقر ما في أصلاب الآباء والمستودع ما في أرحام الأمهات
والقول الثالث وهو قول الحسن المستقر حاله بعد الموت لأنه إن كان سعيداً فقد استقرت تلك السعادة وإن كان شقياً فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الإنسان بعد الموت وأما قبل الموت فالأحوال متبدلة فالكافر قد ينقلب مؤمناً والزنديق قد ينقلب صديقاً فهذه الأحوال لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة التي تكون مشرفة على الزوال والذهاب(13/84)
والقول الرابع وهو قول الأصم إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق
والقول الخامس للأصم أيضاً المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور حتى يبعث وعن قتادة على العكس منه فقال مستقر في القبر ومستودع في الدنيا
القول السادس قول أبي مسلم الأصبهاني أن التقدير هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم مستقر ذكر ومنكم مستودع أنثى إلا أنه تعالى عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وإنما تستقر هناك وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة والله أعلم
المبحث الثالث مقصود الكلام أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر وليس السبب هو الجسمية ولوازمها وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ
ثم قال تعالى قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض ألا ترى أنه تعالى تمسك أولاً بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون وفيه أبحاث الأول قوله لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظاهره مشعر بأنه تعالى قد يفعل الفعل لغرض وحكمة
وجواب أهل السنة أن اللام لام العاقبة أو يكون ذلك محمولاً على التشبيه بحال من يفعل الفعل لغرض والثاني أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه والفهم والإيمان وما أراد بأحد منهم الكفر وهذا قول المعتزلة
وجواب أهل السنة أن المراد منه كأنه تعالى يقول إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه وفهم وهم المؤمنون لا غير والثالث أنه تعالى ختم الآية السابقة وهي الآية التي استدل فيها بأحوال النجوم بقوله يَعْلَمُونَ وختم آخر هذه الآية بقوله يَفْقَهُونَ والفرق أن إنشاء الإنس من واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً فكان ذكر الفقه ههنا لأجل أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة وذكاء وفهم والله أعلم(13/85)
وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَة ٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاٌّ يَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضاً نعم بالغة وإحسانات كاملة والكلام إذا كان دليلاً من بعض الوجوه وكان إنعاماً وأحساناً من سائر الوجوه كان تأثيره في القلب عظيماً وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء يقتضي نزول المطر من السماء وعند هذا اختلف الناس فقال أبو علي الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض قال لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء والعدول عن الظاهر إلى التأويل إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء فوجب إجراء اللفظ على ظاهره
وأما قول من يقول إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها ويتقاطر وذلك هو المطر فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه الأول أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في صميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل قولهم
ولقائل أن يقول إن القوم يجيبون عنه فيقولون لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب فيهرب البرد إلى باطنه فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع فيحدث البرد وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب فلا يقوى البرد في باطنه فلا جرم لا ينعقد جمداً بل ينزل ماء هذا ما قالوه ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جداً عندكم فإذا كان اليوم يوماً بارداً شديد البرد في صميم الشتاء فتلك الطبقة باردة جداً والهواء المحيط بالأرض أيضاً بارد جداً فوجب أن يشتد البرد وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم والله أعلم
الحجة الثانية مما ذكره الجبائي أنه قال إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم(13/86)
يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء ولقائل أن يقول القوم يجيبون عنه بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت والبرد يوجب الثقل والنزول فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول والعالم كروي الشكل فلما رجعت من الصعود إلى النزول فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار
الحجة الثالثة ما ذكره الجبائي قال لو كان تولد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا فساد قولهم قال فثبت بهذه الوجوه أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض ثم قال والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر فوجب القول بحمله على ظاهره ومما يؤكد ما قلناه أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) وقال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وقال وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 ) فثبت أن الحق أنه تعالى ينزل المطر من السماء بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء ثم ينزلها إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض
والقول الثاني المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء
والقول الثالث أنزل من السحاب ماء وسمى الله تعالى السحاب سماء لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت فهذا ما قيل في هذا الباب
المسألة الثانية نقل الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس يريد بالماء ههنا المطر ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السموات فالقول به مشكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فيه أبحاث
البحث الأول ظاهر قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فلا فائدة في الإعادة(13/87)
البحث الثاني قال الفراء قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات وليس الأمر كذلك فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات فإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه
البحث الثالث قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ بعد قوله أَنَزلَ يسمى التفاتاً ويعد ذلك من الفصاحة
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 ) فلا فائدة في الإعادة
والبحث الرابع قوله فَأَخْرَجْنَا صيغة الجمع والله واحد فرد لا شريك له إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه فإنما يكنى بصيغة الجمع فكذلك ههنا ونظيره قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ
أما قوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً فقال الزجاج معنى خضر كمعنى أخضر يقال أخضر فهو أخضر وخضر مثل أعور فهو أعور وعور وقال الليث الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين حيث قال إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى فالذي ينبت من الحب هو الزرع والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضاً في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع وهو المراد بقوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً وهو الزرع كما رويناه عن الليث وقال ابن عباس يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولاً ويكون السنبل في أعلاه وقوله نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً يعني يخرج من ذلك الخضر حباً متراكباً بعضه على بعض في سنبلة واحدة وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى وهو القسم الثاني فقال وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ وههنا مباحث
البحث الأول أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفاً مطولاً
البحث الثاني روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض والأغريض يسمى طلعاً أيضاً قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة الواحدة طلعة وأما قِنْوانٌ فقال الزجاج القنوان جمع قنو مثل صنوان وصنو وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول قوله قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ قال ابن عباس يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها وروى عنه أيضاً أنه قال قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج ولم(13/88)
يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني فكذا ههنا وقيل أيضاً ذكر الدانية في القريبة وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر
والبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) قِنْوانٌ رفع بالابتداء وَمِنَ النَّخْلِ خبره وَمِنْ طَلْعِهَا بدل منه كأنه قيل وحاصلة من طلع النخل قنوان ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجه من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حُبَّ كان طَلْعِهَا قِنْوانٌ عنده معطوفاً على قوله حُبَّ وقرىء قِنْوانٌ بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير
ثم قال تعالى وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ عاصم جَنَّاتُ بضم التاء وهي قراءة علي رضي الله عنه والباقون جَنَّاتُ بكسر التاء أما القراءة الأولى فلها وجهان الأول أن يراد وثم وجنات من أعناب أي مع النخل والثاني أن يعطف على قِنْوانٌ على معنى وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله نَبَاتَ كُلّ شَى ْء والتقدير وأخرجنا به جنات من أعناب وكذلك قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ( الأنعام 141 ) قال صاحب ( الكشاف ) والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ ( النساء 162 ) لفضل هذين الصنفين
والبحث الثاني قال الفراء قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يريد شجر الزيتون وشجر الرمان كما قال وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) يريد أهلها
البحث الثالث اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار النخل والعنب والزيتون والرمان وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفاكهة وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام ( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم ) وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ثم بعده يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء وقد يتخذ الطبيخ منه فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلى في المجلدات والخمر وإن كان الشرع قد حرمها ولكنه تعالى قال في صفتها وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ثم قال وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا فأحسن ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه وأما الزيتون فهو أيضاً(13/89)
كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل أيضاً عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام قشره وشحمه وعجمه وماؤه
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفاً باللطافة والاعتدال فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات واكتفي بذكرها تنبيهاً على البواقي ولما ذكرها قال تعالى مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفيه مباحث الأول في تفسير مُشْتَبِهاً وجوه الأول أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفاً في الطعم والثالث قال قتادة أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه أما ثمارها فتكون مختلفة ومنهم من يقول الأشجار متشابهة والثمار مختلفة والرابع أقول إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة وعلى هذا التقدير فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه
والبحث الثاني يقال اشتبه الشيآن وتشابها كقولك استويا وتساويا والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وقرىء مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
والبحث الثالث إنما قال مشتبهاً ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريا ومن أجل الطوى رماني
ثم قال تعالى انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ثَمَرِهِ بضم الثاء والميم وقرأ أبو عمرو ثَمَرِهِ بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان
الوجه الأول وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا خشبة وخشب قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ ( المنافقون 4 ) وكذلك أكمة وأكم ثم يخففون فيقولون أكم قال الشاعر(13/90)
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
والوجه الثاني أن يكون جمع ثمرة على ثمار ثم جمع ثماراً على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم رسل ورسل وأما قراءة الباقين فوجهها أن الثمر جمع ثمرة مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر وخرزة وخرز
والبحث الثاني قال الواحدي الينع النضج قال أبو عبيدة يقال ينع يينع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وقال الليث ينعت الثمرة بالكسر وأينعت فهي تينع وتونع إيناعاً وينعاً بفتح الياء وينعاً بضم الياء والنعت يانع ومونع قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَنْعِهِ بضم الياء وقرأ ابن محيصن ويانعه
والبحث الثالث قوله مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها وقوله وَيَنْعِهِ أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة فحصول هذه التبدلات والتغيرات لا بد له من سبب وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ويحتمل أن يكون وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
ولقائل أن يقول بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية فكأن قائلاً قال لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان فكأنه قيل هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلاً فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه والله أعلم(13/91)
وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية وكمال القدرة والرحمة ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف
فالطائفة الأولى عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين
والطائفة الثانية من المشركين الذين يقولون مدبر هذا العالم هو الكواكب وهؤلاء فريقان منهم من يقول إنها واجبة الوجود لذاتها ومنهم من يقول إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة وخالقها هو الله تعالى إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ناظرهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وشرح هذا الدليل قد مضى
والطائفة الثالثة من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السموات والأرضين إلهان أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور
واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة قال ابن عباس والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها وأقول هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي ثم عرب فقيل زنديق ثم جمع فقيل زنادقة(13/92)
واعلم أن المجوس قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما
فإن قيل فعلى هذا التقدير القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً وهو إبليس فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء
والجواب أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات والشياطين أيضاً فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكاً لله تعالى في ملكه وتقريره من وجهين الأول أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث
إذا ثبت هذا فنقول إن كل محدث فله خالق وموجد وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلاً للخيرات والثاني يكون فاعلاً للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس وإذا كان خالقاً لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلاً لأعظم الشرور وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم لا بد للخيرات من إله وللشرور من إله آخر
والوجه الثاني في استنباط الحجة من قوله وَخَلَقَهُمْ ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب ( الأربعين في أصول الدين ) أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث وحصول الوجود بعدم العدم وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق
المسألة الثانية قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ معناه وجعلوا الجن شركاء لله
فإن قيل فما الفائدة في التقديم(13/93)
قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء
إذا عرفت هذا فنقول قرىء الْجِنَّ بالنصب والرفع والجر أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله شُرَكَاء قال بعض المحققين هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل فلو قيل وجعلوا لله الجن لم يكن كلاماً مفهوماً بل الأولى جعله عطف بيان أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء فقيل الجن وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه فالأول ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر
والقول الثاني أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة مستترون عن الأعين وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى ولعله يقال إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك
والقول الثالث وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشرك فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم فصاروا من هذا الوجه قائلين يكون الجن شركاء لله تعالى وأقول الحق هو القول الأول والقولان الأخيران ضعيفان جداً أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله فهذا باطل من وجوه
الوجه الأول أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 100 ) فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله فلو فسرنا قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة وأنه لا يجوز
الوجه الثاني في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا الملائكة بنات الله وإثبات الولد لله غير وإثبات الشريك له غير والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( الإخلاص 3 4 ) ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثاً
الوجه الثالث أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز
وأما القول الثاني وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكاً لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه وأيضاً فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة لأن(13/94)
الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء فثبت سقوط هذين القولين وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه
وأما قوله تعالى وَخَلَقَهُمْ ففيه بحثان
البحث الأول اختلفوا في أن الضمير في قوله خَلْقَهُمْ إلى ماذا يعود على قولين
فالقول الأول إنه عاد إلى الْجِنَّ والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب فتولد الشيطان عن ذلك العجب ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى هذا المعنى ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكاً لله في تدبير العالم لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق وجعل الضعيف الناقص شريكاً للقوي الكامل محال في العقول
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى الجاعلين وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن وهذا القول عندي ضعيف لوجهين أحدهما أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلاً قاطعاً تاماً كاملاً في إبطال ذلك المذهب وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَهُمْ أي اختلاقهم للأفك يعني وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
ثم قال وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وفيه مباحث
البحث الأول أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكاً لله تعالى ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه
الحجة الأولى أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ومن كان كذلك فيكون عبداً له ولا ولداً له فثبت أن من عرف أن الإله ما هو امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين
الحجة الثانية أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه وهذا إنما يعقل في حق من يفنى أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه
الحجة الثالثة أن الولد مشعر بكونه متولداً عن جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يعقل في حق من(13/95)
يكون مركباً ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إشارة إلى هذه الدقيقة
البحث الثاني قرأ نافع وَخَرَقُواْ مشددة الراء والباقون خرقوا خفيفة الراء قال الواحدي الاختيار التخفيف لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير
البحث الثالث قال الفراء معنى خرقوا افتعلوا وافتروا قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا وافتروا واحد وقال الليث يقال تخرق الكذب وتخلقه وحكى صاحب ( الكشاف ) أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال كلمة عربية كانت تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها والله أعلم ثم قال ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي شقوا له بنين وبنات
ثم إنه تعالى ختم الآية فقال عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ فقوله سبحانه تنزيه لله عن كل ما لا يليق به وأما قوله وَتَعَالَى فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان لأن المقصود ههنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى فثبت أن المراد ههنا التعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله ( سبحانه ) وبين قوله ( وتعالى ) فرق
قلنا بل يبقى بينهما فرق ظاهر فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله وَتَعَالَى كونه في ذاته متعالياً متقدساً عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة ٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد قول طوائف أهل الدنيا من المشركين شرع في إقامة الدلائل على فساد قول من يثبت له الولد فقال بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن تفسير قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قد تقدم في سورة البقرة إلا أنا نشير ههنا إلى ما هو المقصود الأصلي من هذه الآية فنقول الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها يقال إنه أبدع فيه(13/96)
إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة بل أنه إنما حدث ودخل في الوجود لأن الله تعالى أخرجه إلى الوجود من غير سبق الأب
إذا عرفت هذا فنقول المقصود من الآية أن يقال إنكم إما أن تريدوا بكونه والداً لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد وإما أن تريدوا بكونه ولد الله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين
أما الاحتمال الأول فباطل وذلك لأنه تعالى وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة إلا أن النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث وإذا كان الأمر كذلك لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعاً فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه والداً له لزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له فهذا هو المراد من قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وإنما ذكر السموات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع أما حدوث ذات السموات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع فكان المقصود من الإلزام حاصلاً بذكر السموات والأرض لا بذكر ما في السموات والأرض فهذا إبطال الوجه الأول
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات فهذا أيضاً باطل ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة وكل ذلك على خالق العالم محال وهذا هو المراد من قوله أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة
والوجه الثاني أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد أما من كان خالقاً لكل الممكنات قادراً على كل المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء
والوجه الثالث وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان واجب الوجود لذاته كان غنياً عن غيره فامتنع كونه ولداً لغيره فبقي أنه لو كان ولداً لوجب كونه حادثاً فنقول إنه تعالى عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله تعالى خلق هذا الولد(13/97)
فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبل ذلك ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلاً قبله وجب حصول الولد قبل ذلك وهذا يوجب كون ذلك الولد أزلياً وهو محال وإن كان الثاني فقد ثبت أنه تعالى عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الإلهية وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه البتة في وقت من الأوقات وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وفيه وجه آخر وهو أن يقال الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة وقضاء الشهوة يوجب اللذة واللذة مطلوبة لذاتها فلو صحت اللذة على الله تعالى مع أنها مطلوبة لذاتها وجب أن يقال إنه لا وقت إلا وعلم الله بتحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت لأنه تعالى لما كان عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون هذا المعنى معلوماً وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل تلك اللذة في الأزل فلزم كون الولد أزلياً وقد بينا أنه محال فثبت أن كونه تعالى عالماً بكل المعلومات مع كونه تعالى أزلياً يمنع من صحة الولد عليه وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فثبت بما ذكرنا أنه لا يمكن إثبات الولد لله تعالى بناء على هذين الاحتمالين المعلومين فأما إثبات الولد لله تعالى بناء على احتمال ثالث فذلك باطل لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الذي هو غير متصور خوضاً في محض الجهالة وأنه باطل فهذا هو المقصود من هذه الآية ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه في القوة والكمال لعجزوا عنه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على وجود الإله القادر المختار الحكيم الرحيم وبين فساد قول من ذهب إلى الإشراك بالله وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه وبين فساد كل واحد منها بالدلائل اللائقة به ثم حكى مذهب من أثبت لله البنين والبنات وبين بالدلائل القاطعة فساد القول بها فعند هذا ثبت أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والند ومنزه عن الأولاد والبنين والبنات فعند هذا صرح بالنتيجة فقال ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل ما سواه فاعبدوه ولا تعبدوا غيره أحداً فإنه هو المصلح لمهمات جميع العباد وهو الذي يسمع دعاءهم ويرى ذلهم وخضوعهم ويعلم حاجتهم وهو الوكيل لكل أحد على حصول مهماته ومن تأمل في هذا النظم والترتيب في تقرير الدعوة إلى التوحيد والتنزيه وإظهار فساد الشرك علم أنه لا طريق أوضح ولا أصلح منه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلكم ) إشارة إلى الموصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء أي ذلك الجامع لهذه الصفات(13/98)
فاعبدوه على معنى أن من حصلت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا أحداً سواء
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى بين في هذه السورة بالدلائل الكثيرة افتقار الخلق إلى خالق وموجد ومحدث ومبدع ومدبر ولم يذكر دليلاً منفصلاً يدل على نفي الشركاء والأضداد والأنداد ثم إنه اتبع الدلائل الدالة على وجود الصانع بأن نقل قول من أثبت لله شريكاً فهذا القدر يكون أوجب الجزم بالتشريك من الجن ثم أبطله ثم إنه تعالى بعد ذلك أتى بالتوحيد المحض حيث قال ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ وعند هذا يتوجه السؤال وهو أن حاصل ما تقدم إقامة الدليل على وجود الخالق وتزييف دليل من أثبت لله شريكاً فهذا القدر كيف أوجب الجزم بالتوحيد المحض فنقول للعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة ومن جملتها هذه الطريقة وتقريرها من وجوه الأول قال المتقدمون الصانع الواحد كاف وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافىء فوجب القول بالتوحيد أما قولنا الصانع الواحد كاف فلأن الإله القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات كاف في كونه إلهاً للعالم ومدبراً له وأما أن الزائد على الواحد فالقول فيه متكافىء فلأن الزائد على الواحد لم يدل الدليل على ثبوته فلم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر فيلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو أيضاً محال وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد
الوجه الثاني في تقرير هذه الطريقة أن الإله القادر على كل الممكنات العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم فلو قدرنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون فاعلاً وموجوداً لشيء من حوادث هذا العالم أو لا يكون والأول باطل لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو محال وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً وذلك لا يصلح للإلهية
والوجه الثالث في تقرير هذه الطريقة أن نقول إن هذا الإله الواحد لا بد وأن يكون كاملاً في صفات الإلهية فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال أو لا يكون فإن كان مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال فلا بد وأن يكون متميزاً عن الأول بأمر ما إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدد والإثنينية وإذا حصل الامتياز بأمر ما فذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفات الكمال فالموصوف به يكون موصوفاً بصفة ليست من صفات الكمال وذلك نفصان فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم والإيجاد وأن الزائد يجب نفيه فهذه الطريقة هي التي ذكرها الله تعالى ههنا في تقرير التوحيد وأما التمسك بدليل التمانع فقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا أعمال العباد أشياء والله تعالى خالق كل شيء بحكم هذه الآية فوجب كونه تعالى خالقاً لها واعلم أنا(13/99)
أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب ( الجبر والقدر ) ونكتفي ههنا من تلك الكلمات بنكت قليلة قالت المعتزلة هذا اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم فأحدهما أنه تعالى قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء لصار تقدير الآية أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ومعلوم أن ذلك فاسد وثانيها أنه تعالى إنما ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء في معرض المدح والثناء على نفسه فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحاً وثناء لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر وثالثها أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وهذا تصريح بكون العبد مستقلاً بالفعل والترك وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان مخلوقاً لله تعالى لما كان العبد مستقلاً به لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلاً بالفعل والترك وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن ذكر قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا يوجب تخصيص ذلك العموم ورابعها أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم أحدهما يفعل اللذات والخيرات والآخر يفعل الآلام والآفات فقوله بعد ذلك لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يجب أن يكون محمولاً على إبطال ذلك المذهب وذلك إنما يكون إذا قلنا إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام فإذا حملنا قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على هذا الوجه لم يدخل تحت أعمال العباد قالوا فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء
والجواب أنا نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر هذه الآية وتقريره أن الفعل موقوف على الداعي وخالق الداعي هو الله تعالى ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل وذلك يقتضي كونه تعالى خالقاً لأفعال العباد وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع زالت الشكوك والشبهات
المسألة الرابعة قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ يدل على ترتيب الأمر بالعبادة على كونه تعالى خالقاً لكل الأشياء بفاء التعقيب وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسببية فهذا يقتضي أن يكون كونه تعالى خالقاً للأشياء هو الموجب لكونه معبوداً على الإطلاق والإله هو المستحق للمعبودية فهذا يشعر بصحة ما يذكره بعض أصحابنا من أن الإله عبارة عن القادر على الخلق والإبداع والإيجاد والاختراع
المسألة الخامسة احتج كثير من المعتزلة بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على نفي الصفات وعلى كون القرآن مخلوقاً أما نفي الصفات فلأنهم قالوا لو كان تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال إنهما قديمان أو محدثان والأول باطل لأن عموم قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء يقتضي كونه خالقاً لكل الأشياء أدخلنا التخصيص في(13/100)
هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه والقول بإثبات الصفات القديمة يقتضي مزيد التخصيص في هذا العموم وأنه لا يجوز والثاني وهو القول بحدوث علم الله وقدرته فهو باطل بالإجماع ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر وقدرة أخرى وأن ذلك محال وأما تمسكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً فقالوا القرآن شيء وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى بحكم هذا العموم فلزم كون القرآن مخلوقاً لله تعالى أقصى ما في هذا الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في ذات الله تعالى إلا أن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ولذلك فإن دخول هذا التخصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السنة من التمسك به في إثبات أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
وجواب أصحابنا عنه أنا نخصص هذا العموم بالدلائل الدالة على كونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة وبالدلائل الدالة على أن كلام الله تعالى قديم
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ المراد منه أن يحصل للعبد كمال التوحيد وتقريره وهو أن العبد وإن كان يعتقد أنه لا إله إلا هو وأنه لا مدبر إلا الله تعالى إلا أن هذا العالم عالم الأسباب
وسمعت الشيخ الإمام الزاهد الوالد رحمه الله يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وإذا كان الأمر كذلك فقد يعلق الرجل القلب بالأسباب الظاهرة فتارة يعتمد على الأمير وتارة يرجع في تحصيل مهماته إلى الوزير فحينئذ لا ينال إلا الحرمان ولا يجد إلا تكثير الأحزان والحق تعالى قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ والمقصود أن يعلم الرجل أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه
المسألة الرابعة أنه قال قبل هذه الآية بقليل وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء وقال ههنا خَالِقُ كُلّ شَى ْء وهذا كالتكرار
والجواب من وجوه الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء إشارة إلى الماضي
أما قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء فهو اسم الفاعل وهو يتناول الأوقات كلها والثاني وهو التحقيق أنه تعالى ذكر هناك قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد وههنا ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان أنه لا معبود إلا هو والحاصل أن هذه المقدمة مقدمة توجب أحكاماً كثيرة ونتائج مختلفة فهو تعالى يذكرها مرة بعد مرة ليفرع عليها في كل موضع ما يليق بها من النتيجة
المسألة الثامنة لقائل أن يقول الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ معناه لا يستحق العبادة إلا هو فما الفائدة في قوله بعد ذلك فَاعْبُدُوهُ فإن هذا يوهم التكرير
والجواب قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أي لا يستحق العبادة إلا هو وقوله فَاعْبُدُوهُ أي لا تعبدوا غيره
المسألة التاسعة القوم كانوا معترفين بوجود الله تعالى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) وما أطلقوا لفظ الله على أحد سوى الله سبحانه كما قال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) فقال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ ( إبراهيم 34 ) أي الشيء الموصوف بالصفات التي تقدم ذكرها هو الله تعالى ثم قال بعده رَبُّكُمْ يعني الذي يربيكم ويحسن إليكم بأصناف التربية ووجوه الإحسان وهي أقسام(13/101)
بلغت في الكثرة إلى حيث يعجز العقل عن ضبطها كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا
ثم قال لاَ إله إِلاَّ هُوَ يعني أنكم لما عرفتم وجود الإله المحسن المتفضل المتكرم فاعلموا أنه لا إله سواه ولا معبود سواه
ثم قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء يعني إنما صح قولنا لا إله سواه لأنه لا خالق للخلق سواه ولا مدبر للعالم إلا هو فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد
لاَّ تُدْرِكُهُ الاٌّ بْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاٌّ بْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه الأول في تقرير هذا المطلوب أن نقول هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة
أما المقام الأول فتقريره أنه تعالى تمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وذلك مما يساعد الخصم عليه وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية
وإذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها فثبت أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد المدح وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية وهذا يدل على أن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلاً فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب القطع بأن المؤمنين يرونه فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية وهذا استدلال لطيف من هذه الآية(13/102)
الوجه الثاني أن نقول المراد بالأبصار في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ليس هو نفس الإبصار فإن البصر لا يدرك شيئاً البتة في موضع من المواضع بل المدرك هو المبصر فوجب القطع بأن المراد من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أنه لا يدركه المبصرون وإذا كان كذلك كان قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه وهو يدرك المبصرين ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء فكان هو تعالى من جملة المبصرين فقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يقتضي كونه تعالى مبصراً لنفسه وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته وكان تعالى يرى نفسه وكل من قال إنه تعالى جائز الرؤية في نفسه قال إن المؤمنين يرونه يوم القيامة فصارت هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية وعلى أن المؤمنين يرونه يوم القيامة وإن أردنا أن نزيد هذا الاستدلال اختصاراً قلنا قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه إما نفس البصر أو المبصر وعلى التقديرين فيلزم كونه تعالى مبصراً لأبصار نفسه وكونه مبصراً لذات نفسه وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق
الوجه الثالث في الاستدلال بالآية أن لفظ الاْبْصَارِ صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار فهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب
إذا عرفت هذا فنقول تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ألا ترى أن الرجل إذا قال إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم
فإذا قيل إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس وكذا قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ معناه أنه لا تدركه جميع الأبصار فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار أقصى ما في الباب أن يقال هذا تمسك بدليل الخطاب فنقول هب أنه كذلك إلا أنه دليل صحيح لأن بتقدير أن لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثاً وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب
الوجه الرابع في التمسك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة واحتج عليه بهذه الآية فقال دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً في الجملة ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن العويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة
المسألة الثانية في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية
اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين الأول أنهم قالوا الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قائلاً لو قال أدركته ببصري وما رأيته أو قال رأيته وما أدركته ببصري فإنه يكون كلامه متناقضاً فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية(13/103)
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال والدليل على صحة هذا العموم وجهان الأول يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان وإلا في الحالة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فثبت أن عموم هذه الآية يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص في جميع الأحوال وذلك يدل على أن أحداً لا يرى الله تعالى في شيء من الأحوال
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية تفيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى به ليلة المعراج تمسكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال ولا شك أنها كانت من أشد الناس علماً بلغة العرب فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب
الوجه الثاني في تقرير استدلال المعتزلة بهذه الآية أنهم قالوا إن ما قبل هذه الآية إلى هذا الموضع مشتمل على المدح والثناء وقوله بعد ذلك وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ أيضاً مدح وثناء فوجب أن يكون قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ مدحاً وثناء وإلا لزم أن يقال إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء وذلك يوجب الركاكة وهي غير لائقة بكلام الله
إذا ثبت هذا فنقول كل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً في حق الله تعالى والنقص على الله تعالى محال لقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) إلى غير ذلك فوجب أن يقال كونه تعالى مرئياً محال
واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) وقوله وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم فذكروا هذا القيد دفعاً لهذا النقض عن كلامهم فهذا غاية تقرير كلامهم في هذا الباب
والجواب عن الوجه الأول من وجوه الأول لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية والدليل عليه أن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللحوق والوصول قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون وقال حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ( يونس 90 ) أي لحقه ويقال أدرك فلان فلاناً وأدرك الغلام أي بلغ الحلم وأدركت الثمرة أي نضجت فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء
إذا عرفت هذا فنقول المرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار أحاط به فتسمى هذه الرؤية إدراكاً أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكاً فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم(13/104)
قلنا هذا بعيد لأن الإدراك أخص من الرؤية وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا
الوجه الثاني في الاعتراض أن نقول هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية لكن لم قلتم أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص وعن كل الأحوال وفي كل الأوقات وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير وعموم النفي غير وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال وأما قوله إن عائشة رضي الله عنها تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية فنقول معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد نفي العموم وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي فسقط كلامهم
الوجه الثالث أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً وإذا كان كذلك فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه ونحن نقول بموجبه فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله
الوجه الرابع سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة
الوجه الخامس هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل تدل على حصول رؤية الله تعالى أم لا
الوجه السادس أن نقول بموجب الآية فنقول سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله تعالى فلم قلتم إن المبصرين لا يدركون الله تعالى فهذا مجموع الأسئلة على الوجه الأول وأما الوجه الثاني فقد بينا أنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته وبهذا الطريق يسقط كلامهم بالكلية ثم نقول إن النفي يمتنع أن يكون سبباً لحصول المدح والثناء وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والثناء والعلم به ضروري بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء قيل بأن ذلك النفي يوجب المدح ومثاله أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي فإن الجماد لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه(13/105)
تعالى عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تبدل ولا زوال وكذلك قوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) يدل على كونه قائماً بنفسه غنياً في ذاته لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم
إذا ثبت هذا فنقول قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء وذلك هو الذي قلناه فإنه يفيد كونه تعالى قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن إدراكه ورؤيته وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه
المسألة الثالثة اعلم أن القاضي ذكر في ( تفسيره ) وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية ومنفصلة عن علم التفسير وخوض في علم الأصول ولما فعل القاضي ذلك فنحن ننقلها ونجيب عنها ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية أما القاضي فقد تمسك بوجوه عقلية أولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة وهي أن لا يحصل القرب القريب ولا البعد البعيد ولا يحصل الحجاب ويكون المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل فإنه يجب حصول الرؤية إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور أن لا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا نراها وذلك يوجب السفسطة
قالوا إذا ثبت هذا فنقول إن انتفاء القرب القريب والبعد البعيد والحجاب وحصول المقابلة في حق الله تعالى ممتنع فلو صحت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسة وكون المرئي تصح رؤيته وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فلو كان بحيث تصح رؤيته لوجب أن تحصل رؤيته في هذا الوقت وحيث لم تحصل هذه الرؤية علمنا أنه ممتنع الرؤية
والحجة الثانية أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك فوجب أن تمتنع رؤيته
والحجة الثالثة قال القاضي ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب
والحجة الرابعة قال القاضي إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل أو يرونه في حال دون حال وهذا أيضاً باطل لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد وأيضاً فرؤيته أعظم اللذات وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبداً فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة فهذا مجموع ما ذكره في ( كتاب التفسير ) واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف
أما الوجه الأول فيقال له هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة فلم قلتم إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم(13/106)
عولوا على هذا الدليل وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام
وأما الوجه الثاني فيقال له إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا أنه علم استدلالي والأول باطل لأنه لو كان العلم به بديهياً لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهياً كان الاشتغال بذكر الدليل عبثاً فاتركوا الاستدلال واكتفوا بادعاء البديهة وإن كان الثاني فنقول قولكم المرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى لأن حاصل الكلام أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون مقابلاً ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته أن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى
وأما الوجه الثالث فيقال له لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نراها ولا نسمعها كان هذا رجوعاً إلى الطريقة الأولى وقد سبق جوابها
وأما الوجه الرابع فيقال لم لا يجوز أن يقال إن المؤمنين يرون الله تعالى في حال دون حال أما قوله فهذا يقتضي أن يقال إنه تعالى مرة يقرب ومرة يبعد فيقال هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلا عند الشرائط المذكورة وهو عود إلى الطريق الأول وقد سبق جوابه وقوله ثانياً الرؤية أعظم اللذات فيقال له إنها وإن كانت كذلك إلا أنه لا يبعد أن يقال إنهم يشتهونها في حال دون حال بدليل أن سائر لذات الجنة ومنافعها طيبة ولذيذة ثم إنها تحصل في حال دون حال فكذا ههنا فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها في هذا الباب
المسألة الرابعة في تقرير الوجوه الدالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ونحن بعدها هنا عدا ونحيل تقريرها إلى المواضع اللائقة بها فالأول أن موسى عليه السلام طلب الرؤية من الله تعالى وذلك يدل على جواز رؤية الله تعالى والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل حيث قال فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( الأعراف 143 ) واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وهذان الدليلان سيأتي تقريرهما إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف
الحجة الثالثة التمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ من الوجوه المذكورة
الحجة الرابعة التمسك بقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وزيادة وتقريره قد ذكرناه في سورة يونس
الحجة الخامسة التمسك بقوله تعالى فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ( الكهف 110 ) وكذا القول في جميع الآيات المشتملة على اللقاء وتقريره قد مر في هذا التفسير مراراً وأطواراً(13/107)
الحجة السادسة التمسك بقوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الأنسان 20 ) فإن إحدى القراآت في هذه الآية مَلَكًا بفتح الميم وكسر اللام وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى وعندي التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها
الحجة السابعة التمسك بقوله تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( المطففين 15 ) وتخصيص الكفار بالحجب يدل على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين عن رؤية الله عز وجل
الحجة الثامنة التمسك بقوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى ( النجم 13 14 ) وتقرير هذه الحجة سيأتي في تفسير سورة النجم
الحجة التاسعة أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو الرؤية فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 )
الحجة العاشرة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلاً للمؤمنين والاقتصار فيها على النزل لا يجوز بل لا بد وأن يحصل عقيب النزل تشريف أعظم حالاً من ذلك النزل وما ذاك إلا الرؤية
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) وتقرير كل واحد من هذه الوجوه سيأتي في الموضع اللائق به من هذا الكتاب وأما الأخبار فكثيرة منها الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) واعلم أن التشبيه وقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي ومنها ما اتفق الجمهور عليه من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) فقال الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل رأى الله ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب وما نسبه إلى البدعة والضلالة وذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلاً في رؤية الله تعالى فهذا جملة الكلام في سمعيات مسألة الرؤية
المسألة الخامسة دل قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ على أنه تعالى يرى الأشياء ويبصرها ويدركها وذلك لأنه إما أن يكون المراد من الأبصار عين الأبصار أو المراد منه المبصرين فإن كان الأول وجب الحكم بكونه تعالى رائياً لرؤية الرائين ولأبصار المبصرين وكل من قال ذلك قال إنه تعالى يرى جميع المرئيات والمبصرات وإن كان الثاني وجب الحكم بكونه تعالى رائياً للمبصرين فعلى كلا التقديرين تدل هذه الآية على كونه تعالى مبصراً للمبصرات رائياً للمرئيات
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يفيد الحصر معناه أنه تعالى هو يدرك الأبصار ولا يدركها غير الله تعالى والمعنى أن الأمر الذي به يصير الحي رائياً للمرئيات ومبصراً للمبصرات ومدركاً للمدركات أمر عجيب وماهية شريفة لا يحيط العقل بكنهها ومع ذلك فإن الله تعالى مدرك لحقيقتها(13/108)
مطلع على ماهيتها فيكون المعنى من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أن شيئاً من القوى المدركة لا تحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فكلت الأبصار عن إدراكه وارتدعت العقول عن الوصول إلى ميادين عزته وكما أن شيئاً لا يحيط به فعلمه محيط بالكل وإدراكه متناول للكل فهذا كيفية نظم هذه الآية
المسألة السابعة قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللطافة ضد الكثافة والمراد منه الرقة وذلك في حق الله ممتنع فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى
الوجه الثاني أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة
والوجه الثالث أنه لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة
الوجه الرابع أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم وأما الخبير فهو من الخبر وهو العلم والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح وقال صاحب ( الكشاف ) اللَّطِيفُ معناه أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه وهذا وجه حسن
قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ والبصائر جمع البصيرة وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب قال تعالى بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ ( القيامة 14 ) أي له من نفسه معرفة تامة وأراد بقوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ الآيات المتقدمة وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها ووقف على حقائقها فلما كانت هذه الآيات أسباباً لحصول البصائر سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به
أما القسم الأول وهو الذي يتعلق بالرسول فهو الدعوة إلى الدين الحق وتبليغ الدلالة والبينات(13/109)
فيها وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها وهو المراد من قوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ
وأما القسم الثاني وهو الذي لا يتعلق بالرسول فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر فإن هذا لا يتعلق بالرسول بل يتعلق باختيارهم ونفعه وضره عائد إليهم والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم
المسألة الثانية في أحكام هذه الآية وهي أربعة ذكرها القاضي فالأول الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختياراً استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها لأن ذلك يبطل هذا الغرض والثاني أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى والثالث أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه والرابع أنه متمكن من الأمرين فلذلك قال فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا قال وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة
واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه
المسألة الثالثة المراد من الإبصار ههنا العلم ومن العمي الجهل ونظيره قوله تعال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
المسألة الرابعة قال المفسرون قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل قالوا وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال فلما أمر بالقتال صار حفيظاً عليهم ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان
وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الإلهيات إلى هذا الموضع شرع من هذا الموضع في إثبات النبوات فبدأ تعالى بحكاية شبهات المنكرين لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فالشبهة الأولى قولهم يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ومباحثة الفضلاء وتنظمه من عند نفسك ثم تقرأه علينا وتزعم أنه وحي نزل عليك من الله تعالى ثم إنه تعالى(13/110)
أجاب عنه بالوجوه الكثيرة فهذا تقرير النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من قوله وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ يعني أنه تعالى يأتي بها متواترة حالاً بعد حال ثم قال وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وفيه مباحث
البحث الأول حكى الواحدي في قوله درس الكتاب قولين الأول قال الأصمعي أصله من قولهم درس الطعام إذا داسه يدرسه دراساً والدراس الدياس بلغة أهل الشام قال ودرس الكلام من هذا أي يدرسه فيخف على لسانه والثاني قال أبو الهيثم درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم درست الثوب أدرسه درساً فهو مدروس ودريس أي أخلقته ومنه قيل للثوب الخلق دريس لأنه قد لان والدراسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها ثم قال الواحدي وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل والتليين
البحث الثاني قرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف ونصب التاء وهو قراءة ابن عباس ومجاهد وتفسيرها قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة ويقوى هذه القراءة قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ ( الفرقان 4 ) وقرأ ابن عامر دَرَسْتَ أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد درست وانمحت ومضت من الدرس الذي هو تعفى الأثر وإمحاء الرسم قال الأزهري من قرأ دَرَسْتَ فمعناه تقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد تقادم وتطاول وهو من قولهم درس الأثر يدرس دروساً
واعلم أن صاحب ( الكشاف ) روى ههنا قراآت أخرى فإحداها دَرَسْتَ بضم الراء مبالغة في دَرَسْتَ أي اشتد دروسها وثانيها دَرَسْتَ على البناء للمفعول بمعنى قدمت وعفت وثالثها دارست وفسروها بدارست اليهود محمداً ورابعها درس أي درس محمد وخامسها دارسات على معنى هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية
البحث الثالث ( الواو ) في قوله الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ عطف على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه
البحث الرابع اعلم أنه تعالى قال وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ ثم ذكر الوجه الذي لأجله صرف هذه الآيات وهو أمران أحدهما قوله تعالى وَلِيَقُولُواْ والثاني قوله دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أما هذا الوجه الثاني فلا إشكال فيه لأنه تعالى بين أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والفهم والعلم وإنما الكلام في الوجه الأول وهو قوله وَلِيَقُولُواْ لأن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول وعند هذا الكلام عاد بحث مسألة الجبر والقدر فأما أصحابنا فإنهم أجروا الكلام على ظاهره فقالوا معناه إنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزداد كفراً على كفر وتثبيتاً لبعضهم فيزداد إيماناً على إيمان ونظيره قوله تعالى مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) وقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) وأما المعتزلة فقد تحيروا قال الجبائي والقاضي وليس فيه إلا أحد وجهين الأول أن يحمل هذا الإثبات على النفي والتقدير وكذلك نصرف(13/111)
الآيات لئلا يقولوا درست ونظيره قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ومعناه لئلا تضلوا والثاني أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة والتقدير أن عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول مستندين إلى اختيارهم عادلين عما يلزم من النظر في هذه الدلائل هذا غاية كلام القوم في هذا الباب
ولقائل أن يقول أما الجواب الأول فضعيف من وجهين الأول أن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وتغيير له وفتح هذا الباب يوجب أن لا يبقى وثوق لا بنفيه ولا بإثباته وذلك يخرجه عن كونه حجة وأنه باطل والثاني أن بتقدير أن يجوز هذا النوع من التصرف في الجملة إلا أنه غير لائق البتة بهذا الموضع وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يظهر آيات القرآن نجماً نجما والكفار كانوا يقولون إن محمداً يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لايأتي بهذا القرآن دفعة واحدة كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة
إذا عرفت هذا فنقول إن تصريف هذه الآيات حالاً فحالاً هي التي أوقعت الشبهة للقوم في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين وعلى ما يقول الجبائي والقاضي فإنه يقتضي أن يكون تصريف هذه الآيات حالاً بعد حال يوجب أن يمتنعوا من القول بأن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما أتى بهذا القرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة فثبت أن الجواب الذي ذكره إنما يصح لو جعلنا تصريف الآيات علة لأن يمتنعوا من ذلك القول مع أنا بينا أن تصريف الآيات هو الموجب لذلك القول فسقط هذا الكلام
وأما الجواب الثاني وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو أيضاً بعيد لأن حمل هذه اللام على لام العاقبة مجاز وحمله على لام الغرض حقيقة والحقيقة أقوى من المجاز فلو قلنا ( اللام ) في قوله وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ لام العاقبة في قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ للحقيقة فقد حصل تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر وأنه لا يجوز فثبت بما ذكرنا ضعف هذين الجوابين وأن الحق ما ذكرنا أن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ومما يؤكد هذا التأويل قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني أنا ما بيناه إلا لهؤلاء فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم ولما دل هذا على أنه تعالى ما جعله بياناً إلا للمؤمنين ثبت أنه جعله ضلالاً للكافرين وذلك ما قلنا والله أعلم
اتَّبِعْ مَآ أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
قوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء أو إلى أنه يدارس أقواماً ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآناً ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى أتبعه بقوله اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ(13/112)
لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة ونبه بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ على أنه تعالى لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين
وأما قوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فقيل المراد ترك المقابلة فلذلك قالوا إنه منسوخ وهذا ضعيف لأن الأمر بترك المقابلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائماً وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النسخ وقيل المراد ترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغليظ
قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فكأنه تعالى يقول له لا تلتفت إلى سفاهات هألاء الكفار ولا يثقلن عليك كفرهم فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت ولكني تركتهم مع كفرهم فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم
واعلم أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ والمعنى ولو شاء الله أن لا يشركوا ما أشركوا وحيث لم يحصل الجزاء علمنا أنه لم يحصل الشرط فعلمنا أن مشيئة الله تعالى بعدم إشراكهم غير حاصلة قالت المعتزلة ثبت بالدليل أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وما شاء من أحد الكفر والشرك وهذه الآية تقتضي أنه تعالى ما شاء من الكل الإيمان فوجب التوفيق بين الدليلين فيحمل مشيئة الله تعالى لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر وللإلجاء يعني أنه تعالى ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل التكليف ويخرج الإنسان عن استحقاق الثواب هذا ما عول القوم عليه في هذا الباب وهو في غاية الضعف ويدل عليه وجوه الأول لا شك أنه تعالى هو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان فخالق تلك القدرة لا شك أنه كان مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان لم يترجح جانب الكفر على جانب الإيمان إلا عند حصول داع يدعوه إلى الإيمان وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ومجموع القدرة مع الداعي إلى الكفر يوجب الكفر وإذا كان خالق القدرة والداعي هو الله تعالى وثبت أن مجموعهما يوجب الكفر ثبت أنه تعالى قد أراد الكفر من الكافر الثاني في تقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى كان عالماً بعدم الإيمان من الكافر ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادان ومع وجود أحد الضدين كان حصول الضد الثاني محالاً والمحال مع العلم بكونه محالاً غير مراد فامتنع أن يقال إنه تعالى يريد الإيمان من الكافر الثالث هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك الأنفع لا يحصل البتة فقد كان يجب في حكمته ورحمته أن يحلق فيه الإيمان على سبيل الإلجاء لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثواب العظيم فأقل ما فيه أن يخلصه من العقاب العظيم فترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء يوجب وقوعه في أشد العذاب وذلك لا يليق بالرحمة والإحسان ومثاله أن من كان له ولد عزيز وكان هذا الأب في غاية الشفقة وكان هذا الولد واقفاً على طرف البحر فيقول الوالد له غص في قعر هذا البحر(13/113)
لتستخرج اللآلي العظيمة الرفيعة العالية منه وعلم الوالد قطعاً أنه إذا غاص في البحر هلك وغرق فهذا الأب إن كان ناظراً في حقه مشفقاً عليه وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ويقول له اترك طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وتهلك ولكن الأولى لك أن تكتفي بالرزق القليل مع السلامة فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فهذا يدل على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فكذا ههنا والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما بين أنه لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام وذلك أنه تعالى بين له قدر ما جعل إليه فذكر أنه تعالى ما جعله عليهم حفيظاً ولا وكيلاً على سبيل المنع لهم وإنما فوض إليه البلاغ بالأمر والنهي في العمل والعلم وفي البيان بذكر الدلائل والتنبيه عليها فإن انقادوا للقبول فنفعه عائد إليه وإلا فضرره عائد عليهم وعلى التقديرين فلا يخرج ( صلى الله عليه وسلم ) من الرسالة والنبوة والتبليغ
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين إذا سمعوا ذلك الكلام من الكفار غضبوا وشتموا آلهتهم على سبيل المعارضة فنهى الله تعالى عن هذا العمل لأنك متى شتمت آلهتهم غضبوا فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول فلأجل الاحتراز عن هذا المحذور وجب الاحتراز عن ذلك المقال وبالجملة فهو تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسفاهة وذلك لا يليق بالعقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس لما نزل إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) قال المشركون لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك فنزلت هذه الآية أقول لي ههنا إشكالان الأول أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال إن سبب نزول هذه الآية كذا وكذا الثاني أن الكفار كانوا مقرين بالإله تعالى وكانوا يقولون إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى وإذا كان كذلك فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله تعالى وسبه(13/114)
والقول الثاني في سبب نزول هذه الآية قال السدي لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر الحرث مع جماعة إليه وقالوا له أنت كبيرنا وخاطبوه بما أرادوا فدعا محمداً عليه الصلاة والسلام وقال هؤلاء قومك وبنو عمك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم وأن يتركوك على دينك فقال عليه الصلاة والسلام ( قولوا لا إله إلا الله ) فأبوا فقال أبو طالب قل غير هذه الكلمة فإن قومك يكرهونها فقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا بالذي أقول غيرها حتى تأتوني بالشمس فتضعوها في يدي فقالوا له اترك شتم آلهتنا وإلا شتمناك ومن يأمرك بذلك فذلك قوله تعالى فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله بل ههنا احتمالات أحدها أنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة وثانيها أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثالثها أنه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطاناً يحمله على ادعاء النبوة والرسالة ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنها
والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم وجب الاحتراز منه والأمر ههنا كذلك لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله وعلى فتح باب السفاهة وعلى تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم فلكونه مستلزماً لهذه المنكرات وقع النهي عنه
المسألة الثالثة قرأ الحسن فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بضم العين وتشديد الواو ويقال عدا فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداً أي ظلم ظلماً جاوز القدر قال الزجاج وعدواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدوا عدواً قال ويجوز أن يكون بإرادة اللام والمعنى فينسبوا الله للظلم
المسألة الرابعة قال الجبائي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعداً عن الحق ونفوراً إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به وكان لا ينهى عما ذكرنا وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء كقوله لموسى وهرون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة
المسألة الخامسة قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن(13/115)
يدعو إلى الدين لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها
وأما قوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية وللمطيع الطاعة قا الكعبي حمل الآية على هذا المعنى محال لأنه تعالى هو الذي يقول الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ( محمد 25 ) ويقول وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( البقرة 257 ) ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوهاً الأول قال الجبائي المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق والكعبي أيضاً ذكر عين هذا الجواب فقال المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون الثاني قال آخرون المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم والثالث أمهلنا الشيطان حتى زين لهم والرابع زيناه في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية والكل ضعيف وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ومصلحة راجحة وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقداً لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد والمصلحة الراجحة
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل ولا قول ولا حركة ولا سكون إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيماناً وعلماً وصدقاً وحقاً فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل الثاني ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال ولما كان ذلك باطلاً وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيماناً وحقاً وعلماً وصدقاً فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية هو الحق الذي لا محيد عنه وإذا كان الأمر كذلك فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم وأيضاً فقوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ بعد قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم فهذا كلام منقطع عما قبله وأيضاً فقوله كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم وأما سائر التأويلات فقد ذكرها صاحب ( الكشاف ) وسقوطها لا يخفى والله أعلم
أما قوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فالمقصود منه أن أمرهم مفوض إلى(13/116)
الله تعالى وإن الله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ورجوعهم يوم القيامة إلى الله فيجازي كل أحد بمقتضى عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار شبهة توجب الطعن في نبوته وهي قولهم إن هذا القرآن إنما جئتنا به لأنك تدارس العلماء وتباحث الأقوام الذين عرفوا التوارة والإنجيل ثم تجمع هذه السور وهذه الآيات بهذا الطريق ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بما سبق وهذه الآية مشتملة على شبهة أخرى وهي قولهم له إن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك وبالغوا في تأكيد ذلك الحلف فالمقصود من هذه الآية تقرير هذه الشبهة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان إما مثبتاً للشيء وإما نافياً ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب وذلك هو الحلف ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف إنما تحصل عند انقسام الناس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدق به ومكذب به سموا الحلف بالقسم وبنوا تلك الصيغة على أفعل فقالوا أقسم فلان يقسم إقساماً وأرادوا أنه أكد القسم الذي اختاره وأحال الصدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين
المسألة الثانية ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول قالوا لما نزل قوله تعالى إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( الشعراء 4 ) أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلت هذه الآية الثاني قال محمد بن كعب القرظي إن المشركين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحاً أخرج الناقة من الجبل فأتنا أيضاً أنت بآية لنصدقك فقال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي تحبون ) فقالوا أن تجعل لنا الصفا ذهباً وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم وإن تركوا تاب على بعضهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل يتوب على بعضهم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ وجوهاً قال الكلبي ومقاتل إذا حلف الرجل(13/117)
بالله فهو جهد يمينه وقال الزجاج بالغوا في الأيمان وقوله لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ اختلفوا في المراد بهذه الآية فقيل ما روينا من جعل الصفا ذهباً وقيل هي الأشياء المذكورة في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين الذين كذبوا أنبياءهم فالمشركون طلبوا مثلها
وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ذكروا في تفسير لفظة عِندَ وجوهاً فيحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله سبحانه وتعالى ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أن العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ولفظ عِندَ بهذا المعنى هنا كما في قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ( الحجر 21 )
ثم قال تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ قال أبو علي ( ما ) استفهام وفاعل يشعركم ضمير ( ما ) والمعنى وما يدريكم إيمانهم فحذف المفعول وحذف المفعول كثير والتقدير وما يدريكم إيمانهم أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات فهم لا يؤمنون وقوله أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنَّهَا بكسر الهمزة على الاستئناف وهي القراءة الجيدة والتقدير أن الكلام تم عند قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أي وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال سيبويه سألت الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن وقلت لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل فقال الخليل إنه لا يحسن ذلك ههنا لأنه لو قال وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا بالفتح لصار ذلك عذراً لهم هذا كلام الخليل وتفسيره إنما يظهر بالمثال فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر فقيل لك لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر فإذا قلت وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر كان المعنى أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضاً فكذا ههنا قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ معناه أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذراً للكفار في طلب الآيات والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات فهذا تقرير كلام الخليل وقرأ الباقون من القراء أَنَّهَا بالفتح وفي تفسيره وجوه الأول قال الخليل ءانٍ بمعنى لعل تقول العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك فكأنه تعالى قال لعلها إذا جاءت لا يؤمنون قال الواحدي ءانٍ بمعنى لعل كثير في كلامهم قال الشاعر أريني جواداً مات هولاً لأنني
أرى ما تريني أو بخيلاً مخلداً
وقال آخر هل أنتم عاجلون بنا لأنا
نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال عدي بن حاتم(13/118)
أعاذل ما يدريك أن منيتي
إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد
وقال الواحدي وفسر علي لعل منيتي روى صاحب ( الكشاف ) أيضاً في هذا المعنى قول امرىء القيس عوجاً على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن خذام
قال صاحب ( الكشاف ) ويقوي هذا الوجه قراءة أبي أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
الوجه الثاني في هذه القراءة أن تجعل لا صلة ومثله مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ( الأعراف 12 ) معناه أن تسجد وكذلك قوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الأنبياء 95 ) أي يرجعون فكذا ههنا التقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون والمعنى أنها لو جاءت لم يؤمنوا قال الزجاج وهذا الوجه ضعيف لأن ما كان لغواً يكون لغواً على جميع التقديرات ومن قرأ أَنَّهَا بالكسر فكلمة لا في هذه القراءة ليست بلغو فثبت أنه لا يجوز جعل هذا اللفظ لغواً قال أبو علي الفارسي لم لا يجوز أن يكون لغواً على أحد التقديرين ويكون مفيداً على التقدير الثاني واختلف القراء أيضاً في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ فقرأ بعضهم بالياء وهو الوجه لأن قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ إنما يراد به قوم مخصوصون والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وليس كل الناس بهذا الوصف والمعنى وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا فالوجه الياء وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب والمراد بالمخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم الغائبون المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون وذهب مجاهد وابن زيد إلى أن الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا قال مجاهد وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت وهذا يقوي قراءة من قرأ تُؤْمِنُونَ بالتاء على ما ذكرناأولاً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا وعلى ما ذكرنا ثانياً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للمؤمنين وذلك لأنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون وهو الوجه كأنه قيل للمؤمنين تتمنون ذلك وما يدريكم أنهم يؤمنون
المسألة الرابعة حاصل الكلام أن القوم طلبوا من الرسول معجزات قوية وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا فبين الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك إلا أنه تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا وإذا كان الأمر كذلك لم يجب في الحكمة إجابتهم إلى هذا المطلوب قال الجبائي والقاضي هذه الآية تدل على أحكام كثيرة متعلقة بنصرة الاعتزال
الحكم الأول
أنها تدل على أنه لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده لفعله لا محالة إذ لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا الجواب فائدة لأنه إذا كان تعالى لا يجيبهم إلى مطلوبهم سواء آمنوا أو لم يؤمنوا لم يكن تعليق ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون عنده منتظماً مستقيماً فهذه الآية تدل على أنه تعالى يجب عليه أن يفعل كل ما هو في مقدوره من الألطاف والحكمة(13/119)
الحكم الثاني
أن هذا الكلام إنما يستقيم لو كان لإظهار هذه المعجزات أثر في حملهم على الإيمان وعلى قول المجبرة ذلك باطل لأن عندهم الإيمان إنما يحصل بخلق الله تعالى فإذا خلقه حصل وإذا لم يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الإلطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم أما الأول فلأن القوم قالوا لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين إحداهما أنك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك والثانية أنه متى كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الأول وبين أنه تعالى وإن أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني ولكنه في الحقيقة باق
فإن لقائل أن يقول هب أنهم لا يؤمنون عند إظهار تلك المعجزات فلم لم يجب على الله تعالى إظهارها اللهم إلا إذا ثبت قبل هذا البحث أن اللطف واجب على الله تعالى فحينئذ يحصل هذا المطلوب من هذه الآية إلا أن القاضي جعل هذه الآية دليلاً على وجوب اللطف فثبت أن كلامه ضعيف
وأما البحث الثاني وهو قوله إذا كان الكل بخلق الله تعالى لم يكن لهذه الألطاف أثر فيه فنقول الذي نقول به أن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي والعلم بحصول هذا اللطف أحد أجزاء الداعي وعلى هذا التقدير فيكون لهذا اللطف أثر في حصول الفعل
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
هذا أيضاً من الآيات الدالة على قولنا إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره والتقلب والقلب واحد وهو تحويل الشيء عن وجهه ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها البتة
أجاب الجبائي عنه بأن قال المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا به أول مرة في دار الدنيا
وأجاب الكعبي عنه بأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم
وأجاب القاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت فلا تجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً
واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف وليس لأحد أن يعيبنا فيقول إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع فإنا نقول إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء فهم يكررونها في كل آية فنحن أيضاً نكرر الجواب عنها في كل آية فنقول قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان فإذا انضمت(13/120)
الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعاً للتسلسل وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل وهذا هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ) فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه عبر عنهما بأصبعي الرحمن والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه فههنا أيضاً كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى والقلب مسخر لهاتين الداعيتين فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة وكان عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) والمراد من قوله مقلب القلوب أن الله تعالى يقلبه تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس
إذا عرفت هذه القاعدة فقوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ محمول على هذا المعنى الظاهر الجلي الذي يشهد بصحته كل طبع سليم وعقل مستقيم فلا حاجة البتة إلى ما ذكروه من التأويلات المستكرهة وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه فهو وإن كان يبصره في الظاهر إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سبباً للوقوف على الفوائد المطلوبة وهذا هو المراد من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً فلما كان المعدن هو القلب وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية ثم أتبعه بذكر تقليب البصر وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع لأن الله تعالى قال وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ثم عطف عليه فقال وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ولا شك أن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا فلو قلنا المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إنما يحصل في الآخرة كان هذا سوأ للنظم في كلام الله تعالى حيث قدم المؤخر وأخر المقدم من غير فائدة وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضاً لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر فهو الذي أوقع نفسه ذلك ذلك الحرمان والخدلان فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضاً لأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ تقليب القلب من حالة إلى حالة ونقله من صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية(13/121)
أما قوله تعالى كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فقال الواحدي فيه وجهان
الوجه الأول دخلت الكاف على محذوف تقديره فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات والتقدير فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى وأما الكناية في بِهِ فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام أو إلى ما طلبوا من الآيات
الوجه الثاني قال بعضهم الكاف في قوله كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ بمعنى الجزاء ومعنى الآية ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ولا حاجة فيها إلى الإضمار
وأما قوله تعالى وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالجبائي قال وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وهو يوجب تأكيد الحجة عليهم وقال أصحابنا معناه إنا نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان وفي ذلك الضلال والعمه
ولقائل أن يقول للجبائي إنك تقول إن إله العالم ما أراد بعبيده إلا الخير والرحمة فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر أقصى ما في الباب أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقاً للثواب فيفوته الاستحقاق فقط ولكن يسلم من العقاب أما إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه فإنه لا يحصل استحقاق الثواب ويحصل له العقاب العظيم الدائم فالمفسدة الحاصلة عند خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء مفسدة واحدة وهي فوت استحقاق الثواب أما المفسدة الحاصلة عند إبقائه على ذلك العمه والطغيان حتى يموت عليه فهي فوت استحقاق الثواب مع استحقاق العقاب الشديد والرحيم المحسن الناظر لعباده لا بد وأن يرجح الجانب الذي هو أكثر صلاحاً وأقل فساداً فعلمنا أن إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطغيان يقدح في أنه لا يريد به إلا الخير والإحسان
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في(13/122)
ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ثم إنهم أتوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من أهل مكة وقالوا له أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا مراراً أنهم لما اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة كان القول بأن هذه الآية نزلت في الواقعة الفلانية مشكلاً صعباً فأما على الوجه الذي قررناه وهو أن المقصود منه جواب ما ذكره بعضهم وهو أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لو جاءتهم آية لآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فذكر الله تعالى هذا الكلام بياناً لكذبهم وأنه لا فائدة في إنزال الآيات بعد الآيات وإظهار المعجزات بعد المعجزات بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميز الصادق عن الكاذب فأما الزيادة عليها فتحكم محض ولا حاجة إليه وإلا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثانية ثالثة وبعد الثالثة رابعة ويلزم أن لا تستقر الحجة وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل وذلك يوجب سد باب النبوات
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر قُبُلاً ههنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالضم فيهما في السورتين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي الكهف بالكسر قال الواحدي قال أبو زيد يقال لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً وقبلاً وقبيلاً كله واحد وهو المواجهة قال الواحدي فعلى قول أبي زيد المعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان ومن الناس من أثبت بين اللفظين تفاوتاً في المعنى فقال أما من قرأ قُبُلاً بكسر القاف وفتح الباء فقال أبو عبيدة والفراء والزجاج معناه عيانا يقال لقيته قبلاً أي معاينة وروي عن أبي ذر قال قلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكان آدم نبياً قال ( نعم كان نبياً كلمه الله تعالى قبلاً ) وأما من قرأ قُبُلاً فله ثلاثة أوجه أحدها أن يكون جمع قبيل الذي يراد به الكفيل يقال قبلت بالرجل أقبل قبالة أي كلفت به ويكون المعنى لو حشر عليهم كل شيء وكفلوا بصحة ما يقول لما آمنوا وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق فإذا أنطق الله الكل وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات وثانيها أن يكون قُبُلاً جمع قبيل بمعنى الصنف والمعنى وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً وموضع الإعجاز فيه هو حشرها بعد موتها ثم إنها على اختلاف طبائعها تكون مجتمعة في موقف واحد وثالثها أن يكون قُبُلاً بمعنى قبلا أي مواجهة ومعاينة كما فسره أبو زيد
أما قوله تعالى مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم قال أصحابنا فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان وهذا نص في المسألة قالت المعتزلة دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي لهم في هذه المسألة أولها أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم وثانيها لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر(13/123)
مطيعاً لله بفعل الكفر لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد وثالثها لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ورابعها لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر قالوا فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهره هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق وطريقه أن نقول إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر وبهذا الطريق زال الإشكال
واعلم أن هذا الكلام أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الإيمان الذي سموه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وأيضاً فبتقدير أن يكون ذلك معقولاً في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه بل يكون حادثاً لا لسبب ولا مؤثر أصلاً لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه فهذا لا يكون صادراً منه بل يكون صادراً لا عن سبب البتة وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلاً ولا يقوله عاقل وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدراً للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولاً بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي وذلك المجموع موجب للإيمان فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة
والوجه الثاني سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى إلا أنا نقول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا معناه ما كانوا ليؤمنوا إيماناً اختيارياً بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيماناً على سبيل الإلجاء والقهر فثبت أن قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ المراد ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار ثم استثنى عنه فقال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري فثبت أنه لا يجوز أن يقال المراد بقولنا إلا أن يشاء الله الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ يدل على حدوث مشيئة الله تعالى لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك كما لا يقال لا يذهب زيد إلى البصرة إلا أن يوحد الله تعالى وتقريره أنا إذا قلنا لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديماً ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط فيلزم كون الجزاء قديماً والحس دل على أنه محدث فوجب كون الشرط حادثاً وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة هذا تقرير هذا الكلام
والجواب أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة(13/124)
وهذا القدر يكفي لصحة هذ الكلام ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قال أصحابنا المراد يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره وقال المعتزلة المراد أنهم جهلوا أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِى ٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَكَذالِكَ منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان الأول أنه منسوق على قوله وَكَذالِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ أي كما فعلنا ذلك كَذالِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً الثاني معناه جعلنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله كَذالِكَ عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى أجاب الجبائي عنه بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل أنه كفره وإذا أخبر عن عدالته قيل أنه عدله فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له وأجاب أبو بكر الأصم عنه بأنه تعالى لما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه وصار ذلك الحسد سبباً للعداوة القوية فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي فأنت الذي صيرتهم لي حسداً
وأجاب الكعبي عنه بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جهلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جداً لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي حادثة من قبل الله تعالى ومتى كان الأمر كذلك فقد صح مذهبنا ثم ههنا بحث آخر وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان فإن الرجل قد يبلغ(13/125)
في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع قال المتنبي يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته
المسألة الثالثة النصب في قوله شَيَاطِينَ فيه وجهان الأول أنه منصوب على البدل من قوله عَدُوّا والثاني أن يكون قوله عَدُوّا منصوباً على أنه مفعول ثان والتقدير وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء
المسألة الرابعة اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين الأول أن المعنى مردة الإنس والجن والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لأبي ذر ( هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ) قال قلت وهل للإنس من شياطين قال ( نعم هم شر من شياطين الجن )
والقول الثاني أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس والقسم الثاني إلى وسوسة الجن فالفريقان شياطين الإنس والجن ومن الناس من قال القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين ومنهم من يقول القول الثاني أولى لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة وعلى هذا التقدير فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس
المسألة الخامسة قال الزجاج وابن الأنباري قوله عَدُوّا بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري إذا أنا لم أنفع صديقي بوده
فإن عدوي لن يضرهمو بغضي
أراد أعدائي فأدى الواحد عن الجمع وله نظائر في القرآن ومنها قوله ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( الذاريات 24 ) جعل المكرمين وهو جمع نعتاً للضيف وهو واحد وثانيها قوله وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ ( ق 10 ) وثالثها قوله أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء ( النور 31 ) ورابعها قوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 ) وخامسها قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ( آل عمران 93 ) أكد المفرد بما يؤكد الجمع به ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف فإن التقدير وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدواً واحداً إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد(13/126)
أما قوله تعالى يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضاً
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر
إذا ثبت هذا الأصل فنقول إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضاً وللناس فيه مذاهب منهم من قال الأرواح إما فلكية وإما أرضية والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة وهم الملائكة الأرضية ومنها خبيثة قذرة شريرة آمرة بالقبائح والمعاصي وهم الشياطين ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بالطاعات والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بتلك القبائح والزيادة فيها وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام فالنفوس البشرية إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها ثم إن صفات الطهارة كثيرة وصفات الخبث والنقصان كثيرة وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكاً وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاماً وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطاناً وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة الأول الوحي وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع والثاني الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلاً وظاهره مزيناً ظاهراً يقال فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف
واعلم أن تحقيق الكلام فيه إن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملاً على خير راجح ونفع زائد فإنه لا يرغب فيه ولذلك سمي الفاعل المختار مختاراً لكونه طالباً للخير والنفع ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للمعتقد فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادراً من الملك وإن لم يكن معتقداً مطابقاً للمعتقد فحينئذ يكون ظاهره مزيناً لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح ويكون باطنه فاسداً باطلاً لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفاً فهذا تحقيق هذا الكلام والثالث قوله غُرُوراً قال الواحدي غُرُوراً منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غروراً وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقاً للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في(13/127)
بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ قال ابن عباس معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الصغو في اللغة معناه الميل يقال في المستمع إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت أنه يصغي ويقال أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في البعض ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى فقوله وَلِتَصْغَى أي ولتميل
المسألة الثانية ( اللام ) وَلِتَصْغَى لا بد له من متعلق فقال أصحابنا التقدير وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شياطين الجن والإنس ومن صفته أنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وإنما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون أي وإنما أوجدنا العداوة في قلب الشياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ليكون كلامهم المزخرف مقبولاً عند هؤلاء الكفار قالوا وإذا حملنا الآية على هذا الوجه يظهر أنه تعالى يريد الكفر من الكافر أما المعتزلة فقد أجابوا عنه من ثلاثة أوجه
الوجه الأول وهو الذي ذكره الجبائي قال إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ وكذلك قوله وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ( الأنعام 113 ) وتقدير الكلام كأنه قال للرسول فذرهم وما يفترون ثم قال لهم على سبيل التهديد ولتصغى إليه أفئدتهم وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون
والوجه الثاني وهو الذي اختاره الكعبي أن هذه اللام لام العاقبة أي ستؤل عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال قال القاضي ويبعد أن يقال هذه العاقبة تحصل في الآخرة لأن الإلجاء حاصل في الآخرة فلا يجوز أن تميل قلوب الكفار إلى قبول المذهب الباطل ولا أن يرضوه ولا أن يقترفوا الذنب بل يجب أن تحمل على أن عاقبة أمرهم تؤل إلى أن يقبلوا الأباطيل ويرضوا بها ويعملوا بها(13/128)
والوجه الثالث وهو الذي اختاره أبو مسلم قال ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ متعلق بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً والتقدير أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ الذنوب ويكون المراد أن مقصود الشياطين من ذلك الإيحاء هو مجموع هذه المعاني فهذا جملة ما ذكروه في هذا الباب
أما الوجه الأول وهو الذي عول عليه الحبائي فضعيف من وجوه ذكرها القاضي فأحدها أن ( الواو ) في قوله وَلِتَصْغَى تقتضي تعلقه بما قبله فحمله على الابتداء بعيد وثانيها أن ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى لام كي فيبعد أن يقال إنها لام الأمر ويقرب ذلك من أن يكون تحريفاً لكلام الله تعالى وأن لا يجوز
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذه اللام لام العاقبة فهو ضعيف لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز وحمله على ( كي ) حقيقة فكان قولنا أولى
وأما الوجه الثالث وهو الذي ذكره أبو مسلم فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب لأنا نقول إن قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الإيحاء هو التغرير وإذا عطفنا عليه قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فهذا أيضاً عين التغرير لا معنى التغرير إلا أنه يستميله إلى ما يكون باطنه قبيحاً وظاهره حسناً وقوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ عين هذه الاستمالة فلو عطفنا لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه وأنه لا يجوز أما إذا قلنا تقدير الكلام وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شأنه أن يوحي زخرف القول لأجل التغرير وإنما جعلنا مثل هذا الشخص عدواً للنبي لتصغى إليه أفئدة الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة ذلك النبي وحينئذ لا يلزم على هذا التقدير عطف الشيء على نفسه فثبت أن ما ذكرناه أولى
المسألة الثالثة زعم أصحابنا أن البنية ليست مشروطاً للحياة فالحي هو الجزء الذي قامت به الحياة والعالم هو الجزء الذي قام به العلم وقالت المعتزلة الحي والعالم هو الجملة ( لا ) ذلك الجزء
إذا عرفت هذا فنقول احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم لأنه قال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فجعل الموصوف بالميل والرغبة هو القلب لا جملة الحي وذلك يدل على قولنا
المسألة الرابعة الذين قالوا الإنسان شيء مغاير للبدن اختلفوا منهم من قال المتعلق الأول هو القلب وبواسطته تتعلق النفس بسائر الأعضاء كالدماغ والكبد ومنهم من قال القلب متعلق النفس الحيوانية والدماغ متعلق النفس الناطقة والكبد متعلق النفس الطبيعية والأولون تعلقوا بهذه الآية فإنه تعالى جعل محل الصغو الذي هو عبارة عن الميل والإرادة القلب وذلك يدل على أن المتعلق بالنفس القلب
المسألة الخامسة الكناية في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ عائدة إلى زخرف القول وكذلك في قوله وَلِيَرْضَوْهُ
وأما قوله وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ فاعلم أن الاقتراف هو الاكتساب يقال في المثل الاعتراف(13/129)
يزيل الاقتراف كما يقال التوبة تمحو الحوبة وقال الزجاج ليقترفوا أي ليختلفوا وليكذبوا والأول أصح
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلباً للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين
الوجه الأول أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل عى أنه تعالى قد حكم بنبوته فقوله مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز ثم قل إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز
والوجه الثاني من الأمور الدالة على نبوته اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهو المراد من قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ( الأنعام 114 ) وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 )
أما قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه وجوه الأول أن هذا من باب التهييج والإلهاب كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ والثاني التقدير فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق والثالث يجوز أن يكون قوله فَلاَ تَكُونَنَّ خطاباً لكل واحد والمعنى أنه لما ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيها أحد الرابع قيل هذا الخطاب وإن كان في الظاهر للرسول إلا أن المراد منه أمته
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ قرأ ابن عامر وحفص مُنَزَّلٌ بالتشديد والباقون بالتخفيف والفرق بين التنزيل والإنزال قد ذكرناه مراراً(13/130)
المسألة الثالثة قال الواحدي أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة غير أن بعض أهل التأويل قال الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة فأما أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد
وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ بغير ألف على الواحد والباقون كَلِمَاتُ على الجمع قال أهل المعاني الكلمة والكمات معناهما ما جاء من وعد ووعيد وثواب وعقاب فلا تبديل فيه ولا تغيير له كما قال مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) فمن قرأ كَلِمَاتُ بالجمع قال لأن معناها الجمع فوجب أن يجمع في اللفظ ومن قرأ على الوحدة فلأنهم قالوا الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال زهير في كلمته يعني قصيدته وقال قس في كلمته أي خطبته فكذلك مجموع القرآن كلمة واحدة في كونه حقاً وصدقاً ومعجزاً
المسألة الثانية أن تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك والمراد بالكلمة القرآن أي تم القرآن في كونه معجزاً دالاً على صدق محمد عليه السلام وقوله صِدْقاً وَعَدْلاً أي تمت تماماً صدقاً وعدلاً وقال أبو علي الفارسي صِدْقاً وَعَدْلاً مصدران ينصبان على الحال من الكلمة تقديره صادقة عادلة فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة ا لله تعالى موصوفة بصفات كثيرة
فالصفة الأولى كونها تامة وإليه الإشارة بقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ وفي تفسير هذا التمام وجوه الأول ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والثاني أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملاً وعلماً والثالث أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل ولا يحدث بعد ذلك شيء فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام والزيادة عليه ممتنعة وهذا الوجه هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
الصفة الثانية من صفات كلمة الله كونها صدقاً والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل واعلم(13/131)
أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال فهو أيضاً يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي في تفسير قوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا إن الخلق في وعيد الله جائز وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد
الصفة الثالثة من صفات كلمات الله كونها عدلاً وفيه وجهان الأول أن كل ما حصل في القرآن نوعان الخبر والتكليف أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الأخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) وكقوله لاَ تَأْخُذْ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن الغيوب المستقبلة فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكاً أو بشر أو جنياً أو شيطاناً وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول قال تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ صِدْقاً إن كان من باب الخبر وَعَدْلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط في غاية الحسن
والقول الثاني في تفسير قوله وَعَدْلاً أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعاً وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية
الصفة الرابعة من صفات كلمة الله قوله لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وفيه وجوه الأول أنا بينا أن المراد من قوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 )
والوجه الثالث أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوجه الرابع أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى(13/132)
عمرو بالشقاوة ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ اللَّهِ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقياً وأن ينقلب الشقي سعيداً فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات الكفار ثم بين بالدليل صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بين أن بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال ولا ينبغي أن يتشوش بسبب كلماتهم الفاسدة فقال وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالاً لأن الإضلال لا بد وأن يكون مسبوقاً بالضلال واعلم أن حصول هذا الضلال والإضلال لا يخرج عن أحد أمور ثلاثة أولها المباحث المتعلقة بالإلهيات فإن الحق فيها واحد وأما الباطل ففيه كثرة ومنها القول بالشرك أما كما تقوله الزنادقة وهو الذى أخبر الله عنه في قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وإما كما يقوله عبدة الكواكب وإما كما يقوله عبدة الأصنام وثانيها المباحث المتعلقة بالنبوات إما كما يقوله من ينكر النبوة مطلقاً أو كما يقوله من ينكر النشر أو كما يقوله من ينكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل في هذا الباب المباحث المتعلقة بالمعاد وثالثها المباحث المتعلقة بالأحكام وهي كثيرة فإن الكفار كانوا يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فقال تعالى وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ فيما يعتقدونه من الحكم على الباطل بأنه حق وعلى الحق بأنه باطل يضلوك عن سبيل الله أي عن الطريق والمنهج الصدق
ثم قال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كذابون في ادعاء القطع وكثير من المفسرين يقولون المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلاً
المسألة الثانية تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن بسبب كونهم متبعين للظن والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذم والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن فوجب كونه مذموماً محرماً لا يقال لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة كان العمل به عملاً بدليل مقطوع لا بدليل مظنون لأنا نقول هذا مدفوع من وجوه الأول أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقلياً وإما أن يكون سمعياً والأول باطل لأن العقل لا مجال له(13/133)
في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعاً لو كان متواتراً وكانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة فحيث لم يوجد ذلك علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود الثاني هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين الأول أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا والثاني أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين فهذا ما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنياً فحينئذ لا يتم العمل بهذا القياس إلا بمتابعة الظن وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظنم مذمومة
والجواب لم لا يجوز أن يقال الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل اعتقاد الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إلى أمارة فهذا الاعتقاد لا يسمى ظناً وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره قولان الأول أن يكون المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو وأن الباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأنه تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل واحد بما يليق بعمله والثاني أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ومطلع على كونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ فيه قولان الأول قال بعضهم أَعْلَمُ ههنا بمعنى يعلم والتقدير إن ربك يعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
فإن قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال
قلنا لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فذكر الإحسان مرتين والإسارة مرة واحدة والثاني أن موضع مِنْ رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله قَالَ وهذا مثل قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى وهذا قول المبرد والزجاج والكسائي والفراء
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
في الآية مباحث نذكرها في معرض السؤال والجواب(13/134)
السؤال الأول ( الفاء ) في قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يقتضي تعلقاً بما تقدم فما ذلك الشيء
والجواب قوله فَكُلُواْ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله
السؤال الثاني القوم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ولا ينازعون فيه وإنما النزاع في أنهم أيضاً كانوا يبيحون أكل الميتة والمسلمون كانوا يحرمونها وإذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثاً لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه
والجواب فيه وجهان الأول لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فالله تعالى رد عليهم في الأمرين فحكم بحل المذكاة بقوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبتحريم الميتة بقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الثاني أن نحمل قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه فيكون المعنى على هذا الوجه تحريم أكل الميتة فقط
السؤال الثالث قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ صيغة الأمر وهي للإباحة وهذه الإباحة حاصلة في حق المؤمن وغير المؤمن وكلمة ءانٍ في قوله إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ تفيد الاشتراط
والجواب التقدير ليكن أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين والمراد أنه لو حكم بإباحة أكل الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمناً
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بالفتح في الحرفين وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالضم في الحرفين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم فَصْلٌ بالفتح وَحَرَّمَ بالضم فمن قرأ بالفتح في الحرفين فقد احتج بوجهين الأول أنه تمسك في فتح قوله فَصْلٌ بقوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي فتح قوله حَرَّمَ بقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
والوجه الثاني التمسك بقوله مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فيجب أن يكون(13/135)
الفعل مسنداً إلى الفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى وأما الذين قرؤا بالضم في الحرفين فحجتهم قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وقوله حُرُمَاتِ تفصيل لما أجمل في هذه الآية فلما وجب في التفصيل أن يقال حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ بفعل ما لم يسم فاعله وجب في الإجمال كذلك وهو قوله مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ولما ثبت وجوب حَرَّمَ بضم الحاء فكذلك يجب فَصْلٌ بضم الفاء لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم المجمل بعينه وأيضاً فإنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وقوله مُفَصَّلاً يدل على فصل وأما من قرأ فَصْلٌ بالفتح وحرم بالضم فحجته في قوله فَصْلٌ قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي قوله حَرَّمَ قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ
المسألة الثانية قوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أكثر المفسرين قالوا المراد منه قوله تعالى في أول سورة المائدة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وفيه إشكال وهو أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية وهي آخر ما أنزل الله بالمدينة وقوله وَقَدْ فَصَّلَ يقتضي أن يكون ذلك المفصل مقدماً على هذا المجمل والمدني متأخر عن المكي والمتأخر يمتنع كونه متقدماً بل الأولى أن يقال المراد قوله بعد هذه الآية قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطعمه وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد والله أعلم وقوله إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة
ثم قال وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو لَّيُضِلُّونَ بفتح الياء وكذلك في يونس رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ وفي إبراهيم لِيُضِلُّواْ وفي الحج ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ وفي لقمان لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ وفي الزمر أَندَاداً لّيُضِلَّ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي جميع ذلك بضم الياء وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي يونس بفتح الياء وفي سائر المواضع بالضم فمن قرأ بالفتح أشار إلى كونه ضالاً ومن قرأ بالضم أشار إلى كونه مضلاً قال وهذا أقوى في الذم لأن كل مضل فإنه يجب كونه ضالاً وقد يكون ضالاً ولا يكون مضلاً فالمضل أكثر استحقاقاً للذم من الضال
المسألة الثانية المراد من قوله لَّيُضِلُّونَ قيل إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسمعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة والضلالة المحضة وقال الزجاج المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرونكم في إحلالها ويحتجون عليها بقولهم لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بصيرة عندهم ولا علم
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة والآية دلت على أن ذلك حرام
ثم قال تعالى إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ والمراد منه أنه هو العالم بما في قلوبهم وضمائرهم من(13/136)
التعدي وطلب نصرة الباطل والسعي في إخفاء الحق وإذا كان عالماً بأحوالهم وكان قادراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصود من هذه الكلمة التهديد والتخويف والله أعلم
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ والمراد من الإثم ما يوجب الإثم وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين الأول أن ظَاهِرَ الإِثْمِ الإعلان بالزنا وَبَاطِنَهُ الاستسرار به قال الضحاك كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية الثاني أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز ثم قيل المراد ما أعلنتم وما أسررتم وقيل ما عملتم وما نويتم وقال ابن الأنباري يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه وقال آخرون معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثماً بسبب إخفائه وكتمانه ويمكن أن يقال المراد من قوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ النهي عن الإقدام على الإثم ثم قال وَبَاطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس وقال آخرون ظَاهِرَ الإِثْمِ أفعال الجوارح وَبَاطِنَهُ أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات وبهذا يظهر فساد قول من يقول إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب وأصحابنا زادوا شرطاً ثانياً وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(13/137)
اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله ويدخل فيه الميتة ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نقل عن عطاء أنه قال كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم هذه الآية وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح ثم اختلفوا فقال مالك كل ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام سواء ترك ذلك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إن ترك الذكر عمداً حرم وإن ترك نسياناً حل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل متروك التسمية سواء ترك عمداً أو خطأ إذا كان الذابح أهلاً للذبح وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) فلا فائدة في الإعادة قال الشافعي رحمه الله تعالى هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ( الأنعام 121 ) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة روي أن ناساً من المشركين قالوا للمسلمين ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه وما يقتله الله فلا تأكلونه وعن ابن عباس أنهم قالوا تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة وثالثها قوله تعالى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك قال الشافعي رحمه الله تعالى فأول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فقد صار هذا النهي مخصوصاً بما إذا كان هذا الأمر فسقاً ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقاً فرأينا هذا الفسق مفسراً في آية أخرى وهو قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ ( الأنعام 145 ) فصار الفسق في هذه الآية مفسراً بما أهل به لغير الله وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصاً بما أهل به لغير الله
والمقام الثاني أن نترك التمسك بهذه المخصصات لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل ) ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب
والمقام الثالث وهو أن نقول هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل لأن الأصل في المأكولات الحل وأيضاً يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( البقرة 60 ) لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه فوجب أن لا يحرم لما روي عن(13/138)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن إضاعة المال فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي
المسألة الثانية الضمير في قوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أن قوله لاَ تَأْكُلُواْ يدل على الأكل لأن الفعل يدل على المصدر فهذا الضمير عائد إلى هذا المصدر والثاني كأنه جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً على سبيل المبالغة
وأما قوله وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ففيه قولان الأول أن المراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في أكل الميتة والثاني قال عكرمة وإن الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وذلك لأنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج وفيه دليل على أن كل من أهل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى وهذا هو الشرك
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركاً
ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن الله تعالى شريكاً في الحكم والتكليف وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط
أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلاً يدل على حال المؤمن المهتدي وعلى حال الكافر الضال فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعل حياً بعد ذلك وأعطى نوراً يهتدى به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام(13/139)
ثم قال تعالى كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر فقال أصحابنا ذلك المزين هو الله تعالى ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى وقالت المعتزلة ذلك المزين هو الشيطان وحكوا عن الحسن أنه قال زينه لهم والله الشيطان واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه الأول الدليل القاطع الذي ذكرناه والثاني أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان الثالث أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها أما قبلها فقوله وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ وأما بعد هذه الآية فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
المسألة الثانية قوله أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ قرأ نافع مَيْتًا مشدداً والباقون مخففاً قال أهل اللغة الميت مخففاً تخفيف ميت ومعناهما واحد ثقل أو خفف
المسألة الثالثة قال أهل المعاني قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( النحل 21 ) وأيضاً في قوله لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س 70 ) وفي قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) وفي قوله وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ ( فاطر 19 و 22 ) فلما جعل الكفر موتاً والكافر ميتاً جعل الهدى حياة والمهتدي حياً وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء والجاهل كذلك والهدى علم وبصر والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ عطف على قوله فَأَحْيَيْنَاهُ فوجب أن يكون هذا النور مغايراً لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة فأولها كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف وربما كان ذلك الاستعداد قليلاً ضعيفاً ويكون صاحبه بليداً ناقصاً
والمرتبة الثانية أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية وهي المسماة بالعقل
والمرتبة الثالثة أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات ويتوصل بتركيبها إلى تعرف المجهولات الكسبية إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها يقدر عليه
والمرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل ويكون جوهر ذلك الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها مستكملاً بظهورها فيه
إذا عرفت هذا فنقول(13/140)
المرتبة الأولى وهي حصول الاستعداد فقط هي المسماة بالموت
والمرتبة الثانية وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله فَأَحْيَيْنَاهُ
والمرتبة الثالثة وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية فهي المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
والمرتبة الرابعة وهي قوله يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ إشارة إلى كونه مستحضراً لتلك الجلايا القدسية ناظراً إليها وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية ويمكن أن يقال أيضاً الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به فإنه لا بد في الإبصار من أمرين من سلامة الحاسة ومن طلوع الشمس فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي والتنزيل فلهذا السبب قال المفسرون المراد بهذا النور القرآن ومنهم من قال هو نور الدين ومنهم من قال هو نور الحكمة والأقوال بأسرها متقاربة والتحقيق ما ذكرناه وأما مثل الكافر فَهُوَ كَمَنْ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا وفي قوله لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا دقيقة عقلية وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه نعوذ بالله من هذه الحالة وأيضاً الواقف في الظلمات يبقى متحيراً لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والوقوف
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر فيه قولان الأول أنه خاص بإنسانين على التعيين ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس إن أبا جهل رمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس وجعل يضرب رأسه فقال له أبو جهل أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا فقال حمزة أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت هذه الآية
والرواية الثانية قال مقاتل نزلت هذه الآية في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة قال عكرمة والكلبي نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل
والرواية الرابعة قال الضحاك نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل
والقول الثاني إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين وهذا هو الحق لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل كان التخصيص محض التحكم وأيضاً قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة كذا وكذا مشكل إلا إذا قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة فلان بعينه(13/141)
المسألة الخامسة هذه الآية من أقوى الدلائل أيضاً على أن الكفر والإيمان من الله تعالى لأن قوله فَأَحْيَيْنَاهُ وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه والدلائل العقلية ساعدت على صحته وهو دليل الداعي على ما لخصناه وأيضاً أن عاقلاً لا يختار الجهل والكفر لنفسه فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلاً كافراً فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة ولم يحصل ذلك وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم
قلنا فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه وهو المطلوب
وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في قوله وَكَذالِكَ يوجب التشبيه وفيه قولان الأول وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الثاني أنه معطوف على ماقبله أي كما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا
المسألة الثانية الأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم والآية على التقديم والتأخير تقديره جعلنا مجرميها أكابر ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنه لا يتم المعنى ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت جعلت زيداً وسكت لم يفد الكلام حتى تقول رئيساً أو ذليلاً أو ما أشبه ذلك لاقتضاء الجعل مفعولين ولأنك إذا أضفت الأكابر فقد أضفت الصفة إلى الموصوف وذلك لا يجوز عند البصريين
المسألة الثالثة صار تقدير الآية جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ليمكروا فيها وذلك يقتضي أنه تعالى إنما جعلهم بهذه الصفة لأنه أراد منهم أن يمكروا بالناس فهذا أيضاً يدل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى
أجاب الجبائي عنه بأن حمل هذه اللام على لام العاقبة وذكر غيره أنه تعالى لما لم يمنعهم عن المكر صار شبيهاً بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه وهذا السؤال مع جوابه قد تكرر مراراً خارجة عن الحد والحصر(13/142)
المسألة الرابعة قال الزجاج إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ولأن كثرة المال وقوة الجاه تحمل الإنسان على المبالغة في حفظهما وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة من الغدر والمكر والكذب والغيبة والنميمة والإيمان الكاذبة ولو لم يكن للمال والجاه عيب سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الصفات الذميمة من كان له مال وجاه لكفى ذلك دليلاً على خساسة المال والجاه
ثم قال تعالى وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ والمراد منه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وقد ذكرنا حقيقة ذلك في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ قالت المعتزلة لا شك أن قوله وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ مذكور في معرض التهديد والزجر فلو كان ما قبل هذه الآية يدل على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرحيم الكريم الحكيم الحليم أن يريد منهم المكر ويخلق فيهم المكر ثم يهددهم عليه ويعاقبهم أشد العقاب عليه واعلم أن معارضة هذا الكلام بالوجوه المشهورة قد ذكرناها مراراً
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله وهذا يدل على نهاية حسدهم وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل بل لنهاية الحسد قال المفسرون قال الوليد بن المغيرة والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالاً وولداً فنزلت هذه الآية وقال الضحاك أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضاً لأنه تعالى قال وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام وأيضاً فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضاً وهو قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث(13/143)
وأما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو المشهور أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين
والقول الثاني وهو قول الحسن ومنقول عن ابن عباس أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى تُؤْتِى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهو قول مشركي العرب لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا إلى قوله حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ من الله إلى أبي جهل وإلى فلان وفلان كتاباً على حدة وعلى هذا التقدير فالقوم ما طلبوا النبوة وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام قال المحققون والقول الأول أقوى وأولى لأن قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ لا يليق إلا بالقول الأول ولمن ينصر القول الثاني أن يقول إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة وحينئذ يصلح أن يكون قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ جواباً على هذا الكلام
وأما قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فالمعنى أن للرسالة موضعاً مخصوصاً لا يصلح وضعها إلا فيه فمن كان مخصوصاً موصوفاً بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولاً وإلا فلا والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة فقال بعضهم النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل وقال آخرون بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان التشديد غالباً عليه وهذا النوع من البحث فيه استقصاء ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيه تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد وقوله لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيبصيبهم صَغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين التعظيم والمنفعة والعقاب أيضاً إنما يتم بأمرين الإهانة والضرر والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين في هذه الآية أما الإهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ( الأنعام 124 ) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان وفي قوله صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ(13/144)
وجوه الأول أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه والثاني أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في در الدنيا فلما كان ذلك الصغار هذا حاله جاز أن يضاف إلى عند الله الثالث أن يكون المراد سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ ثم استأنف وقال عَندَ اللَّهِ أي معدلهم ذلك والمقصود منه التأكيد الرابع أن يكون المراد صغار من عند الله وعلى هذا التقدير فلا بد من إضمار كلمة ( من ) وأما بيان الضرر والعذاب فهو قوله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا فلفظها أيضاً يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة وبيانه أن العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلاً من الكفر أو الكفر بدلاً من الإيمان إلا إذا حصل في القلب داعية إليه وقد بينا ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أن ظن بكون ذلك الفعل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل
إذا ثبت هذا فنقول يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلاإذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله وهذا هو انشراح الصدر للإيمان فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلاً سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقاً حرجاً فصار تقدير الآية أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان ومن أراد الله منه الكفر(13/145)
قوى صوارفه عن الإيمان وقوى دواعيه إلى الكفر ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن فليس وراءه بيان ولا برهان قالت المعتزلة لنا في هذه الآية مقامان
المقام الأول بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم
المقام الثاني مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا
أما المقام الأول فتقريره من وجوه
الوجه الأول أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوماً أو يضلهم لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنساناً فعل به كيت وكيت وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده والدليل عليه أنه تعالى قال لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ( الأنبياء 17 ) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل ومن يرد أن يضله عن الإسلام بل قال وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ فلم قلتم أن المراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان
والوجه الثالث أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء فقال كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 125 )
الوجه الرابع أن قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقاً حرجاً يتقدم حصوله على حصول الضلالة وأن لحصول ذلك المتقدم أثراً في حصول الضلال وذلك باطل بالإجماع أما عندنا فلا نقول به وأما عندكم فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم
أما المقام الثاني وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا فتقريره من وجوه الأول وهو الذي اختاره الجبائي ونصره القاضي فنقول تقدير الآية ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ولا يزول عنه وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن إلا بعد أن يصير مؤمناً وهي بعد أن يصير الرجل مؤمناً يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ( التغابن 11 ) وبقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه فأما إذا كفر وعاند وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج ثم سأل الجبائي نفسه وقال كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن
وأجاب عنه بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالاً آخر فقال فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه(13/146)
يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات
وأجاب عنه بأن قال وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصاً عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين وعند ظهور الذلة والصغار فيهم هذا غاية تقرير هذا الجواب
والوجه الثاني في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار قالوا فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له فوجب حمل اللفظ عليه
والوجه الثالث في التأويل أن يقال حصل في الكلام تقديم وتأخير فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة ومن جعل صدره ضيقاً حرجاً عن الإيمان فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب
والجواب عما قالوه أولاً من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا
فنقول قوله تعالى في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف ( الكاف ) في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه والتقدير وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون
والجواب عما قالوه ثانياً وهو قوله ومن يرد الله أن يضله عن الدين
فنقول إن قوله في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأن المراد من قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين
والجواب عما قالوه ثالثاً من أن قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم
فنقول لا نسلم أن المراد ذلك بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضي عليهم بأنهم لا يؤمنون وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه سقط ما ذكروه
والجواب عما قالوه رابعاً من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئاً متقدماً على الضلال وموجباً له
فنقول الأمر كذلك لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقاداً بأن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد لأن الطريق إذا كان ضيقاً(13/147)
لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه أطلق لفظ الضيق والحرج عليه فقد سقط هذا الكلام
وأما الوجه الأول من التأويلات الثلاثة التي ذكروها
فالجواب عنه أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر وهذا بعيد لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج فلو كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية بل الحزم والبلاء في حق المؤمن أكثر قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وقال عليه السلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل )
وأما الوجه الثاني من التأويلات الثلاثة فهو أيضاً مدفوع لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت وكذلك القول في قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ( الزخرف 33 ) المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة
وأما الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة فهو يقتضي تفكيك نظم الآية وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولاً ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان وأنتم عكستم القضية فقلتم العبد يجعل نفسه أولاً منشرح الصدر ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلاً وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذلك القول في جانب الكفر ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك وعلى هذا التقدير فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط والله تعالى أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في تفسير ألفاظ الآية أما شرح الصدر ففي تفسير وجهان
الوجه الأول قال الليث يقال شرح الله صدره فانشرح أي وسع صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع وأقول إن الليث فسر شرح الصدر بتوسيع الصدر ولا شك أنه ليس المراد منه أن يوسع صدره على سبيل(13/148)
الحقيقة لأنه لا شبهة أن ذلك محال بل لا بد من تفسير توسيع الصدر فنقول تحقيقه ما ذكرناه فيما تقدم ولا بأس بإعادته فنقول إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله فتسمى هذه الحالة بسعة النفس وإذا اعتقد في عمل من الأعمال أن شره زائد وضرره راجح عظمت النفرة عنه وحصل في الطبع نفرة ونبوة عن قبوله ومعلوم أن الطريق إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه وإذا كان واسعاً قدر الداخل على الدخول فيه فإذا حصل اعتقاد أن الأمر الفلاني زائد النفع والخير وحصل الميل إليه فقد حصل ذلك الميل في ذلك القلب فقيل اتسع الصدر له وإذا حصل اعتقاد أنه زائد الضرر والمفسدة لم يحصل في القلب ميل إليه فقيل إنه ضيق فقد صار الصدر شبيهاً بالطريق الضيق الذي لا يمكن الدخول فيه فهذا تحقيق الكلام في سعة الصدر وضيقه
والوجه الثاني في تفسير الشرح يقال شرح فلان أمره إذا أظهره وأوضحه وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فبينها
واعلم أن لفظ الشرح غير مختص بالجانب الحق لأنه وارد في الإسلام في قوله أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) وفي الكفر في قوله وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ( النحل 106 ) قال المفسرون لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل له كيف يشرح الله صدره فقال عليه السلام ( يقذف فيه نوراً حتى ينفسح وينشرح ) فقيل له وهل لذلك من أمارة يعرف بها فقال عليه السلام ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) وأقول هذا الحديث من أدل الدلائل على صحة ما ذكرناه في تفسير شرح الله الصدر وتقريره أن الإنسان إذا تصور أن الاشتغال بعمل الآخرة زائد النفع والخير وأن الاشتغال بعمل الدنيا زائد الضرر والشر فإذا حصل الجزم بذلك إما بالبرهان أو بالتجربة أو التقليد لا بد وأن يترتب على حصول هذا الاعتقاد حصول الرغبة في الآخرة وهو المراد من الإنابة إلى دار الخلود والنفرة عن دار الدنيا وهو المراد من التجافي عن دار الغرور وأما الاستعداد للموت قبل نزول الموت فهو مشتمل على الأمرين أعني النفرة عن الدنيا والرغبة في الآخرة
إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الفعل لا بد وأن يحصل قبل حصول الفعل وشرح الصدر للإيمان عبارة عن حصول الداعي إلى الإيمان فلهذا المعنى أشعر ظاهر هذه الآية بأن شرح الصدر متقدم على حصول الإسلام وكذا القول في جانب الكفر
أما قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير ضَيّقاً ساكنة الياء وكذا في كل القرآن والباقون مشددة الياء مكسورة فيحتمل أن يكون المشدد والمخفف بمعنى واحد كسيد وسيد وهين وهين ولين ولين وميت وميت وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم حَرَجاً بكسر الراء والباقون بفتحها قال الفراء وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوجل والوجل والقرد والقرد والدنف والدنف قال الزجاج الحرج في اللغة أضيق الضيق ومعناه أنه ضيق جداً فمن قال أنه رجل حرج الصدر بفتح الراء فمعناه ذو حرج في صدره ومن قال حرج جعله فاعلاً وكذلك رجل دنف ذو دنف ودنف نعت(13/149)
البحث الثاني قال بعضهم الحرج بكسر الراء الضيق والحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية وحكى الواحدي في هذا الباب حكايتين إحداهما روى عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال هل ههنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قال الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس كذلك قلب الكافر والثانية روى الواحدي عن أبي الصلت الثقفي قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية ثم قال ائتوني برجل من كنانة جعلوه راعياً فأتوا به فقال له عمر يا فتى ما الحرجة فيكم قال الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير
أما قوله تعالى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء ففيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير يَصْعَدُ ساكنة الصاد وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف وتشديد الصاد بمعنى يتصاعد والباقون إِلَيْهِ يَصْعَدُ بتشديد الصاد والعين بغير ألف أما قراءة ابن كثير يَصْعَدُ فهي من الصعود والمعنى أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف الصعود إلى السماء فكما أن ذلك التكليف ثقيل على القلب فكذلك الإيمان ثقيل على قلب الكافر وأما قراءة أبي بكر يصاعد فهو مثل يتصاعد وأما قراءة الباقين إِلَيْهِ يَصْعَدُ فهي بمعنى يتصعد فأدغمت التاء في الصاد ومعنى يتصعد يتكلف ما يثقل عليه
البحث الثاني في كيفية هذا التشبيه وجهان الأول كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه وعظم وصعب عليه وقويت نفرته عنه فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته عنه والثاني أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء
أما قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه بحثان
البحث الأول الكاف في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه بشيء وفيه وجهان الأول التقدير أن يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم والثاني قال الزجاج التقدير مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس
البحث الثاني اختلفوا في تفسير الرّجْسَ فقال ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقال مجاهد الرّجْسَ مالا خير فيه وقال عطاء الرّجْسَ العذاب وقال الزجاج الرّجْسَ اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر فقال لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً منهم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله فتقوم القدرية وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره وقال هذا الحديث من أقوى ما يدل على أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدراً(13/150)
وخلقاً لأن الذين يقولون هذا القول هم خصماء الله لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا وأنت الذي خلقته فينا وإرادته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له وما يسرت لنا غيره فهؤلاء لا بد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة أما الذين قالوا إن الله مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة فلا يكونون خصماء الله بل يكونون منقادين لله هذا كلام القاضي وهو عجيب جداً وذلك لأنه يقال له يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصماً لله تعالى أما الذين يكونون خصماء لله فهم المعتزلة وتقريره من وجوه الأول أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى والثاني أن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة فذلك العبد يقول أيها الإله إياك ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولاً عن الإلهية والحاصل أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة فهذا هو الخصومة أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى فهذا لا يكون خصماً
والوجه الثالث في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوماً من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس وجلس في بعض الجوانب مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد والثاني كان في غاية الكفر والفسق والثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم فقال الجبائي أما الزاهد ففي درجات الجنة وأما الكافر ففي دركات النار وأما الصبي فمن أهل السلامة قال قولي له لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه فقال الجبائي لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين فقال الجبائي يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوحب النار فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب فقال أبو الحسن قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار فقال يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم(13/151)
الراحمين كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي قال الراوي فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي فلما نظر رأى أبا الحسن فعلم أن هذه المسألة منه لا من العجوز ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال فقال نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم ثم قال وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا فقال البصريون التكليف محض التفضل والإحسان وهو غير واجب على الله تعالى وقال البغداديون إنه واجب على الله تعالى قال فإن فرعنا على قول البصريين فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلاً عليك بمثله وأما إن فرعنا على قول البغداديين فالجواب أن يقال إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحساناً في حقه ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعياً منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري بل سعياً منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله إنما لزمت على قول المعتزلة وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب وليس للعبد أن يقول لربه لم فعلت كذا أو ما فعلت كذا فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة لا أهل السنة وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا ثم نقول
أما الجواب الأول وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل فيجوز أن يخص به بعضاً دون بعض فنقول هذا الكلام مدفوع لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى لأن الإيصال إلى هذا الثاني ليس فعلاً شاقاً على الله تعالى ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولاً فليكن مقبولاً ههنا وإن لم يكن مقبولاً لم يكن مقبولاً البتة في شيء من المواضع وتبطل كلية مذهبكم فثبت أن هذا الجواب فاسد
وأما الجواب الثاني فهو أيضاً فاسد وذلك لأن قولنا تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبداً في حق الكل وأنه باطل بل معناه أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف فوجب أن يترك تكليفه وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر وإن لم يجب ههنا لم يجب هنالك وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلاً قبيحاً عند(13/152)
ذلك التكليف ولا يجب عليه تركه إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف فهذا محض التحكم فثبت أن الجواب الذي استخرجه أبو الحسين بلطيف فكره ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف وظهر أن خصماء الله هم المعتزلة لا أصحابنا والله أعلم
وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَاذَا إشارة إلى مذكور تقدم ذكره وفيه قولان الأول وهو الأقوى عندي أنه إشارة إلى ما ذكره وقرره في الآية المتقدمة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فوجب كون الفعل من الله تعالى وذلك يوجب التوحيد المحض وهو كونه تعالى مبدئاً لجميع الكائنات والممكنات وإنما سماه صراطاً لأن العلم به يؤدي إلى العلم بالتوحيد الحق وإنما وصفه بكونه مستقيماً لأن قول المعتزلة غير مستقيم وذلك لأن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف فإن توقف على المرجح لزم أن يقال الفعل لا يصدر عن القادر إلا عند انضمام الداعي إليه وحينئذ يتم قولنا ويكون الكل بقضاء الله وقدره ويبطل قول المعتزلة وإما أن لا يتوقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على مرجح وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصنع والصانع وإبطال القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر فأما القول بأن هذا الرجحان يحتاج إلى المؤثر في بعض الصور دون البعض كما يقوله هؤلاء المعتزلة فهو معوج غير مستقيم إنما المستقيم هو الحكم بثبوت الحاجة على الإطلاق وذلك يوجب عين مذهبنا فهذا القول هو المختار عندي في تفسير هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً إشارة إلى كل ما سبق ذكره في كل القرآن قال ابن عباس يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيماً وقال ابن مسعود يعني القرآن والقول الأول أولى لأن عود الإشارة إلى أقرب المذكورات أولى
وإذا ثبت هذا فنقول لما أمر الله تعالى بمتابعة ما في الآية المتقدمة وجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى إذا ذكر شيئاً وبالغ في الأمر بالتمسك به والرجوع إليه والتعويل عليه وجب أن يكون من المحكمات فثبت أن الآية المتقدمة من المحكمات وأنه يجب إجراؤها على ظاهرها ويحرم التصرف فيها بالتأويل
المسألة الثانية قال الواحدي انتصب مستقيماً على الحال والعامل فيه معنى ( هذا ) وذلك لأن ( ذا ) يتضمن معنى الإشارة كقولك هذا زيد قائماً معناه أشير إليه في حال قيامه وإذا كان العامل في الحال(13/153)
معنى الفعل لا الفعل لم يجز تقديم الحال عليه لا يجوز قائماً هذا زيد ويجوز ضاحكاً جاء زيد
أما قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
فنقول أما تفصيل الآيات فمعناه ذكرها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر والله تعالى قد بين صحة القول بالقضاء والقدر في آيات كثيرة من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة وأما قوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فالذي أظنه والعلم عند الله أنه تعالى إنما جعل مقطع هذه الآية هذه اللفظة لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا لمرجح فكأنه تعالى يقول للمعتزلي أيها المعتزلي تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك بالكلية في مسألة القضاء والقدر
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيىء لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم فقال لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وفي هذه الآية تشريفات
النوع الأول قوله لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ وهذا يوجب الحصر فمعناه لهم دار السلام لا لغيرهم وفي قوله دَارُ السَّلَامِ قولان
القول الأول أن السلام من أسماء الله تعالى فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى كما قيل للكعبة بيت الله تعالى وللخليفة عبد الله
والقول الثاني أن السلام صفة الدار ثم فيه وجهان الأول المعنى دار السلامة والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة وسفاه وسفاهة ولذاذ ولذاذة ورضاع ورضاعة الثاني أن السلام جمع السلامة وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها
إذا عرفت هذين القولين فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين الأول أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى والثاني أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز وإنما وصف بذلك لأنه(13/154)
تعالى ذو السلام فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى
النوع الثاني من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله عِندَ رَبّهِمْ وفي تفسيره وجوه
الوجه الأول المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة ونظيره قوله تعالى جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من ذلك
الوجه الثاني وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله عِندَ رَبّهِمْ يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ونظيره قوله تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 )
الوجه الثالث أنه قال في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وقال في صفة المؤمنين في الدنيا أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي وقال أيضاً أنا عند ظن عبدي بي وقال في صفتهم يوم القيامة فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقال في دارهم لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وقال في ثوابهم جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ( البينة 8 ) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية
النوع الثالث من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله وَهُوَ وَلِيُّهُم والولي معناه القريب فقوله عِندَ رَبّهِمْ يدل على قربهم من الله تعالى وقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يدل على قرب الله منهم ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة وأيضاً فقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يفيد الحصر أي لا ولي لهم إلا هو وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو وأن النافع والضار ليس إلا هو وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو وأنه لا مبدىء للكائنات والممكنات إلا هو فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه وما كان توكلهم إلا عليه وما كان أنسهم إلا به وما كان خضوعهم إلا له فلما صاروا بالكلية لا جرم قال تعالى وَهُوَ وَلِيُّهُم وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل فإن العمل لا بد منه وتحقيق القول فيه أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً فكما أن الهيآت النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن مثل ما إذا تصور أمراً مغضباً ظهر الأثر عليه في البدن فيسخن البدن ويحمى فكذلك الهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة(13/155)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار وليكون الوعيد مذكوراً بعد الوعد وفيه مسائل
المسألة الأولى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ منصوب بمحذوف أي واذكر يوم نحشرهم أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته
المسألة الثانية الضمير في قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول يعودإلى المعلوم لا إلى المذكور وهو الثقلان وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم والثاني أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ( الأنعام 112 )
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير يوم نحشرهم جميعاً فنقول يا معشر الجن فيكون هذا القائل هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتاً وبياناً لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم وقال الزجاج التقدير فيقال لهم يا معشر الجن لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار بدليل قوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( البقرة 174 )
أما قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ فنقول هذا لا بد فيه من التأويل لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول
أما قوله وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ فالأقرب أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً فكذلك قال للإنس توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول والمشاركة حاصلة بين الفريقين فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس وهو قولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم ثم(13/156)
ههنا قولان الأول أن قولهم استمتع بعضنا ببعض المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان
القول الأول أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيبيت آمناً في نفسه فهذا استمتاع الإنس بالجن وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن وذلك الجني يقول قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ ( الجن 6 )
والوجه الثاني في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم فهذا استمتاع الجن بالإنس وأما استمتاع الإنس بالجن فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم وهذا القول اختيار الزجاج قال وهذا أولى من الوجه المتقدم والدليل عليه قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي قليل
والقول الثاني أن قوله تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ هو كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر أما استمتاع بعض الإنس ببعض فهو أمر ظاهر فوجب حمل الكلام عليه وأيضاً قوله تعالى وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ كلام الإنس الذين هم أولياء الجن فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض
ثم قال تعالى حكاية عنهم وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا فالمعنى أن ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى أجل معين ووقت محدود ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات فقال بعضهم هو وقت الموت وقال آخرون هو وقت التخلية والتمكين وقال قوم المراد وقت المحاسبة في القيامة والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وفيهم المقتول وغير المقتول
ثم قال تعالى قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى المقام والمقر والمصير ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله خَالِدِينَ فِيهَا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجوه الأول أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار الثاني المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير وروي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم الثالث(13/157)
قال ابن عباس استثنى الله تعالى قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول يجب أن تكون ( ما ) بمعنى ( من ) قال الزجاج والقول الأول أولى لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هو يوم القيامة
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا منذ يبعثون إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم الرابع قال أبو مسلم هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم فكأنهم قالوا وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كقوله تعالى أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ ( الأنعام 6 ) وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام أن يقولوا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا ما سميت لنا من الأجل إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك بكفره وضلاله
واعلم أن هذا الوجه وإن كان محتملاً إلا أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ هذه الآية ولما أمكن إجراء الآية على ظاهرها فلا حاجة إلى هذا التكلف
ثم قال إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وكأنه تعالى يقول إنما حكمت لهؤلاء الكفار بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو علي الفارسي قوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله خَالِدِينَ فِيهَا حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فقوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ معناه النار أهل أن تقيموا فيها خالدين
وَكَذالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
المسألة الأولى في الآية فوائد
الفائدة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه فقال وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً والدليل على أن الأمر كذلك أن القدرة صالحة للطرفين أعني العداوة والصداقة فلولا حصول الداعية إلى الصداقة لما حصلت الصداقة وتلك الداعية لا تحصل إلا بخلق الله تعالى قطعاً للتسلسل فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو الذي يولي بعض الظالمين بعضاً وبهذا التقرير تصير هذه الآية دليلاً لنا في مسألة الجبر والقدر
الفائدة الثانية أنه تعالى لما بين في أهل الجنة أن لهم دار السلام بين أنه تعالى وليهم بمعنى الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة فكذلك لما بين حال أهل النار ذكر أن مقرهم ومثواهم النار ثم بين أن أولياءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وهذه مناسبة حسنة لطيفة(13/158)
الفائدة الثالثة كاف التشبيه في قوله وَكَذالِكَ نُوَلّى تقتضي شيئا تقدم ذكره والتقدير كأنه قال كما أنزلت بالجن والإنس الذين تقدم ذكرهم العذاب الأليم الدائم الذي لا مخلص منه كَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً
الفائدة الرابعة وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لأن الجنسية علة الضم فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث وكذا القول في الأرواح الطاهرة فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية والله أعلم
المسألة الثانية الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم وأيضاً الآية تدل على أنه لا بد في الخلق من أمير وحاكم لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح كان أولى قال علي رضي الله عنه لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله أو جائر فقال نعم يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت وروي أن أبا ذر سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإمارة فقال له ( إنك ضعيف وإنها أمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) وعن مالك بن دينار جاء في بعض كتب الله تعالى أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم
أما قوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فالمعنى نولي بعض الظالمين بعضاً بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم والمراد منه ما بينا أن الجنسية علة للضم
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة المعشر كل جماعة أمرهم واحد ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة والجمع المعاشر وقوله رُسُلٌ مّنكُمْ اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا فقال الضحاك(13/159)
أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) قال المفسرون السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس
إذا ثبت هذا المعنى فهذا السبب حاصل في الجن فوجب أن يكون رسول الجن من الجن
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنه ما كان من الجن رسول البتة وإنما كان الرسل من الأنس وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية فالكلام عليه من وجوه الأول أنه تعالى قال يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضاً من أبعاض ذلك المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن الثاني لا يبعد أن يقال إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به كما قال تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( الأحفاق 29 ) فأولئك الجن كانوا رسل الرسل فكانوا رسلاً لله تعالى والدليل عليه أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ( ي س 14 ) وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ماهو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة فكان المقصود حاصلاً
الوجه الثالث في الجواب قال الواحدي قوله تعالى رُسُلٌ مّنكُمْ أراد من أحدكم وهو الأنس وهو كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل
أما قوله يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِى فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف فلذلك قالوا شهدنا على أنفسنا
فإن قالوا ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
قلنا يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون وأخرى يجحدون وذلك يدل على شدة(13/160)
خوفهم واضطراب أحوالهم فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه
ثم قال تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر فكأنه تعالى يقول وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا
ثم قال تعالى وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر ومن الناس من حمل قوله وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر ومقصودهم دفع التكرار عن الآية وكيفما كان فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة
ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير الأمر ذلك
وأما قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ففيه وجوه أحدها أنه تعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم وكلمة ( أن ) ههنا هي التي تنصب الأفعال وثانيها يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث والتقدير لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وثالثها أن يجعل قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ بدلاً من قوله ذالِكَ كقوله وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 )
وأما قوله بِظُلْمٍ ففيه وجهان الأول أن يكون المعنى وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه والثاني أن يكون المراد وما كان ربك مهلك القرى ظلماً عليهم وهو كقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( هود 117 ) في سورة هود فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلاً للكفار وعلى الثاني يكون عائداً إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أليق بقولنا لأن القول الثاني يوهم أنه(13/161)
تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر عندنا كذلك لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله وأما المعتزلة فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني قال إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالماً لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا فوصف بكونه ظالماً مجازاً وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
وأما قوله وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة قالوا لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول والمعتزلة قالوا إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع لأنه تعالى قال أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فهذا الظلم إما أن يكون عائداً إلى العبد أو إلى الله تعالى فإن كان الأول فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة وإنما يكون الفعل ظلماً قبل البعثة لو كان قبيحاً وذنباً قبل بعثة الرسل وذلك هو المطلوب وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحاً من الله تعالى وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاماً كلياً فقال وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ وفي الآية قولان
القول الأول أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ عام في المطيع والعاصي والتقدير
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات فتارة يكون في درجة ناقصة وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر
والقول الثاني أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم وقوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل أيضاً على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر وذلك لأنه(13/162)
تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة وعلم تلك الدرجة بعينها وأثبت تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمر الملائكة المقربين فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم ولصار ذلك العلم جهلاً ولصار ذلك الإشهاد كذباً وكل ذلك محال فثبت أن لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون وإذا كان الأمر كذلك فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّة ِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة كاملة ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين الأول إلى بيان كونه تعالى غنياً فنقول إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه لأنه لو كان محتاجاً لكان مستكملاً بذلك الفعل والمستكمل بغيره ناقص بذاته وهو على الله محال وأيضاً فكل إيجاب أو سلب يفرض فإن كان ذاته كافية في تحققه وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته وإن لم تكن كافية فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير والموقوف على الغير ممكن لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ يفيد الحصر معناه أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك لأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت بهذا(13/163)
البرهان القاطع صحة قوله سبحانه وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وأما إثبات أنه ذُو الرَّحْمَة ِ فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات إما بحسب الأحوال الجسمانية وإما بحسب الأحوال الروحانية فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه وبإيجاده وتكوينه ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيراً فالصحيح أكثر منه والجائع وإن كان كثيراً فالشبعان أكثر منه والأعمى وإن كان كثيراً إلا أن البصير أكثر منه فثبت أنه لا بد من الاعتراف بحصول الرحمة والراحة وثبت أن الخير أغلب من الشر والألم والآفة وثبت أن مبدأ تلك الراحات والخيرات بأسرها هو الله تعالى فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو ذُو الرَّحْمَة ِ
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ يفيد الحصر فإن معناه أنه لا رحمة إلا منه والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه والرحمة داخلة فيما سواه فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت أنه لا رحيم إلا هو
فإن قال قائل فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده وكذلك سائر أنواع الرحمة
فالجواب أن كلها عند التحقيق من الله ويدل عليه وجوه الأول لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة لما أقدم على الرحمة فلما كان موجد تلك الداعية هو الله كان الرحيم هو الله ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه ثم ينقلب رؤوفاً رحيماً عطوفاً فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعاً للتسلسل وبالقرآن وهو قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ( الأنعام 110 ) فثبت أنه لا رحمة إلا من الله والثاني هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء وإلا فكيف الانتفاع فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة والثالث أن كل من أعطى غيره شيئاً فهو إنما يعطي لطلب عوض وهو إما الثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفع الرقة الجنسية عن القلب وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلاً فكان تعالى هو الرحيم الكريم فثبت بهذه البراهين اليقينية القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو فإذا ثبت أنه غني عن الكل ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين وإذا ثبت أنه ذو الرحمة ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب ولا الثواب على الطاعات إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان كما قال في آية أخرى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام فمما لا يليق بهذا الموضع
المسألة الثانية أما المعتزلة فقالوا هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلاً منزهاً عن فعل القبيح وعلى كونه رحيماً محسناً بعباده أما المطلوب الأول فقال تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم(13/164)
بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح
أما المقدمة الأولى فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة أولها أن في الحوادث ما يكون قبيحاً نحو الظلم والسفه والكذب والغيبة وهذه المقدمة غير مذكورة في الآية لغاية ظهورها وثانيها كونه تعالى عالماً بالمعلومات وإليه الإشارة بقوله قبل هذه الآية وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وثالثها كونه تعالى غنياً عن الحاجات وإليه الإشارة بقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وإذا ثبت مجموع هذه المقدمات الثلاثة ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنياً عنها فإذا ثبت هذا امتنع كونه فاعلاً لها لأن المقدم على فعل القبيح إنما يقدم عليه إما لجهله بكونه قبيحاً وإما لاحتياجه فإذا كان عالماً بالكل امتنع كونه جاهلاً بقبح القبائح وإذا كان غنياً عن الكل امتنع كونه محتاجاً إلى فعل القبائح وذلك يدل على أنه تعالى منزه عن فعل القبائح متعال عنها فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحداً فلما كلف عبيده الأفعال الشاقة وجب أن يثيبهم عليها ولما رتب العقاب والعذاب على فعل المعاصي وجب أن يكون عادلاً فيها فبهذا الطريق ثبت كونه تعالى عادلاً في الكل
فإن قال قائل هب أن بهذا الطريق انتفى الظلم عنه تعالى فما الفائدة في التكليف
فالجواب أن التكليف إحسان ورحمة على ما هو مقرر في ( كتب الكلام ) فقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ إشارة إلى المقام الأول وقوله ذُو الرَّحْمَة ِ إشارة إلى المقام الثاني فهذا تقرير الدلائل التي استنبطها طوائف العقلاء من هذه الآية على صحة قولهم
واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري يقول نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي فإذا تأملت علمت أن أحداً لم يصف الله إلا بالتعظيم والإجلال والتقديس والتنزيه ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة وهي قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء أما قوله إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضاً ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف وأما قوله وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت وأما قوله مَا يَشَاء فالمراد منه خلق ثالث ورابع واختلفوا فقال بعضهم خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع وقال أبو مسلم بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقاً ثالثاً مخالفاً للجن والإنس قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأن القوم(13/165)
يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي النواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّة ِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها وقرأ القراء كلهم ذُرّيَّة ِ بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال قال الكسائي هما لغتان
ثم قال تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ قال الحسن أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الوعد مخصوص بالأخبار عن الثواب وأما الوعيد فهو مخصوص بالأخبار عن العقاب فقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتياً ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب
قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أنه لما بين بقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار فقال قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالألف على الجمع في كل القرآن والباقون عَلَى مَكَانَتِكُمْ قال الواحدي والوجه الإفراد لأنه مصدر والمصادر في أكثر الأمر مفردة وقد تجمع أيضاً في بعض الأحوال إلا أن الغالب هو الأول
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة فقوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أيضاً أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا(13/166)
تنحرف عنه إِنّى عَامِلٌ أي أنا عامل على مكانتي التي عليها والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فأني ثابت على الإسلام وعلى مضارتكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيناله العاقبة المحمودة وطريقة هذا الأمر طريقة قوله اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد
البحث الثالث من في قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين الأول أنه نصب لوقوع العلم عليه الثاني أن يكون رفعاً على معنى تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار كقوله تعالى لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( الكهف 12 )
البحث الرابع قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار وذلك مشكل
قلنا العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له كما يقال له الكثرة ولهم الظفر وفي ضده يقال عليكم الكثرة والظفر
البحث الخامس قرأ حمزة والكسائي مَّن يَكُونُ بالياء وفي القصص أيضاً والباقون بالتاء في السورتين قال الواحدي العاقبة مصدر كالعافية وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فكقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ ( المؤمنون 41 ) ومن ذكر فكقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) وقال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وفي آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والغرض منه بيان أن قوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ تهديد وتخويف لا أنه أمر وطلب ومعناه أن هؤلاء الكفار لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاٌّ نْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين قبح طريقتهم في إنكارهم البعث والقيامة ذكر عقيبه أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى كلماتهم فمن جملتها أنهم يجعلون لله من حروثهم كالتمر والقمح ومن أنعامهم كالضأن والمعز والإبل والبقر نصيباً فقالوا هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يريد بكذبهم
فإن قيل أليس أن جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا لله(13/167)
قلنا إفرازهم النصيبين نصيباً لله ونصيباً للشيطان هو الكذب قال الزجاج وتقدير الكلام جعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد وهو قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونها عليها
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ وفي تفسيره وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الصبيان والمساكين ولا يأكلون منه البتة ثم إن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا إنه فقير الثاني قال الحسن والسدي كان إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل الثالث قال مجاهد المعنى أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه الرابع قال قتادة إذا أصابهم القحط استعانوا بما لله ووفروا ما جعلوه لشركائهم الخامس قال مقاتل إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة لها وقالوا لو شاء زكى نصيب نفسه وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بد لآلهتنا من نفقة فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة فذلك قوله فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ يعني من نماء الحرث والأنعام فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يعني المساكين وإنما قال إِلَى اللَّهِ لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله وما كان لله فهو يصل إليهم ثم إنه تعالى ذم هذا الفعل فَقَالَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وذكر العلماء في كيفية هذه الإساءة وجوهاً كثيرة الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانب الله تعالى وهو سفه الثاني أنهم جعلوا بعض النصيب لله وجعلوا بعضه لغيره مع أنه تعالى الخالق للجميع وهذا أيضاً سفه الثالث أن ذلك الحكم حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع فكان أيضاً سفهاً الرابع أنه لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز النصيب لكل حجر ومدر الخامس أنه لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها أيضاً على الانتفاع بذلك النصيب فكان إفراز النصيب لها عبثاً فثبت بهذا الوجوه أنه سَاء مَا يَحْكُمُونَ والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب وأن يصير ذلك سبباً لتحقيرهم في أعين العقلاء وأن لا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة
وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(13/168)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة ومذاهبهم الباطلة وقوله وَكَذالِكَ عطف على قوله وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ أي كما فعلوا ذلك فكذلك زين لكثير منهم شركاؤهم قتل الأولاد والمعنى أن جعلهم لله نصيباً وللشركاء نصيباً نهاية في الجهل بمعرفة الخالق المنعم وإقدامهم على قتل أولاد أنفسهم نهاية في الجهالة والضلالة وذلك يفيد التنبيه على أن أحكام هؤلاء وأحوالهم يشاكل بعضها بعضاً في الركاكة والخساسة
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفاً من الفقر أو من التزويج وهو المراد من هذه الآية واختلفوا في المراد بالشركاء فقال مجاهد شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وأضيفت الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها كقوله تعالى أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وقال الكلبي كان لآلهتهم سدنة وخدام وهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله وعلى هذا القول الشركاء هم السدنة سموا شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وحده زُيّنَ بضم الزاء وكسر الياء وبضم اللام من قَتْلَ و أَوْلَادُهُمْ بنصب الدال شُرَكَائِهِمْ بالخفض والباقون زُيّنَ بفتح الزاي والياء قَتْلَ بفتح اللام أَوْلَادُهُمْ بالجر شُرَكَاؤُهُمْ بالرفع أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم إلا أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد وهو مكروه في الشعر كما في قوله فزججتها بمزجة
زج القلوص أبي مزاده
وإذا كان مستكرهاً في الشعر فكيف في القرآن الذي هو معجز في الفصاحة قالوا والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكَائِهِمْ مكتوباً بالياء ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب وأما القراءة المشهورة فليس فيها إلا تقديم المفعول على الفاعل ونظيره قوله لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( الأنعام 158 ) وقوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) والسبب في تقديم المفعول هو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى وموضع التعجب ههنا إقدامهم على قتل أولادهم فلهذا السبب حصل هذا التقدير
ثم قال تعالى لِيُرْدُوهُمْ والإرداء في اللغة الإهلاك وفي القرآن إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ( الصافات 56 ) قال ابن عباس ليردوهم في النار واللام ههنا محمولة على لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ( الأنعام 137 ) أي ليخلطوا لأنهم كانوا على دين إسمعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قال أصحابنا إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى قالت المعتزلة إنه محمول على مشيئة الإلجاء وقد سبق ذكره مراراً فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( الأنعام 112 )(13/169)
وهذا على قانون قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وقوله وَمَا يَفْتَرُونَ يدل على أنهم كانوا يقولون إن الله أمرهم بقتل أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول
وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأولها إن قالوا هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فقوله حِجْرٍ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات وأصل الحجر المنع وسمى العقل حجراً لمنعه عن القبائح وفلان في حجر القاضي أي في منعه وقرأ الحسن وقتادة حِجْرٍ بضم الحاء وعن ابن عباس حَرَجٌ وهو من الضيق وكانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء
والقسم الثاني من أنعامهم الذي قالوا فيه وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد مر تفسيره في سورة المائدة
والقسم الثالث أَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام وقيل لا يحجوم عليها ولا يلبون على ظهورها
ثم قال افْتِرَاء عَلَيْهِ فانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء
ثم قال تعالى سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد
وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة ٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَة ً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(13/170)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذا نوع رابع من أنواع قضاياهم الفاسدة كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهو خالص لذكور لا تأكل منها الأناث وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث سيجزيهم وصفهم والمراد منه الوعيد إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق
المسألة الثانية ذكر ابن الأنباري في تأنيث خَالِصَة ٌ ثلاثة أقوال قولين للفراء وقولاً للكسائي أحدها أن الهاء ليست للتأنيث وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا راوية وعلامة ونسابة والداهية والطاغية كذلك يقول هو خالصة لي وخالص لي هذا قول الكسائي
والقول الثاني أن مَا في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ عبارة عن الأجنة وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خبره الذي هو خَالِصَة ٌ لمعناه وذكر في قوله وَمُحَرَّمٌ على اللفظ والثالث أن يكون مصدراً والتقدير ذو خالصة كقولهم عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخص نعمة
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وَأَنْ تَكُنْ بالتاء و مَيْتَة ً بالنصب وقرأ ابن كثير يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالرفع وقرأ أبو بكر عن عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب والباقون يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالنصب أما قراءة ابن عامر فوجهها أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثاً في اللفظ وأما قراءة ابن كثير فوجهها أن قوله مَيْتَة ً اسم يَكُنِ وخبره مضمر والتقدير وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة وذكر لأن الميتة في معنى الميت قال أبو علي لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي ولا يحتاج الكون إلى خبر لأنه بمعنى حدث ووقع وأما قراءة عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب فالتقدير وإن تكن المذكور ميته فأنث الفعل لهذا السبب وأما قراءة الباقين وَإِن يَكُنْ بالياء مَيْتَة ً بالنصب فتأويلها وإن يكن المذكور ميتة ذكروا الفعل لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ وهو مذكر وانتصب قوله مَيْتَة ً لما كان الفعل مسنداً إلى الضمير
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم وهو الخسران والسفاهة وعدم العلم وتحريم(13/171)
ما رزقهم الله والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم
أما الأول وهو الخسران وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله فقد خسر خسراناً عظيماً لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا والعقاب العظيم في الآخرة أما الذم في الدنيا فلأن الناس يقولون قتل ولده خوفاً من أن يأكل طعامه وليس في الدنيا ذم أشد منه وأما العقاب في الآخرة فلأن قرابة الولادة أعظم موجبات المحبة فمع حصولها إذا أقدم على إلحاق أعظم المضار به كان ذلك أعظم أنواع الذنوب فكان موجباً لأعظم أنواع العقاب
والنوع الثاني السفاهة وهي عبارة عن الخفة المذمومة وذلك لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والفقر وإن كان ضرراً إلا أن القتل أعظم منه ضرراً وأيضاً فهذا القتل ناجز وذلك الفقر موهوم فالتزام أعظم المضار على سبيل القطع حذراً من ضرر قليل موهوم لا شك أنه سفاهة
والنوع الثالث قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فالمقصود أن هذه السفاهة إنما تولدت من عدم العلم ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح
والنوع الرابع تحريم ما أحل الله لهم وهو أيضاً من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات ويستوجب بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العذاب والعقاب
والنوع الخامس الافتراء على الله ومعلوم أن الجراءة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب وأكبر الكبائر
والنوع السادس الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا
والنوع السابع أنهم ما كانوا مهتدين والفائدة فيه أنه قد يضل الإنسان عن الحق إلا أن يعود إلى الاهتداء فبين تعالى أنهم قد ضلوا ولم يحصل لهم الاهتداء قط فثبت أنه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم وذلك نهاية المبالغة
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(13/172)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ
واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة وهو قوله وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ( الأنعام 99 ) فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع وهي الزرع والنخل وجنات من أعناب والزيتون والرمان وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب ثم النخل ثم الزرع ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفي هذه الآية مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ثم ذكر في الآية المتقدمة انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم وذكر في هذه الآية كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فأذن في الانتفاع بها وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم وههنا أذن في الانتفاع بها وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء والأول أولى بالتقديم فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها
المسألة الثانية قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ أي خلق يقال نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه وقوله جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا عطفت العيدان التي يرسل عليها قضبان الكرم والواحد عرش والجمع عروش ويقال عريش وجمعه عرش واعترش العنب العريش اعتراشاً إذا علاه
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ أقوال الأول أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً والثاني المعروشات العنب الذي يجعل لها عروش وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطاً على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ والثالث المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علواً لقوة ساقه عن التعريش والرابع المعروشات ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس واهتموا به فعرشوه وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ مما أنبته الله تعالى وحشياً في البراري والجبال فهو غير معروش وقوله(13/173)
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزَّرْعَ ههنا بجميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ أي لكل شيء منها طعم غير طعم الآخر والأكل كل ما أكل وههنا المراد ثمر النخل والزرع ومضى القول في فِى الاْكُلِ عند قوله فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ( البقرة 265 ) وقوله مُخْتَلِفًا نصب على الحال أي أنشأه في حال اختلاف أكله وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله وأكل ثمره
الجواب أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأها قبل ذلك أيضاً وأيضاً نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان لأن اختلاف أكله مقدر كما تقول مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي مقدراً للصيد به غداً وقرأ ابن كثير ونافع أَكَلَهُ بتخفيف الكاف والباقون أَكَلَهُ في كل القرآن وأما توحيد الضمير في قوله مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ فالسبب فيه أنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعاً كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) والمعنى إليهما وقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 )
وأما قوله مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فقد سبق تفسيره في الآية المتقدمة
ثم قال تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها وهو انتفاع المكلفين بها فقال كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ واختلفوا ما الفائدة منه فقال بعضهم الإباحة وقال آخرون بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف وقال بعضهم بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل وإما التصدق وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير قال تعالى وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 )
البحث الثاني تمسك بعضهم بقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ بأن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله كُلُواْ خطاب عام يتناول الكل فصار هذا جارياً مجرى قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وأيضاً يمكن التمسك به على أن الأصل عدم وجوب الصدقة وأن من ادعى إيجابه كان هو المحتاج إلى الدليل فيتمسك به في أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى وفي أن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام
البحث الثالث قوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ يدل على أن صيغة الأمر قد ترد في غير موضع الوجوب وفي غير موضع الندب وعند هذا قال بعضهم الأصل في الاستعمال الحقيقة فوجب جعل هذه الصيغة مفيدة لرفع الحجر فلهذا قالوا الأمر مقتضاه الإباحة إلا أنا نقول نعلم بالضرورة من لغة العرب أن هذه الصيغة تفيد ترجيح جانب الفعل وأن حملها على الإباحة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل
أما قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ ففيه أبحاث
البحث الأول قرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم حَصَادِهِ بفتح الحاء والباقون بكسر الحاء قال(13/174)
الواحدي قال جميع أهل اللغة يقال حصاد وحصاد وجداد وجداد وقطاف وقطاف وجذاذ وجذاذ وقال سيبويه جاؤا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال وربما قالوا فيه فعال
البحث الثاني في تفسير قوله وَهُوَ الَّذِى ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس في رواية عطاء يريد به العشر فيما سقت السماء ونصف العشر فيما سقي بالدواليب وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك
فإن قالوا كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وأيضاً هذه السورة مكية وإيجاب الزكاة مدني
قلنا لما تعذر إجراء قوله وَهُوَ الَّذِى على ظاهره بالدليل الذي ذكرتم لا جرم حلمناه على تعلق حق الزكاة به في ذلك الوقت والمعنى اعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء
والجواب عن السؤال الثاني لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة بل لا نزاع أن الآية المدنية وردت بإيجابها إلا أن ذلك لا يمنع أنها كانت واجبة بمكة وقيل أيضاً هذه الآية مدنية
والقول الثاني أن هذا حق في المال سوى الزكاة وقال مجاهد إذا حصدت فحضرت المساكين فاطرح لهم منه وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه وإذا كربلته فاطرح لهم منه وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته
والقول الثالث أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ هذا وهذا قول سعيد بن جبير والأصح هو القول الأول والدليل عليه أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية لئلا تبقى هذه الآية مجملة وقد قال عليه الصلاة والسلام ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) فوجب أن يكون المراد بهذا الحق حق الزكاة
البحث الثالث قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهو العنب والنخل والزيتون والرمان يدل عى وجوب الزكاة في الكل وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما كان يقوله أبو حنيفة رحمه الله
فإن قالوا لفظ الحصاد مخصوص بالزرع فنقول لفظ الحصد في أصل اللغة غير مخصوص بالزرع والدليل عليه أن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل وأيضاً الضمير في قوله حصاده يجب عوده إلى أقرب المذكورات وذلك هو الزيتون والرمان فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الرابع قال أبو حنيفة رحمه الله العشر واجب في القليل والكثير وقال الأكثرون إنه لا يجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ يقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فإذا كان ذلك الحق هو الزكاة وجب القول بوجوب الزكاة في القليل والكثير
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ فاعلم أن لأهل اللغة في تفسير الإسراف قولين الأول قال ابن الأعرابي السرف تجاوز ما حد لك الثاني قال شمر سرف المال ما ذهب منه من غير منفعة(13/175)
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه أقوال الأول أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف لأنه جاء في الخبر ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فأنزل الله تعالى قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ أي ولا تعطوا كله والثاني قال سعيد بن المسيب لا تُسْرِفُواْ أي لا تمنعوا الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول مجاوزة في الإعطاء والثاني مجاوزة في المنع الثالث قال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا أيضاً من باب المجاوزة لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له الرابع قال الزهري معناه لا تنفقوا في معصية الله تعالى قال مجاهد لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً وهذا المعنى أراده حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا على القول الثاني في معنى السرف فإن من أنفق في معصية الله فقد أنفق فيما لا نفع فيه
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر لأن كل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار والدليل عليه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم ( المائدة 18 ) فدل هذا على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار
وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَة َ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(13/176)
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية فقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الواو ) في قوله وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا توجب العطف على ما تقدم من قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ والتقدير وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش وأقربها إلى التحصيل وجهان الأول أن الحمولة ما تحمل الأثقال والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش والثاني الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها
ثم قال تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يريد ما أحلها لكم قالت المعتزلة إنه تعالى أمر بأكل الرزق ومنع من أكل الحرام ينتج أن الرزق ليس بحرام
ثم قال وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية خُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين قال الزجاج وفي خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ثلاثة أوجه بضم الطاء وفتحها وبإسكانها ومعناه طرق الشيطان أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان
ثم قال تعالى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ أي بين العداوة أخرج آدم من الجنة وهو القائل لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 )
ثم قال تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وفيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله ثَمَانِيَة ٌ وجهان الأول قال الفراء انتصب ثمانية بالبدل من قوله حَمُولَة ً وَفَرْشًا والثاني أن يكون التقدير كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج
البحث الثاني الواحد إذا كان وحده فهو فرد فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجاً وهما زوجان بدليل قوله خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) وبدليل قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
ثم قال وَمِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم قال الزجاج وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة ويجمع الضأن أيضاً على الضئين بكسر الضاد وفتحها وقوله وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قرىء وَمِنَ الْمَعْزِ بفتح العين والمعز ذوات الشعر من الغنم ويقال للواحد ماعز وللجمع معزى فمن قرأ الْمَعْزِ بفتح العين فهو جمع ماعز مثل خادم وخدم وطالب وطلب وحارس وحرس ومن قرأ بسكون العين فهو أيضاً جمع ماعز كصاحب وصحب وتاجر وتجر وراكب وركب وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ نصب الذكرين بقوله حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله قال المفسرون إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين ذكراً وأنثى(13/177)
ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراماً وإن كان حرم الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراماً وقوله أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ تقديره إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية وهو عندي بعيد جداً لأن لقائل أن يقول هب أن هذه الأنواع الأربعة أعني الضأن والمعز والإبل والبقر محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاماً أو سائر الاعتبارات كما أنا إذا قلنا أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكراً وجب أن يحرم كل حيوان ذكر وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى ولما لم يكن هذا الكلام لازماً علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجهاً صحيحاً فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان أحدهما أن يقال إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعرفون شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم وثانيهما أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول وحاصل الكلام من هذه الآية أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة ولما بين ذلك قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس يريد عمرو بن لحي لأنه هو الذي غير شريعة إسمعيل والأقرب أن يكون هذا محمولاً على كل من فعل ذلك لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة فالتخصيص تحكم محض قال المحققون إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق قال القاضي ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم
وجوابه أنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها وقال أصحابنا المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان والكلام في ترجيح أحذ القولين على الآخر معلوم(13/178)
قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ وَاسِعَة ٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب فقال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة إِلا أَن تَكُونَ بالتار مَيْتَة ً بالنصب على تقدير إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء مَيْتَة ً بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أي إلا أن يكون المأكول ميتة أو إلا أن يكون الموجود ميتة
المسألة الثانية لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي قال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلا مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات ثم ذكر أموراً أربعة أولها الميتة وثانيها الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها الفسق وهو الذي أهل به لغير الله فقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول إني لا أجد فيما أوحي إلي محرماً من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة
واعلم أن هذه السورة مكية فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غفور رحيم ( النحل 115 )(13/179)
وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضاً أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فكلمة إِنَّمَا في الآية المدنية مطابقة لقوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا إلا كذا وكذا في الآية المكية ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر
فإن قال قائل فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات ويلزم عليه أيضاً تحليل الخمر وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها
قلنا هذا لا يلزمنا من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه الآية أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجساً فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله وإذا كان هذا مذكوراً في الآية كان السؤال ساقطاً والثاني أنه تعالى قال في آية أخرى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث والنجاسات خبائث فوجب القول بتحريمها الثالث أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكاً بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات وأما الخمر فالجواب عنه أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله رِجْسٌ وتحت قوله وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تحريمه وبقوله تعالى فَاجْتَنِبُوهُ وبقوله وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطحية
فالجواب عنه من وجوه أولها أنها ميتات فكانت داخلة تحت هذه الآية وثانيها أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية وثالثها أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية
فإن قال قائل المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها
أجابوا عنه من وجوه أحدها أن المعنى لا أجد محرماً مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية وثانيها أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص(13/180)
عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك وثالثها هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد ورابعها أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ولقائل أن يقول هذه الأجوبة ضعيفة
أما الجواب الأول فضعيف لوجوه أحدها لا يجوز أن يكون المراد من قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا لما حسن استثناؤها ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه وثانيها أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل وثالثها أنه تعالى قال في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ وذكر هذه الأشياء الأربعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر
وأما جوابهم الثاني وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً إلا هذه الأربعة
فجوابه من وجوه أولها أن قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ( البقرة 173 ) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وثانيها أنه لما ثبت بمقضتى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الاْربعة كان هذا اعترافاً بحل ما سواها فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخاً ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلاً لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال إنه وإن كان ثابتاً إلا أنه زال ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال
وأما جوابهم الثالث وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد فنقول ليس هذا من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة وقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وكذا وكذا تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعاً لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتاً في أول الشريعة بمكة وفي آخرها بالمدينة ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز(13/181)
وأما جوابهم الرابع فضعيف أيضاً لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ يتناول كل ما كان وحياً سواء كان ذلك الوحي قرآناً أو غيره وأيضاً فقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ يزيل هذا الاحتمال فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله ومن السؤالات الضعيفة أن كثيراً من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما استخبثه العرب فهو حرام ) وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال ( يعافه طبعي ) ثم إن هذا الاستقذار ما صار سبباً لتحريم الضب وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئاً وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم
المسألة الثالثة اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة فأولها الميتة ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) وثانيها الدم المسفوح والسفح الصب يقال سفح الدم سفحاً وسفح هو سفوحاً إذا سال وأنشد أبو عبيدة لكثير أقول ودمعي واكف عند رسمها
عليك سلام الله والدمع يسفح
قالن ابن عباس يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما يخرج من الأوداج عند الذبح وعلى هذا التقدير فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدري يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس به إنما نهى عن الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها قوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وهو منسوق على قوله إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا فسمى ما أهل لغير الله به فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال فلان كرم وجود إذا كان كاملاً فيهما ومنه قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 )
وأما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة وقوله عقيب ذلك فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يدل على حصول الرخصة ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة وهي نوعان الأول أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر وفيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي في الظفر لغات ظفر بضم الفاء وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال
البحث الثاني قال الواحدي اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس أنه الإبل فقط وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه الإبل والنعامة وهو قول مجاهد وقال(13/182)
عبد الله بن مسلم إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ثم قال كَذالِكَ قال المفسرون وقال وسمى الحافر ظفراً على الاستعارة وأقول أماحمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً والثاني أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما
وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين الأول أن قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة والثاني أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا فائدة فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين وعند هذا نقول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فوجب أن لا يكون مقبولاً وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة
النوع الثاني من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة قوله تعالى وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم ثم في الآية قولان الأول إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع أولها قوله إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا قال ابن عباس إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه وقال قتادة إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم وبهذا التقدير لو حلف لا يأكل الشحم وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين
والاستثناء الثاني قوله تعالى أَوِ الْحَوَايَا قال الواحدي وهي المباعر والمصارين واحدتها حاوية وحوية قال ابن الأعرابي هي الحوية أو الحاوية وهي الدوارة التي في بطن الشاة وقال ابن السكيت يقال حاوية وحوايا مثل رواية وروايا
إذا عرفت هذا فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة
والاستثناء الثالث قوله وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قالوا إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين وقال ابن جريج كل شحم في القائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنيين يقول إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم وعلى هذا التقدير فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية
القول الثاني في الآية أن قوله أَوِ الْحَوَايَا غير معطوف على المستثنى بل على المستثنى منه والتقدير حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا(13/183)
ودخلت كلمة ( أو ) كدخولها في قوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا
ثم قال تعالى ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ والمعنى أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ونظيره قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى وِإِنَّا لَصَادِقُونَ أي في الأخبار عن بغيهم وفي الأخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم قال القاضي نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم
فالجواب أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب ويمكن أيضاً أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غير مستبعد
ثم قال تعالى فَإِن كَذَّبُوكَ يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ واسِعَة ٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء الوقت عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني الذين كذبوك فيما تقول والله أعلم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَى ْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات فيقولون لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه(13/184)
فالوجه الأول أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً
والوجه الثاني أنه تعالى قال كَذَّبَ وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب وأما القراءة بالتشديد فلا يمكن حملها على أن القول استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة كَذَّبَ بالتخفيف وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم فإنه كذبه بهذا الطريق لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا عليه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة
الوجه الثالث في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب
المذهب الرابع قوله تعالى قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ وَقَالُواْ لَنَا ولا شك أنه استفهام على سبيل الأنكار وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة وهذا يدل على فساد هذا المذهب لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً
الوجه الخامس قوله تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ مع أنه تعالى قال في سائر الآيات إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا
والوجه السادس قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ والخرص أقبح أنواع الكذب وأيضاً قال تعالى قُتِلَ الْخَرصُونَ
والوجه السابع قوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وتقريره أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى وإذا شاء الله منا ذلك فكيف يمكننا تركه وإذا كنا عاجزين عن تركه فكيف يأمرنا بتركه وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء فقال تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وذلك من وجهين
الوجه الأول أنه تعالى أعطاكم عقولاً كاملة وأفهاماً وافية وآذاناً سامعة وعيوناً باصرة وأقدركم على الخير والشر وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضاً بالضرورة وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة ا بل لله الحجة البالغة عليكم(13/185)
والوجه الثاني أنكم تقولون لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى لكنه قد غلبنا الله وقهرناه وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً وذلك يقدح في كونه إلهاً
فأجاب تعالى عنه بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً كلام باطل فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه الآية
والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات وأجبنا عنها بأجوبه واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة
وإذا ثبت هذا فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ثم ذكر عقيبه كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره كان التكليف عبثاً فكانت دعوى الأنبياء باطلة ونبوتهم ورسالتهم باطلة ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع
فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء فيكون الحاصل أن هذا الاستدلال باطل وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل
فإن قالوا هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى كَذالِكَ كَذَّبَ بالتسديد وأما إذا قرأناه بالتخفيف فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان الأول أنا نمنع صحة هذه القراءة والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم لوقع التناقض ولخرج القرآن عن كونه كلاماً لله تعالى ويندفع هذا التناقض بأن لا تقبل هذه القراءة فوجب المصير إليه الثاني سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية ومما يقوي ما ذكرناه(13/186)
ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول لا قدر فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( ي س 12 ) وقال ابن عباس أول ما خلق الله القلم قال له اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة وقال صلوات الله عليه ( المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة )
المسألة الثانية زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح فلا يجوز أن يقال قمت وزيد وذلك لأن المعطوف عليه أصل والمعطوف فرع والمضمر ضعيف والمظهر قوي وجعل القوي فرعاً للضعيف لا يجوز
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إن جاء الكلام في جانب الأثبات وجب تأكيد الضمير فنقول قمت أنا وزيد وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا فعطف قوله وَلاَ ى َابَاؤُنَا على الضمير في قوله مَا أَشْرَكْنَا إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف قال في جامع الأصفهاني إن حرف العطف يجب أن يكون متأخراً عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا مَا أَشْرَكْنَا نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا حتى تكون كلمة لا مقدمة على حرف العطف أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة لا وحينئذ يعود المحذور المذكور
فالجواب أن كلمة لا لما أدخلت على قوله ءابَاؤُنَا كان ذلك موجباً إضمار فعل هناك لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم وذلك هو الإشراك فكان التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
المسألة الثالثة احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فكلمة ( لو ) في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم وما هداهم أيضاً وتقريره بحسب الدليل العقلي أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان الله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان فلو شاء الأيمان منه فقد شاء الفعل من غير قدرة على الفعل وذلك محال ومشيئة المحال محال وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة
فإن قلنا أنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة ومجموعهما موجب للفعل فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان وإذا امتنع ذلك منه امتنع أن يريده الله منه لأن إرادة المحال محال ممتنع فثبت أن ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضاً فبطل قولهم من كل الوجوه أوما قوله تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل(13/187)
عليه هذا الظاهر فكيف يصار إليه ثم نقول هذا الدليل باطل من وجوه الأول أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار فنحن نقول التقدير لو شاء الهداية لهداكم وأنتم تقولون التقدير لو شاء الهداية على سبيل الإلجار لهداكم فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحاً الثاني أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزاً عن تحصيل مراده لأن مراده هو الإيمان الاختياري وأنه لا يقدر البتة على تحصيله فكان القول بالعجز لازماً الثالث أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء أما الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة وإرادة لازمة فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب فإن وجب فهي الداعية الضرورية وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق وإن لم تجب ترتب الفعل عليها فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفاً عنها وتارة غير متخلف فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية وقد فرضناه كذلك وهذا خلف ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبراً إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل على الكفار جميع أنواع حجهم بين أنه ليس لهم على قولهم شهود البتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هَلُمَّ كلمة دعوة إلى الشيء والمعنى هاتوا شهداءكم وفيه قولان الأول أنه يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى قال تعالى قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وقال وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا واللغة الثانية يقال للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللاثنين هلما وللجمع هلمن والأول أفصح
المسألة الثانية في أصل هذه الكلمة قولان قال الخليل وسيبويه أنها ( ها ) ضمت إليها ( لم ) أي جمع وتكون بمعنى أدن يقال لفلان لمة أي دنو ثم جعلتا كالكلمة الواحدة والفائدة في قولنا ( ها ) استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر إلا أنه لما كثر استعماله حذف عنه الألف على سبيل التخفيف كقولك لم أبل ولم أر ولم تك وقال الفراء أصلها ( هل ) أم أرادوا ( بهل ) حرف الاستفهام(13/188)
وبقولنا ( أم ) أي أقصد والتقدير هل قصد والمقصودمن هذا الاستفهام الأمر بالقصد كأنك تقول أقصد وفيه وجه آخر وهو أن يقال كان الأصل أن قالوا هل لك في الطعام أم أي قصد ثم شاع في الكل كما أن كلمة ( تعالى ) كانت مخصوصة بصورة معينة ثم عمت
المسألة الثالثة أنه تعالى نبه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه ومعنى هَلُمَّ أحضروا شهداءكم
ثم قال فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ تنبيهاً على كونهم كاذبين ثم بين تعالى أنه إن وقعت منهم تلك الشهادة فعن اتباع الهوى فأمر نبيه أن لا يتبع أهواءهم ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخرة وكانوا ممن ينكرون البعث والنشور وزاد في تقبيحهم بأنهم يعدلون بربهم فيجعلون له شركاء والله أعلم
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد ما يقول الكفار أن الله حرم علينا كذا وكذا أردفه تعالى ببيان الأشياء التي حرمها عليهم وهي الاْشياء المذكورة في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( تعال ) من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان لمن هو أسفل منه ثم كثر وعم وما في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ منصوب وفي ناصبه وجهان الأول أنه منصوب بقوله اتْلُ والتقدير أتل الذي حرمه عليكم والثاني أنه منصوب بحرم والتقدير أتل الأشياء التي حرم عليكم
فإن قيل قوله ءانٍ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً كالتفصيل لما أجمله في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهذا باطل لأن ترك الشرك والإحسان بالوالدين واجب لا محرم
والجواب من وجوه الأول أن المراد من التحريم أن يجعل له حريماً(13/189)
معيناً وذلك بأن بينه بياناً مضبوطاً معيناً فقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه أتل عليكم ما بينه بياناً شافياً بحيث يجعل له حريماً معيناً وعلى هذا التقرير فالسؤال زائل والثاني أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ كما يقال عليكم السلام أو أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم ابتدأ فقال أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً بمعنى لئلا تشركوا والتقدير أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئاً الثالث أن تكون ( أن ) في قوله أَن لا تُشْرِكُواْ مفسرة بمعنى أي وتقدير الآية أتل ما حرم ربكم عليكم أي لا تشركوا أي ذلك التحريم هو قوله لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
فإن قيل فقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً معطوف على قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً فوجب أن يكون قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً مفسراً لقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فيلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراماً وهو باطل
قلنا لما أوجب الإحسان إليهما فقد حرم الإساءة إليهما
المسألة الثانية أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمور خمسة أولها قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 )
والطائفة الثانية من المشركين عبدة الكواكب وهم الذين حكى الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
والطائفة الثالثة الذين حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وهم القائلون بيزدان وأهرمن
والطائفة الرابعة الذين جعلوا لله بنين وبنات وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف قال ههنا أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
النوع الثاني من الأشياء التي أوجبها ههنا قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإنما ثنى بهذا التكليف لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر
النوع الثالث قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ والمراد منه النهي عن الوأد إذ كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه تعالى إذا كان متكفلاً برزق الوالد والولد فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله فكذلك القول في حال الولد قال شمر أملق لازم ومتعد يقال أملق الرجل فهو مملق إذا افتقر فهذا لازم وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده والإملاق الفساد(13/190)
والنوع الرابع قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال ابن عباس كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلون ذلك سراً فنهاهم الله عن الزنا علانية وسراً والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضاً ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل وفي قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس وذلك باطل لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعاً من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيماً لأمر الله تعالى وخوفاً من عذابه ورغبة في عبوديته
والنوع الخامس قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ
واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين إحداهما أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم كقوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ والثانية أنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش
إذا عرفت هدا فنقول قوله إِلاَّ بِالْحَقّ أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم يصدر منها والحديث أيضاً موافق له وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) والقرآن دل على سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 )
والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول فقال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ثم أتبعه بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(13/191)
اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر والتأمل والاجتهاد
فالنوع الأولى من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) والمعنى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له ثم إن كان القيم فقيراً محتاجاً أخذ بالمعروف وإن كان غنياً فاحترز عنه كان أولى فقوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ معناه كمعنى قوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 )
وأما قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله وأما معنى الأشد وتفسيره قال الليث الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة قال الفراء الأشد وأحدها شد في القياس ولم أسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة والشديد الرجل القوي وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء
والنوع الثاني قوله تعالى وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم يقال درهم واف وكيل واف وأوفيته حقه ووفيته إذا أتممته وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئاً وقوله وَالْمِيزَانَ أي الوزن بالميزان وقوله بِالْقِسْطِ أي بالعدل لا بخس ولا نقصان
فإن قيل إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصاه وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة
واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن أما التحقيق فغير واجب قال القاضي إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه بل قالوا يخلق الكفر فيه ويريده منه ويحكم به عليه ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر والداعية الموجبة له ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق(13/192)
النوع الثالث من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى واعلم أن هذا أيضاً من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط والأمر والنهي فقط قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة قريبة من الأفهام ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ونقصان عن القدر الواجب ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد
والنوع الرابع من هذه التكاليف قوله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه فيكون ذلك الحلف خفياً ويكون بره وحنثه أيضاً خفياً ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
فإن قيل فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وخاتمة هذه الآية بقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قلنا لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال فلهذا السبب قال لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تَذَكَّرُونَ بالتخفيف والباقون تذكرن بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد(13/193)
بداية الجزء الرابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(14/2)
وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَاذَا بفتح الألف وسكون النون وقرأ حمزة والكسائي وَأَنْ بكسر الألف وتشديد النون أما قراءة ابن عامر فأصلها وَأَنَّهُ هَاذَا صِراطِي والهاء ضمير الشأن والحديث وعلى هذا الشرط تخفف قال الأعشى في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي قد علموا أنه هالك وأما كسر ءانٍ فالتقدير أَتْلُ مَا حَرَّمَ ( الأنعام 151 ) وأتل إِنَّ هَذَا صِراطِي بمعنى أقول وقيل على الاستئناف وأما فتح أن فقال الفراء فتح ءانٍ من وقوع أتل عليها يعني وأتل عليكم إِنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا قال وإن شئت جعلتها خفضاً والتقدير ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن هذا صراطي قال أبو علي من فتح ءانٍ فقياس قول سيبويه أنه حملها على قوله فَاتَّبَعُوهُ والتقدير لأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه كقوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً ( المؤمنون 52 ) وقال سيبويه لأن هذه أمتكم وقال في قوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) والمعنى ولأن المساجد لله
المسألة الثانية القراء أجمعوا على سكون الياء من صِراطِي غير ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن كثير وابن عامر سراطي بالسين وحمزة بين الصاد والزاي والباقون بالصاد صافية وكلها لغات قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الأعمش وَهَاذَا صِراطِي وفي مصحف عبد الله وَهَاذَا صِراطُ رَبُّكُمْ وفي مصحف أبي وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ(14/3)
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به أجمل في آخره إجمالاً يقتضي دخول ما تقدم فيه ودخول سائر الشريعة فيه فقال وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فدخل فيه كل ما بينه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من دين الإسلام وهو المنهج القويم والصراط المستقيم فاتبعوا جملته وتفصيله ولا تعدلوا عنه فتقعوا في الضلالات وعن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه خط خطاً ثم قال هذا سبيل الرشد ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وعن ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار
ثم قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ أي بالكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي والضلالات
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن كل ما كان حقاً فهو واحد ولا يلزم منه أن يقال إن كل ما كان واحداً فهو حق فإذا كان الحق واحداً كان كل ما سواه باطلاً وما سوى الحق أشياء كثيرة فيجب الحكم بأن كل كثير باطل ولكن لا يلزم أن يكون كل باطل كثيراً بعين ما قررناه في القضية الأولى
ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن قوله ثُمَّ ءاتَيْنَا فيه وجوه الأول التقدير ثم إني أخبركم بعد تعديد المحرمات وغيرها من الأحكام إن آتينا موسى الكتاب فذكرت كلمة ( ثم ) لتأخير الخبر عن الخبر لا لتأخير الواقعة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) والثاني أن التكاليف التسعة المذكورة في الآية المتقدمة التكليف لا يجوز اختلافها بحسب اختلاف الشرائع بل هي أحكام واجبة الثبوت من أول زمان التكليف إلى قيام القيامة وأما الشرائع التي كانت التوبة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فتقدير الآية أنه تعالى لما ذكرها قال ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب الثالث أن فيه حذفاً تقديره ثم قل يا محمد إنا آتينا موسى فتقديره اتل ما أوحى إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى
أما قوله تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ففيه وجوه الأول معناه تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن أي على كل من كان محسناً صالحاً ويدل عليه قراءة عبد الله عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ والثاني المراد تماماً للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة بالتبليغ وفي كل ما أمر به والثالث تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه على وجه التتميم وقرأ يحيى بن يعمر عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ أي على الذي هو أحسن بحذف المبتدأ كقراءة من قرأ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً ( البقرة 26 )(14/4)
بالرفع وتقدير الآية على الذي هو أحسن ديناً وأرضاه أو يقال المراد آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب أي على الوجه الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي أتم له الكتاب على أحسنه ثم بين تعالى ما في التوراة من النعم في الدين وهو تفصيل كل شيء والمراد به ما يختص بالدين فدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) دينه وشرعه وسائر الأدلة والأحكام إلا ما نسخ منها ولذلك قال وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ والهدى معروف وهو الدلالة والرحمة هي النعمة لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي لكي يؤمنوا بلقاء ربهم والمراد به لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب
وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُو ءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
اعلم أن قوله وَهَاذَا كِتَابٌ لا شك أن المراد هو القرآن وفائدة وصفه بأنه مبارك أنه ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين أو المراد أنه كثير الخير والنفع
ثم قال فَاتَّبَعُوهُ والمراد ظاهر
ثم قال وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا وفيه ثلاثة أقوال قيل اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة وقيل اتقوا لترحموا أي ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل اتقوا لترحموا جزاء على التقوى
ثم قال تعالى أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وفيه وجوه
الوجه الأول قال الكسائي والفراء والتقدير أنزلناه لئلا تقولوا ثم حذف الجار وحرف النفي كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وقوله رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) أي لئلا
والوجه الثاني وهو قول البصريين معناه أنزلناه كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار ( لا ) فإنه لا يجوز أن يقال جئت أن أكرمك بمعنى أن لا أكرمك وقد ذكرنا تحقيق هذه المسألة في آخر سورة النساء(14/5)
والوجه الثالث قال الفراء يجوز أن يكون ( إن ) متعلقة باتقوا والتأويل واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب
البحث الثاني قوله أَن تَقُولُواْ خطاب لأهل مكة والمعنى كراهة أن يقول أهل مكة أنزل الكتاب وهو التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا وهم اليهود والنصارى وإن كنا ( إن ) هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وأنه كنا عن دراستهم لغافلين والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم وقوله وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أي لا نعلم ما هي لأن كتابهم ما كان بلغتنا ومعنى أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم مفسر للأول في أن معناه لئلا يقولوا ويحتجوا بذلك ثم بين تعالى قطع احتجاجهم بهذا وقال فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وهو القرآن وما جاء به الرسول وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ
فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير
قلنا القرآن بينة فيما يعلم سمعاً وهو هدى فيما يعلم سمعاً وعقلاً فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف وقد بينا أن معنى رَحْمَة ً أي أنه نعمة في الدين
ثم قال تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ والمراد تعظيم كفر من كذب بآيات الله وصدف عنها أي منع عنها لأن الأول ضلال والثاني منع عن الحق وإضلال
ثم قال تعالى سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوء الْعَذَابِ وهو كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِى َ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ
قرأ حمزة والكسائي يَأْتِيهِمُ بالياء وفي النحل مثله والباقون تَأْتِيَهُمُ بالتاء
واعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر وإزاحة للعلة وبين أنهم لا يؤمنون ألبتة وشرح أحوالاً توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( الأنعام 158 ) ومعنى ينظرون ينتظرون وهل استفهام معناه النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة(14/6)
وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرب أو مجيء الآيات القاهرة من الرب
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا حكاية عنهم وهم كانوا كفاراً واعتقاد الكافر ليس بحجة والثاني أن هذا مجاز ونظيره قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ( النحل 26 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والثالث قيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال وأقربها قول الخليل صوات الله عليه في الرد على عبدة الكواكب لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته لأن على هذا التقدير يصير هذا عين قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ فوجب حمله على أن المراد منه إتيان الرب
قلنا الجواب المعتمد أن هذا حكاية مذهب الكفار فلا يكون حجة وقيل يأتي ربك بالعذاب أو يأتي بعض آيات ربك وهو المعجزات القاهرة
ثم قال تعالى يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة عن البراء بن عازب قال كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تتذاكرون قلنا نتذاكر الساعة قال ( إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن ) وقوله لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ صفة لقوله نَفْساً وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك
ثم قال تعالى قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ وعيد وتهديد
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
قرأ حمزة والكسائي فارقوا بالألف والباقون الَّذِينَ فَرَّقُواْ ومعنى القراءتين عند التحقيق واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وأنكر بعضاً فقد فارقه في الحقيقة وفي الآية أقوال
القول الأول المراد سائر الملل قال ابن عباس يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون(14/7)
أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعاً أي فرقاً وأحزاباً في الضلالة وقال مجاهد وقتادة هم اليهود والنصارى وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وكذلك اليهود وهم أهل كتاب واحد واليهود تكفر النصارى
والقول الثاني أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضاً كما قال تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ( البلقرة 85 ) وقال أيضاً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
والقول الثالث قال مجاهد إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْء فيه قولان الأول أنت منهم بريء وهم منك برآء وتأويله إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الإباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم والثاني لست من قتالهم في شيء قال السدي يقولون لم يؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ وهذا بعيد لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ
ثم قال إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي فيما يتصل بالأمهال والأنظار والاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ والمراد الوعيد
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم الحسنة قول لا إله إلا الله والسيئة هي الشرك وهذا بعيد بل يجب أن يكون محمولاً على العموم إما تمسكاً باللفظ وإما لأجل أنه حكم مرتب على صف مناسب له فيقتضي كون الحكم معللاً بذلك الوصف فوجب أن يعم لعموم العلة
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله حذفت الهاء من عشر والأمثال جمع مثل والمثل مذكر لأنه أريد عشر حسنات أمثالها ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها وحذف الموصوف كثير في الكلام ويقوي هذا قراءة من قرأ عشر أمثالها بالرفع والتنوين
المسألة الثالثة مذهبنا أن الثواب تفضل من الله تعالى في الحقيقة وعلى هذا التقدير فلا إشكال في الآية أما المعتزلة فهم فرقوا بين الثواب والتفضل بأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة ثم إنهم على تقريع مذاهبهم اختلفوا فقال بعضهم هذه العشرة تفضل والثواب غيرها وهو قول الجبائي قال لأنه لو كان الواحد ثواباً وكانت التسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل وذلك لا(14/8)
يجوز لأنه لو جاز أن يكون التفضل مساوياً للثواب في الكثرة والشرف لم يبق في التكليف فائدة أصلاً فيصير عبثاً وقبيحاً ولما بطل ذلك علمنا أن الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر وفي التعظيم من التفضل وقال آخرون لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثواباً وتكون التسعة الباقية تفضلاً إلا أن ذلك الواحد يكون أوفر وأعظم وأعلى شأناً من التسعة الباقية
المسألة الرابعة قال بعضهم التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد بل أراد الإضعاف مطلقاً كقول القائل لئن أسديت إلي معروفاً لإكافئنك بعشر أمثاله وفي الوعيد يقال لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً ولا يريد التحديد فكذا ههنا والدليل على أنه لا يمكن حمله على التحديد قوله تعالى مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ( البقرة 261 )
ثم قال تعالى وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا أي الأجزاء يساويها ويوازيها روى أبو ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو عفو فالويل لمن غلب آحاده أعشاره ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها وإن عملها فسيئة واحدة ) وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعتهم ولا يزاد على عقاب سيئاتهم في الآية سؤالان
السؤال الأول كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ
جوابه أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة
السؤال الثاني إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتارة جعل بدلاً عن صيام أيام قلائل وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة
جوابه إن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه
السؤال الثالث إذا أحدث في رأس إنسان موضحتين وجب فيه إرشان فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب فالمساواة غير معتبرة
وجوابه إن ذلك من تعبدات الشرع وتحكماته
السؤال الرابع أنه يجب في مقابلة تفويت أكثر كل واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء وجبت دية واحدة وذلك يمتنع القول من رعاية المماثلة
جوابه أنه من باب تحكمات الشريعة والله أعلم(14/9)
قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما علم رسوله أنواع دلائل التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والنافين للقضاء والقدر ورد على أهل الجاهلية في أباطيلهم أمره أن يختم الكلام بقوله إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وذلك يدل على أن الهداية لا تحصل إلا بالله وانتصب ديناً لوجهين أحدهما على البدل من محل صراط لأن معناه هداني ربي صراطاً مستقيماً كما قال وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( الفتح 2 ) والثاني أن يكون التقدير الزموا ديناً وقوله فيما قال صاحب ( الكشاف ) القيم فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم وقرأ أهل الكوفة قيماً مكسورة القاف خفيفة الياء قال الزجاج هو مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر والحول والشبع والتأويل ديناً ذا قيم ووصف الدين بهذا الوصف على سبيل المبالغة وقوله مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فقوله مِلَّة َ بدل من قوله دِينًا قِيَمًا وحينفاً منصوب على الحال من إبراهيم والمعنى هداني ربي وعرفني ملة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفية ثم قال في صفة إبراهيم وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه فقوله قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أنه يؤديه مع الأخلاص وأكده بقوله لاَ شَرِيكَ لَهُ وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالأخلاص
أما قوله وَنُسُكِى فقيل المراد بالنسك الذبيحة بعينها يقول من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ ( الكوثر 2 ) وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث وعلى هذا التأويل فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح وقوله وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى أي حياتي وموتي لله(14/10)
واعلم أنه تعالى قال إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فأثبت كون الكل لله والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى فإن ذلك محال بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسراً بكونهما واقعين بخلق الله وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى وقرأ نافع محياي ساكنة الياء ونصبها في مماتي وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل لأن فيه جمعاً بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم ومنهم من قال إنه لغة لبعضهم وحاصل الكلام أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على أنه لا شريك له في الخلق والتقدير ثم يقول وبذلك أمرت أي وبهذا التوحيد أمرت
ثم يقول أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أي المستسلمين لقضاء الله وقدره ومعلوم أنه ليس أولاً لكل مسلم فيجب أن يكون المراد كونه أولاً لمسلمي زمانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالتوحيد المحض وهو أن يقول إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى إلى قوله لاَ شَرِيكَ لَهُ أمره بأن يذكر ما يجري مجرى الدليل على صحة هذا التوحيد وتقريره من وجهين الأول أن أصناف المشركين أربعة لأن عبدة الأصنام أشركوا بالله وعبدة الكواكب أشركوا بالله والقائلون بيزدان وأهرمن وهم الذين قال الله في حقهم وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ أشركوا بالله والقائلون بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته أشركوا أيضاً بالله فهؤلاء هم فرق المشركين وكلهم معترفون أن الله خالق الكل وذلك لأن عبدة الأصنام معترفون بأن الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما في العالم من الموجودات وهو الخالق للأصنام والأوثان بأسرها وأما عبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها وموجدها وأما القائلون بيزدان وهرمن فهم أيضاً معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله سبحانه وأما القائلون بالمسيح والملائكة فهم معترفون بأن الله خالق الكل فثبت بما ذكرنا أن طوائف المشركين أطبقوا واتفقوا على أن الله خالق هؤلاء الشركاء
إذا عرفت هذا فالله سبحانه قال له يا محمد قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا رباً غير الله تعالى أقروا بأن الله خالق تلك الأشياء وهل يدخل في العقل جعل المربوب شريكاً للرب وجعل العبد شريكاً للمولى وجعل المخلوق شريكاً للخالق ولما كان الأمر كذلك ثبت بهذا الدليل أن اتخاذ رب غير الله تعالى قول فاسد ودين باطل(14/11)
الوجه الثاني في تقرير هذا الكلام أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وثبت أن الواجب لذاته واحد فثبت أن ما سواه ممكن لذاته وثبت أن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى رباً لكل شيء
وإذا ثبت هذا فنقول صريح العقل يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكاً للرب وجعل المخلوق شريكاً للخالق فهذا هو المراد من قوله قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 164 ) ثم إنه تعالى لما بين بهذا الدليل القاهر القاطع هذا التوحيد بين أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى ثم بين تعالى أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم فيه ولا آمر إلا الله تعالى فهو قوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( الأنعام 164 )
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن في قوله جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وجوهاً أحدها جعلهم خلائف الأرض لأن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم وثانيها جعلهم يخلف بعضهم بعضاً وثالثها أنهم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها
ثم قال وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ في الشرف والعقل والمال والجاه والرزق وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى متعال عن هذه الصفات وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو المراد من قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( المائدة 48 ) وقد ذكرنا أن حقيقة الابتلاء والامتحان على الله محال إلا أن المراد هو التكليف وهو عمل لو صدر من الواحد منا لكان ذلك شبيهاً بالابتلاء والامتحان فسمى لهذا الاسم لأجل هذه المشابهة ثم إن هذا المكلف إما أن يكون مقصراً فيما كلف به وإما أن يكون موفراً فيه فإن كان الأول كان نصيبه من التخويف والترهيب وهو قوله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ( الأنعام 165 ) ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب وإن كان الثاني وهو أن يكون موفراً في تلك الطاعات كان نصيبه من التشريف والترغيب هو قوله وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أي يغفر الذنوب ويستر العيوب في الدنيا بستر فضله وكرمه ورحمته وفي الآخرة بأن يفيض عليه أنواع نعمه وهذا الكلام بلغ في شرح الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه وهذا آخر الكلام في تفسير سورة الأنعام والحمد لله الملك العلام(14/12)
سورة الأعراف
مكية إلا من آية 163 إلى غاية آية 170 فمدنية
وآياتها 206 نزلت بعد ص
ال م ص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
في الأية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المص أنا الله أفصل وعنه أيضاً أنا الله أعلم وأفصل قال الواحدي وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل والجمل إذا كانت ابتداء وخبراً فقط لا موضع لها من الإعراب فقوله أنا الله أعلم لا موضع لها من الأعراب فقوله ( أنا ) مبتدأ وخبره قوله ( الله ) وقوله ( أعلم ) خبر بعد خبر وإذا كان المعنى المص أنا الله أعلم كان أعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها وقال السدي المص على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور قال القاضي ليس هذا اللفظ على قولنا أنا الله أفصل أولى من حمله على قوله أنا الله أصلح أنا الله أمتحن أنا الله الملك لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو موجود في قولنا أنا الله أصلح وإن كانت العبرة بحرف الميم فكما أنه موجود في العلم فهو أيضاً موجود في الملك والامتحان فكان حمل قولنا المص على ذلك المعنى بعينه محض التحكم وأيضاً فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق وأما قول بعضهم إنه من أسماء الله تعالى فأبعد لأنه ليس جعله إسماً لله تعالى أولى من جعله اسماً لبعض رسله من الملائكة أو الأنبياء لأن الاسم إنما يصير اسماً للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح وذلك مفقود ههنا بل الحق أن قوله المص اسم لقب لهذه السورة وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في(14/13)
المسميات بل هي قائمة مقام الإشارات ولله تعالى أن يسمي هذه السورة بقوله المص كما أن الواحد منا إذا حدث له ولد فإنه يسميه بمحمد
إذا عرفت هذا فنقول قوله المص مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر أي السورة المسما بقولنا المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ
فإن قيل الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هوأن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته وما لم نعرف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله لزم الدور
قلنا نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار وانقضى من عمره أربعون سنة ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى فثبت بهذا الدليل العقلي أن المص كتاب أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من عند ربه وإلهه
المسألة الثانية احتج القائلون بخلق القرآن بقوله كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلاً والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وذلك لا يليق بالقديم فدل على أنه محدث
وجوابه أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة والله أعلم
فإن قيل فهب أن المراد منه الحروف إلا أن الحروف أعراض غير باقية بدليل أنها متوالية وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول
والجواب أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ ثم إن الملك يطالع تلك النقوش وينزل من السماء إلى الأرض ويعلم محمداً تلك الحروف والكلمات فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها
المسألة الثالثة الذين أثبتوا لله مكاناً تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية وكلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية فقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد وذلك يدل على أنه تعالى مختص بجهة فوق لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل
وجوابه لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل
ثم قال تعالى فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ وفي تفسير الحرج قولان الأول الحرج الضيق والمعنى لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ والثاني فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ أي شك(14/14)
منه كقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( يونس 94 ) وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب
ثم قال تعالى لِتُنذِرَ بِهِ هذه ( اللام ) بماذا تتعلق فيه أقوال الأول قال الفراء إنه متعلق بقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ على التقديم والتأخير والتقدير كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه
فإن قيل فما فائدة هذا التقديم والتأخير
قلنا لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ الثاني قال ابن الأنباري اللام ههنا بمعنى كي والتقدير فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك الثالث قال صاحب ( النظم ) اللام ههنا بمعنى أن والتقدير لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به والعرب تضع هذه اللام في موضع ( أن ) قال تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وفي موضع أخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( الصف 8 ) وهما بمعنى واحد والرابع تقدير الكلام أن هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله حافظاً له وناصراً لم يخف أحداً وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال
ثم قال وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد مواعظ للمصدقين قال الزجاج وهو اسم في موضع المصدر قال الليث الذّكْرَى اسم للتذكرة وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لتنذر به ولتذكر ويجوز أن يكون رفعاً بالرد على قوله كِتَابٌ والتقدير كتاب حق وذكرى ويجوز أيضاً أن يكون التقدير وهو ذكرى ويجوز أن يكون خفضاً لأن معنى لتنذر به لأن تنذر به فهو في موضع خفض لأن المعنى للإنذار والذكرى
فإن قيل لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين
قلنا هو نظير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول إنذار وتخويف فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم وإلى منبه ينبههم وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها نوع ذهول وغفلة فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في حق طائفة أخرى والله أعلم(14/15)
اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى والمرسل وهو الرسول والمرسل إليه وهو الأمة فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليه وهم الأمة بمتابعة الرسول فقال اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الحسن يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله
واعلم أن قوله اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ يتناول القرآن والسنة
فإن قيل لماذا قال أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ وإنما أنزل على الرسول
قلنا إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل
إذا عرفت هذا فنقول هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض
فإن قالوا لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله فَاعْتَبِرُواْ ( الحشر 2 ) كان العمل بالقياس عملاً بما أنزل الله
قلنا هب أنه كذلك إلا أنا نقول الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قالوا معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ولقائل أن يقول الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره
أما الأول فهو الذي أمر الله باتباعه
وأما الثاني فهو الذي نهى الله عن اتباعه فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز إتباعه
إذا ثبت هذا فنقول إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس فقالوا الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله الله تعالى فوجب أن لا يجوز
فإن قالوا لما دل قوله فاعتبروا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملاً بما أنزله الله تعالى(14/16)
أجيب عنه بأن العمل بالقياس لو كان عملاً بما أنزله الله تعالى لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملاً بما أنزله الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
وأجاب عنه مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون
وأجاب الأولون بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 115 ) وعموم قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وعموم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ) وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة فرع عن التمسك بالعمومات والفرع لا يكون أقوى من الأصل
فأجاب مثبتو القياس بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في أثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح والله أعلم
المسألة الثالثة الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فلو جعلنا القرآن طاعناً في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر قَلِيلاً مَّا يَتَذَكَّرُونَ ( النمل 62 ) بالياء تارة والتاء أخرى وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال والباقون بالتاء وتشديد الذال قال الواحدي رحمه الله تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر فالمعنى قليلاً تذكركم وأما قراءة ابن عامر يَتَذَكَّرُونَ بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب وأما قراءة حمزة والكسائي وحفص خفيفة الذال شديدة الكاف فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة والله أعلم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا من الابتغاء من قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا ( آل عمران 85 )
وَكَم مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14/17)
اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها قال وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيداً ضربته والنصب جيد عربي أيضاً كقوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
المسألة الثانية قيل في الآية محذوف والتقدير وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه أحدها قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا والبأس لا يليق إلا بالأهل وثانيها قوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فعاد الضمير إلى أهل القرية وثالثها أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم ورابعها أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم
فإن قيل فلماذا قال أهلكناها أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ ( الطلاق 8 ) فرده على اللفظ ثم قال أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( الأحزاب 25 ) فرده على المعنى دون اللفظ ولهذا السبب قال الزجاج ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صواباً وقال بعضهم لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها ولأن على هذا التقدير يكون قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا محمولاً على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا يقتضي أن يكون الإهلاك متقدماً على مجيء البأس وليس الأمر كذلك فإنّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه الأول المراد بقوله أَهْلَكْنَاهَا أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا وثانيها كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( المائدة 6 ) وثالثها أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال وارداً فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس فإن قالوا السؤال باق لأن الفاء في قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا فاء التعقيب وهو يوجب المغايرة فنقول الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ) فالفاء في قوله فيغسل للتفسير لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير لذلك الإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم فكان ذكر البأس تفسيراً لذلك الإهلاك الرابع قال الفراء لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً فكذا ههنا وقوله بَيَاتًا قال الفراء يقال بات الرجل يبيت بيتاً وربما قالوا بياتاً قالوا وسمي البيت لأنه يبات فيه قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَيَاتًا مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه بحثان
البحث الأول أنه حال معطوفة على قوله بَيَاتًا كأنه قيل فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين قال الفراء وفيه واو مضمرة والمعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ولو قيل كان صواباً وقال الزجاج أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف(14/18)
فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز ولو قلت جاءني زيد راجلاً وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف
البحث الثاني كلمة ( أو ) دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهاراً وفي القيلولة قولان قال الليث القيلولة نومة نصف النهار وقال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل عليه إن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له أما ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون والمقصود أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم إمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق إمارة فلا تغتروا بأحوالكم
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ قال أهل اللغة الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء ومقام الدعاء حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين قال ابن عباس فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا أنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك قال ابن الأنباري فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإسارة وقوله إِلاَّ أَن قَالُواْ الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعاً بكان ويكون قوله دَعْوَاهُمْ نصباً كقوله فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( النمل 56 ) وقوله فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ ( الحشر 17 ) وقوله مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن ( الجاثية 25 ) قال ويجوز أن يكون أيضاً على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعاً وإن قالوا نصباً كقوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) على قراءة من رفع البر والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيداً أخوك قال الزجاج إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله دَعْوَاهُمْ في موضع رفع أن يقول فَمَا كَانَتْ دَعْوَاهُمْ فلما قال كان دل على أن الدعوى في موضع نصب ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانت رفعاً فتقول كان دعواه باطلاً وباطلة والله أعلم
فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ وأمر الأمة بالقبول والمتابعة وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا أتبعه بنوع آخر من التهديد وهو أنه تعالى(14/19)
يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة
الوجه الثاني أنه تعالى لما قال فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( الأعراف 5 ) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم وبين أن هذا السؤل لا يختص بأهل العقاب بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب
المسألة الثانية الذين أرسل إليهم هم الأمة والمرسلون هم الرسل فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين ونظير هذه الآية قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 )
ولقائل أن يقول المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ فإذا كان يقصه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال
والجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير والمقصود منه التقريع والتوبيخ
فإن قيل فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة
قلنا لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة التحق التقصير بكليته بالأمة فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم
ثم قال تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائباً عن أحوالهم بل كان عالماً بها وما خرج عن علمه شيء منها وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالماً بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالماً بالجزئيات امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمراً ناهياً مثيباً معاقباً ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالماً بجميع المعلومات
المسألة الثالثة قوله تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم وأن قول من يقول إنه لا علم لله قول باطل
فإن قيل كيف الجمع بين قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) وقوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( القصص 78 )
قلنا فيه وجوه أحدها أن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتم عنها وثانيها أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) قال الشاعر(14/20)
ألستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لا يسأل أحداً لأجل الاستفادة والاسترشاد ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم ونظيره قوله تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات 27 ) ثم قال فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضاً والدليل عليه قول فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ( القلم 30 ) وقوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( القلم 30 ) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضاً على سبيل الشفقة واللطف لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام
والوجه الثالث في الجواب أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال وعن بعضها بعدم السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلاً أو مرسلاً إليهم ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار
المسألة الخامسة الآية تدل على كونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة لأنه تعالى قال وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ولو كان تعالى على العرش لكان غائباً عنا
فإن قالوا نحمله على أنه تعالى ما كان غائباً عنهم بالعلم والإحاطة
قلنا هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة
فإن قالوا فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات فقد قلتم أيضاً بكونه غائباً
قلنا هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة وذلك مشروط بكونه مختصاً بمكان وجهة فأما الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة وكان ذلك محالاً في حقه امتنع وصفه بالغيبة والحضور فظهر الفرق والله أعلم
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضاً وزن الأعمال وفي الآية مسائل(14/21)
المسألة الأولى الْوَزْنَ مبتدأ و يَوْمَئِذٍ ظرف له و الْحَقّ خبر المبتدأ ويجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ الخبر و الْحَقّ صفة للوزن أي والوزن الحق أي العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل
المسألة الثانية في تفسير وزن الأعمال قولان الأول في الخبر أنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها ثم قال ابن عباس أما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون قال وهذا كما قال في سورة الأنبياء وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ( الأنبياء 47 ) وأما كيفية وزن الأعمال على هذا القول ففيه وجوه أحدهما أن أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة وأعمال الكافر بصورة قبيحة فتوزن تلك الصورة كما ذكره ابن عباس والثاني أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما يوزن يوم القيامة فقال ( الصحف ) وهذا القول مذهب عامة المفسرين في هذه الآية وعن عبد لله بن سلام أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يوضع في الأخرى فترجح ) وعن الحسن بينما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم واضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها قد أغفى فسالت الدموع من عينها فقال ( ما أصابك ما أبكاك ) فقالت ذكرت حشر الناس وهل يذكر أحد أحداً فقال لها ( يحشرون حفاة عراة غرلاً ) لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) لا يذكر أحد أحداً عند الصحف وعند وزن الحسنات والسيئات وعن عبيد بن عمير يأتى بالرجل العظيم الأكول الشروب فلا يكون له وزن بعوضة
والقول الثاني وهو قول مجاهد والضحاك والأعمش أن المراد من الميزان العدل والقضاء وكثير من المتأخرين ذهبوا إلى هذا القول وقالوا حمل لفظ الوزن على هذا المعنى سائغ في اللغة والدليل عليه فوجب المصير إليه وأما بيان أن حمل لفظ الوزن على هذا المعنى جائز في اللغة فلأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالكيل والوزن في الدنيا فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل ومما يقوي ذلك أن الرجل إذا لم يكن له قدرة ولا قيمة عند غيره يقال إن فلاناً لا يقيم لفلان وزناً قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) ويقال أيضاً فلان استخف بفلان ويقال هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه أي يعادله ويساويه مع أنه ليس هناك وزن في الحقيقة قال الشاعر قد كنت قبل لقائكم ذا قوة
عندي لكل مخاصم ميزانه
أراد عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه فجعل الوزن مثلاً للعدل
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى فقط والدليل عليه أن الميزان إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان لأن أعمال العباد أعراض وهي قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وأيضاً فبتقدير بقائها كان وزنها محالاً وأما(14/22)
قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقراً بذلك فإن كان مقراً بذلك فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب وإن لم يكن مقراً بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه ألبتة أجاب الأولون وقالوا إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات وآخرون قالوا بل بظهور رجحان في الكفة
المسألة الثالثة الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) وقال في هذه الآية فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر قال الزجاج إنما جمع الله الموازين ههنا فقال فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ولم يقل ميزانه لوجهين الأول أن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد فيقولون خرج فلان إلى مكة على البغال والثاني أن المراد من الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ولقائل أن يقول هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل
وأما قوله تعالى وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه الآية فيها مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية فإنه غير موجود
المسألة الثانية قال أكثر المفسرين المراد من قوله وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الكافر والدليل عليه القرآن والخبر والأثر أما القرآن فقوله تعالى فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ولا معنى لكون الإنسان ظالماً بآيات الله إلا كونه كافراً بها منكراً لها فدل هذا على أن المراد من هذه الآية أهل الكفر وأما الخبر فما روي أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حجرته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت فيقول ( أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها ) وهذا الخبر رواه الواحدي في ( البسيط ) وأما جمهور العلماء فرووا ههنا(14/23)
الخبر الذي ذكرناه من أنه تعالى يلقى في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال القاضي يجب أن يحمل هذا على أنه أتى بالشهادتين بحقهما من العبادات لأنه لو لم يعتبر ذلك لكان من أتى بالشهادتين يعلم أن المعاصي لا تضره وذلك إغراء بمعصية الله تعالى
ولقائل أن يقول العقل يدل على صحة ما دل عليه هذا الخبر وذلك أن العمل كلما كان أشرف وأعلى درجة وجب أن يكون أكثر ثواباً ومعلوم أن معرفة الله تعالى ومحبته أعلى شأناً وأعظم درجة من سائر الأعمال فوجب أن يكون أوفى ثواباً وأعلى درجة من سائر الأعمال وأما الأثر فلأن ابن عباس وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر
وإذا ثبت هذا الأصل فنقول إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنه تعالى حصر أهل موقف القيامة في قسمين أحدهما الذين رجحت كفة حسناتهم وحكم عليهم بالفلاح والثاني الذين رجحت كفة سيئاتهم وحكم عليهم بأنهم أهل الكفر الذين كانوا يظلمون بآيات الله وذلك يدل على أن المؤمن لا يعاقب ألبتة ونحن نقول في الجواب أقصى ما في الباب أنه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلا أنه تعالى ذكره في سائر الآيات فقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) والمنطوق راجح على المفهوم فوجب المصير إلى إثباته وأيضاً فقال تعالى في هذا القسم فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ونحن نسلم أن هذا لا يليق إلا بالكافر وأما العاصي المؤمن فإنه يعذب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو في الحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال وانقطاع والله أعلم
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم ثم خوفهم بعذاب الدنيا وهو قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الأعراف 4 ) ثم خوفهم بعذاب الآخرة من وجهين أحدهما السؤال وهو قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ( الأعراف 6 ) والثاني بوزن الأعمال وهو قوله وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ( الأعراف 8 ) رغبهم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام في هذه الآية بطريق آخر وهو أنه كثرت نعم الله عليهم وكثرة النعم توجب الطاعة فقال وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فقوله مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش والمراد من المعايش وجوه المنافع وهي على قسمين منها ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثماء وغيرها ومنها ما يحصل بالاكتساب وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه فيكون الكل إنعاماً من الله تعالى وكثرة الانعام لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد ثم بين تعالى أنه مع هذا(14/24)
الإفضال والانعام عالم بأنهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وهذا يدل على أنهم قد يشكرون والأمر كذلك وذلك لأن الإقرار بوجود الصانع كالأمر الضروري اللازم لجبلة عقل كل عاقل ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه إنما التفاوت في أن بعضهم قد يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر
المسألة الثانية روى خارجة عن نافع أنه همز معائش قال الزجاج جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز معائش خطأ وذكروا أنه إنما يجوز جعل الياء همزة إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف فأما فِيهَا مَعَايِشَ فمن العيش والياء أصلية وقراءة نافع لا أعرف لها وجهاً إلا أن لفظة هذه الياء التي هي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصارت هذه الكلمة مشابهة لقولنا صحيفة فجعل قوله معائش شبيهاً لقولنا صحائف فكما أدخلوا الهمزة في قولنا صحائف فكذا في قولنا معائش على سبيل التشبيه إلا أن الفرق ما ذكرناه أن الياء في معيشة أصلية وفي صحيفة زائدة
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب الأمم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام بالتخويف أولاً ثم بالترغيب ثانياً على ما بيناه والترغيب إنما كان لأجل التنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق فبدأ في شرح تلك النعم بقوله يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ثم أتبعه بذكر أنه خلق أبانا آدم وجعله مسجوداً للملائكة والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات ونظيره أنه تعالى قال في أول سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) فمنع تعالى من المعصية بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وعلل ذلك المنع بكثرة نعمه على الخلق وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ثم أتبع تلك المنفعة بأن جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة والمقصود من الكل تقرير أن مع هذه النعم العظيمة لا يليق بهم التمرد والجحود فكذا في هذه السورة ذكر تعالى عين هذا المعنى بغير هذا الترتيب فهذا بيان وجه النظم على أحسن الوجوه
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن في سبعة مواضع أولها في سورة البقرة وثانيها في هذه السورة وثالثها في سورة الحجر ورابعها في سورة بني إسرائيل وخامسها في سورة الكهف وسادسها في سورة طه وسابعها في سورة ص(14/25)
إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية سؤال وهو أن قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن
ثم قال بعده ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ وكلمة ثُمَّ تفيد التراخي فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال الأول أن قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي خلقنا أباكم آدم وصورناكم أي صورنا آدم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) وهو قول الحسن ويوسف النخوي وهو المختار وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره فنقول إن آدم عليه السلام أصل البشر فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيرة قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ( البقرة 63 ) أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام ويقال قتلت بنو أسد فلاناً وإنما قتله أحدهم قال عليه السلام ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وإنما قتله أحدهم وقال تعالى مخاطباً لليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذَا وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ ءالِ ( الأعراف 141 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم فكذا ههنا الثاني أن يكون المراد من قوله خَلَقْنَاكُمْ آدم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وهذا قول مجاهد فذكر أنه تعالى خلق آدم أولاً ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم
الوجه الثالث خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر
والوجه الرابع أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير كما قررناه في هذا الكتاب وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله خَلَقْنَاكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم وقوله صَوَّرْنَاكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبز أنه تعالى قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه
المسألة الثالثة ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال أحدها أن المراد منها مجرد التعظيم لانفس السجدة وثانيها أن المراد هو السجدة إلا أن المسجود له هو الله تعالى فآدم كان كالقبلة وثالثها أن المسجود له هو آدم وأيضاً ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السموات والعرش أو المراد ملائكة الأرض ففيه خلاف وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة(14/26)
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أنه تعالى استثنى إبليس من الملائكة فوجب كونه منهم وقد استقصينا أيضاً هذه المسألة في سورة البقرة وكان الحسن يقول إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور والملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ولا يعصون وليس كذلك إبليس فقد عصى واستكبر والملائكة ليسوا من الجن وإبليس من الجن والملائكة رسل الله وإبليس ليس كذلك وإبليس أول خليقة الجن وأبوهم كما أن آدم ( صلى الله عليه وسلم ) أول خليقة الإنس وأبوهم قال الحسن ولما كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه الله تعالى وكان اسم إبليس شيئاً آخر فلما عصى الله تعالى سماه بذلك وكان مؤمناً عابداً في السماء حتى عصى ربه فأهبط إلى الأرض
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
قوله سبحانه وتعالى قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود فإن ذلك الأمر قد تناول إبليس وظاهر هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تدل على أن الأمر ليس كذلك وأما الاستثناء فقد أجبنا عنه في سورة البقرة
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن كلمة لا صلة زائدة والتقدير ما منعك أن تسجد ا وله نظائر في القرآن كقوله لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) معناه أقسم وقوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الحديد 29 ) أي يرجعون وقوله لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أي ليعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين
والقول الثاني أن كلمة لا ههنا مفيدة وليست لغواً وهذا هو الصحيح لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان الأول أن يكون التقدير أي شيء منعك عن ترك السجود ا ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود ا كقول القائل لمن ضربه ظلماً ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ا والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور وما امتنعت من ضربي الثاني قال القاضي ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد ا لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها(14/27)
المسألة الثالثة احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب فقالوا إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجباً للذم
فإن قالوا هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك
قلنا قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ مذكور في معرض التعليل والمذكور في قوله إِذْ أَمَرْتُكَ هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمراً مخصوصاً في صورة مخصوصة وإذا كان كذلك وجب أن يكون ترك الأمر من حيث أنه أمر موجباً للذم وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب
المسألة الرابعة احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال ولو كان الأمر لا يفيد الفور لمااستوجب هذا الذم بترك السجود في الحال
المسألة الخامسة اعلم أن قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي وهو أنه قال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ومعناه أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه ومن كان خيراً من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدونا ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ بأن قال خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل فوجب كون إبليس خيراً من آدم أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وأيضاً فالنار قوية التأثير والفعل والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال وأيضاً فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت والحياة أشرف من الموت وأيضاً فنضج الثمار متعلق بالحرارة وأيضاً فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلاً في هذين الوقتين وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحاً في العقول فهذا هو تقرير لشبهة إبليس فنقول هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة أولها أن النار أفضل من التراب فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة وأما المقدمة الثانية وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل فهذا هو محل النزاع والبحث لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر والنور من الظلمة والظلمة من النور وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه وأيضاً فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر(14/28)
المسألة السادسة احتج من قال أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزاً لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) خطاب عام يتناول جميع الملائكة ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئاً إلا أنه خصص عموم قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ بهذا القياس فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل وحيث استحق الذم الشديد عليه علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وأيضاً ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فوصف تعالى إبليس بكونه متكبراً بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس أنه قال كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه وقاس وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس
فإن قيل القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض أولى وأقوى لأن النور أشرف من النار وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم إنه باطل فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحداً ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود فهذا قياس مناسب وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لما استوجب الذم العظيم فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز والله أعلم(14/29)
المسألة السابعة قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ لا يليق إلا بالله سبحانه
وأما قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
وأما قوله قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة ص على سبيل الاستقصاء
إذا ثبت هذا فنقول إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ( الأعراف 143 ) وقال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس وإن لم توجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام
والجواب أن بعض العلماء قال إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة قالوا لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة ومنهم من قال إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام ألا ترى أنه تعالى قال لموسى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ( طه 13 ) وقال له وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) وهذا نهاية الإكرام
المسألة الثامنة قوله تعالى فَاهْبِطْ مِنْهَا قال ابن عباس يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم وقال بعض المعتزلة أنه إنما أمر بالهبوط من السماء وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا أي في السماء قال ابن عباس يريد أن أهل السموات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين والصغار الذلة قال الزجاج إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيهاً على صحة ما قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) وقال بعضهم لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار والله أعلم
قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
في الآية مسائل(14/30)
المسألة الأولى قوله تعالى قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يدل على أنه طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل قال إنك من المنظرين ثم ههنا قولان الأول أنه تعالى أنظره إلى النفخة الأولى لأنه تعالى قال في آية أخرى إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 37 38 ) والمراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحياء كلهم وقال آخرون لم يوقت الله له أجلاً بل قال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ وقوله في الأخرى إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المراد منه الوقت المعلوم في علم الله تعالى قالوا والدليل على صحة هذا القول أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أن الله تعالى أخر أجله إلى الوقت الفلاني لأن ذلك المكلف يعلم أنه متى تاب قبلت توبته فإذا علم أن وقت موته هو الوقت الفلاني أقدم على المعصية بقلب فارغ فإذا قرب وقت أجله تاب عن تلك المعاصي فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري مجرى الإغراء بالقبيح وذلك غير جائز على الله تعالى
وأجاب الأولون بأن تعريف الله عز وجل كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك فلم يكن ذلك الإعلام موجباً إغراءه بالقبيح ومثاله أنه تعالى عرف أنبياءه أنهم يموتون على الطهارة والعصمة ولم يكن ذلك موجباً إغراءهم بالقبيح لأجل أنه تعالى علم منهم سواء عرفهم تلك الحالة أو لم يعرفهم هذه الحالة أنهم يموتون على الطهارة والعصمة فلما كان لا يتفاوت حالهم بسبب هذا التعريف لا جرم ما كان ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية قول إبليس فِيمَا أَغْوَيْتَنِى يدل على أنه أضاف إغواءه إلى الله تعالى وقوله في آية أخرى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) يدل على أنه أضاف إغواء العباد إلى نفسه فالأول يدل على كونه على مذهب الجبر والثاني يدل على كونه على مذهب القدر وهذا يدل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة أو يقال أنه كان يعتقد أن الإغوار لا يحصل إلا بالمغوي فجعل نفسه مغوياً لغيره من الغاوين ثم زعم أن المغوي له هو الله تعالى قطعاً للتسلسل واختلف الناس في تفسير هذه الكلمة أما أصحابنا فقالوا الإغواء إيقاع الغي في القلب والغي هو الاعتقاد الباطل وذلك يدل على أنه كان يعتقد أن الحق والباطل إنما يقع في القلب من الله تعالى أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما أن يفسروا الغي بما ذكرناه والثاني أن يذكروا في تفسيره وجهاً آخر
أما الوجه الأول فلهم فيه أعذار الأول أن قالوا هذا قول إبليس فهب أن إبليس اعتقد أن خالق الغي والجهل والكفر هو الله تعالى إلا أن قوله ليس بحجة الثاني قالوا إن الله تعالى لما أمر بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر غيه وكفره فجاز أن يضيف ذلك الغي إلى الله تعالى بهذا المعنى وقد يقول القائل لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضر بك عنده الثالث قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ والمعنى إنك بما لعنتني بسبب آدم فإنا لأجل هذه العداوة ألقى الوساوس في قلوبهم الرابع رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أي خيبتني من جنتك عقوبة على عملي لأقعدن لهم(14/31)
الوجه الثاني في تفسير الإغواء الإهلاك ومنه قوله تعالى فُسُوقٌ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي هلاكاً وويلاً ومنه أيضاً قولهم غوى الفصيل يغوي غوى إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه ويشارف الهلاك والعطب وفسروا قوله إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ( هود 34 ) إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم الحق فهذه جملة الوجوه المذكورة
واعلم أنا لا نبالغ في بيان أن المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس وأنه ليس بحجة إلا أنا نقيم البرهان اليقيني على أن المغوي لإبليس هو الله تعالى وذلك لأن الغاوي لا بد له من مغو كما أن المتحرك لا بد له من محرك والساكن لا بد له من مسكن والمهتدي لا بد له من هاد فلما كان إبليس غاوياً فلا بد له من مغوي والمغوي له إما أن يكون نفسه أو مخلوقاً آخر أو الله تعالى والأول باطل لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والثاني باطل وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور والثالث هو المقصود والله أعلم
المسألة الثالثة الباء في قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى فيه وجوه الأول إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم ولما كانت الباء باء القسم كانت اللام جواب القسم مِنكُمْ وَمَا بتأويل المصدر و أَغْوَيْتَنِى صلتها والثاني أن قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضاً أسعى في إغوائهم الثالث قال بعضهم مَا في قوله فِيمَا أَغْوَيْتَنِى للاستفهام كأنه قيل بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ وفيه إشكال وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على ( ما ) الاستفهامية قليل
المسألة الرابعة قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لا خلاف بين النحويين أن ( على ) محذوف والتقدير لأقعدن لهم على صراطك المستقيم قال الزجاج مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن وإلقاء كلمة ( على ) جائز لأن الصراط ظرف في المعنى فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة في قولك آتيك غداً وفي غد
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فيه أبحاث
البحث الأول المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواطبة لا يفتر عنها ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها
والبحث الثاني إن هذه الآية تدل على أنه كان عالماً بالدين الحق والمنهج الصحيح لأنه قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق
البحث الثالث الآية تدل على أن إبليس كان عالماً بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وأيضاً كان عالماً بالدين الحق ولولا ذلك لما قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(14/32)
وإذا ثبت هذا فكيف يمكن أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالاً وغواية وبكونه مضاداً للدين الحق ومنافياً للصراط المستقيم فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقاً فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده
واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضده هو الحق فكان إنكاره إنكاراً بمحض اللسان فكان ذلك كفر عناد ومنهم من قال لا بل كفره كفر جهل وقوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به في زعم الخصم وفي اعتقاده والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم وكان تعالى عالماً بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فثبت بهذا أن إنظار إبليس وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع أن يمهله وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلاً ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك قالت المعتزلة اختلف شيوخنا في هذه المسألة فقال الجبائي إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً والدليل عليه قوله تعالى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 162 163 ) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه
والجواب أما قول أبي علي فضعيف وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساوياً لحاله عند عدم هذا التذكير وهذا التزيين والدليل عليه العرف فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين والعلم به ضروري وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضاً لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائه في المفسدة وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة فكيف يمكنه أن يحتج(14/33)
به والذي يقرره غاية التقرير أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه ألبتة إما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً والله أعلم بالصواب
أما قوله تعالى ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في ذكر هذه الجهات الأربع قولان
القول الأول أن كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألقى إليهم أن الدنيا قديمة أزلية وثانيها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ والمعنى أفترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني أقوى رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها فهي بين أيديهم وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها وثالثها وهو قول الحاكم والسدي مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة وإنما فسرنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بالدنيا لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويشاهدها وأما الآخرة فهي تأتي بعد ذلك ورابعها مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ في تكذيب الأنبياء والرسل الذين يكونون حاضرين وَمِنْ خَلْفِهِمْ في تكذيب من تقدم من الأنبياء والرسل
وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ففيه وجوه أحدها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَن شَمَائِلِهِمْ في أنواع المعاصي وثانيها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَن شَمَائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل وثالثها عَنْ أَيْمَانِهِمْ يعني أفترهم عن الحسنات وَعَن شَمَائِلِهِمْ أقوى دواعيهم في السيئات قال ابن الأنباري وقول من قال الإيمان كناية عن الحسنات والشمائل عن السيئات قول حسن لأن العرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك يريد اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وروى أبو عبيد عن الأصمعي أنه يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشمال فهذا تلخيص ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الجهات الأربع أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوهاً أخرى أولها وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية فإحداها القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها وإليه الإشارة بقوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
والقوة الثانية القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ(14/34)
والقوة الثالثة الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن
والقوة الرابعة الغضب وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه حقيقي شريف وثانيها أن قوله لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة وأما الأفعال مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح وَمِنْ خَلْفِهِمْ المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل وإنما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لشبهات التشبيه لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها فهي حاضرة بين يديه فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساوياً لهذا الشاهد وإنما جعلنا قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل لأن التشبيه عين التعطيل فلما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات وَعَن شَمَائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات وثالثها نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ( طه 82 ) وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فاقرأ وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( والقصص 83 ) وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ( سبأ 54 )
والقول الثاني في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة وتقدير الآية ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام ) فقال له تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل ويقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب
فإن قيل فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم
قلنا أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن وأما في الظاهر فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة والله أعلم
المسألة الثانية أنه قال مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة مِنْ(14/35)
ثم قال وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة عَنْ ولا بد في هذا الفرق من فائدة فنقول إذا قال القائل جلس عن يمينه معناه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غير ملتصق به قال تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان ولم يحضر في القدام والخلف ملكان والشيطان يتباعد عن الملك فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة عَنْ لأجل أنها تفيد البعد والمباينة وأيضاً فقد ذكرنا أن المراد من قوله مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الخيال والوهم والضرر الناشىء منهما هو حصول العقائد الباطلة وذلك هو حصول الكفر وقوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ الشهوة والغضب والضرر الناشىء منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية وذلك هو المعصية ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم لأن عقابه دائم أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة عَنْ تنبيهاً على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة قال القاضي هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ وفيه سؤال وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال له على سبيل القطع واليقين وقال آخرون إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً ( سبأ 20 ) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ فقال الحق ما يطابق ذلك وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وفيه وجه آخر وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة واثنان الشهوة والغضب وسبعة هي القوى الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية وأما العقل فهو قوة واحدة وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفاً جداً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ والله أعلم
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ(14/36)
اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال أَخْرَجَ مِنْهَا من الجنة أو من السماء مذؤوماً قال الليث ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار وقال الفراء ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاماً وقال ابن الأنباري المذؤم المذموم قال ابن قتيبة مذؤماً مذموماً بأبلغ الذم قال أمية وقال لإبليس رب العباد
أن اخرج دحيراً لعيناً ذؤما
وقوله مَذْمُومًا مَّدْحُورًا الدحر في اللغة الطرد والتبعيد يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وبعده ومنه قوله تعالى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً ( الصافات 8 9 ) وقال أمية وبإذنه سجدوا لآدم كلهم
إلا لعيناً خاطئاً مدحوراً
وقوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه لام القسم وجوابه قوله لاَمْلاَنَّ قال صاحب ( الكشاف ) روى عصمة عن عاصم لَّمَن تَبِعَكَ بكسر اللام بمعنى لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ هذا الوعيد وهو قوله لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وقيل إن لأملأن في محل الابتداء وَلَمَنِ تَبِعَكَ خبره قال أبو بكر الأنباري الكناية في قوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ عائد على ولد آدم لأنه حين قال وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) كان مخاطباً لولد آدم فرجعت الكناية إليهم قال القاضي دلت هذه الآية على أن التابع والمتبوع معنيان في أن جهنم تملأ منهما ثم أن الكافر تبعه فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار وجوابه أن المذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه وليس في الآية أن كل من تبعه فإنه يدخل جهنم فسقط هذا الاستدلال ونقول هذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم
وَيَاأادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل أحدها أن قوله اسْكُنْ أمر تعبد أو أمر إباحة وإطلاق من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف وثانيها أن زوج آدم هو حواء ويجب أن نذكر أنه تعالى كيف خلق حواء وثالثها أن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض ورابعها أن قوله فَكُلاًّ أمر إباحة لا أمر تكليف وخامسها أن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي تنزيه أو نهي تحريم وسادسها أن قوله هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ المراد شجرة واحدة بالشخص أو النوع وسابعها أن تلك الشجرة أي شجرة كانت وثامنها أن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً وتاسعها أنه ما المراد من قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ وهل يلزم من كونه ظالماً بهذا القربان الدخول تحت قوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وعاشرها أن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم عليه السلام أو بعدها فهذه المسائل العشرة قد سبق تفصيلها وتقريرها في سورة البقرة فلا نعيدها والذي بقي علينا من هذه الآية حرف واحد(14/37)
وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا ( البقرة 35 ) بالواو وقال ههنا فَكُلاًّ بالفاء فما السبب فيه وجوابه من وجهين الأول أن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وفي سورة الأعراف ذكر النوع
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ
يقال وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وبه سمي صوت الحلي وسواساً وهو فعل غيرمتعد كقولنا ولولوت المرأة وقولنا وعوع الذئب ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف وسوس إليه وآدم كان في الجنة وإبليس أخرج منها
والجواب قال الحسن كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له وقال أبو مسلم الأصفهاني بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية ودخلت الحية في الجنة فتلك القصة الركيكة مشهورة وقال آخرون إن آدم وحواء ربما قرباً من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فيقرب فيقرب أحدهما من الآخر وتحصل الوسوسة هناك
السؤال الثاني أن آدم عليه السلام كان يعرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله
والجواب لا يبعد أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام(14/38)
السؤال الثالث لم قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
والجواب معنى وسوس له أي فعل الوسوسة لأجله والله أعلم
أما قوله تعالى لِيُبْدِيَ لَهُمَا في هذا اللام قولان أحدهما أنه لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وذلك لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتها وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط الثاني لا يبعد أيضاً أن يقال إنه لام الغرض ثم فيه وجهان أحدهما أن يجعل بدو العورة كناية عن سقوط الحرمة وزوال الجاه والمعنى أن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم زوال حرمته وذهاب منصبه والثاني لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من بعض الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وذلك يدل على نهاية الضرر وسقوط الحرمة فكان يوسوس إليه لحصول هذا الغرض وقوله مَا فيه مباحث
البحث الأول ما وري مأخوذ من المواراة يقال واريته أي سترته قال تعالى يواري سوأة أخيه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي لما أخبره بوفاة أبيه ( اذهب فواره )
البحث الثاني السوأة فرج الرجل والمرأة وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان قال ابن عباس رضي الله عنهما كأنهما قد ألبسا ثوباً يستر عورتهما فلما عصيا زال عنهما ذلك الثوب فذلك قوله تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا
البحث الثالث دلت هذه الآية على أن كشف العورة من المنكرات وإنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول وقوله وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) يمكن أن يكون هذا الكلام ذكره إبليس بحيث خاطب به آدم وحواء ويمكن أيضاً أن يكون وسوسة أوقعها في قلوبهما والأمران مرويات إلا أن الأغلب أنه كان ذلك على سبيل المخاطبة بدليل قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ومعنى الكلام أن إبليس قال لهما في الوسوسة إلا أن تكون ملكين وأراد به أن تكونا بمنزلة الملائكة إن أكلتما منها أو تكونا من الخالدين إن أكلتما فرغبهما بأن أوهمهما أن من أكلها صار كذلك وإنه تعالى إنما نهاهما عنها لكي لا يكونا بمنزلة الملائكة ولا يخلدا وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف أطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة متواضعين ساجدين له معترفين بفضله والجواب من وجوه الأول أن هذا المعنى أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وسكان العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبتة لآدم ولو كانوا سجدوا له لكان هذا التطميع فاسداً مختلاً وثانيها نقل الواحدي عن بعضهم أنه قال إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أن يصير مثل الملك في البقاء وأقول هذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير المطلوب من الملائكة هو الخلود وحينئذ لا يبقى فرق بين قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ( الأعراف 20 ) وبين قوله أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 )(14/39)
والوجه الثاني قال الواحدي كان ابن عباس يقرأ ملكين ويقول ما طمعا في أن يكونا ملكين لكنهما استشرفا إلى أن يكونا ملكين وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك ويدل على هذا قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 20 ) وأقول هذا الجواب أيضاً ضعيف وبيانه من وجهين الأول هب أنه حصل الجواب على هذه القراءة فهل يقول ابن عباس إن تلك القراءة المشهورة باطلة أو لا يقول ذلك والأول باطل لأن تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يمكن الطعن فيها وأما الثاني فعلى هذا التقدير الإشكال باق لأن على تلك القراءة يكون بالتطميع قد وقع في أن يصير بواسطة ذلك الأكل من جملة الملائكة وحينئذ يعود السؤال
والوجه الثاني أنه تعالى جعل سجود الملائكة والخلق له في أن يسكن الجنة وأن يأكل منها رغداً كيف شاء وأراد ولا مزيد في الملك على هذه الدرجة
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النبوة
والجواب من وجوه الأول أنا إذا قلنا إن هذه الواقعة كانت قبل النبوة لم يدل على ذلك ولأن آدم حين طلب الوصول إلى درجة الملائكة ما كان من الأنبياء وعلى هذا التقدير فزال الاستدلال والثاني إن بتقدير ( أن ) تكون هذه الواقعة وقعت في زمان النبوة فلعل آدم عليه السلام رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والشدة أو في خلقة الذات بأن يصير جوهراً نورانياً وفي أن يصير من سكان العرش والكرسي وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال
السؤال الثالث نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن في قوله إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وفي قوله وقاسمهما قال عمر وقلت للحسن فهل صدقاه في ذلك فقال الحسن معاذ الله لو صدقاه لكانا من الكافرين ووجه السؤال إنه كيف يلزم هذا التكفير بتقدير أن يصدقا إبليس في ذلك القول
والجواب ذكروا في تقرير ذلك التكفير أنه عليه السلام لو صدق إبليس في الخلود لكان ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفر ولقائل أن يقول لا نسلم أنه يلزم من ذلك التصديق حصول الكفر وبيانه من وجهني الأول أن لفظ الخلود محمول على طول المكث لا على الدوام وعلى هذا الوجه يندفع ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن الخلود مفسر بالدوام إلا أنا نسلم أن اعتقاد الدوام يوجب الكفر وتقريره أن العلم بأنه تعالى هل يميت هذا المكلف أو لا يميته علم لا يحصل إلا من دليل السمع فلعله تعالى ما بين في وقت آدم عليه السلام أنه يميت الخلق ولما لم يوجد ذلك الدليل السمعي كان آدم عليه السلام يجوز دوام البقاء فلهذا السبب رغب فيه وعلى هذا التقدير فالتكفير غير لازم
السؤال الرابع ثبت بما سبق أن آدم وحواء لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفيرهما فهل يقولون إنهما صدقاه فيه قطعاً وإن لم يحصل القطع فهل يقولون إنهما ظنا أن الأمر كما قال أو ينكرون هذا الظن أيضاً(14/40)
والجواب أن المحققين أنكروا حصول هذا التصديق قطعاً وظناً بل الصواب أنهما إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال
السؤال الخامس قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ هذا الترغيب والتطميع وقع في مجموع الأمرين أو في أحدهما
والجواب قال بعضهم الترغيب كان في مجموع الأمرين لأن أدخل في الترغيب وقيل بل هو على ظاهره على طريقة التخيير
ثم قال تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين
فإن قيل المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً أي حالفته وتقاسما تحالفاً ومنه قوله تعالى تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ( النمل 49 )
قلنا فيه وجوه الأول التقدير أنه قال أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين فجعل ذلك مقاسمة بينهم والثاني أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها الثالث أنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم
إذا عرفت هذا فنقول قال قتادة حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقوله إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي قال إبليس إني خلقت قبلكما وأنا أعلم أحوالاً كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي أرشدكما
ثم قال تعالى فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين أحدهما أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال دلاه إذا أطعمه الثاني فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور والأصل فيه دللهما من الدل والدالة وهي الجرأة
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي غرهما باليمين وكان آدم يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له إنهم يخدعونك فقال من خدعنا بالله انخدعنا له
ثم قال تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل لأن الذائق قد يكون ذائقاً من دون أكل
ثم قال تعالى بَدَتْ لَهُمَا أي ظهرت عوراتهما وزال النور عنهما سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ قال الزجاج معنى طفق أخذ في الفعل يَخْصِفَانِ أي يجعلان ورقة على ورقة ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا قال عطاء بلغني أن الله ناداهما أفراراً مني يا آدم قال بل(14/41)
حياء منك يا رب ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك في جنتي في جواريا
ثم قال وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قال ابن عباس بين العداوة حيث أبى السجود وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 )
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة وقد ذكرنا هناك أن هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم من آدم عليه السلام إلا أنا نقول هذا الذنب إنما صدر عنه قبل النبوة وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
اعلم أن هذا الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس وإذا كان كذلك فقوله اهْبِطُواْ يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول ألبتة وقوله فِيهَا تَحْيَوْنَ الكناية عائدة إلى الأرض في قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ والمراد في الأرض تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون إلى البعث والقيامة قرأ حمزة والكسائي تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية وقرأ ابن عامر ههنا وفي الزخرف بفتح التاء وفي الروم والجاثية بضم التاء والباقون جميع ذلك بضم التاء
يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
في نظم الآية وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض لهما مستقراً بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا(14/42)
الوجه الثاني أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر
فإن قيل ما معنى إنزال اللباس
قلنا إنه تعالى أنزل المطر وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس فصار كأنه تعالى أنزل اللباس وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء ومنه قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( الحديد 25 ) وأما قوله وَرِيشًا ففيه بحثان
البحث الأول الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً يزينكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) وقال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ( النحل 6 )
البحث الثاني روي عن عاصم رواية غير مشهورة ورياشاً وهو مروي أيضاً عن عثمان رضي الله عنه والباقون سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل رياش جمع ريش وكذياب وذيب وقداح وقدح وشعاب وشعب وقيل هما واحد كلباس ولبس وجلال وجل روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش وقال ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى وَلِبَاسُ التَّقْوَى فيه بحثان
البحث الأول قرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِبَاسُ بالنصب عطفاً على قوله لِبَاساً والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله ذالِكَ مبتدأ وقوله خَيْرٌ خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مبتدأ وقوله ذالِكَ صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى ومعنى قولنا صفة أن قوله ذالِكَ أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير
البحث الثاني اختلفوا في تفسير قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى والضابط فيه أن منهم من حمله على نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره
أما القول الأول ففيه وجوه أحدها أن المراد أن اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى وثانيها أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب وثالثها المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات
والقول الثاني أن يحمل قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج لباس التقوى الإيمان وقال ابن عباس لباس التقوى العمل الصالح وقيل هو السمت الحسن(14/43)
وقيل هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً من الثياب والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً وقال معبدهو الحياء وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى ليس إلا هذه الأشياء أما قوله ذالِكَ خَيْرٌ قال أبو علي الفارسي معنى الآية وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ ( الأعراف 26 ) لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به قال وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ( النحل 112 ) وقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ معناه من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون عظيم النعمة فيه
يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيهاشدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان
البحث الأول قال الكعبي هذه الآية حجة على من نسب خروج آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها فيقال له لم قلتم أن كون هذا العمل منسوباً إلى الشيطان يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى ولم لا يجوز أن يقال إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله تعالى ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر كان منسوباً إلى الشيطان
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج آدم وحواء من الجنة عقوبة لهما على تلك الزلة وظاهر قوله إِنّى جَاعِلُكَ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود فكيف الجمع بين الوجهين(14/44)
وجواب أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمري والله أعلم
ثم قال يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأن كان بسبب منه فأسند إليه كما تقول أنت فعلت هذا لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب وإن لم يباشره وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه
البحث الثاني اللام في قوله لِيُرِيَهُمَا لام العاقبة كما ذكرنا في قوله لِيُبْدِيَ لَهُمَا قال ابن عباس رضي الله عنهما يرى آدم سوأة حواء وترى حواء سوأة آدم
البحث الثالث اختلفوا في اللباس الذي نزع منهما فقال بعضهم إنه النور وبعضهم التقى وبعضهم اللباس الذي هو ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس يقتضيه والمقصود من هذا الكلام تأكيد التحذير لبني آدم لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد فكيف يكون حال آحاد الخلق ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول إِنَّهُ يَرَاكُمْ يعني إبليس هُوَ وَقَبِيلُهُ أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 )
البحث الثاني قال أبو عبيدة عن أبي زيد ( القبيل ) الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتي وجمعه قبل والقبيلة بنو أب واحد وقال ابن قتيبة قبيله أصحابه وجنده وقال الليث هُوَ وَقَبِيلُهُ أي هو ومن كان من نسله
البحث الثالث قال أصحابنا إنهم يرون الأنس لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في أن يرى بعض الجن بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم فعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقوف عند المعتزلة إما على زيادة كثافة أجسام الجن أو على زيادة قوة أبصار الإنس
البحث الرابع قوله تعالى مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن لأن قوله مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا وأرادوا لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جنى صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص وأيضاً فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه ويتأكد هذا بقوله مَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى(14/45)
( إبراهيم 22 ) قال مجاهد قال إبليس اعطينا أربع خصال نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى
ثم قال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فقد احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم قال الزجاج ويتأكد هذا النص بقوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) قال القاضي معنى قوله جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن قال ومعنى قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ هو أنا خلينا بينهم وبينهم كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل إنه أرسل عليه كلبه
والجواب أن القائل إذا قال إن فلاناً جعل هذا الثوب أبيض أو أسود لم يفهم منه أنه حكم به بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنه تعالى حكم بذلك لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذباً وهو محال فالمفضي إلى المحال محال فكون العبد قادراً على خلاف ذلك وجب أن يكون محالاً وأما قوله أن قوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضاً ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضاً ويشتم بعضهم بعضاً ثم إن زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعضهم عن البعض لا يقال أنه أرسل بعضهم على البعض بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا ههنا والله أعلم
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء والأولى أن يحكم بالتعميم والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة فيدخل فيه جميع الكبائر واعلم أنه ليس المراد منه أن القرم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها فإن ذلك لا يقوله عاقل بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات وإن الله أمرهم بها ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين أحدهما أنا وجدنا عليها آباءنا والثاني أن الله أمرنا بها(14/46)
أما الحجة الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد طريقاً حقاً للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقاً ومعلوم أنه باطل ولما كان فساد هذا الطريق ظاهراً جلياً لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه
وأما الحجة الثانية وهي قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فقد أجاب عنه بقوله تعالى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها وأقول للمعتزلة أن يحتجوا بهذه الآية على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه ثم إنه تعالى نهى عنه لكونه مشتملاً على ذلك الوجه لأن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء إشارة إلى أنه لما كان ذلك موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر الله به وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايراً لتعلق الأمر والنهب به وذلك يفيد المطلوب
وجوابه يحتمل أنه لما ثبت بالاستقراء أنه تعالى لا يأمر إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهي إلا عما يكون مفسده لهم فقد صح هذا التعليل لهذا المعنى والله أعلم
ثم قال تعالى أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه بحثان
البحث الأول المراد منه أن يقال إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء
أما الأول فمعلوم الفساد بالضرورة
وأما الثاني فباطل على قولكم لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش وهم كانوا ينكرون أصل النبوة وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً وإنه باطل
البحث الثاني نفاة القياس قالوا الحكم المثبت بالقياس مظنون وغير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذم والسخرية أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وجواب مثبتي القياس عن أمثال هذه الدلالة قد ذكرناه مراراً والله أعلم
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ(14/47)
اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه عائدة إليه في ذاته ثم أنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه وجوابه ما سبق ذكره
المسألة الثانية قال عطاء والسدي بِالْقِسْطِ بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً وقال ابن عباس هو قول لا إله إلا الله والدليل عليه قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها أنه أمر بالقسط وهو قول لا إله إلا الله وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له وثانيها أنه أمر بالصلاة وهو قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنه لقائل أن يقول أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ خبر وقوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز وجوابه التقدير قل أمر ربي بالقسط وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
البحث الثاني في الآية قولان أحدهما المراد بقوله أَقِيمُواْ هو استقبال القبلة والثاني أن المراد هو الإخلاص والسبب في ذكر هذين القولين أن إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة والأقرب هو الأول لأن الإخلاص مذكور من بعد ولو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنه قال وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين وذلك لا يستقيم
فإن قيل يستقيم ذلك إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط
قلنا لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً لم يجز قصره على أحدهما خصوصاً مع قوله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يعم كل ما يسمى ديناً
إذا ثبت هذا فنقول قوله عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن بل نعتبر القبلة فكان المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم لاأصلي إلا في مسجد قومي
ولقائل أن يقول حمل لفظ الآية على هذا بعيد لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد
وأما قوله وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة وسماها دعاء لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع(14/48)
الإخلاص ونطيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) ثم قال تعالى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وفيه قولان
القول الأول قال ابن عباس كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم مؤمناً أو كافراً تَعُودُونَ فبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة أعمله بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته الشقاوة وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة
والقول الثاني قال الحسن ومجاهد كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وهذا يجري مجرى التفسير لقوله كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وذلك يوجب ما قلناه قال القاضي هذا القول باطل لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف لأن جوابه أن يقال كما بدأكم بالإيمان والكفر والسعادة والشقاوة فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة ( القسط ) وهي كلمة لا إله إلا الله ثم أمر بالصلاة ثانياً ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال إنما تظهر في الدار الآخرة ونظيره قوله عالى في ( طه ) لموسى عليه السلام إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 14 15 )
ثم قال تعالى فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وفيه بحثان
البحث الأول احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى قالت المعتزلة المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب قال القاضي لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم إذ العبد لا يستحق لأن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أن قوله فَرِيقًا هَدَى إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى والثاني نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً والكذب على الله محال والمفضي إلى المحال محال فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه والله أعلم
البحث الثاني انتصاب قوله وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل(14/49)
فإن قيل كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء فنقول عندنا مجموع القدرة والداعي يوجب الفعل والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله
ثم قال تعالى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ قال ابن عباس يريد ما بين لهم عمرو بن لحي وهذا بعيد بل هو محمول على عمومه فكل من شرع في باطل فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً أو لم يحسب ذلك وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلا لما ذمهم بذلك والله أعلم
يَابَنِى ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا خَالِصَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب لا جرم أتبعه بذكرهما وأيضاً لما أمر بإقامة الصلاة في قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 29 ) وكان ستر العورة شرطاً لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة وقالوا لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها لتستتر به عن الحمس وهم قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك وكانوا يصلون في ثيابهم ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً فقال المسلمون يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ( البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا )
المسألة الثانية المراد من الزينة لبس الثياب والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) يعني الثياب وأيضاً فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة وأيضاً أنه تعالى قال في الآية المتقدمة قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا(14/50)
فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة وأيضاً فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة ههنا لبس الثوب الذي يستر العورة وأيضاً فقوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب وكل ما سوى اللبس فغير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة وههنا سؤالان
السؤال الأول إنه تعالى عطف عليه قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر إباحة أيضاً
وجوابه أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه وأيضاً فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الحكم
السؤال الثاني أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري
والجواب أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة وجب أن تفسد الصلاة عند تركه لأن تركه يوجب ترك المأمور به وترك المأمور به معصية والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول
المسألة الثالثة تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد فقالوا أمرنا بالصلاة في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ( يونس 87 ) والصلاة عبارة عن الدعاء وقد أتى بها والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملاً بقوله تعالى خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة فوجب أن يكون كافياً في صحة الصلاة
وجوابنا أن الألف واللام في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ينصرفان إلى المعهود السابق وذلك هو عمل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد والله أعلم
أما قوله تعالى وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل وكانوا لا يأكلون الدسم يعظمون بذلك حجهم فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة
والقول الثاني أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لفساد قولهم في هذا الباب(14/51)
واعلم أن قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ مطلق يتناول الأوقات والأحوال ويتناول جميع المطعومات والمشروبات فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل والعقل أيضاً مؤكد له لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة
وأما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ ففيه قولان
القول الأول أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه
والقول الثاني وهو قول أبي بكر الأصم أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتركوا الانتفاع بها وأيضاً أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضاً أشياء أحلها الله تعالى لهم وذلك إسراف
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وهذا نهاية التهديد لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروماً عن الثواب لأن معنى محبة الله تعالى العبد أيصاله الثواب إليه فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب ومتى لم يحصل الثواب فقد حصل العقاب لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف لا يثاب ولا يعاقب
ثم قال تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذه الآية ظاهرها استفهام إلا أن المراد منه تقرير الإنكار والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار وفي الآية قولان
القول الأول أن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين
والقول الثاني أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه ويدخل تحتها المركوب ويدخل تحتها أيضاً أنواع الحلي لأن كل ذلك زينة ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلاً تحت هذا العموم ويدخل تحت الطيبات من الرزق كل ما يستلذ ويشتهي من أنواع المأكولات والمشروبات ويدخل أيضاً تحته التمتع بالنساء وبالطيب وروي عن عثمان بن مظعون أنه أتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال غلبني حديث النفس عزمت على أن أختصي فقال ( مهلاً يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام ) قال فإن نفسي تحدثني بالترهب قال ( إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال تحدثني نفسي بالسياحة ) فقال ( سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ) فقال إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك فقال ( الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك ) فقال إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال ( إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها قال ( إن المسلم(14/52)
إذا غشى أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعاً ورحمة يوم القيامة ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال ( مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب قال ( مهلاً فإن جبريل أمرني بالطيب غباً وقال لا تتركه يوم الجمعة ) ثم قال ( يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه إلا ما خصه الدليل فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ
المسألة الثانية مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به وجب أن يكون حلالاً وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالاً فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع وهذا أصل معتبر في كل الشريعة لأن كل واقعة تقع فإما أن يكون النفع فيها خالصاً أو راجحاً أو الضرر يكون خالصاً أو راجحاً أو يتساوى الضرر والنفع أو يرتفعا أما القسمان الأخيران وهو أن يتعادل الضرر والنفع أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان وإن كان النفع خالصاً وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصاً وإن كان الضرر خالصاً كان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً فكان تركه نفعاً خالصاً فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة ثم إن وجدنا نصاً خالصاً في الواقعة قضينا في النفع بالحل وفي الضرر بالحرمة وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلاً تحت النص ثم قال نفاة القياس فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقل به وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس قالوا وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافياً ببيان كل أحكام الشريعة ولا حاجة معه إلى طريق آخر فهذا تقرير قول من يقول القرآن واف ببيان جميع الوقائع والله أعلم
وأما قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد
فإن قيل هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم
قلنا فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأن الكفرة تبع لهم كقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ( البقرة 126 ) والحاصل أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة أما في الدنيا فإنها تكون مكدرة مشوبة(14/53)
المسألة الثانية قرأ نافع خَالِصَة ٌ بالرفع والباقون بالنصب قال الزجاج الرفع على أنه خبر بعد خبر كما تقول زيد عاقل لبيب والمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي ويجوز أن يكون قوله خَالِصَة ٌ خبر المبتدأ وقوله لِلَّذِينَ ءامَنُواْ متعلقاً بخالصة والتقدير هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب فعلى الحال والمعنى أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية والله أعلم
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أسكن حمزة الياء من رَبّى والباقون فتحوها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات فحرم أولاً الفواحش وثانياً الإثم واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه الأول أن الفواحش عبارة عن الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية أنه حرم الكبائر والصغائر وطعن القاضي فيه فقال هذا يقتضي أن يقال الزنا والسرقة والكفر ليس بإثم وهو بعيد
القول الثاني أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد والإثم اسم لما يجب فيه الحد وهذا وإن كان مغايراً للأول إلا أنه قريب منه والسؤال فيه ما تقدم
والقول الثالث أن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة وعلى هذا القول اختيار القاضي
والقول الرابع أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسماً لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( النساء 22 ) ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك وإذا قيل فلان فحاش فهم أنه يشتم الناس بألفاط الوقاع فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط(14/54)
إذا ثبت هذا فنقول في قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ على هذا التفسير وجهان الأول يريد سر الزنا وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة وما ظهر منها بأن يقع علانية والثاني أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة وَمَا بَطَنَ الدخول وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر لأنه تعالى قال في صفة الخمر وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ( البقرة 219 ) وبهذا التقدير فإنه يظهر الفرق بين اللفظين
النوع الثالث من المحرمات قوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ فنقول أما الذين قالوا المراد بالفواحش جميع الكبائر وبالإثم جميع الذنوب قالوا إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيهاً على أنهما أقبح أنواع الذنوب كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ ( الأحزاب 7 ) ومنك ومن نوح وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر قالوا البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً أو مالاً أو عرضاً وأيضاً قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت
فإن قيل البغي لا يكون إلا بغير الحق فما الفائدة في ذكر هذا الشرط
قلنا أنه مثل قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( الإسراء 33 ) والمعنى لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج من أن يكون بغياً
والنوع الرابع من المحرمات قوله تعالى وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطاناً وجوابه المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة ولا سلطان ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك فوجب أن يكون القول به باطلاً على الإطلاق وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل
والنوع الخامس من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 28 ) وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كلمة ( إنما ) تفيد الحصر فقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ كذا وكذا يفيد الحصر والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء
والجواب إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه وإن حملنا الفاحشة على الزنا والإثم على الخمر
قلنا الجنايات محصورة في خمسة أنواع أحدها الجنايات على الأنساب وهي إنما تحصل بالزنا وهي المراد بقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ وثانيها الجنايات على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله الإِثْمِ وثالثها الجنايات على الأعراض ورابعها الجنايات على النفوس وعلى الأموال وإليهما الإشارة بقوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ وخامسها الجنايات على الأديان وهي من وجهين أحدها الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ(14/55)
وثانيها القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء وكانت البواقي كالفروع والتوابع لا جرم جعل تعالى ذكرها جارياً مجرى ذكر الكل فأدخل فيها كلمة ( إنما ) المفيدة للحصر
السؤال الثاني الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه فصار تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهو كلام خال عن الفائدة والجواب كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه وعلى هذا التقدير فيسقط السؤال والله أعلم
وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف بين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي
المسألة الثانية اعلم أن الأجل هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة وفي هذه الآية قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة
والقول الثاني أن المراد بهذا الأجل العمر فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه والقول الأول أولى لأنه تعالى قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل ولكل أحد أجل وعلى القول الثاني إنما قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان ومعلوم من حالها التقارب في الأجل لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأيضاً فالقول الأول يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك
المسألة الثالثة إذا حملنا الآية على القول الثاني لزم أن يكون لكل أحد أجل لا يقع فيه التقديم والتأخير فيكون المقتول ميتاً بأجله وليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت لأن هذايقتضي خروجه تعالى عن كونه قادراً مختاراً وصيرورته كالموجب لذاته وذلك في حق الله تعالى ممتنع بل المراد أنه تعالى أخبر أن الأمر يقع على هذا الوجه
المسألة الرابعة قوله تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ المراد أنه لا يتأخر عن ذلك الأجل(14/56)
المعين لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة إلا أنه تعالى ذكر الساعة لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات
فإن قيل ما معنى قوله وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فإن عند حضور الأجل امتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم عليه
قلنا يحمل قوله فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ على قرب حضور الأجل تقول العرب جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك تارة والتأخر عنه أخرى
يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال التكليف وبين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بين أنهم بعد الموت كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب وقوله إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي أن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء وهو قوله فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وإنما قال رسل وإن كان خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام لأنه تعالى أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم وإنما قال مّنكُمْ لأن كون الرسول منهم أقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات أحدها أن معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة وثانيها أن معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في أنها حصلت بقدرة الله تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وثالثها ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس بخلاف ما لا يكون من الجنس فإنه لا يحصل معه الألفة
وأما قوله يَقُصُّونَ عَلِيمٌ ءايَاتِي فقيل تلك الآيات هي القرآن وقيل الدلائل وقيل الأحكام والشرائع والأولى دخول الكل فيه لأن جميع هذه الاْشياء آيات الله تعالى لأن الرسل إذا جاؤا فلا بد وأن يذكروا جميع هذه الأقسام ثم قسم تعالى حال الأمة فقال فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لأن الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهى الله تعالى عنه ودخل في قوله وَأَصْلَحَ أنه أتي بكل ما أمر به
ثم قال تعالى في صفته فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي بسبب الأحوال المستقبلة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي بسبب الأحوال الماضية لأن الإنسان إذا جوز وصول المضرة إليه في الزمان المستقبل خاف وإذا تفكر فعلم(14/57)
أنه وصل إليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي حصل الحزن في قلبه لهذا السبب والأولى في نفي الحزن أن يكون المراد أن لا يحزن على ما فاته في الدنيا لأن حزنه على عقاب الآخرة يجب أن يرتفع بما حصل له من زوال الخوف فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة أولى فبين تعالى أن حاله في الآخرة تفارق حاله في الدنيا فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن ألبتة واختلف العلماء في أن المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف وحزن عند أهوال يوم القيامة فذهب بعضهم إلا أنه لا يلحقهم ذلك والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وذهب بعضهم إلى أن يلحقهم ذلك الفزع لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) أي من شدة الخوف
وأجاب هؤلاء عن هذه الآية بأن معناه أن أمرهم يؤل إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض لا بأس عليك أي أمرك يؤل إلى العافية والسلامة وإن كان في الوقت في بأس من علته ثم بين تعالى أن الذين كذبوا بهذه الآيات التي يجيء بها الرسل وَاسْتَكْبَرُواْ أن أنفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقد تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار لأنه تعالى بين أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار وكلمة هُمْ تفيد الحصر فذلك يقتضي أن من لا يكون موصوفاً بذلك التكذيب والاستكبار لا يبقى مخلداً في النار والله أعلم
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ يرجع إلى قوله والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وقوله فَمَنْ أَظْلَمُ أي فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله مالم يقله أو كذب ما قاله والأول هو الحكم بوجود ما لم يوجد والثاني هو الحكم بإنكار ما وجد والأول دخل فيه قول من أثبت الشريك لله سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو عن الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت البنات والبنين لله تعالى ويدخل فيه قول من أضاف الأحكام الباطلة إلى الله تعالى والثاني يدخل فيه قول من أنكر كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول من أنكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (14/58)
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ واختلفوا في المراد بذلك النصيب على قولين أحدهما أن المراد منه العذاب والمعنى ينالهم ذلك العذاب المعين الذي جعله نصيباً لهم في الكتاب ثم اختلفوا في ذلك العذاب المعين فقال بعضهم هو سواد الوجه وزرقة العين والدليل عليه قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) وقال الزجاج هو المذكور في قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) وفي قوله يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ( الجن 17 ) وفي قوله إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ ( غافر 71 ) فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم
والقول الثاني أن المراد من هذا النصيب شيء سوى العذاب واختلعوا فيه فقيل هم اليهود والنصارى يجب لهم علينا إذا كانوا أهل ذمة لنا أن لا تتعدى عليهم وأن ننصفهم وأن نذب عنهم فذلك هو معنى النصيب من الكتاب وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي ما سبق لهم في حكم الله وفي مشيئته من الشقاوة والسعادة فإن قضى الله لهم بالختم على الشقاوة أبقاهم على كفرهم وإن قضى لهم بالختم على السعادة نقلهم إلى الإيمان والتوحيد وقال الربيع وابن زيد يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت وانقرضت وفرغوا منها جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ واعلم أن هذا الاختلاف إنما حصل لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ ولفظ ( النصيب ) مجمل محتمل لكل الوجوه المذكورة وقال بعض المحققين حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بين أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا وأيضاً فقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يدل على أن مجيء الرسل للتوفي كالغاية لحصول ذلك النصيب فوجب أن يكون حصول ذلك النصيب متقدماً على حصول الوفاة والمتقدم على حصول الوفاة ليس إلا العمر والرزق
أما قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل وسيبويه لا يجوز إمالة ( حتى ) و ( ألا ) و ( أما ) وهذه ألفات ألزمت الفتح لأنها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حبلى وهدى إلا أن حَتَّى كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى وقال بعض النحويين لا يجوز إمالة حَتَّى لأنها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف
المسألة الثانية قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ فيه قولان
القول الأول المراد هو قبض الأرواح لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى قال ابن عباس الموت قيامة الكافر فالملائكة يطالبونهم بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ والتهديد وهؤلاء الرسل هم ملك الموت وأعوانه
والقول الثاني وهو قول الحسن وأحد قولي الزجاج أن هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا أي ملائكة العذاب يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار على معنى أنهم يستكملون عدتهم حتى لا ينفلت منهم أحد(14/59)
المسألة الثالثة قوله أَيْنَمَا كُنتُمْ معناه أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم من دون الله ولفظة ( ما ) وقعت موصولة بأين في خط المصحف قال صاحب ( الكشاف ) وكان حقها أن تفصل لأنها موصولة بمعنى أين الآلهة الذين تدعون
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ضَلُّواْ عَنَّا أي بطلوا وذهبوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين عند معاينة الموت
واعلم أن على جميع الوجوه فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر لأن التهويل يذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتسدد في الاحتراز عن التقليد
قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّ ولَاهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاٌّ خْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار
أما قوله تعالى قَالَ ادْخُلُواْ ففيه قولان الأول إن الله تعالى يقول ذلك والثاني قال مقاتل هو من كلام خازن النار وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ ففيه وجهان
الوجه الأول التقدير ادخلوا في النار مع أمم وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الأضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا في النار وأما المجاز فلأنا حملنا كلمة ( في ) على ( مع ) لأنا قلنا معنى قوله فِى أُمَمٍ أي مع أمم
والوجه الثاني أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز والتقدير ادخلوا في أمم في النار ومعنى الدخول في الأمم الدخول فيما بينهم وقوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ أي تقدم زمانهم(14/60)
زمانكم وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة بل يدخل الفوج بعد الفوج فيكون فيهم سابق ومسبوق ليصح هذا القول ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً فيتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) والمراد بقوله أُخْتَهَا أي في الدين والمعنى أن المشركين يلعنون المشركين وكذلك اليهود تلعن اليهود والنصارى النصارى وكذا القول في المجوس والصابئة وسائر أديان الضلالة وقوله حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الأولى والأخرى قولان الأول قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها والثاني أخراهم منزلة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء
المسألة الثانية ( اللام ) في قوله لاِخْرَاهُمْ لام أجل والمعنى لأجلهم ولإضلالهم إياهم قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم لأنهم ما خاطبوا أولاهم وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام
أما قوله تعالى رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فالمعنى أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين أحدهما بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل
والوجه الثاني بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم فيصير ذلك تشبيهاً بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال
ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ وفي الضعف قولان
القول الأول قال أبو عبيدة ( الضعف ) هو مثل الشيء مرة واحدة وقال الشافعي رحمه الله ما يقارب هذا فقال في رجل أوصى فقال اعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي قال يعطي مثله مرتين
والقول الثاني قال الأزهري ( الضعف ) في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين وجائز في كلام العرب أن تقول هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة والدليل عليه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ( سبأ 37 ) ولم يرد به مثلاً ولا مثلين بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله لقوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له
وأما مسألة الشافعي رحمه الله فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له والقدر المتيقن في الوصية هو المثل والباقي مشكوك فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين(14/61)
أما قوله تعالى قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم يَعْلَمُونَ بالياء على الكناية عن الغائب والمعنى ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر فيحمل الكلام على كل لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن كان المراد من قوله لِكُلّ ضِعْفٌ أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه فذلك غير جائز لأنه ظلم وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً
والجواب أن عذاب الكفار يزيد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم فكذلك تجيب أولاهم أخراهم فقال وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ أي في ترك الكفر والضلال وإنا متشاركون في استحقاق العذاب
ولقائل أن يقول هذا منهم كذب لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه فكانوا ضالين ومضلين وأما الأتباع والسفلة فهم وإن كانوا ضالين إلا أنهم ما كانوا مضلين فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر
وجوابه أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة وعندنا أن ذلك جائز وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
أما قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعاً
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض ويلعن بعضهم بعضاً كان ذلك سبباً لوقوع الخوف الشديد في القلب
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ(14/62)
اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الأعراف 36 ) ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هى أصول الدين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات والمشركون ينكرون دلائل التوحيد ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد فقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يتناول الكل ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ
أما قوله تعالى لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو لاَ تُفَتَّحُ بالتاء خفيفة وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 44 ) فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم
المسألة الثانية في قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء أقوال قال ابن عباس يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) ومن قوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقال السدي وغيره لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء وتفتح لأرواح المؤمنين ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء
والقول الثالث أن الجنة في السماء فالمعنى لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة
والقول الرابع لا تنزل عليهم البركة والخير وهو مأخوذ من قوله فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( القمر 11 ) وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة أما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السموات وذلك يدل على أن السموات موضع بهجة الأرواح وأماكن سعادتها ومنها تنزل الخيرات والبركات وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات ولما كان الأمر كذلك كان قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء من أعظم أنواع الوعيد والتهديد
أما قوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( الولوج ) الدخول والجمل مشهور و ( السم ) بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين سَمّ بالضم وقال صاحب ( الكشاف ) يروي سَمّ بالحركات الثلاث وكل ثقب في البدن لطيف فهو ( سم ) وجمعه سموم ومنه قيل السم القاتل لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى(14/63)
القلب و الْخِيَاطِ ما يخاط به قال الفراء ويقال خياط ومخيط كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر جسم الجمال وأحلام العصافير
فجسم الجمل أعظم الأجسام وثقب الإبرة أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان هذا شرطاً محالاً وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوساً منه قطعاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن عباس الْجَمَلُ بوزن القمل وسعيد بن جبير الْجَمَلُ بوزن النغر وقرىء الْجَمَلُ بوزن القفل و الْجَمَلُ بوزن النصب و الْجَمَلُ بوزن الحبل ومعناها القلس الغليظ لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه
المسألة الثالثة القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية فقالوا إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة ألبتة بين أيضاً أنهم يدخلون النار فقال لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ( المهاد ) جمع مهد وهو الفراش قال الأزهري أصل المهد في اللغة الفرش يقال للفراش مهاد لمواتاته والغواشي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف وقيل اشتقاقها من الجهمة وهي الغلظ يقال رجل جهم الوجه غليظه وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب قال المفسرون المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن غواش على وزن فواعل فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع والجمع أثقل من الواحد وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه فزاده ذلك ثقلاً ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل وصار غواش بوزن جناح فدخله(14/64)
التنوين لنقصانه عن هذا المثال
أما قوله وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ قال ابن عباس يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهاً وعلى هذا التقدير فالظالمون ههنا هم الكافرون
( 42 )
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 82 ) وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وقال قوم موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف كأنه قيل لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها وإنما حذف العائد للعلم به
المسألة الثانية معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة والدليل عليه أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه لأن الله تعالى كذبهم في ذلك وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى لكان ذلك تكليف ما لا يطاق لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فذلك تكليفه بما لا يطاق لأنه أمر بتحصيل الحاصل وذلك غير مقدور وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضاً تكليف ما لا يطاق لأن على هذا التقدير لا قدرة للعبد على تكوين(14/65)
ذلك الفعل وتحصيله قالوا وأيضاً إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق ثبت فساد هذين الأصلين
والجواب أنا نقول وهذا الإشكال أيضاً وارد عليكم لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال والثاني باطل لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجباً فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمراً بتحصيل الحاصل وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمراف بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاً فيكون أمراً بالجمع بين النقيضين وهو محال فكل ما تجعلونه جواباً عن هذا السؤال فهو جوابنا عن كلامكم والله أعلم
وأما قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه والغل العقد قال أهل اللغة وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب أي يدخل ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ويقال انغل في الشيء وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد
إذا عرفت هذا فنقول لهذه الآية تأويلان
القول الأول أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ
والقول الثاني أن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة قال صاحب ( الكشاف ) هذا التأويل أولى من الوجه الأول حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضاً مفارقة لحال أهل النار
فإن قالوا كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجات العالية ويرى نفسه محروماً عنها عاجزاً عن تحصيلها ثم أنه لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها فإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يعيدهم الله تعالى ولا يخلق فيهم شهوة الأكل والشرب والوقاع ويغنيهم عنها
قلنا الكل ممكن والله تعالى قادر عليه إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس فظهر الفرق بين البابين
ثم إنه تعالى قال تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ والمعنى أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم بالذات العظيمة وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ من رحمة الله وفضله وإحسانه وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية(14/66)
ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وقال أصحابنا معنى هَدَانَا اللَّهُ أنه أعطى القدرة وضم إليها الداعية الجازمة وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجباً لحصول تلك الفضيلة فإنه لو أعطى القدرة وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضاً لسائر الدواعي الصارفة لم يحصل الفعل أيضاً أما لما خلق القدرة وخلق الداعية الجازمة وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجباً للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وقالت المعتزلة التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال
ثم قال تعالى وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ( ما كنا ) بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام والباقون بالواو والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله مَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ جار مجرى التفسير لقوله هَدَانَا لِهَاذَا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف
المسألة الثانية قوله وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ دليل على أن المهتدي من هداه الله وإن لم يهده الله لم يهتد بل نقول مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر والمحق والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان وخلصها من دركات النيران فلما لم يحمد نفسه البتة وإنما حمد الله فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً وقالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق
ثم قال تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى أو أن يكون من الملائكة والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه
المسألة الثانية ذكر الزجاج في كلمة ( أن ) ههنا وجهين الأول أنها مخففة من الثقيلة والتقدير إنه والمضير للشأن والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول والثاني قال وهو الأجود عندي أن تكون ( أن ) في معنى تفسير النداء والمعنى ونودوا أي تلكم الجنة والمعنى قيل لهم تلكم الجنة كقوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ ( ص 6 ) يعني أي امشوا قال إنما قال ( تلكم ) لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله أُورِثْتُمُوهَا فيه قولان
القول الأول وهو قول أهل المعاني أن معناه صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله والإرث قد يستعمل في اللغة ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا العمل يورثك الشرف(14/67)
ويورثك العار أي يصيرك إليه ومنهم من يقول إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث
والقول الثاني أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم ) وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية فإن الباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تدل على العلية وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء وجوابنا أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر
المسألة الثانية طعن بعضهم فقال هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله وقوله عليه السلام ( لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى ) وبينهما تناقض وجواب ما ذكرنا أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له وأيضاً لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب عام في حق جميع المؤمنين وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول أن الفساق يدخلون الجنة تفضلاً من الله تعالى
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها والثاني باطل بالإجماع والأول لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق والأول باطل لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل والثاني أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة والجمع بينهما محال وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
والجواب هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة والله أعلم(14/68)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ كَافِرُونَ
أعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار قال ابن عباس وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقاً والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات
السؤال الأول إذا كانت الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء
والجواب هذا يصح على قولنا لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك والتزم القاضي ذلك وقال إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعاً من السماع
السؤال الثاني هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض
والجواب أن قوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ يفيد العموم والجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا
السؤال الثالث ما معنى ءانٍ في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا
والجواب إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ ( الأعراف 43 ) وكذلك في قوله أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
السؤال الرابع هلا قيل مَا وَعَدَكُمُ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) كما قيل مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
والجواب قوله مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف ومزيد التشريف لا ئق بحال المؤمنين أما الكافر فهو ليس(14/69)
أهلاً لأن يخاطبه الله تعالى فلهذا السبب لم يذكر الله تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم
أما قوله تعالى قَالُواْ نَعَمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته
فإن قيل لما كانوا عارفين بذاته وصفاته وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) عام في الأحوال كلها وأيضاً فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة
أجاب المتكلمون بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة
واعلم أن المعتزلة الذين يقولون يجب على الله قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلاً قالوا لله تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا وأن لا يقبلها في الآخرة فزال السؤال والله أعلم
المسألة الثانية قال سيبويه نِعْمَ عدة وتصديق وقال الذين شرحوا كلامه معناه إنه يستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً وليس معناه أنه عدة وتصديق معاً ألا ترى أنه إذا قال أتعطيني وقال نعم كان عدة ولا تصديق فيه وإذا قال قد كان كذا وكذا فقلت نعم فقد صدقت ولا عدة فيه وأيضاً إذا استفهمت عن موجب كما يقال أيقوم زيد قلت نعم ولو كان مكان الإيجاب نفياً لقلت بلى ولم تقل نعم فلفظة نعم مختصة بالجواب عن الإيجاب ولفظة بلى مختصة بالنفي كما في قوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 )
المسألة الثالثة قرأ الكسائي نِعْمَ بكسر العين في كل القرآن قال أبو الحسن هما لغتان قال أبو حاتم الكسر ليس بمعروف واحتج الكسائي بأنه روى عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا نعم فقال عمر أما النعم فالإبل قال أبو عبيدة هذه الرواية عن عمر غير مشهورة
أما قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى التأذين في اللغة النداء والتصويت بالإعلام والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها وقالوا في أَذَّنَ مُؤَذّنٌ نادى مناد أسمع الفريقين قال ابن عباس وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور
المسألة الثانية قوله بَيْنَهُمْ يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله أَذِنَ والتقدير أن المؤذن أوقع ذلك(14/70)
الأذان بينهم وفي وسطهم ويحتمل أن يكون صفة لقوله مُؤَذّنٌ والتقدير أن مؤذناً من بينهم أذن بذلك الأذان والأول أولى والله أعلم
أما قوله تعالى أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم ءانٍ مخففة لَّعْنَة ُ بالرفع والباقون مشددة لَّعْنَة ُ بالنصب قال الواحدي رحمه الله من شدد فهو الأصل ومن خفف ءانٍ فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث تقديره أنه لعنه الله ومثله قوله تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) التقدير أنه ولا تخفف أن إلا ويكون معها إضمار الحديث والشأن ويجوز أيضاً أن تكون المخففة هي التي للتفسير كأنها تفسير لما أذنوا به كما ذكرناه في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا وروى صاحب ( الكشاف ) أن الأعمش قرأ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ بكسر ءانٍ على إرادة القول أو على إجراء أَذِنَ مجرى ( قال )
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية تدل على أن ذلك المؤذن أوقع لعنة الله على من كان موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى كونهم ظالمين لأنه قال أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قال أصحابنا المراد منه المشركون وذلك لأن المناظرة المتقدمة إنما وقعت بين أهل الجنة وبين الكفار بدليل أن قول أهل الجنة هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً لا يليق ذكره إلا مع الكفار
وإذا ثبت هذا فقول المؤذن بعده أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يجب أن يكون منصرفاً إليهم فثبت أن المراد بالظالمين ههنا المشركون وأيضاً أنه وصف هؤلاء الظالمين بصفات ثلاثة هي مختصة بالكفار وذلك يقوي ما ذكرناه وقال القاضي المراد منه كل من كان ظالماً سواء كان كافراً أو كان فاسقاً تمسكاً بعموم اللفظ
الصفة الثانية قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ومعناه أنهم يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل
والصفة الثالثة قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا والمراد منه إلقاء الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق
والصفة الرابعة قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ كَافِرُونَ واعلم أنه تعالى لما بين أن تلك اللعنة إنما أوقعها ذلك المؤذن على الظالمين الموصوفين بهذه الصفات الثلاثة كان ذلك تصريحاً بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين وذلك يدل على فساد ما ذكره القاضي من أن ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر والله أعلم
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاٌّ عْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(14/71)
اعلم أن قوله وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ( الحديد 13 )
فإن قيل وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار وقد ثبت أن الجنة فوق السموات وأن الجحيم في أسفل السافلين
قلنا بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب وأما الأعراف فهو جمع عرف وهو كل مكان عال مرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك وكل مرتفع من الأرض عرف وذلك لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه
إذا عرفت هذا فنقول في تفسير لفظ الأعراف قولان
القول الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار وهذا قول ابن عباس وروي عنه أيضاً أنه قال الأعراف شرف الصراط
والقول الثاني وهو قول الحسن وقول الزجاج في أحد قوليه أن قوله وَعَلَى الاْعْرَافِ أي وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم فقيل للحسن هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذيه ثم قال هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معناا أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين أحدهما أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب الثاني أن يقال أنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب أما على التقدير الأول ففيه وجوه أحدها قال أبو مجلز هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار فقيل له يقول الله تعالى وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ وتزعم أنهم ملائكة فقال الملائكة ذكور لا إناث
ولقائل أن يقول الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية وثانيها قالوا إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزاً لهم عن سائر أهل القيامة وإظهاراً لشرفهم وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم وثالثها قالوا إنهم هم الشهداء لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار ثم قال قوم إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم وهذا الوجه باطل لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف اختصاص بهذه المعرفة لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح وأهل الشر والكفر والفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهو تعالى يجلسهم على الأعراف وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل(14/72)
يشهدون على كل أحد بما يليق به ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب إلى الدركات
فإن قيل هذه الوجوه الثلاثة باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء والملائكة والشهداء
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا لا يبعد أن يقال إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم وأما قوله وَهُمْ يَطْمَعُونَ فالمراد من هذا الطمع اليقين ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وذلك الطمع كان طمع يقين فكذا ههنا فهذا تقرير قول من يقول أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة
والقول الثاني وهو قول من يقول أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة وهذا قول حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما واختيار الفراء وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول واحتجوا على فسادّه بوجهين الأول أن قالوا أن قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الأعراف 43 ) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة ولا النار ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق وثانيهما إن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة وأهل النار وذلك تشريف عظيم ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالإشراف ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة فلا يليق بهم ذلك التشريف
والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يكون قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا خطاب مع قوم معينين فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام وإنما أجلسهم عليها لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار وهل النزاع إلا في ذلك فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة
الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف قالوا المراد من أصحاب الأعراف أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار(14/73)
واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول لأن هؤلاء إنما صاروا من أصحاب الأعراف لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بإجهاد فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول وبتقدير أن يصح ذلك الوجه فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها
والوجه الثالث قال عبد الله بن الحرث إنهم مساكين أهل الجنة
والوجه الرابع قال قوم أنهم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف فهذا كله شرح قول من يقول الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار وأما الذين يقولون الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار فهذا القول أيضاً غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب والله أعلم ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم واختلفوا في المراد بقوله بِسِيمَاهُمْ على وجوه
فالقول الأول وهو قول ابن عباس أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة بياض وجهه كما قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد منهم أغر محجلاً من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة وكون عيونهم زرقاً
ولقائل أن يقول إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس وذلك باطل وأيضاً فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص لأن هذه الأحوال أمور محسوسة فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص
والقول الثاني في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضاً بظهور علامات الكفر والفسق عليهم فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وهذا الوجه هو المختار
أما قوله تعالى وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها وعند هذا تم كلام أهل الأعراف
ثم قال لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها ثم إن قلنا أن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وأن أبا بكر وعمر منهم ) وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في(14/74)
الاعراف وهي المواضع العالية الشريفة فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا أنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطعمون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة وأما قوله تعالى وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ فقال الواحدي رحمه الله التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولذلك كان ظرفاً من ظروف المكان يقال فلان تلقاءك كما يقال هو حذاءك وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً ثم نقل الواحدي رحمه الله بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهما قالا لم يأت من المصادر على تفعال ( إلا ) حرفان تبيان وتلقاء فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وترسال وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تمثال وتقصار ومعنى الآية أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات ويتخلص عن العقاب المذكور فيها
وَنَادَى أَصْحَابُ الاٌّ عْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين بقوله وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا ( الأعراف 47 ) أتبعه أيضاً بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام المذكور لا يليق إلا بهم وهو قولهم مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ ولا يليق أيضاً إلا بأكابرهم والمراد بالجمع إما جمع المال وإما الاجتماع والكثرة وَمَا كُنتُمْ والمراد استكبارهم عن قبول الحق واستكبارهم على الناس المحقين وقرىء تستكثرون من الكثرة وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام ثم زادوا على هذا التبكيت وهو قولهم تَسْتَكْبِرُونَ أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم وربما هزؤوا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية لمن كان مستضعفاً عنده قلق لذلك وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه
وأما قوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ فقد اختلفوا فيه فقيل هم أصحاب الأعراف والله تعالى يقول لهم ذلك أو بعض الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بهذا القول وقيل بل يقول بعضهم لبعض والمراد أنه(14/75)
تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم وعلى هذا التقدير فقوله أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ من كلام أصحاب الأعراف وقوله ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ من كلام الله تعالى ولا بد ههنا من إضمار والتقدير فقال الله لهم هذا كما قال يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ ( الأعراف 110 ) وانقطع ههنا كلام الملأ ثم قال فرعون فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( الأعراف 110 ) فاتصل كلامه بكلامهم من غير إظهار فارق فكذا ههنا
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم وقد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب بسبب شدة حر جهنم وقوله أَفِيضُواْ كالدلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار
فإن قيل أسألوا مع الرجاء والجواز ومع اليأس
قلنا ما حكيناه عن ابن عباس يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول وقال القاضي بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزبد وإن علم أنه لا يغيثه وقوله أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل إنه الثمار وقيل إنه الطعام وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب(14/76)
الحديد فيقطع ما في بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فيقول أهل الجنة إن الله حرمهما على الكافرين ويقولون لمالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام ويقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) فيجيبهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر في صفة أهل الجنة أنهم يرون الله عز وجل كل جمعة ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معه الهدايا الشريفة وقال إن نخل الجنة خشبها الزمرد وترابها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم له فهذا صفة أهل الجنة وصفة أهل النار ورأيت في بعض الكتب أن قارئاً قرأ قوله تعالى حكاية عن الكفار أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في تذكرة الأستاذ أبي علي الدقاق فقال الأستاذ هؤلاء كانت رغبتهم وشهوتهم في الدنيا في الشرب والأكل وفي الآخرة بقوا على هذه الحالة وذلك يدل على أن الرجل يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ثم بين تعالى أن هؤلاء الكفار لما طلبوا الماء والطعام من أهل الجنة قال أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ولا شك أن ذلك يفيد الخيبة التامة ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الكفار بأنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وفيه وجهان
الوجه الأول أن الذي اعتقدوا فيه أنه دينهم تلاعبوا به وما كانوا فيه مجدين
والوجه الثاني أنهم اتخذوا اللهو واللعب ديناً لأنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المستهزئين المقتسمين ثم قال وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهو مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غرقاً في طلب الدنيا ثم لما وصف الله تعالى أولئك الكفار بهذه الصفات قال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وفي تفسير هذا النسيان قولان
القول الأول أن النسيان هو الترك والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين
والقول الثاني أن معنى ننساهم كما نسوا أي نعاملهم معاملة من نسي نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون وهذه الآية لطيفة عجيبة وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثاً ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال(14/77)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملاً للمكلف على الحذر والاحتراز وداعياً له إلى النظر والاستدلال بين شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ وهو القرآن فَصَّلْنَاهُ أي ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط فأما قوله عَلَى عِلْمٍ فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة والمنافع المتزايدة وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً قال الزجاج هُدًى في موضع نصب أي فصلناه هادياً وذا رحمة وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) واحتج أصحابنا بقوله فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ على أنه تعالى عالم بالعلم خلافاً لما يقوله المعتزلة من أنه ليس لله علم والله أعلم
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع
فإن قيل كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم
قلنا لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا فلهذا السبب انتظروه وأيضاً إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة وقوله إِلاَّ تَأْوِيلَهُ قال الفراء الضمير في قوله تَأْوِيلِهِ للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 7 ) أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله وقوله يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يريد يوم القيامة قال الزجاج قوله يَوْمٍ نصب بقوله يِقُولُ وأما قوله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه ويجوز أن يكون معنى نَسُوهُ أي تركوا العمل به والإيمان به وهذا كما ذكرنا في قوله كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ(14/78)
والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر والنشر والبعث والقيامة والثواب والعقاب كل ذلك كان حقاً وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء لأنهم شاهدوها وعاينوها وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا هَل لَّنَا مِنَ شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ والمعنى إنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلاً عن الكفر ونطيعه بدلاً عن المعصية
فإن قيل أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) ثم بين تعالى بقوله قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ أن الذين طلبوه لا يكون لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم
ثم قال وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ يريد أنهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا ولم ينتفعوا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها قال الجبائي هذه الآية تدل على حكيمن
الحكم الأول
قال الآية تدل على أنهم كانوا في حال التكليف قادرين على الإيمان والتوبة فلذلك سألوا الرد ليؤمنوا ويتوبوا ولو كانوا في الدنيا غير قادرين كما يقوله المجبرة لم يكن لهم في الرد فائدة ولا جاز أن يسألوا ذلك
الحكم الثاني
أن الآية تدل على بطلان قول المجبرة والذين يزعمون أن أهل الآخرة مكلفون لأنه لو كان كذلك لما سألوا الرد إلى حال وهم في الوقت على مثلها بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال فبطل ما حكي عن النجار وطبقته من أن التكليف باق على أهل الآخرة
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاٌّ مْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(14/79)
اعلم أنا بينا أن مدار أمر القرآن على تقدير هذه المسائل الأربع وهي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر ولا شك أن مدار إثبات المعاد على إثبات التوحيد والقدرة والعلم فلما بالغ الله تعالى في تقرير أمر المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد ومقررة أيضاً لإثبات المعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى حكى الواحدي عن الليث أنه قال الأصل في الست والستة سدس وسدسة أبدل السين تاء ولما كان مخرج الدال والتاء قريباً أدغم أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء عليه أنك تقول في تصغير ستة سديسة وكذلك الأسداس وجميع تصرفاته يدل عليه والله أعلم
المسألة الثانية الْخَلْقِ التقدير على ما قررناه فخلق السموات والأرض إشارة إلى تقدير حالة من أحوالهما وذلك التقدير يحتمل وجوهاً كثيرة أولها تقدير ذواتهما بمقدار معين مع أن العقل يقضي بأن الأزيد منه والأنقص منه جائز فاختصاص كل واحد منهما بمقداره المعين لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وذلك يدل على افتقار خلق السموات والأرض إلى الفاعل المختار وثانيها أن كون هذه الأجسام متحركة في الأزل محال لأن الحركة انتقال من حال إلى حال فالحركة يجب كونها مسبوقة بحالة أخرى والأزل ينافي المسبوقية فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً
إذا ثبت هذا فنقول هذه الأفلاك والكواكب إما أن يقال أن ذواتها كانت معدومة في الأزل ثم وجدت أو يقال إنها وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة ساكنة في الأزل ثم ابتدأت بالحركة وعلى التقديرين فتلك الحركات ابتدأت بالحدوث والوجود في وقت معين مع جواز حصولها قبل ذلك الوقت وبعده وإذا كان كذلك كان اختصاص ابتداء تلك الحركات بتلك الأوقات المعينة تقديراً وخلقاً ولا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر ومختار وثالثها أن أجرام الأفلاك والكواكب والعناصر مركبة من أجزاء صغيرة ولا بد وأن يقال إن بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام وبعضها حصلت على سطوحها فاختصاص حصول كل واحدة من تلك الأجزاء بحيزه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص المخصص القادر المختار ورابعها أن بعض الأفلاك أعلى من بعض وبعض الكواكب حصل في المنطقة وبعضها في القطبين فاختصاص كل واحد منهما بموضعه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص قادر مختار وخامسها أن كل واحد من الأفلاك متحرك إلى جهة مخصوصة وحركة مختصة بمقدار معين مخصوص من البطء والسرعة وذلك أيضاً خلق وتقدير ويدل على وجود المخصص القادر وسادسها أن كل واحد من الكواكب مختص بلون مخصوص مثل كمودة زحل ودرية المشتري وحمرة المريخ وضياء الشمس وإشراق الزهرة وصفرة عطارد وزهور القمر والأجسام متماثلة في تمام الماهية فكان اختصاص كل واحد منها بلونه المعين خلقاً وتقديراً ودليلاً على افتقارها إلى الفاعل المختار وسابعها أن الأفلاك والعناصر مركبة من الأجزاء الصغيرة وواجب الوجود لا يكون أكثر من واحد فهي ممكنة الوجود في ذواتها فكل ما كان ممكناً لذاته فهو محتاج إلى المؤثر والحاجة إلى المؤثر لا تكون في حال البقاء وإلا لزم تكون الكائن فتلك الحاجة لا تحصل إلا في زمان الحدوث أو في زمان العدم وعلى التقديرين فيلزم كون هذه الأجزاء محدثة ومتى كانت محدثة كان حدوثها مختصاً بوقت معين وذلك خلق(14/80)
وتقدير ويدل على الحاجة إلى الصانع القادر المختار وثامنها أن هذه الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فهذه الأجسام محدثة وكل محدث فقد حصل حدوثه في وقت معين وذلك خلق وتقدير ولا بد له من الصانع القادر المختار وتاسعها أن الأجسام متماثلة فاختصاص بعضها بالصفات التي لأجلها كانت سموات وكواكب والبعض الآخر بالصفات التي لأجلها كانت أرضاً أو ماء أو هواء أو ناراً لا بد وأن يكون أمراً جائزاً وذلك لا يحصل إلا بتقدير مقدر وتخصيص مخصص وهو المطلوب وعاشرها أنه كما حصل الامتياز المذكور بين الأفلاك والعناصر فقد حصل أيضاً مثل هذا الامتياز بين الكواكب وبين الأفلاك وبين العناصر بل حصل مثل هذا الامتياز بين كل واحد من الكواكب وذلك يدل على الافتقار إلى الفاعل القادر المختار
واعلم أن الخلق عبارة عن التقدير فإذا دللنا على أن الأجسام متماثلة وجب القطع بأن كل صفة حصلت لجسم معين فإن حصول تلك الصفة ممكن لسائر الأجسام وإذا كان الأمر كذلك كان اختصاص ذلك الجسم المعين بتلك الصفة المعينة خلقاً وتقديراً فكان داخلاً تحت قوله سبحانه إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم
المسألة الثالثة لسائل أن يسأل فيقول كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلاً على إثبات الصانع وبيانه من وجوه الأول أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما فإما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتة والثاني أن العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا بأخبار مخبر صادق وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار فلو جعلنا هذه المقدمة مقدمة في إثبات الصانع لزم الدور والثالث أن حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام
إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع والرابع أنه ما السبب في أنه اقتصر ههنا على ذكر السموات والأرض ولم يذكر خلق سائر الأشياء
السؤال الخامس اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام
والسؤال السادس أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ الْبَصَرُ ( القمر 50 ) وهذا كالمناقض لقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ
والسؤال السابع أنه تعالى خلق السموات والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة فنقول أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ثم نقول
أما السؤال الأول فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام(14/81)
والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام
وأما السؤال الثالث فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً مقدراً فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه فهو وإن كان قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( ق 38 39 ) بعد أن قال قبل هذا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 36 37 ) فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشاً من مشركي العرب إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة كما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلاً قليلاً قال بعده فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين
الوجه الأول أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم وقادر عليم رحيم
الوجه الثاني أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولاً ثم يخلق السموات والأرض بعده ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين
وأما السؤال الرابع فجوابه أن ذكر السموات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضاً على ذكر ما بينهما والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ وقال وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الفرقان 58 59 ) وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( ق 38 )
وأما السؤال الخامس فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار(14/82)
وأما السؤال السادس فجوابه أن قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( القمر 50 ) محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة
وأما السؤال السابع وهو تقدير هذه المدة بستة أيام فهو غير وارد لأنه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزمان لعاد ذلك السؤال وأيضاً قال بعضهم لعدد السبعة شرف عظيم وهو مذكور في تقرير أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين وإذا ثبت هذا قالوا فالأيام الستة في تخليق العالم واليوم السابع في حصول كمال الملك والملكوت وبهذا الطريق حصل الكمال في الأيام السبعة انتهى
المسألة الرابعة في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره
أما قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقراً على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية أما العقلية فأمور أولها أنه لو كان مستقراً على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً وإلا لزم كون العرش داخلاً في ذاته وهو محال وكل ما كان متناهياً فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري فلو كان الباري تعالى متناهياً من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان محدثاً وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالاً وثانيها لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً في كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعاً
بيان فساد القسم الأول أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات وتعالى الله عنه وأيضاً فعلى هذا التقدير تكون السموات حالة في ذاته وتكون الأرض أيضاً حالة في ذاته
إذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو محل السموات إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره فإن كان الأول لزم كون السموات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلاً وكل حالين حلا في محل واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال(14/83)
السموات لا تمتاز عن الأرضين في الذات وذلك باطل وإن كان الثاني لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات فإما أن يقال الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة وهو محال في بديهة العقل وأما إن قيل الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال أنه تعالى متناه من كل الجهات فنقول كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لأجل تخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فهو محدث وأيضاً فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يعقل أن يقال خالق العالم هو الشمس أو القمر أو كوكب آخر وذلك باطل باتفاق
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه متناه من بعض الجوانب وغير متناه من سائر الجوانب فهذا أيضاً باطل من وجوه أحدها أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهياً غير ما صدق عليه كونه غير متناه وإلا لصدق النقيضان معاً وهو محال وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وثانيها أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهياً إما أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه وإما أن لا يكون كذلك والأول باطل لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي وإذا كان كذلك فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو محدث وذلك على الإله القديم محال فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من كل الجهات أو كان متناهياً من بعض الجهات وغير متناه من سائر الجهات فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة محال
والبرهان الثالث لو كان الباري تعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فكان القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة باطلاً
أما بيان فساد القسم الأول فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجوداً مشاراً إليه فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعداً وامتداد والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد وإلا لامتنع حصوله فيه وحينئذ يلزم تداخل البعدين وذلك محال للدلائل الكثيرة المشهورة في هذا الباب وأيضاً فيلزم من كون الباري تعالى قديماً أزلياً كون الحيز والجهة أزليين وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل(14/84)
وأما بيان فساد القسم الثاني فهو من وجهين أحدهما أن العدم نفي محض وعدم صرف وما كان كذلك امتنع كونه ظرفاً لغيره وجهة لغيره وثانيهما أن كل ما كان حاصلاً في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره فلو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كون العدم المحض مشاراً إليه بالحس وذلك باطل فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطين فوجب أن يكون القول به باطلاً
فإن قيل فهذا أيضاً وارد عليكم في قولكم الجسم حاصل في الحيز والجهة
فنقول نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزاً ولا جهة أصلاً ألبتة بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى فسقط هذا السؤال
البرهان الرابع لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز لزم كونه ممكناً لذاته ولما كان هذا محالاً كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالاً
بيان المقام الأول هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى إلا إذا كان مختصاً بالحيز والجهة فنقول لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره كان ممكناً لذاته والدليل عليه أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه فلو كان الواجب لذاته مفتقراً إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان وهو محال فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكناً لذاته لا واجباً لذاته وذلك محال
والوجه الثاني في تقرير هذه الحجة هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة أما عند من يثبت الخلاء فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن وأما عند من ينفي الخلاء فلا لأنه وإن كان معتقداً أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلاً لذلك الحيز إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز وكان ذلك الحيز غنياً تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا الإله تعالى واجب الوجود لذاته
فإن قيل الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه
فنقول هذا باطل قطعاً لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل(14/85)
المحسوسات وذلك لا يقوله عاقل
البرهان الخامس في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصاً بالحيز والجهة نقول الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض والخلاء الصرف وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه ألبتة وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية
وإذا ثبت هذا فنقول لو كان الإله تعالى مختصاً بحيز لكان محدثاً وهذا محال فذاك محال وبيان الملازمة أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لأجل أن مخصصاً خصصه بذلك الحيز وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثاً فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز وثبت أن الحصول في الحيز محدث وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث لزم القطع بأنه لو كان حاصلاً في الحيز لكان محدثاً ولما كان هذا محالاً كان ذلك أيضاً محالاً
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال(14/86)
البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة(14/87)
من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما(14/88)
محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني(14/89)
فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل(14/90)
وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً(14/91)
بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال
البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل
وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
الحجة السادسة عشرة وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جداً وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جداً وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعاً من التأثيرات وأما الهواء فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق وأما النار فإنها أقل كثافة من الهواء فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان وأما الأفلاك فإنها ألطف من الأجرام العنصرية فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيراً وكلما كان أقوى قوة وتأثيراً كان أقل حجمية وجرمية وجسمية وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظناً قوياً أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك ألبتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة وهذا وإن كان بحثاً استقرائياً إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزهاً عن الجسمية والموضع والحيز وبالله التوفيق فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزهاً عن الاختصاص بالحيز والجهة
أما الدلائل السمعية فكثيرة أولها قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) فوصفه بكونه أحداً والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون أنه تعالى ذات واحدة ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة قالوا فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية وأيضاً فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز فيظن أنها أشياء كثيرة ومعلوم أن من جوزه فقد التزم منكراً من القول عظيماً
فإن قالوا إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي وذلك يوجب التغاير وأيضاً فنرى بعضها متحركاً وبعضها ساكناً والمتحرك غير الساكن فوجب القول بالتغاير وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله فظهر الفرق فنقول أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه(14/92)
يفنى ذلك الجزء الآخر وذلك يوجب التغاير فنقول لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ثم إنه حصل ههنا وهناك وأيضاً حصل موصوفاً بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك فأما أن يقال إنه فني في نفسه فهذا غير مسلم وأما قوله نرى بعض الأجسام متحركاً وبعضها ساكناً وذلك يوجب التغاير لأن الحركة والسكون لا يجتمعان فنقول إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة ل يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معاً لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معاً لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ثم مع ذلك يمتلىء العرش منه لم يبعد أيضاً أن يقال العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات وثانيها أنه تعالى قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملاً للإله فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً ومحفوظاً حافظاً وذلك لا يقوله عاقل وثالثها أنه تعالى قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ ( محمد 38 ) حكم بكونه غنياً على الإطلاق وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة ورابعها أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات فإنه لما قال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) ففي المرة الأولى قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( الدخان 7 ) وفي الثانية قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وفي المرة الثالثة قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( الشعراء 28 ) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية وأما فرعون لعنه الله فإنه قال فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( غافر 36 37 ) فطلب الإله في السماء فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وسائر جميع الأنبياء وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة وخامسها أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وكلمة ( ثم ) للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار لزم أن يقال إنه ما كان مستقراً على العرش بل كان معوجاً مضطرباً ثم استوى عليه بعد ذلك وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة والسكون أخرى وذلك لا يقوله عاقل وسادسها هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسماً لكان أبداً غارباً آفلاً وكان منتقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعناً في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلاً في إله العالم فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته وسابعها أنه تعالى ذكر قبل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ شيئاً وبعده شيئاً آخر أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ(14/93)
وقد بينا أن خلق السموات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء أولها قوله يَغْشَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله وعلى قدرته وحكمته وثانيها قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وهو أيضاً من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم وثالثها قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو أيضاً إشارة إلى كمال قدرته وحكمته
إذا ثبت هذا فنقول أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم وآخرها يدل أيضاً على هذا المطلوب وإذ كان الأمر كذلك فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وجب أن يكون أيضاً دليلاً على كمال القدرة والعلم لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقراً على العرش كان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده فإن كونه تعالى مستقراً على العرش لا يمكن جعله دليلاً على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضاً من صفات المدح والثناء لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش فثبت أن كونه جالساً على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء فلو كان المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كونه جالساً على العرش لكان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده وهذا يوجب نهاية الركاكة فثبت أن المراد منه ليس ذلك بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب وثامنها أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وإذا كان الأمر كذلك فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء فلو كان إله العالم موجوداً فوق العرش لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقاً لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقاً لنفسه وذلك محال
وإذا ثبت هذا فنقول قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ آية محكمة دالة على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ من المتشابهات التي يجب تأويلها وهذه نكتة لطيفة ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ( الأنعام 3 ) ثم قال بعده بقليل قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال فكذا ههنا فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله وهو الذي قررناه في تفسير قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه
والقول الثاني أن نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان الأول ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال الْعَرْشِ في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ثم جعل العرش كناية عن(14/94)
نفس الملك يقال ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال وأقول إن الذي قاله حق وصدق وصواب ونظيره قولهم للرجل الطويل فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة ثم قال القفال رحمه الله تعالى والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه فإذا قال إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدة والفكرة والروية وهكذا القول في كل صفاته وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وإنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال ثم قال القفال والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الاْمْرَ ( يونس 3 ) فقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى وهذا يدل على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إشارة إلى ما ذكرناه
فإن قيل فإذا حملتم قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على أن المراد استوى على الملك وجب أن يقال الله لم يكن مستوياً قبل خلق السموات والأرض
قلنا إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادراً على تخليقها وتكوينها وما كان مكوناً ولا موجوداً لها بأعيانها بالفعل لأن إحياء زيد وإماتة عمرو وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات والأرض وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع(14/95)
والوجه الثاني في الجواب أن يقال استوى بمعنى استولى وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا
والوجه الثالث أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى علا واستعلى على الملك فيكون المعنى أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت واعلم أنه تعالى ذكر قوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع إحداها ههنا وثانيها في يونس وثالثها في الرعد ورابعها في طه وخامسها في الفرقان وسادسها في السجدة وسابعها في الحديد وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغاً كثيراً وافياً بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر
أما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص يُغْشِى بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وفي الرعد هكذا قال الواحدي رحمه الله الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف فمن التشديد قوله تعالى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم 54 ) ومن اللغة الثانية قوله فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( يس 9 ) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار وأن يكون المراد النهار بالليل واللفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس وَهُوَ الَّذِى مَدَّ بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه عن كل الجهات فقال يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة
المسألة الثالثة قوله يَطْلُبُهُ حَثِيثًا قال الليث الحث الإعجال يقال حثثت فلاناً فأحتث فهو حثيث ومحثوث أي مجد سريع
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة وذلك هو الحق لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدة حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة فلهذا السبب قال تعالى يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ونظير هذه الآية قوله سبحانه لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( يس 40 ) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها(14/96)
ثم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ ( فصلت 37 ) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 13 ) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف فالأولى أن الشمس لها نوعان من الحركة
أحد النوعين حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة
والنوع الثاني حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة
إذا عرفت هذا فنقول الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ربط به قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة والثانية أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت 12 ) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر
ثم قال بعده أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى أما من عالم الخالق أو من عالم الأمر أما الذي هو من عالم الخلق فالخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق وكل ما كان بريئاً عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب وكذا القول في سائر الكواكب وأيضاً قوله سبحانه وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) إشارة إلى أن الملائكة الذين يقومون بحفظ العرش ثمانية ثم إذا دققت النظر علمت أن عالم الخلق في تسخير الله وعالم الأمر في تدبير الله واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقدير الله فلهذا المعنى قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
ثم قال بعده تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والبركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه فإن حملته على الثبات والدوام فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه(14/97)
في جميع الأمور وأيضاً إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا هو وكل ما سواه ممكن وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه لا جرم كان الثناء المذكور بقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( غافر 64 ) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته
المسألة الثالثة كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوهاً أحدها أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص عن قدرة المدبر الحكيم الرحيم العليم وثانيها أن يقال إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً بطيئاً من المغرب إلى المشرق وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ رتب عليه حكمين أحدهما قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش والثاني قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تنبيهاً على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله وثانيها أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الخفاف ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الأجرام الفلكية الكوكبية فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ورابعها أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة فهذه الحركة تكون في غاية البطء ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع وكل ما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب يدور في دائرة في غاية الصغر وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جداً في مدة ستة وثلاثين ألف سنة فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات وأيضاً فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات(14/98)
مخصوصة فأسرعها هو المنطقة وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه ثم إنه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سبباً لحصول المصالح في هذا العالم كما قال في أول سورة البقرة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( البقرة 29 ) أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم وهو بكل شيء عليم أي هو عالم بجميع المعلومات فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم فهذا أيضاً نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب فتكون داخلة تحت قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم وذلك على خلاف المعتادا فيقال لهذا المسكين إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته وتقريره من وجوه الأول أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها والثاني أنه تعالى قال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ق 6 ) فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها والثالث أنه تعالى قال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( غافر 57 ) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فما كان أعلى شأناً وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب والرابع أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل والخامس أن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى وأيضاً فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل
إذا ثبت هذا فنقول من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر ومن دليل إلى دليل آخر فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه(14/99)
الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة ونسأل الله العون والعصمة
المسألة الرابعة الأمر المذكور في قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قد فسرناه بما سبق ذكره وأما المفسرون فلهم فيه وجوه أحدها المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته وليس المراد من هذا الأمر الكلام ونظيره في قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة
المسألة الخامسة أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سبباً لعمارة هذا العالم والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى وجعله معيناً لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان والقمر كالنائب وسائر الكواكب كالخدم فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم
أما قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئاً وأثر في حدوث شيء فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقاً ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأمر في الحقيقة هو الله سبحانه لا غير وإذا ثبت هذا الأصل تفرعت عليه مسائل إحداها أنه لا إله إلا الله إذ لو حصل إلهان لكان الإله الثاني خالقاً ومدبراً وذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصص الخلق بهذا الواحد وثانيها أنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم وإلا لحصل خالق سوى الله وذلك ضد مدلول هذه الآية وثالثها أن القول بإثبات الطبائع وإثبات العقول والنفوس على ما يقوله الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل وإلا لحصل خالق غير الله ورابعها خالق أعمال العباد هو الله وإلا لحصل خالق غير الله وخامسها القول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل وإلا لحصل مؤثر غير الله ومقدر غير الله وخالق غير الله وإنه باطل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن كلام الله قديم قالوا إنه تعالى ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان الأمر مخلوقاً لما صح هذا التمييز أجاب الجبائي عنه بأنه لا يلزم من أفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق فإنه تعالى قال تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) وآيات الكتاب داخلة في القرآن وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) مع أن الإحسان داخل في العدل وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وهما داخلان تحت الملائكة(14/100)
وقال الكعبي إن مدار هذه الحجة على أن المعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فإن صح هذا الكلام بطل مذهبكم لأنه تعالى قال قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى ( الأعراف 158 ) فعطف الكلمات على الله فوجب أن تكون الكلمات غير الله وكل ما كان غير الله فهو محدث مخلوق فوجب كون كلمات الله محدثة مخلوقة وقال القاضي أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته وقال آخرون لا يبعد أن يقال الأمر وإن كان داخلاً تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال فقوله لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ معناه له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب كان ذلك حسناً مفيداً مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق فكذا ههنا وقال آخرون معنى قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق فكذا قوله وَالاْمْرُ يجب أن يكون معناه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وإذا كان حصول الأمر متعلقاً بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقاً كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقاً بمشيئته كان مخلوقاً أما لو كان أمر الله قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وذلك ينفي ظاهر الآية
والجواب أنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريراً محضاً والأصل عدمه أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة إلا أن الأصل عدم التكرير والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله سبحانه
وإذا ثبت هذا فنقول فعل الطاعة لا يوجب الثواب وفعل المعصية لا يوجب العقاب وأيصال الألم لا يوجب العوض وبالجملة فلا يجب على الله لأحد من العبيد شيء ألبتة إذ لو كان فعل الطاعة يوجب الثواب لتوجه على الله من العبد مطالبة ملزمة وإلزام جازم وذلك ينافي قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكناً من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى
المسألة الخامسة دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره إنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق فوجب أن يكون قادراً على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم(14/101)
في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له يأيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
ثم قال في أثناء هذه القصيدة هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
المسألة السادسة قال قوم الْخَلْقِ صفة من صفات الله وهو غير المخلوق واحتجوا عليه بالآية والمعقول أما الآية فقوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ قالوا وعند أهل السنة الاْمْرُ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون الْخَلْقِ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن فنقول في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحاً فلو كان كونه تعالى خالقاً له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جارياً مجرى قوله أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر وذلك محال باطل لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقاً من قبل الله تعالى فثبت أن كونه تعالى خالقاً للمخلوق مغايراً لذات ذلك المخلوق وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديماً لزم من قدمه قدم المخلوق وإن كان حادثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال
المسألة السابعة ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله فكذلك لا أمر إلا لله وهذا يتأكد بقوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقوله فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِى ّ الْكَبِيرِ ( غافر 12 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) إلا أنه مشكل بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )
والجواب أن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدل على أن أمر الله قد حصل فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره والله أعلم
المسألة الثامنة قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يدل على أن لله أمراً ونهياً على عباده وأن له تكليفاً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف واحتجوا عليه بوجوه أولها أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به أمراً بتحصيل الحاصل وأنه محال وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال وثانيها أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع فلا فائدة في الأمر وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في الأمر به وثالثها أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة إلا إذا صار علم الله جهلاً والعبد لا قدرة له على تجهيل الله وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم فوجب أن يقال لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلاً وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب فيكون هذا الأمر والتكليف إضراراً محضاً من غير فائدة(14/102)
ألبتة وهو لا يليق بالرحيم الحكيم ورابعها أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع ودفع الضرر والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً من غير فائدة وأنه لا يجوز
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده وأن يكلفهم بما شاء واحتج عليه بقوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم وإذا كان مالكاً لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه وذلك مستحسن فقوله سبحانه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء
المسألة التاسعة دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً ولا كما يقولونه أيضاً من حيث العوض والثواب لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولاً ثم ذكر الأمر بعده وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقاً لهم موجداً لهم وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف هذا القدر سقط اعتبار الحسن والقبح والثواب والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف
المسألة العاشرة دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ فدل ذلك على أن له الأمر وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي والخبر والاستخبار ضرورة أنه لا قائل بالفرق
المسألة الحادية عشرة أنه تعالى بين كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم
ثم قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ أي لا خالق إلا هو
ولقائل أن يقول لا يلزم من كونه تعالى خالقاً لهذه الأشياء أن يقال لا خالق على الإطلاق إلا هو فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق فنقول الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقاً لبعض الأشياء وجب كونه خالقاً لكل الممكنات وتقريره أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين أو إلى مؤثر غير متعين والثاني باطل لأن كل ما كان موجوداً في الخارج فهو متعين في نفسه فيلزم منه أن ما لا يكون متعيناً في نفسه لم يكن موجوداً في الخارج وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجاً إلى ذلك المعين فثبت أن الذي يكون مأثراً في وجود شيء واحد هو المؤثر في وجود كل الممكنات(14/103)
أما قوله تعالى تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقاً للسموات والأرض والعرش والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وبين كون الكل مسخراً في قدرته وقهره ومشيئته وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه فقال تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقد تقدم تفسير تَبَارَكَ فلا نعيده
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية رب السموات والأرضين وسائر الأشياء المذكورة ثم ختم الآية بقوله تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والعالم كل موجود سوى الله تعالى فبين كونه رباً وإلهاً وموجوداً ومحدثاً لكل ما سواه ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع فإن الدعاء مخ العبادة فقال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ فيه قولان قال بعضهم اعْبُدُواْ وقال آخرون هو الدعاء ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى وهذه صفة العبادة لأنه يفعل تقرباً وطلباً للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايراً للمعطوف عليه والقول الثاني هو الأظهر لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في الدعاء فمنهم من أنكره واحتج على صحة قوله بأشياء الأول أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضاً في طلبه الثاني أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ثم إنه عند ذلك الدعاء صار مريداً له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته وهو محال لأن على هذا التقدير يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى فيكون العبد متصرفاً في صفة الله بالتبديل والتغيير وهو محال والثالث أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء(14/104)
لأنه منزه عن أن يكون بخيلاً وأن اقتضت الحكمة منعه فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه والرابع أن الدعاء غير الأمر ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب وإنه لا يجوز الخامس الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبهاً له وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل وذلك جهل السادس إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه ولما طلب من الله شيئاً على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات السابع كثيراً ما يظن العبد بشيء كونه نافعاً وخيراً ثم أنه عند دخوله في الوجود يصير سبباً للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه فلم يبق في الدعاء فائدة الثامن أن الدعاء عبارة عن توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته وفي عبوديته وهذه مقامات عالية شريفة وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموماً التاسع روي أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكياً عن الله سبحانه ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء العاشر إن علم الحق محيط بحاجة العبد والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة ويطلب ما يدفع تلك الحاجة وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه ولذلك يقال أن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار قال جبريل عليه السلام ادع ربك فقال الخليل عليه السلام حسبي من سؤالي علمه بحالي فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات وإن كان شقياً في علمه فلا فائدة في تلك العبادات وأيضاً يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز وإن كان جائعاً فلا فائدة في أكل الخبز وكما أن هذا الكلام باطل ههنا فكذا فيما ذكروه بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات وقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد(14/105)
العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال ( ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة ) ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ( غافر 60 ) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) والله أعلم
المسألة الثانية في تقرير شرائط الدعاء
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهداً لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهداً لكون مولاه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص وهو المراد من قوله تعالى وَخُفْيَة ً والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك
المسألة الثالثة ( التضرع ) التذلل والتخشع وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال ( والخفية ) ضد العلانية يقال أخفيت الشيء إذا سترته ويقال خفية أيضاً بالكسر وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه خفية بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام والباقون بالضم وهما لغتان
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء ويدل على وجوه الأول هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقروناً باللإخفاء وظاهر الأمر للوجوب فإن لم يحصل الوجوب فلا أقل من كونه ندباً
ثم قال تعالى بعده وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين وهما التضرع والإخفاء فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء فإن الله لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة فظهر أن قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء
الحجة الثانية أنه تعالى أثنى على زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطه به إليه
الحجة الثالثة ما روى أبو موسى الأشعري أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام ( ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وإنه لمعكم )(14/106)
الحجة الرابعة قوله عليه السلام ( دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية ) وعنه عليه السلام ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) وعن الحسن أنه كان يقول إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره يفقه الكثير وما يشعر به الناس ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همساً لأن الله تعالى قال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وذكر الله عبده زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً
الحجة الخامسة المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصوناً عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها وهي أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صوناً لها عن الرياء وقال أخرون الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال إن كان خائفاً على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صوناً لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله إخفاء التأمين أفضل وقال الشافعي رحمه الله إعلانه أفضل واحتج أبو حنيفة على صحة قوله قال في قوله ( آمين ) وجهان أحدهما أنه دعاء والثاني أنه من أسماء الله فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول
أما قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال
فالقول الأول أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد
والقول الثاني أنها عبارة عن كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب والخير إلى العبد وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا قال الكعبي وأبو الحسين إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة فكونه تعالى مريداً لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها وكونه تعالى مريداً لأفعال غيره كونه آمراً بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفاً بصفة الإرادة وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفاً بصفة المريدية
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه(14/107)
والقول الثالث أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب إليه وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها أقصى ما في الباب أن يقال إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد أقصى ما في الباب أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي ا إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان بل هي رؤية بلا كيف فلم لا يقولون ههنا أيضاً أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة
المسألة الثانية قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المجاوزين ما أمروا به قال الكلبي وابن جريج من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء
المسألة الثالثة اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه فقد اعتدى وتعدى فيدخل تحت قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه فإنه يكون معاقباً والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين الأول أن لفظ الْمُعْتَدِينَ لفظ عام دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الثاني أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا معناه ولا تفسدوا شيئاً في الأرض فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبدعة وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف وإفساد العقول بسبب شرب المكسرات وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة وأما قوله بَعْدَ إِصْلَاحِهَا فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال(14/108)
الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض فيحصل الإفساد بعد الإصلاح وذلك مستكره في بداهة العقول
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً خاصاً دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص
واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى فكذلك في هذه الآية أنها تدل على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة
وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلاً تحت عموم هذه الآية وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات وأيضاً هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين فإنه انعقد وصح وثبت لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح والنص دل على أنه لا يجوز
إذا ثبت هذا فنقول أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وبعموم قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وتحت قوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 المعارج 32 ) وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً دالاً على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح قضينا فيه بالبطلان تقديماً للخاص على العام وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها
ثم قال تعالى وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وفيه سؤالات
السؤال الأول قال في أول الآية أَدْعُو رَبُّكُمْ ثم قال وَلاَ تُفْسِدُواْ ثم قال وَادْعُوهُ وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل
والجواب أن الذين قالوا في تفسير قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفاً من هذا الإشكال(14/109)
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال وإن قلنا المراد من قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا هو الدعاء كان الجواب أن قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقروناً بالتضرع وبالإخفاء ثم بين في قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته
السؤال الثاني أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته وذلك لأن المتكلمين فريقان منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً وهذا قول أهل السنة ومنهم من قال التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح وهذا هو قول المعتزلة
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول فوجه وجوب بعض الأعمال وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ونهيه عما حرمه فمن أتى بهذه العبادات صحت أما من أتى بها خوفاً من العقاب أو طمعاً في الثواب وجب أن لا يصح لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها وأما على القول الثاني فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح فمن أتى بها للخوف من العقاب أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا تصح فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب وجب أن لا يصح
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض وقد ثبت بالدليل فساده فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول
والجواب ليس المراد من الآية ما ظننتم بل المراد وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع
والجواب أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتياً بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف وأيضاً لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة فوجب كونه طامعاً في قبولها فلا جرم
قلنا بأن الداعي لا يكون داعياً إلا إذا كان كذلك فقوله خَوْفًا وَطَمَعًا أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم ويتأكد هذا بقوله يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة إيصال الخير والنعمة فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الفاتحة 1 النمل 30 )(14/110)
المسألة الثانية قال بعض أصحابنا ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة واحتجوا بهذه الآية وبيانه أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريباً من المحسنين أن لا يكون رحمة والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين والعفو عن العذاب رحمة والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار
الجواب أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه فثبت أنه محسن وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار فوجب كون هذا القدر إحساناً فيكون فاعله محسناً
إذا ثبت هذا فنقول كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم
فإن قالوا المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان فنقول هذا باطل لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسناً أن يكون آتياً بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث وذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة الثاني قال الزجاج إنما قال قَرِيبٌ لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر الثالث قال النضر بن شميل الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ( البقرة 275 ) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره قال الشاعر إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح(14/111)
قيل أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم والرابع أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر قال الواحدي أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال تقول العرب هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها
المسألة الخامسة تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة وبعداً من الدنيا فإن الدنيا كالماضي والآخرة كالمستقبل والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل ولذلك قال الشاعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت لا جرم ذكر الله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بناء على هذا التأويل
وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرى ً بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات والشمس والقمر والنجوم أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ومن جملة الآثار العلوية الرياح والسحاب والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات وذلك هو المذكور في هذه الآية
الوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة(14/112)
هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الرّيحَ على لفظ الواحد والباقون الرّيَاحِ على لفظ الجمع فمن قرأ الرّيَاحِ بالجمع حسن وصفها بقوله بَشَرًا فإنه وصف الجمع بالجمع ومن قرأ الرّيحَ واحدة قرأ بَشَرًا جمعاً لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 3 التين 6 ) فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله نَشْراً ( المرسلات 3 ) ففيه قراآت إحداها قراءة الأكثرين نَشْراً بضم النون والشين وهو جمع نشور مثل رسل ورسول والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق ومنه نشر الثوب ونشر الخشبة بالمنشار وقال الفراء النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرىء القيس ونشر العطر
والقراءة الثانية قرأ ابن عامر نَشْراً بضم النون وإسكان الشين فخف العين كما يقال كتب ورسل
والقراءة الثالثة قرأ حمزة نَشْراً بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول والرياح كأنها كانت مطوية فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها فقوله نَشْراً مصدر هو حال من الرياح والتقدير أرسل الرياح منشرات ويجوز أيضاً أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر قال الأعشى
يا عجباً للميت الناشر
فإذا حملته على ذلك وهو الوجه كان المصدر مراداً به الفاعل كما تقول أتاني ركضاً أي راكضاً ويجوز أيضاً أن يقال أن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل وهو الذي ينشر الرياح نشراً
والقراءة الرابعة حكى صاحب ( الكشاف ) عن مسروق نَشْراً بمعنى منشورات فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم ضم نشره
والقراءة الخامسة قراءة عاصم بَشَرًا بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيراً على بشر من قوله تعالى يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ أي تبشر بالمطر والرحمة وروى صاحب ( الكشاف ) بَشَرًا بضم الشين وتخفيفه و بَشَرًا بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ معطوف على قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ثم نقول حد الريح أنه هواء متحرك فنقول كون هذا الهواء متحركاً ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله قالت الفلاسفة ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخيناً قوياً شديداً فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركاً على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من(14/113)
الصعود بل يردها عن سمت حركتها فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد هذا حاصل ما ذكروه وهو باطل ويدل على بطلانه وجوه الأول أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جداً كانت سريعة الانفعال فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جداً وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك فبطل ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت وجب أن تنزل على الاستقامة لأن الأرض جسم ثقيل والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك فإنها تتحرك يمنة ويسرة
الوجه الثالث وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار
والوجه الرابع أنه لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل ما قالوه وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح قال المنجمون إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها وذلك أيضاً بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم وليس كذلك وأيضاً قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ
المسألة الثالثة قوله بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( النمل 63 ) فيه فائدتان إحداهما أن قوله نَشْراً أي منشرة متفرقة فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة وجزء آخر يذهب يسرة وكذا القول في سائر الأجزاء فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار
والفائدة الثانية في الآية أن قوله بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال إن الفتن تحدث(14/114)
بين يدي الساعة يريدون قبيلها والسبب في حسن هذا المجاز أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئاً يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ
فإن قيل فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول ليس في الآية إن هذا التقدم حاصل في كل الأحوال فلم يتوجه السؤال وأيضاً فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً يقال أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب ( الكشاف ) واشتقاق الإقلال من القلة لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً وقوله سَحَابًا ثِقَالاً أي بالماء جمع سحابة والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد إحداها أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر وثانيها أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء وثالثها أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها ورابعها أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها وخامسها أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف وسادسها أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً وسابعها أن هذه الرياح تارة تكون شرقية وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها وثامنها أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب وعن ابن عمر رضي الله عنهما الرياح ثمان أربع منها عذاب وهو القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربعة منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والجنوب من ريح الجنة وعن كعب لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ورحمته هو المطر
إذا عرفت هذا فنقول اختلاف الرياح في الصفات المذكورة مع أن طبيعة الهواء واحدة وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى(14/115)
ثم قال تعالى سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة
فإن قيل السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق ا
والجواب أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً نظراً إلى اللفظ وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً نظراً إلى كونه جمعاً أما ( اللام ) في قوله سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ ففيه قولان قال بعضهم هذه ( اللام ) بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين وقال آخرون هذه ( اللام ) بمعنى من أجل والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء اختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود قال الزجاج وابن الأنباري جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لإنزال الماء
ثم قال فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ الكناية عائدة إلى الماء لأن إخراج الثمرات كان بالماء قال الزجاج وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد وعلى القول الأول فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء وقال أكثر المتكلمين إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب وقال جمهور الحكماء لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول بأن طبيعة الماء والتراب واحدة ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس ولحمه وماؤه حار رطب وعجمه بارد يابس فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى وفيه قولان الأول أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء قال مجاهد إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها
والقول الثاني أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً لأن من يقدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق(14/116)
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني فقد أبعد ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة فبعضها يكون بالمشرق وبعضها يكون بالمغرب فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد
فإن قالوا إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمعنى أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها فقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى
ثم قال تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة وشبه نزول القرآن بنزول المطر فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل
والقول الثاني أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات كان ذلك أولى
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار(14/117)
والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه ومنهم من يكون بالعكس والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير كثير الفضول والشر
والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِ وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى
المسألة الثالثة قرىء يَخْرُجُ نَبَاتُهُ أي يخرجه البلد وينبته
أما قوله تعالى وَالَّذِى خَبُثَ قال الفراء يقال خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة وقوله إِلاَّ نَكِدًا النكد العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل وقال الليث النكد الشؤم واللؤم وقلة العطاء ورجل أنكد ونكد قال وأعط ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَالَّذِى خَبُثَ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل أو يقدر ونبات الذي خبث وقرىء نَكِدًا بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ قرىء يُصْرَفْ أي يصرفها الله وإنما ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ومن الوجه الثاني تنبيه(14/118)
على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها فلا جرم قال نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام وفيه فوائد أحدها التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة والمصيبة إذا عمت خفت فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه وثانيها أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين وثالثها التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه ورابعها بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنه عليه السلام كان أمياً وما طالع كتاباً ولا تلمذ أستاذاً فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله وذلك يدل على صحة نبوته
ولقائل أن يقول الأخبار عن الغيوب الماضية لا يدل على المعجز لاحتمال أن يقال إن إبليس شاهد هذه الوقائع فألقاها إليه أما الأخبار عن الغيوب المستقبلة فإنه معجز لأن علم الغيب ليس إلا لله سبحانه وتعالى
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصة آدم عليه السلام وقد سبق ذكرها(14/119)
والقصة الثانية قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ جواب قسم محذوف
فإن قالوا ما السبب في أنهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وذكر هذه اللام بدون قد نادر كقوله حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا
قلنا إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى ( قد ) عند استماع المخاطب كلمة القسم
المسألة الثانية قرأ الكسائي غَيْرُهُ بكسر الراء على أنه نعت للإله على اللفظ والباقون بالرفع على أنه صفة للإله على الموضع لأن تقدير الكلام ما لكم إله غيره وقال أبو علي وجه من قرأ بالرفع قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 62 ) فكما أن قوله إِلاَّ اللَّهُ بدل من قوله مَّا مِن إِلَهٍ كذلك قوله غَيْرُهُ يكون بدلاً من قوله مِنْ إِلَهٍ فيكون غَيْرِ رفعاً بالاستثناء وقال صاحب الكشاف قرىء غَيْرِ الحركات الثلاث وذكر وجه الرفع والجر كما تقدم قال وأما النصب فعلى الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زيداً وغير زيد
المسألة الثالثة قال الواحدي في الكلام حذف وهو خبر مَا لأنك إذا جعلت غَيْرُهُ صفة لقوله إِلَهٍ لم يبق لهذا المنفي خبر والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف لأنك إذا قلت زيد العاقل وسكت لم يفد ما لم تذكر خبره ويكون التقدير ما لكم من إله غيره في الوجود أقول اتفق النحويون على أن قولنا لا إله إلا الله لا بد فيه من إضمار والتقدير لا إله في الوجود أو لا إله لنا إلا الله ولم يذكروا على هذا الكلام حجة فإنا نقول لم لا يجوز أن يقال دخل حرف النفي على هذه الحقيقة وعلى هذه الماهية فيكون المعنى أنه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حق الله وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه
فإن قالوا صرف النفي إلى الماهية لا يمكن لأن الحقائق لا يمكن نفيها فلا يمكن أن يقال لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهية وإنما الممكن أن يقال إن تلك الحقائق غير موجودة ولا حاصلة وحينئذ يجب إضمار الخبر
فنقول هذا الكلام بناء على أن الماهية لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ولك باطل قطعاً إذ لو كان الأمر كذلك لوجب امتناع ارتفاع الوجود لأن الوجود أيضاً حقيقة من الحقائق وماهية فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيات
فإن قالوا إذا قلنا لا رجل وعنينا به نفي كونه موجوداً فهذا النفي لم ينصرف إلى ماهية الوجود وإنما انصرف إلى كون ماهية الرجل موصوفة بالوجود
فنقول تلك الموصوفية يستحيل أن تكون أمراً زائداً على الماهية وعلى الوجود إذ لو كانت(14/120)
الموصوفية ماهية والوجود ماهية أخرى لكانت تلك الماهية موصوفة أيضاً بالوجود والكلام فيه كما فيما قبله فيلزم التسلسل ويلزم أن لا يكون الموجود الواحد موجوداً واحداً بل موجودات غير متناهية وهو محال ثم نقول موصوفية الماهية بالوجود إما أن يكون أمراً مغايراً للماهية والوجود وإما أن لا يكون كذلك فإن لم يكن أمراً مغايراً لها فحينئذ يكون لذلك المغاير ماهية ووجود وماهيته لا تقبل الارتفاع وحينئذ يعود السؤال المذكور فثبت بما ذكرنا أن الماهية أن لم تقبل النفي والرفع امتنع صرف حرف النفي إلى شيء من المفهومات فإن كانت الماهية قابلة للنفي والرفع فحينئذ يمكن صرف كلمة ( لا ) في قولنا لا إله إلا الله إلى هذه الحقيقة وحينئذ لا يحتاج إلى التزام الحذف والإضمار الذي يذكره النحويون فهذا كلام عقلي صرف وقع في هذا البحث الذي ذكره النحويون
المسألة الرابعة قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَآ فيه قولان قال ابن عباس بعثنا وقال آخرون معنى الإرسال أنه تعالى حمله رسالة يؤديها فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه الأصل وهذا البحث بناء على مسألة أصولية وهي أنه هل من شرط إرسال الرسول إلى قوم أن يعرفهم على لسانه أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم أوليس ذلك بشرط بل يكون الغرض من بعثة الرسل مجرد تأكيد ما في العقول وهذا الخلاف إنما يليق بتفاريع المعتزلة ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وأصولنا
المسألة الخامسة في الآية فوائد
الفائدة الأولى إنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء أحدها إنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى والثاني إنه حكم أن لا إله غير الله والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد
ثم قال عقيبه إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة وعلى هذا التقدير فهو قد خوفهم بيوم القيامة وهذا هو الدعوى الثالثة أو عذاب يوم الطوفان وعلى هذا التقدير فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ولم يذكر على صحة واحد منها دليلاً ولا حجة فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد فهذا باطل لما أن القول بالتقليد باطل وأيضاً فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل فهذا الدليل غير مذكور
واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة وصحة المعاد وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحداً من الأنبياء لا يدعو أحداً إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب
الفائدة الثانية أنه عليه السلام ذكر أولاً قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وثانياً قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني كالعلة للأول لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً من الله ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله(14/121)
ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي أنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا وحينئذ لا يحسن عبادته فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطاً للعلم بحسن العبادة
الفائدة الثالثة في هذه الآية أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام فكان المعنى أعبدوا الله ما لكم من معبود غيره حتى يتطابق النفي والإثبات ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود وإلا لوجب كون الأصنام آلهة وأن لا يكون الإله إلهاً في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة
واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ هل هو اليقين أو الخوف بمعنى الظن والشك قال قوم المراد منه الجزم واليقين لأنه كان جازماً بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين وقال آخرون بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه الأول إنه إنما قال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ومع هذا التجويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب فوجب أن يذكره بلفظ الخوف والثاني أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفاً مجوزاً أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا والثالث يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ( النحل 50 ) أي يحذرون المعاصي خوفاً من العقاب الرابع إنه بتقدير أن يكون قاطعاً بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب وهو أنه عظيم جداً أو متوسط فكان هذا الشك راجعاً إلى وصف العقاب وهو كونه عظيماً أم لا لا في أصل حصوله
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه فقال قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وقال المفسرون الْمَلاَ الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء والدليل عليه أن قوله مِن قَوْمِهِ يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف وذلك بأن يكونوا هم الذين يملؤن صدور المجالس وتمتلىء القلوب من هيبتهم وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم وتتوجه العيون في المحافل إليهم وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر وقوله إِنَّا لَنَرَاكَ هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية وقوله فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في خطأ ظاهر وضلال بين ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحاً عليه السلام ذكرها وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ
فإن قالوا إن القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
فجوابه أن يقال ليس بي ضلال فلم ترك هذا الكلام وقال ليس بي ضلالة
قلت لأن قوله لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة فكان هذا أبلغ في عموم السلب ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به ووصف نفسه بأشرف الصفات(14/122)
وأجلها وهو كونه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين ذكر ما هو المقصود من الرسالة وهو أمران الأول تبليغ الرسالة والثاني تقرير النصيحة فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو أُبَلّغُكُمْ بالتخفيف من أبلغ والباقون بالتشديد قال الواحدي وكلا الوجهين جاء في التنزيل فالتخفيف قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ( هود 57 ) والتشديد فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 )
المسألة الثانية الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه وأما النصيحة فهو أنه يرغبه في الطاعة ويحذره عن المعصية ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وقوله رِسَالاتِ رَبّى يدل على أنه تعالى حمله أنواعاً كثيرة من الرسالة وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا وقوله وَأَنصَحُ لَكُمْ قال الفراء لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما تقول نصحت لك ويجوز أيضاً نصحتك قال النابغة نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أني أبلغ إليكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح وأدعوكم إلى ما دعاني وأحب إليكم ما أحبه لنفسي
ثم قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان الثاني واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقاباً شديداً خارجاً عما تتصوره عقولكم الثالث يجوز أن يكون المراد واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
اعلم أن قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ يدل على أن مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال وذلك من وجوه أحدها أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من(14/123)
الإرسال هو التكليف والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا منفعة فيه للعابد لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف فيكون التكليف عبثاً والله متعال عن العبث وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة وثانيها أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه فإن كنا مضطرين إليه فعلناه لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر وثالثها أن بتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لأن مهابتهم أشد وطهاراتهم أكمل واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم ورابعها أن بتقدير أن يبعث رسولاً من البشر فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيراً ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ثم أن نوحاً عليه الصلام أزال تعجبهم وقال إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء وهو ينافي التكليف ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) فبقي أن يكون أيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله فهذا هو المراد من قوله لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 )
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية
أما قوله أوعجبتم فالهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل أكذبتم وعجبتم أن جاءكم أي عجبتم أن جاءكم ذكر وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوهاً قال الحسن إنه الوحي الذي جاءهم به وقال آخرون المراد بهذا الذكر المعجز ثم ذلك المعجز يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتاباً وكان ذلك الكتاب معجزاً فسماه الله تعالى ذكراً كما سمي القرآن بهذا الاسم وجعله معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن ذلك المعجز كان شيئاً آخر سوى الكتاب وقوله الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ قال الفراء عَلَى َّ ههنا بمعنى مع ما تقول جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه كلاهما جائز وقال ابن قتيبة أي على لسان رجل منكم كما قال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) أي على لسان رسلك وقال آخرون ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ منزل على رجل وقوله مّنكُمْ أي تعرفون نسبه فهو منكم نسباً وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف وبطهارة أحواله أعلم وبما يقتضي السكون إليه أبصر ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول فقال لِيُنذِرَكُمْ وما لأجله ينذر فقال وَلِتَتَّقُواْ وما لأجله يتقون فقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في(14/124)
دار الآخرة قال الجبائي والكعبي والقاضي هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم التقوى والفوز بالرحمة وذلك يبطل قول من يقول إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد وخلقهم لأجل العذاب والنار
وجواب أصحابنا أن نقول إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح وإن توقف لزم الجبر ومتى لزم ذلك وجب القطع فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر وذلك يبطل مذهبكم ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين وبين العلة في ذلك فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد قال أهل اللغة يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء يَوْمَئِذٍ ( القصص 66 ) وقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا ( الأنعام 104 ) قال زهير وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عَامَيْنِ والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت والعامي على عمي حادث ولا شك أن عماهم كان ثابتاً راسخاً والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ ( هود 36 )
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية وهي قصة هود مع قومه(14/125)
أما قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ففيه أبحاث
البحث الأول انتصب قوله أَخَاهُمْ بقوله أَرْسَلْنَا في أول الكلام والتقدير لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا
البحث الثاني اتفقوا على أن هوداً ما كان أخاً لهم في الدين واختلفوا في أنه هل كان أخا قرابة قريبة أم لا قال الكلبي إنه كان واحداً من تلك القبيلة وقال آخرون إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحداً من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل وما بعثنا إليهم شخصاً من غير جنسهم مثل ملك أو جني
البحث الثالث أخاهم أي صاحبهم ورسولهم والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم ومنه قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) أي صاحبتها وشبيهتها وقال عليه السلام ( إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن ) يريد صاحبهم
البحث الرابع قالوا نسب هود هذا هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف قال ابن إسحق والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت
البحث الخامس اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء الأول في قصة نوح عليه السلام فَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( الأعراف 59 ) وفي قصة هود قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء ( فاء التعقيب ) في كلام نوح دون كلام هود والثاني أن في قصة نوح اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 59 ) وقال في هذه القصة اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريباً فلا جرم اكتفى هود بقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا
والفرق الثالث قال تعالى في قصة نوح قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ وقال في قصة هود قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن
والفرق الرابع أنه تعالى حكى عن قوم نوح أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وحكى عن قوم هود أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ والفرق بين الصورتين أن نوحاً عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان أيضاً مشتغلاً بإعداد السفينة وكان يحتاج إلى أن يتعب نفسه في إعداد السفينة فعند هذا القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأعراف 60 ) ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على(14/126)
ظهور الماء في تلك المفازة أما هود عليه السلام فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم المراد منه القطع والجزم وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وقال الحسن والزجاج كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر
والفرق الخامس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 62 ) وأما هود عليه السلام فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ فنوح عليه السلام قال أَنصَحَ لَكُمْ وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهود عليه السلام لم يقل ذلك ولكنه زاد فيه كونه أميناً والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل
وإذا ثبت هذا فنقول إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( نوح 5 ) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال وَأَنصَحُ لَكُمْ وأما هود عليه السلام فقوله وَأَنَّا لَمَّا نَاصِحٌ يدل على كونه مثبتاً في تلك النصيحة مستقراً فيها أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالاً فحالاً ويوماً فيوماً وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحاً عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهوداً وصف نفسه بكونه أميناً فالفرق أن نوحاً عليه السلام كان أعلى شأناً وأعظم منصباً في النبوة من هود فلم يبعد أن يقال إن نوحاً كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أميناً ومقصود منه أمور أحدها الرد عليهم في قولهم وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وثانيها أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أميناً تقريراً للرسالة والنبوة وثالثها كأنه قال لهم كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ما وجدتم مني غدراً ولا مكراً ولا كذباً واعترفتم لي بكوني أميناً فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب
واعلم أن الأمين هو الثقة وهو فعيل من أمن يأمن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد
واعلم أن القوم لما قالوا له إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى كما قال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 )
أما قوله وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك وذلك يدل على أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز(14/127)
والفرق السادس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 ) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( الأعراف 69 )
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام الأول أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح والثاني قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً وفيه مباحث
البحث الأول الْخَلْقِ في اللغة عبارة عن التقدير فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة فبعضها أعظم وبعضها أضعف
إذا عرفت هذا فنقول لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة قال الكلبي كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً وقال آخرون تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة وكون بعضهم محباً للباقين ناصراً لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها فصح أن يقال وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول لا بد في الآية من إضمار والتقدير واذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بتلك الإنعامان لعلكم تفلحون وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر فوجب أن يكون مجرد التذكر كافياً في حصول الصلاح وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل والله أعلم
البحث الثاني قال ابن عباس اللَّهِ لَعَلَّكُمْ أي نعم الله عليكم قال الواحدي واحد الآلاء إلى وألو وإلى قال الأعشى ف أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحماً ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء واحدها أنا وإني وإني وزاد صاحب ( الكشاف ) في الأمثلة فقال ضلع وأضلاع وعنب وأعناب(14/128)
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هوداً عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات والجماد لا قدرة له على شيء أصلاً وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله وأن لا يعبدوا شيئاً من الأصنام ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد هذه الحجة التي ذكرها ثم أن هوداً عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد فقالوا قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ثم قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وذلك لأنه عليه السلام قال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( المؤمنون 32 ) فقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد فلهذا المعنى قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذباً بدليل أنهم قالوا له وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( الأعراف 66 ) فلما اعتقدوا كونه كاذباً قالوا له فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذباً وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر فلا جرم استعجلوه على هذا الحد
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب لأن العذاب ما كان حاصلاً في ذلك الوقت وقد اختلفوا فيه قال القاضي تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر إلا أنا نقول معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة واعلم أن هذا القول عندنا باطل بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات أحدها أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول(14/129)
العذاب عليهم فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت لا جرم قال هود في ذلك الوقت وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وثانيها أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع ونظيره قولك لمن طلب منك شيئاً قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون ونظيره قوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) بمعنى سيأتي أمر الله وثالثها أنا نحمل قوله وَقَعَ على معنى وجد وحصل والمعنى إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد لأن قولنا حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن
المسألة الثانية الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب العذاب فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير وأيضاً الرجس ضد التزكية والتطهير قال تعالى تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وقال في صفة أهل البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة
إذا ثبت هذا فقوله قد وقع عليكم من ربكم رجس يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة وذلك يدل على أن الخير والشر من الله تعالى قال القفال يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كقوله تعالى فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( التوبة 125 ) أي قد وقع عليكم من الله رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وتماديكم في الغي
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله فهذا الذي قاله القفال أن كان المراد منه ذلك فقد جاء بالوفاق إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وحاصل الكلام في الآية أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفراً وهو المراد من قوله قد وقع عليكم من ربكم رجس ثم خصهم بمزيد الغضب وهو قوله وغضب
ثم قال أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة مع أن معنى الإلهية فيها معدوم وسموا واحداً منها بالعزى مشتقاً من العز والله ما أعطاه عزاً أصلاً وسموا آخر منها باللات وليس له من الإلهية شيء وقوله ما نزل الله بها من سلطان عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيداً مجددا فقال فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام إني معكم من المنتظرين
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال فأنجيناه والذين معه برحمة منا إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع وقطع الدابر هو الاستئصال فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحداً ودابر الشيء آخره(14/130)
فإن قيل لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك وما كانوا مؤمنين
قلنا معناه أنهم مكذبون وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة وهو قصة صالح
أما قوله وإلى ثمود فالمعنى ولقد أرسلنا نوحاً ( الأعراف 59 ) إلى عاد أخاهم هوداً ( الأعراف 65 ) إلى ثمود أخاهم صالحاً ( هود 61 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عمرو بن العلاء سميت ثموداً لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام
المسألة الثانية قرىء وإلى ثمود يمنع التصرف بتأويل القبيلة وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وقد ورد القرآن بهما صريحاً قال تعالى ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ( هود 68 )
واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء
ثم قال قد جاءتكم بينة من ربكم وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة لأن التقليد وحده لو كان كافياً لكانت(14/131)
تلك البينة ههنا لغواً ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال هذه ناقة الله لكم آية وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا أنه تعالى لما أهلك عاداً قام ثمود مقامهم وطال عمرهم وكثر تنعمهم ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم صالحاً وكان منهم فطالبوه بالمعجزة فقال ما تريدون فقالوا تخرج معنا في عيدنا ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم فسألون أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها في يوم وفي اليوم الثاني شرباً لكل القوم قال السدي وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل وكأنها كانت تصب اللبن صباً وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها فقال لهم صالح يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه فنبت نباتاً سريعاً ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء واشتد ذلك عليهم فقال الغلام هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشد عليها فلما بصرت به شدت عليه فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت فذلك قوله فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم فقال لهم صالح إن آية العذابأن تصبحوا غداً حمراً واليوم الثاني صفراً واليوم الثالث سوداً فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا
إذا عرفت هذا فنقول اختلف العلماء في وجه كون الناقة إية فقال بعضهم إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة قال القاضي هذا إن صح فهو معجز من جهات أحدها خروجها من الجبل والثانية كونها لا من ذكر وأنثى والثالثة كمال خلقها من غير تدريج
والقول الثاني أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من الكلأ والحشيش
والقول الثاني أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم وقال الحسن بالعكس من ذلك فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط وهذا الكلام مناف لما تقدم
والقول الرابع أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة والله أعلم(14/132)
المسألة الثانية قوله هذه ناقة الله لكم آية فقوله آية نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية ولفظة ( هذه ) تتضمن معنى الإشارة و آية في معنى دالة فلهذا جاز أن تكون حالاً
فإن قيل تلك الناقة كانت آية لكل أحد فلماذا خص أولئك الأقواك بها فقال هذه ناقة الله لكم آية
قلنا فيه وجوه أحدها أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة وثانيها لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص
فإن قيل ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله
قلنا فيه وجوه قيل أضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً كقوله بيت الله وقيل لأنه خلقها بلا واسطة وقيل لأنها لا مالك لها غير الله وقيل لأنها حجة الله على القوم
ثم قال فذروها تأكل في أرض الله أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئاً من أنواع الأذى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك )
ثم قال تعالى واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد قيل إنه تعالى لما أهلك عاداً عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً
ثم قال وبوأكم في الأرض أنزلكم والمبوأ المنزل من الأرض أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام
ثم قال تتخذون من سهولها قصوراً أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض وتنحتون من الجبال بيوتاً ( الشعراء 149 ) يريد تنحتون بيوتاً من الجبال تسقفونها
فإن قالوا علام انتصب بيوتاً
قلنا على الحال كما يقال خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما وهي من الحال المقدرة لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب والقصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبري وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين
ثم قال فاذكروا آلاء الله يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم وذكر الكل طويل فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها ولا تعثوا في الأرض مفسدين قيل المراد منه النهي عن عقر الناقة والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد(14/133)
قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَة َ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَة َ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلىء القلوب من هيبتهم ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا يريد المساكين الذين آمنوا به وقوله لمن آمن منهم بدل من قوله للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم وكون المؤمنين مستضعفين معناه أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم وهذا ليس فعلاً صادراً عنهم بل عن غيرهم فهو لا يكون صفة ذم في حقهم بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح وقال المستكبرون بل نحن كافرون بما جاء به صالح وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد والإباء والإنكار والكفر وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان والتصديق والانقياد وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى
ثم قال تعالى فعقروا الناقة قال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ولما كان العقر سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم
ثم قال وعتوا عن أمر ربهم يقال عتا يعتو عتواً إذا استكبر ومنه يقال جبار عات قال مجاهد(14/134)
العتو الغلو في الباطل وفي قوله عن أمر ربهم وجهان الأول معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله فذروها تأكل في أرض الله ( الأعراف 83 ) الثاني أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم فكان أمر ربهم بتركها صار سبباً في إقدامهم على ذلك العتو كما يقال الممنوع متبوع وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد
ثم قال تعالى فأخذتهم الرجفة قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة قال تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً ( المزمل 14 ) قال الليث يقال رجف الشيء يرجف رجفاً ورجفانا كرجفان البعير تحت الرحل وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح
ثم قال فأصبحوا في دارهم جاثمين يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب ومررت بدار البزازين وجمع في آية أخرى فقال في ديارهم ( هود 94 ) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به وقوله جاثمين قال أبو عبيدة الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى يقال الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط لترمى فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود ثم اختلفوا فمنهم من قال لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب وقيل بل سقطوا على وجوههم وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد وقيل بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض والكل متقارب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين قال تعالى فأخذتهم الرجفة والفاء للتعقيب وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( هود 65 )
والجواب أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال
السؤال الثاني طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة وهي الرجفة والطاغية والصيحة وزعموا أن ذلك يوجب التناقض
والجواب قال أبو مسلم الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيواناً أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت وقال تعالى إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( العلق 6 7 ) ويقال طغى طغياناً وهو طاغ وطاغية وقال تعالى كذبت ثمود بطغواها ( الشمس 11 ) وقال في غير الحيوان إنا لما طغا الماء ( الحاقة 11 ) أي غلب وتجاوز عن الحد وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض وهي حركة خارجة عن المعتاد فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها وأما الصيحة فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة وأما الصاعقة فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ( النازعات 13 14 ) فبطل ما قاله الطاعن(14/135)
السؤال الثالث أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء وأيضاً شاهدوا أن الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين كان شرباً لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني وذلك أيضاً معجزة قاهرة ثم إن القوم لما نحروها وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول ثم اصفروا في اليوم الثاني ثم اسودوا في اليوم الثالث فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصراً على كفره غير تائب منه
والجواب الأول أن يقال إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحاً في نزول العذاب فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة
ثم قال تعالى فتولى عنهم وفيه قولان الأول أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا والدليل عليه أنه تعالى قال فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم والفاء تدل على التعقيب فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم والثاني أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم بدليل أنه خاطب القوم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال لهم يا قوم والأموات لا يوصفون بالقوم لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام وذلك في حق الميت مفقود والثاني أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز والثالث أنه قال ولكن لا تحبون الناصحين فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم ويمكن أن يجاب عنه فنقول قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع فكذا ههنا والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه وقيل يخف عليه أثر تلك المصيبة وذكروا جواباً آخر وهو أن صالحاً عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر فقيل تتكلم مع هؤلاء الجيف فقال ( ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب )
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة قال النحويون إنما صرف لوط ونوح لخفته فإنه مركب من ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط أتأتون الفاحشة أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وفي قوله ما سبقكم بها من أحد من العالمين وفيه بحثان(14/136)
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض
فإن قيل كيف يجوز أن يقال ما سبقكم بها من أحد العالمين مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبداً
والجواب أنا نرى كثيراً من الناس يستقذر ذلك العمل فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضاً انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه وفيه وجه آخر وهو أن يقال لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة قال الحسن كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء وقال عطاء عن ابن عباس استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض
البحث الثاني قوله ما سبقكم يجوز أن يكون مستأنفاً في التوبيخ لهم ويجوز أن يكون صفة الفاحشة كقوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ( ي س 37 ) وقال الشاعر ولقد أمر على اللئيم يسبني
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم إنكم بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن وقرأ ابن كثير أئنكم بهمزة غير ممدودة وبين الثانية وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف وبين الثانية والباقون بهمزتين على الأصل قال الواحدي من استفهم كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله أتأتون الفاحشة ( الأعراف 80 ) وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء
المسألة الثانية قوله شهوة مصدر قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر لأن قوله أتأتون الرجال معناه أتشتهون شهوة وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال
المسألة الثالثة في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة أولها أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات فإنه لا بد وأن(14/137)
يضع في ذلك الفخ شيئاً يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سبباً لوقوعه في ذلك الفخ فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع
إذا ثبت هذا فنقول لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد لم تحصل الحكمة المطلوبة ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وذلك على خلاف حكم الله فوجب الحكم بتحريمه قطعاً حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد
والوجه الثاني وهو أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال فإذا صار الذكر منفعلاً والأنثى فاعلاً كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة وعلى عكس الحكمة الإلهية
والوجه الثالث الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة فكان ذلك تشبهاً بالبهائم وخروجاً عن الغريزة الإنسانية فكان في غاية القبح
والوجه الرابع هب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه يبقى في إيجاب العار العظيم والعيب الكامل بالمفعول على وجه لا يزول ذلك العيب عنه أبداً لدهر والعاقل لا يرضى لأجل لذة خسيسة منقضية في الحال إيجاب العيب الدائم الباقي بالغير
والوجه الخامس أنه عمل يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول وربما يؤدي ذلك إلى إقدام المفعول على قتل الفاعل لأجل أنه ينفر طبعه عند رؤيته أو على إيجاب إنكائه بكل طريق يقدر عليه أما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب استحكام الألفة والمودة وحصول المصالح الكبيرة كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 )
والوجه السادس أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني وحينئذ لا يكمل الجذب فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري ولا ينفصل ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفاً في الدين يقول إنه تعالى قال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 5 المعارج 29 ) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً سواء كان ذكراً أو أنثى قال ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 165 ) وقوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( الأعراف 80 ) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه وذلك لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى وأيضاً الذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون مملوكاً وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس والترجيح من هذا الجانب لأن قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ شرع محمد وقصة لوط شرع سائر الأنبياء(14/138)
وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء وأيضاً الأصل في المنافع والملاذ الحل وأيضاً الملك مطلق للتصرف فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل والمبالغة في المنع منه والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر كان باطلاً
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ والمعنى كأنه قال لهم أنتم مسرفون في كل الأعمال فلا يبعد منكم أيضاً إقدامكم على هذا الإسراف
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
والمراد منه أخرجوا لوطاً وأتباعه لأنه تعالى في غير هذه السورة قال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ( النمل 56 ) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه وذلك الناهي ليس إلا لوطاً وقومه وفي قوله يَتَطَهَّرُونَ وجوه الأول أن ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر والثاني أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله يَتَطَهَّرُونَ أي يتباعدون عن المعاصي والآثام الثالث أنهم إنما قالوا أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أن قوله فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب قال ابن عباس المراد ابنتاه وقوله إِلاَّ امْرَأَتَهُ أي زوجته يقال امرأة الرجل بمعنى زوجته ويقال رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام تعرف الزوجية وقوله كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ يقال غبر الشيء(14/139)
يغبر غبوراً إذا مكث وبقي قال الهذلي فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية أنها كانت من الغابرين عن النجاة أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة يقال فلان غبر هذا الأمر أي لم يدركه ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب
ثم قال وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا يقال مطرت السماء وأمطرت والأول أفصح وأمطرهم مطراً وعذاباً وكذلك أمطر عليهم والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( الحجر 74 )
ثم قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا
فإن قيل كيف يعتبرون بذلك وقد آمنوا من عذاب الاستئصال
قلنا إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال ويكون ذلك زجراً وتحذيراً
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن اللواطة توجب الحد وقال أبو حنيفة لا توجبه وللشافعي رحمه الله أن يحتج بهذه الآية من وجوه الأول أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي والأصل في الثابت البقاء إلا أن يظهر طريان الناسخ ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم فوجب القول ببقائه الثاني قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا والثالث أنه تعالى قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم ومن المجرمين الذين يعملون عمل قوم لوط لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه فصار تقدير الآية فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص وإذا ظهرت العلة وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ(14/140)
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وقد ذكرنا أن التقدير وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين وذكرنا الوجوه فيه واختلفوا في مدين فقيل أنه اسم البلد وقيل إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام ومدين صار اسماً للقبيلة كما يقال بكر وتميم وشعيب من أولاده وهو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء الأول أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء فقال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني أنه ادعى النبوة فقال قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة لأنه لا بد لمدعي النبوة منها وإلا لكان متنبئاً لا نبياً فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا قال صاحب ( الكشاف ) ومن معجزات شعيب أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا حاربت التنين وأيضاً قال لموسى أن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها منك فكان الأمر كما أخبر عنه ثم قال وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا وبين المعتزلة وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة فهذا الإرهاص عندنا جائز وعند المعتزلة غير جائز فالأحوال التي حكاها صاحب ( الكشاف ) هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز والثالث أنه قال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وههنا سؤالان
السؤال الأول الفاء في قوله فَأَوْفُواْ توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ فكيف الوجه فيه
والجواب كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة فلم يبق لكم فيه عذر فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
السؤال الثاني كيف قال الكيل والميزان ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود
والجواب أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو يسمى ما يكال به بالكيل كما يقال العيش لما(14/141)
يعاش به والرابع قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل والخامس قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة وهما يوجبان الفساد لا جرم قال بعده وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وقد سبق تفسير هذه الكلمة وذكروا فيه وجوهاً فقيل وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن لأن ذلك يتبعه الفساد وقيل أراد به المنع من كل ما كان فساداً حملاً للفظ على عمومه وقيل قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ منع من مفاسد الدنيا وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين واختلفوا في معنى بَعْدَ إِصْلَاحِهَا قيل بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه فنهاهم عن الفساد وقد صارت صالحة وقيل المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة والشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء كأنه تعالى يقول إيصال النفع إلى الكل متعذر وأما كف الشر عن الكل فممكن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة قال ذالِكُمْ وهو إشارة إلى هذه الخمسة والمعنى خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة والمراد أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي إن كنتم مصدقين لي في قولي
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء الأول أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ قولان الأول يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس روي أنهم كانوا يجلسون على(14/142)
الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام والثاني أن يحمل الصراط على مناهج الدين قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وقوله بِكُلّ صِراطٍ يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا وفي مكان كذا وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا فالباء للإلصاق وهو قد التصق بذلك المكان
وأما قوله تُوعَدُونَ فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال والتقدير ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله والحاصل أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض وجب حصول المغايرة بينها فقوله تُوعَدُونَ يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد فقد يكون بالإيعاد بالمضار وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه
أما قوله وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة
ثم قال وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية قال الزجاج وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه كثر عددكم بعد القلة وكثركم بالغني بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة فأما تكثير عددهم بعد القلة فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط فولدت حتى كثر عددهم
ثم قال بعده وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد فقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا وقوله وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً
ثم قال وَإِن كَانَ طَائِفَة ٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَة ٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن لأن قوله فَاصْبِرُواْ تهديد وكذلك قوله حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا والمراد إعلاء درجات المؤمنين وإظهار هوان الكافرين وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة(14/143)
ثم قال وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية والكافر الشقي بأنواع العقوبات ونظيره قوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ ( ص 28 )
قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية وإما أن تعود إلى ملتنا والإشكال فيه أن يقال إن قولهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك وذلك في غاية الفساد وقوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ يدل أيضاً على هذا المعنى
والجواب من وجوه الأول أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم الثاني أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام الثالث أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه فتوهموا أنه كان على دين قومه الرابع لا يبعد أن يقال إن شعيباً كان على شريعتهم ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه الخامس المراد من قوله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء تقول العرب قد عاد إلي من فلان مكروه يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء قال الشاعر فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين الأول قوله وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ الهمزة(14/144)
للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين الثاني قوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب فالعود في ملتكم يبطل النبوة ويزيل الرسالة وقوله إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا فيه وجوه الأول معنى إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على أنه باطل الثاني أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب والثالث أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم أو اعتقدوا أنه كان كذلك فقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا أي حسب معتقدكم وزعمكم
أما قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن عَبْدُ اللَّهِ
فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح أما وجه استدلال أصحابنا بهذه فمن وجهين الأول قوله إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على خلاف مقتضى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا الثاني أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ولما كانت تلك الملة كفراً كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر وذلك غير مذهبنا قال الواحدي ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 ) وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك ) وقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ( يوسف 101 ) أجابت المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء والثاني أن هذا مذكور على طريق التبعيد كما يقال لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً فهو على طريق التبعيد لا على وجه الشرط الثالث أن قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى وكون الضمير أفضل من الإظهار لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل الرابع أن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ ( الأعراف 88 ) المراد الإخراج عن القرية فيحمل قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي القرية لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته الخامس أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر لأن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ معناه أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها وقوله لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي يكون ذلك العود جائزاً(14/145)
والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم ولا يجوز له فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر فكان التقدير إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها والشريعة التي صارت منسوخة لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم
والوجه السادس للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي فقال المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما فقال شعيب وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا مِلَّتِكُمْ ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ لا جرم قال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه فحينئذ نعود إليها فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب وأما المعتزل فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين
الوجه الأول لما قالوا ظاهر قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ولم يكن حراماً قالوا وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله كان حسناً مأذوناً فيه وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى
والوجه الثاني لهم أن قالوا إن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله وإذا كان حصول القسمين بخلق الله لم يبق للفرق بين القسمين فائدة
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب
أما قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه قال القاضي قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا معناه إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء فلذلك أتبعه بهذا القول وقال أصحابنا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله هو أن القوم لما قالوا لشعيب إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا فقال شعيب وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً فربما كان في علمه حصول قسم ثالث وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي لأن قوله عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا لائق بهذا الوجه لا بما قاله القاضي
المسألة الثانية قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله واسِعُ فعل ماض فيتناول كل ماض وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع(14/146)
المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله والشقي من شقي في علم الله
المسألة الثالثة قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون فهذه أقسام أربعة ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه أما الماضي فإنه علم أنه لما كان ماضياً فإنه كيف كان وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حاضراً فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال وبحسب المستقبل وبحسب المعدوم المحض فيكون المجموع ستة عشر ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها فحينئذ يلوح لعقلك من قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله
المسألة الرابعة قال الواحدي قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا منصوب على التمييز
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين الأول بالتوكل على الله فقال عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا فهذا يفيد الحصر أي عليه توكلنا لا على غيره وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب والثاني الدعاء فقال رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي احكم واقض وقال الفراء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أدري قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحك أي أحاكمك قال الزجاج وجائز أن يكون قوله افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين
ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ والمراد منه الثناء على الله واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين فلا شك أن الإيمان كذلك
إذا ثبت هذا فنقول لو كان الموجد للإيمان هو العبد لكان خير الفاتحين هو العبد وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين
وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ(14/147)
اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك حتى أضلوا غيرهم ولاموهم على متابعته فقالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ واختلفوا فقال بعضهم خاسرون في الدين وقال آخرون خاسرون في الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ وهي الزلزلة الشديدة المهلكة فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة كان الهلاك أعظم لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ أي في مساكنهم جَاثِمِينَ أي خامدين ساكنين بلا حياة وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا وفيه بحثان
البحث الأول في قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا قولان أحدهما يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها والثاني المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني قال الشاعر ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وعلى هذا الوجه كان قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها
والقول الثاني قال الزجاج كأن لم يغنوا فيها كأن لم يعيشوا فيها مستغنين يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى وهو من الغني الذي هو ضد الفقر
وإذا عرفت هذا فنقول على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كأن لم يغنوا فيها الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصاً بأولئك المكذبين وذلك يدل على أشياء أحدها أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار والثاني يدل(14/148)
على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي وثالثها يدل على المعجز العظيم في حق شعيب لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ وإنما كرر قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم فيقول الرجل لغيره أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا وأيضاً أن القوم لما قالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون
ثم قال تعالى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك وقد سبق ذكر هذه المسألة قال الكلبي خرج من بين أظهرهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم
ثم قال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ الأسى شدة الحزن قال العجاج وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
القول الأول أنه اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة ثم عزى نفسه وقال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر
والقول الثاني أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فَكَيْفَ ءاسَى عَلَيْكُمْ يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن وثاب فَكَيْفَ بكسر الهمزة
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّبِى ٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَة ِ الْحَسَنَة َ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وأحوال ما جرى على أممهم كان من الجائز أن يظن(14/149)
أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وبين العلة التي بها يفعل ذلك قال تعالى كَافِرِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام وقوله مّن نَّبِى ٍّ فيه حذف وإضمار والتقدير من نبي فكذب أو كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء قال الزجاج البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم والضراء ما نالهم من الأمراض وقيل على العكس ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا معناه يتضرعوا والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى ولما علمت أن قوله لَعَلَّهُمْ لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى وجب حمله على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة وقال أصحابنا لما ثبت بالدليل أن تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيهاً بالعلة والغرض ثم بين تعالى أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد وإنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَة ِ الْحَسَنَة َ ( الأعراف 95 ) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر ومعنى الحسنة والسيئة ههنا الشدة والرخاء قال أهل اللغة السَّيّئَة ُ كل ما يسوء صاحبه و الْحَسَنَة َ ما يستحسنه الطبع والعقل والمعنى أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء أخرى وقوله حَتَّى عَفَواْ قال الكسائي يقال قد عفا الشعر وغيره إذا كثر يعفو فهو عاف ومنه قوله تعالى حَتَّى عَفَواْ يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن تحف الشوارب وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فالمعنى أنهم متى نالهم شدة قالوا ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة وأمن بعد خوف بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال وقوله فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً والمعنى أنهم لما تمردوا على التقديرين أخذهم الله بغتة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم في الحسرة وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(14/150)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم الله بغتة بين في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخيرات فقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْاْ ما نهى الله عنه وحرمه لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ بركات السماء بالمطر وبركات الأرض بالنبات والثمار وكثرة المواشي والأنعام وحصول الأمن والسلامة وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب والأرض تجري مجرى الأم ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره وقوله وَلَاكِن كَذَّبُواْ يعني الرسل فَأَخَذْنَاهُمْ بالجدوبة والقحط بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ من الكفر والمعصية
ثم إنه تعالى أعاد التهديد بعذاب الاستئصال فقال أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم والمقصود أنه تعالى خوفهم بنزول ذلك العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه وقوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا فهي لعب ولهو ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع قرأ أكثر القراء أَوَ أَمِنَ بفتح الواو وهو حرف العطف دخلت عليه همزة الاستفهام كما دخل في قوله أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ( يونس 51 ) وقوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ ( البقرة 100 ) وهذه القراءة أشبه بما قبله وبعده لأن قبله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وما بعده أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ ( الأعراف 100 ) وقرأ ابن عامر أَوَ أَمِنَ ساكنة الواو واستعمل على ضربين أحدهما أن تكون بمعنى أحد الشيئين كقوله زيد أو عمرو جاء والمعنى أحدهما جاء
والضرب الثاني أن تكون للاضراب عما قبلها كقولك أنا أخرج أو أقيم أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة كأنك قلت لا بل أقيم فوجه هذه القراءة أنه جعل ( أو ) للاضراب لا على أنه أبطل الأول وهو الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ ( السجدة 1 2 ) فكان المعنى من هذه الآية استواء هذه الضروب من العذاب وإن شئت جعلت ( أو ) ههنا التي لأحد الشيئين ويكون المعنى أفأمنوا إحدى هذه العقوبات وقوله ضُحًى الضحى صدر النهار وأصله الظهور من قولهم ضحا للشمس إذا ظهر لها
ثم قال تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ وقد سبق تفسير المكر في اللغة ومعنى المكر في حق الله تعالى في سورة آل عمران عند قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) ويدل قوله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون قاله على وجه التحذير وسمي هذا العذاب مكراً توسعاً لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به فسمي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم فلا يخافونه ومن هذه سبيله فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر وفي الآخرة في أشد العذاب(14/151)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملاً ومفصلاً أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء فقرأ بعضهم أَوَلَمْ يَهْدِ بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالنون قال الزجاج إذا قرىء بالياء المعجمة من تحت كان قوله أَن لَّوْ نَشَاء مرفوعاً بأنه فاعله بمعنى أو لم يهد للذين يخلفون أولئك المتقدمين ويرثون أرضهم وديارهم وهذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين إذا قرىء بالنون فهو منصوب كأنه قيل أولم نهد للوارثين هذا الشأن بمعنى أو لم نبين لهم أن قريشاً أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم
المسألة الثانية المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي عقاب ذنوبهم وقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه
المسألة الثالثة استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة قال الجبائي المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان وقال الكعبي إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 )
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة(14/152)
المسألة الرابعة قوله وَنَطْبَعُ هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله فيه قولان
القول الأول أنه منقطع عن الذي قبله لأن قوله أصبنا ماض وقوله بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن بل هو منقطع عما قبله والتقدير ونحن نطبع على قلوبهم
والقول الثاني أنه معطوف على ما قبله قال صاحب ( الكشاف ) هو معطوف على ما دل عليه معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله يَرِثُونَ الارْضَ ثم قال ولا يجوز أن يكون معطوفاً على أَصَبْنَاهُمْ لأنهم كانوا كفاراً وكل كافر فهو مطبوع على قلبه فقوله بعد ذلك وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يجري مجرى تحصيل الحاصل وهو محال هذا تقرير قول صاحب ( الكشاف ) على أقوى الوجوه وهو ضعيف لأن كونه مطبوعاً عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه فهو يكفر أولاً ثم يصير مطبوعاً عليه في الكفر فلم يكن هذا منافياً لصحة العطف
ثم قال تعالى تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا قوله تِلْكَ مبتدأ والقرى صفة و نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ خبر والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام فلم نقصها عليك وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيهاً لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال
ثم عزاه الله تعالى بقوله وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول قال ابن عباس والسدي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب الثاني قال الزجاج فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات الثالث ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنواب ما كذبوا به من قبل إهلاكهم ونظيره قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) الرابع قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضاً الخامس ليؤمنوا في الزمان المستقبل
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ قال الزجاج والكاف في كَذالِكَ نصب والمعنى مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبداً والله أعلم بحقائق الأمور
وَمَا وَجَدْنَا لاًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
فيه أقوال الأول قال ابن عباس يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال(14/153)
أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فلما أخذ الله منهم هذا العهد وأقروا به ثم خالفوا ذلك صار كأنه ما كان لهم عهد فلهذا قال وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ والثاني قال ابن مسعود العهد هنا الإيمان والدليل عليه قوله تعالى إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 87 ) يعني آمن وقال لا إله إلا الله والثالث أن العهد عبارة عن وضع الأدلة الدالة على صحة التوحيد والنبوة وعلى هذا التقدير فالمراد ما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد
ثم قال وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أي وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام
واعلم أن الكناية في قوله مّن بَعْدِهِمْ يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم ذكرهم بإهلاكهم وقوله بِئَايَاتِنَا فيه مباحث
البحث الأول هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره إذ لو لم يكن مختصاً بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره
والبحث الثاني هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة
والبحث الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما أول آياته العصا ثم اليد ضرب بالعصا باب فرعون ففزع منها فشاب رأسه فاستحيا فخضب بالسواد فهو أول من خضب قال وآخر الآيات الطمس قال وللعصا فوائد كثيرة منها ما هو مذكور في القرآن كقوله قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ ( طه 18 ) وذكر الله من تلك المآرب في القرآن قوله اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا ( البقرة 60 ) وذكر ابن عباس أشياء أخرى منها أنه كان يضرب الأرض بها فتنبت ومنها أنه كانت تحارب اللصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه ومنها أنها كانت تشتعل في الليل كاشتعال الشمعة ومنها أنها كانت تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة(14/154)
واعلم أن الفوائد المذكورة في القرآن معلومة فأما الأمور التي هي غير مذكورة في القرآن فكل ما ورد به خبر صحيح فهو مقبول وما لا فلا وقوله أنه كان يضرب بها الأرض فتخرج النبات ضعيف لأن القرآن يدل على أن موسى عليه السلام كان يفزع إلى العصا في الماء الخارج من الحجر وما كان يفزع إليها في طلب الطعام
أما قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي فظلموا بالآيات التي جاءتهم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما كانت تلك الآيات قاهرة ظاهرة ثم إنهم كفروا بها فوضعوا الإنكار في موضع الإقرار والكفر في موضع الإيمان كان ذلك ظلماً منهم على تلك الآيات
ثم قال فَانظُرْ أي بعين عقلك كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ وكيف فعلنا بهم
وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأايَة ٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه كان يقال لملوك مصر الفراعنة كما يقال لملوك فارس الأكاسرة فكأنه قال يا ملك مصر وكان اسمه قايوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان
المسألة الثانية قوله إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ فيه إشارة إلى ما يدل على وجود الإله تعالى فإن قوله رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه وإله يوجده ويخلقه
ثم قال حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق فصار نظم الكلام كأنه قال أنا رسول الله ورسول الله لا يقول إلا الحق ينتج أني لا أقول إلا الحق ولما كانت المقدمة الأولى خفية وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى وهو قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وهي المعجزة الظاهرة القاهرة ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ولما سمع فرعون هذا الكلام قال قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنياً على مقدمات إحداها أن لهذا العالم إلهاً(14/155)
قادراً عالماً حكيماً والثانية أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون رسولاً حقاً والثالثة أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم فهو حق وصدق ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة وهذا يوهم أنه كان مساعداً على صحة سائر المقدمات وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفاً بربه أم لا ولمجيب أن يجيب فيقول إن ظهور المعجزة يدل أولاً على وجود الإله القادر المختار وثانياً على أن الإله جعله قائماً مقام تصديق ذلك الرسول فلعل فرعون كان جاهلاً بوجود الإله القادر المختار وطلب منه إظهار تلك البينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلاً على وجود الإله أولاً وعلى صحة نبوته ثانياً وعلى هذا التقدير لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة كونه مقراً بوجود الإله الفاعل المختار
المسألة الثالثة قرأ نافع حَقِيقٌ عَلَى َّ مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف أما قراءة نافع فحقيق يجوز أن يكون بمعنى فاعل قال الليث حق الشيء معناه وجب ويحق عليك أن تفعل كذا وحقيق علي أن أفعله بمعنى فاعل والمعنى واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ويجوز أن يكون بمعنى مفعول وضع فعيل في موضع مفعول تقول العرب حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيراً أي حق علي ذلك بمعنى استحق
إذا عرفت هذا فنقول حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي قال تعالى طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا وقال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فحقيق يجوز أن يكون موصولاً بحرف على من هذا الوجه وأيضاً فإن قوله حَقِيقٌ بمعنى واجب فكما أن وجب يتعدى بعلي كذلك حقيق إن أريد به وجب يتعدى بعلي وأما قراءة العامة حَقِيقٌ عَلَى َّ بسكون الياء ففيه وجوه الأول أن العرب تجعل الباء في موضع ( علي ) تقول رميت على القوس وبالقوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة قال الأخفش وهذا كما قال وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ( الأعراف 86 ) فكما وقعت الباء في قوله بِكُلّ صِراطٍ موضع ( علي ) كذلك وقعت كلمة ( علي ) موقع الباء في قوله حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ يؤكد هذا الوجه قراءة عبدالله حَقِيقٌ بِأَنَّ لا أَقُولَ وعلى هذه القراءة فالتقدير أنا حقيق بأن لا أقول وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء وخبره أَن لا أَقُولَ الثاني أن الحق هو الثابت الدائم والحقيق مبالغة فيه وكان المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق الثالث الحقيق ههنا بمعنى المحقوق وهو من قولك حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين ولفظة عَلَى َّ ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) وتقول جاءت فلان على هيئته وعادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات فمعنى الآية أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق والله أعلم
أما قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ أي أطلق عنهم وخلهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب فعند هذا الكلام قال فرعون قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ وفيه بحثان
البحث الأول أن لقائل أن يقول كيف قال له فَأْتِ بِهَا بعد قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ(14/156)
وجوابه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فاتني بها وأحضرها عندي ليصح دعواك ويثبت صدقك
والبحث الثاني أن قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ جزاء وقع بين شرطين فكيف حكمه وجوابه أن نظيره قوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وههنا المؤخر في اللفظ يكون متقدماً في المعنى وقد سبق تقرير هذا المعنى فيما تقدم
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت قلب العصا ثعباناً وإظهار اليد البيضاء والكلام في هذه الآية يقع على وجوه الأول أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعباناً وقالوا الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعباناً يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية وذلك باطل وما يفضي إلى الباطل فهو باطل إنما قلنا إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضاً أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة الواحدة والحية الواحدة من الشعير ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيد الذي شاهدناه بالأمس بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون ولأن لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال إن الجبال انقلبت ذهباً ومياه البحار انقلبت دماً ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقاً وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه نقلب تراباً وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ويوجب دخول الإنسان في السفسطة وذلك باطل قطعاً فما يفضي إليه كان أيضاً باطلاً
فإن قال قائل تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء وهذا لزمان ليس كذلك فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال
فالجواب عنه من وجوه الأول أن هذا التجويز إذا كان قائماً في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلاً باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل(14/157)
الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد والثاني أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضاً به القول بصحة النبوة فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة وأوجد شخصاً آخر يساويه في جميع الصفات وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة والثالث وهو أن هذا الزمان وإن لم لكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم فيلزمكم تجويزه فهذا جملة الكلام في هذا المقام
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا وذلك لأنهم جوزوا تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً عاقلاً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار فهذا هو قول أصحابنا
والقول الثاني قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين وقالوا وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوماً لا دافع له وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر وعلى التقديرين فالقول الذي ذكرناه لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر فهذا القول باطل في صريح العقل إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين ومن تجويز انقلاب الجبل ذهباً والبحر دماً فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجباً بالذات وأما أن يكون فاعلاً بالاختيار أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة وتقريره أنه إذا كان مؤثراً ومرجحه موجباً بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سبباً لحدوث المعلول الحادث المتغير
وءذا ثبت هذا فنقول كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية وحينئذ(14/158)
تعود جميع الإلزامات المذكورة وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلاً مختاراً فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنساناً دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهباً والبحر دماً فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة
والقول الثالث وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين ويجوزون انقلاب الماء ناراً وبالعكس ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضراً وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلاً للصفات التي باعتبارها تصير ثعباناً وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعباناً أمراً ممكناً لذاته وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فلزم القطع بكونه تعالى قادراً على قلب العصا ثعباناً وذلك هو المطلوب وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم قوله فَإِذَا هِى َ أي العصا وهي مؤنثة والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء فعن ابن عباس إنها ملأت ثمانين ذراعاً ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعاً ووضع لحيها الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر وصاح فرعون يا موسى خذها فأنا أومن بك فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبيناً وجوه الأول تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات والثاني في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه الثالث المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب
وأما قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله تعالى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ(14/159)
وقوله فَإِذَا هِى َ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء
فإن قيل بم يتعلق قوله لِلنَّاظِرِينَ
قلنا يتعلق بقوله بَيْضَاء والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب وبقي ههنا مباحث فأولها أن انقلاب العصا ثعباناً من كم وجه يدل على المعجز والثاني أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه والثالث أن المعجز الواحد كان كافياً فالجمع بينهما كان عبثاً
وجوابه أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك ومن الملحدين من قال المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي قوة كاملة ومرتبة ظاهرة واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن السحر كان غالباً في ذلك الزمان ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالباً للملك والرياسة
فإن قيل قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه فكيف الجمع بينهما وجوابه من وجهين الأول لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكى الله تعالى قوله ثم وقولهم ههنا والثاني لعل فرعون قاله ابتداء فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة فكذا ههنا
وأما قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه الأول أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيباً لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين أحدهما أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاب للجمع لا للواحد فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيماً لشأنه لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً(14/160)
( نوح 1 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 )
والحجة الثانية أنه تعالى لما ذكر قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قال بعده قَالُواْ أَرْجِهْ ولا شك أن هذا كلام القوم وجعله جواباً عن قولهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فوجب أن يكون القائل لقوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ غير الذي قالوا أرجه وذلك يدل على أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ كلام لغير الملأ من قوم فرعون وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن القوم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ثم أتبعوه بقولهم أَرْجِهْ وَأَخَاهُ فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولاً ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة
والقول الثاني أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ من بقية كلام القوم واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم والثاني أن الرتبة معتبرة في الأمر فوجب أن يكون قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاباً من الأدنى مع الأعلى وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه
وأجيب عن هذا الثاني بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظماً لهم ومعتقداً فيهم ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين أحدهما أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة أي ما ترى أنت وحدك والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله والثاني أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي والله أعلم
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع والكسائي أَرْجِهْ بغير همز وكسر الهاء والإشباع وقرأ عاصم وحمزة أَرْجِهْ بغير الهمز وسكون الهاء وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وأرجئه بالهمز وضم الهاء ثم أن ابن كثير(14/161)
أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون قال الواحدي رحمه الله قَالُواْ أَرْجِهْ مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ومنه قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ ( التوبة 106 ) بِهَا مَن تَشَاء ( الأجزاب 51 ) قرىء في الآيتين باللغتين وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز وسكون الهاء فقال الفراء هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد فيصلح اليوم ويفسده غداً
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون هذه طلحة قد أقبلت وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس وقال الزجاج هذا شعر لا نعرف قائله ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت
المسألة الثانية في تفسير قوله أَرْجِهْ قولان الأول الإرجاء التأخير فقوله أَرْجِهْ أي أخره ومعنى أخره أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم فتصير عجلتك حجة عليك والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام
والقول الثاني وهو قول الكلبي وقتادة أَرْجِهْ احبسه قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس والثاني أن فرعون ما كان قادراً على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا
أما قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة وإنها إذا أمكنت فلا نبوة وإذا تعذرت فقد صحت النبوة وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه فقد سبق الاستقصاء فيه في سورة البقرة
المسألة الثانية نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي أنه قال ختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة
والقول الثاني أنها مفعلة وعلى هذا الوجه فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه فقولنا مدينة من دان مثل معيشة من عاش وجمعها مداين على مفاعل كمعايش غير مهموز ويكون اسماً لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم(14/162)
والقول الثالث قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول والياء التي هي من نفس الكلمة فحذفت الواو لأنها زائدة وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ثم كسروا الدال لتسلم الياء فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل ثم قال الواحدي والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن
المسألة الثالثة وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالاً يحشروا إليك ما فيها من السحرة قال ابن عباس وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ونقل القاضي عن ابن عباس أنهم كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم وكان الذي يعلمهم رجلاً مجوسياً من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وهي قرية بالموصل وأقول هذا النقل مشكل لأن المجوس أتباع زرادشت وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام
أما قوله يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بكل سحار والباقون بكل ساحر فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر ومن قرأ ساحر فحجته قوله وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ ( الأعراف 120 ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ ( الشعراء 40 ) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر واحتجوا أيضاً بقوله سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 116 ) واسم الفاعل من سحروا ساحر
المسألة الثانية الباء في قوله بِكُلّ سَاحِرٍ يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفاً للسحر في الحقيقة ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة
ثم قال تعالى وَجَاء السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم أن لنا لأجراً بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام ثم اختلفوا فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله الاستفهام أحسن في هذا الموضع لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ ( الشعراء 22 ) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه(14/163)
أو تلك بالاستفهام وكما في قوله هَاذَا رَبّى ( الأنعام 77 78 ) والتقدير أهذا ربي وقيل أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً لأنهم قالوا لا بد لنا من أجر والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة
المسألة الثانية لقائل أن يقول هلا قيل وجاء السحرة فرعون قالوا )
وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذ جاؤه
فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجراً أي جعلا على الغلبة
فإن قيل قوله وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف وما المعطوف عليه
وجوابه أنه معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب كأنه قال إيجاباً لقولهم إن لنا لأجراً نعم إن لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي قال المتكلمون وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم وهو حصول القربة
المسألة الثالثة الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فلم لم يقبلوا التراب ذهباً ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب والله أعلم
قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِى َ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ
في الآية مسائل(14/164)
المسألة الأولى قال الفراء والكسائي في باب ( أما وإما ) إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة وإذا كانت مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه وأما الخمر فلا تشربوها وأما زيد فقد خرج
وأما النوع الثاني فتقول إذا كنت مشترطاً إما تعطين زيداً فإنه يشكرك قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ ( الأنفال 57 ) وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو وتقول في التخيير لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها والفرق بين إما إذا أتت للشك وبين أو أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو فصار الشك فيهما جميعاً فأول الإسمين في ( أو ) يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ألا ترى أنك تقول قام أخوك وتسكت ثم تشك فتقول أو أبوك وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول ءانٍ في قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ وسقوطها من قوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التوبة 106 ) فقال الفراء أدخل ءانٍ في أَمَّا في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب كقول القائل اختر ذا أو ذا كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ليس فيه أمر بالتخيير ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا فلذلك لم يكن فيه ( أن ) والله أعلم
المسألة الثانية قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ يريد عصاه وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر والأمر بالكفر كفر وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا
والجواب عنه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا الثاني أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي وعلم موسى عليه السلام أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها يقول له هات وقل واذكرها وبالغ في تقريرها ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة(14/165)
فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه قال القاضي لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه قال الواحدي بل المراد سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها
وأما قوله وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فالمعنى أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي قال المبرد استرهبوهم أرهبوهم والسين زائدة قال الزجاج استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عز وجل إليه مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ قال المحققون إن هذا غير جائز لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف
فإن قيل أليس أنه تعالى قال فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى ( طه 67 )
قلنا ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً وقيل سبعين ألفاً وقيل بضعة وثلاثين ألفاً واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال يريد وألهمنا موسى أن أَلْقِ عَصَاكَ
ثم قال فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه حذف وإضمار والتقدير فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ تَلْقَفْ
المسألة الثانية قرأ حفص عن عاصم تَلْقَفْ ساكنة اللام خفيف القاف والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام وروي عن ابن كثير تَلْقَفْ بتشديد القاف وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء أما من خفف فقال ابن السكيت اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته ورجل لقف سريع الأخذ وقال اللحياني ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى(14/166)
المسألة الثالثة قال المفسرون لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى
المسألة الرابعة قوله مَا يَأْفِكُونَ فيه وجهان الأول معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه قال ابن عباس رضي الله عنهما مَا يَأْفِكُونَ يريد يكذبون والمعنى أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة مَا موصوله والثاني أن يكون مَا مصدرية والتقدير فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك
ثم قال تعالى فَوَقَعَ الْحَقُّ قال مجاهد والحسن ظهر وقال الفراء فتبين الحق من السحر قال أهل المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لوكان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد فلما فقدت ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره لا لأجل السحر فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر قال القاضي قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً
فإن قيل قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يدل على قوة هذا الظهور فكان قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ تكريراً من غير فائدة ا
قلنا المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي فعند ذلك ظهرت الغلبة فلهذا قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ لأنه لا غلبة أظهر من ذلك وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلاً قال الواحدي لفظة مَا في قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يجوز أن تكون بمعنى ( الذي ) فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر كأنه قيل بطل عملهم والله أعلم
وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
في الآية مسائل(14/167)
المسألة الأولى قال المفسرون إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر بلهو أمر إلهي فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى قال المتكلمون وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر علموا أنه من المعجزات الإلهية لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال لأنهم كانوا يقولون لعله أكمل منا في علم السحر فقدر على ما عجزنا عنه فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله تعالى وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قالوا دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين وما ذاك إلا الله رب العالمين فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى قال مقاتل ألقاهم الله تعالى ساجدين وقال المعتزلة الجواب عنه من وجوه الأول أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين فصار كأن ملقياً ألقاهم الثاني قال الأخفش من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين الثالث أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود إلا أنا نقول إن ذلك الملقي هو أنفسهم
والجواب أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال ثم أن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسنداً إلى الله تعالى والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً أنهم صاروا ساجدين ثم ذكر بعده أنهم قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدماً على السجود وجوابه من وجوه الأول أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكراً لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان وعلامة أيضاً على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع
الوجه الثاني لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول
المسألة الرابعة احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي إن أولئك السحرة لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ لم يتم إيمانهم فلما قالوا رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا
وأجاب العلماء عنه بأنهم لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا رَبّ مُوسَى قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا وَهَارُونَ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا(14/168)
برب العالمين وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهرون وقيل خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِأايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية حفص أَمِنتُمْ بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه وَالشُّعَرَاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي أَءمِنتُمْ بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام قال الفراء أما قراءة حفص أَمِنتُمْ بلفظ الخبر من غير مد فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم وأما القراءة بالهمزتين فأصله أَءمِنتُمْ على وزن أفعلتم
المسألة الثانية اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام
فالشبهة الأولى قوله إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ والمعنى أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق
والشبهة الثانية أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه(14/169)
السلام أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق قال الساحر لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما فهذا هو قول فرعون إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام قال القاضي وقوله قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره ثم قال وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين
أما قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لا شبهة في أنه ابتداء وعيد ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل بل فسره فقال لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى وأما الصلب فمعروف فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه الأول أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لأفرادهم بالذكر والثاني أن قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده الثالث ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا هو الأظهر مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام وقال آخرون إنه لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه وهو قولهم لفرعون وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم بل يقتضي خلاف ذلك وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل يقال نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء وقد مر عند قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( المائدة 59 ) قال ابن عباس يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا والمراد ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى
ثم قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا معنى الإفراغ في اللغة الصب يقال درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب وأصله من إفراغ الإناء وهو(14/170)
صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإلأناء قال مجاهد المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أكمل من قوله أنزل علينا صبراً لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه
والفائدة الثانية أن قوله صَبْراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على الكمال والتمام أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) أي على حياة كاملة تامة
والفائدة الثالثة إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه قال القاضي إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر وذلك معلوم في الأدعية
والجواب هذا عدول عن الظاهر ثم الدليل يأباه وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل فيكون الكل من الله تعالى
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ووجه الاستدلال به ظاهر والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق
المسألة الثانية احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد فقال إنهم قالوا أولاً مِنَّا إِلا أَنْ ثم قالوا ثانياً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر والله أعلم
وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه بل خلى سبيله فقال قومه له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وقوله لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك(14/171)
أما قوله وَيَذَرَكَ فالقراءة المشهورة فيه وَيَذَرَكَ بالنصب وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قوله وَيَذَرَكَ عطفاً على قوله لِيُفْسِدُواْ لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته فكأنه تركهم لذلك وثانيها أنه جواب للاستفهام بالواو وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والآخاء
والتقدير أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك قال الزجاج والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى وثالثها النصب بإضمار أن تقديره أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ بالرفع عطفاً على أَتَذَرُ بمعنى أتذره ويذرك أي انطلق له وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك وقرأ الحسن وَيَذَرَكَ بالجزم وقرأ أنس ونذرك بالنون والنصب أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها
وأما قوله وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قال أبو بكر الأنباري كان ابن عمر ينكر قراءة العامة ويقرأ إلاهتك أي عبادتك ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد قال ابن عباس أما قراءة العامة وَءالِهَتَكَ فالمراد جمع إله وعلى هذا التقدير فقد اختلفوا فيه فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ورب هذه الأصنام فذلك قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى وقال الحسن كان فرعون يعبد الأصنام وأقول الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب وأما المجدي في هذا العلم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه فقوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم وقوله مَا عَلِمْتُ بِكُمْ مّنَ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم
واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام وحبسه وإنزال أنواع العذاب به فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفاً من موسى عليه السلام ولكنه قال سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير سَنُقَتّلُ بفتح النون والتخفيف والباقون بضم النون والتشديد على التكثير يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام
المسألة الثانية أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل(14/172)
رهطه وشيعته وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ والمقصود منه ترك موسى وقومه لا من عجز وخوف ولو أراد به البطش لقدر عليه كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه واختلف المفسرون فمنهم من قال كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه فعند ذل فال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما فالأول الاستعانة بالله تعالى والثاني الصبر على بلاء الله وإنما أمرهم أولاً بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء ا تعالى وتقديره واستعداده بمشاهدة قضاء الله خفف عليه أنواع البلاء وأما الذان بشر بهما فالأول قوله إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه وذلك معنى الإرث وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف والثاني قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فقيل المراد أمر الآخرة فقط وقيل المراد أمر الدنيا فقط وهو الفتح والظفر والنصر على الأعداء وقيل المراد مجموع الأمرين وقوله لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة
قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوم موسى عليه السلام لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك لأن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم فقالوا هذا الكلام
فإن قيل أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم(14/173)
والجواب أن موسى عليه السلام لما جاء وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور فلما رأوا أنها ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة بل استكشافاً لكيفية ذلك الوعد والله أعلم
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام عَسَى رَبُّكُمْ قال سيبويه عَسَى طمع وإشفاق قال الزجاج وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب
ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن لفظ عَسَى ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم وهو على الله محال وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الانتظار وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الرؤية ويجب حمل اللفظ ههنا عليها قال الزجاج أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم
فإن قيل إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال لأن الفاء في قوله فَيَنظُرَ للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى
قلنا تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى والله أعلم
وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(14/174)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الأعراف 129 ) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالاً بعد حال إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيهاً للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل خوفاً من نزول هذه المحن بهم فقال وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي السنة على معنيين أحدهما يراد بها الحول والعام والآخر يراد بها الجدب وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف ) وقول عمر رضي الله عنه إنا لا نقع في عام السنة فلما كانت السنة يعني بها الجدب اشتقوا منها كما يشتق من الجدب ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو زيد بعض العرب تقول هذه سنين ورأيت سنيناً فتعرب النون ونحوه قال الفراء ومنه قول الشاعر
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج السنين في كلام العرب الجدوب يقال مستهم السنة ومعناه جدب السنة وشدة السنة
إذا عرفت هذا فنقول قال المفسرون وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ يريد الجوع والقحط عاماً بعد عام فالسنون لأهل البوادي وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لأهل القرى
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله والدليل عليه قوله تعالى وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ( ا ) سراء 67 ) وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ( فصلت 51 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر
أجاب الواحدي عنه بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم لأن ذلك على الله تعالى محال بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان فكذا ههنا والله أعلم
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ قال ابن عباس يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة وَقَالُواْ لَنَا هَاذِهِ أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه وقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ(14/175)
يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أي يتشاءموا به ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله يَطَّيَّرُواْ هو في الأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ في الطائر قولان
القول الأول قال ابن عباس يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه فالطائر ههنا الشؤم ومثله قوله تعالى في قصة ثمود قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ قال الفراء وقد تشاءمت اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا قال الأزهري وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها والتطير ببارحها ونعيق غربانها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة فقال لا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتفاءل ولا يتطير وأصل الفأل الكلمة الحسنة وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد فأثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله ولا بد من ذكر فرق بين البابين والأقرب أن يقال إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير وحركات البهائم فإن أرواحها ضعيفة فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال
القول الثاني في تفسير الطائر قال أبو عبيدة بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ أي حظهم وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه أي حصل له ذلك السهم
واعلم أن على كلا القولين المعنى أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن الكل من الله تعالى وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطونها عن قضاء الله تعالى وتقديره والحق أن الكل من الله لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلاً بكمال الله تعالى
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَة ٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ(14/176)
اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أنواع الجهالة والضلالة وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم وقالوا لموسى إنا لا نقبل شيئاً منها ألبتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة مَهْمَا قولان الأول أن أصلها ( ماما ) الأولى هي ( ما ) الجزاء والثانية هي التي تزاد توكيداً للجزاء كما تزاد في سائر حروف الجزاء كقولهم إما ومما وكيفما قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ( الأنفال 59 ) وهو كقولك إن تثقفنهم ثم أبدلوا من ألف ( ما ) الأولى ( ها ) كراهة لتكرار اللفظ فصار ( مهما ) هذا قول الخليل والبصريين والثاني وهو قول الكسائي الأصل ( مه ) التي بمعنى الكف أي أكفف دخلت على ( ما ) التي للجزاء كأنهم قالوا أكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا
المسألة الثانية قال ابن عباس أن القوم لما قالوا لموسى مهما أتيتنا بآية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها ألبتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلاً ونهاراً سبتاً إلى سبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحراً واحداً فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك فأزال ا لله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط فقالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد فأرسل الله عليهم الجراد فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فأكلت النبات فصرخ أهل مصر فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم فقالوا هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل سبتاً إلى سبت فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه فأرسل الله عليها ريحاً حارة فأحرقتها واحتملتها الريح فألقتها في البحر فلم يؤمنوا فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك فخرج من البحر مثل الليل الدامس ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع فصرخوا إلى موسى عليه السلام وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك فدعا الله تعالى فأمات الضفادع وأرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر ثم أظهروا الكفر والفساد فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دماً فلم يقدروا على الماء العذب وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دماً ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم فقال فرعون لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) إلى آخر الآية فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين وقد وقع في أكثرها اختلافات أما الطوفان فقال الزجاج الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطبقاً بالقوم كلهم كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة فإنه يقال له طوفان وكذلك القتل الذريع طوفان والموت الجارف طوفان وقال الأخفش هو فعلان من(14/177)
الطوف لأنه يطوف بالشيء حتى يعم قال وواحده في القياس طوفانه وقال المبرد الطوفان مصدر مثل ( الرجحان والنقصان ) فلا حاجة إلى أن يطلب له واحداً
إذا عرفت هدا فنقول الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس وقد روى عطاء عنه أنه قال الطوفان هو الموت وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبراً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الطوفان هو الموت ) وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما وأما الجراد فهو معروف والواحدة جرادة ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه وقال اللحياني أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها وأما القمل فقد اختلفوا فيه فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له وهي بنات الجراد وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم فقالوا قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم وعزة فرعون لا نؤمن بك أبداً وقرأ الحسن وَالْقُمَّلَ بفتح القاف وسكون الميم يريد القمل المعروف وأما الدم فما ذكرناه ونقل صاحب ( الكشاف ) أنه قيل سلط الله عليهم الرعاف وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات
وأما قوله تعالى مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ففيه وجوه أحدها مّفَصَّلاَتٍ أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وثانيها مّفَصَّلاَتٍ أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد قال المفسرون كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت وبين العذاب إلى العذاب شهر فهذا معنى قوله مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ قال الزجاج وقوله ءايَاتُ منصوبة على الحال وقوله فَاسْتَكْبَرُواْ يريد عن عبادة الله وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ مصرين على الجرم والذنب ونقل أيضاً أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر
فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها وأيضاً فقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق
والجواب أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة وعلم من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن أحداً منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفراً وعناداً فظهر الفرق والله أعلم(14/178)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ( البقرة 59 ) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلاً بهم وقال سعيد بن جبير الرّجْزَ معناه الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ الرّجْزَ لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها وأما غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبياً مجاب الدعوة ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره فمن هذا الوجه يظهر أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل
وأما قوله تعالى حكاية عنهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ فقال صاحب ( الكشاف ) ما في قوله بِمَا عَهِدَ عِندَكَ مصدرية والمعنى بعهده عندك وهو النبوة وفي هذه الباء وجهان
الوجه الأول أنها متعلقة بقوله ادْعُ لَنَا رَبَّكَ والتقدير ادْعُ لَنَا متوسلاً إليه بعهده عندك
والوجه الثاني في هذه الباء أن تكون قسماً وجوابها قوله لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أي أقسمنا بعهد الله عندك لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وقوله وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ كانوا قد أخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد فوعدوا موسى عليه السلام على دعائه بكشف العذاب عنهم الإيمان به والنخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين شاء وقوله فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ المعنى أنا ما أزلنا عنهم العذاب مطلقاً وما كشفنا عنهم الرجز في جميع الوقائع بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين وعند ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به وقوله إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث وبادروه ولم يؤخروه كما كشفنا عنهم نكثوا(14/179)
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
واعلم أن المعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب واليم البحر قال صاحب ( الكشاف ) اليم البحر الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب وقوله وَكَانُواْ عَنَّا غَافِلِينَ اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله انتَقَمْنَا والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج قال لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم
فإن قيل الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة
قلنا المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها
فإن قيل أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما
قلنا ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معاً دلالة على نفي ما عداه والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
اعلم أن موسى عليه السلام كان قد ذكر لبني إسرائيل قوله عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 129 ) فههنا لما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا(14/180)
والمراد من ذلك الاستضعاف أنه كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة واختلفوا في معنى مشارق الأرض ومغاربها فبعضهم حمله على مشارق أرض الشام ومصر ومغاربها لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون لعنه الله وأيضاً قوله الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا المراد باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام
والقول الثاني المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس وقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ قيل المراد من وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ إلى قوله مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 6 ) والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت على بني إسرائيل مضت عليهم واستمرت من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك وقيل معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله بِمَا صَبَرُواْ أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج وقرأ عاصم في رواية وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبّكَ الْحُسْنَى ونظيره مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( النجم 18 ) وقوله وَدَمَّرْنَا قال الليث الدمار الهلاك التام يقال دمر القوم يدمرون دماراً أي هلكوا وقوله مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس يريد الصانع وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ قال الزجاج يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني قيل وما كانوا يعرشون من الجنات ومنه قوله تعالى جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ ( الأنعام 141 ) وقيل وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وفرعون وقرىء يعرشون بالكسر والضم وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح قال صاحب ( الكشاف ) وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً منه وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَة ٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبساً بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوماً يعكفون على عبادة أصنامهم جهلوا وارتدوا وقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولا(14/181)
شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف
أما قوله تعالى يَعْلَمُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ يقال جاوز الوادي إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره عبر به وقرىء جوزنا بمعنى أجزنا يقال أجاز المكان وجوزه بمعنى جازه الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قال الزجاج يواظبون عليها ويلازمونها يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه عكف يعكف ويعكف ومن هذا قيل لملازم المسجد متعكف وقال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالريف قال ابن جريج كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وخالقاً ومدبراً لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقاً للعالم ومدبراً له ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 )
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول لم كان هذا القول كفراً فنقول أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام
فإن قيل فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم
قلنا بل من بعضهم لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها والقادر على هذه الآشياء ليس إلا الله تعالى فوجب أن لا تليق العبادة إلا به
فإن قالوا إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة
قلنا فعلى هذا التقدير لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنما جعلوها كالقبلة وذلك ينافي قولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن مَا في قوله كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة ويجوز أن تكون موصولة وفي قولهم لَهُمْ ضمير يعود إليه و ءالِهَة ً بدل من ذلك الضمير تقديره كالذي هو لهم آلهة
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ قال الليث التبار الهلاك يقال تبر الشيء يتبر تباراً والتتبير الإهلاك ومنه قوله تعالى تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ويقال للذهب(14/182)
المنكسر المتفتت التبر فقوله مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي مهلك مدمر وقوله وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قيل البطلان عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سبباً لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سبباً لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب والله أعلم
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوهاً أولها أنه حكم عليهم بالجهل فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وثانيها أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك وثالثها أنه قال وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعاً في الدنيا والدين ورابعها ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ والمعنى أن الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الله الذي يكون قادراً على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم وهو المراد من قوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره قال الواحدي رحمه الله يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيت له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ ( التوبة 47 ) أي يبغون لكم وفي انتصاب قوله إِلَهاً وجهان أحدهما الحال كأنه قيل أطلب لكم غير الله معبوداً ونصب غَيْرِ في هذا الوجه على المفعول به الثاني أن ينصب إِلَهاً على المفعول به وَغَيْرُ على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول أبغيكم إلها غير الله وقوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فيه قولان الأول المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم الثاني أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ومثاله رجل تعلم علماً واحداً وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(14/183)
واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى والله أعلم
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وَقَالَ مُوسَى لاًّخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وَعَدَنَا بغير ألف والباقون واعَدْنَا بالألف على المفاعلة وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة
المسألة الثانية اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية
فإن قيل وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر وأيضاً فقوله فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً كلام عار عن الفائدة لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين
قلنا أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب
والوجه الثاني في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي وكلمه أيضاً فيه فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة
والوجه الثالث ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه والدليل عليه قوله تعالى وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى(14/184)
فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة
والوجه الرابع قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى فصار الوعد مختلفاً لاختلاف حال الحاضرين والله أعلم
والجواب عن السؤال الثاني أنه تعالى إنما قال أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً إزالة التوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمة بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام
أما قوله تعالى فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه بحثان
البحث الأول الفرق بين الميقات وبين الوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدرة مقدر أولاً
والبحث الثاني قوله أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد
وأما قوله وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ فقوله هَارُونَ عطف بيان لأخيه وقرىء بالضم على النداء اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى كن خليفتي فيهم وَأَصْلَحَ وكن مصلحاً أو وَأَصْلَحَ ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه
فإن قيل إن هرون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة فكيف جعله خليفة لنفسه فإن شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة
قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة
فإن قيل لما كان هرون نبياً والنبي لا يفعل إلا الأصلاح فكيف وصاه بالإصلاح
قلنا المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) والله أعلم
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(14/185)
اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية
المسألة الأولى دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ومنهم من قال كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون انفقوا على أنه يجب كونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه وذلك أني قلت يوماً إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كان حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيداً ألبتة والثاني يوجب كونها حادثة لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه والثاني حادث لأن كل ما كان وجوده متأخراً عن وجوده غيره فهو حادث فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان الأول أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية الثاني أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير وهو قول المعتزلة
أما القول الثاني وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام فقالت الأشعرية إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا وكما لا يتعذر رؤية ذاته مع أن ذاته ليست جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام ألبتة فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى
المسألة الثانية اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول لأن قوله تعالى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يداً على نفي الحكم عما عداه وقال القاضي بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضاً كلام الله تعالى قال لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضاً فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بد من ظهور هذا المعنى لغيره
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه الأول أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها وحيث سألها(14/186)
علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى قال القاضي الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة أحدها ما قاله الحسن وغيره أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفاً بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السمع وثانيها أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) فسأل موسى الرؤية لا لنفسه فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم وثالثها أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية ومنهم من يقول بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته وإن كانت من فعله كما نقوله في معرفة أهل الآخرة وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي ورابعها المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية قال أصحابنا أما الوجه الأول فضعيف ويدل عليه وجوه الأول إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة وذلك باطل بإجماع المسلمين الثاني أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئياً يوجب تجويز كونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافراً وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل علماً بديهياً ضرورياً ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلاً لموسى عليه السلام لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنوناً وذلك كفر بإجماع الأمة فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالماً بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلاً والله أعلم
وأما التأويل الثاني وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه فهو أيضاً فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ولقال الله تعالى لن يروني فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل والثاني أنه لو كان هذا السؤال طلباً للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) منعهم عنه بقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) والثالث أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئاً من تلك الدلائل ألبتة مع أن ذكرها كان فرضاً مضيقاً كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام وأنه لا يجوز والرابع أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا(14/187)
بنبوة موسى عليه السلام أو ما آمنوا بها فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ
وأما التأويل الثالث فبعيد أيضاً ويدل عليه وجوه الأول أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمراً أنظر إلى أمرك ثم حذف المفعول والمضاف إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا وهو قوله أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى ( الأعراف 143 ) فسوف تراني فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف الثاني أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة والثالث أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد الرابع أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك فثبت أن هذا القول فاسد وأما التأويل الرابع وهو أن يقال المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه فهو أيضاً بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لكان الواجب أن يقول أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة
الحجة الثانية من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله فإنه يقول له هذا لا يؤكل ولا يقول له لا تأكل ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله فلما قال تعالى لَن تَرَانِى ولم يقل لا أرى علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية
الحجة الثالثة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة إنما قلنا إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل بدليل قوله تعالى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها لأنه لما كان ذلك الشرط أمراً جائز الوجود لم يلزم من فرض وقوعه محال فبتقدير حصول ذلك الشرط إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل
فإن قيل إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال حركته محال فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول لا على شرط جائز الحصول فلم يلزم(14/188)
صحة ما قلتموه والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال إنه حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان ساكناً أو متحركاً فإن كان الأول لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقراً ولما لم يكن مستقراً كان متحركاً فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان متحركاً لا ساكناً فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقراً حال كونه ساكناً فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية هو كون الجبل مستقراً حال كونه متحركاً وأنه شرط محال
والجواب هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجوداً كان واجب الوجود ولو أخذته بشرط كونه معدوماً كان واجب العدم فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجوداً أو كونه معدوماً كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطاً في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطاً أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه والله أعلم
الحجة الرابعة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وهذا التجلي هو الرؤية ويدل عليه وجهان الأول إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء وأبصار الشيء أيضاً يجلي لذلك الشيء إلا أن الأبصار في كونه مجلياً أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى الثاني أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود فثبت أن قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئاً إلا أنا نقول لا يمتنع أن يقال إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى والدليل عليه أنه تعالى قال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ ( سبأ 10 ) وكونه مخاطباً بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية أمنا المعتزلة فقالوا إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها فلا حاجة هنا إلى ذكرها وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه الأول التمسك بقوله تعالى لَن تَرَانِى وتقرير الاستدلال أن يقال إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله ألبتة لا في الدنيا ولا في القيامة ومتى ثبت هذا ثبت أن أحداً لا يراه ألبتة ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى فهذه مقدمات ثلاثة
أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه الأول ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة ( لن ) للتأبيد قال(14/189)
الواحدي رحمه الله هذه دعوى باطلة على أهل اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح وقال أصحابنا الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ( البقرة 95 ) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة والثاني أن قوله لَن تَرَانِى يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضاً ضعيف لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه الثالث أن قوله لن أفعل كذا يفيد تأكيد النفي ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ( الحج 73 ) وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية والجواب أن لَنْ لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِى نفياً لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة
أما المقدمة الثانية فقالوا القائل اثنان قائل يقول إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضاً يراه وقائل ينفي الرؤية عن الكل أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل
وأما المقدمة الثالثة فهي أن كل من نفي الوقوع نفي الصحة فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية
الحجة الثانية للقوم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر عند سؤالها صعقاً
والحجة الثالثة أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك وهذه الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيهاً له عن الرؤية فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة
والحجة الرابعة قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن أصحابنا قالوا الرؤية كانت جائزة إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه فهذا جملة الكلام في هذه الآية والله أعلم بالصواب
المسألة الرابعة في البحث عن هذه الآية نقل عن ابن عباس أنه قال جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قال صاحب ( الكشاف ) ثاني مفعولي أَرِنِى محذوف أي أَرِنِى نفسك أَنظُرْ إِلَيْكَ وفي لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول النظر إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى(14/190)
جانب المرئي التماساً لرؤيته وعلى التقدير الأول يكون المعنى أرني حتى أراك وهذا فاسد وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين أحدهما أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى والثاني أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد
والجواب أن قوله أَرِنِى معناه اجعلني متمكناً من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك
السؤال الثاني كيف قال لَن تَرَانِى ولم يقل لن تنظر إلي حتى يكون مطابقاً لقوله أَنظُرْ إِلَيْكَ
والجواب أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه
والسؤال الثالث كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله
والجواب المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية
أما قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فقال الزجاج تَجَلَّى أي ظهر وبان ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ وقوله جَعَلَهُ دَكّا قال الزجاج يجوز دَكّاً بالتنوين و دَكَّاء بغير تنوين أي جعله مدقوقاً مع الأرض يقال دككت الشيء إذا دققته أدكه دكاً والدكاء والدكاوات الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة فعلى هذا الدك مصدر والدكاء اسم ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله جَعَلَهُ دَكّا أنه قال دكه دكاً مصدر مؤكد ويجوز جعله ذا دك قال ومن قرأ دَكَّاء ممدوداً أراد جعله دكاء أي أرضاً مرتفعة وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال جعله تراباً وقوله وَخَرَّ موسَى صَعِقًا قال الليث الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان والصعقة الغشية يقال صعق الرجل وصعق فمن قال صعق فهو صعق ومن قال صعق فهو مصعوق ويقال أيضاً صعق إذا مات ومنه قوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( الزمر 68 ) فسروه بالموت ومنه قوله يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون قال صاحب ( الكشاف ) صعق أصله من الصاعقة ويقال لها الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه
إذا عرفت هذا فنقول فسر ابن عباس قوله تعالى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا بالغشي وفسره قتادة بالموت والأول أقوى لقوله تعالى فَلَمَّا أَفَاقَ قال الزجاج ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من موته ولكن يقال للذي يغشى عليه أنه أفاق من غشيه لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ( البقرة 56 )
أما قوله قَالَ سُبْحَانَكَ أي تنزيهاً لك عن أن يسألك غيرك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إِلَيْكَ وفيه وجهان الأول تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية في الدنيا الثاني تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية بغير إذنك وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا أو يقال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك(14/191)
قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية وهذا أيضاً أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة
واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله اصْطَفَيْتُكَ أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس يريد فضلتك على الناس ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قرأ ابن كثير ونافع برسالتي على الواحد والباقون النَّاسِ بِرِسَالَاتِي على الجمع وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى ومن قرأ برسالتي فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر فيجوز إفرادها في موضع الجمع وإنما قال إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ولم يقل على الخلق لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام
فإن قيل كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيراً من الناس قد ساواه في الرسالة
قلنا إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجوع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص ههنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الكلام بغير واسطة سبباً لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالاً وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ يعني فخذ هذه النعمة ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والله أعلم
وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاٌّ لْوَاحِ مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(14/192)
اعلم أنه تعالى لما بين أنه خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة فقال وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ نقل صاحب ( الكشاف ) عن بعضهم أن موسى خر صعقاً يوم عرفة وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح وقيل سبعة وقيل إنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام وقيل من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء وقال الحسن كانت من خشب نزلت من السماء وقال وهب كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى عليه السلام وأما كيفية الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور
واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه
وأما قوله من كل شيء فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله مِن كُلّ شَى ْء وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين أحدهما مَّوْعِظَة ٌ والأخر تَفْصِيلاً لما يجب أن يعلم من الأحكام فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد ولما قرر ذلك أولاً أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام فقال وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ولما شرح ذلك قال لموسى فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ أي بعزيمة قوية ونية صادقة ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقاً ليكون في هذا التفصيل فائدة ولذلك قال بعض المفسرين إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره وقال بعضهم بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء وإن كان مشاركاً لقومه فيما عداه وفي قوله وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
سؤال وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به وظاهر قوله يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا يقتضي أن فيه ما لبس بأحسن وإنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً الأول أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ( الزمر 55 ) وقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 )
فإن قالوا فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن فقد منع من الأخذ بذلك الحسن وذلك يقدح في كونه حسناً فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض
الوجه الثاني في الجواب قال قطرب يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ( العنكبوت 45 ) وقول الفرزدق بيتا دعائمه أعز وأطول
الوجه الثالث قال بعضهم الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات(14/193)
وأما قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ففيه وجهان الأول أن المراد التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى وعلى هذا التقدير فيه وجهان الأول قال ابن عباس والحسن ومجاهد دار الفاسقين هي جهنم أي فليكن ذكر جهنم حاضراً في خاطركم لتحذروا أن تكونوا منهم والثاني قال قتادة سأدخلكم الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال وقال الكلبي دَارَ الْفَاسِقِينَ هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى
والقول الثاني أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم والله أعلم(14/194)
بداية الجزء الخامس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(15/2)
سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَى ِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( الأعراف 145 ) ذكر في هذه الآية ما يعاملهم به فقال سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وذلك ظاهر وقالت المعتزلة لا يمكن حمل الآية على ما ذكرتموه ويدل عليه وجوه
الوجه الأول قال الجبائي لا يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته لأن قوله سَأَصْرِفُ يتناول المستقبل وقد بين تعالى أنهم كفروا فكذبوا من قبل هذا الصرف لأنه تعالى وصفهم بكونهم متكبرين في الأرض بغير الحق وبأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً فثبت أن الآية دالة على أن الكفر قد حصل لهم في الزمان الماضي فهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله
الوجه الثاني أن قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ مذكور على وجه العقوبة على التكبر والكفر فلو كان المراد من هذا الصرف هو كفرهم لكان معناه أنه تعالى خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ومعلوم أن العقوبة على الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز فثبت أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر(15/3)
الوجه الثالث أنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه فكيف يمكن أن يقول مع ذلك فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الإسراء 94 الكهف 55 ) فثبت أن حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن فوجب حملها على وجوه أخرى
فالوجه الأول قال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به وهو شبيه بقوله بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة
والوجه الثاني في التأويل ما ذكره الجبائي فقال سأصرف هؤلاء المتكبرين على نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدين للأنبياء والمؤمنين وإنما يصرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله
والوجه الثالث أن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات فحينئذ يصرفهم الله عنها
والوجه الرابع أن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها فإذا علم الله ذلك منه صح من الله تعالى أن يصرفه عنه
والوجه الخامس نقل عن الحسن أنه قال إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه فالمراد من قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي هؤلاء فهذا جملة ما قيل في هذا الباب وظهر أن هذه الآية ليس فيها دلالة قوية على صحة ما يقول به في مسألة خلق الأعمال والله أعلم
المسألة الثانية معنى يتكبرون أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبراً وقال بعضهم التكبر إظهار كبر النفس على غيرها وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد وصفة مدح في الله جل جلاله لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق وفي حق غيره باطل
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله بِغَيْرِ الْحَقّ لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة
أما قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي الرُّشْدِ بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين وفرق أبو عمرو بينهما فقال الرُّشْدِ بضم الراء الصلاح لقوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا ( النساء 6 )(15/4)
أي صلاحاً و الرُّشْدِ بفتحهما الاستقامة في الدين قال تعالى مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً ( الكهف 66 ) وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد مثل الحزن والحزن والسقم والقسم وقيل الرُّشْدِ بالضم الاسم وبالفتحتين المصدر
البحث الثاني سَبِيلَ الرُّشْدِ عبارة عن سبيل الهدى والدين الحق والصواب في العلم والعمل و سَبِيلَ الْغَى ّ ما يكون مضاداً لذلك ثم بيّن تعالى أن هذا الصرف إنما كان لأمرين أحدهما كونهم مكذبين بآيات الله والثاني كونهم غافلين عنها والمراد أنهم واظبوا على الإعراض عنها حتى صاروا بمنزلة الغافل عنها والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاٌّ خِرَة ِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ( الأعراف 146 ) بين حال أولئك المكذبين فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب لأن فيهم من يعمل بعض أعمال البر فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبراً أو متواضعاً أو كان قليل الإحسان أو كان كثير الإحسان فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَة ِ يعني بذلك جحدهم للميعاد وجرأتهم على المعاصي فبين تعالى أن أعمالهم محبطة والكلام في حقيقة الإحباط قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه حذف والتقدير هل يجزون إلا بما كانوا يعملون أو على ما كانوا يعملون واحتج أصحابنا بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم في أن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد أن لا يفعل الواجب وإن لم يصدر منه فعل عند ذلك الواجب قالوا هذه الآية تدل على أنه لا جزاء إلا على العمل وليس ترك الواجب بعمل فوجب أن لا يجازي عليه فثبت أن الجزاء إنما حصل على فعل ضده وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء فسقط الاستدلال
وأجاب أصحابنا عن هذا الجواب بأن الجزاء إنما سمي جزاء لأنه يجزي ويكفي في المنع من المنهي وفي الحث على المأمور به فإن ترتب العقاب على مجرد ترك الواجب كان ذلك العقاب كافياً في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء فثبت أنه لا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء والله أعلم
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ(15/5)
اعلم أن المراد من هذه الآية قصة اتخاذ السامري العجل وفيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حُلِيّهِمْ بكسر الحاء واللام وتشديد الياء للاتباع كدلي والباقون حُلِيّهِمْ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي كثدي وثدي وقرأ بعضهم مِنْ حُلِيّهِمْ على التوحيد والحلي اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة
المسألة الثانية قيل إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل فجمع السامري تلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلاهاً يعبدونه فصاغ السامري عجلاً ثم اختلف الناس فقال قوم كان قد أخذ كفاً من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلاهكم وإلاه موسى وقال أكثر المفسرين من المعتزلة إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوف مخصوص يشبه خوار العجل وقال آخرون إنه جعل ذلك التمثال أجوب وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار قال صاحب هذا القول والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال ثم ألقى إلى الناس أن هذا العجل إلاههم وإلاه موسى بقي في لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول لم قيل وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً والمتخذ هو السامري وحده
والجواب فيه وجهان الأول أن الله نسب الفعل إليهم لأن رجلاً منهم باشره كما يقال بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد والثاني أنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم اجتمعوا عليه
السؤال الثاني لم قال مِنْ حُلِيّهِمْ ولم يكن الحلي لهم وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية
والجواب أنه تعالى لما أهلك قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الدخان 25 ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( الشعراء 58 ) وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ ( الدخان 27 28 )
السؤال الثالث هؤلاء الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم
والجواب أن قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً يفيد العموم قال الحسن(15/6)
كلهم عبدوا العجل غير هارون واحتج عليه بوجهين الأول عموم هذه الآية والثاني قول موسى عليه السلام في هذه القصة رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى قال خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدل على من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك وقال آخرون بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 )
السؤال الرابع هل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً على ما قاله بعضهم أو بقي ذهباً كما كان قبل ذلك
والجواب الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين الأول قوله تعالى عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم ومنهم من نازع في ذلك وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك
والحجة الثانية أنه تعالى أثبت له خواراً وذلك إنما يتأتى في الحيوان وأجيب عنه بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه وقرأ علي رضي الله عنه ( جؤار ) بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح فهذا ما قيل في هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلاهاً بقوله أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد وكل من كان كذلك كان إما جماداً وإما حيواناً عاجزاً وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلاهية واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلماً ولا هادياً إلى السبيل لم يكن إلاهاً لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلماً فمن لا يكون متكلماً لم يصح منه الأمر والنهي والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلاهاً وقالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلاهاً أن يكون هادياً إلى الصدق والصواب فمن كان مضلاً عنه وجب أن لا يكون إلاهاً
فإن قيل فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي يجوز أن يتخذ إلاهاً وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلهاً فلا فائدة فيما ذكرتم
والجواب من وجهين الأول لا يبعد أن يكون ذلك شرطاً لحصول الإلهية فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية الثاني أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إلاه والخلق لا يقدرون على الهداية إنما يقدرون على وصف الهداية فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى
واعلم أنه ختم الآية بقوله وَكَانُواْ ظَالِمِينَ أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل والله أعلم(15/7)
وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ أنه اشتد ندمهم على عبادة العجل واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة
فالوجه الأول قال الزجاج معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعاً في اليد فكذا ههنا
والوجه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فيصير ندمه مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها
والوجه الثالث أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ولهذا قالوا سقط المطر ويقال سقط من يدك شيء وأسقطت المرأة فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب وأن ذلك العمل يورثه شرفاً ورفعة فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلاً فاسداً فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل وسقط من فوق إلى تحت فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ كان ذلك منه سقطة شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن بقي أن يقال فما الفائدة في ذكر اليد فنقول اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث إن بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي
والوجه الرابع حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج يقال منه سقطت الأرض كما يقال من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره
والوجه الخامس قال بعض العلماء النادم إنما يقال له سقط في يده لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد والعاجز في حكم الساقط فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع ضلت يده ورجله(15/8)
والوجه السادس إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم كقوله وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( 71 ) أي عليها والله أعلم
ثم قال تعالى وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى ف قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم وقرىء ( لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا ) بالتاء وَرَبُّنَا بالنصب على النداء وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِى َ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا لا يمنع من أن يكون قد عرف(15/9)
خبرهم من قبل في عبادة العجل ولا يوجب ذلك لجواز أن يكون عند الرجوع ومشاهدة أحوالهم صار كذلك فلهذا السبب اختلفوا فيه فقال قوم إنه عند هجومه عليهم عرف ذلك وقال أبو مسلم بل كان عارفاً بذلك من قبل وهذا أقرب ويدل عليه وجوه الأول أن قوله تعالى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا يدل على أنه حال ما كان راجعاً كان غضبان أسفاً وهو إنما كان راجعاً إلى قومه قبل وصوله إليهم فدل هذا على أنه عليه السلام قبل وصوله إليهم كان عالماً بهذه الحالة الثاني أنه تعالى ذكر في سورة طه أنه أخبره بوقوع تلك الواقعة في الميقات
المسألة الثانية في الأسف قولان الأول أن الأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء وعطاء عن ابن عباس واختيار الزجاج واحتجوا بقوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) أي أغضبونا والثاني وهو أيضاً قول ابن عباس والحسن والسدي إن الآسف هو الحزين وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن أبا بكر رجل أسيف أي حزين قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل أسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وقد كان تعالى قال له إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ( طه 85 )
أما بقوله بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى فمعناه بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي وهذا الخطاب إنما يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه ويدل عليه قوله اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى ( الأعراف 142 ) وعلى التقدير الأول يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله وعلى هذا التقدير الثاني يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى وههنا سؤالات
السؤال الأول أين ما يقتضيه ( بئس ) من الفاعل والمخصوص بالذم
والجواب الفاعل مضمر يفسره قوله مَا خَلَفْتُمُونِى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم
السؤال الثاني أي معنى لقوله مِن بَعْدِى بعد قوله خَلَفْتُمُونِى
والجواب معناه من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كانت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأمنعهم من عبادة البقر حين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين
وأما قوله أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ فمعنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته هكذا قاله الواحدي
ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة فلم قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) قال ابن عباس المعنى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له وقال الحسن وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات(15/10)
وقال عطاء يريد أعجلتم سخط ربكم وقال الكلبي أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجباً له وهو أمران الأول أنه قال وَأَلْقَى يريد التي فيها التوراة ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه ثم أنه ألقاها دل ذلك على شدة الغضب لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش روي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يرحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه على ذلك متمسك بما في يده )
ولقائل أن يقول ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه لجراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام
والأمر الثاني من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب
قوله تعالى رَبّكُمْ وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب الصحيح وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة
فإن قيل فلماذا قال ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى
قلنا الجواب عنه أن هرون عليه السلام خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل فقال له ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وما أطاعوني في ترك عبادة العجل وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام
وأما قوله تعالى ابْنَ أُمَّ فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ابْنَ أُمَّ بكسر الميم وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الأضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة كقوله فَبَشّرْ عِبَادِ والباقون بفتح الميم في السورتين وفيه قولان أحدهما أنهما جعلا اسماً واحداً وبنى لكثرة أصحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر وثانيهما أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
وقوله إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء يعني أصحاب العجل ولا تجعلني مع القوم الظالمين الذين عبدوا العجل أي لا تجعلني شريكاً لهم في عقوبتك لهم على فعلهم فعند هذا قال موسى عليه السلام رَبّ اغْفِرْ لِى أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة وَلاخِى في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ(15/11)
واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حال من عبد العجل
واعلم أن المفعول الثاني من مفعولي الاتخاذ محذوف والتقدير اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأول أن المراد بالذين اتخذوا العجل هم الذين باشروا عبادة العجل وهم الذين قال فيهم سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وعلى هذا التقدير ففيه سؤال وهو أن أولئك الأقوام تاب الله عليهم بسبب أنهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة عن ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا
والجواب عنه أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمراد بقوله وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا هو أنهم قد ضلوا فذلوا
فإن قالوا السين في قوله سَيَنَالُهُمْ للاستقبال فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا
قلنا هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا فكان هذا الكلام سابقاً على وقوعهم في القتل وفي الذلة فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار
والطريق الثاني أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان
الوجه الأول أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باتخاذ العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم عليهم بأنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ في الآخرة وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا كما قال تعالى في صفتهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ ( لبقرة 61 )
والوجه الثاني أن يكون التقدير إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ أي الذين باشروا ذلك سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ أي سينال أولادهم ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه(15/12)
أما قوله تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا قال مالك بن أنس ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولاً وذلك بأن يتركها أولاً ويرجع عنها ثم يؤمن بعد ذلك وثانياً يؤمن بالله تعالى ويصدق بأنه لا إله غيره إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران لأن قوله وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ يتناول الكل والتقدير أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين والله أعلم
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاٌّ لْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أقوال
القول الأول أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وكذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فلما زال الغضب صار كأنه سكت
والقول الثاني وهو قول عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة
القول الثالث المراد بالسكوت السكون والزوال وعلى هذا جاز سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ولا يجوز صمت لأن سَكَتَ بمعنى سكن وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام وذلك لا يجوز في الغضب
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هرون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال فيه رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( الأعراف 151 ) وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه
المسألة الثالثة قوله أَخَذَ الاْلْوَاحَ المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى وَأَلْقَى الالْوَاحَ ( الأعراف 15 ) وظاهر هذا يدل على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله وَفِى نُسْخَتِهَا النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتاباً عن كتاب(15/13)
حرفاً بعد حرف قلت نسخت ذلك الكتاب كأنك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني قال ابن عباس لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى فعلى هذا قوله وَفِى نُسْخَتِهَا أي وفيما نسخ منها وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضاً تكون نسخاً على هذا التقدير وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً أي هُدًى من الضلالة وَرَحْمَة ً من العذاب لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يريد الخائفين من ربهم
فإن قيل التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله لِرَبّهِمُ
قلنا فيه وجوه الأول أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( يوسف 43 ) الثاني أنها لام الأجل والمعنى للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة الثالث أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول وإن كان الفعل متعدياً كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة وألقى يده وألقى بيده وفي القرآن أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) وفي موضع آخر وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ فعلى هذا قوله لِرَبّهِمُ اللام صلة وتأكيد كقوله رَدِفَ لَكُم وقد ذكرنا مثل هذا في قوله وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 )
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره وأصل اختار اختير فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً نحو قال وباع ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفاً فاستويا في اللفظ وتحقيق الكلام فيه أن نقول إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك وصالحة للفعل ولضده وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدراً لأحد الجانبين دون الثاني وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعاً زائداً وصلاحاً راجحاً فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحاً على الترك فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيراً من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلاً فلما كان صدور الفعل(15/14)
عن الحيوان موقوفاً على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً من تركه لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلاً اختيارياً والله أعلم
فإن قيل إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور
فنقول إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيراً لا شراً وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
المسألة الثانية قال جماعة النحويين معناه واختار موسى من قومه سبعين فحذفت كلمة ( من ) ووصل الفعل فنسب يقال اخترت من الرجال زيداً واخترت الرجال زيداً وأنشدوا قول الفرزدق ومنا الذي اختار الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني من ذلك قولك اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر أستغفر الله ذنباً لست أحصيه
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والله أعلم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله سَبْعِينَ رَجُلاً عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات
المسألة الثالثة ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات
المسألة الرابعة هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر فيه أقوال للمفسرين
القول الأول إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام ودخل فيه وقال للقوم ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه(15/15)
افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية فقال موسى عليه السلام رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فالمراد منه قولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً
والقول الثاني أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل وثانيها أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل وثالثها أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور الأول أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عوداً إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها فأما ما ذكر بعض القصة ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى فإنه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب والأولى صون كلام الله تعالى عنه الثاني أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر إلا أنهم قَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا فلما لم يقل موسى كذلك بل قال أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية الثالث أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقاً وأنه جعل الجبل دكاً وأما الميقات المذكور في هذه الآية فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة وكيف يقال أخذته الرجفة وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ( الأعراف 143 ) فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات فلما قال في هذه الآية وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات
وجوابه أن هذا الدليل ضعيف ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى والله أعلم
والوجه الثالث في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن موسى وهرون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل فنام هرون فتوفاه الله تعالى فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هرون فاختار موسى قومه سبعين رجلاً وذهبوا إلى هرون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والله أعلم(15/16)
المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الرجفة فقيل إنها رجفة أوجبت الموت قال السدي قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك فأحياهم الله تعالى فمعنى قوله لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا فقال لربه لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني
والقول الثاني أن تلك الرجفة ما كانت موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم وتنقصم ظهورهم وخاف موسى عليه السلام الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة
أما قوله أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فقال أهل العلم إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم فيجب تأويل الآية وفيه بحثان الأول أنه استفهام بمعنى الجحد وأراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول أتهين من يخدمك أي لا تفعل ذلك الثاني قال المبرد هو استفهام استعطاف أي لا تهلكنا
وأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فقال الواحدي رحمه الله الكناية في قوله هِى َ عائدة إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا وعصمت قوماً عنها فثبتوا على الحق ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى فقال تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ثم قال الواحدي وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر قالت المعتزلة لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ولأنه تعالى قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرجفة ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها فوجب حمل هذه الآية على التأويل فأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فالمعنى امتحانك وشدة تعبدك لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها
وأما قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ففيه وجوه الأول تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن أو إن آمن لكن لا يصبر عليه والثاني أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك والتقدير تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء والثالث أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى وضلال من ضل جاز أن يضافا إليه
واعلم أن هذه التأويلات متسعة والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه وتقريرها من وجوه الأول أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر إلا لأجل داعية مرجحة وخالق تلك الداعية هو الله تعالى وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى الثاني أن أحداً من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمناً محقاً وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى الثالث أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل امتنع أن يخص أحد(15/17)
الاعتقادين بالتحصيل والتكوين لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلاً وذلك يقتضي كون الشيء مشروطاً بنفسه وأنه محال فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ واعلم أن قوله أَنتَ وَلِيُّنَا يفيد الحصر ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء وقوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا المراد منه أن إقدامه على قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ جراءة عظيمة فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل أو دفعاً للربقة الخسيسة عن القلب وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض بل لمحض الفضل والكرم فوجب القطع بكونه خَيْرُ الْغَافِرِينَ والله أعلم
وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاٌّ خِرَة ِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا من بقية دعاء موسى ( صلى الله عليه وسلم ) عند مشاهدة الرجفة فقوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً معناه أنه قرر أولاً أنه الأولى له إلا الله تعالى وهو قوله أَنتَ وَلِيُّنَا ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران أحدهما دفع الضرر والثاني تحصيل النفع ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر وهو قوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ وقوله وَاكْتُبْ أي وجب لنا والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً
واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء فذكر السبب الأول أولاً وهو كونه تعالى ولياً له وفرع عليه طلب هذه الأشياء ثم ذكر بعده السبب الثاني وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قال المفسرون هُدْنَا أي تبنا ورجعنا إليك قال(15/18)
الليث ( الهود ) التوبة وإنما ذكر هذا السبب أيضاً لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين كونه إلهاً ورباً وولياً وكوننا عبيداً له تائبين خاضعين خاشعين فالأول عهد عزة الربوبية والثاني عهد ذلة العبودية فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما ولما حكى الله تعالى دعاء موسى عليه السلام ذكر بعده ما كان جواباً لموسى عليه السلام فقال تعالى قال عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه وقرأ الحسن مِنْ أَسَاء من الإساءة واختار الشافعي هذه القراءة وقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء فيه أقوال كثيرة قيل المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقيل الوجود خير من العدم وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصل إليه رحمته وأقل المراتب وجوده وقيل الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب وما بالعرض مرجوح مغلوب وقال المعتزلة الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير لأنه إن كان منتفعاً أو متمكناً من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء وقال أصحابنا قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء
أما قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا
فاعلم أن جميع تكاليف الله محصورة في نوعين الأول التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها والاتقاء منها وهذا النوع إليه الإشارة بقوله لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ والثاني الأفعال وتلك التكاليف إما أن تكون متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه
أما القسم الأول فهو الزكاة وإليه الإشارة بقوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ
وأما القسم الثاني فيدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أما العلم فالمعرفة وأما العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ويدخل فيها الصلاة وإلى هذا المجموع الإشارة بقوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 2 3 )
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الأُمِّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاٌّ غْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(15/19)
اعلم أنه تعالى لما بين أن من صفة من تكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بالآيات ضم إلى ذلك أن يكون من صفته اتباع النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ واختلفوا في ذلك فقال بعضهم المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وقال في قوله وَالإِنجِيلَ أن المراد سيجدونه مكتوباً في الإنجيل لأن من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل وقال بعضهم بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام الرسول فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا الرسول النبي الأمي والقول الثاني أقرب لأن اتباعه قبل أن بعث ووجد لا يمكن فكأنه تعالى بين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى ومن هذه صفته في أيام الرسول إذا كان مع ذلك متبعاً للنبي الأمي في شرائعه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بصفات تسع
الصفة الأولى كونه رسولاً وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف
الصفة الثانية كونه نبياً وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى
الصفة الثالثة كونه أمياً قال الزجاج معنى الامّى ّ الذي هو على صفة أمة العرب قال عليه الصلاة والسلام ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه أمياً قال أهل التحقيق وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والثاني أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( العنكبوت 48 ) الثالث أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين(15/20)
هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات
الصفة الرابعة قوله تعالى الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وهدا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم النفرات والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته
الصفة الخامسة قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج يجوز أن يكون قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ أنه يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وأقول مجامع الأمر بالمعروف محصورة في قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخضوع والخشوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأن الانتفاع مشروط بالحياة ومع هذا فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله تعالى ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاٌ قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إن الله تعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب إظهار الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه بر الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أن قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ والمراد منه أضداد الأمور المذكورة وهي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين
الصفة السابعة قوله تعالى وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ من الناس من قال المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد لوجهين الأول أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ محض التكرير الثاني أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل
الصفة الثامنة قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ قال عطاء عن ابن عباس يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ وأقول كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم والأصل في المضار الحرمة فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا(15/21)
لدليل منفصل وعلى هذا الأصل فرع الشافعي رحمه الله تحريم بيع الكلب لأنه روى عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كتاب الصحيحين أنه قال ( الكلب خبيث وخبيث ثمنه ) وإذا ثبت أن ثمنه خبيث وجب أن يكون حراماً لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً الخمر محرمة لأنها رجس بدليل قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) إلى قوله رِجْسٌ والرجس خبيث بدليل إطباق أهل اللغة عليه والخبيث حرام لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ
الصفة التاسعة قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع والباقون عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ على الواحد قال أبو علي الفارسي الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه يدل على ذلك إضافته وهو مفرد إلى الكثرة كما قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( البقرة 20 ) ومن جمع أراد ضروباً من العهود مختلفة والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما في قوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 )
المسألة الثانية الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله والمراد منه أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة وقوله وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ المراد منه الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضار الخاطئة وتتبع العروف من اللحم وجعلها الله أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع عن الفعل وقيل كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعاً لله تعالى فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة لأن كل ما كان ضرراً كان إصراً وغلاً وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضرر ولا ضرار ) في الإسلام ولقوله عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وهو أصل كبير في الشريعة
واعلم أنه لما وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التسع قال بعده فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ قال ابن عباس يعني من اليهود وَعَزَّرُوهُ يعني وقروه قال صاحب ( الكشاف ) أصل التعزير المنع ومنه التعزير وهو الضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح
ثم قال تعالى وَنَصَرُوهُ أي على عدوه وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وقيل الهدى والبيان والرسالة وقيل الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور
فإن قيل كيف يمكن حمل النور ههنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد وإنما أنزل مع جبريل
قلنا معناه إنه أنزل مع نبوته لأن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قَالَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة(15/22)
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِى ِّ الأُمِّى ِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين للرسول النبي الأمي حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وفي هذه الكلمة مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق وقال طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية وهم أتباع عيسى الأصفهاني أن محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب وغير مبعوث إلى بني إسرائيل ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية لأن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس
ثم قال إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وهذا يقتضي كونه مبعوثاً إلى جميع الناس وأيضاً فما يعلم بالتواتر من دينه أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى كل العالمين فأما أن يقال إنه كان رسولاً حقاً أو ما كان كذلك فإن كان رسولاً حقاً امتنع الكذب عليه ووجب الجزم بكونه صادقاً في كل ما يدعيه فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق وجب كونه صادقاً في هذا القول وذلك يبطل قول من يقول إنه كان مبعوثاً إلى العرب فقط لا إلى بني إسرائيل
وأما قول القائل إنه ما كان رسولاً حقاً فهذا يقتضي القدح في كونه رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم فثبت أن القول بأنه رسول إلى بعض الخلق دون بعض كلام باطل متناقض
إذا ثبت هذا فنقول قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا من الناس من قال إنه عام دخله التخصيص ومنهم من أنكر ذلك أما الأولون فقالوا إنه دخله التخصيص من وجهين الأول أنه رسول إلى الناس إذاكانوا من جملة المكلفين فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولاً إليهم وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ) والثاني أنه رسول الله إلى كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف العالم لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر معجزاته فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته ومن الناس من أنكر القول بدخول التخصيص في الآية من هذين الوجهين
أما الأول فتقريره أن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب وهذا الخطاب لا يتناول إلا المكلفين وإذا كان كذلك فالناس الذين دخلوا تحت قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ليسوا إلا المكلفين من الناس وعلى هذا التقدير فلم(15/23)
يلزم أن يقال إن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عام دخله التخصيص
وأما الثاني فلأنه يبعد جداً أن يقال حصل في طرف من أطراف الأرض قوم لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وخبر معجزاته وشرائعه وإذا كان ذلك كالمستبعد لم يكن بنا حاجة إلى التزام هذا التخصيص
المسألة الثانية هذه الآية وإن دلت على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق بل يجب الرجوع في أنه هل كان في غيره من الأنبياء من كان مبعوثاً إلى كل الخلق أم لا إلى سائر الدلائل فنقول تمسك جمع من العلماء في أن أحداً غيره ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق لقوله عليه الصلاة والسلام ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي )
ولقائل أن يقول هذا الخبر لا يتناول دلالته على إثبات هذا المطلوب لأنه لا يبعد أن يكون المراد مجموع هذه الخمسة من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يحصل لأحد سواه ولم يلزم من كون هذا المجموع من خواصه كون واحد من آحاد هذا المجموع من خواصه وأيضاً قيل إن آدم عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع أولاده وعلى هذا التقدير فقد كان مبعوثاً إلى جميع الناس وأن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كان إلا ذلك القوم
أما قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة
الأصل الأول إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وذلك لأن أجسام السموات والأرض تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده أو إن حصل له مؤثر لكن كان ذلك المؤثر موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكناً
والأصل الثاني إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان وأرسل أحد الإلهين نبياً إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقاً له بل كان مخلوقاً للإله الثاني وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته فكان بعثة الرسول إليه وإيجاب الطاعة عليه ظلماً وباطلاً أما إذا ثبت أن الإله واحد فحينئذ يكون جميع الخلق عبيداً له ويكون تكليفه في الكل نافذاً وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازماً فثبت أن ما لم(15/24)
يثبت كون الإله تعالى واحداً لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكليف جائزاً
والأصل الثالث إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثاً ولغواً وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله يُحْى ِ وَيُمِيتُ لأنه لما أحيا أولاً ثبت كونه قادراً على الإحياء ثانياً فيكون قادراً على الإعادة والحشر والنشر وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاماً عظيماً فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ليكون قيامه بتلك الطاعة قائماً مقام الشكر عن الإحياء الأول وأيضاً لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني فحينئذ يكون قادراً على إيصال الجزاء إليه
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه وأيضاً إنه منعم على الكل بأعظم النعم وأيضاً إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام في أنه يحسن منه تكليف الخلق أما بحسب السبب الأول فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وعلى أن هذا الإله واحد وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ وهذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه لما بين أولاً أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن أردفه بذكر أن محمداً رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولاً ثم حصوله ثانياً ثم إنه بدأ بقوله مَّا كَانَ لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه والأصل يجب تقديمه فلهذا السبب بدأ بقوله مَّا كَانَ ثم أتبعه بقوله وَرَسُولِهِ النَّبِى ّ الامّى ّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبياً حقاً وتقريره أن معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت على نوعين
النوع الأول المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها وأشرفها أنه كان رجلاً أمياً لم يتعلم من أستاذ ولم يطالع كتاباً ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه مع أنه كان رجلاً أمياً لم يلق أستاذاً ولم يطالع كتاباً من أعظم المعجزات وإليه الإشارة بقوله النَّبِى ّ الامّى ّ(15/25)
والنوع الثاني من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى ألا ترى أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً مخالفاً للمعتاد لا جرم سماه الله تعالى كلمة فكذلك المعجزات لما كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى وهذا النوع هو المراد بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبياً صادقاً من عند الله
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرق الأمر والنهي والترغيب والترهيب وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك فثبت أن لفظ وَاتَّبِعُوهُ يتناول القسمين وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ دليلاً على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل الشيء الذي أتي به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجباً عليه ويحتمل أيضاً أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا كان ذلك تركاً لمتابعته ونقضاً لمبايعته والآية تدل على وجوب متابعته فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا
قلنا المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل قيل إنه تابعه عليه ولو لم يأت به قيل إنه خالفه فيه فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب فنقول حال الدواعي والعزائم غير معلوم وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي لكونها أموراً مخفية عنا وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها فزالت هذه الشبهة وتقريره أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل
إذا عرفت هذا فنقول إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال
قلنا إن هذا العمل فعله أفضل من تركه وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ نعمل أن الرسول قد أتى به في الجملة لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك والمشكوك لا يعارض المعلوم فثبت أنه(15/26)
عليه السلام أتى بالجانب الأفضل ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية وَاتَّبِعُوهُ فهذا أصل شريف وقانون كلي في معرفة الأحكام دال على النصوص لقوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 ) فوجب علينا مثله لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
وأما قوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ففيه بحثان أحدهما أن كلمة ( لعل ) للترجي وذلك لا يليق بالله فلا بد من تأويله والثاني أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة
وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
واعلم أنه تعالى لما وصف الرسول وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من اتبع الحق وهدى إليه وبين أنهم جماعة لأن لفظ الأمة ينبىء عن الكثرة واختلفوا في أن هذه الأمة متى حصلت وفي أي زمان كانت فقيل هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا والاعتراض عليه بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة يمكن الجواب عنه بأنه لما كانوا مختلفين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقيل إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك وقال السدي وجماعة من المفسرين إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط في جملة الإثني عشر فما صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ثم هؤلاء اختلفوا منهم من قال إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن ومنهم من قال إنهم الآن على دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يستقبلون الكعبة وتركوا السبت وتمسكوا بالجمعة لا يتظالمون ولا يتحاسدون ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد وقال بعض المحققين هذا القول ضعيف لأنه إما أن يقال وصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو ما وصل إليهم هذا الخبر
فإن قلنا وصل خبره إليهم ثم إنهم أصروا على اليهودية فهم كفار فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وإن قلنا بأنهم لم يصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا بعيد لأنه لما وصل خبرهم إلينا مع أن الدواعي لا تتوفر على نقل أخبارهم فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمد عليه الصلاة والسلام مع أن الدنيا قد امتلأت من خبره وذكره
فإن قالوا أليس إن يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم
قلنا هذا ممنوع فمن أين عرف أنه لم يصل خبرنا إليهم فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
إذا عرفت هذا فنقول قوله يَهْدُونَ بِالْحَقّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال(15/27)
الزجاج العدل الحكم بالحق يقال هو يقضي بالحق ويعدل وهو حكم عادل ومن ذلك قوله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء ( النساء 129 ) وقوله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ( الأنعام 152 )
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل أحدهما أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطاً وقد تقدم هذا في سورة البقرة أو المراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلاً من أولاد يعقوب فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج وقوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض وقرىء وَقَطَّعْنَاهُمُ بالتخفيف وههنا سؤالان
السؤال الأول مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل اثني عشر سبطاً
والجواب المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط فوضع أسباطاً موضع قبيلة
السؤال الثاني قال اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا مع أن السبط مذكر لا مؤنث
الجواب قال الفراء إنما قال ذلك لأنه تعالى ذكر بعده أُمَمًا فذهب التأنيث إلى الأمم
ثم قال ولو قال اثني عشر لأجل أن السبط مذكر كان جائزاً وقال الزجاج المعنى وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ فرقة أَسْبَاطًا فقوله أَسْبَاطًا نعت لموصوف محذوف وهو الفرقة وقال أبو علي الفارسي ليس قوله أَسْبَاطًا تمييزاً ولكنه بدل من قوله اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ
وأما قوله أُمَمًا قال صاحب ( الكشاف ) هو بدل من اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بمعنى وقطعناهم أمما لأن كل سبط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى ولا تكاد تأتلف وقرىء اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بكسر الشين
النوع الثاني من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ وهذه القصة أيضاً قد تقدم ذكرها في سورة البقرة قال الحسن ما كان إلا حجراً اعترضه وإلا عصاً أخذها
واعلم أنهم كانوا ربما احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب(15/28)
بعصاه الحجر وكانوا يريدونه مع أنفسهم فيأخذوا منه قدر الحاجة وقوله فَانبَجَسَتْ قال الواحدي فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره يقال بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر هذا قول أهل اللغة ثم قال والانبجاس والانفجار سواء وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور ههنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة وقال آخرون الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء ولما ذكر تعالى أنه كيف كان يسقيهم ذكر ثانياً أنه ظلل الغمام عليهم وثالثا أنه أنزل عليهم المن والسلوى ولا شك أن مجموع هذه الأحوال نعمة عظيمة من الله تعالى لأنه تعالى سهل عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه ودفع عنهم مضار الشمس
ثم قال كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ والمراد أقصر أنفسهم على ذلك المطعوم وترك غيره
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وفيه حذف وذلك لأن هذا الكلام إنما يحسن ذكره لو أنهم تعدوا ما أمرهم الله به وذلك إما بأن تقول إنهم ادخروا مع أن الله منعهم منه أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله عنه أو لأنهم سألوا غير ذلك مع أن الله منعهم منه ومعلوم أن المكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه فلذلك وصفهم الله تعالى به ونبه بقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وذلك أن المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلا نفسه حيث سعى في صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِي ئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه لقصة أيضاً مذكورة مع الشرح والبيان في سورة البقرة
بقي أن يقال إن ألفاظ هذه الآية تخالف ألفاظ الآية التي في سورة البقرة من وجوه الأول في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) وههنا قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ والثاني أنه قال في سورة البقرة فَكُلُواْ بالفاء وههنا وَكُلُواْ بالواو والثالث أنه قال في سورة البقرة رَغَدًا وهذه الكلمة غير مذكورة في هذه السورة والرابع أنه قال في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وقال ههنا على التقديم والتأخير والخامس أنه قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وقال ههنا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ والسادس أنه قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وههنا حذف(15/29)
حرف الواو والسابع أنه قال في سورة البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وقال ههنا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ والثامن أنه قال في سورة البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقال ههنا بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة
أما الأول وهو أنه قال في سورة البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وقال ههنا اسْكُنُواْ فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولاً ثم سكونها ثانياً
وأما الثاني فهو أنه تعالى قال في البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ بالفاء وقال ههنا اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة كما يوجد بعضها ينعدم فإنه إنما يكون داخلاً في أول دخوله وأما ما بعد ذلك فيكون سكوناً لا دخولاً
إذا ثبت هذا فنقول الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده فلهذا قال ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معه لا عقيبه فظهر الفرق
وأما الثالث وهو أنه ذكر في سورة البقرة رَغَدًا وما ذكره هنا فالفرق الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم ذكر فيه قوله رَغَدًا وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة فلا جرم ترك قوله رَغَدًا فيه
وأما الرابع وهو قوله في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي سورة الأعراف على العكس منه فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير
وأما الخامس وهو أنه قال في سورة البقرة خَطَايَاكُمْ وقال ههنا خَطِيئَاتِكُمْ فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع
وأما السادس وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ بالواو وههنا حذف الواو فالفائدة في حذف الواو أنه استئناف والتقدير كان قائلاً قال وماذا حصل بعد الغفران فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
وأما السابع وهو الفرق بين قوله أَنزَلْنَا وبين قوله أَرْسَلْنَا فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله فَانبَجَسَتْ وبين قوله فَانفَجَرَتْ
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله يَظْلِمُونَ وبين قوله يَفْسُقُونَ فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة وتمام العلم بها عند الله تعالى(15/30)
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذه القصة أيضاً مذكورة في سورة البقرة وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى واسألهم المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء الأول أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهاً لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمعجزاته ليس شيئاً حدث في هذا الزمان بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلاً في أسلافهم من الزمان القديم
والفائدة الثانية أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة وغير ذاهل عن دقائقها ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً أمياً لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان كان ذلك جارياً مجرى المعجز
المسألة الثانية الأكثرون على أن تلك القرية أيلة وقيل مدين وقيل طبرية والعرب تسمى المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن وقوله الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى ذالِكَ لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 196 ) وقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ يعني يجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه وقرىء يَعْدُونَ بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و يَعْدُونَ من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و السَّبْتِ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ويؤكده أيضاً قراءة عمر بن عبد العزيز يَوْمٍ وقرىء وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ بضم الباء وقرأ على رضى الله عنه لاَ يَسْبِتُونَ بضم الياء من أسبتوا وعن الحسن لاَ يَسْبِتُونَ على البناء للمفعول وقوله إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ نصب بقوله يَعْدُونَ والمعنى سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان وقوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع ودار شارعة أي دنت من الطريق ونجوم شارعة أي دنت من المغيب وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها قال ابن عباس ومجاهد إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد(15/31)
فيه وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل وذلك بلاء ابتلاهم الله به فذلك معنى قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ وقوله كَذالِكَ نَبْلُوهُم أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن ذل الكفر والمعصية فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّة ٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّو ءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن قوله وَإِذْ قَالَتِ معطوف على قوله إِذْ يَعْدُونَ وحكمه حكمه في الأعراب وقوله أُمَّة ٌ مّنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين ما كانوا يقلعون عن وعظهم وقوله لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا لتماديهم في الشر وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفعهم وقوله قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قرأ حفص عن عاصم مَعْذِرَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب مَعْذِرَة ً فقال الزجاج معناه نعتذر معذرة وأما من رفع فالتقدير هذه معذرة أو قولنا معذرة وهي خبر لهذا المحذوف
البحث الثاني المعذرة مصدر كالعذر وقال أبو زيد عذرته أعذره عذراً ومعذرة ومعنى عذره في اللغة أي قام بعذره وقيل عذره يقال من يعذرني أي يقوم بعذري وعذرت فلاناً فيما صنع أي قمت بعذره فعلى هذا معنى قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر
قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين وقال الأزهري المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر وأقيم مقام الاعتذار كأنهم قالوا موعظتنا اعتذار إلى ربنا فأقيم الاسم مقام الاعتذار ويقال اعتذر فلان اعتذاراً وعذراً ومعذرة من ذنبه فعذرته وقوله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب(15/32)
إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية قولان
القول الأول أن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب ومنهم من لم يفعل ذلك وهذا القسم الثاني صاروا قسمين منهم من وعظ الفرقة المذنبة وزجرهم عن ذلك الفعل ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم لم تعظوهم مع العلم بأن الله مهلكهم أو معذبهم يعني أنهم قد بلغوا في الإصرار على هذا الذنب إلى حد لا يكادون يمنعون عنه فصار هذا الوعظ عديم الفائدة عديم الأثر فوجب تركه
والقول الثاني أن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة أقدمت على الذنب وفرقة أحجموا عنه ووعظوا الأولين فلما اشتغلت هذه الفرقة بوعظ الفرقة المذنبة المتعدية المقدمة على القبيح فعند ذلك قالت الفرقة المذنبة للفرقة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ بزعمكم قال الواحدي والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ خطاباً من الفرقة الناهية للفرقة المعتدية لقالوا وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أما قوله فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ يعني أنهم لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين المقدمين على فعل المعصية
واعلم أن لفظ الآية يدل على أن الفرقة المتعدية هلكت والفرقة الناهية عن المنكر نجت أما الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ فقد اختلف المفسرون في أنهم من أي الفريقين كانوا فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توقف فيه ونقل عنه أيضاً هلكت الفرقتان ونجت الناهية وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئاً قال الحسن الفرقة الساكتة ناجية فعلى هذا نجت فرقتان وهلكت الثالثة واحتجوا عليه بأنهم لما قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ دل ذلك على أنهم كانوا منكرين عليهم أشد الإنكار وأنهم إنما تركوا وعظهم لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ ولا ينتفعون به
فإن قيل إن ترك الوعظ معصية والنهي عنه أيضاً معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ
قلنا هذا غير لازم لأن النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين ثم ذكر أنه تعالى أخذهم بعذاب بئيس والظاهر أن هذا العذاب غير المسخ المتأخر ذكره وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفي هذه اللفظة قراآت أحدها بَئِيسٍ بوزن فعيل قال أبو علي وفيه وجهان الأول أن يكون فعيلاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد والآخر ما قاله أبو زيد وهو أنه من البؤس وهو الفقر يقال بئس الرجل يبأس بؤساً وبأساً وبئيساً إذا افتقر فهو بائس أي فقير فقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي ذي بؤس والقراءة الثانية بِئْسَ بوزن حذر والثالثة بيس على قلب الهمزة ياء كالذيب في ذئب والرابعة بيئس على فيعل والخامسة بيس كوزن ريس على قلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها والسادسة بيس على تخفيف بيس كهين في هين وهذه القراآت نقلها صاحب ( الكشاف ) ثم بين تعالى أنهم مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا(15/33)
فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ
وفيه مباحث
البحث الأول العتو عبارة عن الإباء والعصيان وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا لأنهم أبوا عما نهوا عنه ومعلوم أنه ليس المراد ذلك فلا بد من إضمار والتقدير فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ثم حذف المضاف وإذا أبوا ترك المنهي كان ذلك ارتكاباً للمنهى
البحث الثاني من الناس من قال إن قوله عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً ليس من المقال بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك قال وفيه دلالة على أن قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) هو بمعنى الفعل لا الكلام وقال الزجاج أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع فيكون أبلغ
واعلم أن حمل هذا الكلام على هذا بعيد لأن المأمور بالفعل يجب أن يكون قادراً عليه والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة
البحث الثالث قال ابن عباس أصبح القوم وهم قردة صاغرون فمكثوا كذلك ثلاثاً فرآهم الناس ثم هلكوا ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شباب القوم صاروا قردة والشيوخ خنازير وهذا القول على خلاف الظاهر واختلفوا في أن الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم ولا دلالة في الآية عليه والكلام في المسخ وما فيه من المباحثات قد سبق بالاستقصاء في سورة البقرة والله أعلم
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة قال سيبويه أذن أعلم وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ( الأعراف 44 ) وقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن أي أعلم ولفظة تفعل ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئاً ليس فيه بل معناه فعل فقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن كما في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( يونس 18 ) معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن اللام في قوله لَيَبْعَثَنَّ جواب القسم لأن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ جار مجرى القسم في كونه جازماً بذلك الخبر
البحث الثاني الضمير في قوله عَلَيْهِمْ يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( الأعراف 166 )(15/34)
لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف ثم اختلفوا فقال بعضهم المراد نسلهم والذين بقوا منهم وقال آخرون بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية وقال الأكثرون هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى شريعته وهذا أقرب لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وزجرهم عن البقاء على اليهودية لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا
البحث الثالث لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية فأما الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فخارجون عن هذا الحكم
أما قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم هو أخذ الجزية وقيل الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ وقيل القتل والقتال وقيل الإخراج والإبعاد من الوطن وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز وأن الذل يلزمهم والصغار لا يفارقهم ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخباراً صدقاً عن الغيب فكان معجزاً والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ثم دانوا بإلهيته فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر وذلك خلاف هذه الآية واحتج بعض العلماء على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ ( آل عمران 112 ) إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جداً واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم فقال بعضهم الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم وهذا القائل حمل قوله لَيَبْعَثَنَّ على نحو قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية وترك المنع فكذلك البعثة وهذا القائل قال المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في الإيمان بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(15/35)
واعلم أن قوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 167 ) المراد جملة اليهود ومعنى قطعناهم أي فرقناهم تفريقاً شديداً فلذلك قال بعده وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة وهذا هو الغالب من حال اليهود ومعنى قطعناهم فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم
ثم قال مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق وقال ابن عباس ومجاهد يريد الذين أدركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنوا به وقوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ أي ومنهم قوم دون ذلك والمراد من أقام على اليهودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ من يكون صالحاً إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب
قلنا أن قوله بعد ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح
أما قوله وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات وهي النعم والخصب والعافية والسيئات هي الجدب والشدائد قال أهل المعاني وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب وقوله يَرْجِعُونَ يريد كي يتوبوا
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاٌّ دْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
اعلم أن قوله فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره أن الأول ممدوح والثاني مذموم وإذا كان كذلك فيجب أن يكون المراد فخلف من بعد الصالحين منهم الذين تقدم ذكرهم خلف قال الزجاج الخلف ما أخلف عليك مما أخذ منك فلهذا السبب يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف ويقال فيه أيضاً خلف وقال أحمد بن يحيى الناس كلهم يقولون خلف صدق وخلف سوء وخلف للسوء لا غير وحاصل(15/36)
الكلام أن من أهل العربية من قال الخلف والخلف قد يذكر في الصالح وفي الرديء ومنهم من يقول الخلف مخصوص بالذم قال لبيد وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنهم من يقول الخلف المستعمل في الذم مأخوذ من الخلف وهو الفساد يقال للردىء من القول خلف ومنه المثل المشهور سكت ألفاً ونطق خلفاً وخلف الشيء يخلف خلوفاً وخلفاً إذا فسد وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته وقوله يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وأما العرض بسكون الراء فما خالف العين أعني الدراهم والدنانير وجمعه عروض فكان كل عرض عرضاً وليس كل عرض عرضاً والمراد بقوله عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وفي قوله هَاذَا الاْدْنَى تخسيس وتحقير و الاْدْنَى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون سيغفر لنا
ثم قال وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ والمراد الأخبار عن إصرارهم على الذنوب وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أي التوراة أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وقيل المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار وذلك قول باطل
فإن قيل فهذا القول يدل على أن حكم التوراة هو أن صاحب الكبيرة لا يغفر له
قلنا أنهم كانوا يقطعون بأن هذه الكبيرة مغفورة ونحن لا نقطع بالغفران بل نرجو الغفران ونقول إن بتقدير أن يعذب الله عليها فذلك العذاب منقطع غير دائم
ثم قال تعالى وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه
ثم قال وَالدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به وقرأ أبو بكر عن عاصم يُمَسّكُونَ مخففة والباقون بالتشديد أما حجة عاصم فقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( البقرة 229 ) وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( الأحزاب 37 ) وقوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ( المائدة 4 ) قال الواحدي والتشديد أقوى لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة ولأنه يقال أمسكته وقلما يقال أمسكت به
إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ قولان
القول الأول أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والمعنى إنا لا نضيع أجرهم وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) وهذا الوجه حسن لأنه لما ذكر وعيد من ترك التمسك بالكتاب أردفه بوعد من تمسك به(15/37)
والقول الثاني أن يكون مجروراً عطفاً على قوله الَّذِينَ يَتَّقُونَ ويكون قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ زيادة مذكورة لتأكيد ما قبله
فإن قيل التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردت بالذكر
قلنا إظهاراً لعلو مرتبة الصلاة وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال أبو عبيدة أصل النتق قلع الشيء من موضعه والرمي به يقال نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبه وامرأة ناتق ومنتاق إذا كثر ولدها لأنها ترمي بأولادها رمياً فمعنى نَتَقْنَا الْجَبَلَ أي قلعناه من أصله وجعلناه فوقهم وقوله كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ قال ابن عباس كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال وهذه القصة مذكورة في سورة البقرة وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ( الأعراف 171 ) قال المفسرون علموا وأيقنوا وقال أهل المعاني قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوه وهذا هو الأظهر في معنى الظن ومضى الكلام فيه عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) روى أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة
ثم قال تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي وقلنا خذوا ما آتيناكم أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ من الأوامر والنواهي أي واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب ويجوز أن يراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ ( الرحمن 33 ) واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لعلكم تتقون ما أنتم عليه
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّة ً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(15/38)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع توابعها على أقصى الوجوه ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين وفي تفسير هذه الآية قولان الأول وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عنها فقال ( إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة ) وقال مقاتل ( إن الله مسح صفحة ظهر آدم سوداء كهيئة الذر فقال يآدم هؤلاء ذريتك
ثم قال لهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرة والكلبي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذريته قوماً لهم نور فقال يا رب من هم فقال الأنبياء ورأى واحداً هو أشدهم نوراً فقال من هو قال داود قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة وكان عمر آدم ألف سنة فلما تم عمر آدم تسعمائه وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه فقال بقي من أجلي أربعون سنة فقال ألست قد وهبته من ابنك داود فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها أما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه
الحجة الأولى لهم قالوا قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ لا شك أن قوله مِن ظُهُورِهِمْ يدل من قوله وَإِذْ أَخَذَ فيكون المعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم وعلى هذا التقدير فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً
الحجة الثانية أنه لو كان المرا أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال مِن ظُهُورِهِمْ بل كان يجب أن يقول من ظهره لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد وكذلك قوله ذُرّيَّتُهُم لو كان آدم لقال ذريته(15/39)
الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا وهذا الكلام يليق بأولا آدم لأنه عليه السلام ما كان مشركاً
الحجة الرابعة أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلاً فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة وجب القول بمقتضاه فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ
الحجة الخامسة أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع
الحجة السادسة أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام
الحجة السابعة قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان
الحجة الثامنة قال الكعبي إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات
وأجاب الزجاج عنه فقال لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ( النمل 18 ) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ( الأنبياء 79 ) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا(15/40)
الحجة التاسعة أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا كذلك فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال وأما الثاني وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم
الحجة العاشرة قوله تعالى فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 5 6 ) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة
قلنا هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل
الحجة الحادية عشرة هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع بقي القول الأول فنقول إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات أولها وقت الميثاق وثانيها في الدنيا وثالثها في القبر ورابعها في القيامة وأنه حصل له الموت ثلاث مرات موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول وموت في الدنيا وموت في القبر وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 )
الحجة الثانية عشرة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنين 12 ) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب وذلك باطل لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة والعلقة والمضغة ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة وهو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وقوله قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ( عبس 17 18 ) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان ولذلك نظائر منها قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )(15/41)
ومنها قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني
قال سل من يدقني
فإن الذي ورايي
ما خلاني ورايي
وقال الشاعر امتلأ الحوض وقال قطنى
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام فوجب حمل الكلام عليه فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين وهذا القول الثاني لاطعن فيه البتة وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافياً لصحة القول الأول إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا
فإن قال قائل فما المختار عندكم فيه
قلنا ههنا مقامان أحدهما أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر والثاني أن بتقدير أن يصح القول به فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية
أما المقام الأول فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع
أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن
قلنا خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها
فإن قالوا فإذا جوزتم هذا فجوزوا أن يقال إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدانا
قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان وأقل وقت فلم يبعد حصول النسيان فيه والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه فقد ظهر الفرق
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام قلنا عندنا البنية ليست شرطاً لحصول الحياة والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ قابل للحياة والعقل فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهراً فرداً فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا الإنسان جوهر فرد وجزء لا يتجزأ في البدن على ما هو مذهب بعض القدماء وأما إذا قلنا الإنسان هو النفس الناطقة وإنه جوهر غير متحيز ولا حال في المتحيز فالسؤال زائل(15/42)
وأما الوجه الثالث وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا
فجوابنا أن نقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأيضاً أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف فكذا ههنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف وقيل أيضاً إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين
وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخد الميثاق من الذر فهل يمكن جعله تفسيراً لألفاظ هذه الآية فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولاً دافعة لذلك لأن قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ فقد بينا أن المراد منه وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم وأيضاً لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم أجاب الناصرون لذلك القول بأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن فنقول ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضاً ما يدل على بطلانه إلا أن الخبر قد دل عليه فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر وعلى هذا التقدير فلا منافاه بين الأمرين ولا مدافعة فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن بقدر الإمكان فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر و ذرياتهم بالألف على الجمع والباقون وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم على الواحد قال الواحدي الذرية تقع على الواحد والجمع فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله مَا هَاذَا بَشَرًا وعلى الجمع كقوله أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( التغابن 6 ) وقوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال إن الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه وإن كان جميعاً فجمعه أيضاً حسن لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت نحو الطرقات والجدرات وهو اختيار يونس أما قوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فنقول أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها وأما على قول من أنكره قال إنها محمولة على التمثيل والمعنى أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وشهدت بها عقولهم فصار ذلك جارياً مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته أما قوله شَهِدْنَا ففيه قولان
القول الأول أنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا بَلَى قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله قَالُواْ بَلَى لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا وقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ تقريره أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار لئلا يقولوا ما(15/43)
أقررنا فأسقط كلمة ( لا ) كما قال وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) يريد لئلا تميد بكم هذا قول الكوفيين وعند البصريين تقريره شهدنا كراهة أن يقولوا
والقول الثاني أن قوله شَهِدْنَا من بقية كلام الذرية وعلى هذا التقرير فقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ متعلق بقوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ والتقدير وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله شَهِدْنَا لأن قوله أَن يَقُولُواْ متعلق بما قبله وهو قوله وَأَشْهَدَهُمْ فلم يجز قطعه منه واختلف القراء في قوله أَن يَقُولُواْ أو تقولوا فقرأ أبو عمرو بالياء جميعاً لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لّئَلاَّ يَقُولُواْ وِقْراً رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى
أما قوله أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ قال المفسرون المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك وهو المراد من قوله أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ والحاصل أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل قالوا معنى الآية إنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ فما نبهنا عليه منبه أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء
ثم قال وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ والمعنى أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وهو المراد من قوله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقيل أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد وفي الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(15/44)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعم فقال كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته ويقال أيضاً إنه كان نبياً من أنبياء الله فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافراً وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( آمن شعره وكفر قلبه ) يريد أن شعره كشعر المؤمنين وذلك أنه يوحد الله في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار وقيل نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد بن المسيب وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحسن والأصم وقيل هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم
فإن قال قائل فهل يصح أن يقال إن المذكور في هذه الآية كان نبياً ثم صار كافراً
قلنا هذا بعيد لأنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف والدرجات العالية والمناقب العظيمة فمن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر
أما قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ففيه قولان
القول الأول ( آتيناه آياتنا ) يعني علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عالماً بها فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي خرج من محبة الله إلى معصيته ومن رحمة الله إلى سخطه ومعنى انسلخ خرج منها يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه
والقول الثاني ما ذكره أبو مسلم رحمه الله فقال قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي بيناها فلم يقبل وعرى منها وسواء قولك انسلخ وعرى وتباعد وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا ( النساء 47 ) وقال في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون فأعرض وأبى وكان عادياً ضالاً متبعاً للشيطان(15/45)
واعلم أن حاصل الفرق بين القولين هو أن هذا الرجل في القول الأول كان عالماً بدين الله وتوحيده ثم خرج منه وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها والقول الأول أولى لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها وأيضاً فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالماً بدين الله تعالى ثم خرج منه إلى الكفر والضلال
أما قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ففيه وجوه الأول أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له والثاني قال عبد الله بن مسلم فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي أدركه يقال أتبعت القوم أي لحقتهم قال أبو عبيدة ويقال أتبعت القوم مثال أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ويقال ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم أي حتى أدركتهم وقوله فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين قال أهل المعاني المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى وخاب في الآخرة والأولى فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قال أصحابنا معناه ولو شئنا رفعناه للعمل بها فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته ولفظة لَوْ تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان وقد يريد الكفر وقال المعتزلة لفظ الآية يحتمل وجوهاً أخرى سوى هذا الوجه فالأول قال الجبائي معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن نكرمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان الثاني لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً وجبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره
والجواب عن الأول أن حمل الرفعة على الأماتة بعيد وعن الثاني أنه تعالى إذا منعه منه قهراً لم يكن ذلك موجباً للثواب والرفعة
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ قال أصحاب العربية أصل الإخلاد اللزوم على الدوام وكأنه قيل لزم الميل إلى الأرض ومنه يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به قال مالك بن سويد بأبناء حي من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قال ابن عباس وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ يريد مال إلى الدنيا وقال مقاتل بالدنيا وقال الزجاج سكن إلى الدنيا قال الواحدي فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا وذلك لأن الدنيا هي الأرض لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض وإنما يقوى ويكمل بها فالدنيا كلها هي الأرض فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض ونقول لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ إلا أن قوله وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ معناه أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى فلا جرم وقع في هاوية الردى وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا(15/46)
الرجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ) أو لفظ هذا معناه
ثم قال تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث قال الليث اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهو الكلب اللاهث وفي تقرير هذا التمثيل وجوه الأول أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء وفي حال الراحة وفي حال العطش وفي حال الري فكان ذلك عادة منه وطبيعة وهو مواظب عليه كعادته الأصلية وطبيعته الخسيسة لا لأجل حاجة وضرورة فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا ويلقى نفسه فيها كانت حاله كحال ذلك اللاهث حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح لمجرد نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة لا لأجل الحاجة والضرورة والثاني أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة البتة فكذلك الأنسان الحريص لا يزال حرصه البتة
أما قوله تعالى إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضاً لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له
فإن قيل ما محل قوله إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث
قلنا النصب على الحال كأنه قيل كمثل الكلب ذليلاً لاهثاً في الأحوال كلها
ثم قال تعالى ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال(15/47)
ثم قال فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يريد يتعظون
سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال بعد تمثيلهم بالكلب ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا وزجر بذلك عن الكفر والتكذيب أكده في باب الزجر بقوله تعالى سَاء مَثَلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال ساءت الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح وساءه يسوءه مساءة قال النحويون تقديره ساء مثلاً مثل القوم انتصب مثلاً على التمييز لأنك إذا قلت ساء جاز أن تذكر شيئاً آخر سوى مثلاً فلما ذكرت نوعاً فقد ميزته من سائر الأنواع وقولك القوم ارتفاعه من وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون قولك ساء مثلاً خبره والثاني أنك لما قلت ساء مثلاً قيل لك من هو قلت القوم فيكون رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف وقرأ الجحدري ساء مثل القوم
البحث الثاني ظاهر قوله سَاء مَثَلاً يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكفر والدعوة إلى الإيمان فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلب اللاهث
أما قوله تعالى وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ فإما أن يكون معطوفاً على قوله كَذَّبُواْ فيدخل حينئذ في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب وإما تقديم المفعول فهو للاختصاص كأنه قيل وخصوا أنفسهم بالظلم وما تعدى أثر ذلك الظلم عنهم إلى غيرهم
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله وأن الضلال من الله تعالى وعند هذه اضطربت المعتزلة وذكروا في التأويل وجوهاً كثيرة الأول وهو الذي ذكره الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة فهو المهتدي في الدنيا السالك طريقة الرشد فيما كلف فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والثاني(15/48)
قال بعضهم إن في الآية حذفاً والتقدير من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر الثالث أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتدياً فهو المهتدي لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك الوصف الممدوح ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والرابع أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة قد دلت على أن الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه الأول أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله الثاني أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد الثالث أن كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره ثم نقول
أما التأويل الأول فضعيف لأنه حمل قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى على الاهتداء إلى الحق في الدنيا وذلك يوجب ركاكة في النظم بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يكون الكلام حسن النظم
وأما الثاني فإنه التزام لإضمار زائد وهو خلاف اللفظ ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة
وأما الثالث فضعيف لأن قول القائل فلان هدى فلاناً لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتدياً وقياس هذا على قوله فلان ضلل فلاناً وكفره قياس في اللغة وأنه في نهاية الفساد والرابع أيضاً باطل لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار فحمل الآية على هذا التأويل بعيد والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( الأعراف 178 ) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل ويجوز حذفها طلباً للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب فطرت بمنصلي في يعملات
دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضاً كخوف ريش حمامة نجدية
مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء
وأما قوله وَمَن يُضْلِلِ يريد ومن يضلله الله ويخذله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي خسروا الدنيا والآخرة(15/49)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وتقريره من وجوه الأول أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان الله الثاني أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلاً وخبره الصدق كذباً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال فعدم دخولهم في النار محال ومن علم كون الشيء محالاً امتنع أن يريده فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية الثالث أن القار على الكفر إن لم يقدر على الإيمان فالذي خلق فيه القدرة على الكفر فقد أراد أن يدخله في النار وإن كان قادراً على الكفر وعلى الإيمان معاً امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل وإن حصل من قبله تعالى فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر فقد خلقه للنار قطعاً الرابع أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار فحينئذ حصل مراد العبد ولم يحصل مراد الله تعالى فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل والخامس أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى
فإن قالوا العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح
فنقول فعلى هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ قالت المعتزلة لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم لأن كثيراً من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة والخير والصلاح قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الفتح 8 9 ) وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) وقال وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ( الفرقان 50 ) وقال هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( الحديد 9 ) وقال وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( الحديد 25 )(15/50)
وقال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( إبراهيم 10 ) وقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وأمثال هذه الآيات كثيرة ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ على ظاهره
الوجه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا مخلوقين للنار ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان
الوجه الثالث وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلاً لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم كالقطرة في البحر وكان كمن دفع إلى إنسان حلواً مسموماً فإنه لا يكون منعماً عليه فكذا ههنا ولما كان القرآن مملوأ من كثرة نعمة الله على كل الخلق علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم
الوجه الرابع أن المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه
الوجه الخامس لو أنه تعالى خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم
الوجه السادس أن قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ متروك الظاهر لأن جهنم اسم لذلك الموضع المعين ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مراداً منه فثبت أنه لا بد وأن يقال إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف فكأنه قال ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر فيجب بناؤها على قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ لأن ظاهرها يصح دون حذف
الوجه السابع أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار فكان قولنا أولى فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها فوجب المصير فيه إلى التأويل وتقريره أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والأنس هي الدخول في نار جهنم جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك لكنهم لما قالوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ وأيضاً قال تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ( يونس 88 ) وأيضاً قال تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وهم ما التقطوه لهذا الغرض إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ وأما الشعر فأبيات قال(15/51)
وللموت تغدوا الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال له ملك ينادي كل يوم
لدوا للموت وابنو للخراب
وقال وأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثاً وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة فهي معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 178 ) وهو صريح مذهبنا وما بعد هذه الآية وهو قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 182 183 ) ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفاً جداً
أما قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة
والجواب أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عافل من نفسه ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور حبك الشيء يعمي ويصم(15/52)
إذا ثبت هذا فنقول إن أقواماً من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب ( مناقب الشافعي ) رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص وإن أهلكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن سعد بالرضا شقي بالسخط وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع وإن وجد مالاً أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أجهده الجوع قعد به الضعف فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب ( الأحياء ) فصلاً في تقرير مذهب الجبر
ثم قال فإن قيل إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري ثم قال وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئته وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه ما أظنك أن تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار
المسألة الثانية احتج العلماء بقوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا على أن محل العلم هو القلب لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم
أما قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة ومتشاركة أيضاً في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام
ثم قال بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل والإنسان أعطي القدرة(15/53)
على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها فلهذا السبب قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال حكيم الشعراء الروح عند إله العرش مبدؤه
وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله بَلْ هُمْ أَضَلُّ وجوه أخرى فقيل لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع وقال مقاتل هم أخطأ طريقاً من الأنعام لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه وقال الزجاج بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب وقيل إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها وقيل لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد فأما إذا كان معها مرشد قلماتضل وهؤلاء الكفاء قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال عطاء عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب
وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أمر بعده بذكر الله تعالى فقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى مذكور في سور أربعة أولها هذه السورة وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيَّامًا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 11 ) وثالثها في أول طه وهو قوله اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) ورابعها في آخر الحشر وهو قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الحشر 24 )
إذا عرفت هذا فنقول الاْسْمَاء ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين عدم(15/54)
افتقاره إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتاباً كبيراً كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه ( بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات ) من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه ونحن نذكر ههنا لمعاً ونكتاً منها فنقول إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة
الوجه الأول أن نقول الاسم إما أن يكون اسماً للذات أو لجزء من أجزاء الذات أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء وكل ما كان كذلك فهو ممكن فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء
وأما اسم الصفة فنقول الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب عن هذه الثلاثة وهي أربعة لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول الوجود صفة أو قولنا واحد عند من يقول الوحدة صفة ثانية وكقولنا حي فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا مذكور ومعلوم وأما الصفة السلبية فكقولنا القدوس السلام وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة فكقولنا عالم وقادر فإن العلم صفة حقيقية وله تعلق بالمعلوم والقادر فإن القدرة صفة حقيقية ولها تعلق بالمقدور وأما الصفة الحقيقية مع السلبية فكقولنا قديم أزلي لأنه عبارة عن موجود لا أول له وأما الصفة الإضافية مع السلبية فكقولنا أول فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب فكقولنا حكيم فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات نسب وإضافات وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب
إذا عرفت هذا فنقول السلوب غير متناهية والإضافات أيضاً غير متناهية فكونه خالقاً للمخلوقات صفة إضافية وكونه محيياً ومميتاً إضافات مخصوصة وكونه رازقاً أيضاً إضافة أخرى مخصوصة فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى لأن مقدوراته غير متناهية ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله أكثر ولما كان هذا بحراً لا ساحل له ولا نهاية له فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى
النوع الثاني في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع ما يجب ويجوز ويستحيل على الله تعالى ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة
والنوع الثالث في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية أو معنوية أو كانت من صفات الأفعال(15/55)
والنوع الرابع في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى أو لا يجوز أما القسم الأول فهو كقولنا الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايراً لمعناها في حق العباد وأما القسم الثاني فهو كقولنا الله الرحمن أما القسم الأول فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ويا خالق السموات والأرضين
النوع الخامس في تقسيم أسماء الله أن يقال من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده كقولنا يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا مميت وضار فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع
النوع السادس في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحاً ومؤثراً ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة والأول باطل وإلا لدام العالم بدوامه وذلك باطل فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحاً على سبيل الصحة ليس إلا كونه تعالى قادراً فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحاً هو كونه قادراً ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادراً عالماً وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حياً علمنا من كونه قادراً عالماً كونه حياً فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض
المسألة الثانية قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يفيد الحصر ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه وأما ما سوى ذلك الواحد فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف فالله سبحانه كامل لذاته وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه فكل كمال وجلال وشرف فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته ولغيره على سبيل العارية والذي لغيره من ذاته فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله وأن كل ما سواه فهو غرق في بحر الفناء والنقصان
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال لا أطلق على ذات الله تعالى(15/56)
اسم الشيء قال لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفاً ورتبة وجلالة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئاً قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعاً في كونه في نفسه حقيقة وذاتاً وموجوداً إنما النزاع وقع في محض اللفظ وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا فأما قولنا إنه منشىء الأشياء فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقاً ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل فالأول قوله تعلى لَّيْسَ مِن شَى ْء ( الشورى 11 ) معناه ليس مثل مثله شيء ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل نفسه فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء كان هذا تصريحاً بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء وليس لقائل أن يقول ( الكاف ) في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ حرف زائد لا فائدة فيه لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد
الحجة الثانية قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 102 الرعد 16 غافر 62 ) ولو كان تعالى داخلاً تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادراً ألحقوا ذلك الأكثر بالكل وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم وأطلقوا لفظ الكل عليه وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم
وإذا عرفت هذا فنقول إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور
الحجة الثالثة هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله وما رأينا أحداً من السلف قال في دعائه ياشيء فوجب الامتناع منه والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 ) وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود فسقط الكلام فيه
فإن قال قائل فقولنا موجود ومذكور وذات ومعلوم ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى فنقول الحق في هذا الباب التفصيل وهو أنا نقول ما المراد من قولك إنه تعالى شيء وذات وحقيقة إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء فهو كذلك من غير شك ولا شبهة وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا فنقول لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة وما رأينا ولا سمعنا أن أحداً يقول يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء(15/57)
والدعاء واجباً لله تعالى والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع وهي تفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال وأيضاً فلو قيل ولله الذوات لكان باطلاً ولما قال وَللَّهِ الاسْمَاء كان حقاً وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى
المسألة السادسة قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء وعرف بالدليل أن له إلهاً ورباً خالقاً موصوفاً بتك الصفات الشريفة المقدسة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب ( المنهاج ) لأبي عبد الله الحليمي وأحسن ما فيه أن يكون مستحضراً لأمرين أحدهما عزة الربوبية والثانية ذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة وأنا أذكر لهذا المعنى مثالاً وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس وجميع الحيوانات وجميع أصناف النبات والمعادن والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السموات على سعتها وعظمها وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها ويقول الله أكبر ويشير بقوله الله إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود ورتبها بما لها من الصفات والنعوت وبقوله أكبر أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال إنه أكبر من هذه الأشياء فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا(15/58)
أما قوله تعالى وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة يُلْحِدُونَ ووافقه عاصم والكسائي في النحل قال الفراء يُلْحِدُونَ و يُلْحِدُونَ لغتان يقال لحدت لحداً وألحدت قال أهل اللغة معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد قال ابن السكيت الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال قد ألحد في الدين ولحد وقال أبو عمرو من أهل اللغة الإلحاد العدل عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر قال الواحدي رحمه الله والأجود قراءة العامة لقوله تعالى وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ( الحج 25 ) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم ملحد ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد
المسألة الثانية قال المحققون الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه الأول إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ومن ذلك أنهم سموا أصناماً لهم باللات والعزى والمناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز واشتقاق مناة من المنان وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن والثاني أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به مثل تسمية من سماه أباً للمسيح وقول جمهور النصارى أب وابن وروح القدس ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيهاً مستحقاً للذم وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب قال أصحابنا وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ثم لا يجوز أن يقال يا خالق الديدان والقرود والقردان بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار وأن يقال يا خالق الأرض والسموات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة والثالث أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه فإنه ربما كان مسماه أمراً غير لائق بجلال الله فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء
فإن قال قائل هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق
قلنا الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره أن لفظ ( علم ) ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم وأيضاً ورد قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب وأما في حق الأنبياء فقد ورد في حق آدم عليه السلام وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصياً غاوياً وورد في حق موسى عليه السلام إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيراً والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة
ثم قال تعالى سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله قالت المعتزلة الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله(15/59)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ فأخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون للنار أتبعه بقوله وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ليبين أيضاً أن كثيراً منهم مخلوقان للجنة واعلم أنه تعالى ذكر في قصة موسى قوله وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فلما أعاد الله تعالى هذا الكلام ههنا حمله أكثر المفسرين على أن المراد منه قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روى قتادة وابن جريج عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها هذه الأمة وروى أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( هذه فيهم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها ) وعن الربيع بن أنس أنه قال قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فقال ( إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم ) وقال ابن عباس يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل لأنه لا يخلو إما أن يكون المراد زمان وجود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الزمان الذي نزلت فيه هذه الآية أو المراد أنه قد حصل زمان من الأزمنة حصل فيه قوم بالصفة المذكورة أو المراد ما ذكرنا أنه لا يخلو زمان من الأزمنة عن قوم موصوفين بهذه الصفة والأول باطل لأنه قد كان ظاهراً لكل الناس أن محمداً وأصحابه على الحق فحمل الآية على هذا المعنى يخرجه عن الفائدة والثاني باطل أيضاً لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه قد حصل زمان ما في الأزمنة الماضية حصل فيه جميع من المحقين فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أدل على أنه ما خلا زمان عن قوم من المحقين وأن إجماعهم حجة وعلى هذا التقدير فهذا يدل على أن إجماع سائر الأمم حجة
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى وما عليهم من الوعيد فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وهذا يتناول جميع المكذبين وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد أهل مكة وهو بعيد لأن صفة العموم يتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه
وأما قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم مات بعضهم عقيب بعضهم ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطراً وانهماكاً في الفساد وتمادياً في الغي ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ثم(15/60)
يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى ( اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ( مريم 46 ) أي طويلاً ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل فمعنى وَأُمْلِى لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة وقوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ قال ابن عباس يريد إن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى وذلك ضد ما يقوله المعتزلة
أجاب أبو علي الجبائي بأن المراد من الاستدراج أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون استدراجاً لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال ويجوز أن يكون عذاب الآخرة قال وقد قال بعض المجبرة المراد سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون قال وذلك فاسد لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل لأن السين في قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم يفيد الاستقبال ولا يجب أن يكون المراد أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر فالمراد إذن ما قلناه ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفراً آخر والكفر هو فعله وإنما يعاقبه بفعل نفسه
وأما قوله وَأَمْلَى لَهُمْ فمعناه أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني وهذا معنى قوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ لأن كيده هو عذابه وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون
والجواب عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم معناه ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تمادياً في الذنب والكفر زادهم الله نعمة وخيراً في الدنيا فيصير فوزهم بلذات الدنيا سبباً لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعداً عن الرجوع إلى طاعة الله هذه حالة نشاهدها في بعض الناس وإذا كان هذا أمراً محسوساً مشاهداً فكيف يمكن إنكاره الثاني هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب إلا أن هذا أيضاً يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتواً وكفراً وفساداً واستحقاق العقاب الشديد فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صوناً له عن هذا العقاب أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف أو أن لا يخلقه إلا في الجنة صوناً له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار كما شرحه في الآية المتقدمة وهي قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ( الأعراف 179 )(15/61)
وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوأ من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب والله أعلم
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّة ٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي طلباً لتحصيل تلك الرؤية بالبصر فكذلك الرؤية بالبصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب طلباً لذلك الانكشاف والتجلي وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته فقوله تعالى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفاناً حقيقياً تاماً وفي اللفظ محذوف والتقدير أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة والجنة حالة من الجنون كالجلسة والركبة ودخول ( من ) في قوله مّن جِنَّة ٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين الأول أن فعله عليه السلام كان مخالفاً لفعلهم وذلك لأنه عليه السلام كان معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة مشتغلاً بالدعوة إلى الله فكان العمل مخالفاً لطريقتهم فاعتقدوا فيه أنه مجنون قال الحسن وقتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذا من قريش فقال يا بني فلان يا بني فلان وكان يحذرهم بأس الله وعقابه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح طول هذه الليلة فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال الثاني أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه وتعرض له حالة شبيهة بالغشي فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها وكان حسن الخلق طيب العشرة مرضي الطريقة نقي السيرة مواطباً على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير دلائل التوحيد لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد(15/62)
أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
فقال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ واعلم أن دلائل ملكوت السموات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة وقد فصلناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
ثم قال وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر ودليل قاهر على التوحيد ولنقرر هذا المعنى بمثال فنقول إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وأيضاً فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون وكل ما كان كذلك فهو محدث وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصاً بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وتعالى وأيضاً أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام لا بد وأن يكون من الجائزات والجائز لا بد له من مرجح وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البحث الأول فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية واعتبارات غير متناهية وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) ولفظة ءانٍ في قوله وَأَنْ عَسَى هي المخففة من الثقيلة تقديره وأنه عسى والضمير ضمير الشأن والمعنى لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار وإذا كان هذا الاحتمال قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة والمبادرة إلى هذه الرؤية سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف 185 ) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه(15/63)
التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة
المطلب الأول أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال والدليل على أن الأمر كذلك قوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ
والمطلب الثاني أن أمر النبوة متفرع على التوحيد والدليل عليه أنه لما قال إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد ولولا أن الأمر كذلك لما كان إلى هذا الكلام حاجة
والمطلب الثالث تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ على أن القرآن ليس قديماً قالوا لأن الحديث ضد القديم وأيضاً فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب ولذلك يقال إن هذا الشيء حديث وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده ويقال في الكلام إنه حديث لأنه يحدث حالاً بعد حال على الأسماع
وجوابنا عنه أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها
المطلب الرابع أن النظر في ملكوت السموات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها أن يقال كل ما سوى الله تعالى فهو إما أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز أو لا متحيزاً ولا حالاً في المتحيز أما المتحيز فإما أن يكون بسيطاً وإما أن يكون مركباً أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي ويدخل فيه أيضاً الجنة والنار والبيت المعمور والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام وأما السفلية فهي طبقات العناصر الأربعة ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض فيقرب أجناسها من أربعين جنساً ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز فهو قسمان لأنه إما أن يكون متعلقاً بأجسام بالتدبير والتحريك وهو المسمى بالأرواح وإما أن لا يكون كذلك وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش كما قال تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ويتلوها سكان الكرسي وإليهم الإشارة بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ ( البقرة 255 ) ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السموات السبع وإليهم الأشارة بقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ( الصافات 1 3 ) ومن صفاتهم أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه له ألف(15/64)
ألف عالم وراء هذا العالم وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش وكرسي أعلى من هذا الكرسي وسموات أوسع من هذه السموات وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته بعد أن سمع قوله وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) ونعم ما قال أبو العلاء المعري يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
اعلم أنه تعالى عاد في هذه الآية مرة أخرى إلى نعت أحوال الضالين المكذبين فقال مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ واعلم أن استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله مثل ما سبق في الآية السالفة وتأويلات المعتزلة وجوابنا عنها مثل ما تقدم فلا فائدة في الإعادة وقوله وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ رفع بالاستئناف وهو مقطوع عما قبله وقرأ أبو عمرو ( ويذرهم ) بالياء ورفع الراء لتقدم اسم الله سبحانه وقرأ حمزة والكسائي بالياء والحزم ووجه ذلك فيما يقول سيبويه إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله فَلاَ هَادِيَ لَهُ لأن موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط فحمل ( ويذرهم ) على موضع الذي هو جزم
يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن في نظم الآية وجهين الأول أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة الثاني أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) باعثاً بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق فيصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك السائل من هو قال ابن عباس إن قوماً من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن وقتادة إن قريشاً قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة(15/65)
فاذكر لنا متى الساعة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق
المسألة الثالثة أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى وفي اشتقاقه قولان المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال أَيَّانَ سؤال عن الزمان وأين سؤال عن المكان فكيف يكون أحدهما مأخوذاً من الآخر والثاني وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه لأن معناه أي وقت ولفظة أي فعل من أويت إليه لأن البعض آو إلى مكان الكل متسانداً إليه هكذا قال ابن جني وقرأ السلمي إيان بكسر الهمز
المسألة الرابعة مرساها ( المرسي ) ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) أي إجراؤها وإرساؤها والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا إذا ثبت قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) فكان الرسو ليس اسماً لمطلق الثبات بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلاً ومنه إرساء الجبل وإرساء السفينة ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة بدليل قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 ) لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الحج 7 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) ولما سأل جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال متى الساعة فقال عليه السلام ( ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال المحققون والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذر منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره والمعنى لا يظهرها في وقتها المعين إِلاَّ هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو
ثم قال تعالى ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وأيضاً وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) ووصف عذابها بالشدة فقال وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( الحج 2 )
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في تفسير قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجوه قال الحسن ثقل مجيئها على السموات والأرض لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض وتبطل الجبال والبحار وقال أبو بكر الأصم إن هذا اليوم ثقيل جداً على أهل السماء والأرض لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب وقال قوم إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد وقال السدي(15/66)
ثَقُلَتْ أي خفيت في السموات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها وقال قوم ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم
ثم قال لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً وهذا أيضاً تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الساعة تفجأ الناس فالرجل يصلح موضعه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ( وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك )
ثم قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الحفي وجوه الأول الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفياً والحفي الكلام واللقاء الحسن ومنه قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي باراً لطيفاً يجيب دعائي إذا دعوته فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشاً قالت لمحمد عليه السلام إن بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة فقال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم
والقول الثاني حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها وعلى هذا القول حَفِى ٌّ فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة أي استقصى فقوله كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها قال صاحب ( الكشاف ) هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب وإحفاء البقل استئصاله وأحفى في المسألة إذا ألحف وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به وعلى هذا التقدير فالقولان الأولان متقاربان
المسألة الثانية في قوله عَنْهَا وجهان الأول أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله ( بها ) لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه والثاني أن يكون التقدير يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ بِهَا
المسألة الثالثة قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانياً يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها فلم يلزم التكرار
أجاب عن الأول بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي(15/67)
وأجاب عن الثاني بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه أحدها ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق
قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِى َ السُّو ءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن قوله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ونظيره قوله تعالى في سورة يونس وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ ( يونس 48 49 ) الثاني روي أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة فأنزل الله تعالى هذه الآية الثالث قال بعضهم لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال انظروا أي ناقتي فقال عبدالله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال عليه السلاة والسلام ( إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة ) فوجدها على ما قال فأنزل الله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ خَيْرًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل وبين أن كل من كان عبداً كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة وهذا العلم واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ والإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه وتقريره ما ذكرناه مراراً أن القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً(15/68)
للكفر وإن كانت صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلاً عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريداً للكفر فثبت أن على جميع التقادير لا يملك العبد لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله
أجاب القاضي عنه بوجوه الأول أن ظاهر قوله قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وإن كان عاماً بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا يا محمد ألايخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله والمراد بالنفع تملك الأموال وغيرها والمراد بالضر وقت القحط والأمراض وغيرها الثاني المراد لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فيما يتصل بعلم الغيب والدليل على أن المراد ذلك قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ الثالث المراد لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عدم علمه بالغيب بقوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ واختلفوا في المراد من هذا الخير فقيل المراد منه جلب منافع الدنيا وخيراتها ودفع آفاتها ومضراتها ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب وقيل المراد منه ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك وقيل المراد منه ما يتصل بالجواب عن السؤالات والتقدير لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير
والجواب عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره
أما قوله وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء ففيه قولان
القول الأول قال الواحدي رحمه الله تم الكلام عند قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ثم قال وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء أي ليس بي جنون وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ وهذا القول عندي بعيد جداً ويوجب تفكك نظم الآية
والقول الثاني إنه تمام الكلام الأول والتقدير ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدر الله عليه ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه قولان أحدهما أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلاأنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والثاني أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيراً وبشيراً للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون فلهذا السبب خصهم الله بالذكر وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )(15/69)
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وهي نفس آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا آدم حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاها وقال إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً والمراد به الحرث هذا تمام القصة
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة الثاني أنه تعالى قال بعده أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( الأعراف 191 ) وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق شيئاً ولم يقل ما لا يخلق شيئاً لأن العاقل إنما يذكر بصيغة ( من ) لا بصيغة ( ما ) الرابع أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم الخامس أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحرث فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من(15/70)
قبله فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه
إذا عرفت هذا فنقول في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد
التأويل الأول ما ذكره القفال فقال إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لالائك ونعمائك فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام
ثم قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله عن ذلك الشرك وهذا جواب في غاية الصحة والسداد
التأويل الثاني بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم آل قصي والمراد من قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ قصي وَجَعَلَ مِنْهَا جنس مِنْهَا زَوْجَهَا عربية قرشية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد اللات وجعل الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك
التأويل الثالث أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ثم قال فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ثم قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ثم يقال لذلك المنعم أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي على التبعيد فكذا ههنا
الوجه الثاني في الجواب أن نقول أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فنقول التقدير فلما آتاهما(15/71)
ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما آتاهما أي فيما آتى أولادهماونظيره قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي واسأل أهل القرية
فإن قيل فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء
قلنا لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله جَعَلاَ المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع وهو قوله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
الوجه الثالث في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام إلا أنه قيل إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق ثم بدا لهم في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
الوجه الرابع في التأويل أن نقول سلمنا صحة تلك القصة المذكورة إلا أنا نقول إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم يقال في المثل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان كتابة عبد وده فلان قال الشاعر وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ الآية وفيها مباحث
البحث الأول قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله خُلِقَ مِنْهَا زَوْجَهَا المراد حواء قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم قالوا والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضم وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم ولم لا نقول إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء وأيضاً الذي يقال إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح بقي أن يقال إذا لم نقل بذلك فما المراد من كلمة(15/72)
مِنْ في قوله وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا فنقول قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه وأخرى بحسب نوعه قال عليه الصلاة والسلام ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع وقال عليه الصلاة والسلام ( في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ) والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنساناً مثله قوله فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي جامعها والغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشاها وتغشاها إذا علاها وذلك لأنه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ومثله يجللها وهو يشبه التغطي واللبس قال تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ وقوله حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا قالوا يريد النطفة والمني والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر والحمل بكسر الحاء ما حمل على ظهر أو على الدابة وقوله فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالماء والحمل على سبيل الخفة والمراد أنها كانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن يعمر فَمَرَّتْ بِهِ بالتخفيف وقرأ غيره تُحَرّكْ بِهِ من المرية كقوله أَفَتُمَارُونَهُ وفي قراءة أخرى أَفَتُمَارُونَهُ معناه وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت فيه فَلَمَّا أَثْقَلَت أي صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا يعني آدم وحواء لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً أي ولداً سوياً مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لآلائك ونعمائك فَلَمَّا ءاتَاهُمَا الله صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عَنْهُ شُرَكَاء بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر عَنْهُ بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء أو يقال معناه أحدثا لله إشراكاً في الولد ومن قرأ للَّهِ شُرَكَاء فحجته قوله أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه ليس المراد بقوله فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكره من قصة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكلية وكان ذلك غاية الفساد في النظم والترتيب بل المراد ما ذكرناه في سائر الأجوبة من أن المقصود من الآية السابقة الرد على عبدة الأوثان وفي الآية مسائل(15/73)
المسألة الأولى المقصود من هذه الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ معناه أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئاً وهم يخلقون أي وهم مخلوقون يعني الأصنام
فإن قيل كيف وحد يَخْلُقُ ثم جمع فقال وَهُمْ يُخْلَقُونَ وأيضاً فكيف ذكر الواو والنون في جمع غير الناس
والجواب عن الأول أن لفظ مَا تقع على الواحد والاثنين والجمع فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظاهر لفظها ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين فوحد قوله يَخْلُقُ رعاية لحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وَهُمْ يُخْلَقُونَ رعابة لجانب المعنى
والجواب عن الثاني وهو أن الجمع بالواو والنون في غير من يعقل كيف يجوز فنقول لما اعتقد عابدوها أنها تعقل وتميز فورد هذا اللفظ بناء على ما يعتقدونه ويتصورونه ونظيره قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) وقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
المسألة الثانية قوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله قالوا لأنه تعالى طعن في إلهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئاً وهذا الطعن إنما يتم لو قلنا إن بتقدير أنها كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلهيتها وهذا يقتضي أن كل من كان خالقاً كان إلهاً فلو كان العبد خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه
أما قوله تعالى وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها والنصر المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها
ثم قال وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه
ثم قال وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر فكذا لا يصح فيه إذا دعى إلى الخير الأتباع ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه ثم قوى هذا الكلام بقوله سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ وهذا مثل قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل وههنا عطف الاسم على الفعل لأن قوله أَدَعَوْتُمُوهُمْ جملة فعلية وقوله أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ جملة إسمية
واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الإسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة وتلك الفائدة هي أن(15/74)
صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالاً بعد حال وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار
إذا عرفت هذا فنقول إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ وفيه سؤال وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات وجوابه من وجوه الأول أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ولذلك قال فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال إِنَّ الَّذِينَ ولم يقل التي
والجواب الثاني أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم جعلتم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) ثم أكد هذا البيان بقوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة وعن قوة الحياة وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام البتة وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة هذا هو الوجه في(15/75)
تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجهاً لهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى فقالوا إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم لأن الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة وإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم واشتغال الأفضل الأكمل بعبادة الأخس الأدون جهل فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال
الوجه الثاني في الجواب أن المقصود من ذكر هذا الكلام تقرير الحجة التي ذكرها قبل هذه الآية وهي قوله وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( الأعراف 192 ) يعني كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر ثم قرر تعالى ذلك بأن هذه الأصنام لم يحصل لها أرجل ماشية وأيد باطشة وأعين باصرة وآذان سامعة ومتى كان الأمر كذلك لم تكن قادرة على الإنفاع والإضرار فامتنع كونها آلهة أما إله العالم تعالى وتقدس فهو وإن كان متعالياً عن هذه الجوارح والأعضاء إلا أنه موصوف بكمال القدرة على النفع والضرر وهو موصوف بكمال السمع والبصر فظهر الفرق بين البابين
أما قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ قال الحسن إنهم كانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي بوجه من الوجوه وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في كيدوني والباقون حذفوها ومثله في قوله كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ قال الواحدي والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي وقد حذفوا هذه الياآت إذا كانت في القوافي كقوله يلمس الإحلاس في منزله
بيديه كاليهودي الممل
والذين أثبتوها فلأن الأصل هو الإثبات ومعنى قوله فَلاَ تُنظِرُونِ أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركائكم
إِنَّ وَلِيِّى َ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(15/76)
اعلم أنه لما بين في الآيات المتقدمة أن هذه الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر بين بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا أما تحصيل منافع الدين فبسبب إنزال الكتاب وأما تحصيل منافع الدنيا فهو المراد بقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله قرأ القراء وليي بثلاث ياآت الأولى ياء فعيل وهي ساكنة والثانية لام الفعل وهي كسورة قد أدغمت الأولى فيها فصار ياء مشددة والثالثة ياء الإضافة وروي عن أبي عمرو ولي الله بياء مشددة ووجه ذلك أنه حذف الياء التي هي لام فعيل كما حذف اللام من قولهم فاماليت به فاله ثم أدغمت ياى فعيل في ياء الإضافة فقيل ولي الله وهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة وأما الباقون فأجازوا اجتماع ثلاث ياءات والله أعلم
المسألة الثانية أن وليي الله أي الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين ويتولى الصالحين ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم وفي ذلك يأمن المشركين من أن يضره كيدهم وسمعت أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئاً فقيل له فيه فقال ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له ولياً فلا حاجة له إلى مالي وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ( القصص 17 ) ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته
أما قوله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ففيه قولان
القول الأول أن المراد منه وصف الأصنام بهذه الصفات
فإن قالوا فهذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدمة فما الفائدة في تكريرها فنقول قال الواحدي إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية
والقول الثاني أن هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير الله يعني أن الكفار كانوا يخوفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فقال تعالى إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ذلك البتة
فإن قيل لم يتقدم ذكر المشركين وإنما تقدم ذكر الأصنام فكيف يصح ما ذكر
قلنا قد تقدم ذكرهم في قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( الأعراف 195 ) أما قوله تعالى وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام قلنا المراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم جبلان متناظران أي متقابلان فإن حملناها على المشركين فالمعنى أنهم وإن كانوا ينظرون إلى الناس إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق لم ينتفعوا(15/77)
بذلك النظر والرؤية فصاروا كأنهم عمي وهذه الآية تدل على أن النظر غير الرؤية لأنه تعالى أثبت النظر ونفي الرؤية وذلك يدل على التغاير وأجيب عن هذا الاستدلال فقيل معناه تحسبهم أنهم ينظرون إليك مع أنهم في الحقيقة لا ينظرون أي تظن أنهم ينظرونك مع أنهم لا يبصرونك والرؤية بمعنى الحسبان واردة قال تعالى وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 )
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الله هو الذي يتولاه وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال أهل اللغة العفو الفضل وما أتي من غير كلفة
إذا عرفت هذا فنقول الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها وإما أن لا يجوز
أما القسم الأول فهو المراد بقوله خُذِ الْعَفْوَ ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال تعالى وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
وأما القسم الثاني وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف والعروف والعارفة والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به وأن وجوده خير من عدمه وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال لكان ذلك سعياً في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال في آية أخرى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ( المؤمنون 3 ) وقال في صفة أهل الجنة لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) وإذا أحاط عقلك بهذا التقسيم علمت أن هذه الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير قال عكرمة لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام ( يا جبريل ما هذا قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ) قال أهل العلم تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه وإذا آتيت من حرمك فقد آتيت بالمعروف وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين وقال جعفر الصادق رضي الله عنه وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وللمفسرين في تفسير هذه الآية طريق آخر فقالوا خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي ما عفا لك من أموالهم أي ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك قالوا كان هذا قبل فريضة الصدقة فلما نزلت(15/78)
آية وجوب الزكاة صارت هذه الآية منسوخة إلا قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وتقرير دلائله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ أي المشركين قالوا وهذا منسوخ بآية السيف فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
واعلم أن تخصيص قوله خُذِ الْعَفْوَ بما ذكره تقييد للمطلق من غير دليل وأيضاً فهذا الكلام إذا حملناه على أداء الزكاة لم يكن إيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة منافياً لذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس ولا يشدد الأمر على المزكى فلم يكن إيجاب الزكاة سبباً لصيرورة هذه الآية منسوخة
وأما قوله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ فالمقصود منه أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يصبر على سوء أخلاقهم وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة
وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيف يا رب والغضب فنزل قوله وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ
المسألة الثانية اعلم أن نزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي عن أبي زيد نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم وقيل النزغ الازعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الازعاج بالحركة إلى الشر وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيه ويظهر السفاهة فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته فقال وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالاً في حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغي لا جرم بين تعالى ما يجري مجرى العلاج لهذا الغرض فقال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والكلام في تفسير الاستعاذة قد سبق في أول الكتاب على الاستقصاء
المسألة الثالثة احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقالوا لولا أنه يجوز من الرسول الإقدام على المعصية أو الذنب وإلا لم يقل له وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والجواب عنه من وجوه الأول أن حاصل هذا الكلام أنه تعالى قال له إن حصل في قلبك من الشيطان نزغ كما أنه تعالى قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) ولم يدل ذلك على أنه أشرك(15/79)
وقال لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) ولم يدل ذلك على أنه حصل فيهما آلهة الثاني هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس للرسول عليه السلام إلا أن هذا لا يقدح في عصمته إنما القادح في عصمته لو قبل الرسول وسوسته والآية لا تدل على ذلك عن الشعبي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من إنسان إلا ومعه شيطان ) قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا ولكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً وهذا كالدلالة على أن الشيطان يوسوس إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) الثالث هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس وأنه عليه الصلاة والسلام يقبل أثر وسوسته إلا أنا نخص هذه الحالة بترك الأفضل والأولى قال عليه الصلاة والسلام ( وإنه ليغان على قلبي وإني لا أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة )
المسألة الرابعة الاستعاذة بالله عند هذه الحالة أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه وشديد عقابه فيدعوه كل واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أمر الشرع
المسألة الخامسة هذا الخطاب وإن خص الله به الرسول إلا أنه تأديب عام لجميع المكلفين لأن الاستعاذة بالله على السبيل الذي ذكرناه لطف مانع من تأثير وساوس الشيطان ولذلك قال تعالى فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( النحل 97 98 ) إذا ثبت بالنص أن لهذه الاستعاذة أثراً في دفع نزع الشيطان وجبت المواظبة عليه في أكثر الأحوال
المسألة السادسة قوله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد ينزغه الشيطان وبين أن علاج هذه الحالة الاستعاذة بالله ثم بين في هذه الآية أن حال المتقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب لأن الرسول لا يحصل له من الشيطان إلا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة وجوز في المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان وهذا المس يكون لامحالة أبلغ من النزغ
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي طيف بغير ألف والباقون مَسَّهُمْ طَئِفٌ بالألف قال(15/80)
الواحدي رحمه الله اختلفوا في الطيف فقيل إنه مصد وقال أبو زيد يقال طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا أقبل وأدبر وأطاف يطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم وطاف الخيال يطيف طيفاً إذا ألم في المنام قال ابن الأنباري وجائز أن يكون طيف أصله طيف إلا أنهم استثقلوا التشديد فحذفوا إحدى الياءين وأبقوا ياء ساكنة فعلى القول الأول هو مصدر وعلى ما قاله ابن الأنباري هو من باب هين وهين وميت وميت ويشهد لصحة قول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير إِذَا مَسَّهُمْ بالتشديد هذا هو الأصل في الطيف ثم سمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمة من لمة الشيطان تشبه لمة الخيال قال الأزهري الطيف في كلام العرب الجنون ثم قيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى الطيف مثل العافية والعاقبة ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلة قال الفراء في هذه الآية الطائف والطيف سواء وهو ما كان كالخيال الذي يلم بالإنسان ومنهم من قال الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر
المسألة الثالثة اعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً واعتقد في المغضوب عليه كونه عاجزاً عن الدفع فعند حصول هذه الاعتقادات الثلاثة إذا كان واقعاً في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بظواهر الأمور فأما إذا انكشف له نور من عالم الغيب زالت هذه الاعتقادات الثلاثة من جهات كثيرة أما الاعتقاد الأول وهو استقباح ذلك الفعل من المغضوب عليه فإذا انكشف له أنه إنما أقدم على ذلك العمل لأنه تعالى خلق فيه داعية جازمة راسخة ومتى خلق الله فيه تلك الداعية امتنع منه أن لا يقدم على ذلك العمل فإذا تجلى هذا المعنى زال الغضب وأيضاً فقد يخطر ببال الإنسان أن الله تعالى علم منه هذه الحالة ومتى كان كذلك فلا سبيل له إلى تركها فعند ذلك يفر غضبه وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) وأما الاعتقاد الثاني والثالث وهو اعتقاده في نفسه كونه قادراً وكون المغضوب عليه عاجزاً فهذان الاعتقادان أيضاً فاسدان من وجوه أحدها أنه يعتقد أنه كم أساء في العمل والله كان قادراً عليه وهو كان أسيراً في قبضة قدرة الله تعالى ثم إنه تجاوز عنه وثانيها أن المغضوب عليه كما أنه عاجز في يد الغضبان فكذلك الغضبان عاجز بالنسبة إلى قدرة الله وثالثها أن يتذكر الغضبان ما أمره الله به من ترك إمضاء الغضب والرجوع إلى ترك الإيذاء والإيحاش ورابعها أن يتذكر أنه إذا أمضى الغضب وانتقم كان شريكاً للسباع المؤذية والحياة القاتلة وإن ترك الانتقام واختار العفو كان شريكاً لأكابر الأنبياء والأولياء وخامسها أن يتذكر أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قوياً قادراً عليه فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحساناً منه إليه وبالجملة فالمراد من قوله تعالى اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ما ذكرناه من الاعتقادات الثلاثة والمراد من قوله تَذَكَّرُواْ ما ذكرناه من الوجوه التي تفيد ضعف تلك الاعتقادات وقوله فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ معناه أنه إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يزول مس طائف الشيطان ويحصل الاستبصار والانكشاف والتجلي ويحصل الخلاص من وسوسة الشيطان
المسألة الرابعة قوله فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ معنى إِذَا ههنا للمفاجأة كقولك خرجت فإذا زيد وإذا في قوله إِذَا مَسَّهُمْ يستدعي جزاء كقولك آتيك إذا احمر البسر(15/81)
أما قوله تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الكناية في قوله وَإِخْوانِهِمْ إلى ماذا تعود على قولين
القول الأول وهو الأظهر أن المعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين في الغي وذلك لأن شياطين الأنس إخوان لشياطين الجن فشياطين الإنس يغوون الناس فيكون ذلك إمداداً منهم لشياطين الجن على الإغواء والأضلال
والقول الثاني أن إخوان الشياطين هم الناس الذين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يكونون مدداً لهم فيه والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخاً من الشياطين
المسألة الثانية تفسير الإمداد تقوية تلك الوسوسة والإقامة عليها وشغل النفس عن الوقوف على قبائحها ومعايبها
المسألة الثالثة قرأ نافع يَمُدُّونَهُمْ ( بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والباقون يَمُدُّونَهُمْ بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان مد يمد وأمد يمد وقيل مد معناه جذب وأمد معناه من الإمداد قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنون 55 ) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَة ٍ ( الطور 22 ) وقوله أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ( النمل 36 ) وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( البقرة 15 ) قراءة العامة وهي فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الإنشقاق 24 ) وقوله ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ( الأعراف 202 ) قال الليث الإقصار الكف عن الشيء قال أبو زيد أقصر فلان عن الشر يقصر إقصاراً إذا كف عنه وانتهى قال ابن عباس ثم لا يقصرون عن الضلال والإضلال أما الغاوي ففي الضلال وأما المغوي ففي الإضلال
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِأايَة ٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَى َّ مِن رَّبِّى هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن شياطين الجن والأنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال بين في هذه الآية نوعاً من أنواع الإغواء والإضلال وهو أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقوله وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) ثم أعاد أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيهم فعند ذلك قالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قال الفراء تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك والمعنى لولا تقولتها وافتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ ( سبأ 43 ) أو يقال هلا اقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله(15/82)
يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر رسوله أن يذكر الجواب الشافي وهو قوله اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَى َّ مِن رَّبّى ومعناه ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أولها قوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ أصل البصيرة الأبصار ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب وثانيها قوله وَهَدَى والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أن الناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد قسمان أحدهما الذين بلغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين والثاني الذين ما بلغوا إلى ذلك الحد إلا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلين وهم أصحاب علم اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المقتصدون هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة ولما كانت الفرق الثلاث من المؤمنين لا جرم قال لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
وَإِذَا قُرِى ءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( الأعراف 203 ) أردفه بقوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإنصات السكوت والاستماع يقال نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد
المسألة الثانية لا شك أن قوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ أمره وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً وللناس فيه أقوال
القول الأول وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق ومعلمي الصبيان
والقول الثاني أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة قال أبو هريرة رضي الله عنه كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية وأمروا بالإنصات وقال قتادة كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
والقول الثالث أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام قال ابن عباس قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية وهو قول أبي حنيفة وأصحابه(15/83)
والقول الرابع أنها نزلت في السكوت عند الخطبة وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وهذا القول منقول عن الشافعي رحمه الله وكثير من الناس قد استبعد هذا القول وقال اللفظ عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط ولا تفيد التكرار والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة واحدة طلقت طلقة واحدة فإذا دخلت الدار ثانياً لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة إِذَا لا تفيد التكرار
إذا ثبت هذا فنقول قوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية وذلك لأن عند الشافعي رحمه الله يسكت الإمام وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت وهذا السؤال أورده الواحدي في ( البسيط )
ولقائل أن يقول سكوت الإمام إما أن نقول إنه من الواجبات أو ليس من الواجبات والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت فبتقدير أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام وذلك يفضي إلى ترك الاستماع وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام وذلك على خلاف النص وأيضاً فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام وحينئذ يلزم المحذور المذكور وأيضاً فالإمام إنما يبقى ساكتاً ليتمكن المأموم من إتمام القراءة وحينئذ ينقلب الإمام مأموماً والمأموم إماماً لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز وذكر الواحدي سؤالاً ثانياً على التمسك بالآية فقال إن الإنصات هو ترك الجهر والعرب تسمي تارك الجهر منصتاً وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحداً
ولقائل أن يقول إنه تعالى أمره أولاً بالاستماع واشتغاله بالقراءة يمنعه من الاستماع لأن السماع غير والاستماع غير فالاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل قال تعالى لموسى عليه السلام وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى طه 13 ) والمراد ما ذكرناه وإذا ثبت هذا وظهر أن الاشتغال بالقراءة مما يمنع من الاستماع علمنا أن الأمر بالاستماع يفيد النهي عن القراءة
السؤال الثالث وهو المعتمد أن نقول الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهب أن عموم قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وقوله ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) أخص من ذلك العموم وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص عموم هذه الآية بهذا الخبر وهذا السؤال حسن
والسؤال الرابع أن نقول مذهب مالك وهو القول القديم للشافعي أنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلوات الجهرية عملاً بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلوات السرية لأن هذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة وهذا أيضاً سؤال حسن وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى(15/84)
وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين وهذا قول حسن مناسب وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواماً من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها فأمر الله رسوله أن يقول جواباً عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي وليس لي إلا أن أنتظر الوحي ثم بين تعالى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف 203 ) فلو قلنا إن قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه وانقطع النظم وحصل فساد الترتيب وذلك لا يليق بكلام الله تعالى فوجب أن يكون المراد منه شيئاً آخر سوى هذا الوجه وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة من حيث إنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة فحينئذ يظهر لهم كونه معجزاً دالاً على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن إنه بصائر وهدى ورحمة فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزاً على صدق نبوته وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى وجوه
الوجه الأول أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( فصلت 26 ) فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز
والوجه الثاني أنه تعالى قال قبل هذه الآية هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم
ثم قال وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولو كان المخاطبون بقوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ هم المؤمنون لما قال لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعاً فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين أما إذا قلنا إن المخاطبين بقوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ هم الكافرون صح حينئذ قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأن المعنى فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ ( لعل ) فيه فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى وحينئذ يسقط(15/85)
استدلال الخصم به من كل الوجوه لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ( الأعراف 204 ) اعلم أن قارئاً يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن ومعلوم أن ذلك القارىء ليس إلا الرسول عليه السلام فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة ثم إنه تعالى أردف ذلك الأمر بأن أمره في هذه الآية بأن يذكر ربه في نفسه والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الأخلاص والتضرع
المسألة الثانية أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيداً بقيود
القيد الأول وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفاً بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضراً لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عارياً عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئاً فإنه لا ينعقد البيع والشراء فكذا ههنا ويتفرع على ما ذكرنا أحكام
الحكم الأول
سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوماً ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء فكل اسم وجدت قلبه عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب
الحكم الثاني
قال المتكلمون هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك(15/86)
فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة
قلنا هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال والثاني باطل لأن ما لا يكون متصوراً كان الذهن غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالباً له فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات فامتنع ورود الأمر به والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايراً للمعرفة والعلم والتصور وذلك هو المطلوب
الحكم الثالث
أنه تعالى قال وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ولم يقل واذكر إلهك ولا سائر الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا وأضاف نفسه إليه وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء فإذا سمع بعد ذلك قوله تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً عظم الخوف وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) إلا أن هنا دقيقة وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء علمنا أن جانب الرجاء أقوى
القيد الثاني من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع وإليه الإشارة بقوله تعالى تَضَرُّعًا وهذا القيد معتبر ويدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فقوله في سورة الأنعام قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ً ( الأنعام 63 ) وأما المعقول فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين أحدهما عزة الربوبية وهذا المقصود إنما يتم بقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ الثاني بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله تَضَرُّعًا فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود وبهما يتم معراج الأرواح القدسية وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع والخوف والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحداً لأن ذلك العقاب إيذاء للغير ولا فائدة للحق فيه وإذا كان كذلك لا يعذب فإذا اعتقد هذا لم يكمل التضرع والخوف فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين الأول خوف العقاب وهو مقام المبتدين والثاني خوف الجلال وهو مقام المحققين وهذا الخوف ممتنع الزوال وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين مكاشفة الجمال ومكاشفة الجلال فإذا كشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين(15/87)
القيد الثالث قوله وَخِيفَة ً وفي قراءة أخرى وَخُفْيَة ً وقال الزجاج أصلها ( خوفة ) فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها أقول هذا الخوف يقع على وجوه أحدها خوف التقصير في الأعمال وثانيها خوف الخاتمة والمحققون خوفهم من السابقة لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة ولذلك كان عليه السلام يقول ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) وثالثها خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول الشكر شرك فسألوني عن هذه الكلمة فقلت لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول منك النعمة ومني الشكر ولا شك أن هذا شرك فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع فهناك يشم فيه رائحة العبودية
وأما القراءة الثانية وهو قوله وَخُفْيَة ً فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام ( من عرف الله كل لسانه )
القيد الرابع قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطاً بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ( الإسراء 110 ) وقال عن زكريا عليه السلام إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) قال ابن عباس وتفسير قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه فإن المراد حصول الذكر اللساني والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض وتصير هذه الانعكاسات سبباً لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام
والقيد الخامس قوله بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وههنا مسائل
المسألة الأولى في لفظ ( الغدو ) قولان
القول الأول أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدواً غدوا ومنه قوله تعالى غُدُوُّهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) أي غدوها للسير ثم سمى وقت الغدو غدواً كما يقال دنا الصباح أي وقته ودنا المساء أي وقته
القول الثاني أن يكون الغدو جمع غدوة قال الليث الغدو جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة وأما الآصال فقال الفراء واحدها أصل وواحد الأصل الأصيل قال يقال جئناهم مؤصلين أي عند الآصال ويقال الأصيل مأخوذ من الأصل واليوم بليلته إنما يبتدأ بالشروع من أول الليل وآخر نهار كل يوم متصل بأول ليل اليوم الثاني فسمى آخر النهار أصيلاً لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني
المسألة الثانية خص الغدو والآصال بهذا الذكر والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور(15/88)
الذي هو طبيعة وجودية وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر ومن الناس من قال ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان عن ابن عباس أنه قال في قوله الاْلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( الأعراف 191 ) لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام
والقيد السادس قوله تعالى وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ والمعنى أن قوله بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلاً في كل الأوقات وقوله وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائماً وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية وتحقيق القول أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن وأيضاً إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرر مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس
إذا عرفت هذا فنقول إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه حصل أثر من ذلك الذكر اللساني في الخيال ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال ثم مرة أخرى إلى العقل ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض ويتقوى بعضها بعض ويستكمل بعضها ببعض ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب لا جرم لا نهاية لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية وذلك بحر لا ساحل له ومطلوب لا نهاية له
واعلم أن قوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإن كان ظاهره خطاباً مع النبي عليه السلام إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 )
إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ والمعنى أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم(15/89)
وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى ( مرين 31 ) وقال لمحمد عليه السلام وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 )
المسألة الثانية المشبهة تمسكوا بقوله إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ وقالوا لفظ عِندَ مشعر بالمكان والجهة
وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( الأعراف 54 يونس 3 ) على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلاً في المكان والجهة
وإذا ثبت هذا فنقول وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية وبيانه من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى قال وَهُوَ مَعَكُمْ ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا وأيضاً جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة فكذا ههنا
والوجه الثاني إن المراد القرب بالشرف يقال للوزير قربة عظيمة من الأمير وليس المراد منه القرب بالجهة لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة
والوجه الثالث أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات
والوجه الرابع إنما قال تعالى في صفة الملائكة الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال إن عند الخليفة جيشاً عظيماً وإن كانوا متفرقين في البلد فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه
المسألة الرابعة ذكر من طاعاتهم أولاً كونهم يسبحون وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح وأيضاً قوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ يفيد الحصر ومعناه أنهم لا يسجدون لغير الله
فإن قيل فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ص 73 ) والمراد أنهم سجدوا لآدم
والجواب قال الشيخ الغزالي الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض فأما عظماء ملائكة السموات فلا(15/90)
وقيل أيضاً إن قوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ يفيدون أنهم ما سجدوا لغير الله فهذا يفيد العموم وقوله فسجدوا لآدم خاص والخاص مقدم على العام
واعلم أن الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية كثيرة كقوله تعالى حكاية عنهم وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 165 166 ) وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) والله أعلم(15/91)
سورة الأنفال
مدنية إلا من آية 30 إلى غاية 36 فمكية
وآياتها 75 نزلت بعد البقرة
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ يقتضي البحث عن خمسة أشياء السائل والمسؤول وحقيقة النفل وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان وإن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال
أما البحث الأول فهو أن السائلين من كانوا فنقول إن قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً معيناً فانصرف هذا اللفظ إليهم ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال وهم أقوام من الصحابة
وأما البحث الثاني وهو أن المسؤول من كان فلا شك أنه هو النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأما البحث الثالث وهو أن الأنفال ما هي فنقول قال الزهري النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل وسميت الغنائم أنفالاً لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل وقال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً ( الأنبياء 72 ) أي زيادة على ما سأل
وأما البحث الرابع وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان فنقول فيه وجهان الأول لفظ السؤال وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعاً عن ذلك المعين ونظيره(15/92)
قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( البقرة 220 ) فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى وذلك الحكم غير معين إلا أن الجواب كان معيناً لأنه تعالى قال في المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالاً عن مخالطة النساء في المحيض وقال في اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعاً عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة وأيضاً قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الإسراء 85 ) وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثاً أو قديماً فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها
والقول الثاني أن قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ أي من الأنفال والمراد من هذا السؤال الاستعطاء على ما روي في الخبر أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا ولا يبعد إقامة عن مقام من هذا قول عكرمة وقرأ عبد الله يَسْأَلُونَكَ الانفَالِ
والبحث الخامس وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال فنقول إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها ويدل عليه وجوه الأول أن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على أن المقصود من ذكر منع القوم عن المخاصمة والمنازعة وثانيها قوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم وثالثها أن قوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يدل على ذلك
إذا عرفت هذا فنقول يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ويحتمل أن يكون المراد غيرها
أما الأول ففيه وجوه أحدها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضاً وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة وطلحة وسعيد بن زيد فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام وأما الخمسة من الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر خلفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المدينة وعاصم خلفه على العالية والحرث بن حاطب رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه والحرث بن الصمة أصابته علة بالروحاء وخوات بن جبير فهؤلاء لم يحضروا وضرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم في تلك الغنائم بسهم فوقه من غيرهم فيه منازعة فنزلت هذه الآية بسببها وثانيها روى أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المصاف فقال الشبان الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا وقال الأشياخ كنا ردأ لكم ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا فوقعت المخاصمة بهذا السبب فنزلت الآية وثالثها قال الزجاج الأنفال الغنائم وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقاً بالمنازعة والمخاصمة(15/93)
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئاً سوى الغنائم فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضاً وجوه أحدها قال ابن عباس في بعض الروايات المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضعه حيث يشاء وثانيها الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس وهو قول مجاهد قال فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية وثالثها أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من الغنم ترغيباً له في القتال كما إذا قال الإمام ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه ولا يخمس النفل وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ( ليس هذا لي ولا لك أطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم ) فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أنزلت سورة الأنفال فقال يا سعد ( إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فخذه ) قال القاضي وكل هذه الوجوه تحتمله الآية وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين قضى به وإلا فالكل محتمل وكما أن كل واحد منها جائز فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها والأقرب أن يكون المراد بذلك ماله عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها لأنه يسوغ له تحريضاً على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحداً في ابتداء المحاربة ليبالغ في الحرب أو عند الرجعة أو يعطيه سلب القاتل أو يرضخ لبعض الحاضرين وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به وعلى هذا التقدير فيكون قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقاً للمجاهدين
أما قوله تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ففيه بحثان
البحث الأول المراد منه أن حكمها مختص بالله والرسول يأمره الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد
البحث الثاني قال مجاهد وعكرمة والسدي إنها منسوخة بقوله فإن لله خمسه وللرسول وذلك لأن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول فنسخها الله بآيات الخمس وهو قول ابن عباس في بعض الروايات وأجيب عنه من وجوه الأول أن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ معناه أن الحكم فيها لله وللرسول وهذا المعنى باق فلا يمكن أن يصير منسوخاً ثم إنه تعالى حكم بأن يكون أربعة أخماسها ملكاً للغانمين الثاني أن آية الخمس تدل على كون الغنيمة ملكاً للغانمين والأنفال ههنا مفسرة لا بالغنائم بل بالسلب وإنما ينفله الرسول عليه السلام لبعض الناس لمصلحة من المصالح
ثم قال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول معناه فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال وارضوا بما حكم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
البحث الثاني في قوله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ أي وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال ولما كانت(15/94)
الأقوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور
ثم قال وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثم بالغ في هذا التأكيد فقال إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها واحتج من قال ترك الطاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية وتقريره أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء وههنا الإيمان معلق على الطاعة بكلمة ءانٍ فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة وتمام هذه المسألة مذكور في قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) والله أعلم
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قال وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزماً للطاعة شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة الأول قوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال الواحدي يقال وجل يوجل وجلاً فهو وجل وأوجل إذا خاف قال الشاعر لعمرك ما أدري وإني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول
والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمناً إذا كان خائفاً من الله ونظيره قوله تعالى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 ) وقوله الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) وقوله الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ( المؤمنون 2 ) وقال أصحاب الحقائق الخوف على قسمين خوف العقاب وخوف العظمة والجلال أما خوف العقاب فهو للعصاة وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف(15/95)
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المراد من الوجل القسم الأول فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله وإنما يحصل من ذكر عقاب الله وهذا هو اللائق بهذا الموضع لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني فذلك لازم من مجرد ذكر الله ولا حاجة في الآية إلى الإضمار
فإن قيل إنه تعالى قال ههنا وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وقال في آية أخرى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ( الرعد 28 ) فكيف الجمع بينهما وأيضاً قال في آية أخرى ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) قلنا الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل إنما يكون من خوف العقوبة ولا منافاة بين هاتين الحالتين بل نقول هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله
الصفة الثانية قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وهو قكلوه وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) ثم فيه مسائل
المسألة الأولى زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين
الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين وإليه الإشارة بقوله عليه السلام ( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح ) يريد أن معرفته بالله أقوى
ولقائل أن يقول المراد من هذه الزيادة إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل أما قوة الدليل فباطل وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوماً بها جزماً مانعاً من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلاً في كل المقدمات امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلاً بل أمارة والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علماً بل ظناً فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد إن كان مانعاً من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلاً بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة فثبت أن هذا التأويل ضعيف
واعلم أنه يمكن أن يقال المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضراً للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ومنهم من يكون مداوماً لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ومراتب متفاوتة وهو المراد من الزيادة
والوجه الثاني من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متعاقبة فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقاً وإقراراً ومن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد وقوله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا(15/96)
معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق وفي الآية وجه ثالث وهو أن كمال قدرة الله وحكمته إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته وهذا بحر لا ساحل له وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة
المسألة الثانية اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا أما الذين قالوا الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين الأول أن قوله زَادَتْهُمْ إِيمَاناً يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة والثاني أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة قال في الموصوفين بها أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان وروي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة قالوا لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان وهذا الاستدلال ضعيف لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان وليس الأمر كذلك لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم
الصفة الثالثة للمؤمنين قوله تعالى وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده وأن يقولوا صدق الله ورسوله وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ( الأحزاب 12 ) ثم نقول هذا الكلام يفيد الحصر ومعناه أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة وهي أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله
واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب فإن المرتبة الأولى هي الوجل من عقاب الله
والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات التكاليف لله
والمرتبة الثالثة هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى
والصفة الرابعة والخامسة قوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ واعلم أن المراتب(15/97)
الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة وبذل المال في مرضاة الله ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر قالت المعتزلة إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقاً وقد سبق ذكر هذا الكلام مراراً
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس أثبت للموصوفين بها أموراً ثلاثة الأول قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله حَقّاً بماذا يتصل فيه قولان أحدهما بقوله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي هم المؤمنون بالحقيقة والثاني أنه تم الكلام عند قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ثم ابتدأ وقال حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ
المسألة الثانية ذكروا في انتصاب حَقّاً وجوهاً الأول قال الفراء التقدير أخبركم بذلك حقاً أي أخباراً حقاً ونظيره قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( النساء 151 ) والثاني قال سيبويه إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام والتقدير وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً الثالث قال الزجاج التقدير أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً
المسألة الثالثة اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا فقال أصحاب الشافعي الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله ولا يقول أنا مؤمن حقاً وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله أما الذين قالوا إنه يقول أنا مؤمن إن شاء الله فلهم فيه مقامان
المقام الأول أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان
المقام الثاني أن لا يكون الأمر كذلك أما المقام الأول فتقريره أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط وأما المقام الثاني وهو أن نقول إن قوله أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك فيه وجوه الأول أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله فإذا قال أنا مؤمن فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح فوجب أن يقول إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب روي أن أبا حنيفة رحمه الله قال لقتادة لم تستثني في إيمانك قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )(15/98)
فقال أبو حنيفة رحمه الله هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ( البقرة 260 ) وأقول كان لقتادة أن يجيب ويقول إنه بعد أن قال بَلَى قال وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فطلب مزيد الطمأنينة وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله الثاني أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة وهي الخوف من الله والإخلاص في دين الله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر وهو قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هم كذا وكذا وذكر في آخر الآية قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وهذا أيضاً يفيد الحصر فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس لا جرم كان الأولى أن يقول إن شاء الله روى أن الحسن سأله رجل وقال أمؤمن أنت فقال الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا الثالث أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة وذلك لا سبيل إليه فكذا هذا ونقل عن الثوري أنه قال من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن الرابع أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر فأما عند زوال هذا المعنى فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله أما في نفس الأمر فلا
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه وهذا المعنى محتمل الخامس أن أصحاب الموافاة يقولون شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ويكون مجهولاً والموقوف على المجهول مجهول فلهذا السبب حسن أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله السادس أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة كان وجوده كعدمه ولم تحصل فائدة أصلاً فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى السابع أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وهو تعالى منزه عن الشك والريب فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده هذا المعنى فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان الثامن أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك فالمؤمن يقول إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني أما القائلون أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه الأول أن المتحرك يجوز أن يقول أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا(15/99)
متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال الثاني أنه تعالى قال أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز
والجواب عن الأول أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها وعند حصول الفرق يتعذر الجمع وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً وذلك الشرط مشكوك فيه والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط فهذا يقوي عين مذهبنا والله أعلم
الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ والمعنى لهم مراتب بعضها أعلى من بعض
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان الثلاثة الأول هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية وهي الخوف والإخلاص والتوكل والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب وفي تنويره بالمعارف الإلهية ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب كانت المعارف أيضاً لها درجات ومراتب وذلك هو المراد من قوله لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ والثواب الحاصل في الجنة أيضاً مقدر بمقدار هذه الأحوال فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة فلهذا المعنى قال لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ
فإن قيل أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك مخل بكون الثواب رزقاً كريماً
والجواب أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم
الحكم الثالث والرابع
أن قوله وَمَغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة قال المتكلمون أما كونه رزقاً كريماً فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم ومجموع ذلك هو حد الثواب وقال العارفون المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته قال الواحدي قال أهل اللغة الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن والكريم المحمود فيما يحتاج إليه والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم قال تعالى إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( النمل 29 ) وقال مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( الشعراء 7 لقمان 10 ) وقال وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ( النساء 31 ) وقال وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( الإسراء 23 )(15/100)
فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن وقال هشام بن عروة يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته
فإن قال قائل ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات
قلنا إنه تعالى بدأ بقوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة
كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال ( من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا ) ليرغبهم في القتال فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ولم يتأخروا عن القتال جبناً ولا بخلاً ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية وأيضاً حين خرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية فلما قال تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا الثاني أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله وإن كرهوه كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه الثالث لما قال أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً كان التقدير أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق الرابع قال الكسائي ( الكاف ) متعلق بما بعده وهو قوله يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ والتقدير كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ(15/101)
على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه والله أعلم
المسألة الثانية قوله مِن بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها موضع هجرته وسكناه بالحق أي إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ في محل الحال أي أخرجك في حال كراهيتهم روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وأقوام آخرون فأخبر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم فلما أزمعوا وخرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلولا إن أخذ محمد عيركم لن تفلحوا أبداً وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس فقال أبو جهل ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة ا فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير وفي المثل السائر لا في العير ولا في النفير فقيل له العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع إلى مكة بالناس فقال لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور وتغني القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بخروجنا وإن محمداً لم يصب العير فمضى إلى بدر بالقوم وبدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزل جبريل وقال يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير من قريش واستشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه فقال ( ما تقولون إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير قالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عند غضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر وعمر فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت فوالله لو سرت إلى عدن لما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24 ) ولكنا نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال ( سيروا على بركة الله والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ولما فرغ رسول الله من بدر قال بعضهم عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك
إذا عرفت هذه القصة فنقول كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لا لكلهم بدليل قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ والحق الذي جادلوا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلقى النفير لإيثارهم العير وقوله بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ المراد منه إعلام رسول الله بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب للقتال وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال ثم إنه تعالى شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته وبالجملة فقوله وَهُمْ يَنظُرُونَ كناية عن الجزم والقطع ومنه قوله عليه السلام ( من نفى ابنه وهو ينطر إليه ) أي يعلم أنه ابنه وقوله تعالى يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( النبأ 40 ) أي يعلم(15/102)
واعلم أنه كان خوفهم لأمور أحدها قلة العدد وثانيها أنهم كانوا رجالة روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وثالثها قلة السلاح
المسألة الثالثة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما خرج من بيته باختيار نفسه ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه فقال كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وهذا يدل على أن فعل العبد بخلق الله تعالى إما ابتداء أو بواسطة القدرة والداعية اللذين مجموعهما يوجب الفعل كما هو قولنا قال القاضي معناه أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه فأضيف إليه
قلنا لا شك أن ما ذكرتموه مجاز والأصل حمل الكلام على حقيقته
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَة ِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
اعلم أن قوله إِذْ منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين قال الفراء والزجاج ومثله قوله تعالى هَلُ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( الزخرف 66 ) وَأَنْ في موضع نصب كما نصب الساعة وقوله أيضاً وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن ( الفتح 25 ) حَمِيمٍ ءانٍ في موضع رفع بلولاً والطائفتان العير والنفير وغير ذات الشوكة العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك ويقال شوك القنا لسنانها ومنه قولهم شاكي السلاح أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته وفيه سؤالات
السؤال الأول أليس أن قوله يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ثم قوله بعد ذلك لِيُحِقَّ الْحَقَّ تكرير محض
والجواب ليس ههنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سبباً لعزة الدين وقوته ولهذا السبب قرنه بقوله وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ الذي هو الشرك ولك في مقابلة الْحَقّ الذي هو الدين والإيمان
السؤال الثاني الحق حق لذاته والباطل باطل لذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل(15/103)
والجواب المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل بإظهار كون ذلك الحق حقاً وإظهار كون ذلك الباطل باطلاً وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤوساء الباطل
واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى لِيُحِقَّ الْحَقَّ قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه والحق ليس إلا الدين والاعتقاد فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى قالوا ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد فامتنع أيضاً إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً
واعلم أن المعتزلة أيضاً تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا هذه الآية تدل على أنه لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة بل إنه تعالى أبداً يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له
وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا
أما قوله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز أن يكون العامل في إِذْ هو قوله وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ فتكون الآية متصلة بما قبلها ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون
المسألة الثانية في قوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ قولان
القول الأول أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام قال ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة(15/104)
ونيف استقبل القبلة ومد يده وهو يقول ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية ولما اصطفت القوم قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور
القول الثاني أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته ولم ينقل دعاء القوم فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب
المسألة الثالثة قوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى إجابهم وقال أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ مُرْدِفِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَنّي مُمِدُّكُمْ أصله بأني ممدكم فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله وعن أبي عمرو أنه قرأ أَنّي مُمِدُّكُمْ بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول
المسألة الثانية قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم مُرْدِفِينَ بفتح الدال والباقون بكسرها قال الفراء مُرْدِفِينَ أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و مُرْدِفِينَ أي فعل بهم ذلك ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل هم غلبونا لا أنتم وروى أن رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقياً وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت ذاك من مدد السماء وقال آخرون لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى قال الفراء الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير ما جعل الله الأرداف إلا بشرى وقال الزجاج ما جعل الله المردفين إلا بشرى وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى قال ابن عباس كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر في العريش قاعداً يدعو وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره فخفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نفسه نعساً ثم ضرب(15/105)
بيمينه على فخذ أبي بكر وقال ( أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل ) وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى وذلك ينفي إقدامهم على القتال
ثم قال تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاٌّ قْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَة ِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج إِذْ موضعها نصب على معنى وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى ( آل عمران 126 ) في ذلك الوقت ويجوز أيضاً أن يكون التقدير اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة
المسألة الثانية في يغشاكم ثلاث قراآت الأولى قرأ نافع بضم الياء وسكون الغين وتخفيف الشين يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ بالنصب الثانية يغشاكم بالألف وفتح الياء وسكون العين يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير الثالثة قرأ الباقون يُغَشّيكُمُ بتشديد الشين وضم الياء من التغشية النُّعَاسَ بالنصب أي يلبسكم النوم قال الواحدي القراءة الأولى من أغشى والثانية من غشي والثالثة من غشي فمن قرأ يغشاكم فحجته قوله الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً يعني فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ يُغَشّيكُمُ أو يُغَشّيكُمُ فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( ي س 9 ) وقال فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم 54 ) وقال كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله
المسألة الثالثة أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع الأول قوله إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ أي من قبل الله(15/106)
واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم وإذا نام الخائفون أمنوا فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن وثانيها أنهم خافوا من جهات كثيرة أحدها قلة المسلمين وكثرة الكفار وثانيها الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين وثالثها العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر
والوجه الثالث في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه
والوجه الرابع أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز
فإن قيل فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس
قلنا لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين
فإن قيل إذا قرىء يُغَشّيكُمُ بالتخفيف والتشديد ونصب النُّعَاسَ فالمضير لله عز وجل وأمنة مفعول له أما إذا قرىء يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ فكيف يمكن جعل قوله ءامِنَة ً مفعولاً له مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل
قلنا قوله يغشاكم وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء كَانَتْ ءامِنَة ً بسكون الميم ونظير أمن أمنة حي حياة ونظير أمن أمنة رحم رحمة قال ابن عباس النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان
النوع الثاني من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ولا شبهة أن المراد منه المطر وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء واستولوا عليه وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة وعطش المؤمنون وخافوا وأعوزهم الماء للشرب والطهارة وأكثرهم احتلموا وأجنبوا وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر وعظمت النعمة به من جهات أحدها زوال العطش فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل فصار كالحوض الكبير واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا وثانيها أنهم اغتسلوا من ذلك الماء وزالت الجنابة عنهم وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه(15/107)
وثالثها أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة
أما قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ففيه وجوه الأول أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان الثاني أن الكفار لما نزلوا على الماء وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام الثالث أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد
فإن قيل فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى
قلنا قوله لّيُطَهّرَكُمْ معناه ليزيل الجنابة عنكم فلو حملنا قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله لّيُطَهّرَكُمْ حصول الطهارة الشرعية والمراد من قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث ثم تقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( المدثر 5 )
النوع الثالث من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم ومعنى الربط في اللغة الشد وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) ويقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال رجل رابط أي حابس قال الواحدي ويشبه أن يكون عَلَى ههنا صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة عَلَى تفيد الاستعلاء فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها
والنوع الرابع من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا ولولا هذا المطر لما قدروا عليه وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى المطر وثانيها أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى الربط وثالثها روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل فلما نزل المطر عظم الوحل فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك(15/108)
النوع الخامس من النعم المذكورة ههنا قوله إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَة ِ أَنّي مَعَكُمْ وفيه بحثان الأول قال الزجاج إِذْ في موضع نصب والتقدير وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا الثاني قوله إِنّى مَعَكُمْ فيه وجهان الأول أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين والثاني أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار وإنما الخائف هم المسلمون
ثم قال فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه الأول أنهم عرفوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك فهذا هو التثبيت والثاني أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب والثالث أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر
والنوع السادس من النعم المذكورة في هذه الآية قوله سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ وهذا من النعم الجليلة وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين
أما قوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ففيه وجهان الأول أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى فَثَبّتُواْ وقيل بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر فعند هذا أمرهم بمحاربتهم وفي قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ قولان الأول أن ما فوق العنق هو الرأس فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد والثاني أن قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أي فاضربوا الأعناق
ثم قال وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ يعني الأطراف من اليدين والرجلين ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء ومنهم من قال بل المراد إما القتل وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين قال ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والمعنى أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله قال الزجاج شَاقُّواْ جانبوا وصاروا في شق غير شق المؤمنين والشق الجانب وَشَاقُّواْ اللَّهِ مجاز والمعنى شاقوا أولياء الله ودين الله
ثم قال وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه(15/109)
ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج ذالِكُمْ رفع لكونه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير الأمر ذلكم فذوقوه ولا يجوز أن يكون ذالِكُمْ ابتداء وقوله فَذُوقُوهُ خبر لأن ما بعد الفاء لا يكون خبراً للمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم أما أن يقال زيد فمنطلق فلا يجوز إلا أن نجعل زيداً خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير هذا زيد فمنطلق أي فهو منطلق
المسألة الثانية أنه تعالى لما بين أن من يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب بين من بعد ذلك صفة عقابه وأنه قد يكون معجلاً في الدنيا وقد يكون مؤجلاً في الآخرة ونبه بقوله ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وهو المعجل من القتل والأسر على أن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل لهم في الآخرة فلذلك سماه ذوقاً لأن الذوق لا يكون إلا تعرف طعم اليسير ليعرف به حال الكثير فعاجل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعد لهم في الآخرة وقوله فَذُوقُوهُ يدل على أن الذوق يحصل بطريق آخر سوى إدراك الطعوم المخصوصة وهي كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وكان عليه السلام يقول ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) فهذا يدل على إثبات الذوق والأكل والشرب بطريق روحاني مغاير للطريق الجسماني
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة ٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الأزهري أصل الزحف للصبي وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال فيمشي كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب قال ثعلب الزحف المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر(15/110)
إذا عرفت هذا فنقول قوله إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً أي متزاحفين نصب على الحال ويجوز أن يكون حالاً للكفار ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع والمعنى إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين إحداهما أن يكون متحرفاً للقتال والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها يقال تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء والثانية قوله أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ قال أبو عبيدة التحيز التنحي وفيه لغتان التحيز والتحوز قال الواحدي وأصل هذا الحوز وهو الجمع يقال حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع ثم سمى التنحي تحيزاً لأن المتنحى عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره
إذا عرفت هذا فنقول الفئة الجماعة فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد وفي الكفار كثرة وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة وإن تحيز إلى جمع كان راجياً للخلاص وطامعاً في العدو بالكثرة فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون ذلك جائزاً والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين
ثم إنه تعالى قال وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا في هاتين الحالتين فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
المسألة الثانية احتج القاضي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة وذلك لأن الآية دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ونار جهنم قال وليس للمرجئة أن يحملوا هذه الآية على الكفار دون أهل الصلاة كصنعهم في سائر آيات الوعيد لأن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة
واعلم أن هذه المسألة قد ذكرناها على الاستقصاء في سورة البقرة وذكرنا أن الاستدلال بهذه الظواهر لا يفيد إلا الظن وقد ذكرنا أيضاً أنها معارضة بعمومات الوعد وذكرنا أن الترجيح بجانب عمومات الوعد من الوجوه الكثيرة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في أن هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر قالوا والسبب في اختصاص يوم بدر بهذا الحكم أمور أحدها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات بل هو أشرف وأعلى من الكل وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى وثانيها أنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى
والقول الثاني أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب بدليل أن قوله تعالى(15/111)
النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عام فيتناول جميع السور أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الرابعة اختلفوا في أن جواز التحيز إلى فئة هل يحظر إذا كان العسكر عظيماً أو إنما يثبت إذا كان في العسكر خفة قال بعضهم إذا عظم العسكر فليس لهم هذا التحيز وقال بعضهم بل الكل سواء وهذا أليق بالظاهر لأنه لم يفصل
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِى َ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلا ءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال مجاهد اختلفوا يوم بدر فقال هذا أنا قتلت وقال الآخر أنا قتلت فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن هذه الكسرة الكبيرة لم تحصل منكم وإنما حصلت بمعونة الله روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ( اللهم إني أسألك ما وعدتني ) فنزل جبريل وقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قال صاحب ( الكشاف ) والفاء في قوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
ثم قال وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها فأنت ما رميتها في الحقيقة لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام وأثرها إنما صدر من الله فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله عالى وجه الاستدلال أنه تعالى قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومن المعلوم أنهم جرحوا فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله وأيضاً قوله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أثبت كونه عليه السلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً فوجب حمله على أنه رماه كسباً وما رماه خلقاً
فأن قيل أما قوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فيه وجوه الأول أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده فصحت هذه الإضافة الثاني أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله تعالى والتقدير فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم(15/112)
وأما قوله وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى قال القاضي فيه أشياء منها أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى ومنها أن التراب الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم ومنها أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم فكان المراد من قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب
والجواب أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر والأصل في الكلام الحقيقة
فإن قالوا الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى فنقول هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز والله أعلم
المسألة الثالثة قرىء وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى بتخفيف ولكن ورفع ما بعده
المسألة الرابعة في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال الأول وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء فكانت تلك الرمية سبباً للهزيمة وفيه نزلت هذه الآية والثاني أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر فرمى سهماً فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى والثالث أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف وذلك أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر فلما افتدى قال لرسول الله إن عندي فرساً أعتلفها كل يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل أنا أقتلك إن شاء الله ) فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه فقال عليه السلام ( استأخروا ) ورماه بحربة فكسر ضلعاً من أضلاعه فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما قوله تعالى وَلِيُبْلِى َ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا فهذا معطوف على قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى والمراد من هذا البلاء الأنعام أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب قال القاضي ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء ههنا على النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد حتى يقال إن الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب(15/113)
ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو مُوهِنُ بتشديد الهاء من التوهين كَيْدَ بالنصب وقرأ حفص عن عاصم مُوهِنُ كَيْدِ بالإضافة والباقون مُوهِنُ بالتخفيف كَيْدَ بالنصب ومثله قوله كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) بالتنوين وبالإضافة
المسألة الثانية الكلام في ذلك ومحله من الإعراب كما في قوله ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ ( الأنفال 14 )
المسألة الثالثة توهين الله تعالى كيدهم يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم قال ابن عباس ينبىء رسول الله ويقول إني قد أوهنت كيد عدومك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم
أما قوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ فيه قولان
القول الأول وهو قول الحسن ومجاهد والسدي أنه خطاب للكفار روي أن أبا جهل قال يوم بدر اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر وروي أنه قال اللهم أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة وقال السدي إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية والمعنى إن تستفتحوا أي تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين فقد جاءكم النصر وقال آخرون أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء
والقول الثاني أنه خطاب للمؤمنين روي أنه عليه السلام لما رأى المشركين وكثرة عددهم استغاث بالله وكذلك الصحابة وطلب ما وعده الله به من إحدى الطائفتين وتضرع إلى الله فقال إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ والمراد أنه طلب النصرة التي تقدم بها الوعد فقد جاءكم الفتح أي حصل ما وعدتم به فاشكروا الله والزموا طاعته قال القاضي وهذا القول أولى لأن قوله فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ لا يليق إلا بالمؤمنين أما لو حملنا الفتح على البيات والحكم والقضاء لم يمتنع أن يراد به الكفار
أما قوله وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فتفسير هذه الآية يتفرع على ما ذكرنا من أن قوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ خطاب للكفار أو للمؤمنين
فإن قلنا إن ذلك خطاب للكفار كان تأويل هذه الآية إن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم أما في الدين فبالخلاص من العقاب والفوز بالثواب وأما في الدنيا فبالخلاص من القتل والأسر والنهب(15/114)
ثم قال وَإِن تَعُودُواْ أي إلى القتال نَعُدُّ أي نسلطهم عليكم فقد شاهدتم ذلك يوم بدر وعرفتم تأثير نصرة الله للمؤمنين عليكم وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ أي كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر وأما إن قلنا إن ذلك خطاب للمؤمنين كان تأويل هذه الآية وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى فقد كان وقع منهم نزاع يوم بدر في هذه الآشياء حتى عاتبهم الله بقوله لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ ( الأنفال 68 ) فقال تعالى ءانٍ تَنتَهُواْ عن مثله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ إلى تلك المنازعات نَعُدُّ إلى ترك نصرتكم لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب
واعلم أن أكثر المفسرين حملوا قوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ على أنه خطاب للكفار واحتجوا بقوله تعالى وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ فظنوا أن ذلك لا يليق إلا بالقتال وقد بينا أن ذلك يحتمل الحمل على ما ذكرناه من أحوال المؤمنين فسقط هذا الترجيح
وأما قوله وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ فقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم الاْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بفتح الألف في أن والباقون بكسرها أما الفتح فقيل على تقدير ولأن الله مع المؤمنين وقيل هو معطوف على قوله إِنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ وأما الكسر فعلى الابتداء والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ
اعلم أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله ءانٍ تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ( الأنفال 19 ) أتبعه بتأديبهم فقال الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ولم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أن الكلام من أول السورة إلى هنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد ثم إن الجهاد اشتمل على أمرين أحدهما المخاطرة بالنفس والثاني الفوز بالأموال ولما كانت المخاطرة بالنفس شاقة شديدة على كل أحد وكان ترك المال بعد القدرة على أخذه شاقاً شديداً لا جرم بالغ الله تعالى في التأديب في هذا الباب فقال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الإجابة إلى الجهاد وفي الإجابة إلى تركه المال إذا أمره الله بتركه والمقصود تقرير ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( الأنفال 1 )
فإن قيل فلم قال ولا تولوا عنه فجعل الكناية واحدة مع أنه تقدم ذكر الله ورسوله(15/115)
قلنا إنه تعالى أمر بطاعة الله وبطاعة رسوله ثم قال وَلاَ تَوَلَّوْاْ لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد
ثم قال مؤكداً لذلك وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ والمعنى أن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف وأن يلتزمه إلا بعد أن يسمعه فجعل السماع كناية عن القبول ومنه قولهم سمع الله لمن حمده والمعنى ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ( البقرة 14 )
ثم قال تعالى إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ واختلفوا في الدواب فقيل شبههم بالدواب لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بما يقولون ويقال لهم ولذلك وصفهم بالصم والبكم وبأنهم لا يعقلون وقيل بل هم من الدواب لأنه اسم لما دب على الأرض ولم يذكره في معرض التشبيه بل وصفهم بصفة تليق بهم على طريقة الذم كما يقال لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد وطلل على جهة الذم
ثم قال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ والمعنى أن كل ما كان حاصلاً فإنه يجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها ولتولوا وهم معرضون قيل إن الكفار سألوا الرسول عليه السلام أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته فبين تعالى أنه لو علم فيهم خيراً وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت وأنه لم أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه البتة ولا ينتفعون به البتة فنقول وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالاً لأنه لو صدر الإيمان لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقاً أو مع انقلابه كذباً والأول محال لأن وجود الإيمان مع الأخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال والثاني محال لأن انقلاب خبر الله الصدق كذباً محال لا سيما في الزمان الماضي المنقضي وهكذا القول في انقلاب علم الله جهلاً وتقريره سبق مراراً
المسألة الثانية النحويون يقولون كلمة لَوْ وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره فإذا قلت لو جئتني لأكرمتك أفاد أنه ما حصل المجيء وما حصل الإكرام ومن الفقهاء من قال إنه لا يفيد إلا الاستلزام فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر أما الآية فهي هذه الآية وتقريره أن كلمة لَوْ لو أفادت ما ذكروه لكان قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم ثم قال وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ فيكون معناه أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا لكن عدم التولي خير من الخيرات فأول الكلام يقتضي نفي الخير وآخره يقتضي حصول الخير وذلك متناقض فثبت أن القول بأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض فوجب أن(15/116)
لا يصار إليه وأما الخبر فقوله عليه السلام ( نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ) فلو كانت لفظة ( لو ) تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض فثبت أن كلمة لَوْ لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وإنما تفيد مجرد الاستلزام
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء
المسألة الثالثة أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام أحدها جملة الموجودات والثاني جملة المعدومات والثالث أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله الرابع أن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله والقسمان الأولان علم بالواقع والقسمان الثانيان عم بالمقدر الذي هو غير واقع فقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات وليس من أقسام العلم بالواقعات ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وقال تعالى لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( الحشر 11 12 ) فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله وأيضاً قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) فأخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيد والزجاج اسْتَجِيبُواْ معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
المسألة الثانية أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين
الوجه الأول أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه
فإن قيل قوله اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ أمر فلم قلتم إنه يدل على الوجوب وهل النزاع إلا فيه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال
والجواب أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه فلو حملنا قوله اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ على هذا المعنى كان هذا جارياً مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث(15/117)
فوجب حمله على فائدة زائدة وهي الوجوب صوناً لهذا النص عن التعطيل ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جار مجرى التهديد والوعيد وذلك لا يليق إلا بالإيجاب
الوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال ( ما منعك عن إجابتي ) قال كنت أصلي قال ( ألم تخبر فيما أوحى إلي استجيبوا لله وللرسول ) فقال لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك والاستدلال به أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب وإلا لما صح ذلك الاستدلال وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية بل هي عندنا مسألة ظنية لأن المقصود منها العمل والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية
فإن قالوا إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر
قلنا قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز بالثواب وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب
المسألة الثالثة ذكروا في قوله إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وجوهاً الأول قال السدي هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته يدل عليه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ( الروم 19 ) قيل المؤمن من الكافر الثاني قال قتادة يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم والعلم حياة فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة الثالث قال الأكثرون لِمَا يُحْيِيكُمْ هو الجهاد ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه أحدها هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار وثانيها أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وثالثها أن الجهاد قد يفضي إلى القتل والقتل يوصل إلى الدار الآخرة والدار الآخرة معدن الحياة قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ ( العنكبوت 64 ) أي الحياة الدائمة
والقول الرابع لِمَا يُحْيِيكُمْ أي لكل حق وصواب وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة والمراد من قوله لِمَا يُحْيِيكُمْ الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ ( النحل 97 )
المسألة الرابعة قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ يختلف تفسيره بحسب اختلاف(15/118)
الناس في الجبر والقدر أما القائلون بالجبر فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك يحول بين المرء الكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه قلت وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي أما العقائد فهي إما العلم وإما الجهل أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علماً ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقاً للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم ولا يحصل له هذا الظن إلا بسبق جهل آخر وذلك أيضاً يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى والأول باطل وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله والدلائل العقلية دلت على ذلك فثبت أن الحق ما ذكرناه أما القائلون بالقدر فقالوا لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم وبيانه من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائماً فكيف يجوز ذلك على الله تعالى وقد قال تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال في المظاهر فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ( المجادلة 4 ) فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه
الوجه الثاني أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذراً قوياً في ترك الإجابة ولا يكون زجراً عن ترك الإجابة
الوجه الثالث أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر قالوا ونحن نذكر في الآية وجوهاً الأول أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة قال القاضي ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها الثاني أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل فكأنه قال بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم سال(15/119)
الوادي الثالث أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر فكأنه قيل لهم سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة والجبن بالشجاعة لأنه تعالى مقلب القلوب الرابع قال مجاهد المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف وجعل القلب كناية عن العقل جائز كما قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) أي لمن كان له عقل الخامس قال الحسن معناه أن الله حائل بين المرء وقلبه والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره ونظيره قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر
ثم قال تعالى وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة
وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أنه تعالى كما حذر الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه فكذلك حذره من الفتن والمعنى واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح عن الحسن نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة قال الزبير نزلت فينا وقرأناها زماناً وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها وعن السدي نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل وروي أن الزبير كان يسامر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً إذ أقبل علي رضي الله عنه فضحك إليه الزبير فقال رسول الله ( كيف حبك لعلي فقال يارسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد فقال ( كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله )
فإن قيل كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر
قلنا فيه وجهان الأول أن جواب الأمر جاء بلفظ النهي ومتى كان كذلك حسن إدخال النون المؤكدة في ذلك النهي كقولك انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك وكقوله تعالى نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ( النمل 18 ) الثاني أن التقدير واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة إلا أنه جيء بصيغة النهي مبالغة في نفي اختصاص الفتنة بالظالمين كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص وقيل لها لا تصيبي الذين ظلموا خاصة والمراد منه المبالغة في عدم الاختصاص على سبيل الاستعارة
ثم قال تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله
فإن قيل حاصل الكلام في الآية أنه تعالى يخوفهم من عذاب لو نزل لعم المذنب وغيره وكيف يليق(15/120)
برحمة الرحيم الحكيم أن يوصل الفتنة والعذاب إلى من لم يذنب
قلنا إنه تعالى قد ينزل الموت والفقر والعمى والزمانة بعبده ابتداء إما لأنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكية أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبين وإذا جاز ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا ههنا والله أعلم
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ثم أمرهم باتقاء المعصية أكد ذلك التكليف بهذه الآية وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية القلة والذلة وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه أولها أنهم كانوا قليلين في العدد وثانيها أنهم كانوا مستضعفين والمراد أن غيرهم يستضعفهم والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس والمعنى أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات فأولها أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة فصاروا آمنين من شر الكفار وثانيها قوله وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر وثالثها قوله وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وهو أنه تعالى أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة
ثم قال لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه رزقهم من الطيبات فههنا منعهم من الخيانة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال الأول قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قريظة لما حاصرهم وكان أهله وولد فيهم فقالوا يا أبا لبابة ما(15/121)
ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله الثاني قال السدي كانوا يسمعون الشيء من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيشقونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك الثالث قال ابن زيد نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر الرابع عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية الخامس قال الزهري والكلبي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالخروج إليها حكاه الأصم والسادس قال القاضي الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة لأن العطف يقتضي المغايرة
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم وجعل ذلك خيانة له لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها فمن خانها فقد خان الرسول وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة والوديعة أمانة في يد المودع فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس إذ الخيانة ضد الأمانة قال ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الغنيمة وغيرها فكان معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية فهي داخلة فيها لكن لا يجب قصر الآية عليها لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) معنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام ومنه تخونه إذا انتقصه ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه
المسألة الثالثة في قوله وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وجوه الأول التقدير وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ الثاني التقدير لا تخونوا الله والرسول فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء وأخرى بالواو ومنهم من أنكر ذلك
وأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فيه وجوه الأول وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو الثاني وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ لأنها تشغل القلب بالدنيا وتصير حجاباً عن خدمة المولى
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تنبيهاً على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وأعظم في الفوز وأعظم في المدة لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى(15/122)
المال وذلك فتنة ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة
يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور وذلك لا يليق بالله تعالى
والجواب أن قولنا إن كان كذا كان كذا لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك وعليه يخرج قوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 )
المسألة الثانية هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات والجزاء يجب أن يكون مغايراً للشرط فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة الأول قوله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار ولما كان اللفظ مطلقاً وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة أما في أحوال القلوب فأمور أحدها أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة وثانيها أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) وثالثها أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءاً من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور وهذه الأخلاق ظلمات وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة وأما في الأحوال الظاهرة فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر كما قال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقين 8 ) وكما قال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك وأما في أحوال الآخرة فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان(15/123)
والنوع الثاني من الأجزية المرتبة على التقوى قوله وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ فنقول إن حملنا قوله إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ على الاتقاء من الكفر كان المراد بقوله وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر كان المراد من هذا تكفير الصغائر
والنوع الثالث قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار ثم قال وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به وإنما قلنا إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه الأول أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل الثاني أن كل من تفضل يستفيد به نوعاً من أنواع الكمال إما عوضاً من المال أو عوضاً من المدح والثناء وإما عوضاً من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئاً من الأعواض لأنه كامل لذاته وما كان حاصلاً للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره الثالث أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنوناً عليه من ذلك المتفضل وذلك منفر أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه الرابع أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة حتى ينتفع بذلك الإحسان وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( الأنفال 26 ) فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه وهذه السورة مدنية قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وذكر أنه من أهل نجد فقال بعضهم قيدوه نتربص به ريب المنون فقال إبليس لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم فقال إبليس لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم وقال أبو جهل الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلاً فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية فقال إبليس هذا هو الرأي الصواب فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة وأمر علياً أن يبيت في مضجعه وقال له تسج(15/124)
ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم وقوله لِيُثْبِتُوكَ قال ابن عباس ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة فقد أثبت فلان فهو مثبت وقيل ليسجنوك وقيل ليحبسوك وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه وقرأ بعضهم لِيُثْبِتُوكَ بالتشديد وقرأ النخعى لِيُثْبِتُوكَ من البيات وقوله أَوْ يَقْتُلُوكَ وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( آل عمران 54 ) تفسير المكر في حق الله تعالى والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى قال القاضي القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر والثاني أيضاً باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه
واعلم أن هذا النزاع عجيب فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه
فإن قيل كيف قال وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ولا خير في مكرهم
قلنا فيه وجوه أحدها أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع خَيْرٌ موضع أقوى وأشد لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى وثانيها أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً وحسناً وثالثها أن يكون المراد من قوله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ليس هو التفضيل بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال الثريد خير من الله تعالى
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(15/125)
اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد حكى مكرهم في دين محمد روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين فهذا هو المراد من قوله قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ وههنا موضع بحث وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزاً عن أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحدى العرب بالمعارضة فلم يأتوا بها وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه
والجواب أن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا يدل على أنه ما شاء ذلك القول وما قال فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها وهذا ضعيف لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه
والشبهة الثانية لهم قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا
فإن قيل هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين الأول أن قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ حكاه الله عن الكفار وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر وأيضاً حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وذلك أيضاً كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته وذلك يدل على حصول المعارضة الثاني أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب فلو كان نزول القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ولو كانوا كذلك لما أقدموا عى قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة
والجواب عن الأول أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام
والجواب عن الثاني هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزاً في نفسه فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه
المسألة الثانية قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ قال الزجاج القراءة بنصب الْحَقّ على خبر كَانَ ودخلت هُوَ للفصل ولا موضع لها وهي بمنزلة ( ما ) المؤكدة ودخلت ليعلم أن قوله الْحَقّ ليس بصفة لهذا وأنه خبر قال ويجوز هو الحق رفعاً ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا خلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة وروى صاحب ( الكشاف ) عن الأعمش أنه قرأ بها(15/126)
واعلم أنه تعالى لما حكى هاتين الشبهتين لم يذكر الجواب عن الشبهة الأولى وهو قوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا ولكنه ذكر الجواب عن الشبهة الثانية وهو قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تقرير وجه الجواب أن الكفار لما بالغوا وقالوا اللهم إن كان محمد محقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ذكر تعالى أن محمداً وإن كان محقاً في قوله إلا أنه مع ذلك لا يمطر الحجارة على أعدائه وعلى منكري نبوته لسببين الأول أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما دام يكون حاضراً معهم فإنه تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيماً له وهذا أيضاً عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط
فإن قيل لما كان حضوره فيهم مانعاً من نزول العذاب عليهم فكيف قال قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ( التوبة 14 )
قلنا المراد من الأول عذاب الاستئصال ومن الثاني العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة
والسبب الثاني قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي تفسيره وجوه الأول وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال قتل أهل المحلة رجلاً وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد والمراد بعضهم الثاني وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم الثالث قال قتادة والسدي وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو استغفروا لم يعذبوا فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار ههنا بمعنى الإسلام والمعنى أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا منهم أبو سفيان بن حرب وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام وعدد كثير والمعنى وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ مع أن في علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان قال أهل المعاني دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب قال ابن عباس كان فيهم أمانان نبي الله والاستغفار أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة ثم قال وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر وقيل بل يوم فتح مكة وقال ابن عباس هذا العذاب هو عذاب الآخرة والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم فقال وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاؤُهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ الذين يتحرزون عن المنكرات كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا فقتلهم الله يوم بدر وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه(15/127)
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَة ً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام وقال إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية قال صاحب ( الكشاف ) المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر والمكاء الصفير ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه وأما التصدية فهي التصفيق يقال صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه وفي أصلها قولان الأول أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل الثاني قال أبو عبيدة أصلها تصددة فأبدلت الياء من الدال ومنه قوله تعالى إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( الزخرف 57 ) أي يعجزون وأنكر بعضهم هذا الكلام والأزهري صحح قول أبي عبيدة وقال صدى أصله صدى فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون وقال مجاهد كانوا يعارضون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته وقال مقاتل كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم وعلى قول مجاهد ومقاتل كان إيذاء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والأول أقرب لقوله تعالى وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَة ً
فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة
قلنا فيه وجوه الأول أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم الثاني أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا الثالث الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كما تقول العرب ما لفلان عيب إلا السخاء يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي عذاب السيف يوم بدر وقيل يقال لهم في الآخرة فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(15/128)
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية قال مقاتل والكلبي نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش وقال سعيد بن جبير ومجاهد نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً هكذا قاله صاحب ( الكشاف ) ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك
ثم قال فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً يعني أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ففيه بحثان
البحث الأول أنه لم يقل وإلى جهنم يحشرون لأنه كان فيهم من أسلم بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك
البحث الثاني أن ظاهر قوله إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم لأن تقديم الخبر يفيد الحصر
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق ثم قال لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وفيه قولان
القول الأول ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) يعني لفرط ازدحامهم فقوله أُوْلَائِكَ إشارة إلى الفريق الخبيث
والقول الثاني المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) واللام في قوله لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ على القول الأول متعلق بقوله يُحْشَرُونَ والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب وعلى القول الثاني متعلق بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ثم قال أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وهو إشارة إلى الذين كفروا
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاٌّ وَّلِينِ(15/129)
اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية وعباداتهم المالية أرشدهم إلى طريق الصواب وقال قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ أي قل لأجلهم هذا القول وهو إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا
المسألة الثانية المعنى أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وإصروا عليه فقد مضت سنة الأولين وفيه وجوه الأول المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر الثاني فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا الثالث أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا ( الصافات 171 ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 )
المسألة الثالثة اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا والصحيح أنها مقبولة لوجوه الأول هذه الآية فإن قوله قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ يتناول جميع أنواع الكفر
فإن قيل الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا
قلنا أحكام الشرع مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) فلما رجع وجب قبول قوله فيه الثاني لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق الثالث قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 )
المسألة الرابعة احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر والأول باطل بالإجماع والثاني باطل لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية
المسألة الخامسة احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها ووجه الدلالة ظاهر
المسألة السادسة قال عليه السلام ( الإسلام يجب ما قبله ) فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة ا(15/130)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران وإن عادوا فهم متوعدون بسنة الأولين أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا فقال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ قال عروة بن الزبير كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم فأصاب المؤمنين جهد شديد فهذا هو المراد من الفتنة فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة وفيه وجه آخر وهو أن مبالغة الناس في حبهم أديانهم أشد من مبالغتهم في حبهم أرواحهم فالكافر أبداً يسعى بأعظم وجوه السعي في إيذاء المؤمنين وفي إلقاء الشبهات في قلوبهم وفي إلقائهم في وجوه المحنة والمشقة وإذا وقعت المقاتلة زال الكفر والمشقة وخلص الإسلام وزالت تلك الفتن بالكلية قال القاضي إنه تعالى أمر بقتالهم ثم بين العلة التي بها أوجب قتالهم فقال حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ ويخلص الدين الذي هو دين الله من سائر الأديان وإنما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكلية إذا عرفت هذا فنقول إما أن يكون المراد من الآية وَقَاتِلُوهُمْ لأجل أن يحصل هذا المعنى أو يكون المراد وَقَاتِلُوهُمْ لغرض أن يحصل هذا المعنى فإن كان المراد من الآية هو الأول وجب أن يحصل هذا المعنى من القتال فوجب أن يكون المراد وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ في أرض مكة وما حواليها لأن المقصود حصل هنا قال عليه السلام ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) ولا يمكن حمله على جميع البلاد إذ لوكان ذلك مراداً لما بقي الكفر فيها مع حصول القتال الذي أمر الله به وأما إذا كان المراد من الآية هو الثاني وهو قوله قاتلوهم لغرض أن يكون الدين كله لله فعلى هذا التقدير لم يمتنع حمله على إزالة الكفر عن جميع العالم لأنه ليس كل ما كان غرضاً للإنسان فإنه يحصل فكان المراد الأمر بالقتال لحصول هذا الغرض سواء حصل في نفس الأمر أو لم يحصل
ثم قال فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمعنى فَإِنِ انْتَهَوْاْ عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم وَإِن تَوَلَّوْاْ يعني عن التوبة والإيمان فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم ثم بين أنه تعالى نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات
وَاعْلَمُو ا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَى ْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ(15/131)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالمقاتلة في قوله وَقَاتِلُوهُمْ وكان من المعلوم أن عند المقاتلة قد تحصل الغنيمة لا جرم ذكر الله تعالى حكم الغنيمة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الغنم الفوز بالشيء يقال غنم يغنم غنماً فهو غانم والغنيمة في الشريعة ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر بالخيل والركاب
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) مَا في قوله مَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء موصولة وقوله مِن شَى ْء يعني أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فَأَنَّ للَّهِ خبر مبتدأ محذوف تقديره فحق أو فواجب أن لله خمسه وروى النخعي عن ابن عمر فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ بالكسر وتقديره على قراءة النخعي فلله خمسه والمشهور آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل فلا بد من إثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به وذلك لأنه إذا حذف الخبر واحتمل وجوهاً كثيرة من المقدرات كقولك ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد وقرىء خُمُسَهُ بالسكون
المسألة الثالثة في كيفية قسمة الغنائم
اعلم أن هذه الآية تقتضي أن يؤخذ خمسها وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان
القول الأول وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس فسهم لرسول الله وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لكونك منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال عليه السلام ( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ) وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وأما بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فعند الشافعي رحمه الله أنه يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين والباقي للفرق الثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل وقال أبو حنيفة رحمه الله إن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سهمه ساقط بسبب موته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهو أسوة سائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل وقال مالك الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام إن رأى قسمته على هؤلاء فعل وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض فله ذلك(15/132)
واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي رحمه الله وصريح فيه فلا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها وكيف وقد قال في آخر الآية وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن يعني إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله
والقول الثاني وهو قول أبي العالية إن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام فواحد منها لله وواحد لرسول الله والثالث لذوي القربى والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل قالوا والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله ثم للطوائف الخمسة ثم القائلون بهذا القول منهم من قال يصرف سهم الله إلى الرسول ومنهم من قال يصرف إلى عمارة الكعبة وقال بعضهم إنه عليه السلام كان يضرب يده في هذا الخمس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة وهو الذي سمى لله تعالى
والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه بأن قوله لِلَّهِ ليس المقصود منه أثبات نصيب لله فإن الأشياء كلها ملك لله وملكه وإنما المقصود منه افتتاح الكلام بذكر الله على سبيل التعظيم كما في قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ واحتج القفال على صحة هذا القول بما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لهم في غنائم خيبر ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) فقوله مالي إلا الخمس يدل على أن سهم الله وسهم الرسول واحد وعلى الإضمام سهمه السدس لا الخمس وإن قلنا إن السهمين يكونان للرسول صار سهمه أزيد من الخمس وكلا القولين ينافي ظاهر قوله ( مالي إلا الخمس ) هذا هو الكلام في قسمة خمس الغنيمة وأما الباقي وهو أربعة أخماس الغنيمة فهي للغانمين لأنهم الذين حازوه واكتسبوه كما يكتسب الكلأ بالاحتشاش والطير بالاصطياد والفقهاء استنبطوا من هذه الآية مسائل كثيرة مذكورة في كتب الفقه
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب كما هو قول الشافعي رحمه الله والدليل عليه أن قوله فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ يقتضي ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا حصل الملك لهم فيه وجب جواز القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك وذلك جائز بالاتفاق
المسألة الخامسة اختلفوا في ذوي القربى قيل هم بنو هاشم وقال الشافعي رحمه الله هم بنو هاشم وبنو المطلب واحتج بالخبر الذي رويناه وقيل آل علي وجعفر وعقيل وآل عباس وولد الحرث بن عبد المطلب وهو قول أبي حنيفة
المسألة السادسة حكى صاحب ( الكشاف ) عن الكلبي أن هذه الآية نزلت ببدر وقال الواقدي رحمه الله كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة
ثم قال تعالى وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن والمعنى اعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ يعني إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم بدر والجمعان الفريقان من المسلمين والكافرين والمراد منه ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح في ذلك اليوم وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي يقدر على نصركم وأنتم قليلون ذليلون والله أعلم(15/133)
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَة ِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَة ِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيِّنَة ٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَة ِ الدُّنْيَا قولان أحدهما أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا كما قال تعالى وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( الأنفال 26 ) والثاني أن يكون قوله إِذْ بدلاً عن يوم الفرقان
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بِالْعُدْوَة ِ بكسر العين في الحرفين والباقون بالضم وهما لغتان قال ابن السكيت عدوة الوادي وعدوته جانبه والجمع عدى وعدي قال الأخفش الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك وقال أحمد بن يحيى الضم في العدوة أكثر اللغتين وحكى صاحب ( الكشاف ) الضم والفتح والكسر قال وقرىء بهن و بالعدية على قلب الواو ياء لأن بينها وبين الكسر حاجزاً غير حصين كما في الفتية وأما الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فتأنيث الأدنى وضده الْقُصْوَى وهو تأنيث الأقصى وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى
فإن قيل كلتاهما فعلى من باب الواو فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو
قلنا القياس قلب الواو ياء كالعليا وأما القصوى فقد جاء شاذاً وأكثر استعماله على أصله
المسألة الثالثة المراد بالعدوة الدنيا ما يلي جانب المدينة وبالقصوى ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد وَالرَّكْبُ العير التي خرجوا لها كانت في موضع أَسْفَلَ مِنكُمْ إلى ساحر البحر وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً أي أنه يثبتكم الله وينصركم ليقضي أمراً كان مفعولاً واجباً أن يخرج إلى الفعل وقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ بدل من قوله لّيَقْضِيَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة ونزلوا بعيدين عن الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد وبسبب حصول الآلات والأدوات لأنهم كانوا قريبين من الماء ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي ولأن العير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية وجعل الغلبة للمسلمين والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات(15/134)
على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر فقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ إشارة إلى هذا المعنى وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة والمراد من البينة هذه المعجزة
المسألة الثانية اللام في قوله لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وفي قوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ لام الغرض وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة
المسألة الثالثة قوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح وذلك يقدح في قول أصحابنا أنه تعالى أراد الكفر من الكافر لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة
المسألة الرابعة قوله وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي مِنْ بإظهار الياءين وأبو عمرو وابن كثير برواية القواس وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من ( يحيى ) فجرى على مشاكلته وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في وَلاَ يَحْيَى
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر وفيه مسألتان
المسألة الأولى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ منصوب بإضمار اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم
المسألة الثانية قال مجاهد أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقالوا رؤيا النبي حق القوم قليل فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم
فإن قيل رؤية الكثير قليلاً غلط فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك(15/135)
قلنا مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأيضاً لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون وعن الحسن هذه الأراءة كانت في اليقظة قال والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم
ثم قال تعالى وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا ومعنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه والمعنى لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم وقيل سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد ولكن الله سلمكم من التنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِى َ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة قال صاحب ( الكشاف ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم أياهم و قَلِيلاً نصب على الحال
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين والحكمة في التقليل الأول تصديق رؤيا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأيضاً لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم والحكمة في التقليل الثاني أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم
فإن قيل كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلاً
قلنا أما على ما قلنا فذاك جائز لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض وأما المعتزلة فقالوا لعل العين منعت من إدراك الكل أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم
ثم قال لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً
فإن قيل ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة فكان ذكره ههنا محض التكرار
قلنا المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمقصود من ذكره ههنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر ههنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين فبين ههنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم
ثم قال وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد(15/136)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب الأول الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي والثاني أن يذكروا الله كثيراً وفي تفسير هذا الذكر قولان
القول الأول أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله قال ابن عباس أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجراً
والقول الثاني أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى
ثم قال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وذلك لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى وهذا هو أعظم مقامات العبودية فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة وإن صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح
فإن قيل فهذه الآية توجب الثبات على كل حال وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز
قلنا هذه الآية توجب الثبات في الجملة والمراد من الثبات الجد في المحاربة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات
ثم قال وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وفيه مسائل(15/137)
المسألة الأولى بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين أحدهما أنه يوجب حصول الفشل والضعف والثاني قوله وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وفيه قولان الأول المراد بالريح الدولة شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها يقال هبت رياح فلان إذا دانت له الدولة ونفد أمره الثاني أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والقول الأول أقوى لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثراً في ذهاب الريح ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا قال مجاهد وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي نصرتكم وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا القول بالقياس يفضي إلى المنازعة والمنازعة محرمة فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراماً بيان الملازمة المشاهدة فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات وبيان أن المنازعة محرمة قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ وأيضاً القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية وقالوا قوله تعالى وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه ثم أتبعه بأن قال وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل وكل ذلك حرام ومثبتو القياس أجابوا عن الأول بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة
ثم قال تعالى وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر فأمرهم بالصبر كما قال في آية أخرى اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) وبين أنه تعالى مع الصابرين ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة
ثم قال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير فلما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني كان صديقاً لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له فلما أتاه قال إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت فقال أبو جهل قل لأبيك جزاك الله والرحم خيراً إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان فإن بدراً موسم من مواسم العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة قال المفسرون فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء الأول البطر قال الزجاج البطر الطغيان في النعمة والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر والثاني قوله وَرِئَاء النَّاسِ والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحاً والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآهم في موقف بدر قال ( اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك ) والثالث قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ(15/138)
فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بمنزلة صادين والثاني أن يكون قوله بَطَراً وَرِئَاء بمنزلة يبطرون ويراؤن وأقول إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل وأقول إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث قال ومثاله في الاسم قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ومثال الفعل قوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( يونس 31 ) وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر
إذا عرفت هذا فنقول إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم
وحاصل الكلام أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر والرئاء بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار ثم ختم هذه الآية بقوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة فبين تعالى كونه عالماً بما في دواخل القلوب وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أن هذا من جملة النعم التي خص أهل بدر بها وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ فيه وجوه قيل تقديره اذكر إذ زين لهم وقيل هو عطف على ما تقدم من تذكير النعم وتقديره واذكروا إذ يريكموهم وإذ زين وقيل هو عطف على قوله خرجوا بطراً ورئاء(15/139)
الناس وتقديره لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم
المسألة الثانية في كيفية هذا التزيين وجهان الأول أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتحول في صورة الإنسان وهو قول الحسن والأصم والثاني أنه ظهر في صورة الإنسان قالوا إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحداً فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى إبليس نزول الملائكة نكص على عقيبه وقيل كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث أتخذ لنا في هذه الحال فقال إني أرى ما لا ترونا ودفع في صدر الحرث وانهزموا وفي هذه القصة سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة
والجواب فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطاناً
فإن قيل فإذا حضر إبليس لمحاربة المؤمنين ومعلوم أنه في غاية القوة فلم لم يهزموا جيوش المسلمين
قلنا لأنه رأى في جيش المسلمين جبريل مع ألف من الملائكة فلهذا السبب خاف وفر
فإن قيل فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين والحاصل أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر
الجواب لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير
السؤال الثاني أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطاناً بل صار بشراً
الجواب أن الإنسان إنما كان إنساناً بجوهر نفسه الناطقة ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنساناً بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة
السؤال الثالث ما معنى قول الشيطان لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين
والجواب أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد ولأن محمداً كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جداً من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصاً وقد تصور بصورة زعيم منهم وقال إِنّى جَارٌ لَّكُمْ والمعنى إني إذا كنت وقومي ظهيراً لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما(15/140)
يدفع الجار عن جاره والعرب تقول أنا جار لك من فلان أي حافظ من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه
ثم قال تعالى فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقيبه والنكوص الأحجام عن الشيء والمعنى رجع وقال إني أرى مالا ترون وفيه وجوه الأول أنه روحاني فرأى الملائكة فخافهم قيل رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقيل رأى ألفاً من الملائكة مردفين الثاني أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية
ثم قال إِنّى أَخَافُ اللَّهَ قال قتادة صدق في قوله إِنّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وكذب في قوله إِنّى أَخَافُ اللَّهَ وقيل لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال ما قال إشفاقاً على نفسه
أما قوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله أخاف الله
ثم قال تعالى بعده وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَاؤُلا ءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما لم تدخل الواو في قوله إِذْ يَقُولُ ودخلت في قوله وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ( الأنفال 48 ) لأن قوله وَإِذْ زَيَّنَ عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء وأما هنا وهو قوله إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله وعامل الإعراب في إِذْ فيه وجهان الأول التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني اذكروا إذ يقول المنافقون
المسألة الثانية أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا ثم إن قريشاً لما خرجوا لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه وإن كان في قلة أقمنا في قومنا قال محمد بن إسحق ثم قتل هؤلاء جميعاً مع المشركين يوم بدر وقوله غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ قال ابن عباس معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم وقيل المراد إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل
ثم قال تعالى وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله(15/141)
ويعول على إحسان الله فإن الله حافظه وناصره لأنه عزيز لا يغلبه شيء حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة والثواب إلى أوليائه
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده إِذْ بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع والباقون بالياء على المعنى
المسألة الثانية جواب عَلَيْهِمْ لَوْ محذوف والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعذاباً شديداً
المسألة الثالثة وَلَوْ تَرَى ولو عاينت وشاهدت لأن لو ترد المضارع إلى الماضي كما ترد إن الماضي إلى المضارع
المسألة الرابعة الملائكة رفعها بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله يَتَوَفَّى ضمير لله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر
المسألة الخامسة قال الواحدي معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد وأنه هو الروح فقط لأن قوله يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ يدل على أنه استوفى الذات الكافرة وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت من هذا الجسد وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد وقوله يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ قال ابن عباس كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف وإذا ولوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح وأقول فيه معنى آخر ألطف منه وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات وهو لشدة حبه للجسمانيات ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات فسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة ينتقل من ظلمات إلى ظلمات فهاتان الجهتان هما المراد من قوله يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
ثم قال تعالى وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ وفيه إضمار والتقدير ونقول ذوقوا عذاب الحريق ونظيره في القرآن كثير قال تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( البقرة 127 ) أي ويقولان ربنا وكذا قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا ( السجدة 12 ) أي يقولون ربنا قال ابن عباس قول الملائكة لهم وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إنما صح لأنه كان مع الملائكة(15/142)
مقامع وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض فذاك قوله وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ قال الواحدي والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة وأقول أما العذاب الجسماني فحق وصدق وأما الروحاني فحق أيضاً لدلالة العقل عليه وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن والخوف والحزن كلاهما يوجبان الحرقة الروحانية والنار الروحانية
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ قيل هذا إخبار عن قول الملائكة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي يجوز أن يقال ذلك مبتدأ وخبره قوله بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ويجوز أن يكون محل ذلك نصباً والتقدير فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم
المسألة الثانية المراد من قوله ذالِكَ هذا أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق حصل بسبب ما قدمت أيديكم وذكرنا في قوله الم ذالِكَ الْكِتَابُ أن معناه هذا الكتاب وهذا المعنى جائز
المسألة الثالثة ظاهر قوله ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد وذلك ممتنع من وجوه أحدها أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها أن اليد ليست محلاً للمعرفة والعلم فلا يتوجه التكليف عليها فلا يمكن إيصا العذاب إليها فوجب حمل اليد ههنا على القدرة وسبب هذا المجازان اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل فحسن جعل اليد كناية عن القدرة
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان
المسألة الرابعة قوله بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان فكان هذا الكلام مطابقاً للمعقول
ثم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في محل أن وجهان أحدهما النصب بنزع الخافض يعني بأن الله والثاني أنك إن جعلت قوله ذالِكَ في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضاً بمعنى وذلك أن الله قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صواباً وعلى هذا التقدير يكون هذا كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله
المسألة الثانية قالت المعتزلة لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه لكان ظالماً وأيضاً قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالماً بهذا العذاب لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالماً في هذا العذاب فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً وأيضاً تدل هذه الآية على كونه قادراً على الظلم إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة(15/143)
واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلاً وآجلاً كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل فقال كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والمعنى عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ والغرض منه التنبيه على أن لهم عذاباً مدخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَمْ يَكُ أكثر النحويين يقولون إنما حذفت النون لأنها لم تشبه الغنة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً فحذفت تشبيهاً بها كما تقول لم يدع ولم يرم ولم يل وقال الواحدي وهذا ينتقض بقولهم لم يزن ولم يخن فلم يسمع حذف النون ههنا
وأجاب علي بن عيسى عنه فقال إن كان ويكون أم الأفعال من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى كان فقولنا ضرب معناه كان ضرب ويضرب معناه يكون ضرب وهكذا القول في الكل فثبت أن هذه الكلمة أم الأفعال فاحتيج إلى استعمالها في أكثر الأوقات فاحتملت هذا الحذف بخلاف قولنا لم يخن ولم يزن فإنه لا حاجة إلى ذكرها كثيرًا فظهر الفرق والله أعلم
المسألة الثانية قال القاضي معنى الآية أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى(15/144)
الفسق والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن قال وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرة والذي يفعله لا يكون الأجزاء على معاص سلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنار كما يقوله القوم لما صح ذلك قال أصحابنا ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي الإمام إلا أنا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معللة بفعل الإنسان وذلك لأن حكم الله بذلك التغيير وإرادته لما كان لا يحصل إلا عند إتيان الأنسان بذلك الفعل فلو لم يصدر عند ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات الله تعالى ويكون الإنسان مغيراً صفة الله ومؤثراً فيها وذلك محال في بديهة العقل فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره بل الحق أن صفة الله غالبة على صفات المحدثات فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر مرة أخرى قوله تعالى كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ذكروا فيه وجوهاً كثيرة الأول أن الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول لأن الكلام الأول فيه ذكر أخذهم وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل والثاني أنه أريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت وبالثاني ما ينزل بهم في القبر في الآخرة الثالث أن الكلام الأول هو قوله كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ والكلام الثاني هو قوله كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية والثاني إشارة إلى أنه سبحانه رباهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدل على أن لكفران النعمة أثراً عظيماً في حصول الهلاك والبوار ثم ختم تعالى الكلام بقوله وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ والمراد منه أنهم كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء والإيحاش وأن الله تعالى إنما هلكهم بسبب ظلمهم وأقول في هذا المقام اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم فقد عظمت فتنتهم وكثر شرهم ولا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّة ٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف كل الكفار بقوله وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ أي في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان(15/145)
الصفة الأولى الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه البتة
الصفة الثانية أن يكون ناقضاً للعهد على الدوام فقوله الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ بدل من قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله مِنْهُمْ لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّة ٍ قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة قال ابن عباس هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضاً يوم الخندق وقوله وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة منها قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) ومنها قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران 159 ) وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة بين ما يجب أن يعاملوا به فقال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ قال الليث ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب يقال شرد يشرد شروداً وشرده تشريداً فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلاً يفرق بهم من خلفهم قال عطاء تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم وقيل نكل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر وقرأ أبو حيوة من خلفهم والمعنى فشرد تشريداً متلبساً بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشردهم في ذلك الوقت
وأما قوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثاً بأمارات ظاهرة فَانبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولاتبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه قال أهل العلم آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة(15/146)
إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران وذلك على أربعة فراسخ من مكة والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد بين أيضاً حال من وفاته في يوم بدر وغيره لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ والمعنى أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم ثم ههنا قولان الأول أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك فإن الله يظفرك بعيرهم والثاني لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب الله ومن عذاب الآخرة إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم ( لا يحسبن ) بالياء المنقطة من تحت وفي تصحيحه ثلاثة أوجه الأول قال الزجاج ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( الزمر 64 ) والمعنى أن أعبد الثاني أن نضمر فاعلاً للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول والتقدير ولا يحسبن أحد الذين كفروا والثالث قال أبو علي ويجوز أيضاً أن يضمر المفعول الأول والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا وأما أكثر القراء فقرؤا وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى ولا تحسبن الذين كفروا سابقين
المسألة الثالثة أكثر القراء على كسر ءانٍ في قوله إِنَّهُمْ لا وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا وتم الكلام ثم قال سَاء مَا يَحْكُمُونَ فكما أن قوله سَاء مَا يَحْكُمُونَ منقطع من الجملة التي قبلها كذلك قوله إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وقرأ ابن عامر أَنَّهُمْ بفتح الألف وجعله متعلقاً بالجملة الأولى وفيه وجهان الأول التقدير لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم الثاني قال أبو عبيد يجعل لا صلة والتقدير لا تحسبن أنهم يعجزون(15/147)
وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة ٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار قيل إنه لما اتفق أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله وأن يعدوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعدة وقوة والمراد بالقوة ههنا ما يكون سبباً لحصول القوة وذكروا فيه وجوهاً الأول المراد من القوة أنواع الأسلحة الثاني روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على المنبر وقال ( ألا إن القوة الرمي ) قالها ثلاثاً الثالث قال بعضهم القوة هي الحصون الرابع قال أصحاب المعاني الأولى أن يقال هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة وقوله عليه الصلاة والسلام ( القوة هي الرمي ) لا ينفي كون غير الرمي معتبراً كما أن قوله عليه الصلاة والسلام ( الحج عرفة ) و ( الندم توبة ) لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة إلا أنه من فروض الكفايات وقوله ومن رباط الخيل ) الرباط المرابطة أو جمع ربيط كفصال وفصيل ولا شك أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد روي أن رجلاً قال لابن سيرين إن فلاناً أوصى بثلث ماله للحصون فقال ابن سيرين يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها فقال الرجل إنما أوصى للحصون فقال هي الخيل ألم تسمع قول الشاعر ولقد علمت على تجنبي الردى
إن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال عكرمة ومن رباط الخيل الأناث وهو قول الفراء ووجه هذا القول أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت في الأفنية وعلفت ربطاً واحدها ربيط ويجمع ربط على رباط وهو جمع الجمع فمعنى الرباط ههنا الخيل المربوط في سبيل الله وفسر بالإناث لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها بأولادها فارتباطها أولى من ارتباط الفحول هذا ما ذكره الواحدي
ولقائل أن يقول بل حمل هذا اللفظ على الفحول أولى لأن المقصود من رباط الخيل المحاربة عليها ولا شك أن الفحول أقوى على الكر والفر والعدو فكانت المحاربة عليها أسهل فوجب تخصيص هذا اللفظ بها ولما وقع التعارض بين هذين الوجهين وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كان من الفحول أو من الإناث ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال ترهبون به عدو الله وعدوكم وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له(15/148)
مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة أولها أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وثانيها أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية وثالثها أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان ورابعها أنهم لا يعينون سائر الكفار وخامسها أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام
ثم قال تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ثم فيه وجوه الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون والمعنى أن تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين
فإن قيل المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكرتموه الإرهاب
قلنا هذا الإرهاب من وجهين الأول أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع عنهم طمعهم من أن يصيروا مغلوبين وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان والثاني أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك هذه الأفعال المذمومة
والقول الثاني في هذا الباب ما رواه ابن جريج عن سليمان بن موسى قال المراد كفار الجن روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن فقال إنهم الجن ثم قال ( إن الشيطان لا يخبل أحداً في دار فيها فرس عتيق ) وقال الحسن صهيل الفرس يرهب الجن وهذا القول مشكل لأن تكثير آلات الجهاد لا يعقل تأثيره في إرهاب الجن
والقول الثالث أن المسلم كما يعاديه الكافر فكذلك قد يعاديه المسلم أيضاً فإذا كان قوي الحال كثير السلاح فكما يخافه أعداؤه من الكفار فكذلك يخافه كل من يعاديه مسلماً كان أو كافراً
ثم إنه تعالى قال وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْء فِى سَبِيلِ اللَّهِ وهو عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات يُوَفَّ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس يوف لكم أجره أي لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من الثواب ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 )
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح فالحكم قبول الصلح قال النضر جنح الرجل إلى فلان وأجنح له إذا تابعه وخضع له والمعنى إن مالوا إلى الصلح فمل إليه وأنث الهاء في لها لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة كقوله إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أراد من بعد فعلتهم قال صاحب ( الكشاف ) السلم تؤنث(15/149)
تأنيث نقيضها وهي الحرب قال الشاعر السلم تأخذ منها ما رضيت به
والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين والباقون بالفتح وهما لغتان قال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) وقوله قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( التوبة 29 ) وقال بعضهم الآية غير منسوخة لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه فإذا رأى مصالحتهم فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه هادن أهل مكة عشر سنين ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة
أما قوله تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فالمعنى فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عوناً لك على السلامة ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء ولذلك قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تنبيهاً بذلك على الزجر عن نقض الصلح لأنه عالم بما يضمره العباد وسامع لما يقولون قال مجاهد الآية نزلت في قريظة والنضير وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها والله أعلم
وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح ذكر في هذه الآية حكماً من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالاً من الإيمان فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن فههنا أولى ولذلك قال وَإِن يُرِيدُواْ المراد من تقدم ذكره في قوله وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ
فإن قيل أليس قال وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ أي أظهر نقض ذلك العهد وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية
قلنا قوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك قال فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي فالله يكفيك وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني وهذا حسبي هو الذي أيدك بنصره قال المفسرون يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته ساعة فساعة كان أمراً إلهياً وتدبيراً(15/150)
علوياً وما كان لكسب الخلق فيه مدخل ثم قال وَبِالْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يعني الأنصار
فإن قيل لما قال هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال وَبِالْمُؤْمِنِينَ
قلنا التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة فالأول هو المراد من قوله أيدك بنصره والثاني هو المراد من قوله وَبِالْمُؤْمِنِينَ ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً وقيل هم الأوس والخزرج فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة والمحبة فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى لكانت المحبة المرتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى وذلك على خلاف صريح الآية قال القاضي لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذا ههنا
والجواب كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز وأيضاً كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار مثل حصولها في حق المؤمنين فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة وأيضاً فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرغبة بدلاً عن النفرة وبالعكس فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى فهو المقصود فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول في الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على البعض فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر زالت الخصومات وارتفعت الخشونات وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة
واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص فمتى كان هذا التصور حاصلاً كانت المحبة حاصلة ومتى حصل(15/151)
تصوير الشر والبغضاء كانت النفرة حاصلة ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين أحدهما الخيرات والكمالات الباقية الدائمة المبرأة عن جهات التغيير والتبديل وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية والثاني وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية فإنها سريعة التغيير والتبدل كالزئبق ينتقل من حال إلى حال فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالاً عظيماً فيحبه ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مراراً لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال
إذا عرفت هذا فنقول الموجب للمحبة والمودة إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال كانت تلك المحبة أيضاً باقية آمنة من التغير لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة وهذا هو المراد من قوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 )
إذا عرفت هذا فنقول العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة وكانت محبتهم معللة بهذه العلة فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن فلما جاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة زالت الخصومة والخشونة عنهم وعادوا إخواناً متوافقين ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضاً ومقاتلة بعضهم مع بعض فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان أو مطابقاً للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر
يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَة ٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على(15/152)
جميع التقديرات وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار لأن المعنى في الآية الأولى إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والمراد بقوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنصار وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر قال سعيد بن جبير أسلم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية قال المفسرون فعلى هذا القول هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية قولان الأول التقدير الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين قال الفراء الكاف في حسبك خفض و مِنْ في موضع نصب والمعنى يكفيك الله ويكفي من اتبعك قال الشاعر إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
فحسبك والضحاك سيف مهند
قال وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك والثاني أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين قال الفراء وهذا أحسن الوجهين أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله إلا أن من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة فقال الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء وذكر الزجاج في اشتقاقه وجهاً آخر بعيداً فقال التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثاً يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضاً والحارض الذي قارب الهلاك أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا حارضين أي هالكين فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض
ثم قال إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه الأول لو كان المراد منه الخبر لزم أن يقال إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه باطل الثاني أنه قال الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ ( الأنفال 66 ) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر الثالث قوله من بعد وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( الأنفال 66 ) وذلك ترغيباً في الثبات على الجهاد فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان وارداً بلفظ الخبر وهو كقوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة 233 ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ( البقرة 228 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قاهراً على ذلك وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً ومنها أن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ومنها أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه
المسألة الثانية قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَة ٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة(15/153)
الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة وكان رسول الله يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ءانٍ تَكُنْ بالتاء وكذلك الذي بعده وَأَنْ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما
المسألة الرابعة أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة وهو قوله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ وتقرير هذا الكلام من وجوه
الوجه الأول أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ومتى كان الأمر كذلك كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول
الوجه الثاني أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى
الوجه الثالث وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيباً عند الخلق ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه بل نقول إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيباً وأيضاً الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت
إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادراً وللفرد بعد الفرد والله أعلم
اأانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(15/154)
في الآية مسائل
المسألة الأولى روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث العشرة إلى وجه المائة بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة فابتدر عبد الله وقال يا رسول الله صفه لي فقال ( إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله ) قال فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي من الرجل قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت أني قتلته فأعطاني عصا وقال ( أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة ) ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا يا رب نحن جياع وعدونا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك وقال الأنصار شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا فنزل التخفيف وقال عكرمة إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ولهذا قال ابن عباس أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر فإن فر من اثنين فقد فر والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ وتقرير قوله أن يقال إنه تعالى قال في الآية الأولى إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين وقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة
فإن قالوا قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ معناه ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم
قلنا لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم وعلى هذا التقدير فلا نسخ
فإن قالوا قوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ مشعر بأن هذاالتكليف كان متوجهاً عليهم قبل هذا التكليف
قلنا لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( النساء 28 ) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر فكذا ههنا وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك(15/155)
الخوف فصح أن يقال خفف الله عنكم ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ لا يجوز
فإن قالوا العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ
قلنا لما كان كون الناسخ مقارناً للمنسوخ غير جائز في الوجود وجب أن لا يكون جائزاً في الذكر اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه فهذا تقرير قول أبي مسلم وأقول إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول قول أبي مسلم صحيح حسن
المسألة الثانية احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً قال فإن معنى الآية الآن علم الله أن فيكم ضعفاً وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلاً واقعاً بل يعلم منه أنه سيحدث أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثاً واقعاً فقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً معنا أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة عِلْمٌ إِنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً بفتح الضاد وفي الروم مثله والباقون فيهما بالضم وهما لغتان صحيحتان الضعف والضعف كالمكث والمكث وخالف حفص عاصماً في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال ما خالفت عاصماً في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف
المسألة الرابعة الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن روى الواحدي في ( البسيط ) أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام
المسألة الخامسة قوله بِإِذُنِ اللَّهِ فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 65 ) فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخاً بل هو ثابت كما كان فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل(15/156)
مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاٌّ خِرَة َ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمر وَتَكُونُ بالتاء والباقون بالياء أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم والأسرى مذكرون في المعنى وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى وقال صاحب ( الكشاف ) قرىء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على التعريف و أُسَارَى و يُثْخِنَ بالتشديد
المسألة الثانية روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك فقام عمر وقال كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء فمكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 36 ) ومثل عيسى في قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) ومثلك يا عمر مثل نوح وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) ومثل موسى حيث قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( يونس 88 ) ومال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قول أبي بكر روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه تأمرني أن أقتل العباس فجعل عمر يقول ويل لعمر ثكلته أمه وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تخرجوا أحداً منهم إلا بفداء أو بضرب العنق ) فقال ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد خوفي ثم قال من بعد ( إلا سهيل بن بيضاء ) وعن عبيدة السلماني قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للقوم ( إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم ) فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً أو ستة دنانير(15/157)
وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثالثة تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه
الوجه الأول أن قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى صريح في أن هذا المعنى منهي عنه وممنوع من قبل الله تعالى ثم إن هذا المعنى قد حصل ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى بعد هذه الآية رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى ( الأنفال 70 ) الثاني أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار بل أسرهم فكان الذنب لازماً من هذا الوجه
الوجه الثاني أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( الأنفال 12 ) وظاهر الأمر للوجوب فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية
الوجه الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم بأخذ الفداء وكان أخذ الفداء معصية ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء والثاني قوله تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وأجمعوا على أن المراد بقوله أَخَذْتُمْ ذلك الفداء
الوجه الرابع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر بكيا وصرح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء وذلك يدل على أنه ذنب
الوجه الخامس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر ) وذلك يدل على الذنب فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية
والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولاً أن قوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ يدل على أنه كان الأسر مشروعاً ولكن بشرط سبق الأثخان في الأرض والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً وليس من شرط الأثخان في الأرض قتل جميع الناس ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزاً بحكم هذه الآية فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنباً ومعصية ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ( محمد 4 )
فإن قالوا فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزاً والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب لعقاب عليه فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب فنقول الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطاً بضابط معلوم معين بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضاً إلى(15/158)
الاجتهاد فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعاً في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص وحسنات الأبرار سيئات المقربين فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب مع أن ذلك لا يكون البتة ذنباً ولا معصية
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانياً أن نقول إن ظاهر قوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأموراً أن يباشر قتل الكفار بنفسه وإذا كان هذا الخطاب مختصاً بالصحابة فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر كان الذنب صادراً منهم لا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعاً عظيماً والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر فزال هذا السؤال
فإن قالوا هب أن الأمر كذلك لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالاً لقوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ
قلنا إن قوله فَاضْرِبُواْ تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولاً له والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ولو كان ذلك النص متناولاً لتلك الحالة لكان مع قيام النص القاطع تاركاً لحكمه وطالباً ذلك الحكم من مشاورة الصحابة وذلك محال وأيضاً فقوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أمر والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجباً حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة وهذا الجواب شاف
والجواب عما ذكروه ثالثاً وهو قولهم إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء وأخذ الفداء محرم فنقول لا نسلم أن أخذ الفداء محرم
وأما قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ فنقول هذا لا يدل على قولكم وبيانه من وجهين الأول أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقاً الثاني أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوى به على الدين وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
والجواب عما ذكروه رابعاً أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل واشتغل بالأسر استوجب العذاب فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفاً من نزول العذاب عليهم ويحتمل أيضاً ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد وحسنات الأبرار سيئات المقربين فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى(15/159)
والجواب عما ذكروه خامساً أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الرابعة في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية
أما قوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن تَكُونَ لَهُ أَسْرَى فلقائل أن يقول كيف حسن إدخال لفظة كان على لفظة تكون في هذه الآية
والجواب قوله مَا كَانَ معناه النفي والتنزيه أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره ما كان لله أن يتخذ من ولد قال أبو عبيدة يقول لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك وأما من قرأ مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ فمعناه أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام قال الزجاج أَسْرَى جمع و أُسَارَى جمع الجمع قال ولا أعلم أحداً قرأ أُسَارَى وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب ( الكشاف ) أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ فيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته يقال قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنه الجراح والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ فهو ثخين فقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر ثم إن كثيراً من المفسرين قالوا المراد منه أن يبالغ في قتل أعدائه قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل قال الشاعر لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة وذلك يمنع من الجراءة ومن الإقدام على ما لا ينبغي فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك
البحث الثاني أن كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فقوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر
أما قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فالمراد الفداء وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضاً لأنه لا ثبات له ولا دوام فكأنه يعرض ثم يزول ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضاً لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام وتزول عنها مع كون الأجسام باقية ثم قال وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان
وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة نفي كونه مراد الوجود وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات(15/160)
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم قال ابن عباس هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ( محمد 4 ) وأقول إن هذا الكلام يوهم أن قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان فإن كلتاهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء
ثم قال تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
واعلم أنه كثر أقاويل الناس في تفسير هذا الكتاب السابق ونحن نذكرها ونذكر ما فيها من المباحث
فالقول الأول وهو قول سعيد بن جبير وقتادة لولا كتاب من الله سبق يا محمد بحل الغنائم لك ولأمتك لمسكم العذاب وهو مشكل لأن تحليل الغنائم والفداء هل كان حاصلاً في ذلك الوقت أو ما كان حاصلاً في ذلك الوقت فإن كان التحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم لأن ما كان مأذوناً فيه من قبل لم يحصل العقاب على فعله وإن قلنا إن الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت أقصى ما في الباب أنه كان في علم الله أنه سيحكم بحله بعد ذلك إلا أن هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت
فإن قالوا إن كونه بحيث سيصير حلالاً بعد ذلك يوجب تخفيف العقاب
قلنا فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب
القول الثاني قال محمد بن إسحاق لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ إني لا أعذب إلا بعد النهي لعذبتكم فيما صنعتم وأنه تعالى ما نهاهم عن أخذ الفداء وهذا أيضاً ضعيف لأنا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء فهل حصل دليل عقلي يقتضي حرمته أم لا فإن قلنا حصل فيكون الله تعالى قد بين تحريمه بواسطة ذلك الدليل العقلي ولا يمكن أن يقال إنه تعالى لم يبين تلك الحرمة وإن قلنا إنه ليس في العقل ولا في الشرع ما يقتضي المنع فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكن المنع حاصلاً كان الإذن حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله
القول الثالث قال قوم قد سبق حكم الله بأنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أيضاً مشكل لأنه يقتضي أن يقال إنهم ما منعوا عن الكفر والمعاصي والزنا والخمر وما هددوا بترتيب العقاب على هذه القبائح وذلك يوجب سقوط التكاليف عنهم ولا يقوله عاقل وأيضاً فلو صار كذلك فكيف آخذهم الله تعالى في ذلك الموضع بعينه في تلك الواقعة بعينها وكيف وجه عليهم هذا العقاب القوي
والقول الرابع لولا كتاب من الله سبق في أن من أتى ذنباً بجهالة فإنه لا يؤاخذه به لمسهم العذاب وهذا من جنس ما سبق
واعلم أن الناس قد أكثروا فيه والمعتمد في هذا الباب أن نقول أما على قولنا فنقول يجوز أن(15/161)
يعفو الله عن الكبائر فقوله لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ معناه لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم وهذا هو المراد من قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) ومن قوله ( سبقت رحمتى غضبي ) وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر فكان معناه لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ في أن من احترز عن الكبائر صارت صغائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم وهذا الحكم وإن كان ثابتاً في حق جميع المسلمين إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام وانقيادهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب فلا جرم صار هذا الذنب مغفوراً ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفوراً فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص
ثم قال تعالى فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها فنزلت هذه الآية وقيل هو إباحة الفداء
فإن قيل ما معنى الفاء في قوله فَكُلُواْ
قلنا التقدير قد أبحت لكم الغنائم فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والمعنى واتقوا الله فلا تقدموا على المعاصي بعد ذلك واعلموا أن الله غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية فقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ إشارة إلى لمستقبل وقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إشارة إلى الحالة الماضية
يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الاٌّ سْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر فقال العباس كنت مسلماً إلا أنهم أكرهوني فقال عليه السلام ( إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك ) فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي فقال ( أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا ) قال وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن(15/162)
الحرث فقال العباس تركتني يا محمد أتكفف قريشاً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها لا أدري ما يصيبني فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ) فقال العباس وما يدريك قال ( أخبرني به ربي ) قال العباس فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال قوم إنها في العباس خاصة وقال آخرون إنها نزلت في الكل وهذا أولى لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه أحدها قوله قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم وثانيها قوله مّنَ الاْسْرَى وثالثها قوله فِي قُلُوبِكُمْ ورابعها قوله يُؤْتِكُمْ خَيْراً وخامسها قوله مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وسادسها قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال سبب نزول الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما قوله إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى يجب أن يكون المراد من هذا الخير الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته
المسألة الثانية احتج هشام بن الحكم على قوله إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية لأن قوله إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فعل كذا وكذا شرط وجزاء والشرط هو حصول هذا العلم والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى
والجواب أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثاً وجب أن يقال ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم
أما قوله يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ على البناء للفاعل
المسألة الثانية للمفسرين في هذا الخير أقوال
القول الأول المراد الخلف مما أخذ منهم في الدنيا قال القاضي لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا
ولقائل أن يقول إن قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه إزالة العقاب وعلى هذا التقدير لم يبعد أن(15/163)
يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضاً الثواب والتفضل في الآخرة
والقول الثاني المراد من هذا الخير ثواب الآخرة فإن قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه في الآخرة فالخير الذي تقدمه يجب أيضاً أن يكون في الدنيا
والقول الثالث أنه محمول على الكل
فإن قيل إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيراً مما أخذ منه
قلنا هكذا يجب أن يكون بحكم الآية إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه حتى يتوجه علينا فيه السؤال ولا نعلم أيضاً من الذي آتاه الله علماً وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر
ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ والمعنى كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم
أما قوله وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الخيانة وجوه الأول أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل الثاني أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء الثالث روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر فقال تعالى وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ أي نكث هذا العهد فقد خانوا الله من قبل والمراد أنهم كانوا يقولون لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( يونس 22 ) وَلَئِنِ صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا ( الأعراف 189 ) ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق ولا يمنع دخول الكل فيه وإن كان الأظهر هو هذا الأخير
ثم قال تعالى فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ قال الأزهري يقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف والمعنى فأمكن المؤمنين منهم والمعنى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فأمكن الله منهم قتلاً وأسراً وذلك نهاية الإمكان والطفر فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ثم فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً وفيه بشارة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي ببواطنهم وضمائرهم حَكِيمٌ يجازيهم بأعمالهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوا أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَى ْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَة ٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوا أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ(15/164)
اعلم أنه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل من مكة إلى المدينة فحين هاجر من مكة إلى المدينة صار المؤمنون على قسمين منهم من وافقه في تلك الهجرة ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك
أما القسم الأول فهم المهاجرون الأولون وقد وصفهم بقول إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وإنما قلنا إن المراد منهم المهاجرون الأولون لأنه تعالى قال في آخر الآية وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وإذا ثبت هذا ظهر أن هؤلاء موصوفون بهذه الصفات الأربعة أولها أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتمردوا فقوله إِنَّ الَّذِينَ يفيد هذا المعنى
والصفة الثانية قوله وَهَاجَرُواْ يعني فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة قال تعالى أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ( النساء 66 ) جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى
والصفة الثالثة قوله وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم وبقيت في أيدي الأعداء وأيضاً فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة وأيضاً كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله(15/165)
وأما الصفة الرابعة فهي أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ ( الحديد 10 ) وقال وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( التوبة 100 ) وإنما كان السبق موجباً للفضيلة لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال ولهذا المعنى قال تعالى وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ( المائدة 32 ) وقال عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم
وأما القسم الثاني من المؤمنين الموجودين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم الأنصار وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه أولها أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب وثانيها أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه وهذه الحال ما حصلت للأنصار وثالثها أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ولم يحصل ذلك للأنصار ورابعها أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ واختلفوا في المراد بهذه الولاية فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم أن المراد هو الولاية في الميراث وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب ويقال ( السلطان ولي من لا ولي له ) ولا يفيد الإرث وقال تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث وهو كون بعضهم معظماً للبعض مهتماً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبسه لنفسه وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيداً عن دلالة اللفظ لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ وأي حاجة تحملنا على(15/166)
حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ثم الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه هذا في غاية البعد اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد
القسم الثالث من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام وهم المؤمنون الذين ما وافقوا الرسول في الهجرة وبقوا في مكة وهم المعنيون بقول وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ فبين تعالى حكمهم من وجهين الأول قوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الولاية المنفية في هذه الصورة هي الولاية المثبتة في القسم الذي تقدم فمن حمل تلك الولاية على الإرث زعم أن الولاية المنفية ههنا هي الإرث ومن حمل تلك الولاية على سائر الاعتبارات المذكورة فكذا ههنا واحتج الذاهبون إلى أن المراد من هذه الولاية الإرث بأن قالوا لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة وهذا الاستدلال ضعيف لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال فسقط هذا الدليل
المسألة الثانية قوله تعالى حَتَّى يُهَاجِرُواْ
واعلم أن قوله تعالى مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء يوهم أنهم لما لم يهاجروا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله تعالى هذا الوهم بقوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ يعني أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية وحصلت والمقصود منه الحمل على المهاجرة والترغيب فيها لأن المسلم متى سمع أن الله تعالى يقول إن قطع المهاجرة انقطعت الولاية بينه وبين المسلمين ولو هاجر حصلت تلك الولاية وعادت على أكمل الوجوه فلا شك أن هذا يصير مرغباً له في الهجرة والمقصود من المهاجرة كثرة المسلمين واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض وحصول الألفة الشوكة وعدم التفرقة
المسألة الثالثة قرأ حمزة مّن وَلايَتِهِم بكسر الواو والباقون بالفتح قال الزجاج من فتح جعلها من النصرة والنسب وقال والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة للفصل بين المعنيين وقد يجوز كسر الولاية لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقصارة والخياطة فهي مكسورة وقال أبو علي الفارسي الفتح أجود لأن الولاية ههنا من الدين والكسر في السلطان
والحكم الثاني من أحكام هذا القسم الثالث قوله تعالى وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
واعلم أنه تعالى لما بين الحكم في قطع الولاية بين تلك الطائفة من المؤمنين بين أنه ليس المراد منه المقاطعة التامة كما في حق الكفار بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا لم استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم روي أنه لما نزل قوله تعالى مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ قام الزبير وقال فهل(15/167)
نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
ثم قال تعالى إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك
ثم قال تعالى وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الترتيب الذي اعتبره الله في هذه الآية في غاية الحسن لأنه ذكر ههنا أقساماً ثلاثة فالأول المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم أفضل الناس وبين أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً
والقسم الثاني المؤمنون الذين لم يهاجروا فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة فوجب أن يكون حكمهم حكماً متوسطاً بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول تكون منفية عن هذا القسم إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم فهذا الحكم متوسط بين الإجلال والإذلال وأما الكفار فليس لهم البتة ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه فظهر أن هذا التريب في غاية الحسن
المسألة الثانية قال بعض العلماء قوله وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يدل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة فالمجوسي يرث الوثني والنصراني يرث المجوسي لأن الله تعالى قال وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
واعلم أن هذا الكلام إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإرث وقد سبق القول فيه بل الحق أن يقال إن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته فكان المراد من الآية ذلك وتمام التحقيق فيه أن الجنسية علة الضم وشبيه الشيء منجذب إليه والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وذلك يدل على أنهم ما أقدموا على تلك العداوة لأجل الدين لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه بل كان ذلك من أدل الدلائل على أن تلك العداوة لمحض الحسد والبغي والعناد
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحكام قال إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَة ٌ فِى الاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ والمعنى إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التفاصيل المذكورة المتقدمة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه الأول أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار الثاني أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم الثالث أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدة والعدة صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم(15/168)
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا القسم الثالث عاد إلى ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فَلَمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولاً ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضاً ثم إنه تعالى ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم وبيانه من وجهين الأول أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم والثاني وهو أنه تعالى أثنى عليهم ههنا من ثلاثة أوجه أولها قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فقوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وقوله حَقّاً يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين والأمر في الحقيقة كذلك لأن من لم يكن محقاً في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين وثانيها قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) يدل على كمال تلك الحياة والمعنى لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات وثالثها قوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ والمراد منه الثواب الرفيع الشريف والحاصل أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب وإما جلب الثواب أما دفع العقاب فهو المراد بقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهذه السعادات العالية إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات
القسم الرابع من مؤمني زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وهو المراد من قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد من قوله تعالى مِن بَعْدِ نقل الواحدي عن ابن عباس بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية وقيل بعد نزول هذه الآية وقيل بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( التوبة 100 )
المسألة الثانية الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن الهجرة غير منقطعة أبداً وأما قوله عليه السلام ( لا هجرة بعد الفتح ) فالمراد الهجرة المخصوصة فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد وفى عددهم قلة ويحصل للكفار بسبب كونهم معهم شوكة وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة وانتقلوا إلى بلدة أخرى ضعفت شوكة الكفار فههنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن لأنه قد حصل فيهم مثل العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة
المسألة الثالثة قوله فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ يدل على أن مرتبة هؤلاء دون مرتبة المهاجرين السابقين لأنه(15/169)
ألحق هؤلاء بهم وجعلهم منهم في معرض التشريف ولولا كون القسم الأول أشرف وإلا لما صح هذا المعنى فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية
ثم قال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين قالوا المراد من قوله تعالى أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ولاية الميراث قالوا هذه الآية ناسخة له فإنه تعالى بين أن الإرث كان بسبب النصرة والهجرة والآن قد صار ذلك منسوخاً فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة وقوله فِى كِتَابِ اللَّهِ المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء وأما الذين فسروا تلك الآية بالنصرة والمحبة والتعظيم قالوا إن تلك الولاية لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم وهذا أولى لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز
المسألة الثانية تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو علي بن أبي طالب فقال قوله تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يدل على ثبوت الولاية وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية فوجب حمله على الكل إلا ما خصه الدليل وحينئذ يندرج فيه الإمامة ولا يجوز أن يقال إن أبا بكر كان من أولي الأرحام لما نقل أنه عليه السلام أعطاه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعث علياً خلفه وأمر بأن يكون المبلغ هو علي وقال ( لا يؤديها إلا رجل مني ) وذلك يدل على أن أبا بكر ما كان منه فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية
والجواب إن صحت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامة لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه
المسألة الثالثة تمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال فِى كِتَابِ اللَّهِ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام
ثم قال في ختم السورة أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ الدِّمَاء قال مجيباً لهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) يعني لما علمتم كوني عالماً بكل المعلومات فاعلموا أن حكمي يكون منزهاً عن الغلط كذا ههنا والله أعلم
تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه يوم الأحد في رمضان سنة إحدى(15/170)
وستمائة في قرية يقال لها بغدان ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان وكيد أهل البغي والخذلان إنه الملك الديان وصلاته وسلامه على حبيب الرحمن محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان(15/171)
سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان
وآياتها 129 نزلت بعد المائدة
سورة التوبة
مائة وثلاثة وثلاثون وقيل عشرون وتسع آيات مدنية
قال صاحب ( الكشاف ) لها عدة أسماء براءة والتوبة والمقشقشة والمبعثرة والمشردة والمخزية والفاضحة والمثيرة والحافرة والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب قال لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكل بهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة والله ما تركت أحداً إلا نالت منه وعن ابن عباس في هذه السورة قال إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحداً وسورة الأنفال نزلت في بدر وسورة الحشر نزلت في بني النضير
فإن قيل ما السبب في إسقاط التسمية من أولها
قلنا ذكروا فيه وجوها
الوجه الأول روي عن ابن عباس قال قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم الله الرحمن الرحيم فقال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلما نزلت عليه سورة يقول ( ضعوها في موضع كذا ) وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً فتوفي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين موضعها وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما قال القاضي يبعد أن يقال إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن وذلك يخرجه من كونه حجة بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحياً
الوجه الثاني في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة(15/172)
والوجه الثالث أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع وما بعدها المئون وهذا قول ظاهر لأنهما معاً ومائتان وست آيات فهما بمنزلة سورة واحدة ومنهم من قال هما سورتان فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول هما سورتان وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على قول من يقول هما سورة واحدة وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين وعملوا عملاً يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلاً فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير وذلك يبطل قول الإمامية
الوجه الرابع في هذا الباب أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( التوبة 1 ) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيداً له وتقريراً له لزم وقوع الفاصل بينهما فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيهاً على كونهما سورتين متغايرتين وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى
الوجه الخامس قال ابن عباس سألت علياً رضي الله عنه لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما قال لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) فقيل له أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم فإجاب عنه بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ألا تراه قال في آخر الكتاب ( والسلام على من اتبع الهدى ) وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق
والوجه السادس قال أصحابنا لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر بأن لا تكتب ههنا تنبيهاً على كونها آية من أول كل سورة وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة
بَرَآءَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ(15/173)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى معنى البراءة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة ومن هنا يقال برئت من الدين وفي رفع قوله بَرَاءة ٌ قولان الأول أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة قال الفراء ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل جميل والله أي هذا جميل والله وقوله مِنْ لابتداء الغاية والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول كتاب من فلان إلى فلان الثاني أن يكون قوله بَرَاءة ٌ مبتدأ وقوله مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صفتها وقوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار
فإن قالوا ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله ونسب المعاهدة إلى المشركين
قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين
المسألة الثالثة روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف جعل المشركون ينقضون العهد فنبذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العهد إليهم
فإن قيل كيف يجوز أن ينقض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العهد
قلنا لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه أحدها أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( الأنفال 58 ) وقال أيضاً الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّة ٍ ( الأنفال 56 ) والثاني أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط والثالث أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول والله ورسوله منه بريئان ولهذا المعنى قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ( التوبة 4 ) وقيل إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة
المسألة الثالثة روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ونزول هذه السورة سنة تسع وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل مني فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما لحقه قال أمير أو مأمور قال مأمور ثم ساروا فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم(15/174)
ثلاثين أو أربعين آية وعن مجاهد ثلاث عشرة آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر علياً بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه وقيل لما خص أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر والله أعلم
وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم ولم يكن ذلك لعلي رضي الله عنه وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يبلغ عني إلا رجل مني ) فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم فلهذا المعنى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك القول
وأما قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ ففيه أبحاث الأول أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب قال المفسرون فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة
البحث الثاني قال المفسرون هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور الأول أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً والثاني لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد والثالث أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود والرابع أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة
البحث الثالث قال ابن الأنباري قوله فَسِيحُواْ القول فيه مضمر والتقدير فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( الإنسان 21 22 )
البحث الرابع اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال وهي أربعة(15/175)
أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر وإنما سميت حرماً لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرماً وقيل إنما سميت حرماً لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم وقيل ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض )
وأما قوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ فقيل اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب وقيل تقديره فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال والمقصود أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم وقيل اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه وقوله وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ قال ابن عباس بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال الزجاج هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار والخزي النكال الفاضح
وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاٌّ كْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أن قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 1 ) جملة تامة مخصوصة بالمشركين وقوله وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ جملة أخرى تامة معطوفة على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر وفيه مسائل
المسألة الأولى الأذان الأعلام قال الأزهري يقال آذنته أوذنه إيذاناً فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان وهو المصدر الحقيقي ومنه أذان الصلاة وقوله مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي أذان صادر من الله ورسوله واصل إلى الناس كقولك إعلام صادر من فلان إلى فلان
المسألة الثانية اختلفوا في يوم الحج الأكبر فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة وهو قول(15/176)
عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أنه قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية عرفة فقال أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر وقال ابن عباس في رواية عطاء يوم الحج الأكبر يوم النحر وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو مذهب سفيان الثوري وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها ويقول يوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام ( الحج عرفة ) ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة لأن من أدركه فقد أدرك الحج ومن فاته فقد فاته الحج وذلك إنما يحصل في هذا اليوم وحجة من قال إنه يوم النحر هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم وهي الطواف والنحر والحلق والرمي وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال ما الحج الأكبر قال يومك هذا خل عن دابتي وعن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام فبعيد لأنه يقتضي تفسي اليوم بالأيام الكثيرة وهو خلاف الظاهر
فإن قيل لم سمي ذلك بالحج الأكبر
قلنا فيه وجوه الأول أن هذا هو الحج الأكبر لأن العمر تسمى الحج الأصغر الثاني أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته لأنه إذا فات الحج وكذلك إن أريد به يوم النحر لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر الثالث قال الحسن سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر طعن الأصم في هذا الوجه وقال عيد الكفار فيه سخط وهذا الطعن ضعيف لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف وكان من وصفه بالأكبر أولئك والرابع سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة والخامس الأكبر الوقوف بعرفة والأصغر النحر وهو قول عطاء ومجاهد السادس الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد وهو منقول عن مجاهد ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان فقال أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ وفيه مباحث
البحث اللأول لقائل أن يقول لا فرق بين قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وبين قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فما الفائدة في هذا التكرير
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت
والوجه الثاني أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برىء إليهم وفي الثانية برىء منهم والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم(15/177)
بعضاً ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم وكذلك الرسول ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة
والوجه الثالث في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم
البحث الثاني قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ فيه حذف والتقدير وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بأن الله بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه
واعلم أن في رفع قوله وَرَسُولُهُ وجوهاً الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير ورسوله أيضاً بريء والخبر عن الله دل على الخبر عن الرسول والثاني أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين الثالث أن قوله إِنَّ اللَّهَ رفع بالابتداء وقوله بَرِىء خبره وقوله وَرَسُولُهُ عطف على المبتدأ الأول قال صاحب ( الكشاف ) وقد قرىء بالنصب عطفاً على اسم أن لأن الواو بمعنى مع أي برىء مع رسوله منهم وقرىء بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن الله بريء من المشركين وحق رسوله
ثم قال تعالى فَإِن تُبْتُمْ أي عن الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وذلك ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون الله ورسوله موصوفين بالبراءة منه وَإِن تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وذلك وعيد عظيم لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادراً على إنزال أشد العذاب بهم
ثم قال وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال فقد تخلص عن العذاب بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد فيه وجهان الأول قال الزجاج إنه عائد إلى قوله بَرَاءة ٌ والتقدير بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد والثاني قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يكون مستثنى من قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم
واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين أحدهما قوله ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ والثاني قوله وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم ومن الثاني أن يهيجوا أقواماً آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب ثم قال فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين فأتموا إليهم عهدهم ولا تجعلوا الوافين كالغادرين وقوله فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي أدوه إليهم تاماً كاملاً قال ابن عباس بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(15/178)
يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث روى أنه عدت بنو بكر على بن خزاعة في حال غيبة رسول الله وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله فأنشده لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام ( لا نصرت إن لم أنصركم ) وقرىء لَمْ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءاتَوُاْ الزَّكَواة َ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءاتَوُاْ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الليث يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
كفى قائلاً سلخي الشهور وإهلالي
وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له كماأن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به ودخل في شهر آخر والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين فجعل أيضاً اسماً لانفصاله عن زمانه المعين لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ ( التوبة 2 ) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر والمراد من كونها حرماً أن الله حرم القتل والقتال فيها ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء أولها قوله وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق في أي وقت وأي مكان وثانيها قوله وَخُذُوهُمْ أي بالأسر والأخيذ الأسير(15/179)
وثالثها قوله وَاحْصُرُوهُمْ معنى الحصر المنع من الخروج من محيط قال ابن عباس يريد إن تحصنوا فاحصروهم وقال الفراء حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام ورابعها قوله تعالى وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم رصدت فلاناً أرصده إذا ترقبته قال المفسرون المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير اقعدوا لهم على كل مرصد
ثم قال تعالى فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقاً بجميع الطرق ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة وهي التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فعندما لم يوجد هذا المجموع وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل
فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل
أجابوا عنه بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص
فإن قالوا لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة
قلنا لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص فالتخصيص أولى بالحمل
المسألة الثانية نقل عن أب بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله ولعل مراده كان هذه الآية لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة
المسألة الثالثة قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) روى الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً فقال عليه السلام عرف الحق لأهله فأرسلوه
المسألة الرابعة قوله فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ قيل إلى البيت الحرام وقيل إلى التصرف في مهماتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لمن تاب وآمن وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضاً فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى(15/180)
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال إن رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل فقال علي ( لا ) إن الله تعالى قال وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وتقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل فلما كان هذا الكلام واقعاً في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالباً للحجة والدليل أو جاء طالباً لاستماع القرآن فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد ويدل أيضاً على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات فإن الكافر الذي صار دمه مهدراً لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه
المسألة الثانية أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره وإن استجارك أحد ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره
فإن قيل لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي
قلنا الحكمة فيه ما ذكره سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار قال الزجاج المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام فلم يحصل الكلام وأما إن حصلت متعاقبة لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر(15/181)
وذلك يوجب الحدوث فدل هذا عن أن كلام الله محدث قالوا فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات وأما الحشوية والحمقى من الناس فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات وثبت أن كلام الله قديم فوجب القول بقدم الحروف والأصوات
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها والأول هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء
وأما الثاني فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولاً بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارىء وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب أن لا يمهل هذا الكافر بل يقال له إما أن تؤمن وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال
إذا ثبت هذا فنقول ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم
المسألة الخامسة المذكور في هذه الآية كونه طالباً لسماع القرآن فنقول ويلتحق به كونه طالباً لسماع الدلائل وكونه طالباً للجواب عن الشبهات والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره لكونه طالباً للعلم مسترشداً للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته
المسألة السادسة في قوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ وجوه قيل أراد سماع جميع القرآن لأن تمام الدليل والبينات فيه وقيل أراد سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين وقيل(15/182)
أراد سماع كل الدلائل وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل وقوله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم
المسألة السابعة قال الفقهاء والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوماً مع ماله إلا أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجا الإسلام أو دخل لتجارة فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان فيجب تبليغه مأمنه وهو أن يبلغ محروساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة أمان ومن دخل ليأخذ مالاً في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
قوله كَيْفَ استفهام بمعنى الإنكار كما تقول كيف يسبقني مثلك أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد والله أعلم
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
اعلم أن قوله كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل كونه معلوماً أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد وَلَمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ هذا هو المعنى ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال(15/183)
ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه قال الليث الظهور الظفر بالشيء وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوباً صار كالناقص والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يريد أن يقدروا عليكم وقوله لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ قال الليث رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوباً وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى ( طه 94 ) أي لم تحفظه أما الأول ففيه أقوال الأول أنه العهد قال الشاعر وجدناهم كاذباً الهم
وذو الال والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني قال الفراء الال القرابة قال حسان لعمرك أن الك من قريش
كال السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الأل الحلف قال أوس بن حجر لولا بنو مالك والأل مرقبه
ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف والرابع الأل هو الله عز وجل وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال إن هذا الكلام لم يخرج من إل وطعن الزجاج في هذا القول وقال أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول يا إل الخامس قال الزجاج حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد فمن ذلك الألة الحربة وأذن مؤللة فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة السادس قال الأزهري أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية فجائز أن يكون عرب فقيل إل السابع قال بعضهم الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت فالعهد سمى إلا لظهوره وصفائه من شوائب الغدر أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه
أما قوله وَلاَ ذِمَّة ً فالذمة العهد وجمعها ذمم وذمام كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه يعني ما يجتنب فيه الذم يقال تذمم فلان أي ألقى على نفسه الذم ونظيره تحوب وتأثم وتحرج
أما قوله يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أي يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالان
السؤال الأول الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أقبح وأخبث من الفسق فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم
السؤال الثاني أن الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ فائدة
والجواب عن الأول أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه(15/184)
فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم
والجواب عن الثاني عين ما تقدم لأن الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ونقض العهد والمكر والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ومثل هذا الشخص يكون مذموماً عند جميع الناس وفي جميع الأديان فالمراد بقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة وأيضاً قال ابن عباس لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام
أما قوله اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً عَن سَبِيلِهِ ففيه قولان الأول المراد منه المشركون قال مجاهد أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه وترك حلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة الثاني لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا المشركين على نقض تلك العهود فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً ( التوبة 10 ) ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكراراً محضاً ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكراراً فكان ذلك أولى
ثم قال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( التوبة 10 ) يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد وفي ذلك نهاية الذم والله أعلم
( 11 )
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءااتَوُاْ الزَّكَواة َ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
( 12 )
وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّة َ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم فجمع ذلك الشيء بقوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وهو يفيد جملة أحكام الإيمان ولو شرح لطال
فإن قيل المعلق على(15/185)
الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين وهو مشكل لأنه ربما كان فقيراً أو إن كان غنياً لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة
قلنا قد بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء فزال هذا السؤال ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة ومن لم يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه وجب عليه أن يقر بحكمها فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة وكان ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ بحثان الأول قوله فَإِخوَانُكُمْ قال الفراء معناه فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ( الأحزاب 5 ) أي فهم إخوانكم الثاني قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة وهذا غلط يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء أخوة وأخوان قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال تعالى أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب قال ابن عباس حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة
ثم قال وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال صاحب ( الكشاف ) وهذا اعتراض وقع بين الكلامين والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها
ثم قال وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه ومنه قوله تعالى مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا ( النحل 92 ) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم وقيل للحلف يمين وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا وقيل سمي القسم يميناً ليمين البر فيه فقوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم أي نقضوا عهودهم وفيه قولان الأول هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان ولذلك قرأ بعضهم وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ والأول أولى للقراءة المشهورة ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد وقوله وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال طعنه بالرمح يطعنه وطعن بالقول السيء يطعن قال الليث وبعضهم يقول يطعن بالرمح ويطعن بالقول فيفرق بينهما والمعنى أنهم عابوا دينكم وقدحوا فيه
ثم قال فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أَئِمَّة َ الْكُفْرِ بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق قال الزجاج الأصل في الأئمة أأمة لأنها جمع إمام مثل مثال وأمثلة لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وألقيت حركتها على الهمزة فصارت أأمة فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة هذا هو الاختيار عند جميع النحويين
إذا عرفت هذا فنقول قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( أئمة ) همزة بعدها همزة بين بين والمراد بين مخرج الهمزة والياء أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ولا يجوز أن يكون قراءة ومن صرح بها فهو لاحن محرف(15/186)
المسألة الثانية قوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ معناه قاتلوا الكفار بأسرهم إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة
المسألة الثالثة قال الزجاج هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام لأن عهده مشروط بأن لا يطعن فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم
ثم قال تعالى إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ قرأ ابن عامر لا أَيْمَانَ لَهُمْ بكسر الألف ولها وجهان أحدها لا أمان لهم أي لا تؤمنوهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الإخافة والثاني أنهم كفرة لا إيمان لهم أي لا تصديق ولا دين لهم والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة وأيمانهم ليست بأيمان وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ وهو متعلق بقوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه من الكفر وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان
( 13 )
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال قَاتَلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ ( التوبة 12 ) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع أحدها نكثهم العهد وكل المفسرين حمله على نقض العهد قال ابن عباس والسدي والكلبي نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله واختلفوا فيه فقال بعضهم المراد إخراجه من مكة حين هاجر وقال بعضهم بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل وقال آخرون بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد وإعانة أعدائه فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه وقوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ إما(15/187)
بالفعل وإما بالعزم عليه وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه وثالثها قوله وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ يعني بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه
والقول الثاني أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد وهذا قول الأكثرين وإنما قال بدؤكم تنبيهاً على أن البادىء أظلم ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها فقال مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه الأول أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية والثاني أنك إذا قلت للرجل أتخشى خصمك كان ذلك تحريكاً منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه والثالث أن قوله فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ يفيد ذلك كأنه قيل إن كنت تخشى أحداً فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة والضرر المتوقع منهم غايته القتل أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة والذم اللازم في الدنيا والرابع أن قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ معناه أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد
بقي في الآية أبحاث
البحث الأول حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا إذا قلت لا تفعل كذا فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل وليس إنما تستعمل لنفي الحال فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال
البحث الثاني نقل عن ابن عباس أنه قال قوله تعالى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ترغيب في فتح مكة وقوله قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ أي عهدهم يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يستجير بها فأبت وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا فخاطب أبا بكر فأبى ثم خاطب عمر فتشدد ثم خاطب علياً فلم يجبه فاستجار بالعباس وكان مصافياً له فأجاره وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئاً فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً وحصل الفتح عند ذلك فهذا ما قاله ابن عباس وقال الحسن لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات قال القاضي إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ولا مقصراً فيه فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا(15/188)
وهناك كره للقتال لم يصح أيضاً لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع
البحث الرابع دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحداً سواه(15/189)
بداية الجزء السادس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(16/2)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت فأولها قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة
البحث الثاني أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً فيدخل فيه كل ما ذكرناه
فإن قالوا أليس أنه تعالى قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) فكيف قال ههنا يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
قلنا المراد من قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ عذاب الاستئصال والمراد من قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عذاب القتل والحرب والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب
البحث الثالث احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم لأنه تعالى خالق لذلك فلما لم يجز(16/3)
ذلك عند المجبرة علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير وأجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات ويا مكون الخنافس والديدان فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ثم لا يجوز أن يقال يا مسهل الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها فكذا هنا أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر والدليل القاهر من جانبنا ههنا فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وثانيها قوله تعالى وَيُخْزِهِمْ معناه ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين قال الواحدي قوله وَيُخْزِهِمْ أي بعد قتلكم إياهم وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا وثالثها قوله تعالى وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين
فإن قالوا لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر كان إفراده بالذكر عبثاً فنقول ليس الأمل كذلك لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر ورابعها قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم فشفى الله صدورهم من بني بكر ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ويصير ذلك سبباً لقوة النفس وثبات العزيمة وخامسها قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
ولقائل أن يقول قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ فكان قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ تكرار
والجواب أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار كما قيل الانتظار الموت الأحمر فشفى صدورهم من زحمة الانتظار وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وبين قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم بقي ههنا مباحث
البحث الأول أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ولهذا المعنى جاز أن يقال الآية واردة فيه
البحث الثاني الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب والأخبار عن الغيب معجز(16/4)
البحث الثالث هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ومن الحمية لأجل الدين ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة فإنه تعالى قال في صفتهم أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقال أيضاً أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 290 )
ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء قال الفراء والزجاج هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله قَاتِلُوهُمْ لأن قوله وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار قالوا ونظيره فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( الشورى 24 ) وتم الكلام ههنا ثم استأنف فقال وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية الثاني أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب الثالث أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه الرابع قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة وإنما قال عَلَى مَن يَشَاء لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أحكامه وأفعاله
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16/5)
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله أَمْ من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها
المسألة الثانية قال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل قال الواحدي يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع
المسألة الثالثة المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين الأول أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم وذكر العلم والمراد منه المعلوم والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده
واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه والثاني قوله وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً
ثم قال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 الأحقاف 130 ) قال ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواة َ وَءاتَى الزَّكَواة َ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ(16/6)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة فأولها ما ذكره في هذه الآية وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ له علي وقال ألكم محاسن فقال نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً على العباس مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله
المسألة الثانية عمارة المساجد قسمان إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه وإما بالعمارة المعروفة في البناء فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه وأيضاً الكافر نجس في الحكم لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( البقرة 125 ) وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات فدخوله في المسجد تلويث للمسجد وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ على الواحد والباقون مَسَاجِدَ اللَّهِ على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو وقوله عمارة المسجد الحرام وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه الأول أن يراد المسجد الحرام وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد والثاني أن يقال مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله معناه ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله وإذا كان الأمر كذلك فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها الثالث قال الفراء العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد الرابع أن المسجد موضع السجود فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد
المسألة الرابعة قال الواحدي ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذن لم يعزر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها وقد أنزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ثقيف(16/7)
في المسجد وهم كفار وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر
أما قوله تعالى شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ قال الزجاج قوله شَاهِدِينَ حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها الأول وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني قال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني إذا قيل له من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول أنا عابد الوثن وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول الثالث أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك الرابع أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك الخامس أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك السادس نقل عن ابن عباس أنه قال المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر قال وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ قال القاضي هذا الوجه عدول عن الحقيقة وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز وأقول لو قرأ أحد من السلف شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ من قولك زيد نفيس وعمرو أنفس منه لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر
ثم قال أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ والمراد منه ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر مثل إكرام الوالدين وبناء الرباطات وإطعام الجائع وإكرام الضيف فكل ذلك باطل لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده
ثم قال وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين الأول أن قوله وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يفيد الحصر أي هم فيها خالدون لا غيرهم ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر الثاني أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى قوله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فما لم يكن مؤمناً بالله امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد الله ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى
فإن قيل لم لم يذكر الإيمان برسول الله(16/8)
قلنا فيه وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر الثاني أنه لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً الثالث أنه ذكر الصلاة والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه
الصفة الثانية قوله لَّيْسَ الْبِرَّ والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد
الصفة الثالثة قوله لَّيْسَ الْبِرَّ
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيماً للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به وإذا كان مؤتياً للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضاً لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤدياً للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد
والصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه وجوه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه بني في أول الإسلام على باب داره مسجداً وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلاناً يبني مسجداً ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله
فإن قيل كيف قال وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين
قلنا المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره
اعلم أنه تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أي من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة وكلما إِنَّمَا تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) وفي الحديث ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى ( إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( من ألف المسجد ألفه الله تعالى ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة(16/9)
وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه ) وهذه الأحاديث نقلها صاحب ( الكشاف )
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ وفيه وجوه الأول قال المفسرون عَسَى من الله واجب لكونه متعالياً عن الشك والتردد الثاني قال أبو مسلم عَسَى ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول والثالث وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجِّ وَعِمَارَة َ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون أقوالاً في نزول الآية قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن علياً لما أغلظ الكلام للعباس قال العباس إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية وقيل إن المشركين قالوا لليهود نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام فنحن أفضل أم محمد وأصحابه فقالت اليهود لهم أنتم أفضل وقيل إن علياً عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام فلما نزلت هذه الآية قال ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال عليه الصلاة والسلام ( أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيراً ) وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أردت بت فيه قال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها قال علي أنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية قال المصنف رضي الله عنه حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عَندَ اللَّهِ وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه وإما الذين قالوا(16/10)
إنها جرت بين المسلمين والكافرين فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي وتقرير الكلام أن نقول إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أن العباس احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقي الحاج فأجاب الله عنه بوجهين
الوجه الأول ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة
والوجه الثاني من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية وهو أن يقال هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج يوجب نوعاً من أنواع الفضيلة إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله والجهاد قليل جداً فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جداً بالشيء الحقير التافه جداً وأنه باطل فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية
واعلم أن السقاية والعمارة فعل قوله مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إشارة إلى الفاعل فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والثاني أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ونظيره قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 177 ) إلى قوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ
المسألة الثالثة قال الحسن رحمه الله تعالى كانت السقاية بنبيذ الزبيب وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً فكسر منه بالماء ثلاثاً وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال لاَّ يَسْتَوُونَ ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو نبه على الراجح بقوله وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه وأيضاً ظلموا المسجد الحرام فإنه تعالى خلقه ليكون موضعاً لعبادة الله تعالى فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان فكان هذا ظلماً
الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(16/11)
اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية فقال إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة وتلك الصفات الأربعة هي هذه فأولها الإيمان وثانيها الهجرة وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ورابعها الجهاد بالنفس وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة الروح والبدن والمال أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( التوبة 20 )
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم ولما ترك ذكر المرجوح دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات
واعلم أن قوله عَندَ اللَّهِ يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية ولذلك قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
فإن قيل لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ونظيره قوله قُلِ اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( النمل 59 ) وقوله أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) الثاني أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه(16/12)
الصفات تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى الثالث أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ وهي درجة العندية وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد وهو المراد من قوله عِندَ رَبّهِمْ وهنا يحق الوقوف في الوصول
ثم قال تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين
أما الأول فنقول فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله وقوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله فِيهَا نَعِيمٌ إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله مُّقِيمٌ عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات أولها مُّقِيمٌ وثانيها قوله خَالِدِينَ فِيهَا وثالثها قوله أَبَدًا فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم وذلك هو حد الثواب وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة ومن المتكلمين من قال قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ المراد منه خيرات الدنيا وقوله وَرِضْوَانٍ لَهُمْ المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله وَجَنَّاتٍ المراد منه المنافع وقوله لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ المراد منه كون تلك النعم(16/13)
خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين أحدهما أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة والثاني أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الأكرام فكذلك ههنا قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة والنقمة والنعمة والبلاء والآلاء والمحققون وقفوا عند قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وههذ المرتبة هي النازلة عند المحققين واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة أولها أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان والثاني أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين وجب أن تكون البشرة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها والثالث أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة والرابع أنه تعالى قال رَّبُّهُمْ فأضاف نفسه إليهم وما أضافهم إلى نفسه والخامس أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم والسادس أن البشارة هي الأخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ألا ترى أن الفقهاء قالوا لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله يُبَشّرُهُمْ لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه(16/14)
واعلم أنه تعالى لما قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور أولها قوله بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وثانيها قوله وَرِضْوَانٍ وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الصحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ويجعله راضياً بقضائه ثم إنه تعالى يصير راضياً وهو قوله وَرِضْوَانٍ وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية وهي قوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وقد سبق شرح هذه المراتب ولما ذكر هذه الأحوال قال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث ولا يدل على التأبيد واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية وهي قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها كالشاق الممتنع المتعذر فذكر الله تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً قال المصنف رضي الله عنه هذا مشكل لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد(16/15)
والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ والاستحباب طلب المحبة يقال استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم وكان لفظ النهي يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم ذكر ما يزيل الشبهة فقال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر كما أن الرضا بالفسق فسق قال القاضي هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله
قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَة ٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا وهلاك أموالنا وخراب ديارنا وإبقاءنا ضائعين فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره أي بعقوبة عاجلة أو آجلة والمقصود منه الوعيد
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا قال الواحدي قوله وَعَشِيرَتُكُمْ عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه وقرأ أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالجمع والباقون على الواحد أما من قرأ بالجمع فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة فإذا جمعت قلت عشيراتكم ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها ويقوي ذلك أن الأخفش قال لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر وقوله وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا الاقتراف الاكتساب
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وهى أمور أربعة أولها مخالطة الأقارب وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل وهي لفظ العشيرة وثانيها الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة وثالثها الرغبة في تحصيل(16/16)
الأموال بالتجارة ورابعها الرغبة في المساكن ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَة ٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن رعاية لمصالح الدين ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً وضرب تعالى لهذا مثلاً وذلك أن عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن
المسألة الثانية قال الواحدي النصر المعونة على العدو خاصة والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر فعلى هذا مواطن الحرب مقاماتها مواقفها وامتناعها من الصرف لأنه جمع(16/17)
على صيغة لم يأت عليها واحد والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله ويقال إنها ثمانون موطناً فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين ومن نصره الله فلا غالب له
ثم قال وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم
المسألة الثالثة لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً وقال قتادة كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء وقال الكلبي كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف فلما التلقوا قال رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فهذه الكلمة ساءت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وقيل إنه قالها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل قالها أبو بكر وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعيد لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها
ثم قال تعالى فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم وإنما يغلبون بنصر الله فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وقوله وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقال رحب يرحب رحباً ورحابة فقوله بِمَا رَحُبَتْ أي برحبها ومعناه مع رحبها ( فما ) ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم قال البراء بن عازب كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث قال البراء والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دبره قط قال ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال ( شاهت الوجوه ) فما زال أمرهم مدبراً وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة أحدها إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس ويوجب الأمنة والطمأنينة وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك وإذا أمن سكن وثبت فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن
واعلم أن قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى(16/18)
أما بيان الأول فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم فلا جرم لم يحصل السكون والثبات بل فر القوم وانهزموا ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية
وأما بيان الثاني وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح
قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ والعقل أيضاً دل عليه وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل وهو محال
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر وقال سعيد بن جبير أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر وقال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين
ثم قال تعالى وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً وفي هذه المسألة قالت المعتزلة إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره وقد سبق جوابه غير مرة
ثم قال وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء والجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه فنقول في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية
ثم قال الله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَاء يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم قال أصحابنا إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام قال القاضي معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم وهذا ضعيف لأن قوله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت(16/19)
لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي غفور لمن تاب رحيم لمن آمن وعمل صالحاً والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة وأجاب الله تعالى عنها بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً ( التوبة 28 ) أي فقراً وحاجة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فهذا وجه النظم وهو حسن موافق
المسألة الثانية قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان وقال قوم بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة والذي يفيد ههنا التمسك بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) ومعلوم أنه باطل
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ومعناه ذو نجس وقال الليث النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ورجل نجس وقوم أنجاس ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرب من أوانيهم وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه بأن القرآن أقوى من خبر الواحد وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين الأول أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى الثاني أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان فلو(16/20)
قلنا إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان أما إذا قلنا إنه كان حلالاً بحكم الأصل والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة فوجب أن يكون هذا أولى أما قول القاضي لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر فهذا تقرير هذا القول وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث الثاني المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه الثالث أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة وروى الحسن بن زياد أنه نجس نجاسة غليظة وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر
واعلم أن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدل على فساد هذا القول لأن كلمة ( إنما ) للحصر وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة وهذا من العجائب ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن والأخبار في هذا الباب لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ولو كانت يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام قال الله تعالى في صفة أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار وقال في صفة مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة
وإذا ثبت هذا فنقول جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى فما الذي حملنا على مخالفته والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة(16/21)
وعند مالك يمنعون من كل المساجد وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله وبمفهومها تبطل قول مالك أو نقول الأصل عدم المنع وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل
المسألة السادسة اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم والأقرب هو هذا الثاني والدليل عليه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم وهذا استدلال حسن من الآية ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
واعلم أن أصحابنا قالوا الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن
المسألة السابعة لا شبهة في أن المراد بقوله بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين وهي السنة التاسعة من الهجرة
ثم قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً والعيلة الفقر يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر والمعنى إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً الأول قال مقاتل أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار والثاني قال الحسن جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك وقيل أغناهم بالفيء الثالث قال عكرمة أنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم
المسألة الثانية قوله فُسُوقٌ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة
ثم قال تعالى إِن شَاء ولسائل أن يسأل فيقول الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود وجوابه من وجوه الأول أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات الثاني أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ الثالث أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ( البقرة 126 ) وكلمة ( من ) تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية إِن شَاء المراد منه ذلك التبعيض(16/22)
ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب والله أعلم
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم وفي وجوب مقاتلتهم وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وأورد الإشكالات التي ذكروها وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا أو إلى أن يعطوا الجزية
فالصفة الأولى أنهم لا يؤمنون بالله واعلم أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه فأما الموجود الذي لا يكون جسماً ولا حالاً فيه فهو منكر له وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالاً في جسم فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله
فإن قيل فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله فما قولكم في موحدة اليهود
قلنا أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق وأما النصارى فهم يقولون بالأب والابن وروح القدس والحلول والاتحاد وكل ذلك ينافي الإلهية
فإن قيل حاصل الكلام أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكراً لوجود الله تعالى وحينئذ يلزم أن تقولوا إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً شديداً في هذا الباب فالأشعري أثبت البقاء صفة والقاضي أنكره وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة والباقون أنكروه والقاضي أثبت إدراك الطعوم وإدراك الروائح وإدراك الحرارة والبرودة وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس والأستاذ أبو إسحق أنكره وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالاً سبعة معللة بتلك الصفات ونفاة الأحوال أنكروه وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار ذلك في الإنزال والباقون أنكروه وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات في الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء(16/23)
والمشهور أن كلام الله تعالى واحد واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد
إذا ثبت هذا فنقول إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجباً إنكار الذات أو لا يوجب ذلك فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال إنهم أنكروا الإله وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله وأيضاً فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى وحشوية المسلمين يقولون إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارىء وفي لسان جميع القراء وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن وفي كل جسم كتب فيه القرآن فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله فهذا تقرير هذا السؤال
والجواب أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة بل في الذات فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة فظهر الفرق وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية فنحن نكفرهم قطعاً فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في ألسنة جميع من قرأ القرآن وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجباً للقول بالتكفير كان أولى
والصفة الثانية من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر
واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة بحيث يأكلون ويشربون وبالجواري يتمتعون ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني فقد أنكر صريح القرآن ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر
الصفة الثالثة من صفاتهم قوله تعالى وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفيه وجهان الأول أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول والثاني قال أبو روق لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم(16/24)
الصفة الرابعة قوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه ديناً فهو معتقده فقوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية
ثم قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه واختلفوا في قوله عَن يَدٍ قال صاحب ( الكشاف ) قوله عَن يَدٍ إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان أحدهما أن يكون المراد عَن يَدٍ مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ولذلك يقال أعطى يده إذا انقاد وأطاع ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة كما يقال خلع ربقة الطاعة من عنقه وثانيهما أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد بل على يد المعطي إلى يد الآخذ وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضاً وجهان الأول أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول اليد في هذا لفلان وثانيهما أن يكون المراد عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة
وأما قوله وَهُمْ صَاغِرُونَ فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بلحيته فيقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه فهذا معنى الصغار وقيل معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه
الحكم الأول
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله قَاتِلُوهُمْ يقتضي إيجاب مقاتلتهم وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه فقد ارتفع ذلك المجموع ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع
إذا ثبت هذا فنقول قوله قَاتَلُواْ طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان(16/25)
الحكم الثاني
الكفار فريقان فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله وفريق هم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا والمجوس أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله عليه السلام ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس هجر فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة وهي قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز
الحكم الثالث
في قدر الجزية قال أنس قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على كل محتلم ديناراً وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً وعلى الأوساط أربعة وعشرين وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين قال أصحابنا وأقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير والدليل على ما ذكرنا أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ يدل على أخذ شيء فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة فوجب أن يبقى عليها
الحكم الرابع
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها
الحكم الخامس
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام ( ليس على المسلم جزية ) وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط
الحكم السادس
قال أصحابنا هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضاً مكناهم من أيديهم فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته فأمهلوا لهذا المعنى والله أعلم وبقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ( مريم 90 92 )(16/26)
فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه
والجواب ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله فينتقل من الكفر إلى الإيمان
السؤال الثاني هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا
والجواب أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ويشاهد الذل والصغار في الكفر فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام فهذا هو المقصود من شرع الجزية
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله وأيضاً بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداً فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين
المسألة الثانية في قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ أقوال الأول قال عبيد بن عمير إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء الثاني قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى ومالك بن(16/27)
الصيف وقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزيراً ابن الله فنزلت هذه الآية وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً
والقول الثالث لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع فحكى الله ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن حكاية الله عنهم أصدق والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله وقال الكلبي قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة وقال السدي العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة فهذا ما قيل في هذا الباب وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون المسيح ابن الله فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة فإن هذا أفحش أنواع الكفر فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله وعلم رجلاً آخر يقال له يعقوب ذلك ثم دعا رجلاً يقال له ملكاً فقال له إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفس لمرضاة عيسى ثم دخل المذبح فذبح نفسه ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثالثة قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو عُزَيْرٌ بالتنوين والباقون بغير(16/28)
التنوين قال الزجاج الوجه إثبات التنوين فقوله عُزَيْرٌ مبتدأ وقوله ابْنُ اللَّهِ خبره وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيراً ينصرف سواء كان أعجمياً أو عربياً وسبب كونه منصرفاً أمران أحدهما أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجمياً كهود ولوط والثاني أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنه أعجمي ومعرفة فوجب أن لا ينصرف
الوجه الثاني أن قوله ابْنُ صفة والخبر محذوف والتقدير عزير ابن الله معبودنا وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب ( دلائل الإعجاز ) وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم وحصل كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر وهذا الطعن عندي ضعيف أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم وأما قوله ويكون ذلك تسليماً لذلك الوصف فهذا ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام
الوجه الثالث قال الفراء نون التنوين ساكنة من عزير والباء في قوله ابْنُ اللَّهِ ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين فحذف نون التنوين للتخفيف وأنشد الفراء فألفيته غير مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ
ولقائل أن يقول إن كل قول إنما يقال بالفم فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة
والجواب من وجوه الأول أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه والحاصل أنهم قالوا باللسان قولاً ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ليس عند العقل منه أثر ونظيره قوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والثاني أن الإنسان قد يختار مذهباً إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض فإذا صرح به وذكره بلسانه فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب والنهاية في كونه ذاهباً إليه قائلاً به والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة والثالث أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب
ثم قال تعالى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية وجوه الأول أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله الثاني أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم الثالث أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم يعني(16/29)
أنه كفر قديم فهو غير مستحدث
المسألة الثانية المضاهاة المشابهة قال الفراء يقال ضاهيته ضهياً ومضاهاة هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة وقال شمر المضاهاة المتابعة يقال فلان يضاهي فلاناً أي يتابعه
المسألة الثالثة قرأ عاصم يضاهؤن بالهمزة وبكسر الهاء والباقون بغير همزة وضم الهاء يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة
ثم قال تعالى قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً قاتلهم الله ما أعجب فعلهما أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير أي قلب وصرف ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير فقوله تعالى أَنَّى يُؤْفَكُونَ معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق والله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة الأحبار الفقهاء واختلفوا في واحده فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير وينكر الكسر وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني ويحسن البيان عنها والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه وفي عرف الاستعمال صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال فقلت لسنا نعبدهم فقال ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ) فقلت بلى قال ( فتلك عبادتهم ) وقال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار(16/30)
والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا
فإن قيل إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج
والجواب أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ويستخف به أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم فظهر الفرق
والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له وكان يقول لهم أنتم عبيدي فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الإلهية فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا بالله فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة
ثم قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً ومعناه ظاهر وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك
ثم قال لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى وهو سعيهم في إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه والمراد من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته وهي أمور كثيرة جداً أحدها المعجزات القاهرة التي ظهرت على(16/31)
يده فإن المعجز إما أن يكون دليلاً على الصدق أو لا يكون فإن كان دليلاً على الصدق فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق فوجب كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وثانيها القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب وذلك من أعظم المعجزات وثالثها أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا والترغيب في سعادات الآخرة والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه ورابعها أن شرعه كان خالياً عن جميع العيوب فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله وليس فيه دعوة إلى غير الله وقد ملك البلاد العظيمة وما غير طريقته في استحقار الدنيا وعدم الالتفات إليها ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة وأنواع كيدهم ومكرهم أرادوا إبطال هذه الدلائل فكان هذا جارياً مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع فكذا ههنا فهذا هو المراد من قوله يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ثم إنه تعالى وعد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
فإن قيل كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً
قلنا أجرى أَبَى مجرى لم يرد والتقدير ما أراد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع والدليل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإن أرادوا ظلمنا أبينا ) فامتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يصح من القوي والضعيف ويقال فلان أبى الضيم والمعنى ما ذكرناه وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره بين كيفية ذلك الإتمام فقال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ
واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور أولها كثرة الدلائل والمعجزات وهو المراد من قوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وثانيها كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة وهو المراد من قوله وَدِينِ الْحَقّ وثالثها صيرورة دينه مستعلياً على سائر الأديان غالباً عليها غالباً لأضدادها قاهراً(16/32)
لمنكريها وهو المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ
واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة وقد يكون بالكثرة والوفور وقد يكون بالغلبة والاستيلاء ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم فالواجب حمله على الظهور بالغلبة
فإن قيل ظاهر قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ يقتضي كونه غالباً لكل الأديان وليس الأمر كذلك فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين والروم وسائر أراضي الكفرة
قلنا أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
الوجه الثاني في الجواب أن نقول روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى وقال السدي ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج
الوجه الثالث المراد ليظهر الإسلام على الدين كله في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار
الوجه الرابع أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء
الوجه الخامس أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ بالحجة والبيان إلا أن هذا ضعيف لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله والتقوية بالحجة والبيان كانت حاصلة من أول الأمر ويمكن أن يجاب عنه بأن في مبدأ الأمر كثرت الشبهات بسبب ضعف المؤمنين واستيلاء الكفار ومنع الكفار سائر الناس من التأمل في تلك الدلائل أما بعد قوة دولة الإسلام عجزت الكفار فضعفت الشبهات فقوي ظهور دلائل الإسلام فكان المراد من تلك البشارة هذه الزيادة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاٌّ حْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ(16/33)
اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تنبيهاً على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر أخذ أموال الناس بالباطل ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد عرفت أن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى بحسب العرف فالله تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل وفيه أبحاث
البحث الأول أنه تعالى قيد ذلك بقوله كَثِيراً ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكل فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك سائر الأمم
البحث الثاني أنه تعالى عبر عن أخذ الأموال بالأكل وهو قوله لَيَأْكُلُونَ والسبب في هذه الاستعارة أن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده أو يقال من أكل شيئاً فقد ضمنه إلى نفسه ومنعه من الوصول إلى غيره ومن جمع المال فقد ضم تلك الأموال إلى نفسه ومنعها من الوصول إلى غيره فلما حصلت المشابهة بين الأكل وبين الأخذ من هذا الوجه سمى الأخذ بالأكل أو يقال إن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا أقدر على ردها فلهذا السبب سمى الأخذ بالأكل
البحث الثالث أنه قال لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه الأول أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع والثاني أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب الثالث التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأولئك الأحبار والرهبان كانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب ويأخذون الرشوة والرابع أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواماً عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق(16/34)
ثم قال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع
قال المصنف رضي الله عنه غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين فالمال هو المراد بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وأما الجاه فهو المراد بقوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فإنهم لو أقروا بأن محمداً على الحق لزمهم متابعته وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح
ثم قال وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ احتمالات ثلاثة لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله الَّذِينَ أولئك الأحبار والرهبان ويحتمل أن يكون المراد كلاماً مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة وروي عن زيد بن وهب قال مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد فقال كنت بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ فقال معاوية هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريباً إني والله لن أدع ما كنت أقول وعن الأحنف قال لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال ما عسى أن يصنع في قريش
قال مولانا رضي الله عنه إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم وبين ما في تركه من الوعيد الشديد وإن كان المراد الكل كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله تنبيهاً على أنه لما(16/35)
كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر
المسألة الثانية أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون هو المال الذي لم تؤد زكاته وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أديت زكاته فليس بكنز وقال ابن عمر كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض وقال جابر إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز وقال ابن عباس في قوله وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم قال القاضي تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلاً في الوعيد
والقول الثاني أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور الأول عموم قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه وكذا قوله تعالى وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) وقوله عليه السلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقوله عليه السلام ( ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز ) وإن كان ظاهراً الثاني أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين الثالث أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه الأول عموم هذه الآية ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل والثاني ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً فقالوا له أي مال نتخذ قال لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه وقال عليه السلام ( من برك صفراء أو بيضاء كوى بها وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار فقال عليه السلام ( كية ) وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام ( كيتان ) والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون والرابع أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته(16/36)
ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ومانعاً من وصول إحسان الله إلى عبيده
واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه
الوجه الأول أن الإنسان إذا أحب شيئاً فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر كان حبه له أشد وميله أقوى فالإنسان إذا كان فقيراً فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة فصار ميله أشد فكلما صارت أمواله أزيد كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس وأيضاً قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال رأى الأمر يفضي إلى آخر
فيصير آخره أولاً
والوجه الثاني أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في تعب الحفظ ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات وذلك هو الخسران المبين
والوجه الثالث أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان كما قال تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان
الوجه الرابع أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه
فإن قيل لم قال عليه السلام ( اليد العليا خير من اليد السفلى )
قلنا اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية لأنه أعطى ذلك القليل فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية
المسألة الثالثة جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها(16/37)
فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب
المسألة الرابعة الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
فإن قيل هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء
قلنا نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه وأيضاً ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللاً به فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد وأيضاً أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام ( هاتوا ربع عشر أموالكم ) وقال ( في الرقة ربع العشر ) وقال ( يا علي عليك زكاة فإذا ملكت عشرين مثقالاً فأخرج نصف مثقال ) وقال ( ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبراً وهو قوله عليه السلام ( لا زكاة في الحلي المباح ) إلا أن أبا عيسى الترمذي قال لم يصح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحلي خبر صحيح وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال لا زكاة في الحلي ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء قال تعالى وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا ( النحل 14 ) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء فسقطت دلالته وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس لأن النص خير من القياس فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَهَا وفيه وجهان الأول أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه أحدها أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم فهو كقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وثانيها أن يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز وثالثها قال الزجاج التقدير ولا ينفقون تلك الأموال
الوجه الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى اللفظ وفيه وجوه أحدها أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء وفي كونهما جوهرين شريفين وفي كونهما مقصودين بالكنز فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وثانيها أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا(16/38)
( الجمعة 11 ) جعل الضمير للتجارة وقال وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ( النساء 112 ) فجعل الضمير للإثم وثالثها أن يكون التقدير ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله وإني وقيار بها لغريب
أي وقيا كذلك
فإن قيل ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال
قلنا لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز
واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم
ثم قال تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفسكم وفي قراءة أبي وبطونهم وفيه سؤالات
السؤال الأول لا يقال أحميت على الحديد بل يقال أحميت الحديد فما الفائدة في قوله أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا
والجواب ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد وهو مأخوذ من قوله نَارٌ حَامِيَة ٌ ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة
فإن قالوا لما كان المراد يوم تحمى النار عليها فلم ذكر الفعل
فلنا لأن النار تأنيثها لفظي والفعل غير مسند في الظاهر إليه بل إلى قوله عَلَيْهَا فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ تحمى بالتاء
السؤال الثاني ما الناصب لقوله لايّ يَوْمٍ
الجواب التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها
السؤال الثالث لم خصت هذه الأعضاء
والجواب لوجوه أحدها أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور وثانيها أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء وثالثها قال أبو بكر الوراق خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد(16/39)
عنه وولى ظهره ورابعها أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع إما من مقدمه فعلى الجبهة وإما من خلفه فعلى الظهور وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين وخامسها أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء وسادسها أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته أما الجمال فمحله الوجه وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة فإذا وقع الكي في الجبهة فقد زال الجمال بالكلية وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن فالحاصل أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة
السؤال الرابع الذي يجعل كياً على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة
والجواب مقتضى الآية الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءاً معيناً بل لا جزء إلا والحق متعلق به فوجب أن يعذبه الله بكل الأجزاء
ثم إنه تعالى قال هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك فعظم الله تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تأثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقاباً لكم على ما تشاهدونه ثم يقول تعالى فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم الله به فَذُوقُواْ وبال ذلك به لا بغيره
إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسىء فحينئذ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة(16/40)
معلقة بسير القمر وأيضاً قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وعند سائر الطوائف عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب وأيضاً إذا حضروا الحج حضروا للتجارة فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات واعتبروا السنة الشمسية وعند ذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم فهذا النسىء وإن كان سبباً لحصول المصالح الدنيوية إلا أنه لزم منه تغير حكم الله تعالى لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين وكان بسبب ذلك النسىء يقع في سائر الشهور تغير حكم الله وتكليفه فالحاصل أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام الله وإبطال تكليفه فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية
واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وقال إن حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهراً لا أقل ولا أزيد وتحكمهم على بعض السنين أنه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى ويوجب تغيير تكاليف الله تعالى وكل ذلك على خلاف الدين
واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى فأظهر ذلك في بلاد العرب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بقوله عِدَّة َ لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو قوله اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً وأنه لا يجوز وأقول في إعراب هذه الآية وجوه الأول أن نقول قوله عِدَّة َ الشُّهُورِ مبتدأ وقوله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً خبر وقوله عَندَ اللَّهِ في كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ظروف أبدل البعض من البعض والتقدير إن عدة الشهور اثنا عشر شهراً عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض والفائدة في ذكر هذه الإبدالات المتوالية تقرير أن ذلك العدد واجب متقرر في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم الثاني أن يكون قوله تعالى فِى كِتَابِ اللَّهِ متعلقاً بمحذوف يكون صفة للخبر تقديره اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله ثم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب من الكتب لأنه متعلق بقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وأسماء الأعيان لا تتعلق بالظروف فلا تقول غلامك يوم الجمعة بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله أي في حكمه الواقع يوم خلق السموات والثالث أن يكون الكتاب اسماً وقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ متعلق بفعل محذوف والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله كتبه يوم خلق السموات والأرض(16/41)
المسألة الثالثة في تفسير أحكام الآية إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ أي في علمه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ وفي تفسير كتاب الله وجوه الأول قال ابن عباس إن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو الأصل للكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء عليهم السلام الثاني قال بعضهم المراد من الكتاب القرآن وقد ذكرنا آيات تدل على أن السنة المعتبرة في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هي السنة القمرية وإذا كان كذلك كان هذا الحكم مكتوباً في القرآن الثالث قال أبو مسلم فِى كِتَابِ اللَّهِ أي فيما أوجبه وحكم به والكتاب في هذا الموضع هو الحكم والإيجاب كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( البقرة 216 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) قال القاضي هذا الوجه بعيد لأنه تعالى جعل الكتاب في هذه الآية كالظرف وإذا حمل الكتاب على الحساب لم يستقم ذلك إلا على طريق المجاز ويمكن أن يجاب عنه بأنه وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز متعارف يقال إن الأمر كذا وكذا في حساب فلان وفي حكمه
وأما قوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوهاً فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم وذلك يدل على المبالغة والتأكيد
وأما قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ومعنى الحرم أن المعصية فيها أشد عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له
فإن قيل أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز
قلنا إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة ثم نقول لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس وهذا غير مستبعد عند الحكماء ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك وسئل النبي عليه الصلاة والسلام أي الصيام أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من صام يوماً من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوماً ) وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاْشهر وفيه فائدة أخرى وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام حتى أن(16/42)
الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات وذلك يوجب أنواعاً من الفضائل والفوائد أحدها أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب لأنه يقل القبائح وثانيها أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقاً وثالثها أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلية فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام
ثم قال تعالى ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وفيه بحثان
البحث الأول أن قوله ذالِكَ إشارة إلى قوله إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وعندي أن الأول أولى لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهراً وكانوا يغيرون مواقع الشهور والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء فوجب حمل اللفظ عليه
البحث الثاني في تفسير لفظ الدين وجوه الأول أن الدين قد يراد به الحساب يقال الكيس من دان نفسه أي حاسبها والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى الثاني قال الحسن ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه الثالث قال بعضهم المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام وقال القاضي حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب لأنه مجاز فيه ويمكن أن يقال الأصل في لفظ الدين الانقياد يقال يا من دانت له الرقاب أي انقادت فالحساب يسمى ديناً لأنه يوجب الانقياد والعدة تسمى ديناً فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب قال أهل العلم الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية
ثم قال تعالى فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول الضمير في قوله فِيهِنَّ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس أن المراد فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر والثاني وهو قول الأكثرين أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى الأربعة الحرم قالوا والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات والدليل على أن هذا القول أولى وجوه الأول أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى المذكور السابق فوجب عوده إلى أقرب المذكورات وما ذاك إلا قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ الثاني أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ(16/43)
فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف الثالث قال الفراء الأولى رجوعها إلى الأربعة لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فِيهِنَّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان بن ثابت لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال تلمع وتقطر هذا هو الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
فقال بهن والسيوف جمع كثرة
البحث الثاني في تفسير هذا الظلم أقوال الأول المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والثاني أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر والثالث أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية
ثم قال وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة ً وفيه مباحث
البحث الأول قال الفراء كَافَّة ً أي جميعاً والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول كافين أو كافات للنساء ولكنها كَافَّة ً بالهاء والتوحيد لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام لأنها في مذهب قولك قاموا معاً وقاموا جميعاً وقال الزجاج كافة منصوب على الحال ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع كما أنك إذا قلت قاتلوهم عامة لم تثن ولم تجمع وكذلك خاصة
البحث الثاني في قوله كَافَّة ً قولان الأول أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء والثاني قال ابن عباس قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر
البحث الثالث ظاهر قوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً إباحة قتالهم في جميع الأشهر ومن الناس من يقول المقاتلة مع الكفار محرمة بدليل قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ( البقرة 217 )(16/44)
ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات قال الزجاج تأويله أنه ضامن لهم النصر
إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُو ءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النَّسِىء قولان
القول الأول أنه التأخير قال أبو زيد نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه والاسم النسيئة والنسء ومنه أنسأ الله فلاناً أجله ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي النسىء مصدر كالنذير والنكير ويحتمل أيضاً أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول لأنه إن حمل على ذلك كان معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر والمؤخر الشهر فيلزم كون الشهر كفراً وذلك باطل بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء وهو التأخير وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة وروي عن ابن كثير من طريق شبل النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي كقولهم نسأت أي أخرت وروي عنه أيضاً النسىء مخففة الياء ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل أرجيت وأرجأت وروي عنه النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي
والقول الثاني قال قطرب النسىء أصله من الزيادة يقال نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه ونسأت المرأة حبلت جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن وقيل للناقة نسأتها أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي الصحيح القول الأول وهو أن أصل النسىء التأخير ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعاً من حسن المسير ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه
إذا عرفت هذين القولين فنقول إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أن(16/45)
بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران أحدهما أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات والثاني أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران أحدهما الزيادة في عدة الشهور والثاني تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين ويفيد الزيادة عند الباقين وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين
والحاصل من هذا الكلام أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم وإنما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرداً عن طاعته وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهاً آخر فقالوا إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم قال الواحدي وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد بل كان ذلك حاصلاً في كل الشهور وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر فقال عليه السلام ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شراً ) وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها
المسألة الثانية قوله تعالى زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفاً من الكفر زيادة في الكفر احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار قال لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماماً فكان ترك هذا التأخير إيماناً وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيماناً قال المصنف رضي الله عنه هذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلاً من الأشهر القمرية فإذا اعتبرنا السنة الشمسية فربما وقع الحج(16/46)
في المحرم مرة وفي صفر أخرى فقولهم بأن هذا الحج صحيح يجزى وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام فكان هذا كفراً بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار
أما قوله تعالى يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضاً لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال وقراءة أهل الكوفة يُضِلَّ بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه أحدها يضل الله به الذين كفروا والثاني يضل الشيطان به الذين كفروا والثالث وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان
واعلم أن الكناية في قوله يُضِلُّ بِهِ يعود إلى النسىء وقوله يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا فالضمير عائد إلى النسىء والمعنى يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً قال الواحدي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ويحرمون التأخير عاماً آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه قال رضي الله عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول وحملنا قوله إِنَّمَا النَّسِىء زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سبباً في زيادة الكفر وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل
أما قوله لّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قال أهل اللغة يقال واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه قال المبرد يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما أحلوا شهراً من الحرام إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى هذا هو المراد من المواطأة ولما بين تعالى كون هذا العمل كفراً ومنكراً قال زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قال ابن عباس والحسن يريد زين لهم الشيطان هذا العمل والله لا يرشد كل كفار أثيم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُم بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا مِنَ الاٌّ خِرَة ِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ قَلِيلٌ(16/47)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفاء وفضائحهم عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباباً كثيرة موجبة لقتالهم وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 14 ) وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه
المسألة الثانية المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت واستعظموا غزو الروم وهابوه فنزلت هذه الآية قال المحققون وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه أحدها شدة الزمان في الصيف والقحط وثانيها بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات وثالثها إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت ورابعها شدة الحر في ذلك الوقت وخامسها مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو والله أعلم
المسألة الثالثة يقال استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفراً ونفوراً إذا حثهم ودعاهم إليه ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا استنفرتم فانفروا ) وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير ومنه قولهم فلان لا في العير ولا في النفير وقوله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ أصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش ومعناه تباطأتم ونظيره قوله ادارأتم وقوله قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ قال صاحب ( الكشاف ) وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ونظيره أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( الأعراف 176 ) وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقوله مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ( التوبة 38 ) وإن كان في الظاهر استفهاماً إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار
ثم قال تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم فتركتم جميع هذه الأمور أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة ومنافع(16/48)
الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران وأيضاً هو واجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين
المسألة الخامسة لقائل أن يقول إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب مع كل المؤمنين
ثم قال مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف وذلك التثاقل معصية وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة
الجواب أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن وفي سائر أنواع الكلام كقوله إياك أعني واسمعي يا جاره
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي وهي ثلاثة أنواع الأول قوله تعالى يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
ع واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة وقال ابن عباس رضي الله عنهما استنفر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) القوم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر وقال الحسن الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به وقيل إنه تهديد بكل الأقسام وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة الثاني قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم ونظيره قوله تعالى(16/49)
خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم اختلف المفسرون فقال ابن عباس هم التابعون وقال سعيد بن جبير هم أبناء فارس وقال أبو روق هم أهل اليمن وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأن الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها قال الأصم معناه أن يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة قال القاضي هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك والثالث قوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والكناية في قول الحسن راجعة إلى الله تعالى أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين وفي قول الباقين يعود إلى الرسول أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز فإذا توعد بالعقاب فعل
المسألة الثانية قال الحسن وعكرمة هذه الآية منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً قال المحققون إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفروا وعلى هذا التقدير فلا نسخ قال الجبائي هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذاباً إليماً وهو عذاب النار فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد فكذا في غيره لأنه لا قائل بالفرق واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية دالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أو لا معه لأنه تعالى قال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول
فإن قالوا يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) ولقوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا ( التوبة 39 ) إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول
قلنا خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(16/50)
اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره ولم يشتغلوا بنصرته فإن الله ينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد فههنا أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط
وجوابه أن التقدير إلا تنصروه فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت
المسألة الثانية قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني قد نصره الله في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال أي في الحال التي كان فيها ثَانِيَ اثْنَيْنِ وتفسير قوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ سبق في قوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما يكون ثانياً في ذينك الاثنين للآخر فلهدا السبب قالوا يقال فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ثَانِيَ اثْنَيْنِ بالسكون و إِذْ هُمَا بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ والغار ثقب عظيم في الجبل وكان ذلك الجبل يقال له ثور في يمين مكة على مسيرة ساعة مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مع أبي بكر ثلاثاً وقوله إذ يقول بدل ثان
المسألة الثالثة ذكروا أن قريشاً ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وإذ يمكر بك الذين كفروا ( الأنفال 30 ) فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار والمراد من قوله أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر أول الليل إلى الغار وأمر علياً أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله به فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مالك فقال بأبي أنت وأمي الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه السلام ( لا تحزن إن الله معنا ) فقال أبو بكر إن الله لمعنا فقال الرسول ( نعم ) فجعل يمسح الدموع عن خده ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده وقيل لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال رسول الله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار وبعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعم أبصارهم ) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه الأول أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدل أعداءه عليه وأيضاً لخافه من أن يقدم على(16/51)
قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره الثاني وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من المخلصين وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين الثالث أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما هو فما سبق رسول الله كغيره بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد وذلك يوجب الفضل العظيم الرابع أنه تعالى سماه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم والكل آمنوا على يديه ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أيام قلائل فكان هو رضي الله عنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه فكان ثاني اثنين في مجلسه ولما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك أيضاً وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 ) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى
والجواب أن هذا تعسف بارد لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد أما ههنا فالمراد بقوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره فأين أحد الجانبين من الآخر
والوجه الخامس من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين الله ثالثهما ولا شك أن هذا منصب علي ودرجة رفيعة
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا وحق خمسة سادسهم جبريل وأرادوا به أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون فقال رحمه الله لكم ما هو خير منه بقوله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل
والوجه السادس أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل قال الحسين بن فضيل البجلي من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً لأن الأمة مجمعة على أن المراد من إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هو أبو بكر وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له اعترضوا وقالوا إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن وهو قوله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 )(16/52)
والجواب أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة
والوجه السابع في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شك أن المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد لزمهم إدخال الرسول فيه وإن حملوها على محمل رفيع شريف لزمهم إدخال أبي بكر فيه ونقول بعبارة أخرى دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) والمراد منه الحصر والمعنى إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين
والوجه الثامن في تقرير هذا المطلوب أن قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار وذلك منصب في غاية الشرف
والوجه التاسع أن قوله لاَ تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت
والوجه العاشر قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ومن قال الضمير في قوله عَلَيْهِ عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه
الوجه الأول أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه
والوجه الثاني أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس
والوجه الثالث أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن ولما لم يكن كذلك بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة(16/53)
على قلب أبي بكر
فإن قيل وجب أن يكون قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وهذا لا يليق إلا بالرسول والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول
قلنا هذا ضعيف لأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال
الوجه الحادي عشر من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر ) وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأخبر به أبا بكر ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه ليعرفوا أن الرسول هو هو فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم ( اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم ) ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم
الوجه الثاني عشر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر والأنصار ما رأوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً إلا أبا بكر وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر فلو قدرنا أنه توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين فالأول قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر ( لا تحزن ) فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن والثاني قالوا يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر والثالث وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض(16/54)
النفس للفداء فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب
والجواب عن الأول أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة قال فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( طه 68 ) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه وذلك طعن في الأنبياء ويجب في قوله تعالى في إبراهيم حيث قالت الملائكة له لاَ تَخَفْ في قصة العجل المشوي مثل ذلك وفي قولهم للوط لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) مثل ذلك
فإذا قالوا إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله لاَ تَخَفْ ليفيد الأمن وفراغ القلب
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك
فإن قالوا أليس إنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فكيف خاف مع سماع هذه الآية فنقول هذه الآية إنما نزلت في المدينة وهذه الواقعة سابقة على نزولها وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ولكنه ما كان آمناً من الضرب والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ولما خاف وبكى قالوا هذا السؤال الركيك وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق وإنما مقصودهم محض الطعنا
والجواب عن الثاني أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار وقال لهم نحن ههنا ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك
والجواب عن الثالث من وجوه الأول أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي كان غائباً والحاضر أعلى حالاً من الغائب الثاني أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ولم يتعرضوا له أما أبو بكر فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة فكان بلاؤه أشد الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان وكان يذب عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ولهذا السبب فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش(16/55)
هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ولم يقصدوه بضرب ولا ألم فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من خوف علي كرم الله وجهه فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار
أما قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا فاعلم أن تقدير الآية أن يقال إِلاَّ تَنصُرُوهُ فلا بد له ذلك بدليل صورتين
الصورة الأولى أنه قد نصره في واقعة الهجرة إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ
والصورة الثانية واقعة بدر وهي المراد من قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأيد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم فقوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثم قال تعالى وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة وكلمة الله هي العليا وهي قوله لا إله إلا الله قال الواحدي والاختيار في قوله وَكَلِمَة ُ اللَّهِ الرفع وهي قراءة العامة على الاستئناف قال الفراء ويجوز كَلِمَة َ اللَّهِ بالنصب ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال وكلمة الله العليا ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك ولا تقول أعتق غلامه أبوك
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصفنا أتبعه بهذا الأمر الجزم فقال انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة والمفسرون ذكروها فالأول خِفَافًا في النفور لنشاطكم له وَثِقَالاً عنه لمشتقه عليكم الثاني خِفَافًا لقلة عيالكم وَثِقَالاً لكثرتها الثالث خِفَافًا من السلاح وَثِقَالاً منه الرابع ركباناً ومشاة الخامس شباناً وشيوخاً السادس مهازيل وسمانا السابع صحاحاً ومراضاً والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي يدخل فيه كل هذه الجزئيات
فإن قيل أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين(16/56)
قلنا ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعلي أن أنفر قال ( ما أنت إلا خفيف أو ثقيل ) فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال مجاهد إن أبا أيوب شهد بدراً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول قال الله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً وعن صفوان بن عمرو قال كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو قلت يا عم أنت معذور عند الله فرفع حاجبيه وقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إن من أحبه ابتلاه وعن الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر فقال استنفر الله الخفيف والثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور فقال أنزل الله علينا في سورة براءة انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال عطاء الخراساني منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 )
ولقائل أن يقول اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان لكنه من فروض الكفايات فمن أمره الرسول بأن يخرج لزمه ذلك خفافاً وثقالاً ومن أمره بأن يبقى هناك لزمه أن يبقى ويترك النفر وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى التزام النسخ
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه قولان
القول الأول أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد
والقول الثاني أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفراً بنفقة من عنده فيكون مجاهداً بماله لما تعذر عليه بنفسه وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء
ثم قال تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
فإن قيل كيف يصح أن يقال الجهاد خير من القعود عنه ولا خير في القعود عنه
قلنا الجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن لفظ خَيْرٌ يستعمل في معنيين أحدهما بمعنى هذا خير من ذاك والثاني بمعنى أنه في نفسه خير كقوله إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) وقوله وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ويقال الثريد خير من الله أي هو خير في نفسه وقد حصل من الله تعالى فقوله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ المراد هذا الثاني وعلى هذا الوجه يسقط السؤال
الوجه الثاني سلمنا أن المراد كونه خيراً من غيره إلا أن التقدير أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما ولذلك قال تعالى إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(16/57)
لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله وكان قد ذكر قوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين وبين أن أقواماً مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد تخلفوا في غزوة تبوك وبين أنه لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى العرض ما عرض لك من منافع الدنيا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر قال الزجاج فيه محذوف والتقدير لو كان المدعو إليه سفراً قاصداً فحذف اسم كَانَ لدلالة ما تقدم عليه وقوله وَسَفَرًا قَاصِدًا قال الزجاج أي سهلاً قريباً وإنما قيل لمثل هذا قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له مقتصد قال تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( فاطر 32 ) وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد فسمي قاصداً وتفسير القاصد ذو قصد كقولهم لابن وتامر ورابح قوله وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ قال الليث الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال شقة شاقة والمعنى بعدت عليهم الشاقة البعيدة والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها ونقل صاحب ( الكشاف ) عن عيسى بن عمر أنه قرأ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ بكسر العين والشين
المسألة الثانية هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فلهذا السبب تخلفوا ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( اليمين الغموس تدع الديار بلاقع )
ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج
المسألة الثالثة دلت الآية على أن قوله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً إنما يتناول من كان قادراً متمكناً إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف(16/58)
المسألة الرابعة استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل فقال لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً إلى القتال ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم ما كنا نستطيع ذلك ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضاً له وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به ما كان لهم زاد ولا راحلة وما أرادوا به نفس القدرة
وأجاب إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا استطاعة له أولى بالعذر وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال وإذا أريد به المال فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة
وأجاب أصحابنا بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل إلا بوقت واحد فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادراً في هذا الزمان أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه بل إنما يقدر على أن يفعل فعلاً في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا وعند هذا يجب علينا وعليهم أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال
المسألة الخامسة قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخباراً عن الغيب فكان معجزاً والله أعلم
عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى بين بقوله لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك أنه تخلف قوم من ذلك الغزو وليس فيه بيان أن ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا فلما قال بعده عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ دل هذا على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين الأول أنه تعالى قال عَفَا اللَّهُ عَنكَ والعفو يستدعي سابقة الذنب والثاني أنه تعالى قال لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ وهذا استفهام بمعنى الإنكار فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنباً قال قتادة وعمرو بن ميمون اثنان فعلهما الرسول لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون
والجواب عن الأول لا نسلم أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يوجب الذنب ولم لا يجوز أن يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم وقال علي بن الجهم فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه(16/59)
عفا الله عنك ألا حرمة
تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني أن نقول لا يجوز أن يقال المراد بقوله لَمْ عَرَّفَهَا لَهُمْ الإنكار لأنا نقول إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب فإن قلنا إنه ما صدر عنه ذنب امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنكار عليه وإن قلنا إنه كان قد صدر عنه ذنب فقوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يدل على حصول العفو عنه وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال إن قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ يدل على كون الرسول مذنباً وهذا جواب شاف قاطع وعند هذا يحمل قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا
المسألة الثانية من الناس من قال إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع واحتج عليه بأن قوله فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد والرسول كان سيداً لهم فكان داخلاً تحت هذا الأمر ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم والثاني باطل أيضاً لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( المائدة 47 ) وذلك باطل بصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه فإما أن يكون ذلك مبنياً على الاجتهاد أو ما كان كذلك والثاني باطل لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ ( مريم 59 ) فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة بناء على الاجتهاد وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يحكم بمقتضى الاجتهاد
فإن قيل فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
قلنا إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقاً لأنه قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية فهذا يدل على صحة قولنا
فإن قالوا فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي
قلنا ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم يصير تكليفه أن لا يحكم البتة وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص فلما ترك ذلك كان ذلك كبيرة وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعاً في الاجتهاد فدخل تحت قوله ( ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) فكان حمل الكلام عليه أولى
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ووجوب التثبت والتأني وترك(16/60)
الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد
المسألة الرابعة قال قتادة عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ثم رخص له في سورة النور فقال فَإِذَا اسْتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ( النور 62 )
المسألة الخامسة قال أبو مسلم الأصفهاني قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا ا فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له مع أنه ما كان خروجهم معه صواباً لأجل أنهم كانوا عيوناً للمنافقين على المسلمين فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل فلهذا السبب ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة قال القاضي هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ أي بعد غزوة تبوك وقال الباقون هذا لا يجوز لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان والله أعلم
المسألة الثانية قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ فيه محذوف والتقدير في أن يجاهدوا إلا أنه حسن الحذف لظهوره ثم ههنا قولان
القول الأول إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى فأي فائدة في الاستئذان وكانوا بحيث لو أمرهم(16/61)
الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى )
القول الثاني أنه لا بد ههنا من إضمار آخر قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان فثبت أنه لا بد من الإضمار والتقدير لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا إلا أنه حذف حرف النفي ونظير قوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله وههنا سؤالان
السؤال الأول أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال ومعلوم أن ذلك باطل فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه
والجواب أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً
السؤال الثاني أليس أن أصحابكم يقولون أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وذلك يقتضي حصول الشك
والجواب أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال في تفسير قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ( الأنفال 74 )
المسألة الثانية قالت الكرامية الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين
المسألة الثالثة قوله وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ يدل على أن محل الريب هو القلب فقط ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة والإيمان أيضاً هو القلب لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر ولهذا السبب قال تعالى أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له
المسألة الرابعة قوله فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي(16/62)
والإثبات غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً فإن كان غير يقين فهو العلم وإلا فهو اعتقاد المقلد وإن كان غير جازم فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين
ثم قال تعالى وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً قرىء عدته وقرىء أيضاً إِنَّ عِدَّة َ بكسر العين بغير إضافة وبإضافة قال ابن عباس يريد من الزاد والماء والراحلة لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف وقال آخرون هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة
ثم قال تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الانبعاث الانطلاق في الأمر يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به والمعنى أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فصرفهم عنه
فإن قيل إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة
فإن قلنا إنه كان مفسدة فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود وإن قلنا إنه كان مصلحة فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم
والجواب الصحيح أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا فلم عاتب الرسول في الإذن فنقول قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال ليس في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه وتأكد ذلك بسائر الآيات منها قوله تعالى فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) ومنها قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم
والوجه الثاني من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود فنقول ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ولهذا السبب قال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والثاني أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم(16/63)
يغتروا بقولهم فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح والثالث أنهم لما استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غضب عليهم وقال اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فقال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم الرابع أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد وذلك غير جائز لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك
المسألة الثانية قالت المعتزلة البصرية الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية بدليل قوله تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ قال أصحابنا معنى كَرِهَ اللَّهُ أراد عدم ذلك الشيء قال البصرية العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر والعدم نفي محض وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به لأن تحصيل الحاصل محال وجعل العدم عدماً محال فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم
أجاب أصحابنا بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء فهو تعالى أراد منهم السكون فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول
المسألة الثالثة احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى فَثَبَّطَهُمْ أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة إن كانت من العبد لزم التسلسل وإن كانت من الله فحينئذ لزم المقصود لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا القول ممن كان فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص(16/64)
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاّوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة الأول قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى الخبال والشر والفساد في كل شيء ومنه يسمى العته بالخبل والمعتوه بالمخبول وللمفسرين عبارات قال الكلبي إلا شراً وقال يمان إلا مكراً وقيل إلا غياً وقال الضحاك إلا غدراً وقيل الخبال الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم
المسألة الثانية قال بعض النحويين قوله إِلاَّ خَبَالاً من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كقولك ما زادوكم خيراً إلا خبالاً وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم والعام هو الشيء فكان الاستثناء متصلاً والتقدير ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملاً على هذا الخبال والشر والفتنة وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق ولا يرضى إلا بالخير ولا يريد إلا الطاعة
النوع الثاني من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي
القول الأول وهو قول أكثر أهل اللغة أن الأيضاع حمل البعير على العدو ولا يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً يقال وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه قال الفراء العرب تقول وضعت الناقة وأوضع الراكب وربما قالوا للراكب وضع
والقول الثاني وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد أنه وضع ناقته روى أبو عبيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد أرانا موضعين لحكم غيب
ونسخو بالطعام وبالشراب
أراد مسرعين ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق وقال عمر بن أبي ربيعة تبالهن بالعدوان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
قال الواحدي والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد(16/65)
واعلم أن على القولين فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب
المسألة الرابعة نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن الزبير أنه قرأ ولأوقصوا من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت وأوقصتها وقرىء ولأرفضوا
فإن قيل كيف كتب في المصحف وَلاَ بزيادة الألف
أجاب صاحب ( الكشاف ) بأن الفتحة كانت ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي في ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحتها ألفاً أخرى ونحوه أَوَلاَ
المسألة الخامسة قوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي فيما بينكم ومنه قوله وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً ( الكهف 33 ) وقوله فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ ( الإسراء 5 ) وأصله من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وجمعه خلال ومنه قوله فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( النور 43 ) وقرىء من خلله وهي مخارج مصب القطر وقال الأصمعي تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم ويقال جلسنا خلال بيوت الحي وخلال دورهم أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور
إذا عرفت هذا فنقول قوله خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي بالنميمة والإفساد وقوله يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ أي يبغون لكم وقال الأصمعي ابغني كذا أي اطلبه لي ومعنى ابغني وابغ لي سواء وإذا قال ابغني فمعناه أعني على ما بغيته ومعنى الْفِتْنِة ِ ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش
واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر وهو المراد بقوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ
فأما قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ففيه قولان الأول المراد فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم وهذا قول مجاهد وابن زيد والثاني قال قتادة فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم فإذا ألقوا إليهم أنواعاً من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي
فإن قيل كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد
قلنا لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب فيؤثر قولهم فيهم ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ولا يمتنع أيضاً أن يقال المنافقون على قسمين منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم(16/66)
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات والله أعلم
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
اعلم أن المذكور في هذه الآية نوع آخر من مكر المنافقين وخبث باطنه فقال لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ أي من قبل واقعة تبوك قال ابن جريج هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه وقيل طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك ومعنى الفتنة هو الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة وهو الذي طلبه المنافقون للمسلمين وسلمهم الله منه وقوله وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ تقليب الأمر تصريفه وترديده لأجل التدبر والتأمل فيه يعني اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك يقال في الرجل المتصرف في وجوه الحيل فلان حول قلب أي يتقلب في وجوه الحيل
ثم قال تعالى حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ والمعنى أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب والمراد منه القرآن ودعوة محمد وظهر أمر الله الذي كان كالمستور والمراد بأمر الله الأسباب التي أظهرها الله تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله كارهون وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد والله تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم فلما كان الأمر كذلك في الماضي فهذا يكون في المستقبل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج وذكروا فيه وجوها الأول لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية وإن يكونوا أيضاً ذكروه على سبيل الجد وإن كان ذلك المنافق منافقاً كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقاً وإن كان غير قاطع بذلك والثاني لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها والثالث لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي والرابع قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمال(16/67)
فاتركني وقرىء وَلاَ تَفْتِنّى من أفتنة أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله والتمرد عن قبول التكليف وأيضاً فهم يبقون خالفين عن المسلمين خائفين من أن يفضحهم الله وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي سُقِطَ لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى قال أهل المعاني وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون
ثم قال تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ قيل إنها تحيط بهم يوم القيامة وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال فكأنهم في وسطها وقال الحكماء الإسلامية إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالاً وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين وقصد الرسول بكل سوء وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبداً في الترقي والاستعلاء والتزايد وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية فكانوا في أشد الخوف بسبب الأحوال العاجلة والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم أنواع العقوبات الروحانية فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم والمعنى إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفراً أو كان غنيمة أو كان انقياداً لبعض ملوك الأطراف يسؤهم ذلك وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وهم فرحون مسرورون ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه وإلا فالواجب حمله على كل حسنة وعلى كل مصيبة إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا
ثم قال تعالى قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وفيه أقوال
القول الأول أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ولا خوف ولا رجاء ولا شدة ولا رخاء إلا وهو(16/68)
مقدرعلينا مكتوب عند الله وكونه مكتوباً عند الله يدل على كونه معلوماً عند الله مقضياً به عند الله فإن ما سواه ممكن والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء الله شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال وتقرير هذا الكلام من وجوه أحدها أن الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) وثانيها أن الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلاً والحكم الصدق كذباً وكل ذلك محال وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
فإن قيل إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك
قلنا السبب فيه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به
القول الثاني في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم فيكون ذلك اغتياظاً للمنافقين ورداً عليهم في ذلك الفرح
والقول الثالث قال الزجاج المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم والثواب الكثير وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا وإذا كان الأمر كذلك صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة وهذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن الحق الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى هُوَ مَوْلَانَا والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعاً من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده فحسن منه تعالى تلك التصرفات بمجرد كونه مولى لهم ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله
ثم قال تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأساب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية(16/69)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوباً مقتولاً فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالباً فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وهي الرجولية والشوكة والقوة وفي الآخرة بالثواب العظيم وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموماً منسوباً إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء ثم يكونون أبداً خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة ثم قال تعالى للمنافقين فَتَرَبَّصُواْ بنا إحدى الحالتين الشريفتين إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين قال الواحدي يقال فلان يتربص بفلان الدوائر وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به وهذا قد سبق الكلام فيه وقال أهل المعاني التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ولذلك قيل فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره والحسنى تأنيث الأحسن واختلفوا في تفسير قوله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا قيل من عند الله أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم وقيل بعذاب من عند الله يتناول عذاب الدنيا والآخرة أو بأيدينا القتل
فإن قيل إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان فكيف يقول تعالى ذلك
قلنا قال الحسن المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حرباً للمؤمنين وقوله فَتَرَبَّصُواْ وإن كان بصيغة الأمر إلا أن المراد منه التهديد كما في قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ والله أعلم
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ(16/70)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف ههنا وفي النساء والأحقاف وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك فقيل هما لغتان وقيل بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه
المسألة الثانية قال ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به
واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام فقوله أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وإن كان لفظه لفظ أمر إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء والمعنى سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر أما إقامة الأمر مقام الخبر فكما ههنا وكما في قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( التوبة 80 ) وفي قوله قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) وأما إقامة الخبر مقام الأمر فكقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يريد طائعين أو كارهين وفيه وجهان الأول طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه والثاني أن يكون التقدير طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم
ثم قال تعالى لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ يحتمل أن يكون المراد أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتقبل تلك الأموال منهم ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين قال الجبائي دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة وعلل ذلك بكونهم فاسقين ومعنى التقبل هو الثواب والمدح وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين والجمع بينهما محال فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه وهو قوله وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه(16/71)
لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات لأنه تعالى لما قال إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ فكأنه سأل سائل وقال هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقاً أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقاً بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً فثبت أن هذا الاستدلال باطل
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة وهي الكفر بالله ورسوله وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل والإنفاق على سبيل الكراهية
ولقائل أن يقول الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين
وجوابه أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة حيث قالوا إن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم أما عندنا فإن شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً البتة وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال بل نقول إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم فلو كان كل واحد منها موجباً تاماً لهذا الحكم لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة وذلك محال لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها وذلك محال فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال فكان القول به باطلاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر بالله
فإن قيل فكيف الجمع بينه وبين قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ
قلنا وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر ولولا ذلك لما ذمهم الله تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل(16/72)
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جارياً مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعتهم فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم
المسألة الرابعة مضى تفسير الكسالى في سورة النساء قال صاحب ( الكشاف ) كُسَالَى بالضم والفتح جمع الكسلان نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران قال المفسرون هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل قال المصنف إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس وهذا القدر لا يدل على الكفر أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب وذلك يوجب الكفر
أما قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فالمعنى أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق وهذا معنى قوله عليه السلام ( أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم ) فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق قال المصنف رضي الله عنه حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة فإن لم يؤت بها لهذا الغرض فلا فائدة فيه بل ربما صارت وبالاً على صاحبها
المسألة الخامسة وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ قرأ حمزة والكسائي ءانٍ يَقْبَلُ بالياء والباقون بالتاء على التأنيث وجه الأولين أن النفقات في معنى الإنفاق كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث قال صاحب ( الكشاف ) قرىء نَفَقَاتُهُمْ و نَفَقَاتُهُمْ على الجمع والتوحيد وقرأ السلمي ءانٍ يَقْبَلُ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ على إسناد الفعل إلى الله عز وجل
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم وعند هذا يظهر(16/73)
أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا ومن الله التوفيق وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الخطاب وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد منه كل المؤمنين أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) الآية
المسألة الثانية الإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء ولذلك قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ) وكان عليه السلام يقول ( هلك المكثرون ) وقال عليه السلام ( مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) وذكر عبيد بن عمير ورفعه إلى الرسول عليه السلام ( من كثر ماله اشتد حسابه ومن كثر بيعه كثرت شياطينه ومن ازداد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً ) والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها قال بعض المحققين الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام الأول الذي يكون أزلياً أبدياً وهو الله جل جلاله والثاني الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا والثالث الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه والرابع الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين فإن الآخرة لها أول لكن لا آخر لها وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول ولا آخر لها
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا
أما قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون في الآية محذوف كأنه قيل إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ويجوز أيضاً أن يكون هذا اللام بمعنى ( أن ) كقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) أي أن يبين لكم
المسألة الثانية قال مجاهد والسدي وقتادة في الآية تقديم وتأخير والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وقال القاضي وههنا سؤالان الأول وهو أن يقال المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال لأنه يقال بعد هذا التقديم والتأخير(16/74)
فكيف يكون المال والولد عذاباً فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سبباً للعذاب وأيضاً فلو أنه قال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا وليس كذلك حال العذاب فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء
المسألة الثالثة الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الدنيا ويحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الآخرة أما كونها سبباً للعذاب في الدنيا فمن وجوه الأول أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب وكان خوفه على فواته أشد وأصعب فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها والثاني أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه فالمشغوف بالمال والولد أبداً يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال فالتعب كثير والنفع قليل والثالث أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره أولا تبقى بل تهلك وتبطل فإن كان الأول فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لأن مفارقة المحبوب شديدة وترك المحبوب أشد وأشق وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها واشتد تألم قلبه بسببها فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا الرابع أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها فيصير ذلك سبباً لحرمانه عن ذكر الله ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر وكلما كان المال والجاه أكثر كانت تلك القسوة أقوى وإليه الإشارة بقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة فيعظم تألمه وتقوى حسرته ثم عند الحشر حلالها حساب وحرامها عقاب فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة
فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب
قلنا المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب أحدها أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا وأما المنافق لمااعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها واشتد حبه لها وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه(16/75)
وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد وثانيها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل والقوم كانوا يعتقدون أن محمداً ليس بصادق في كونه رسولاً من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ولا شك أن هذا أشق على القلب جداً فهذه الزيادة من التعذيب كانت حاصلة للمنافقين وثالثها أنهم كانوا يبغضون محمداً عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة ورابعها أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهوراً تاماً فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل وسبي الأولاد ونهب الأموال وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب وخامسها أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدراً وكان من الله بمكان وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ويعترضون عليهم والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه فصار حصول تلك الأولاد سبباً لعذابهم وسادسها أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سبباً لحصول هذه الأحوال فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سبباً لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ قالوا لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر
أجاب الجبائي فقال معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريداً للكفر ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي فهذه الإرادة لا توجب كونه مريداً لمرض نفسه وقد يقول للطبيب أريد أن تطيب جراحتي وهذا لا يقتضي أن يكون مريداً لحصول تلك الجراحة وقد يقول السلطان لعسكره اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب وهذا لا يدل على كونه مريداً لذلك الحرب فكذا ههنا
والجواب أن الذي قاله تمويه عجيب وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء فإذا قال المريض للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي كان معناه أريد أن تسعى في إزالة مرضي وإذا قال له أريد أن تطيب جراحتي كان معناه أريد أن تزيل عني هذه الجراحة وإذا قال السلطان اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب كان معناه طلب إزالة تلك(16/76)
المحاربة وإبطالها وإعدامها فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف هذه الآية وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره وليس أيضاً مستلزماً لتلك الإزالة بل هما أمران متناسبان ولا منافاة بينهما البتة فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريداً لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق كما أنه لو قال أريد ألقى ( أن ) فلاناً حال كونه في الدار فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار وتمام التحقيق في هذا التقدير أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر وثبت أن من أراد شيئاً فقد أراد جميع ما هو من ضروراته لزم كونه تعالى مريداً لذلك الكفر فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ أي على دينكم
ثم قال تعالى وَمَا هُم مّنكُمْ أي ليسوا على دينكم وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق وهو كقوله تعالى وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والفرق الخوف ومنه يقال رجل فروق وهو الشديد الخوف ومنها أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب فقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ الملجأ المكان الذي يتحصن فيه ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ومثله التجأ والجأته إلى كذا أي جعلته مضطراً إليه وقوله أَوْ مَغَارَاتٍ هي جمع مغارة وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر قال أبو عبيد كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين وقوله مُّدْخَلاً قال الزجاج أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً لأن التاء مهموسة والدال مهجورة وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول كالمتلج من الولوج ومعناه المسلك الذي يستتر بالدخول فيه قال الكلبي وابن زيد نفقا كنفق اليربوع والمعنى أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ أي رجعوا إليه يقال ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء ومن هذا يقال جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن(16/77)
المسلمين صاروا بهذه الحالة
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي الملجأ والمغارات والمدخل والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه فالملجأ يحتمل الحصون والمغارات الكهوف في الجبال والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مُّدْخَلاً من دخل و مُّدْخَلاً من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم وقرأ أبي بن كعب متدخلاً وقرأ لَوْ ءاوَى إِلَيْهِ أي لالتجاؤا وقرأ أنس يجمزون فسئل عنه فقال يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد
وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج فقال اعدل يا رسول الله فقال ( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ) فنزلت هذه الآية قال الكلبي قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً ) فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام ( احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ) وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في ( تفسيره ) أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل من أصحابه ( ما علمك بفلان ) فقال مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره ) فقال لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه مؤمن أكله إلى إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده )
المسألة الثانية قوله مَّن يَلْمِزُكَ قال الليث اللمز كالهمز في الوجه يقال رجل لمزة يعيبك في وجهك ورجل همزة يعيبك بالغيب وقال الزجاج يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر وألمزه بضم الميم إذا عيبته وكذلك همزته أهمزه همزاً إذا عيبته والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويعيبهم وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز قال الأزهري وأصل الهمز واللمز الدفع يقال همزته ولمزته إذا دفعته وفرق أبو بكر الأصم بينهما فقال اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه(16/78)
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس يلمزك يغتابك وقال قتادة يطعن عليك وقال الكلبي يعيبك في أمر ما ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ قال أبو علي الفارسي ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تفريق الصدقات قال مولانا العلامة الداعي إلى الله لفظ القرآن وهو قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها فأحدها أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز أقصى ما في الباب أن يقال يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود وهو أنهم قالوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء وثانيها أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك وثالثها أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه قال أهل المعاني هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا قال الضحاك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم فسخط المنافقون وقوله إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ كلمة إِذَا للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط
ثم قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ الآية والمعنى ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل وقالوا كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى فيعطينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر مما أعطانا اليوم إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون
واعلم أن جواب ( لو ) محذوف والتقدير لكان خيراً لهم وأعود عليهم وذلك لأنه غلب عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم فيتوكلوا على الله حق توكله وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل لو جئتنا ثم لا تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً
المسألة الثانية الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله ألا ترى أنه قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فذكر فيه مراتب أربعة
المرتبة الأولى الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولااعتراض عليه
والمرتبة الثانية أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم وهو قوله وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية فحسبنا الله(16/79)
والمرتبة الثالثة وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول حَسْبُنَا اللَّهُ نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل
والمرتبة الرابعة أن يقول إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ولم يقل إنا إلى ثواب الله راغبون ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال ما الذي يحملكم عليه قالوا الخوف من عقاب الله فقال أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله فقال ما الذي يحملكم عليه فقالوا الرغبة في الثواب فقال أصبتم ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال أنتم المحقون المحققون
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصدقات بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء ولا تعلق لي بها ولا آخذ لنفسي نصيباً منها فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات وههنا مقامات
المقام الأول بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس
والمقام الثاني بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية
أما المقام الأول فنقول الحكمة في إيجاب الزكاة أمور بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة
أما القسم الأول فهو أمور الأول أن المال محبوب بالطبع والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوباً لذاته والكمال محبوب لذاته والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال وصفة الكمال محبوبة لذاتها كانت القدرة محبوبة لذاتها والمال سبب لحصول تلك القدرة ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب فكان المال محبوباً فهذا هو السبب في كونه محبوباً إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت(16/80)
حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ليصير ذلك الإخراج كسراً من شدة الميل إلى المال ومنعاً من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيهاً لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا
والوجه الثاني وهو أن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة وتزايد المال يوجب تزايد القدرة وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سبباً لحصول هذه اللذات المتزايدة وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ولما صارت المسألة مسألة الدور لم يظهر لها مقطع ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه
والوجه الثالث أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة والقدرة محبوبة لذاتها والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه فالإنسان يصير غرقاً في طلب المال فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع وهذا هو المراد بالطغيان وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن
والوجه الرابع أن النفس الناطقة لها قوتان نظرية وعملية فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام ( تخلقوا بأخلاق الله )
والوجه الخامس أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات إليهم وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة على ما قاله عليه الصلاة والسلام ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر أمدوه بالدعاء والهمة وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْرْضِ ( الرعد 17 ) وبقوله عليه الصلاة والسلام حصنوا أموالكم بالزكاة )
والوجه السادس أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة الخلق فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده(16/81)
أموالاً كثيرة فقد رزقه نصيباً وافراً من باب الاستغناء بالشيء فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء إلى المقام الذي هو أعلى منه وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء
والوجه السابع أن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه فهو غاد ورائح وهو سريع الزوال مشرف على التفرق فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة وسمعت واحداً يقول الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة
والوجه الثامن وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين فكان البذل أولى
والوجه التاسع أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله وذلك منتهى كمالات الإنسانية
والوجه العاشر أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء الروح والبدن والمال فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقاً في هذا التكليف ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقاً بالذكر والقراءة والبدن مستغرقاً في تلك الأعمال بقي المال فلو لم يصر المال مصروفاً إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه وذلك جهل لأن مراتب السعادات ثلاثة أولها السعادات الروحانية وثانيها السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى وثالثها السعادات الخارجية وهي المال والجاه فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية فإذا صار الروح مبذولاً في مقام العبودية ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي وذلك جهل فثبت أنه يجب على العاقل أيضاً بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى
والوجه الحادي عشر أن العلماء قالوا شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم والزكاة شكر النعمة فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب
والوجه الثاني عشر أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين وزوال الحقد والحسد عنهم وكل ذلك من المهمات فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة الأول أن الله تعالى خلق الأموال وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة وهو ممتاز عنهم بكونه ساعياً في تحصيل ذلك المال فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال أما في حق المالك فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله وأيضاً شدة تعلق قلبه به فإن ذلك التعلق أيضاً نوع من أنواع الحاجة وأما في حق الفقير فاحتياجه إلى ذلك المال(16/82)
يوجب تعلقه به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به وحصل للفقير حق الاحتياج فرجحنا جانب المالك وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيراً منه توفيقاً بين الدلائل بقدر الإمكان الثاني أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى وهو غير جائز فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية الثالث أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ولا يملك ملء بطنه طعاماً وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفواً صفواً
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي
الوجه الرابع أن يقال المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير
الوجه الخامس أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلاً تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان أما الفقير ليس له شيء أصلاً فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلاً وليس له ما يجبره فكان ذلك أولى
الوجه السادس أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها
الوجه السابع قال عليه الصلاة والسلام ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) والمال محبوب بالطبع فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر وكأنه قيل أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني فصرت من الشاكرين فكان إيجاب الزكاة سبباً في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معاً
الوجه الثامن كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ولكني جعلت نفسي مديوناً من قبلك وإن كنت قد أعطيت الغني أموالاً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار(16/83)
فإن قال الغني قد أنعمت عليك بهذا الدينار فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية وبعضها إقناعية والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله والله أعلم
المقام الثاني في تفسير هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء الآية تدل على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه وأيضاً فلفظة إِنَّمَا تفيد الحصر ويدل عليه وجوه الأول أن كلمة إِنَّمَا مركبة من ( إن ) و ( ما ) وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم فوجب أن يفيد الثبوت المذكور وعدم ما يغايره الثاني أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الربا في النسيئة ) ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك وقال تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث الشعر قال الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقال الفرزدق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فثبت بهذه الوجوه أن كلمة إِنَّمَا للحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل ( إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن ) وقال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة والمصلحة اللازمة وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة فكان عليه الصلاة والسلام يقول ( ما أوتيكم شيئاً ولا أمنعكم إنما أنا خازن أضع حيث أمرت )
المسألة الثالثة مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي وقال الشافعي رحمه الله لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال ولا بد في كل صنف من ثلاثة لأن أقل الجمع ثلاثة فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء قال ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة(16/84)
دراهم جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان ولا يجوز التفاضل ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة ولا يلزمك التسوية بينهم فلك أن تعطي فقيراً درهماً وفقيراً خمسة أسداس درهم وفقيراً سدس درهم هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه الله قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه الله لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية والدليل عليه العقل والنقل
أما النقل فقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 41 ) الآية فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعاً على كل هؤلاء فلا فكذا ههنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية فإما أن يقال إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية فاللفظ لا يدل عليه البتة
وأما العقل فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره والذي يدل على صحة قولنا وجوه الأول أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً لما وجب عليه إخراج نصف دينار فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسماً لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر الثاني أن هذا التوقيف لو كان معتبراً لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر ولو كان كذلك لما خالفوا فيه وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر الثالث وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة ولا يمر به أحد من الغرباء واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديوناً فكيف تكليفه فإن قلنا وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه فذاك قول لم يقل به أحدا وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الرابعة في تعريف الأصناف الثمانية فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلفوا فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه وقال آخرون الذي أشد حاجة هو المسكين وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ومن الناس من قال لا فرق بين الفقراء والمساكين والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله واختيار أبي علي الجبائي وفائدته تظهر في هذه المسألة وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين فالذين قالوا الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث والذين قالوا الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف وقال الجبائي إنه(16/85)
تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية وأيضاً الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا وهو أن رجلاً لو قال أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة وحجة الشافعي رحمه الله وجوه
الوجه الأول أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي ومن فضل علياً على عثمان يقول علي وعثمان وأنشد عمر قول الشاعر كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال هلا قدم الإسلام على الشيب فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين الوجه الثاني قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالاً من المسكين لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح فثبت أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 24 25 ) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي
الوجه الثالث ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من الفقر وقال ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) ثم قال ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ) فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان لأنه تعوذ من الفقر ثم سأل حالاً أسوأ منه أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة
الوجه الرابع أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً للمال بدليل قوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ( الكهف 79 ) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيراً مع أنه يملك شيئاً
فإن قالوا الدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) فوصف الكل بالفقر مع أنهم يملكون أشياء(16/86)
قلنا هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى فإن أحداً سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئاً بالنسبة إلى الله فصح قولنا
الوجه الخامس قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 14 16 ) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه ذَا مَتْرَبَة ٍ وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئاً فهذا يدل على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء
الوجه السادس قال ابن عباس رضي الله عنهما الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئاً قال وهم أهل الصفة صفة مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس
وجه الاستدلال أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحداً شيئاً أشد من أحوال من يحتاج ثم يسأل الناس ويطوف عليهم ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالاً من المسكين
الوجه السابع أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئاً فقد سكن قلبه وزال عنه الخوف والقلق ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير ويقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي ( تأن وتمسكن ) يريد تواضع وتخشع فدل هذا على أن المسكين هو السائل
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال في آية أخرى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 ) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل وجب أن يكون المحروم هو الفقير ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان فثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين
الوجه الثامن أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحيني مسكيناً ) الحديث والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكيناً وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) فثبت بهذا أن الفقر أشد حالاً من المسكنة
الوجه التاسع أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا الترفع والتمسكن ضدان فمن كان منقاداً لكل أحد خائفاً منهم متحملاً لشرهم ساكتاً عن جوابهم متضرعاً إليهم قالوا إن فلاناً يظهر الذل والمسكنة وقالوا إنه مسكين عاجز وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكيناً إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعاً عن التواضع والمسكنة فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع والأول ينافي حصول المال والثاني لا ينافي حصوله(16/87)
الوجه العاشر قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة ( خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ) ولو كانت الحاجة في المساكين أشد لوجب أن يقول وردها على مساكينهم لأن ذكر الأهم أولى فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالاً من الفقير بوجوه الأول احتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وصف المسكين بكونه ذا متربة وذلك يدل على نهاية الضر والشدة وأيضاً أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع الثاني احتجوا بقول الراعي أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سيد
سماه فقيراً وله حلوبة الثالث قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس الرابع نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وقال يونس الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له وقلت لأعرابي أفقير أنت قال لا والله بل مسكين
والجواب عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه قلنا نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين
والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيراً فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئاً فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيراً
والجواب عن قولهم المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت
قلنا بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال وسمي مسكيناً إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما الله وأيضاً نقل القفال في ( تفسيره ) عن جابر بن عبد الله أنه قال الفقراء فقراء المهاجرين والمساكين الذين لم يهاجروا وعن الحسن الفقير الجالس في بيته والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون والمساكين الذين يسألون قال مولانا الداعي إلى الله هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل والمسكين يسأل ومن سأل وجد فكان المسكين أسهل وأقل حاجة
الصنف الثالث قوله تعالى وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي رحمه الله وقول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد والضحاك يعطون الثمن من الصدقات وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول هذا أجرة(16/88)
العمل فيتقدر بقدر العمل والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات ليناله منها لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال أما علمت أن مولى القوم منهم وإنما قال وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لأن كلمة على تفيد الولاية كما يقال فلان على بلد كذا إذا كان والياً عليه
الصنف الرابع قوله تعالى وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وحويطب بن عبد العزى وسهل بن عمرو من بني عامر والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو الجهني وأبو السنابل وحكيم بن حزام ومالك بن عوف وصفوان بن أمية وعبد الرحمن بن يربوع والجد بن قيس وعمرو بن مرداس والعلاء بن الحرث أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل فقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أحداً من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ثم سأله فزاده عشرة وهكذا حتى بلغ مائة ثم قال حكيم يا رسول الله أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها فقال عليه الصلاة والسلام ( بل التي رغبت عنها ) فقال والله لا آخذ غيرها فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً وشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك العطايا لكن ألفهم بذلك قال المصنف رحمه الله هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة فأما أن يجعل ذلك تفسيراً لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس ونقل القفال أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة وقال المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك قال الواحدي إن الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات وأقول إن قول الواحدي إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسماً من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة وأيضاً فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وهذا عام في المسلم وغيره والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه ( لا ) دليل على نسخه البتة
الصنف الخامس قوله وَفِي الرّقَابِ قال الزجاج وفيه محذوف والتقدير وفي فك الرقاب وقد مضى الاستقصاء في ( تفسيره ) في سورة البقرة في قوله وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ ( البقرة 177 ) ثم في تفسير الرقاب أقوال
القول الأول إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رحمه الله والليث بن سعد واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله وَفِي الرّقَابِ يريد المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى ( النور 33 )(16/89)
والقول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون
والقول الثالث قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويما بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرّقَابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه
والقول الرابع قول الزهري قال سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة قال أصحابنا والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك وهو قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال وَفِي الرّقَابِ فلا بد لهذا الفرق من فائدة وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما فِى الرّقَابِ فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك والحاصل أن في الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة
الصنف السادس قوله تعالى وَالْغَارِمِينَ قال الزجاج أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام العذاب اللازم وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً ومنه فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له فالمراد بالغارمين المديونون ونقول الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة والمعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين والكل داخل في الآية وروى الأصم في ( تفسيره ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قضى بالغرة في الجنين قال العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله قال لحمد بن مالك بن النابغة ( أعنهم بغرة من صدقاتهم ) وكان حمد على الصدقة يومئذ
الصنف السابع قوله تعالى وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون يعني الغزاة قال الشافعي رحمه الله يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وإسحق وأبي عبيد وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً
واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يوجب القصر على كل الغزاة فلهذا المعنى نقل القفال في ( تفسيره ) عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل
والصنف الثامن ابن السبيل قال الشافعي رحمه الله ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة قال الأصحاب ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة(16/90)
جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية
المسألة الخامسة في أحكام هذه الأقسام
الحكم الأول
اتفقوا على أن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ دخل فيه الزكاة الواجبة لأن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ( التوبة 103 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ليس فيما دون خمسة ذود وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل فيها لأن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضاً الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة الثاني أن ظاهر هذه الآية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إلا لهؤلاء الثمانية وهذا الحصر إنما يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات والمدارس وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه الثالث أن قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات وأقسامها حتى ينصرف هذا الكلام إليه والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة فوجب انصراف هذا الكلام إليها
الحكم الثاني
دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخدها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قبله والدليل عليه أن الله تعالى جعل للعاملين سهماً فيها وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات وتأكد هذا النص بقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فإذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه ابتداء
الحكم الثالث
نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق واختلفوا في أن الإمام هل له فيه حق فمنهم من أثبته قال لأن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته فالعامل في الحقيقة هو الإمام ومنهم من منعه وقال الآية دلت على حصر مال الزكاة في هؤلاء الثمانية والإمام خارج عنهم فلا يصرف هذا المال إليه
الحكم الرابع
اختلفوا في هذا العامل إذا كان غنياً هل يأخذ النصيب قال الحسن لا يأخذ إلا مع الحاجة وقال(16/91)
الباقون يأخذ وإن كان غنياً لأنه يأخذه أجرة على العمل ثم اختلفوا فقال بعضهم للعامل في مال الزكاة الثمن لأن الله تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن كما أن من أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه وقال الأكثرون بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية والجمع
الحكم الخامس
اتفقوا على أن مال الزكاة لا يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط وقد سبق ذكر دلائل هاتين المسألتين إلا أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط فهذا إنما يجوز في غير العامل وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز بالاتفاق
الحكم السادس
أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان ففيه الأصناف الستة والأولى صرف الزكاة إلى هذه الأصناف الستة على ما يقوله الشافعي لأنه الغاية في الاحتياط أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما بيناه
الحكم السابع
عموم قوله لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ يتناول الكافر والمسلم إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأصناف الثمانية وشرح أحوالهم قال فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال الزجاج فَرِيضَة ً منصوب على التوكيد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لهؤلاء جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه ) والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي أعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح والله أعلم
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه أُذُنُ خَيْرٍ مرفوعين(16/92)
منونين على تقدير إن كان كما تقولون إنه أذن فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم والباقون أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر وقرأ نافع أَذِنَ ساكنته الذال في كل القرآن والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنه أن جماعة من المنافقين ذكروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول فقال الجلاس بن سويد بل نقول ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا فيقبل قولنا وإنما محمد أذن سامعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له وروى الأصم أن رجلاً منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته فقال والله إنه لحق وإنك أشر من حمارك ثم بلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فقال بعضهم إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك فنزلت هذه الآية على وفق قوله فقال القائل يا رسول الله لم أسلم قط قبل اليوم وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي والله لأشكرنه ثم قال الأصم أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ
ثم قال وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ ثم قال وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب وفي كل ذلك دلائل على كونه نبياً حقاً من عند الله
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأنه أذن كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال جعل فلان علينا عيناً أي جاسوساً متفحصاً عن الأمور فكذا ههنا
ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ والتقدير هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله أُذُنُ خَيْرٍ مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل ثم بين كونه أُذُنُ خَيْرٍ بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام أُذُنُ خَيْرٍ فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية
أما الأول وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فلأن كل من آمن بالله خائفاً من الله والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل
وأما الثاني وهو قوله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد سلم لهم ذلك القول وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار
فإن قيل لم عدى الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام
قلنا لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام كما في قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) وقوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ ( يونس 83 ) وقوله أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ(16/93)
( الشعراء 111 ) وقوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( الشعراء 49 )
وأما الثالث وهو قوله وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ فهذا أيضاً يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم ولا يسعى في هتك أستاركم فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه أُذُنُ خَيْرٍ ولما بين كونه سبباً للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى
المسألة الرابعة أما قراءة من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه
الوجه الأول التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات فكيف يجوز الطعن فيه وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار
الوجه الثاني أن يضمر مبتدأ والتقدير هو أذن خير لكم أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه
الوجه الثالث وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم فقال أَذِنَ وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناً فهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم ونظيره وهو حافظاً خير لكم أي هو حال كونه حافظاً لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره وهو حافظ خير لكم وإضمار ( هو ) في القرآن كثير قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ أي هم ثلاثة وهذا الوجه شديد التكلف وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً
المسألة الخامسة قرأ حمزة وَرَحْمَة ً بالجر عطفاً على خَيْرٌ كأنه قيل أذن خير ورحمة أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة
فإن قيل وكل رحمة خير فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير
قلنا لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير كما في قوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) قال أبو عبيد هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه قال أبو علي الفارسي البعد لا يمنع من صحة العطف ألا ترى أن من قرأ وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ ( الزخرف 88 ) إنما يحمله على قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) تقديره وعنده علم الساعة وعلم قيله
فإن قيل ما وجه قراءة ابن عامر وَرَحْمَة ً بالنصب
قلنا هي علة معللها محذوف والتقدير ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف لأن قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يدل عليه(16/94)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة قيل هذا بناء على ما تقدم يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم وقيل نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا ففيهم نزلت الآية والمعنى أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكى عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه ونظيره قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا ( البقرة 4 البقرة 76 )
وأما قوله يُرْضُوهُ بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه الأول أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيماً له والثاني أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله فاقتصر على ذكره ويروى أن واحداً من الكفار رفع صوته وقال إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال ( وضع الحق في أهله ) الثالث يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
والرابع أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر الخامس لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقاً لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني السادس التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ فيه قولان الأول إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا والثاني أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسداً وعناداً فلهذا المعنى قال تعالى إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ وفي الآية دلالة على رضا الله لا يحصل بإظهار الإيمان ما لم يقترن به التصديق بالقلب ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْى ُ الْعَظِيمُ
اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضاً شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل المعاني قوله أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة(16/95)
وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معهم وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية الله والترغيب في طاعته فالضمير في قوله أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ ضمير الأمر والشأن والمعنى أن الأمر والشأن كذا وكذا والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة ءانٍ ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام وقوله مَن يُحَادِدِ اللَّهَ قال الليث حاددته أي خالفته والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة واشتقاقه من الحد ومعنى حاد فلان فلاناً أي صار في حد غيره حده كقوله شاقه أي صار في شق غير شقه ومعنى يُحَادِدِ اللَّهَ أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة وقال أبو مسلم المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح ثم للمفسرين ههنا عبارات يحالف الله وقيل يحارب الله وقيل يعاند الله وقيل يعاد الله
ثم قال فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وفيه وجوه الأول التقدير فحق أن له نار جهنم الثاني معناه فله نار جهنم وإن تكرر للتوكيد الثالث أن نقول جواب مِنْ محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم قال الزجاج ويجوز كسر ءانٍ على الاستئناف من بعد الفاء والقراءة بالفتح ونقل الكعبي في ( تفسيره ) أن القراءة بالكسر موجودة قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار وأهل اللغة يكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ومعنى بعد قعرها أنه لا آخر لعذابها والخالد الدائم والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء والندم هنا أولى لقوله تعالى وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
واعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة الحافرة حفرت عما في قلوب المنافقين قال الحسن اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام بأسمائهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إن أناساً اجتمعوا على كيت وكيت فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى أشفع لهم ) فلم يقوموا فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ( قم يا فلان ويا فلان ) حتى أتى عليهم ثم قالوا نعترف ونستغفر فقال ( الآن أنا كنت في أول الأمر أطيب نفساً بالشفاعة والله كان أسرع في الأجابة اخرجوا عني اخرجوا عني ) فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية وقال الأصم إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به فأخبره جبريل وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال ( من عرفت من القوم ) فقال لم أعرف منهم أحداً فذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسماءهم وعدهم له وقال ( إن جبريل أخبرني بذلك ) فقال حذيفة ألا تبعث إليهم ليقتلوا فقال ( أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك )(16/96)
فإن قيل المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره وفي قوله استهزئوا دلالة على ما قلناه الثاني أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم الثالث قال الأصم أنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً قال القاضي يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما قال الداعي إلى الله هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات الرابع معنى الحذر الأمر بالحذر أي ليحذر المنافقون ذلك الخامس أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها والشاك خائف فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم ثم قال صاحب ( الكشاف ) المضير في قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ و تُنَبّئُهُمْ للمؤمنين وفي قوله فِى قُلُوبِهِمْ للمنافقين ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ومعنى تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم
ثم قال قُلْ وهو أمر تهديد كقوله الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ ( التوبة 105 ) إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( التوبة 64 ) أي ذلك الذي تحذرونه فإن الله يخرجه إلى الوجود فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَة ٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَة ً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية أموراً الأول روى ابن عمر أن رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوباً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين فقال واحد من الصحابة كذبت ولأنت منافق ثم ذهب ليخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه الثاني قال الحسن وقتادة لما سار الرسول إلى تبوك(16/97)
قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات هيهات فعند رجوعه دعاهم وقال أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب الثالث روى أن المتخلفين عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم فقالوا هذا القول الرابع حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك قالوا لم نقل ذلك على سبيل الطعن بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب الخامس اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب وهذا يدل على أن كلمة ( إنما ) تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر
والجواب قال الواحدي أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى والمعنى أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق فأجابهم الرسول بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى فرق بين قولك أتستهزىء بالله وبين قولك أبالله تستهزىء فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) والمقصود ليس نفي الغول بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال فلا بد له من تأويل وفيه وجوه الأول المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله فإن أسماء الله قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها قال تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله وقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ( الأعراف 180 ) فلا يمتنع أن يقال أَبِاللَّهِ ويراد أبذكر الله الثالث لعل المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشأم وقصورها قال بعض المسلمين الله يعينه على ذلك وينصره عليهم ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاماً مشعراً بالقدح في قدرة الله كما هو عادات الجهال والملحدة فكان المراد ذلك
وأما قوله وَءايَاتِهِ فالمراد بها القرآن وسائر ما يدل على الدين وقوله وَرَسُولُهُ معلوم وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء
ثم قال تعالى لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين
القول الأول أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم اعتذرت المنازل إذا درست يقال مررت بمنزل(16/98)
معتذر والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه
والقول الثاني حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سبباً لقطع اللوم سمي عذراً قال الواحدي والقولان متقاربان لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان
المسألة الثانية أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفراً والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز فثبت أن قولهم إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ما كان عذراً حقيقياً في الإقدام على ذلك الاستهزاء فلما لم يكن ذلك عذراً في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب فقال لاَ تَعْتَذِرُواْ أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم
المسألة الثالثة قوله قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أحكام
الحكم الأول
أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفراً بالله وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال
الحكم الثاني
أنه يدل على بطلان قول من يقول الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب
الحكم الثالث
يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة وإن كانوا منافقين من قبل وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحالاً
الحكم الرابع
يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين
ولقائل أن يقول القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك
قلنا قال الحسن المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه وقال آخرون ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين والقولان متقاربان
ثم قال تعالى إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَة ٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم إِن نَّعْفُ بالنون وكسر الذال وطائفة بالنصب والمعنى أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول إن يعف عن طائفة يعذب طائفة والباقون بالياء وضمها وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث وحكى صاحب ( الكشاف ) عن مجاهد إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ثم قال والوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول سير بالدابة ولا تقول سيرت بالدابة وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهداً لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل إن(16/99)
ترحم طائفة فأنت كذلك وهو غريب والجيد القراءة العامة إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث
المسألة الثانية ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة استهزأ اثنان وضحك واحد فالطائفة الأولى الضاحك والثانية الهازيان وقال المفسرون لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه وذنب الهازيين أغلظ فلا جرم ما عفا الله عنهما قال القاضي هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام وأيضاً لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل
المسألة الثالثة قالوا ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنساناً واحداً قال الزجاج والطائفة في اللغة أصلها الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأقله الواحد وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الطائفة الواحد فما فوقه وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه الأول أن من اختار مذهباً ونصره فإنه لا يزال يكون ذاباً عنه ناصراً له فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب الثاني قال ابن الأنباري العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) يعني نعيم بن مسعود الثالث لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفاً ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ثم إنه تعالى علل كونه معذباً للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر فقد اشتركتا في الجرم والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز وأيضاً التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله كَانُواْ مُجْرِمِينَ يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ وأيضاً ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل فأوجب التعذيب
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(16/100)
اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة فقال الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ أي في صفة النفاق كما يقول الإنسان أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقبضون أيديهم قيل من كل خير وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده
ثم قال نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) الثاني النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم
ثم قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي هم الكاملون في الفسق والله أعلم
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِى َ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(16/101)
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل في المنافقين والمنافقات أنه نسبهم أي جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه فقال وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ولا شك أن النار المخلدة من أعظم العقوبات
ثم قال هِى َ حَسْبُهُمْ والمعنى أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها
ثم قال وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي ألحق بتلك العقوبة الشديدة الإهانة والذم واللعن
ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ولقائل أن يقول معنى كون العذاب مقيماً وكونه خالداً واحد فكان هذا تكراراً
والجواب ليس ذلك تكريراً وبيان الفرق من وجوه الأول أن لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولاً ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم وقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ يدل على أن لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذاب
ولقائل أن يقول هذا التأويل مشكل لأنه قال في النار المخلدة هِى َ حَسْبُهُمْ وكونها حسباً بمنع من ضم شيء آخر إليه
وجوابه أنها حسبهم في الإيلام والإيجاع ومع ذلك فيضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم والثاني أن المراد بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ العذاب العاجل الذي لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم وما يحذرونه أبداً من أنواع الفضائح
ثم قال كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ واعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وهذا الكاف للتشبيه وهو يحتمل وجوهاً الأول قال الفراء فعلتم كأفعال الذين من قبلكم والمعنى أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك
والوجه الثاني أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة الله تعالى لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم والخلاق النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنها قسم ونصيب لأنه نصب أي ثبت فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم
فإن قيل ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم ذكره في حق الأولين ثالثاً
قلنا الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين(16/102)
بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة ومثاله أن من أراد أن ينبه بعض الظلمة على قبح ظلمه يقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأنت تفعل مثل ما فعله وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم فقال وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ قال الفراء يريد كخوضهم الذي خاضوا ف الَّذِى صفة مصدر محذوف دل عليه الفعل
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاْخِرَة ِ أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف وفي الآخرة بسبب أنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً منهم فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة محرومين من خيرات الدنيا والآخرة
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم فذكر هؤلاء الطوائف الستة فأولهم قوم نوح والله أهلكهم بالإغراق وثانيهم عاد والله تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم وثالثهم ثمود والله أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة ورابعهم قوم إبراهيم أهلكهم الله بسبب سلب النعمة عنهم وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ وخامسهم قوم شعيب وهم أصحاب مدين ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم والله تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم الحجارة وقال الواحدي المؤتفكات جمع مؤتفكة ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب وتلك القرى ائتفكت بأهلها أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر(16/103)
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق وتارة لأجل أن بلاد هذه الطوائف وهي بلاد الشام قريبة من بلاد العرب وقد بقيت آثارهم مشاهدة وقوله أَلَمْ يَأْتِهِمْ وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام
ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف
ثم قال بِالْبَيِّنَاتِ أي بالمعجزات ولا بدَّ من إضمار في الكلام والتقدير فكذبوا فعجل الله هلاكهم
ثم قال فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلماً من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم بل كانوا ظلموا أنفسهم قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ودل على أن فاعل الظلم هو العبد وهو قوله وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مراراً خارجة عن الإحصاء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر على ضد صفات المنافقين ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم فأما صفات المؤمنين فهي قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
فإن قيل ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ فلم ذكر في المنافقين لفظ مِنْ وفي المؤمنين لفظ أَوْلِيَاء
قلنا قوله في صفة المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يدل على أن نفاق الأتباع كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف والأمر في نفسه كذلك لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل(16/104)
والعادة بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ وقال في المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
واعلم أن الولاية ضد العداوة وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه
واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق فالمنافق على ما وصفه الله تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف والمؤمن بالضد منه والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ والمؤمنون يؤتون الزكاة والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه الله بذلك والمؤمنون بالضد منهم وهو المراد في هذه الآية بقوله وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة فلذلك قال أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وذكر حرف السين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ للتوكيد والمبالغة كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ونظيره سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( مريم 96 ) لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ( النساء 152 )
ثم قال أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء فأولها قوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون فائدة وصفها بأنها عدن أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب وثانيها قوله وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن قال الحسن سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله(16/105)
وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فقالا على الخبير سقطت سألنا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع ) وعن ابن عباس أنها دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وأقول لعل ابن عباس قال إنها دار المقربين عند الله فإنه كان أعلم بالله من أن يثبت له داراً وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله حدثني عن الجنة ما بناؤها فقال ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وحصاؤها الدر والياقوت فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) وقال ابن مسعود جنات عدن بطنان الجنة قال الأزهري بطنانها وسطها وبطنان الأودية المواضع التي يستنفع فيها ماء السيل واحدها بطن وقال عطاء عن ابن عباس هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنات حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر وقال عبد الله بن عمرو إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب كل على كل باب خمسة آلاف حرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وأقول حاصل الكلام إن في جنات عدن قولان أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول قال صاحب ( الكشاف ) وعدن علم بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ ( مريم 61 )
والقول الثاني أنه صفة للجنة قال الأزهري العدن مأخوذ من قولك عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونا والعرب تقول تركت إبل بني فلان عودان بمكان كذا وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه ومنه المعدن وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن
والنوع الثالث من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ والمعنى أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضياً عنه وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك بل علمه بكونه راضياً عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر والأول باطل لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالاً من ذلك المقصود فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجاً بحصول الوسيلة ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابتهاجاً بالمقصود وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالاً من الابتهاج بالمقصود فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالاً وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة لكن الأمر ليس كذلك لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية
واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معاً كما جمع الله بينهما في هذه الآية(16/106)
ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفيه وجهان الأول أن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي روحاني وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم الثاني أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين ثم قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والمعنى أن هذا هو الفوز العظيم لاما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة ( هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً )
واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
واعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدم بالثواب الرفيع والدرجات العالية ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وفي الآية سؤال وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته
واعلم أن الناس ذكروا أقوالاً بسبب هذا الإشكال
فالقول الأول أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك وهذا بعيد لأن ظاهر قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ يقتضي الأمر بجهادهما معاً وكذا ظاهر قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ راجع إلى الفريقين
القول الثاني أنه تعالى لما بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يحكم بالظاهر قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر فكانت المحاربة معهم غير جائزة )
والقول الثالث وهو الصحيح أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين فأما كيفية(16/107)
تلك المجاهد فلفظ الآية لا يدل عليها بل إنما يعرف من دليل آخر
وإذا ثبت هذا فنقول دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة وبترك الرفق ثانياً وبالانتهار ثالثاً قال عبد الله في قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قال تارة باليد وتارة باللسان فمن لم يستطع فليكشر في وجهه فمن لم يستطع فبالقلب وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها قال القاضي وهذا ليس بشيء لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق ثم قال وإنما قال الحسن ذلك لأحد أمرين إما لأن كل فاسق منافق وإما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواماً من المنافقين قالوا كلمات فاسدة ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا وحلفوا أنهم ما قالوا والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوهاً الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فقال الجلاس بن سويد والله لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقاً مع أنهم أشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحضر الجلاس فحلف بالله أنه ما قال فرفع عامر يده وقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت هذه الآية فقال الجلاس لقد ذكر الله التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته الثاني روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وأراد به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل فنزلت هذه الآية الثالث روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار فظهر الغفاري على الجهيني فنادى عبد الله بن أبي يا بني الأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فذكروه للرسول عليه السلام فأنكر عبد الله وجعل يحلف قال القاضي يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع وحمل صيغة الجمع على الواحد خلاف الأصل(16/108)
فإن قيل لعل ذلك الواحد قال في محفل ورضي به الباقون
قلنا هذا أيضاً خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ثم قال بل الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل وكان عمار بن ياسر آخذاً بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج
فأما قوله وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فلقائل أن يقول إنهم أسلموا فكيف يليق بهم هذا الكلام
والجواب من وجهين الأول المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب لأنهم لما نافقوا فقد أظهروا الإسلام وجنحوا إليه فإذا جاهروا بالحرب وجب حربهم والثاني أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام
وأما قوله وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ المراد إطباقهم على الفتك بالرسول والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم ولم يصلوا إلى مقصودهم
وأما قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ففيه بحثان
البحث الأول أن في هذا الفضل وجهين الأول أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله والثاني روي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى
البحث الثاني أن قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه وهذا كقول الشاعر ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب ثم قال تعالى فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير فأما أنهم تابوا فليس في الآية وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس
ثم قال وَإِن يَتَوَلَّوْا أي عن التوبة يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ أما عذاب الآخرة فمعلوم وأما العذاب في الدنيا فقيل المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة(16/109)
العذاب وقيل المراد عذاب القبر وَمَا لَهُمْ فِى الاْرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم فلحقه شدة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله إلى آخر الآية والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام ( يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل وادياً بها فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فأخبر بخبره فقال ( يا ويح ثعلبة ) فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فبعث إليه رجلين وقال ( مرا بثعلبة فخذا صدقاته ) فعند ذلك قال لهما ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ فقيل له قد أنزل فيك كذا وكذا فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته فقال إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه فقال عليه الصلاة والسلام ( قد قلت لك فما أطعتني ) فرجع إلى منزله وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أتى أبا بكر بصدقته فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ثم لم يقبلها عثمان وهلك ثعلبة في خلافة عثمان
فإن قيل إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه
قلنا لا يبعد أن يقال إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له(16/110)
ليعتبر غيره به فلا يمتنع عن أداء الصدقات ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات ثم إنه تعالى آتاه المال وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد وههنا سؤالات
السؤال الأول المنافق كافر والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى
والجواب المنافق قد يكون عارفاً بالله إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام كان كافراً وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر ويقل في أصناف الكفار من ينكره والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً ثم لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً
السؤال الثاني هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة
الجواب منهم من قال كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد يروى عن المعتمر بن سليمان قال أصابتنا ريح شديدة في البحر فنذر قوم منا أنواعاً من النذور ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به فلما قدمت البصرة سألت أبي فقال يا بني ف به وقال أصحاب هذا القول إن قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ كان شيئاً نووه في أنفسهم ألا ترى أنه تعالى قال أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وقال المحققون هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان والدليل عليه قوله عليه السلام ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به ) أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إخبار عن تكلمه بهذا القول وظاهره مشعر بالقول باللسان
السؤال الثالث قوله لَنَصَّدَّقَنَّ المراد منه إخراج مال ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً وقد يكون غير واجب والواجب قسمان قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء كإخراج الزكاة الواجبة وإخراج النفقات الواجبة وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور
إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة فقوله لَنَصَّدَّقَنَّ هل يتناول الأقسام الثلاثة أو ليس الأمر كذلك
والجواب قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة فغير داخلة تحت هذه الآية والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله بَخِلُواْ بِهِ والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم وأما القسمان الباقيان فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية(16/111)
لا محالة وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة
بقي أن يقال هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وهذا لا يشعر بالنذر لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول
قلنا قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل وهذا القدر لا يوجب الفور فكأنهم قالوا لنصدقن في وقت كما قالوا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في أوقات لزوم الصلاة فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه ولا يقومون بما يقولون والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي
السؤال الرابع ما المراد من الفضل في قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ
والجواب المراد إيتاء المال بأي طريق كان سواء كان بطريق التجارة أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما
السؤال الخامس كيف اشتقاق لَنَصَّدَّقَنَّ
الجواب قال الزجاج الأصل لنتصدقن ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها قال الليث المصدق المعطي والمتصدق السائل قال الأصمعي والفراء هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ
السؤال السادس ما المراد من قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
الجواب الصالح ضد المفسد والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف قال ابن عباس رضي الله عنهما كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن وأقول التقييد لا دليل عليه بل قوله لَنَصَّدَّقَنَّ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة
الصفة الأولى البخل وهو عبارة عن منع الحق(16/112)
والصفة الثانية التولي عن العهد
والصفة الثالثة الإعراض عن تكاليف الله وأوامره
ثم قال تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركاً لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق في القلب لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثراً في حصول الجهل في القلب أما أولاً فلأن ترك الواجب عدم والجهل وجود العدم لا يكون مؤثراً في الوجود وأما ثانياً فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق وأما ثالثاً فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو كان محرماً شرعاً لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً وأما رابعاً فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وذلك لا يجوز لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه فوجب إسناده إليه فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل والذي يؤكد القول بأن قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً مسند إلى الله جل ذكره أنه قال إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ والضمير في قوله تعالى يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله فَأَعْقَبَهُمْ مسنداً إلى الله تعالى قال القاضي المراد من قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ أي فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة قلنا هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت
المسألة الثانية قال الليث يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك قال الهذلي أودى بني وأعقبوني حسرة
بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
ويقاتل أكل فلان أكلة أعقبته سقماً وأعقبه الله خيراً وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه الله
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به ومذهب الحسن البصري رحمة(16/113)
الله أنه يوجب النفاق لا محالة وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان ) وعن النبي عليه السلام ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا ) قال عطاء بن أبي رباح حدثني جابر بن عبد الله أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال أتى الحسن رجل فقال له إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين فتوقف الحسن رحمه الله
المسألة الرابعة إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بصدقته فقال إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك وبقي على تلك الحالة وما قبل صدقته أحد حتى مات فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
المسألة الخامسة قال الجبائي إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية بدليل أنه قال في صفة المنافقين إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية قال والذي يقويه قوله عليه السلام ( من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا والقاضي استحسن هذا الكلام وأقول أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ا وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية وفي هذا الخبر لدليل منفصل فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية وذلك ممنوع فنقول لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء كما أن الإدراك هو البلوغ قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ثم نقول لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية بل المقصود أنه تعالى فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي حكمه وقضاءه وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً أي تجازى عليه قال تعالى بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ والمعنى أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب(16/114)
ثم قال تعالى أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ والسر ما ينطوي عليه صدورهم والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ونظيره قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) وقوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا ( يوسف 80 ) وقوله فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( المجادلة 9 ) وقوله إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 )
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فكيف يمكن الأخفاء منه ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 116 ) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعاً وطبعاً قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف درهم فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي فقال بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت قيل قبل الله دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وجاء عمر بنحو ذلك وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقاً من تمر الصدقة وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوضعه في الصدقات فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ والمطوعون المتطوعون والتطوع التنفل وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج قال الليث الجهد شيء قليل يعيش به المقل قال الزجاج إِلاّ(16/115)
َ جُهْدَهُمْ وجهدهم بالضم والفتح قال الفراء الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة تقول هذا جهدي أي طاقتي
إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم ثم بين أن الله تعالى سخر منهم
واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة الله قد يكون واجباً كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة وهو المراد من هذه الآية ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنياً فيأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وقد يكون فقيراً فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة وذلك التعيير يحتمل وجوهاً الأول أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه فكيف يتصدق به إلا أن هذا من موجبات الفضيلة كما قال تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وثانيها أن يقولوا أي أثر لهذا القليل وهذا أيضاً جهل لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعاً عند الله من عمل غيره لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا واكتفى بالتوكل على المولى وثالثها أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب وهذا أيضاً جهل لأن سعى الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة
وأما قوله سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ فقد عرفت القانون في هذا الباب وقال الأصم المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا يا رسول الله استغفر لنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأستغفر لكم وأشتغل بالاستغفار لهم فنزلت هذه الآية فترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الاستغفار وقال الحسن كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً فنزلت هذه الآية وروى الأصم أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب(16/116)
الرسول قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر اجلس يا عدو الله فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة فخرج من المسجد ولم يصل فلقيه رجل من قومه فقال له ما صرفك فحكى القصة فقال ارجع إلى رسول الله يستغفر لك فقال ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ ( المنافقون 5 ) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم
المسألة الثانية إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وروى الشعبي قال دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام ( من أنت ) فقال أنا الحباب بن عبد الله قال بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب هو الشيطان ثم قرأ هذه الآية قال القاضي ظاهر قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب قالوا والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال عليه السلام ( والله لأزيدن على السبعين ) ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( المنافقون 6 ) الآية فكف عنهم
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه
المسألة الرابعة من الناس من قال إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه الله منه ومنهم من قال إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدماً على ذلك الفعل وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه الأول أن المنافق كافر وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه الثاني أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبح والمعصية الثالث أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب الرابع أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردوداً عند الله وذلك يوجب نقصان منصبه الخامس أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة(16/117)
كفرهم وفسقهم وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين فصار هذا التعليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر ويؤكده أيضاً قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة قال المتأخرون من أهل التفسير السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء هو هذا العدد وقال بعضهم هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة فكأنه قيل إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) وقال عليه السلام ( الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلاً فيه
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك والمخلف المتروك ممن مضى
فإن قيل إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون
والجواب من وجوه الأول أن الرسول عليه السلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين والثاني أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهي قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوّا ( التوبة 83 ) فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين الثالث أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام وقوله بِمَقْعَدِهِمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المدينة فعلى هذا المقعد اسم للمكان وقال مقاتل بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم وعلى هذا هو اسم للمصدر وقوله خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ فيه قولان الأول وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا(16/118)
قالوا وهو منصوب لأنه مفعول له والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني قال الأخفش إن خِلَافٍ بمعنى خلف وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول الله ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وعلى هذا القول الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجهاً إليها وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقوله وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو
واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد وأيضاً لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار وأيضاً مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المراد من قوله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ
فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أي إن بعد هذه الدار داراً أخرى وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى وأيضاً هذه مشقة منقضية وتلك مشقة باقية وروى صاحب ( الكشاف ) لبعضهم مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
ثم قال تعالى فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة والدليل عليه قوله بعد ذلك جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعنى الآية أنهم وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير لأنه عقاب دائم لا ينقطع والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل فلهذا المعنى قال فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا قال الزجاج قوله جَزَاء مفعول له والمعنى وليبكوا لهذا الغرض وقوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجداً لأفعاله وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالماً مشهور وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مراراً تغني عن الإعادة
فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَة ٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ(16/119)
واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته لأن خروجهم معه يوجب أنواعاً من الفساد فقال فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أي من المنافقين فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ يريد إن ردك الله إلى المدينة ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه يقال رجعته رجعاً كقولك رددته رداً وقوله إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان بعضهم مخلصين معذورين وقوله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أي للغزو معك فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا إلى غزوة وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذراً من مكرهم وكيدهم وخداعهم فصار هذا المعنى من هذا الوجه جارياً مجرى اللعن والطرد ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمراد منه القعود عن غزوة تبوك يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم فعند ذلك لا نقبلكم ولا نلتفت إليكم وفي اللفظ بحث ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن قوله مَرَّة ٍ في أَوَّلَ مَرَّة ٍ وضعت موضع المرات ثم أضيف لفظ الأول إليها وهو دال على واحدة من المرات فكان الأولى أن يقال أولى مرة
وأجاب عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال هند أكبر النساء ولا يقال هند كبرى النساء
ثم قال تعالى فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ذكروا في تفسير الخالف أقوالاً الأول قال الأخفش وأبو عبيدة الخالفون جمع واحدهم خالف وهو من يخلف الرجل في قومه ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحون والثاني أن الخالفين مفسر بالمخالفين قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفاً وقال الأخفش فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم وقال الليث هذا الرجل خالفة أي مخالف كثير الخلاف وقوم خالفون فإذا جمعت قلت الخالفون
والقول الثالث الخالف هو الفاسد قال الأصمعي يقال خلف عن كل خير يخلف خلوفاً إذا فسد وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد
وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشدداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ(16/120)
اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوى من أسباب إذلالهم وإهانتهم وهذا الذي ذكره في هذه الآية وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما اشتكى عبد الله بن أبي بن سلول عاده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه لم تعطي قميصك الرجس النجس فقال عليه الصلاة والسلام ( إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً فلعل الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام ) وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف فلما مات جاء ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه ( صل عليه وادفنه ) فقال إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوبه وقال وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه وثانيها آية تحريم الخمر وثالثها آية تحويل القبلة ورابعها آية أمر النسوان بالحجاب وخامسها هذه الآية فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر رضي الله عنه منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدين فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه ( لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً )
فإن قيل كيف يجوز أن يقال إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافراً وقد مات على كفره وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له وأيضاً إذا صلى عليه فقد دعا له وذلك محظور لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه
والجواب لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام غلب على ظنه أنه صار مسلماً فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه فلما نزل جبريل عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه امتنع من الصلاة عليه وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوهاً الأول أن العباس عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طويلاً فكساه عبد الله(16/121)
قميصه الثاني أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك فقال لا إن لي في رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله له ذلك والثالث أن الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً بقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 ) فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى الرابع أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم الخامس أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من الصالحين وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه السادس لعل الله تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملاً لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض وروى أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين السابع أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) وقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر الله تعالى ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً قال الواحدي مَّاتَ في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل على أحد منهم ميت وقوله أَبَدًا متعلق بقوله أَحَدٌ والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم واعلم أن قوله ولا تصل أبداً يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي والمقصود هو الأول لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ وفيه وجهان الأول قال الزجاج كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه الثاني قال الكلبي لا تقم بإصلاح مهمات قبره وهو من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول الفسق أدنى حالاً من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقاً
والجواب أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد أمر مستقبح في جميع الأديان فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر تنبيهاً على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم
السؤال الثاني أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه
والجواب أن التكاليف مبنية على الظاهر قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر )
السؤال الثالث قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تصريح بكون ذلك النهي معللاً بهذه العلة وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى وهو محال لأن حكم الله قديم وهذه العلة محدثة وتعليل القديم بالمحدث محال
والجواب الكلام في أن تعليل حكم الله تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا بحث طويل ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه(16/122)
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أن هذه الآية قد سبق ذكرها بعينها في هذه السورة وذكرت ههنا وقد حصل التفاوت بينهما في ألفاظ فأولها في الآية المتقدمة قال فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء وههنا قال وَلاَ تُعْجِبْكَ بالواو وثانيها أنه قال هناك أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وههنا كلمة لا محذوفة وثالثها أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا حذف اللام وأبدلها بكلمة ءانٍ ورابعها أنه قال هناك وَقَالَ إِنَّمَا وههنا حذف لفظ الحياة وقال فِى الدُّنْيَا فقد حصل التفاوت بين هاتين الآيتين من هذه الوجوه الأربعة فوجب علينا أن نذكر فوائد هذه الوجوه الأربعة في التفاوت ثم نذكر فائدة هذا التكرير
أما المقام الأول فنقول
أما النوع الأول من التفاوت وهو أنه تعالى ذكر قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء في الآية الأولى وبالواو في الآية الثانية فالسبب أن في الآية الأولى إنما ذكر هذه الآية بعد قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب فقال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو
وأما النوع الثاني وهوأنه تعالى قال في الآية الأولى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ فالسبب فيه أن مثل هذا الترتيب يبتدأ بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم
أما النوع الثالث وهو أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه ( أن ) كقوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( البينة 5 ) أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله
وأما النوع الرابع وهو أنه ذكر في الآية الأولى وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وههنا ذكر فِى الدُّنْيَا وأسقط لفظ الحياة تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم(16/123)
بحقائق القرآن هو الله تعالى
وأما المقام الثاني وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر إلى الاشتغال بالدنيا هو الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى لا جرم أعاد الله قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء في سورة النساء مرتين وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عن الغزو وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد
أما قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد
البحث الثاني قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ قال الواحدي موضع ءانٍ نصب بحذف حرف الجر والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان
البحث الثالث لقائل أن يقول كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال
أجابوا عنه بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب فإن الأمر متوجه عليهم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ وفي أُوْلُواْ الطَّوْلِ قولان الأول قال ابن عباس والحسن المراد أهل السعة في المال الثاني قال الأصم يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم وفي تخصيص أُوْلُواْ الطَّوْلِ بالذكر قولان الأول أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد والثاني أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان(16/124)
ثم قال تعالى رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وههنا فيه وجهان الأول قال الفراء الْخَوَالِفِ عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء الثاني يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال والخالفة الذي هو غير نجيب قال الفراء ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك والقول الأول أولى لأن أدل على القلة والذلة قال المفسرون وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف
ثم قال وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر صار القلب كالمطبوع على الكفر ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل وإن كان من الله فالمقصود حاصل وقال الحسن الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وقوله فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد
لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه وقوله لَكِنِ فيه فائدة وهي أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً ( الأنعام 89 ) وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( فصلت 38 ) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع أولها قوله وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ واعلم أن لفظ الخيرات يتناول منافع الدارين لأجل أن اللفظ مطلق وقيل الخَيْرَاتِ الحور لقوله تعالى فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ ( الرحمن 70 ) وثانيها قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فقوله لَهُمُ الْخَيْرَاتُ المراد منه الثواب وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه التخلص من العقاب والعذاب وثالثها قوله أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا مثل(16/125)
الغزو والكرامة والثروة والقدرة والغلبة وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و الْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية
وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وقال لعن الله المعذرين وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر والحاصل أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر ومنه قولهم قد أعذر من أنذر وعلى هذه القراءة فمعنى الآية أن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر قيل هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وإنا بنا جهداً فائذن لنا في التخلف وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا فأذن رسول الله لهم وعن مجاهد نفر من غطفان اعتذروا والذين قرؤوا الْمُعَذّرُونَ بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية
الوجه الأول ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارت التاء ذالاً مشددة والاعتذار قد يكون بالكذب كما في قوله تعالى يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ( التوبة 94 ) فبين كون هذا الاعتذار فاسداً بقوله قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد فقد جاء بعذر صحيح
الوجه الثاني أن يكون الْمُعَذّرُونَ على وزن قولنا مفعلون من التعذير الذي هو التقصير يقال عذراً تعذيراً إذا قصر ولم يبالغ يقال قام فلان قيام تعذير إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه فإن أخذنا بقراءة الخفيف كان الْمُعَذّرُونَ كاذبين وأما إن أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فعلى هذا التقدير يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسرين من قال المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه لما قيل له هذا الكلام قال إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على الله تعالى فهم المرادون بقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والذي قاله أبو(16/126)
عمرو محتمل إلا أن الأول أظهر وقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان وقرأ أبي كَذَّبُواْ بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال مِنْهُمْ لأنه تعالى كان عالماً بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب فذكر لفظة من الدالة على التبعيض
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط وهم أقسام
القسم الأول الصحيح في بدنه الضعيف مثل الشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء والدليل عليه أنه عطف عليهم المرضى والمعطوف مباين للمعطوف عليه فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم لم يتميزوا عن المرضى
وأما المرضى فيدخل فيهم أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة
والقسم الثالث الذين لا يجدون الأهبة والزاد والراحلة وهم الذين لا يجدون ما ينفقون لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه أما من مال نفسه أو من مال إنسان آخر يعينه عليه فإن لم تحصل هذه القدرة صار كلاً ووبالاً على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال لا حرج على هؤلاء والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لايجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً وهو قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف وعن إثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد(16/127)
ثم قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى لأن هذه الآية نزلت فيهم ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول لا إله إلا الله وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها كان من المسلمين وقوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ يقتضي نفي جميع المسلمين فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل إلا لدليل منفصل والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل منفصل وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا لدليل منفصل فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلاً معتبراً في الشريعة في تقرير أن الأصل براءة الذمة فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص في واقعة خاصة قضينا بذل النص الخاص تقديماً للخاص على العام وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس قال لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة وعدم الإلزام والتكليف فالقياس إما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص كان إثباتها بالقياس عبثاً والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص وأنه لا يجوز لما ثبت أن النص أقوى من القياس قالوا وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة معلومة ملخصة بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها وذلك لأن السلطان إذا بعث واحداً من عماله إلى سياسة بلدة فقال له أيها الرجل تكليفي عليك وعلى أهل تلك المملكة كذا وكذا وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلاً ثم قال وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل كان هذا تنصيصاً منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالاً لأن باب النفي لا نهاية له بل كفاه في النفي أن يقول ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت فكذا ههنا أنه تعالى لما قال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور وأما فيما وراءه فليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ويكون قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) حقاً ويصير قوله لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) حقاً ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلاً فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وبين كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين فقال وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً
فإن قيل أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ فما الفائدة في إعادته(16/128)
قلنا الذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة إلا أنهم لم يجدوا المركوب والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال مجاهد هم ثلاثة إخوة معقل وسويد والنعمان بنو مقرن سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون والثاني قال الحسن نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحملونه ووافق ذلك منه غضباً فقال عليه السلام ( والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاهم ذوداً خير الذود فقال أبو موسى ألست حلفت يا رسول الله فقال ( أما أني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين )
والرواية الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) لأن الشقة بعيدة والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده قال صاحب ( الكشاف ) قوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ في أمر الغزو والجهاد وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم قالوا السبيل الذي نفاه عن المحسنين هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين وهو الذي يختص بالجهاد والمعنى أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه ولا عذر لهم ألبتة في التخلف
فإن قيل قوله رَضُواْ ما موقعه
قلنا كأنه استئناف كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا بالدناءة والضعة والانتظام(16/129)
في جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد هو أن الله طبع على قلوبهم فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا
ثم قال يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه وجب عليه تركه وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار
ثم قال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم فقال تعالى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء أو لا تبقون عليها
ثم قال ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
فإن قيل لماقال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فلم لم يقل ثم تردون إليه وما الفائدة من قوله ثُمَّ
قلنا في وصفه تعالى بكونه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد وفيه تخويف شديد وزجر عظيم لهم
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة
أما قوله سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا فقيل إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم
ثم قال تعالى فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم المدينة ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) قال أهل المعاني هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم فقال إِنَّهُمْ رِجْسٌ والمعنى أن خبث باطنهم رجس روحاني فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية فوجوب الاحتراز عن(16/130)
الأرجاس الروحانية أولى خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعناه ظاهر ولما بين في الآية أنهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم بين أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم فقال فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ والمعنى أنكم إن رضيتم عنهم مع أن الله لا يرضى عنهم كانت إرادتكم مخالفة لإرادة الله وأن ذلك لا يجوز وأقول إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة وقد أعادها الله ههنا مرة أخرى وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة
الاٌّ عْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَة ُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال العلماء من أهل اللغة يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب كما تقول مجوسي ويهودي ثم يحذف ياء النسبة في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ سواء كان من العرب أو من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق وجوه الأول أنه عليه السلام قال ( حب العرب من الإيمان ) وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية والثاني أنه لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب إنما هم عرب وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب قال عليه السلام ( لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً ) الثالث قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل سموا بالعرب لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة(16/131)
ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة وحكمة الهند في أوهامهم وحكمة يونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم
المسألة الثانية من الناس من قال الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق حمل على الاستغراق للضرورة قالوا لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها والألف واللام للتعريف فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال
قالوا إذا ثبت هذا فنقول قوله الاْعْرَابُ المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم
المسألة الثالثة أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين
الحكم الأول
أنهم أشد كفراً ونفاقاً والسبب فيه وجوه الأول أن أهل البدو يشبهون الوحوش والثاني استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم والثالث أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدب ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً والرابع أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبياناته الشافية وتأديباته الكاملة كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير ولم يسمع خبره والخامس قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية
الحكم الثاني
قوله وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وقوله أجدر أي أولى وأحق وفي الآية حذف والتقدير وأجدر بأن لا يعلموا وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام وقيل مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمافي قلوب خلقه حَكِيمٌ فيما فرض من فرائضه
ثم قال وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا والمغرم مصدر كالغرامة والمعنى أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتغاء ثوابه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يعني الموت والقتل أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول ويظهر عليكم المشركون ثم إنه أعاده إليهم فقال عَلَيْهِمْ دَائِرَة ُ السَّوْء والدائرة يجوز أن تكون واحدة ويجوز أن تكون صفة غالبة وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة بحيث لا يكون له منها مخلص وقوله السَّوْء قرىء بفتح السين وضمه قال الفراء فتح السين هو الوجه لأنه مصدر قولك ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسماً كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب ولا يجوز ضم السين في قوله مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ( مريم 28 ) ولا في قوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء(16/132)
( الفتح 12 ) وإلا لصار التقدير ما كان أبوك امرأ عذاب وظننتم ظن العذاب ومعلوم أنه لا يجوز وقال الأخفش وأبو عبيد من فتح السين فهو كقولك رجل سوء وامرأة سوء ثم يدخل الألف واللام فيقول رجل السوء وأنشد الأخفش وكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوماً أحال على الدم
ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه كأنه قيل عليهم دائرة الهزيمة والمكروه وبهم يحيق ذلك قال أبو علي الفارسي لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه
إذا عرفت هذا فنقول المعنى يدور عليهم البلاء والحزن فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أيضاً أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً
واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين فالأول كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول وفيه بحثان الأول قال الزجاج يجوز في القربات ثلاثة أوجه ضم الراء وإسكانها وفتحها الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قربات مفعول ثان ليتخذ والمعنى أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وقال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ فلما كان ما ينفق سبباً لحصول القربات والصلوات قيل إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات وقال تعالى أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ وهذا شهادة من الله تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله إِلا وبحرف التحقيق وهو قوله أَنَّهَا ثم زاد في التأكيد فقال سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد ثم قال أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسيآتهم رَّحِيمٌ بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات وقرأ نافع أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ بضم الراء وهو الأصل ثم خففت نحو كتب ورسل وطنب والأصل هو الضم والإسكان تخفيف(16/133)
وَالسَّابِقُونَ الاٌّ وَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول وما أعد لهم من الثواب بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها وهي منازل السابقين الأولين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم وذكروا وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة
إذا ثبت هذا فنقول إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وعلي بن أبي طالب وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار لأن هؤلاء(16/134)
آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم نقول هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة ولم لا يجوز أن يقال إنه تغير عن تلك الحالة وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة
والجواب عن الأول أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه لأن لفظ السابق مطلق فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى قوله المراد منه السبق في الإسلام
قلنا السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى وأيضاً فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان إلا أنا نقول قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة فوجب أن يدخل فيه علي رضي الله عنه وغيره وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد فعلى هذا التقدير يكون أبو بكر من السابقين الأولين وأيضاً قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام ويصير هو قدوة لغيره وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان وعرض الإسلام عليهم ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام وأسلموا على يد الرسول عليه السلام فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام وصار هذا قدوة لغيره وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن وكان جارياً مجرى صبي في داخل البيت فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره فثبت أن الرأس والرئيس في قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ليس إلا أبا بكر أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفاً بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة
قلنا قوله تعالى رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ أو نقول إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم وهو قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ معلل بكونهم سابقين في الهجرة والعلة ما دامت موجودة وجب ترتب المعلول عليها وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم أو نقول إنه تعالى قال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة(16/135)
التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات وليس لأحد أن يقول المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان لأنا نقول هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح وبين سائر الفرق فرق لأنه تعالى أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب لو صاروا مؤمنين ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء فسقط هذا السؤال فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر وعلى صحة القول بإمامته قطعاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم فقال قوم إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض ومنهم من قال بل يتناول جميع الصحابة لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين وكلمة مِنْ في قوله مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ ليست للتبعيض بل للتبيين أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً كما في قوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول روي عن حميد بن زياد أنه قال قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم وأردت الفتن فقال لي إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت له وفي أي موضع أوجب لهم الجنة قال سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ إلى آخر الآية فأوجب الله لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم قلت وما ذاك الشرط قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه قال حميد بن زياد فكأني ما قرأت هذه الآية قطا
المسألة الثالثة روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ فكان يعطف قوله الأنصار على قوله رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ وكان يحذف الواو من قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ويجعله وصفاً للأنصار وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه قال أبي والله لقد أقرأنيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على هذا الوجه وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة فقال عمر رضي الله عنه صدقت شهدتم وغبنا وفرغتم وشغلنا ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب والتفاوت أن على قراءة عمر يكون التعظيم الحاصل من قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين والله أعلم وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ ( الأنفال 75 ) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى وبأواسط سورة الحشر وهو قوله وَالَّذِينَ ذُرّيَّة ً مّن بَعْدِهِمْ ( الحشر 10 ) وبأول سورة الجمعة وهو قوله وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ( الجمعة 3 )(16/136)
المسألة الرابعة قوله وَالسَّابِقُونَ مرتفع بالابتداء وخبره قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا وفي مصاحف أهل مكة تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهي قراءة ابن كثير وفي سائر المصاحف تَحْتِهَا من غير كلمة مِنْ
المسألة الخامسة قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم يريد يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم والحكم المشروط بشرط ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاٌّ عْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون المهاجرون والأنصار فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها
وأما قوله وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الزجاج أنه حصل فيه تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق الثاني قال ابن الأنباري يجوز أن يكون التقدير ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر ( من ) لدلالة مِنْ عليها كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) يريد إلا من له مقام معلوم
البحث الثاني يقال مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا والمريد من شياطين الإنس والجن وقد تمرد علينا أي عتا وقال ابن الأعرابي المراد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ وأصل المرود الملاسة ومنه صرح ممرد وغلام أمرد والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة وذلك هو الملاسة(16/137)
إذا عرفت أصل اللفظ فنقول قوله مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه
ثم قال تعالى لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وهو كقوله لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك
ثم قال سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ وذكروا في تفسير المرتين وجوهاً كثيرة
الوجه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم
الوجه الثاني روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال ( اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق ) فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني عذاب القبر
والوجه الثالث قال مجاهد في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر
والوجه الرابع قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين وقال ستة يبتليهم الله بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره وستة يموتون موتاً
والوجه الخامس قال الحسن يأخذ الزكاة من أموالهم وعذاب القبر
والوجه السادس قال محمد بن إسحق هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة ثم عذابهم في القبور
والوجه السابع أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق النار والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة حياة الدنيا وحياة القبر وحياة القيامة فقوله سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر وقوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة وهي الحياة في القيامة
ثم قال تعالى في آخر الآية ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يعني النار المخلدة المؤبدة
وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(16/138)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان الأول أنهم قوم من المنافقين تابوا عن النفاق والثاني أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق لكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله وَءاخَرُونَ عطف على قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ والعطف يوهم التشريك إلا أنه تعالى وفقهم حتى تابوا فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق
المسألة الثانية روي أنهم كانوا ثلاثة أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وقيل كانوا عشرة فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته فلما قدم من سفره ورآهم موثقين سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم فقال وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً الآية
المسألة الثالثة قوله اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ قال أهل اللغة الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف
فإن قيل الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا
قلنا مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فأما إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في المستقبل وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى كان هذا المجموع توبة إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمفسرون قالوا إن عسى من الله يدل على الوجوب
ثم قال تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً وفيه بحثان
البحث الأول في هذا العمل الصالح وجوه الأول العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه والسيء هو التخلف عن الغزو والثاني العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك والثالث أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم
البحث الثاني لقائل أن يقول قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطاً فما المخلوط به وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق وأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل(16/139)
واحد منهما كما كان على مذهبنا فإن عندنا القول بالأحباط باطل والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب فقوله تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما لأن الاختلاط صفة للمختلطين وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال فدل على بقاء العملين حال الاختلاط
ثم قال تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول ههنا سؤال وهو أن كلمة عَسَى شك وهو في حق الله تعالى محال وجوابه من وجوه
الوجه الأول قال المفسرون كلمة عسى من الله واجب والدليل عليه قوله تعالى فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ ( المائدة 52 ) وفعل ذلك وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى أو لعل تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول فذكر كلمة عَسَى الفائدة فيه هذا المعنى مع أنه يفيد القطع بالإجابة
الوجه الثاني في الجواب المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الأنكار والإهمال
البحث الثاني قال أصحابنا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق الله تعالى والعقل أيضاً دليل عليه لأن الأصل في التوبة الندم والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلاً للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وأيضاً فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين ثم يصير عظيم الندامة عليه وحال كونه راغباً فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب وحال صيرورته نادماً عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة وعلى تحصيل الرغبة قالت المعتزلة المراد من قوله يتوب الله أنه يقبل توبته
والجواب أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره أما ههنا فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره فكيف يحسن التأويل
البحث الثالث قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل وقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة بل كان مقدمة للتوبة وأن التوبة إنما تحصل بعدها
ثم قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في المراد فقال بعهضم هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة فأوجب الله تعالى أخذها وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية في(16/140)
حقهم مجرى الكفارة وهذا قول الحسن وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم
والقول الثاني أن الزكوات كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم
والقول الثالث أن هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات وقالوا في الزكاة إنها طهرة أما القائلون بالقول الأول فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها وصارت كلمة أجنبية وذلك لا يليق بكلام الله تعالى وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة قالوا المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ولم تضايقوا فيها لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليماً أولى ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة وأما القائلون بالقول الأول فقالوا إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلث أموالهم وترك الثلثين لأنه تعالى قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ولم يقل خذ أموالهم وكلمة مِنْ تفيد التبعيض واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى
المسألة الثانية هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة
الحكم الأول
أن قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ بل المذكور ههنا قوله صَدَقَة ٍ ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان وإن كان في غاية القلة مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم حتى يكون قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأخذ تلك الصدقة المعلومة فحينئذ يزول الإجمال ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين كيفيتها والصدقة التي بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي أنه أمر(16/141)
بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض وفي ستة وثلاثين بنت لبون إلى غير ذلك من المراتب فكان قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة وظاهر الآية للوجوب فدل هذا النص على أن أخذها واجب وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثاني
أن قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يقتضي أن يكون المال مالاً لهم ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكاً للمالك في النصاب وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب
وإذا ثبت هذا فنقول إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب فالذي هلك ما كان محلاً للحق بل محل الحق باق كما كان فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان وهذا قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثالث
ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان وهو ظاهر
الحكم الرابع
ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن الشافعي رحمه الله يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً
المسألة الثالثة في قوله تُطَهّرُهُمْ أقوال
القول الأول أن يكون التقدير خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم
القول الثاني أن يكون تطهرهم معلقاً بالصدقة والتقدير خذ من أموالهم صدقة مطهرة وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جارياً مجرى التطهير والله أعلم
إن على هذا القول وجب أن نقول إن قوله وَتُزَكّيهِمْ يكون منقطعاً عن الأول ويكون التقدير خُذِ يا محمد مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها
القول الثالث أن يجعل التاء في تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء تُطَهّرُهُمْ من أطهره بمعنى طهره وتطهرهم بالجزم جواباً للأمر ولم يقرأ تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ إلا بإثبات الياء(16/142)
ثم قال تعالى وَتُزَكّيهِمْ واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة فقيل التزكية مبالغة في التطهير وقيل التزكية بمعنى الإنماء والمعنى أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء وقيل الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء
ثم قال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ءانٍ بغير واو وفتح التاء على التوحيد والمراد منه الجنس وكذلك في سورة هود أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ بغير واو وعلى التوحيد والباقون صَلَواتَكَ وكذلك في هود على الجمع قال أبو عبيدة والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر ألا ترى أنه قال وَأَنْ أَقِيمُواْ والصلوات جمع قلة تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات قال أبو حاتم هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) ولم يرد القليل وقال وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الثانية احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم فكان وجوب الزكاة مشروطاً بحصول ذلك السكن ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعاً لحاجة الفقير كما في قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( التوبة 60 ) وكما في قوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 )
المسألة الثالثة لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء فإذا قلنا صلى فلان على فلان أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللهم صل عليه فلهذا السبب اختلف المفسرون فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه ادع لهم قال الشافعي رحمه الله والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وقال آخرون معناه أن يقول اللهم صل على فلان ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) ونقل القاضي في ( تفسيره ) عن الكعبي في ( تفسيره ) أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام ومن الناس من أنكر ذلك ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول والشيعة يذكرونه في علي وأولاده واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ورأيت بعضهم قال أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام قال القاضي إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام والدليل عليه أنهم قالوا يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف(16/143)
الصلاة عليك فقال على وجه التعليم قولوا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي فيتناول علياً ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم والله أعلم
المسألة الخامسة كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع فقلت إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم فقوله سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم إلا أنهم قالوا النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
إذا عرفت هذا فههنا وجهان الأول أن التنكير يدل على الكمال ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) والمعنى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة
إذا ثبت هذا فقوله ( سلام ) لفظة منكرة فكان المراد منه سلام كامل تام وعلى هذا التقدير فقد صارت هذه النكرة موصوفة فصح جعلها مبتدأ وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله ( عليكم ) والتقدير سلام كامل تام عليكم والثاني أن يجعل قوله ( عليكم ) صفة لقوله ( سلام ) فيكون مجموع قوله ( سلام عليكم ) مبتدأ ويضمر له خبر والتقدير سلام عليكم واقع كائن حاصل وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم
إذا عرفت هذا فنقول إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل وأيضاً فقوله ( وعليكم السلام ) يفيد الحصر فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) ومن لطائف قوله ( سلام عليكم ) أنها أكمل من قوله ( السلام عليك ) وذلك لأن قوله ( سلام عليك ) معناه سلام كامل تام شريف رفيع عليك وأما قوله السلام عليك فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية فكان قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام عليك ) ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ ( السلام ) من الله تعالى ورد على سبيل التنكير كقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وقوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وفي القرآن من هذا الجنس كثير أما لفظ ( السلام ) بالألف واللام فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام كقول موسى عليه السلام قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ( مريم 15 ) وهذا السلام من الله تعالى وفي قصة عيسى عليه السلام قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) وهذا كلام عيسى عليه السلام فثبت بهذه الوجوه أن قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام(16/144)
عليك ) فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر فمنهم من قال الأصل فيها الشر وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان بل نزيد ونقول إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه بل قالوا هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر
إذا ثبت هذا فنقول دفع الشر أهم من جلب الخير ويدل عليه وجوه الأول أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد والثاني أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع لأن الأول فعل والثاني ترك وفعل ما لا نهاية له غير ممكن أما ترك ما لا نهاية له ممكن والثالث أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر وذلك يوجب حصول الألم والحزن وهو في غاية المشقة وأما إذا لم يحصل أيضاً إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر بل على السلامة الأصلية وتحمل هذه الحالة سهل فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام وهو أن يقول ( سلام عليكم ) ومن لطائف قولنا ( سلام عليكم ) أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة والأمر كذلك بحسب العقل وبحسب الشرع أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره كما قال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) والعقل أيضاً يدل عليه وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة فبعضها أرواح خيرة عاقلة وبعضها كدرة خبيثة وبعضها شهوانية وبعضها غضبية ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات تارة في اليقظة وتارة في النوم وأيضاً الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيراً فخير وأن شراً فشر وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوباً بتلك الأرواح المجانسة له فقوله ( سلام عليكم ) إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية ومن لطائف هذا الباب(16/145)
أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة وقويت وتجردت ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة الأنبياء ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ويقوي روحه يمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره ( سلام عليكم ) حدث بينهما تعلق شديد وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام والله أعلم
المسألة السادسة قوله ءانٍ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ قال الواحدي السكن في اللغة ما سكنت إليه والمعنى أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك وللمفسرين عبارات قال ابن عباس رضي الله عنهما دعاؤك رحمة لهم وقال قتادة وقار لهم وقال الكلبي طمأنينة لهم وقال الفراء إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم وأقول إن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة وترغيب كل العصاة في الطاعة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم قوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ وإن كان بصيغة الاستفهام إلا أن المقصود منه التقرير في النفس ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم
ثم زاده تأكيداً بقوله وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(16/146)
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَلَمْ يَعْلَمُواْ بالياء والتاء وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني أَلَمْ يَعْلَمُواْ قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية والثاني أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكم بصحة توبتهم قال ( الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم ) فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة قوله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ في فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم الله ثم قال عقيبه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ وفيه تنبيه على أن كونه إلهاً يوجب قبول التوبة وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين ويمتنع أيضاً أن يكون له شهوة إلى الطاعة ونفرة عن المعصية حتى يقال إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل فالمذنب لا يضر إلا نفسه والمطيع لا ينفع إلا نفسه كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فإن كان الإله رحيماً حكيماً كريماً ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل أو لمعارض أو لمباين
الفائدة الثانية في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيراً كان أو شراً
المسألة الرابعة قالت المعتزلة قبول التوبة واجب عقلاً على الله تعالى وقال أصحابنا قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان أما عقلاً فلا وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه الأول أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم فلو وجب قبول التوبة على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقاً للذم وهذا محال لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملاً بفعل القبول والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى محال الثاني أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقصان حال أما من كان متعالياً عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى الثالث أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية ولو كان ذلك واجباً لما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم
المسألة الخامسة عَنْ في قوله تعالى عَنْ عِبَادِهِ فيه وجهان الأول أنه لا فرق بين قوله عَنْ(16/147)
عِبَادِهِ وبين قوله من عباده يقال أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك والثاني قال القاضي لعل عَنْ أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت وأقول إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة عَنْ على هذا المعنى والذي أقوله إن كلمة عَنْ وكلمة ( من ) متقاربتان إلا أن كلمة عَنْ تفيد البعد فإذا قيل جلس فلان عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله عَنْ عِبَادِهِ يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعداً عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرة نفسه فلفظة عَنْ كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب
المسألة السادسة قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ فيه سؤال وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ ( خذها من أغنيائهم ) يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لما بين في قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أن الآخذ هو الرسول ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام
والجواب الثاني أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم ( الأنعام 60 ) وأضافه إلى ملك الموت وهو قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت وهو قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل وإلى أتباع ملك الموت يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت فكذا ههنا
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ تشريف عظيم لهذه الطاعة والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال ( إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد ) وقال عليه السلام ( والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله ولما روى الحسن هذين الخبرين قال ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(16/148)
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين فمن شاء أحرقه ومن شاء كسره ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهاً بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات وليس بموجد بالمشيئة والاختيار فقال الموجب بالذات إذا لم يكن عالماً بالخيرات ولم يكن قادراً على الإنفاع والإضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين فأي فائدة في عبادته فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول إله العالم موجب بالذات أما إذا كان فاعلاً مختاراً وكان عالماً بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة فقوله وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين فكأنه تعالى قال اجتهدوا في المستقبل فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده
المسألة الثانية دلت الآية على مسائل أصولية
الحكم الأول
إنها تدل على كونه تعالى رائياً للمرئيات لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد هي الإبصار والمعداة إلى مفعولين هي العلم كما تقول رأيت زيداً فقيهاً وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار وذلك يدل على كونه مبصراً للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) يدل على كونه تعالى مبصراً ورائياً للأشياء ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى(16/149)
المفعول الواحد معناها الإبصار فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار وإلى أعمال الجوارح كالحركات والسكنات فوجب كونه تعالى رائياً للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات فلما قيل له إن صح هذا الاستدلال فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القلوب فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وهم إنما يرون أفعال الجوارح فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب فدخول التخصيص في المعطوف لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال رؤية الله تعالى حاصلة في الحال والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أمر غير حاصل في الحال لأن السين تختص بالاستقبال فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال فقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ولمجيب أن يجيب عنه بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار وأنه غير جائز
المسألة الثالثة في قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سؤال وهو أن عملهم لا يراه كل أحد فما معنى هذا الكلام
والجواب معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل قال عليه السلام ( لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان )
فإن قيل فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين
قلنا فيه وجهان
الوجه الأول أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولاً ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين فكأنه قيل إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق وهو الرسول والمؤمنون
الوجه الثاني في الجواب ما ذكره أبو مسلم أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) الآية والرسول شهيد الأمة كما قال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد
ثم قال تعالى وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وفيه مسائل(16/150)
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسرونه والشهادة ما يظهرونه وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم وأقول أيضاً مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فوجب كون العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشهادة فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة
المسألة الثانية إن حملنا قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ على الرؤية فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ جارياً مجرى التفسير لقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ معناه بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا أو بإظهار أضدادها وقوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ معناه ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب
ثم قال فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر وقال حكماء الإسلام المراد من قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الإشارة إلى الثواب الروحاني وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعاً من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملاً لتلك المشاق عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة
وأما قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته وهذا نوع من العذاب الروحاني وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذراً منه والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب
وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاٌّ مْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه إذا أخرته وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله تعالى وقال الأوزاعي لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام
القسم الأول المنافقون الذين مردوا على النفاق(16/151)
القسم الثاني التائبون وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ وبين تعالى أنه قبل توبتهم
والقسم الثالث الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في هذه الآية والفرق بين القسم الثاني وبين هذا الثالث أو أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال كعب أنا أفره أهل المدينة جملاً فمتى شئت لحقت الرسول فتأخر أياماً وأيس بعدها من اللحوق به فندم على صنيعه وكذلك صاحباه فلما قدم رسول الله قيل لكعب اعتذر إليه من صنيعك فقال لا والله حتى تنزل توبتي وأما صاحباه فاعتذرا إليه عليه السلام فقال ( ما خلفكم عني ) فقالا لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فوقفهم الرسول بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير فأذن لها في ذلك خاصة وجاء رسول من الشأم إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم فقال كعب بلغ من خطيئتي أن طمع في المشركون قال فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره فلما مضى خمسون يوماً نزلت توبتهم بقوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ ( التوبة 117 ) وبقوله تعالى وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ ( التوبة 118 ) الآية وقال الحسن يعني بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ قوماً من المنافقين أرجأهم رسول الله عن حضرته وقال الأصم يعني المنافقين وهو مثل قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ أرجأهم الله فلم يخبر عنهم ما علمه منهم وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً فقال الله تعالى إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن كلمة ( إما ) و ( أما ) للشك والله تعالى منزه عنه وجوابه المراد منه ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذراً وآخرون يقولون عسى الله أن يغفر لهم
المسألة الثانية لا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو وتخلفهم عن الرسول عليه اسلام ثم إنه تعالى لم يحكم بكونهم تائبين بل قال إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أن الندم وحده لا يكون كافياً في صحة التوبة
فإن قيل فما تلك الشرائط
قلنا لعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة ولا مقبولة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية وعند ذلك صحت توبتهم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يعفو عن غير التائب وذلك لأنه قال في حق هؤلاء المذنبين إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين وهو إما التعذيب وإما التوبة وأما العفو عن الذنب من غير التوبة فهو قسم ثالث فلما أهمل الله تعالى ذكره دل على أنه باطل وغير معتبر(16/152)
والجواب أنا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين بل نقطع بحصول العفو في الجملة وأما في حق كل واحد بعينه فذلك مشكوك فيه ألا ترى أنه تعالى قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقطع بغفران ما سوى الشرك لكن لا في حق كل أحد بل في حق من يشاء فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء عدم العفو على الإطلاق وأيضاً فعدم الذكر لا يدل على العدم ألا ترى أنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) وهم المؤمنون وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 40 41 ) فههنا المذكورون إما المؤمنون وإما الكافرون ثم إن عدم ذكر القسم الثالث لم يدل عند الجبائي على نفيه فكذا ههنا
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراف فالأول على أنه بدل من قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ والثاني أن يكون التقدير ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً
المسألة الثانية قال الواحدي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي الله عنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارون به مسجد قباء وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة
الصفة الأولى ضراراً والضرار محاولة الضر كما أن الشقاق محاولة ما يشق قال الزجاج وانتصب قوله ضِرَارًا لأنه مفعول له والمعنى اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب قال وجائز أن يكون مصدراً محمولاً على المعنى والتقدير اتخذوا مسجداً ضروا به ضراراً
والصفة الثانية قوله وَكُفْراً قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد به ضرراً للمؤمنين وكفراً بالنبي عليه السلام وبما جاء به وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام
الصفة الثالثة قوله وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن(16/153)
المنافقين قالوا نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نصلي خلف محمد فإن أتانا فيه صلينا معه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة
والصفة الرابعة قوله وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قالوا المراد أبو عامر الراهب والد حنظلة الذي غسلته الملائكة وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاداه لأنه زالت رياسته وقال لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإن ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد قال الزجاج الإرصاد الانتظار وقال ابن قتيبة الإرصاد الانتظار مع العداوة وقال الأكثرون الإرصاد الأعداد قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) وقوله مِن قَبْلُ يعني من قبل بناء مسجد الضرار ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أن الله تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين
واعلم أن قوله وَالَّذِينَ محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن ذكرنا الذين
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قال المفسرون إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (16/154)
إلى غزوة تبوك قالوا يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال عليه السلام إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية فدعا بعض القوم وقال انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وخربوه ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة وقال الحسن هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاَ تَقُمْ فِيهِ نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه قال ابن جريج فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد وانهار في يوم الاثنين ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني
فإن قيل كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني
قلنا التعليل وقع بمجموع الأمرين أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة ومن الروافض من يقول بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة فزال هذا السؤال واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو قيل إنه مسجد قباء وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه والأكثرون أنه مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال سعيد بن المسيب المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام وذكر أن الرجلين اختلفا فيه فقال أحدهما مسجد الرسول وقال آخر قباء فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا وقال القاضي لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى هو كقول القائل لرجل صالح أحق أن تجالسه فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد
فإن قيل لم قال أحق أن تقوم فيه مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر
قلنا المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى للسبب المذكور
ثم قال تعالى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين أحدهما أنه بني على التقوى وهو الذي تقدم تفسيره والثاني إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا وفي تفسير هذه الطهارة قولان الأول المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه أولها أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه والثاني أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي والثالث أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ولم تحصل نظافة الظاهر(16/155)
كأن طهارة الباطن لها أثر فكان طهارة الباطن أولى الرابع روى صاحب ( الكشاف ) أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال ( أمؤمنون أنتم ) فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه السلام ( أترضون بالقضاء ) قالوا نعم قال ( أتصبرون على البلاء ) قالوا نعم قال ( أتشكرون في الرخاء ) قالوا نعم قال عليه السلام ( مؤمنون ورب الكعبة ) ثم قال ( يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء ) قالوا نتبع الماء الحجر فقرأ النبي عليه السلام فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ الآية
والقول الثاني أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار
والقول الثالث أنه محمول على كلا الأمرين وفيه سؤال وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز
والجواب أن لفظ النجس اسم للمستقذر وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير فإنه يزول السؤال ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول وهو كون المسجد مبنياً على التقوى فقال أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ وفيه مباحث
البحث الأول البنيان مصدر كالغفران والمراد ههنا المبني وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وقال الواحدي يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً لأنهم قالوا بنيانة في الواحد
البحث الثاني قرأ نافع وابن عامر أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على فعل ما لم يسم فاعله وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس أما قوله عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ أي للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه والرغبة في ثوابه كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله أما قوله مِن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم جُرُفٍ ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق
البحث الثاني قال أبو عبيدة الشفا الشفير وشفا الشيء حرفه ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الشيء هو الجرف وقوله هَارٍ قال الليث الهور مصدر هار الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه وهو جرف هار هائر فإذا سقط فقد انهار وتهور
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق(16/156)
الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه شَفَا جُرُفٍ هَارٍ كان مشرفاً على السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثالا وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم
ثم قال تعالى لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة وفي كونه سبباً للريبة وجوه الأول أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته الثاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم الثالث أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه الرابع بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد والصحيح هو الوجه الأول
ثم قال إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة أَن تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع فحذفت إحدى التاءين والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله وعن ابن كثير تُقَطَّعَ بفتح الطاء وتسكين القاف قُلُوبِهِمْ بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع وقوله تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي تجعل قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء فحينئذ تزول تلك الريبة والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق وقيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة وقرأ الحسن إِلَى أَن وفي قراءة عبد الله وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ وعن طلحة وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ على خطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو كل مخاطب
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والمعنى عليم بأحوالهم حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(16/157)
اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القرطبي لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) قالوا فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا قال ( الجنة ) قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية قال مجاهد والحسن ومقاتل ثامنهم فأغلى ثمنهم
المسألة الثانية قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك ولهذا قال الحسن اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة وحقيقة هذا أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه وينفق ماله في سبيل الله أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل فجعل هذا استبدالاً وشراء هذا معنى قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أي بالجنة وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش قال الحسن اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة وقال الصادق عليه الصلاة والسلام ( ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ) وقوله وَأَمْوالَهُمْ يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم وفي الآية لطائف
اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة والعفو عن الذنوب والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات
واللطيفة الثانية أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم والأمر في نفسه كذلك لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال بالجنة وهو التحقيق لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل وهو البدن والمال امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل والمال للإنفاق في طلب رضوان الله فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى والمولى على الدنيا والآخرة على الأولى فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة فالربح حاصل والهم والغم زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ(16/158)
ثم قال يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قوله يُقَاتَلُونَ فيه معنى الأمر كقوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وقيل جعل يُقَاتَلُونَ كالتفسير لتلك المبايعة وكالأمر اللازم لها قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين والباقون بتقديم الفاعل على المفعول أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وهو كقوله فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 146 ) أي ما وهن من بقي منهم واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا فمنهم من قال هو مختص بالجهاد بالمقاتلة لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ومنهم من قال كل أنواع الجهاد داخل فيه بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي رضي الله عنه ( لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم ولا فساد في ذاته إنما الفساد في الصفة القائمة به وهي الكفر والجهل ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه لا جرم حث الشرع على إبقائه فقال ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات فكان المقام الأول أولى وأفضل
ثم قال تعالى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ قال الزجاج نصب وَعْداً على المعنى لأن معنى قوله بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أنه وعدهم الجنة فكان وعداً مصدراً مؤكداً واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو
فالقول الأول أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن
والقول الثاني المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة كما بين في القرآن
والقول الثالث أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع
ثم قال تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ والمعنى أن نقض العهد كذب وأيضاً أنه مكر وخديعة وكل ذلك من القبائح وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها وقوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد من الله
ثم قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الآية مشتملة على(16/159)
أنواع من التأكيدات فأولها قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد والثاني أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد وثالثها قوله وَعْداً ووعد الله حق ورابعها قوله عَلَيْهِ وكلمة ( على ) للوجوب وخامسها قوله حَقّاً وهو التأكيد للتحقيق وسادسها قوله فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة وسابعها قوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وهو غاية في التأكيد وثامنها قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وهو أيضاً مبالغة في التأكيد وتاسعها قوله وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ وعاشرها قوله الْعَظِيمِ فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك الأعواض الرفيعة الشريفة ونحن نقول لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب وعندكم واجب والآية ساكتة عن بيان الوجوب
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الاٌّ مِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة وفيه مسألتان
المسألة الأولى في رفع قوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وجوه الأول أنه رفع على المدح والتقدير هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين في قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ هم التائبون الثاني قال الزجاج لا يبعد أن يكون قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وهذا وجه حسن لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين وإذا جعلنا قوله التَّائِبُونَ تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين الثالث التَّائِبُونَ مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله يُقَاتَلُونَ الرابع قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وقوله الْعَابِدُونَ إلى آخر الآية خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال وقرأ أبي وعبد الله التائبين بالياء إلى قوله والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ وفيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك نصباً على المدح الثاني أن يكون جراً صفة للمؤمنين(16/160)
المسألة الثانية في تفسير هذه الصفات التسعة
فالصفة الأولى قوله التَّائِبُونَ قال ابن عباس رضي الله عنه التائبون من الشرك وقال الحسن التائبون من الشرك والنفاق وقال الأصوليون التائبون من كل معصية وهذا أولى لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر وقد تكون من المعصية وقوله التَّائِبُونَ صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 )
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة أولها احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه وثانيها ندمه على ما مضى وثالثها عزمه على الترك في المستقبل ورابعها أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض فهو ليس من التائبين
والصفة الثانية قوله تعالى الْعَابِدُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ولابن عباس رضي الله عنهما أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية قال الحسن الْعَابِدُونَ هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء وقال قتادة قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم
الصفة الثالثة قوله الْحَامِدُونَ وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا وهم الملائكة لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى وهو دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) وهم المرادون بقوله والحامدون
الصفة الرابعة قوله الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وفيه أقوال
القول الأول قال عامة المفسرين هم الصائمون وقال ابن عباس كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام وقال النبي عليه الصلاة والسلام ( سياحة أمتي الصيام ) وعن الحسن أن هذا صوم الفرض وقيل هم الذين يديمون الصيام وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم وجهان الأول قال الأزهري قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم يمسك عن الأكل فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً الثاني أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة وترك المشتهي وهو الأكل والشرب والوقاع وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد(16/161)
على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات
والقول الثاني أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم وهو قول عكرمة وعن وهب بن منبه كانت السياحة في بني إسرائيل وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً فقال يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس فلا بد له من الصبر عليها وقد ينقطع زاده فيحتاج إلى التوكل على الله وقد يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين
والقول الثالث قال أبو مسلم السَّائِحُونَ السائرون في الأرض وهو مأخوذ من السيح سيح الماء الجاري والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات
الصفة الخامسة والسادسة قوله الركِعُونَ السَّاجِدونَ والمراد منه إقامة الصلوات قال القاضي وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة وهو قيامه وقعوده والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم
الصفة السابعة والثامنة قوله الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتاب كبير مذكور في علم الأصول فلا يمكن إيراده ههنا وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر بالله والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما دخول الواو في قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ففيه وجوه
الوجه الأول أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) فجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو
الوجه الثاني أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة ثم قال الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ والتقدير أن الموصوفين بالصفات الستة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه هو الجهاد فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا(16/162)
الوجه الثالث في إدخال الواو على هؤلاء وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ولا تعلق لشيء منها بالغير أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات فأدخل عليها الواو تنبيهاً على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة
الصفة التاسعة قوله وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين أحدهما ما يتعلق بالعبادات والثاني ما يتعلق بالمعاملات أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا بل لمصالح مرعية في الدين وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر وأما المعاملات فهي إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار
والقسم الأول وهو ما يتعلق بجلب المنافع فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية أما المنافع المقصودة بالأصالة فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة فأولها المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه ولما كان الطعام قد يكون نباتاً وقد يكون حيواناً والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح وكتاب الضحايا وثانيها الملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله وهو باب النكاح ومنه أيضاً باب الرضاع ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله وما لا يحل كاستعماله الأواني الذهبية والفضية وطال كلام الفقهاء في هذا الباب وثالثها المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ورابعها المسموعات وهو باب هل يحل سماعه أم لا وخامسها المشمومات وليس للفقهاء فيها مجال وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال والبحث عنها من ثلاثة أوجه الأول الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره أما البيع فهو إما بيع الأعيان أو بيع المنافع وبيع الأعيان فأما أن يكون بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وقيل إنه لا يجوز لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالىء بالكالىء ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة وكتاب الجعالة وكتاب عقد المضاربة وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخد الفيء والغنائم وأخذ الزكوات وغيرها ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء
والنوع الثاني من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما
والنوع الثالث الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار(16/163)
فنقول أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الإرش وأما المضار الحاصلة في الأموال فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة وأما المضار الحاصلة في الأديان فهي إما الكفر وإما البدعة أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ويدخل فيه أيضاً باب حد القذف وباب اللعان وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه لأنه ربما كان ضعيفاً فلا يلتفت إليه خصمه فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيد الأحكام ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولاً على الغير إلا بالحجة فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية فقال وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وهو يتناول جملة هذه التكاليف
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك فإن أعمال المكلفين قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم ينصفوا لها كتباً وأبواباً وفصولاً ولم يبحثوا عن دقائقها ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ فذكر هذه الصفات التسعة ثم ذكر عقيبها قوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ تنبيهاً على أن البشارة المذكورة في قوله فَاسْتَبْشِرُواْ لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات
فإن قيل ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة
قلنا لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة لطلب العلم والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضاً فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا(16/164)
القسم على سبيل التفصيل وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال
مَا كَانَ لِلنَّبِى ِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم كما أوجبت البراءة عن أحيائهم والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام ( أي أبويه أحدث به عهداً ) قيل أمك فذهب إلى قبرها ووقف دونه ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ثم زرت وبكيت فقال قد أذن لي فيه فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها الثاني روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ( يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت هذه الآية قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ قال الواحدي وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يفعل ذلك ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه فهذا غير مستبعد في الجملة الثالث يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الرابع يروى أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضيف ويمنح من ماله وأي أبي فقال أمات مشركاً قال نعم قال في ضحضاح من النار فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال ( إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار )(16/165)
المسألة الثانية قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي فالأول معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين والثاني معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وأيضاً قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز وأيضاً لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته وأيضاً أنه قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئاً بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله واحتج عليه بقول أهل النار رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك وهذا في غاية البعد من وجوه الأول أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون وذلك ممنوع بل نص القرآن يبطله وهو قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 24 ) والثاني أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز لأنه يوجب نقصان منصبه والثالث أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثاً أو معصية وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى وكون سبب النزول ما حكينا يقوي هذا الذي قلناه
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه والثاني أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى الثالث أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس والمقصود أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً فكأنه قيل إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفاً بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى
المسألة الثانية دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه قال تعالى حكاية عنه وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 )(16/166)
وأيضاً قال عنه رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ ( إبراهيم 41 ) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال أيضاً لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( التوبة 114 ) وفيه قولان الأول أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام والمعنى أن أباه وعده أن يؤمن فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه وترك ذلك الاستغفار الثاني أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن وَعَدَهَا أَبَاهُ بالباء ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين
الوجه الأول المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة فهذا هو الاستغفار فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصراً على الكفر ترك تلك الدعوة
والوجه الثاني في الجواب أن من الناس من حمل قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) على صلاة الجنازة وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين وهو قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ( التوبة 84 ) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ومنه من الصلاة على المشركين سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك وهذا قول غريب
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله فقال بعضهم بالإصرار والموت وقال بعضهم بالإصرار وحده وقال آخرون لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي وعند ذلك تبرأ منه فكان تعالى يقول لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه فكونوا كذلك لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( النساء 125 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة قال إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ وللمفسرين فيه عبارات روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الأواه الخاشع المتضرع ) وعن عمر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الأواه فقال ( الدعاء ) ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه فأنكر عمر فقال عليه الصلاة والسلام ( دعها فإنها أواهة ) قيل يا رسول الله وما الأواهة قال ( الداعية الخاشعة المتضرعة ) وقيل معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها كلما ذكر(16/167)
لنفسه تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً له وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأواه المؤمن بالخشية وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لما ظهر له إصراره على الكفر فأنتم بهذا المعنى أولى وكذلك وصفه أيضاً بأنه حليم لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما منه المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين وأيضاً فإن أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه فهذا وجه حسن في النظم وقيل المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين ووجوب مباينتهم والاحتراز عن موالاتهم فكأنه قيل إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواماً بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة وفي قوله تعالى لِيُضِلَّ وجوه الأول أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه والثاني قالت المعتزلة المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال واحتجوا بقول الكميت وطائفة قد أكفروني بحبكم(16/168)
وقال أبو بكر الأنباري هذا التأويل فاسد لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا ضلل يضلل واحتجاجهم ببيت الكميت باطل لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل وليس كل موضع صح فيع فعل صح أفعل ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره ولا يجوز أن يقال أكسره بل يجب فيه الرجوع إلى السماع
والوجه الثالث في تفسير الآية وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحاً ومنهياً عنه وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات وهو قوله أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وبأنه قادر على كل الممكنات وهو قوله لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله فكان التقدير أن من كان عالماً قادراً هكذا لم يكن محتاجاً والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان وإزالة العذر قبيح فوجب أن لا يفعله الله تعالى فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه وهذا يقتضي أنه يقبح من الله تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به
والجواب أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين وإزالة العذر وإزاحة العلة وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب
ثم قال تعالى لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله في ذكر هذا المعنى ههنا فوائد إحداها أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصراً لكم فهم لا يقدرون على إضراركم وثانيها أن القوم من المسلمين قالوا لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم وثالثها أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيداً لي
لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاٌّ نصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(16/169)
اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين على ما سيجيء شرحها وهذا يوجب الثناء فكيف يليق بها قوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ
والجواب من وجوه الأول أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل وهو المشار إليه بقوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار ولست أقول عزموا عليه بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
والوجه الثاني في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد والمحن أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها فلهذا السبب قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الثالث في الجواب أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر وكانت الوساوس تقع في قلوبهم فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الرابع لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة
المسألة الثانية في المراد بساعة العسرة قولان
القول الأول أنها مختصة بغزوة تبوك والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته قال جابر حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد أما عسرة(16/170)
الظهر فقال الحسن كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وأما عسرة الزاد فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وأما عسرة الماء فقال عمر خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة ومن خرج فيها فهو جيش العسرة وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
والقول الثاني قال أبو مسلم يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى وَإِذَا زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) وقوله لَقَدِ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ( آل عمران 152 ) الآية والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول فاعل كَادَ يجوز أن يكون قُلُوبٍ والتقدير كاد قلوب فريق منهم تزيغ ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن والمعنى كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة
البحث الثاني قرأ حمزة وحفص عن عاصم يَزِيغُ بالياء لتقدم الفعل والباقون بالتاء لتأنيث قلوب وفي قراءة عبد الله مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ
البحث الثالث كَادَ عند بعضهم تفيد المقاربة فقط وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم فقيل هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول لكنه صبر واحتسب فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير وقال الأخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
فإن قيل ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة والمقصود منه تعظيم شأنهم
والوجه الثاني أنه إذا قيل عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة ) وهذا معنى قول ابن عباس في قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا(16/171)
والوجه الثالث أنه قال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ثم إنه تعالى زاد عليه فقال مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس
ثم قال تعالى إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة وقيل إحداهما للرحمة السالفة والأخرى للمستقبلة
وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام كان ذلك دليلاً على تعظيمه وإجلاله وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك
المسألة الثانية إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوهاً أحدها أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه وثانيها لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال خلفهم الرسول وثالثها أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة قول الله تعالى في حقنا وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا ليشير به إلى قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ(16/172)
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء خُلّفُواْ أي خلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرأ جعفر الصادق خالفوا وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين
المسألة الرابعة هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع وللناس في هذه القصة قولان
القول الأول أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال الحسن كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفعل وكان للثاني أهل فقال يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل والثالث ما كان له مال ولا أهل فقال مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلحقوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي حبس كعباً ) فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وأنزل قوله وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ فعند ذلك خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال ( الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا ) فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعب توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال ( لا ) قلت فنصفه قال ( لا ) قلت فثلثه قال ( نعم ) واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى قوله حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ قال المفسرون معناه أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً وقيل أكثر ومعنى وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ تقدم تفسيره في هذه السورة
والصفة الثانية قوله وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء ونظر الناس لهم بعين الإهانة
الصفة الثالثة قوله وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) ومن الناس من قال معنى قوله وَظَنُّواْ أي علموا كما في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) والدليل عليه أنه تعالى ذكر(16/173)
هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه وقال آخرون وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث قال ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار والتقدير حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب عليهم ثم تاب عليهم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك
فإن قيل فما معنى قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ
قلنا فيه وجوه الأول قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يدل على أن التوبة فعل الله وقوله لِيَتُوبُواْ يدل على أنها فعل العبد فهذا صريح قولنا ونظيره فَلْيَضْحَكُواْ مع قوله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وقوله كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مع قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقوله هُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ مع قوله قُلْ سِيرُواْ والثاني المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل والثالث أصل التوبة الرجوع فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك الرابع ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ أي ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها الخامس ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلاً قالوا لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوماً أو أكثر ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً لما جاز ذلك
أجاب الجبائي عنه بأن قال يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر لكنه يقال أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره وأيضاً لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة بل كان على سبيل التشديد في التكليف قال القاضي وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب فالذي يجري عليهم وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين
والجواب أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وكلمة ثُمَّ للتراخي فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولاً عن الظاهر من غير دليل(16/174)
فإن قالوا الموجب لهذا العدول قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ
قلنا صيغة يقبل للمستقبل وهو لا يفيد الفور أصلاً بالإجماع ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم لا لأجل الوجوب وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلاً على الله قبول التوبة
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فقال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد بقوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أي كونوا على طريقة الصادقين كما أن الرجل إذا قال لولده كن مع الصالحين لا يفيد إلا ذلك سلمنا ذلك لكن نقول إن هذا الأمر كان موجوداً في زمان الرسول فقط فكان هذا أمراً بالكون مع الرسول فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة
والجواب عن الأول أن قوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أمر بموافقة الصادقين ونهى عن مفارقتهم وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فدلت هذه الآية على وجود الصادقين وقوله إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين فنقول إنه عدول عن الظاهر من غير دليل قوله هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام
قلنا هذا باطل لوجوه الأول أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة فكان الأمر في هذا التكليف كذلك والثاني أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء والثالث لما لم يكن الوقت المعين مذكوراً في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حمله على الباقي فأما أن لا يحمل على شيء من الأوقات فيفضي إلى التعطيل وهو باطل أو على الكل وهو المطلوب والرابع وهو أن قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ أمر لهم بالتقوى وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقياً وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن(16/175)
كان واجب العصمة وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان فوجب حصوله في كل الأزمان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان
قلنا نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان إلا أنا نقول ذلك المعصوم هو مجموع الأمة وأنتم تقولون ذلك المعصوم واحد منهم فنقول هذا الثاني باطل لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق وأنه لا يجوز لكنا لا نعلم إنساناً معيناً موصوفاً بوصف العصمة والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة فثبت أن قوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ليس أمراً بالكون مع شخص معين ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك
المسألة الثانية الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه الأول روي أن واحداً جاء إلى النبي عليه السلام وقال إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك فقال عليه السلام ( اترك الكذب ) فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر فقال إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي وتاب عن الكل الثاني روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت الثالث قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس فالمسلم أولى أن يستنكف منه الرابع من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو فقال أصحابنا المقتضي بقبحه هو كونه مخلاً لمصالح العالم ومصالح النفس وقالت المعتزلة المقتضى لقبحه هو كونه كذباً ودليلنا قوله تعالى رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الحجرات 6 ) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذباً فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذباً لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد واحتج القاضي(16/176)
على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحاً ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر الله تعالى به إذا كان مصلحة وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلاً لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح فلو فرضتم كون الإنسان خالياً عن هذه العادة وفرضتم استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية إنكم تثبتون امتناع الكذب على الله تعالى بكونه قبيحاً لكونه كذباً فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن الله لزم الدور وهو باطل
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاٌّ عْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه فقال مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ والأعراب الذين كانوا حول المدينة مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار هكذا قاله ابن عباس وقيل بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام والتخصيص تحكم وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول الله في الحر والمشقة وقوله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه وتركته وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه والمعنى ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه(16/177)
واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضاً بقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وأيضاً بقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( النور 61 الفتح 17 ) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصاً من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت هذا العموم
واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند الله تعالى ثم إنه ذكر أموراً خمسة أولها قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه وثانيها قوله وَلاَ نَصَبٌ ومعناه الإعياء والتعب وثالثها وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال فلان خميص البطن ورابعها قوله وَلاَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد أي أغضبه وخامسها قوله وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً أي أسراً وقتلاً وهزيمة قليلاً كان أو كثيراً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية واختلفوا فقال قتادة هذا الحكم من خواص رسول الله إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر وقال ابن زيد هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون وادياً والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكاً للسيل والجمع الأودية إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير
ثم قال لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه وجهان الأول أن الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح والله تعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح والثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة ً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة ٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَة ٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(16/178)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن أن يقال هذه الآية من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد
أما الاحتمال الأول نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين تبقى طائفة في خدمة الرسول وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار وأيضاً كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قسمين أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد والثاني يكونون مقيمين بحضرة الرسول فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين في التفقه وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين
إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان أحدهما أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار والتقدير فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم
والاحتمال الثاني هو أن يقال التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والشك والنفاق فهذا القول أيضاً محتمل وطعن القاضي في هذا القول قال لأن هذا الحس لا يعد فقهاً في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم وقويت شوكتهم فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من الله تعالى وليس من البشر إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم فالتنبه لفهم هذه الدقائق(16/179)
واللطائف لا شك أنه تفقه
وأما الاحتمال الثالث وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة ثم أمر الجهاد وهما عبادتان بالسفر بين أيضاً عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر فقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له
ثم قال فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ يعني من الفرق الساكنين في البلاد طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم
فإن قيل أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان
قلنا متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجباً إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلاً على السفر لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر
المسألة الثانية في تفسير الألفاظ المذكورة في هذه الآية ( لولا ) إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل هلا وإنما جاز أن يكون لولا بمعنى هلا لأن هلا كلمتان هل وهو استفهام وعرض لأنك إذا قلت للرجل هل تأكل هل تدخل فكأنك عرضت ذلك عليه و ( لا ) وهو جحد فهلا مركب من أمرين العرض والجحد فإذا قلت هلا فعلت كذا فكأنك قلت هل فعلت ثم قلت معه ( لا ) أي ما فعلته ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب وهكذا الكلام في ( لولا ) لأنك إذا قلت لولا دخلت علي ولولا أكلت عندي فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به لو فعل وهكذا الكلام في ( لوما ) ومنه قوله مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فثبت أن لولا وهلا ولوما ألفاظ متقاربة والمقصود من الكل الترغيب والتحضيض فقوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ أي فهلا فعلوا ذلك
المسألة الثالثة هذه الآية حجة قوية لمن يرى أن خبر الواحد حجة وقد أطنبنا في تقريره في كتاب ( المحصول من الأصول ) والذي نقوله ههنا أن كل ثلاثة فرقة وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحداً فوجب أن يكون الطائفة إما اثنين وإما واحداً ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم لأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ عبارة عن أخبارهم وقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب على قومهم أن يعلموا بأخبارهم وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع قال القاضي هذه الآية لا تدل على وجوب العمل بخبر الواحد لأن الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة ولأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول كما أن الشاهد الواحد يلزمه الشهادة وإن لم يلزم القبول ولأن الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به(16/180)
والجواب أما قوله الطائفة قد تكون جماعة فجوابه أنا بينا أن كل ثلاثة فرقة فلما أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة لزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً وذلك يبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم
فإن قالوا إنه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ولعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم
قلنا إنه تعالى أوجب على كل طائفة أن يرجعوا إلى قومهم وذلك يقتضي رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ثم إنه تعالى أوجب العلم بقول تلك الطائفة وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول فنقول إنا لا نتمسك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله وَلِيُنذَرُواْ بل بقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ترغيب منه تعالى في الحذر بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار وبهذا الجواب خرج الجواب عن سؤاله الثالث وهو قوله الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة ثم إنها صارت منسوخة بقوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً ( التوبة 36 ) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب منتقلاً إلى الأبعد فالأبعد ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق وإنما قلنا إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه الأول أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع وجب الترجيح(16/181)
والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم فوجب الابتداء بالأقرب والثاني أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل الثالث أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة الرابع أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر فكان الابتداء بهم أولى الخامس أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم السادس أن دار الإسلام واسعة فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل وحصول المقصود أيسر السابع أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه والقرب سبب السهولة فوجب الابتداء بالأقرب الثامن أنا بينا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب وفي الغزو بالأقرب فالأقرب وفي جميع المهمات كذلك فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له ( كل مما يليك ) فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب
فإن قيل ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً
قلنا ذاك احتمال واحد وما ذكرنا احتمالات كثيرة ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد أما إذا أمكن الجمع بين الكل فلا كلام في أن الأولى هو الجمع فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة
وأما قوله تعالى وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً قال الزجاج فيها ثلاث لغات فتح الغين وضمها وكسرها قال صاحب ( الكشاف ) الغلظة بالكسر الشدة العظيمة والغلظة كالضغطة والغلظة كالسخطة وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم ونظيره قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقوله وَلاَ تَهِنُواْ ( آل عمران 139 النساء 104 ) وقوله في صفحة الصحابة رضي الله عنهم أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ( الفتح 29 ) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظاً
واعلم أن الغلظة ضد الرقة وهي الشدة في إحلال النقمة والفائدة فيها أنها أقوى تأثيراً في الزجر والمنع عن القبيح ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطرداً بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف ولهذا السبب قال وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم فقوله وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً يدل على تقليل الغلظة كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة(16/182)
واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين وذلك إما بإقامة الحجة والبينة وإما بالقتال والجهاد فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا
ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة فقال وإذا ما أنزلت سورة فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيماناً واختلفوا فقال بعضهم يقول بعض المنافقين لبعض ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق وقال آخرون بل يقولونه لأقوام من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان وقال آخرون بل ذكروه على وجه الهزؤ والكل محتمل ولا يمكن حمله على الكل لأن حكاية الحال لا تفيد العموم ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران وحصل للكافرين أيضاً أمران أما الذي حصل للمؤمنين فالأول هو أنها تزيدهم إيماناً إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند الله والكلام في زيادة الإيمان ونقصانه قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء والثاني ما يحصل لهم من الاستبشار فمنهم من حمله على ثواب الآخرة ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين فقال وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني المنافقين فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإن كال الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة
والأمر الثاني أنهم يموتون على كفرهم فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه واحتج أصحابنا بقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه قالوا إنه تعالى كان عالماً بأن سماع هذه السورة يورث حصول(16/183)
الحسد والحقد في قلوبهم وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيماناً فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم
قلنا لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة يوجب الكفر والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد فلا يمكنه إزالتها عن نفسه وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير والفعل غير والخلق غير فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفراً على كفره فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجساً على رجس فكان إنزالها سبباً في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر
بقي في الآية مباحث الأول ما في قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ صلة مؤكدة الثاني الاستبشار استدعاء البشارة لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة الثالث قوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يدل على أن الروح لها مرض فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة والله أعلم
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّة ً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ
اعلم أن الله تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون وذلك يدل على عذاب الآخرة بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَوْ لاَ تَرَوْنَ بالتاء على الخطاب للمؤمنين والباقون بالياء خبراً عن المنافقين فعلى قراءة المخاطبة كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر ومن قرأ على المغايبة كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله أَوْ لاَ يَرَوْنَ هذه ألف الاستفهام دخلت على واو العطف فهو متصل بذكر المنافقين وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء(16/184)
المعنى أنه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا
المسألة الثالثة ذكروا في هذه الفتنة وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً من الله فيصير ذلك سبباً لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند الله الثاني قال مجاهد يُفْتَنُونَ بالقحط والجوع الثالث قال قتادة يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة الرابع قال مقاتل يفضحهم رسول الله بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها ويعظهم فما كانوا يتعظون ولا ينزجرون
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم وسمعوها تأذوا من سماعها ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد أي لو رآكم من أحد وهذا فيه وجوه الأول أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر فعند ذلك قالوا هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جداً والثاني أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها فأرادوا الخروج من المسجد فقال بعضهم لبعض هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يعني إن رأوكم فلا تخرجوا إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد لتتخلصوا عن هذا الإيذاء والثالث هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يمكنكم أن تقولوا نحبه فوجب علينا الخروج من المسجد قال تعالى ثُمَّ انصَرَفُواْ يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن ويجوز أن يراد به ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم
فإن قيل ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً(16/185)
قلنا في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ وطلبوا الفرار
ثم قال تعالى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم وقال الزجاج أضلهم الله تعالى قالت المعتزلة لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال أَنَّى يُصْرَفُونَ وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان قال القاضي ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة لأنه لو كان كذلك لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول ثم قال هذا الصرف يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد الثاني صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى
والجواب أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جداً وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل بل هومن الله تعالى فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر وذلك الحصول من الله تعالى وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم لكن قولوا قد قضينا الصلاة وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير فإنه تعالى قال فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 )
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف وهو أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو(16/186)
عائد إليكم وأيضاً فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق وأن الأب مشفق صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان فكذا ههنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند الله فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير ثم قال للرسول عليه السلام فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ وفي تفسيره وجوه الأول يريد أنه بشر مثلكم كقوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) وقوله إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( فصلت 6 ) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس على ما مر تقريره في سورة الأنعام والثاني مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من العرب قال ابن عباس ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات مضرها وربيعها ويمانيها فالمضريون والربيعيون هم العدنانية واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته كأنه قيل لهم كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم لأنه منكم ومن نسبكم والثالث مّنْ أَنفُسِكُمْ خطاب لأهل الحرم وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه
والقول الرابع أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم وقرىء مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من أشرفكم وأفضلكم وقيل هي قراءة رسول الله وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما
الصفة الثانية قوله تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد والعزة هي الغلبة والشدة فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع فحيث لم يدفعها علم أنه كان عاجزاً عن دفعها وأنها كانت غالبة على الإنسان فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال عز علي هذا وأما العنت فيقال عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها ومنه قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) وقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) وقال الفراء مَا في قوله مَا عَنِتُّمْ في موضع رفع والمعنى عزيز عليه عنتكم أي يشق عليه مكروهكم وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه(16/187)
والصفة الثالثة قوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ معناه شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم وبهذا التقدير لا يحصل التكرار قال الفراء الحريص الشحيح ومعناه أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وهذا بعيد لأنه يوجب الخلو عن الفائدة
والصفة الرابعة والخامسة قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما سماه الله تعالى باسمين من أسمائه بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يكون كذلك وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى
قلنا قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق والمعنى أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد ويفوزوا بالثواب المؤبد
السؤال الثاني لما قال عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فهذا النسق يوجب أن يقال رؤوف رحيم بالمؤمنين فلم ترك هذا النسق وقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ
الجواب أن قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
أما قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يريد المشركين والمنافقين ثم قيل تَوَلَّوْاْ أي أعرضوا عنك وقيل تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة وقيل تولوا عن نصرتك في الجهاد واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه
ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه(16/188)
فإن قالوا العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى
قلنا وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود و النصارى ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله الْعَظِيمِ بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه قال أبو بكر وهذه القراءة أعجب لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار وإن جعلناه صفة لله سبحانه كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض وكمال العلم والقدرة وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام وقال الحسن هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن وما أنزل بعدهما قرآن وقال أبي بن كعب أحدث القرآن عهد بالله عز وجل هاتان الآيتان وهو قول سعيد بن جبير ومنهم من يقول آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 )
ونقل عن حذيفة أنه قال أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه والله ما تقرؤن ربعها
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا خفاء أن القول به باطل والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده
وهذا آخر تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجميعن(16/189)
بداية الجزء السابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(17/2)
سورة يونس
مكية
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه السورة مكية إلا قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فإنها مدنية نزلت في اليهود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
قوله جل جلاله الر وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وعاصم الر بفتح الراء على التفخيم وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر بكسر الراء على الإمالة وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم بين الفتح والكسر واعلم أن كلها لغات صحيحة قال الواحدي الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف
المسألة الثانية اتفقوا على أن قوله الر وحده ليس آية واتفقوا على أن قوله طه وحده آية والفرق أن قوله الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله طه فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده
المسألة الثالثة الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضاً بعض ما قيل قال ابن عباس الر معناه أنا الله أرى وقيل أنا الرب لا رب غيري وقيل الر و حم و ن اسم الرحمن
قوله تعالى تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تِلْكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات ويحتمل أن(17/3)
يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن وأيضاً فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب كما قال تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 77 78 ) وقال تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) وقال وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 ) وقال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 )
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يقال المراد من لفظة تِلْكَ الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة الر هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء
الاحتمال الثاني أن يقال المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا تِلْكَ إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال وهو أن تِلْكَ يشار بها إلى الغائب وآيات هذه السورة حاضرة فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ تِلْكَ
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
الاحتمال الثالث والرابع أن يقال لفظ تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن والمراد بها هي آيات القرآن الحكيم والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى وفي الآية قولان آخران أحدهما أن يكون المراد من الْكِتَابِ الْحَكِيمِ التوراة والإنجيل والتقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل والمعنى أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بالتوراة والإنجيل فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمداً بإنزال الوحي عليه والثاني وهو قول أبي مسلم أن قوله الر إشارة إلى حروف التهجي فقوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالاً
المسألة الثانية في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه الأول أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة الثاني أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به قال الأعشى وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث قال الأكثرون الْحَكِيمُ بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ( البقرة 213 ) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها(17/4)
وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ليست إلا القرآن الرابع أن الْحَكِيمُ بمعنى المحكم والأحكام معناه المنع من الفساد فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض الخامس قال الحسن وصف الكتاب بالحكيم لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه فعلى هذا الْحَكِيمُ يكون معناه المحكوم فيه السادس أن الْحَكِيمُ في أصل اللغة عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب فكان وصف القرآن به مجازاً ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالرسالة والوحي فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه الأول قوله تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء يُرَادُ ( ص 5 و 6 ) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحداً لم يبعد أيضاً أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة ا والثاني أن أهل مكة كانوا يقولون إن الله تعالى ما وجد رسولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالبا والثالث أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين أحدهما أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشراً رسولاً كما حكي عن الكفار أنهم قالوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) والثاني أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيراً يتيماً فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ فإن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار لأن يكون ذلك عجباً وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه الأول أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمراً غير ممتنع بل كان مجوزاً في العقول الثاني أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى ( الأعلى 14 15 )(17/5)
ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به إلا إذا أرسل إليهم رسولاً ومنبهاً فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول وإذا كان ذلك واجباً فكيف يتعجب منه الثالث أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئاً من أزمنة وجود المكلفين منه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ( يوسف 109 ) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير ويؤكده قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ الأعراف 59 ) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام الرابع أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلاً عرفوا نسبه وعرفوا كونه أميناً بعيداً عن أنواع التهم والأكاذيب ملازماً للصدق والعفاف ثم إنه كان أمياً لم يخالط أهل الأديان وما قرأ كتاباً أصلاً ألبتة ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم وذلك يدل على كونه صادقاً مصدقاً من عند الله ويزيل التعجب وهو من قوله هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( الجمعة 2 ) وقال وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ( العنكبوت 48 ) الخامس أن مثل هذا التعجب كان موجوداً عند بعثة كل رسول كما في قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( لأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) إلى قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ ( الأعراف 63 ) السادس أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولاً من البشر أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة
أما الأول فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها
وإذا ثبت هذا فنقول الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى كما قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقال قُل لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( الإسراء 95 )
وأما الثاني فبعيد لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بصفات الخير والتقوى والأمانة وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيماً فقيراً وهذا في غاية البعد لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سبباً لنقصان الحال عنده ولا أن يكون الغنى سبباً لكمال الحال عنده كما قال تعالى وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة كلام فاسد
المسألة الثانية الهمزة في قوله أَكَانَ لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و أَنْ أَوْحَيْنَا اسم كان وعجباً خبره وقرأ ابن عباس عجب فجعله اسماً وهو نكرة و عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا خبره وهو معرفة كقوله يكون مزاجها عسل وماء والأجود أن تكون ( كان ) تامة وأن أوحينا بدلاً من عجب
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ولم يقل أكان عند الناس عجباً والفرق أن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليها وليس في قوله ( أكان عند الناس عجباً ) هذا المعنى
المسألة الرابعة ءانٍ مع الفعل في قولنا أَنْ أَوْحَيْنَا في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره هو(17/6)
قوله عَجَبًا وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون الأهم والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم وأما ءانٍ في قوله أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس
المسألة الخامسة أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي
المسألة السادسة قوله قَدَمَ صِدْقٍ فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في ( البسيط ) منها وجوهاً قال الليث وأبو الهيثم القدم السابقة والمعنى أنهم قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى القدم كل ما قدمت من خير وقال ابن الأنباري القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد
فإن قيل فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه قَدَمَ صِدْقٍ
قلنا الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة وقال بعضهم المراد مقام صدق وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل قَدَمَ صِدْقٍ على الأعمال الصالحة وبعضهم حمله على الثواب ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد صل لذي العرش واتخذ قدما
بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر والابتداء بقوله قَالَ الْكَافِرُونَ على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين قال القفال وإضمار هذا غير قليل في القرآن
المسألة الثامنة قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ والمراد منه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والباقون لَسَاحِرٌ والمراد به القرآن
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم وكونه معجزاً وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة فاحتاجوا إلى هذا الكلام
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم(17/7)
ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة ولا حاصل له وقال أخرون أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه وإنما قلنا إنه في غاية الفساد لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان منهم ونشأ بينهم وما غاب عنهم وما خالط أحداً سواهم وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء حتى يقال إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن وإذا كان الأمر كذلك كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد فلهذا السبب ترك جوابه
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين أحدهما إثبات أن لهذاالعالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً لحكم بالأمر والنهي والتكليف والثاني إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين
أما الأول وهو إثبات الإلهية فبقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
وأما الثاني وهو إثبات المعاد والحشر والنشر فبقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس 4 ) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ونهاية الكمال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة وهي إمكان الذوات وإمكان الصفات وحدوث الذوات وحدوث الصفات وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب وتارة في العالم السفلي والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي وتارة في أحوال العالم السفلي والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها وتقريره من وجوه الأول أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر
أما بيان المقام الأول فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية وقد دللنا في الكتب(17/8)
العقلية على أن كل ما كان قابلاً للقسمة الوهمية فإنه يكون مركباً من الأجزاء والأبعاض ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ولكنه يكون في نفسه شيئاً واحداً كلام فاسد باطل فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم وبعضها حصلت على سطحها وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع
وإذا ثبت هذا فنقول حصول بعضها في الداخل وحصول بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت يجوز أن ينقلب الظاهر باطناً والباطن ظاهراً وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم
الوجه الثاني في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول حركات هذه الأفلاك لها بداية ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر
أما المقام الأول فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزل ينافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً فثبت أن لحركات الأفلاك أولاً وإذا ثبت هذا وجب أن يقال هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة وساكنة وما كانت متحركة وعلى التقديرين فلحركاتها أول وبداية
( وأما المقام الثاني ) وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وترجيح مرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجباً بالذات وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلاً قبل ذلك الوقت ولما بطل هذا ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب
الوجه الثالث في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ولا بد له من مرجح ويعود التقرير الأول فيه فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أن كلمة الَّذِى كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كما إذا قيل لك من زيد فتقول الذي أبوه منطلق فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقاً أمراً معلوماً عند السامع فهنا لما قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام أمراً معلوماً عند السامع والعرب ما كانوا عالمين بذلك فكيف يحسن هذا التعريف(17/9)
وجوابه أن يقال هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة ولما كان ذلك مشهوراً عندهم والعرب كانوا يخالطونهم فالظاهر أنهم أيضاً سمعوه منهم فلهذا السبب حسن هذا التعريف
السؤال الثاني ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها
والجواب أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً وهو محال وإن كان شيئاً آخر فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان الأول قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح وعلى هذا القول يسقط قول من يقول لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة فسقط هذا السؤال الثاني قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة فعند هذا قال القاضي لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين ثم قال القاضي
فإن قيل فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ثم أجاب وقال أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين أو معهما وإلا لكان خلقهما عبثاً
فإن قيل فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ا
قلنا إنه تعالى لا يخاف الفوت فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ونخاف العجز والقصور قال وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض
فإن قيل أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان فقبل خلق السموات والأرض لا مكان فكيف يمكن وجودهم بلا مكان
قلنا الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى والدليل عليه أن ما يحدث على هذا الوجه فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك(17/10)
والسؤال الثالث فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون
والجواب قال القاضي الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلا والمدة هذه الأيام المعلومة
ولقائل أن يقول لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف
السؤال الرابع هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها وهذا المعنى مفقود قبل خلقها فكيف يعقل هذا التعريف
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام
ولقائل أن يقول فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم يحصل فيها حدوث العالم وذلك يوجب قدم المدة
وجوابه أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم
السؤال الخامس أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته وقد يراد به النهار وحده فالمراد بهذه الآية أيهما
والجواب الغالب في اللغة أنه يراد باليوم اليوم بليلته
المسألة الثانية أما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ففيه مباحث الأول أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة فنقول هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه بحيث لولا العرش لسقط ونزل كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش وإنه لولا العرش لسقط ونزل وذلك محال لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له والثاني أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال وكل من كان متغيراً كان محدثاً وذلك بالاتفاق باطل الثالث أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظرباً متحركاً وكل ذلك من صفات المحدثات الرابع أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من(17/11)
الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش
إذا ثبت هذا فنقول العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره فيه قولان
القول الأول وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس المراد منه ذلك بل المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً قال تعالى وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( النحل 68 ) أي يبنون وقال في صفة القرية فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( الحج 45 ) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها وقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) أي بناؤه وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ( الزخرف 12 13 ) قال أبو مسلم فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه فنقول وجب حمل اللفظ عليه ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد والعرش الذي في السماء ليس كذلك وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً ثم قال ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى تخليق ذواتها وقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( النازعات 27 28 ) فذكر أولاً أنه بناها ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها وكذلك ههنا ذكر بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها
والقول الثاني وهو القول المشهور لجمهور المفسرين أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية الجسم العظيم الذي في السماء وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر وهو أن يكون المراد ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش
والقول الثالث أن المراد من العرش الملك يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه(17/12)
المخلوقات والكائنات والحاصل أن العرش عبارة عن الملك وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض لا جرم صح إدخال حرف ثُمَّ الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة أما قوله يُدَبّرُ الاْمْرَ معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي والمراد من الاْمْرُ الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض
فإن قيل ما موقع هذه الجملة
قلنا قد دل بكونه خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستوياً على العرش على نهاية العظمة وغاية الجلالة ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه فيصير ذلك دليلاً على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات وإليه تنتهي الحاجات
وأما قوله تعالى مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ففيه قولان
القول الأول وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر ولا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح
فإن قيل كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة
والجواب من وجوه
الوجه الأول ما ذكره الزجاج وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( النبأ 38 )
والوجه الثاني وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلهاً للعالم مستقلاً بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع بين أمر المبدأ بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ وبين حال المعاد بقوله مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ
والوجه الثالث يمكن أيضاً أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه
والقول الثاني في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال الشفيع ههنا هو الثاني وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر كما يقال الزوج والفرد فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده(17/13)
ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والجن والبشر وهو المراد من قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود إلا من بعد أن قال له كن حتى كان وحصل
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال ختمها بعد ذلك بقوله ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مبيناً بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له ومنبهاً على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها
ثم قال بعده أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ دالاً بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته أعلى المراتب وأكمل الدرجات
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد وفيه مسائل
المسألة الأولى في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية ويدل عليه وجوه الأول أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه وقال بإمكانه عالم من الناس وهم جمهور أرباب الملل والأديان وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه الثاني أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين وعرضنا عليها أيضاً هذه القضية لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى الثالث أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضاً قائم لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيباً ثانياً ويخلق الأنسان الأول مرة أخرى والرابع أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا
فالمثال الأول أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف ونرى اليبس مستولياً عليها بسبب شدة الحر في الصيف ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( فاطر 9 ) وثانيها قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 ) إلى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى ( الحج 6 ) وثالثها قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ ( الزمر 21 )(17/14)
والمراد كونه منبهاً على أمر المعاد ورابعها قوله ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( عبس 21 24 ) وقال عليه السلام ( إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور ) ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه
المثال الثاني ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن ومن النقصان والذبول بسبب الهزال ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن
وإذا ثبت هذا فنقول ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضاً تكون كله ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الواقعة 61 ) يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أولاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه فوجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة
المثال الثالث أنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق فلأن يكون قادراً على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة منها في هذه الآية وهو قوله إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وثانيها قوله تعالى في سورة يس قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وثالثها قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَة َ الاْولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( الواقعة 62 ) ورابعها قوله تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ق 15 ) وخامسها قوله تعالى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مّن مَّنِى ّ يُمْنَى ( القيامة 36 33 ) إلى قوله أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى ( القيامة 40 ) وسادسها قوله تعالى السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ( الحج 5 ) إلى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( الحج 6 7 ) فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور الأول أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ كأنه تعالى يقول لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة واختلافات متعاقبة والثاني أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة والثالث أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر
والآية السابعة في هذا الباب قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 50 51 )
المثال الرابع أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال إنه لا يقدر على إعادتها فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلاً فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلاً كان أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة منها قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس 81 )(17/15)
وثانيها قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى ( الأحقاف 33 ) وثالثها أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ ( النازعات 27 )
المثال الخامس الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر فإن النوم أخو الموت واليقظة بعد الموت قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 ) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث فقال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 61 62 ) وقال في آية أخرى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( الزمر 42 ) إلى قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الرعد 3 ) والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر
المثال السادس أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت فإن حكم الضدين واحد قال تعالى مقرراً لهذا المعنى نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( الواقعة 60 ) وأيضاً نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ ( يس 80 ) فكذا ههنا فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول
المسألة الثانية في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب
اعلم أن الأمة فريقان منهم من يقول يجب عقلاً أن يكون إله العالم رحيماً عادلاً منزهاً عن الإيلام والإضرار إلا لمنافع أجل وأعظم منها ومنهم من ينكر هذه القاعدة ويقول لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أما الفريق الأول فقد احتجوا على وجود المعاد من وجوه
الحجة الأولى أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً بها يميزون بين الحسن والقبيح وأعطاهم قدراً بها يقدرون على الخير والشر وإذا ثبت هذا فمن الواجب في حكمة الله تعالى وعدله أن يمنع الخلق عن شتم الله وذكره بالسوء وأن يمنعهم عن الجهل والكذب وإيذاء أنبيائه وأوليائه والصالحين من خلقه ومن الواجب في حكمته أن يرغبهم في الطاعات والخيرات والحسنات فإنه لو لم يمنع عن تلك القبائح ولم يرغب في هذه الخيرات قدح ذلك في كونه محسناً عادلاً ناظراً لعباده ومن المعلوم أن الترغيب في الطاعات لا يمكن إلا بربط الثواب بفعلها والزجر عن القبائح لا يمكن إلا بربط العقاب بفعلها وذلك الثواب المرغب فيه والعقاب المهدد به غير حاصل في دار الدنيا فلا بد من دار أخرى يحصل فيها هذا الثواب وهذا العقاب وهو المطلوب وإلا لزم كونه كاذباً وأنه باطل وهذا هو المراد من الآية التي نحن فيها وهي قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في الترغيب في فعل الخيرات وفي الردع عن المنكرات ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات ولا حاجة مع ذلك إلى الوعد والوعيد سلمنا أنه لا بد من الوعد والوعيد فلم لا يجوز أن يقال الغرض منه مجرد الترغيب والترهيب ليحصل به نظام العالم(17/16)
كما قال تعالى ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( الزمر 16 ) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذباً فنقول ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذباً وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذباً سلمنا أنه لا بد وأن يفعل الله تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام وأقسام الهموم والغموم
والجواب عن السؤال الأول أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك
والجواب عن السؤال الثاني أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة ولا من الوعيد رهبة لأن السامع يجوز كونه كذباً
والجواب عن السؤال الثالث أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل وأيضاً نرى في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى ومن حياة أخرى ليحصل فيها الجزاء
الحجة الثانية أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء وأن لا يجعل من كفر به أو جحده بمنزلة من أطاعه ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا أو في دار الآخرة والأول باطل لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات ونرى العلماء والزهاد بالضد منه ولهذا المعنى قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا وهو المراد أيضاً بقوله تعالى في سورة طه إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وبقوله تعالى في سورة ص أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
فإن قيل أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال
والجواب أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا بل كان الأمر على الضد منه فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت وأيضاً لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى(17/17)
وآثر الحياة الدنيا وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى 27 )
الحجة الثالثة أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الطاريات 56 ) والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم وأيضاً فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم وأخذ أموالهم فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن
والجواب أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية وإما أن يكون خائفاً منهم فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه لأن الداعية النفسانية قائمة ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفاً شديداً فلا يصير ذلك رادعاً لهم عن القبائح والظلم فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه
الحجة الرابعة أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء وجب على ذلك السلطان إن كان رحيماً ناظراً مشفقاً عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي فإن لم يفعل ذلك كان راضياً بذلك الظلم والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن
إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيراً لهذه الآية التي نحن في تفسيرها
فإن قالوا إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار وما أعجزه عنه دل على كونه راضياً بذلك الظلم
قلنا الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات وذلك لا يليق بالحكيم فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم
الحجة الخامسة أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال إنه تعالى(17/18)
خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة أو يقال إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة والأول يليق بالرحيم الكريم والثاني وهو أن يقال إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى والأول باطل من وجهين الأول أن لذات هذا العالم جسمانية واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم وإزالة الألم أمر عدمي وهذا العدم كان حاصلاً حال كون كل واحد من الخلائق معدوماً وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة والثاني أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات واللذة فيها كالقطرة في البحر فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا
فإن قالوا أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة
قلنا الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة وإلا لزم أن يكون الفاعل شريراً مؤذياً وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
الحجة السادسة لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس لأنه ليس لها فكر وتأمل أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبداً في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات لأن السرقين في مذاق الجعل طيب كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب
إذا ثبت هذا فنقول لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته لوجب أن يكون كمال العقل سبباً لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سبباً لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الأنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان ولما كان ذلك باطلاً قطعاً علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية فلهذا السبب كان العقل شريفاً
الحجة السابعة أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين أحدهما أن تكون النعم مشوبة بالآفات والأحزان والثاني أن تكون خالصة عنها فلما أنعم الله تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرحمة والحكمة فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات والذي يقوي ذلك ويقرر هذا(17/19)
الكلام أن الإنسان حين كان جنيناً في بطن أمه كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفساداً ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شداً وثيقاً ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يميناً وشمالاً وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية ثم إنه بعد حين يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية
الحجة الثامنة طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب والثاني أنها منقطعة سريعة الزوال فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد ولهذا قال الشاعر قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تحشر الأموات قلت إليكما
إن صح لكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
الحجة التاسعة اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيواناً فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر فإنه يعود ذلك الشيء وإن جرح اندمل ويكون الدم جارياً في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم ورأيت الدم يتجمد في عروقه ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( الحج 5 ) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف وإن جرح التأم وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها ولو قطعنا غصناً من شجرة ما أخلف فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات والحيوان أشرف من النبات وهو أشرف من الجمادات فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض فلم لا يجوز حصولها في الإنسان
فإن قالوا إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت وأما الأرض فليست كذلك
فالجواب أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وهو جوهر باق أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر وهي جارية في البدن وتلك الأجزاء(17/20)
باقية فزال هذا السؤال
الحجة العاشرة لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها واتفق لها أن اجتمعت فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين وهو النطفة فانصب إلى فم الرحم فتولد منه هذا الإنسان فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الأنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول وأيضاً فذلك المني لما وقع في رحم الأم فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها وأيضاً فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبداً في طول العمر تكون في التحلل ولولا ذلك لما حصل الجوع ولما حصلت الحاجة إلى الغذاء مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه ثم انفصل وكان طفلاً ثم شاباً فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل وأن الإنسان هو هو بعينه فوجب القطع بأن الإنسان إما أن يكون جوهراً مفارقاً مجرداً وإما أن يكون جسماً نورانياً لطيفاً باقياً مع تحلل هذا البدن فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول فثبت أن القول بالمعاد صدق
الحجة الحادية عشر ما ذكره الله تعالى في قوله أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ واعلم أن قوله سبحانه خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان والذي يقويه قوله سبحانه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم ثم الدم ينقلب نطفة فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر وهو قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يس 78 ) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين أحدهما أن يقال إن مثله ممكن فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكناً والثاني أن يقال إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه فهو أيضاً ممكن ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولاً فقال قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يس 79 ) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله قُلْ يُحْيِيهَا إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إشارة إلى كمال(17/21)
العلم ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين لأنهم تارة يقولون إنه تعالى موجب بالذات والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالماً بالجزئيات فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى وتقريره من وجهين الأول أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة والتراب بارد يابس فحصلت المضادة بينهما إلا أنا نقول الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية في جرم التراب الثاني قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس 81 ) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادراً على الحشر والنشر ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم والدليل عليه أنه خلق الأب الأول لا عن أب سابق عليه فدل ذلك على كونه سبحانه غنياً في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات ثم قال سبحانه فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( يس 83 ) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله سبحانه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا
الحجة الثانية عشر دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر ويجب أن يكون عالماً لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم ويجب أن يكون غنياً عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال فثبت أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً غنياً ثم لما تأملنا فقلنا هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته ويأكلوا نعمته ويعبدوا الجبت والطاغوت ويجعلوا له أنداداً وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة القريب من العبث فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمراً ونهياً ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي ولم يحصل المقصود فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب ولا بوعيده لأهل العقاب فقلنا إن ذلك لا يجوز لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها ومتى فسد بعضها فسد كلها فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني ودل ذلك على وجود الأمر والنهي ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب ودل ذلك على وجوب الحشر فإن لم يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع(17/22)
المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلهاً رحيماً ناظراً محسناً إلى العباد
أما الفريق الثاني وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا المعاد أمر جائز الوجود والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه فوجب القطع بصحته أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى البحث عن حال القابل فنقول الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق فنقول لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى جائزاً كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزاً وهذا الكلام لا يختلف سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد أو قلنا إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل وأما إن كان الأنسان عبارة عن البدن وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكناً فوجب أيضاً أن يكون في المرة الثانية ممكناً فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه
وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار لا علة موجبة وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات
وأما المقدمة الثالثة فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالماً بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن فوجب القطع بوقوعه وإلا لزمنا تكذيبهم وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد
المسألة الثالثة في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر
الشبهة الأولى قالوا لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار إما أن تكون مثل هذه الدار أو شراً منها أو خيراً منها فإن كان الأول كان التبديل عبثاً وإن كان شراً منها كان هذا التبديل سفهاً وإن كان خيراً منها ففي أول الأمر هل كان قادراً على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادراً عليه فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان ذلك سفهاً وإن قلنا إنه ما كان قادراً ثم صار قادراً عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة أو من الجهل إلى الحكمة وأن ذلك على خالق العالم محال
والجواب لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة لأن الكمالات(17/23)
النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سبباً للفساد والحرمان عن الخيرات
الشبهة الثانية قالوا حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد
والجواب أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية فلا حاجة إلى الإعادة والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق ولهذا السر فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد
الشبهة الثالثة الإنسان عبارة عن هذا البدن وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجوداً وأيضاً أنه إذا أحرق هذا الجسد فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ومزاج مخصوص وصورة مخصوصة فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض وعود المعدوم محال وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الأنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى
والجواب لا نسلم أن هذا الأنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد بل هو عبارة عن النفس سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير والله أعلم به
الشبهة الرابعة إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال
والجواب هذه الشبهة أيضاً مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن وقد بينا أنه باطل بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء
قلنا النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد
المسألة الرابعة قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فيه أبحاث
البحث الأول أن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصاً بحيز وجهة حتى يصح أن يقال إليه مرجع الخلق
والجواب عنه من وجوه الأول أنا إذا قلنا النفس جوهر مجرد فالسؤال زائل الثاني أن يكون المراد منه أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه الثالث أن يكون المراد أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة
البحث الثاني ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس لا عن البدن ويدل أيضاً(17/24)
على أن النفس كانت موجودة قبل البدن أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت والنص دال على أنه حي فوجب أن تكون حقيقته شيئاً مغايراً لهذا البدن الميت وأيضاً قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام 93 ) وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن فلأن قوله تعالى في هذه الآية إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يدل على ما قلنا لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ونظيره قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً ( الفجر 27 28 ) وقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 )
البحث الثالث المرجع بمعنى الرجوع و جَمِيعاً نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت وإنما المراد منه القيامة
البحث الرابع قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره وأما قوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَعَدَ اللَّهُ منصوب على معنى وعدكم الله وعداً لأن قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معناه الوعد بالرجوع فعلى هذا التقدير يكون قوله وَعَدَ اللَّهُ مصدراً مؤكداً لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وقوله حَقّاً مصدراً مؤكداً لقوله وَعَدَ اللَّهُ فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم
المسألة الثانية قرىء وَعَدَ اللَّهُ على لفظ الفعل واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقاً للأفلاك والأرضين ويدخل فيه أيضاً كونه خالقاً لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادراً على شيء وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال وكان عالماً بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته
المسألة الثانية اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا فقال قوم إنه تعالى يعدمها واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها فوجب أن يعيد الأجسام أيضاً وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال ونظيره قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ( الأنبياء 104 ) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضاً من العدم
المسألة الثالثة في هذه الآية إضمار كأنه قيل إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم كما قال في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ ( البقرة 28 ) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( يونس 3 )(17/25)
وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الأعادة يدل عليها
المسألة الرابعة قرأ بعضهم إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بالكسر وبعضهم بالفتح قال الزجاج من كسر الهمزة من ( أن ) فعلى الاستئناف وفي الفتح وجهان الأول أن يكون التقدير إليه مرجعكم جميعاً لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده والثاني أن يكون التقدير وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته وقرىء يُبْدِىء من أبدأ وقرىء حَقّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ كقولك حق إن زيداً منطلق
أما قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء وحتى يصل الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الكعبي اللام في قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة وأيضاً فإنه أدخل لام التعليل على الثواب وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل بل قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر وما خلق فيهم الكفر ألبتة
والجواب أن لام التعليل في أفعال الله تعالى محال لأنه تعالى لو فعل فعلاً لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال
المسألة الثانية قال الكعبي أيضاً هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم لما كان خلقهم وتكليفهم معللاً بإيصال تلك النعم إليهم وظاهر الآية يدل على ذلك
والجواب هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل سلمنا صحته إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم وعلى هذا التقدير سقط كلامه أما قوله تعالى بِالْقِسْطِ ففيه وجهان
الوجه الأول بِالْقِسْطِ بالعدل وهو يتعلق بقوله لِيَجْزِى َ والمعنى ليجزيهم بقسطه وفيه سؤالان
السؤال الأول أن القسط إذا كان مفسراً بالعدل فالعدل هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم ولا يعطيهم شيئاً على سبيل التفضل ابتداء
والجواب عندنا أن الثواب أيضاً محض التفضل وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أن لفظ الْقِسْطَ يدل على توفية الأجر فأما المنع من الزيادة فلفظ الْقِسْطَ لا يدل عليه
السؤال الثاني لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضاً بالقسط
والجواب أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط(17/26)
الوجه الثاني في تفسير الآية أن يكون المعنى ليجزي الذين آمنوا بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات لأن الشرك ظلم قال الله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم قال الله تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) وهذا الوجه أقوى لأنه في مقابلة قوله بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( يونس 70 )
وأما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الحميم الذي سخن بالنار حتى انتهى حره يقال حممت الماء أي سخنته فهو حميم ومنه الحمام
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمناً وبين أن يكون كافراً لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين
وأجاب القاضي عنه بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى ( النور 45 ) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع بل نقول إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر ويترك ذكر ما عداه إذا كان قد بين في موضع آخر وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات
والجواب أن نقول إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب وأما قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر فظهر الفرق
هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية
واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على(17/27)
صحة الحشر والنشر وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة وإيصال العقاب إلى أهل الكفر وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة وإعداد مهمات الشتاء والصيف فكأنه تعالى يقول تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية كان ذلك أولى فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد
المسألة الثانية الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال الأجسام في ذواتها متماثلة وفي ماهياتها متساوية ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية فلو خالف بعضها بعضاً لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفاً بها أو لا صفة لها ولا موصوفاً بها والكل باطل
أما القسم الأول فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات فتكون الذوات في أنفسها مع قطع النظر عن تلك الصفات متساوية في تمام الماهية وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يصح على جسم وجب أن يصح على كل جسم وذلك هو المطلوب
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضاً أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار فنقول هذا أيضاً باطل لأن ذلك الموصوف إما أن يكون حجماً ومتحيزاً أو لا يكون والأول باطل وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ويستمر ذلك إلى غير النهاية وأيضاً فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلاً للحال ولم يكن كون أحدهما محلاً والآخر حالاً أولى من العكس فيلزم كون كل واحد منهما محلاً للآخر وحالاً فيه وذلك محال وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز وله حجم فنقول مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز وحاصل في الجهة والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة يمتنع أن يكون حالاً في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة
وأما القسم الثالث وهو أن يقال ما به خالف جسم جسماً لا حال في الجسم ولا محل له فهذا أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئاً مبايناً عن الجسم لا تعلق له به فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية وذلك هو المطلوب فثبت أن الأجسام بأسرها(17/28)
متساوية في تمام الماهية
وإذا ثبت هذا فنقول الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضاً وبالعكس وإذا كان كذلك وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وهو المطلوب
المسألة الثالثة قال أبو علي الفارسي الضياء لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك قام قياماً وصام صياماً وعلى أي الوجهين حملته فالمضاف محذوف والمعنى جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود
المسألة الرابعة قال الواحدي روي عن ابن كثير من طريق قنبل ضئاء بهمزتين وأكثر الناس على تغليطه فيه لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام وصيام فلا وجه للهمزة فيها ثم قال وعلى البعد يجوز أن يقال قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين وأخر العين التي هي واو إلى موضع اللام فلما وقعت طرفاً بعد ألف زائدة انقلبت همزة كما انقلبت في سقاء وبابه والله أعلم
المسألة الخامسة اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس فهو من مواقف العقول واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة فهي مباحث عميقة وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات
وإذا عرفت هذا فنقول النور اسم لأصل هذه الكيفية وأما الضوء فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس الشَّمْسَ ضِيَاء والكيفية القائمة بالقمر نُوراً ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر وقال في موضع آخر وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وقال في آية أخرى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وفي آية أخرى وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً(17/29)
المسألة السادسة قوله وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ نظيره قوله تعالى في سورة يس وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( يس 39 ) وفيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل والثاني أن يكون المعنى وقدره ذا منازل
المسألة السابعة الضمير في قوله وَقَدَّرَهُ فيه وجهان الأول أنه لهما وإنما وحد الضمير للإيجاز وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر ونظيره قوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 ) والثاني أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى القمر وحده لأن بسير القمر تعرف الشهور وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية كما قال تعالى إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ ( التوبة 36 )
المسألة الثامنة اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم وبحركة القمر تحصل الشهور وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل فالنهار يكون زماناً للتكسب والطلب والليل يكون زماناً للراحة وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين وحيزه المعين وصفته المعينة ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة ونظيره قوله تعالى في آل عمران وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( آل عمران 191 ) وقال في سورة آخرى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان الجبر لأنه تعالى لو كان مريداً لكل ظلم وخالقاً لكل قبيح ومريداً لإضلال من ضل لما صح أن يصف نفسه بأنه ما خلق ذلك إلا بالحق
المسألة الثانية قال حكماء الإسلام هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم لكان خلقها عبثاً وباطلاً وغير مفيد وهذه النصوص تنافي ذلك والله أعلم
ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة واحداً عقيب الآخر فصلاً فصلاً مع الشرع والبيان وفي قوله نُفَصّلُ قراءتان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم يُفَصّلُ بالياء وقرأ الباقون بالنون
ثم قال لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه قولان الأول أن المراد منه العقل الذي يعم الكل والثاني أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه وحجة القول الأول عموم اللفظ وحجة القول الثاني أنه(17/30)
لا يمتنع أن يخص الله سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل فجاء كما في قوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) مع أنه عليه السلام كان منذراً للكل
إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ
اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولاً بتخليق السموات والأرض وثانياً بأحوال الشمس والقمر وثالثاً في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 9 ) ورابعاً بكل ما خلق الله في السموات والأرض وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم وهي محصورة في أربعة أقسام أحدها الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار وأحوال المد والجزر وأحوال الصواعق والزلازل والخسف وثانيها أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة وثالثها اختلاف أحوال النبات ورابعها اختلاف أحوال الحيوانات وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ فخصها بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر قال القفال من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة
الصفة الأولى قوله إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وفيه مسائل(17/31)
المسألة الأولى في تفسير هذا الرجاء قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي معناه لا يخافون البعث والمعنى أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وقوله وَهُمْ مّنَ السَّاعَة ِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 49 ) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) قال الهذلي
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والقول الثاني تفسير الرجاء بالطمع فقوله لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا أي لا يطمعون في ثوابنا فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس كما قال قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاْخِرَة ِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات فالعاقل كيف لا يرجوه وكيف لا يتمناه وإن كان الثاني فكذلك لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر
المسألة الثانية اللقاء هو الوصول إلى الشيء وهذا في حق الله تعالى محال لكونه منزهاً عن الحد والنهاية فوجب أن يجعل مجازاً عن الرؤية وهذا مجاز ظاهر فإنه يقال لقيت فلاناً إذا رأيته وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها وذلك هو الرؤية وهي من أعظم السعادات فمن كان غافلاً عن طلبها معرضاً عنها مكتفياً بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين
الصفة الثانية من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى وَرَضُواْ بِالْحَيواة ِ الدُّنْيَا
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها واستغراقه في طلبها
والصفة الثالثة قوله تعالى وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحج 35 ) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا(17/32)
فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى
المسألة الثانية مقتضى اللغة أن يقال واطمأنوا إليها إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض فلهذا السبب قال وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا
والصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَاتِنَا غَافِلُونَ والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى النيران على أقسام النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق صاعداً بالطبع والإقرار به واجب لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق
القسم الثاني النار الروحانية العقلية وتقريره أن من أحب شيئاً حباً شديداً ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه فإنه يحترق قلبه وباطنه وكل عاقل يقول إن فلاناً محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة
إذا عرفت هذا فنقول إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته وهي أحوال هذا العالم وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ولا معرفة له بأحوالها فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة وتألم الروح فكذا هنا أما لو كان نفوراً عن هذه الجسمانيات عارفاً بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى عظيم الحب لله كان مثاله مثال من كان محبوساً في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء كما قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية
المسألة الثانية الباء في قوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلعَبِيدِ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(17/33)
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانياً أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وفي تفسيره وجوه
الوجه الأول أن النفس الإنسانية لها قوتان
القوة النظرية وكمالها في معرفة الأشياء ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله
والقوة العملية وكمالها في فعل الخيرات والطاعات ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله فقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة لا جرم وجب تقديمها في الذكر
الوجه الثاني في تفسير هذه الآية قال القفال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي صدقوا بقلوبهم ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى
الوجه الثالث الَّذِينَ كَفَرُواْ أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ( المائدة 83 ) ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ( الأحزاب 41 ) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النمل 25 )
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة
المرتبة الأولى قوله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير قوله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وجوه الأول أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه أحدها قوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( الحديد 12 ) وثانيها ما روي أنه عليه السلام قال ( إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار ) وثالثها قال مجاهد المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة ورابعها وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى(17/34)
عالم القدس فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه
والتأويل الثاني قال ابن الأنباري إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت قال القفال وإذا حملنا الآية على هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم إلا أن حذف الواو وجعل قوله تَجْرِى خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله
والتأويل الثالث أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات
المقدمة الأولى أن العلم نور والجهل ظلمة وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر فإنك ترى وجه الفاهم متهللاً مشرقاً مضيئاً ووجه من لم يفهم عبوساً مظلماً منقبضاً ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور وعن الجهل والكفر بالظلمات
والمقدمة الثانية أن الروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح ثم ههنا دقيقة وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم فإذا احتال وحصل شيء منها كان حصول ما حصل منها معيناً له على سهولة تحصيل الباقي وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعاً من حصول الباقي والنقوش الروحانية يكون بعضها معيناً على حصول البقية وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني
المقدمة الثالثة أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ
المسألة الثانية قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم ونظيره قوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ( مريم 24 ) وهي ما كانت قاعدة عليها ولكن المعنى بين يديك وكذا قوله وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( الزخرف 51 ) المعنى بين يدي فكذا ههنا(17/35)
المسألة الثالثة الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضاً من جنس المعارف ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم بل قال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة ثم إذا حصل هذا الاستعداد كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق ليس إلا الله سبحانه وتعالى
المرتبة الثانية من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى في دعواهم وجوه الأول أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء يقال دعا يدعو دعاء ودعوى كما يقال شكى يشكو شكاية وشكوى قال بعض المفسرين دَعْوَاهُمْ أي دعاؤهم وقال تعالى في أهل الجنة لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) وقال في آية أخرى يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ ( الدخان 55 ) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء هو أنهم قالوا اللهم وهذا نداء لله سبحانه وتعالى ومعنى قولهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت ( اللهم إياك نعبد ) الثاني أن يراد بالدعاء العبادة ونظيره قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 ) أي وما تعبدون فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى الثالث قال بعضهم لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية قال القفال أصل ذلك أيضاً من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما الرابع قال مسلم دَعْوَاهُمْ أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم وذلك هو قولهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ الخامس قال القاضي المراد من قوله دَعْوَاهُمْ أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم والدليل على أن المراد ذلك أن قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ليس بدعاء ولا بدعوى إلا أن المدعي للشيء يكون مواظباً على ذكره لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها السادس قال القفال قيل في قوله لَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) أي ما يتمنونه والعرب تقول ادع ما شئت علي أي تمن وقال ابن جريج أخبرت أن قوله دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى أي تمنيهم لما يتمنونه ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه السابع قال القفال أيضاً ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه كقولهم يا آل فلان فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى وسكونهم بتحميدهم الله ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى(17/36)
المسألة الثانية أن قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فيه وجهان
الوجه الأول قول من يقول أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج إذا مر بهم طيراً اشتهوه قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقال الكلبي قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة والخدام فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جداً وبيانه من وجوه أحدها أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح وهذا في غاية الخساسة وثانيها أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير فلا حاجة بهم إلى الطلب وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب فقد سقط هذا الكلام وثالثها أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به وهذا باطل
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية أن نقول المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به وكمال حالهم لا يحصل إلا منه وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه أحدها قال القاضي إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم كما ذكر في أول هذه السورة من قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس 4 ) فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك النعم العظيمة عرفوا أن الله تعالى كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم فعند هذا قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وثانيها أن نقول غاية سعادة السعداء ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال
واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصوراً عليها كما قال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 ) وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات لا جرم كان ذكر الجلال متقدماً على ذكر الإكرام في اللفظ وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية وثالثها أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ألا ترى أنهم قالوا وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام بعد انقراض العالم ولما كان هذا الذكر مشتملاً على هذا الشرف العالي لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة فإن المصلي إذا كبر قال ( سبحانك اللهم وبحمدك(17/37)
تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )
المرتبة الثالثة من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ قال المفسرون تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام وتحية الملائكة لهم بالسلام كما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) وتحية الله تعالى لهم أيضاً بالسلام كما قال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) قال الواحدي وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول وعندي فيه وجه آخر وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى فقد صاروا سالمين من الآفات آمنين من المخافات والنقصانات وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( فاطر 34 35 )
المرتبة الرابعة من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب فقالوا إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئاً قالوا سبحانك اللهم وبحمدك وإذا أكلوا وفرغوا قالوا الحمد لله رب العالمين وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم وأما المحقون المحققون فقد تركوا ذلك ولهم فيه أقوال روى الحسن البصري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم ) وقال الزجاج أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه ويختتمون بشكره والثناء عليه وأقول عندي في هذا الباب وجوه أخر فأحدها أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء فقالوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة وثانيها أن لكل إنسان بحسب قوته معراجاً فتارة ينزل عن ذلك المعراج وتارة يصعد إليه ومعراج العارفين الصادقين معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله فإذا قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فهم في عين المعراج وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه وعند الصعود يقول الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج وثالثها أن نقول إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال وهي المشار إليها بقوله سُبْحَانَكَ ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات ترقياً يليق بالطاقة البشرية وهي المشار إليها بقوله اللَّهُمَّ فإذا عرج عن ذلك المكان واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام وهو المشار إليه بقوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى(17/38)
المسألة الثانية قال الواحدي ءانٍ في قوله أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ هي المخففة من الشديدة فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله
أن هالك كل من يخفى وينتعل
على معنى أنه هالك وقال صاحب ( النظم ) ءانٍ ههنا زائدة والتقدير وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين وهذا القول ليس بشيء وقرأ بعضهم ءانٍ الحمد لله بالتشديد ونصب الحمد
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِى َ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها
فالشبهة الأولى أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه السلام بالنبوة فأزال الله تعالى ذلك التعجب بقوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد وحاصل الجواب أنه يقول إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد وقد دللت على صحتها فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى
والشبهة الثانية للقوم أنهم كانوا أبداً يقولون اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب إليم فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية فهذا هو الكلام في كيفية النظم ومن الناس من ذكر فيه وجوهاً أخرى فالأول قال القاضي لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف والثاني ما ذكره القفال وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وكانوا عن آيات الله غافلين بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً
المسألة الثانية أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) وقال تعالى سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) الآية ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية وهو قوله أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( يونس 8 ) استعجلوا ذلك العذاب وقالوا متى يحصل ذلك كما قال تعالى يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( الشورى 18 ) وقال في هذه(17/39)
السورة بعد هذه الآية وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( الأنبياء 38 ) إلى قوله وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ ( يونس 51 ) وقال في سورة الرعد وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ( الرعد 6 ) فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم فربما آمنوا بعد ذلك وربما خرج من صلبهم من كان مؤمناً وذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر
المسألة الثالثة في لفظ الآية إشكال وهو أن يقال كيف قابل التعجل بالاستعجال وكان الواجب أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال
والجواب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أصل هذا الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم الثاني قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلاناً طلبت عجلته وكذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلاً كأنك طلبت فيه العجلة والاستعجال أشهر وأظهر في هذا المعنى وعلى هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم قال صاحب هذا الوجه وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية الثالث أن كل من عجل شيئاً فقد طلب تعجيله وإذا كان كذلك فكل من كان معجلاً كان مستعجلاً فيصير التقدير ولو استعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به تعالى هو التكوين واللائق بهم هو الطلب
المسألة الرابعة أنه تعالى سمى العذاب شراً في هذه الآية لأن أذى في حق المعاقب ومكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) وفي قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
المسألة الخامسة قرأ ابن عامر لَقُضِى َ بفتح اللام والقاف أَجَلُهُمْ بالنصب يعني لقضى الله وينصره قراءة عبدالله لَقُضِى َ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ وقرأ الباقون بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء أَجَلُهُمْ بالرفع على ما لم يسم فاعله
المسألة السادسة المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله تعالى بكشفها وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ( النمل 53 ) وقوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا ( يونس 12 )
المسألة السابعة لسائل أن يسأل فيقول كيف اتصل قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ( يونس 11 ) بما قبله وما معناه
وجوابه أن قوله وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل ولا يعجل لهم الشر ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاماً للحجة
المسألة الثامنة قال أصحابنا إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان والعمه امتنع أن لا يكونوا كذلك(17/40)
وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهله وحكمه باطلاً وكل ذلك محال ثم إنه مع هذا كلفهم وذلك يكون جارياً مجرى التكليف بالجمع بين الضدين
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات الثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في هذا الطلب
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً مجتهداً في ذلك الدعاء طالباً من الله تعالى إزالة تلك المحنة وتبديلها بالنعمة والمنحة فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على أن هذه الطريقة مذمومة بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابراً عند نزول البلاء شاكراً عند الفوز بالنعماء ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء )
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة وجب عليه رعاية أمور فأولها أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث فكل ما فعله فهو حكمة وصواب وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب وثانيها أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلاً عن الدعاء كان أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة ( من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) ولأن الاشتغال(17/41)
بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس ولا شك أن الأول أفضل ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحاً في الدين وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحاً عنده على الدنيا وثالثها أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء وأحوال الشدة والرخاء فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه وهو أن أهل التحقيق قالوا إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولاً بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولاً بالبلاء لا بالمبلى ومثل هذا الشخص يكون أبداً في البلاء أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشاً فثبت أن من كان مشغولاً بالنعمة كان أبداً في لجة البلية أما من كان في وقت النعمة مشغولاً بالمنعم لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولاً بالمبلي وإذا كان المنعم والمبلي واحداً كان نظره أبداً على مطلوب واحد وكان مطلوبه منزهاً عن التغير مقدساً عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء غرقاً في بحر السعادات واصلاً إلى أقصى الكمالات وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
المسألة الثالثة اختلفوا في الإِنسَانَ في قوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ فقال بعضهم إنه الكافر ومنهم من بالغ وقال كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر وهذا باطل لأن قوله فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الانشقاق 6 7 ) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه وكذلك قوله هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ ( الدهر 1 ) وقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) وقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ( ق 16 ) فالذي قالوه بعيد بل الحق أن نقول اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل ولفظ الإِنسَانَ ههنا لائق بالكافر لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة
المسألة الرابعة في قوله دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا وجهان
الوجه الأول أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله لِجَنبِهِ في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه والتقدير دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً
فإن قالوا فما فائدة ذكر هذه الأحوال
قلنا معناه إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً
والوجه الثاني أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر والتقدير وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج والأول أصح لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب(17/42)
المسألة الخامسة في قوله مَرَّ وجوه الأول المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد الثاني مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به
المسألة السادسة قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ تقديره كأنه لم يدعنا ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ ( يونس 45 ) قال الحسن نسي ما دعا الله فيه وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه
المسألة السابعة قال صاحب ( النظم ) قوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ إِذَا موضوعة للمستقبل
ثم قال فَلَمَّا كَشَفْنَا وهذا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع وإظهار الخضوع والانقياد وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم
المسألة الثامنة في قوله تعالى كَذالِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أبحاث
البحث الأول أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم
البحث الثاني في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحنه الكافر مسرفاً وفيه وجوه
الوجه الأول قال أبو بكر الأصم الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
الوجه الثاني قال القاضي إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح إذا تجاوز الحد فيه
الوجه الثالث وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة فوجب أن يكون من المسرفين
البحث الثالث الكاف في قوله تعالى كَذالِكَ للتشبيه والمعنى كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكرزين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات(17/43)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان كيفية النظم اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم والغرض منه أن يكون ذلك رادعاً لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مراراً كثيرة صار ذلك رادعاً لهم وزاجراً عن ذكر ذلك الكلام فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) لَّمّاً ظرف لأهلكنا والواو في قوله وَجَاءتْهُمْ للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات وقوله وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل فكذلك يجزى كل مجرم وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله وقرىء يَجْزِى بالياء وقوله ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم لننظر كيف تعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة
والجواب أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين
السؤال الثاني قوله ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مشعر بأن الله تعالى ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم
والجواب المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 ) وقد مر نظائر هذا وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الدنيا خضرة حلوة(17/44)
وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ) وقال قتادة صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار
المسألة الثالثة قال الزجاج موضع كَيْفَ نصب بقوله تَعْمَلُونَ لأنها حرف لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولو قلت لننظر خيراً تعملون أم شراً كان العالم في خير وشر تعملون
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه
المسألة الثانية روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحرث بن حنظلة فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر كما قال إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ ( الحجر 95 ) فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ وفيه بحثان
البحث الأول أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر منكرين للبعث والقيامة ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه الأول قال الأصم لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا أي لا يرجون في لقائنا خيراً على طاعة فهم من السيئات أبعد أن يخافوها الثاني قال القاضي الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب وهو القصد بالتكليف لا يخاف أيضاً ما يوعده به من العقاب فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم إلا أن البيان التام أن يقال كل من كان مؤمناً بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة
البحث الثاني أنهم طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحد أمرين على البدل فالأول أن يأتيهم بقرآن غير هذا(17/45)
القرآن والثاني أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئاً واحداً وأيضاً مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما وهو قوله مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلاً
والجواب أن أحد الأمرين غير الآخر فالإتيان بكتاب آخر لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه يكون إتياناً بقرآن آخر وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها ومكان آية رحمة آية عذاب كان هذا تبديلاً أو نقول الإتيان بقرآن غير هذا هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب مع كون هذا الكتاب باقياً بحاله والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب وأما قوله إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين
قلنا الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني وإنما قلنا الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين الأول أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله كما لا يقدر سائر العرب على مثله فكان ذلك متقرراً في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا والثاني أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن فجوابه عن الأسهل يكون جواباً عن الأصعب ومن الناس من قال لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن وجعل قوله مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ جواباً عن الأمرين إلا أنه ضعيف على ما بيناه
المسألة الثالثة اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين أحدهما أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء مثل أن يقولوا إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير والثاني أن يكونوا قالوه على سبيل الجد وذلك أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه إن فعل ذلك علموا أنه كان كذاباً في قوله إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله وثانيها أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم وهم كانوا يتأذون منها فالتمسوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك وثالثها أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر وهذا الوجه أبعد الوجوه
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول إن هذا التبديل غير جائز مني إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى ويتفرع على هذه الآية فروع
الفرع الأول أن قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ معناه لا أتبع إلا ما يوحى إلي فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد(17/46)
الفرع الثاني تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا دل هذا النص على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالنص فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
الفرع الثالث نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن ذلك منسوخ بقوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( الفتح 2 ) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية
الفرع الرابع قالت المعتزلة إن قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مشروط بما يكون واقعاً بلا توبة ولا طاعة أعظم منها ونحن نقول فيه تخصيص ثالث وهو أن لا يعفو عنه ابتداء لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر
قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا بينا فيما سلف أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه على سبيل الاختلاق والافتعال لا على سبيل كونه وحياً من عند الله فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أول عمره إلى ذلك الوقت وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى فقوله لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى لا من اختلاقي ولا من افتعالي وقوله فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ إشارة إلى الدليل الذي قررناه وقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتاباً ولم يمارس مجادلة يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل فلهذا السبب قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
المسألة الثانية قوله وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ هو من الدراية بمعنى العلم قال سيبويه يقال دريته ودريت به والأكثر هو الاستعمال بالباء والدليل عليه قوله تعالى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه(17/47)
إذا عرفت هذا فنقول معنى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس وَلاَ أَنذَرْتُكُمْ بِهِ ورواه الفراء وَلاَ به بالهمز والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته دارياً والمعنى ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني وعن ابن كثير ولأدرأكم بلام الابتداء لإثبات الإدراء
وأما قوله تعالى بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ فالقراءة المشهورة بضم الميم وقرىء عُمُراً بسكون الميم
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر وذلك لأنهم التمسوا منه قرآناً يذكره من عند نفسه ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله فعند هذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني حيث افتريته على الله ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله فوجب أن تكونوا أظلم الناس والحاصل أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله وكذبوا بآيات الله تعالى
وأما قوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين والله أعلم
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلا ءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قرآناً غير هذا القرآن أو تبديل هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين أحدهما أنهم كانوا يعبدون الأصنام والثاني أنهم كانوا(17/48)
يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وتقريره من وجوه الأول قال الزجاج لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه الثاني أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ألبتة وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد وإذا كان العابد أكمل حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة الثالث أن العبادة أعظم أنواع التعظيم فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه
وأما النوع الثاني ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية وهو قولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وذكروا فيه أقوالاً كثيرة فأحدها أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم روح معين من أرواح عالم الأفلاك فعينوا لذلك الروح صنماً معيناً واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم ومقصودهم عبادة ذلك الروح ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبداً للإله الأعظم ومشتغلاً بعبوديته وثانيها أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب وثالثها أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات ورابعها أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله وخامسها أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر وعلى صورة الملائكة صوراً أخرى وسادسها لعل القوم حلولية وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة
واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة
قوله تعالى قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أن المفسرين قرروا وجهاً واحداً وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه وبيان أن لا وجود له ألبتة وذلك لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى وجب أن لا يكون موجوداً ومثل هذا الكلام مشهور في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول ما علم الله هذا مني ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط وقرىء أَتُنَبّئُونَ بالتخفيف أما قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك قرأ حمزة والكسائي تُشْرِكُونَ بالتاء ومثله في أول النحل في موضعين وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب قال صاحب(17/49)
( الكشاف ) ( ما ) موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم قال الواحدي من قرأ بالتاء فلقوله أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قل أنت سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ويجوز أن يكون الله سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد والمقالة الباطلة فقال وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً واعلم أن ظاهر قوله وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً لا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فيماذا وفيه ثلاثة أقوال
القول الأول أنهم كانوا جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام واحتجوا عليه بأمور الأول أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلاً وتزييف طريق عبادة الأصنام وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل فوجب أن يكون المراد من قوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً هو أنهم كانوا أمة واحدة إما في الإسلام وإما في الكفر ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه الأول قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ( النساء 41 ) وشهيد الله لا بد وأن يكون مؤمناً عدلاً فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن الثاني أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون الثالث أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب ) وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده واختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثاني وقال قوم إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح وكانوا عشرة قرون ثم اختلفوا على عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً وقال آخرون كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق إلى أن ظهر الكفر فيهم وقال آخرون كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي وهذا القائل قال المراد من الناس في قوله تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فاختلفوا العرب خاصة
إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل(17/50)
الذي قررناه بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهباً للعرب من أول الأمر بل كانوا على دين الإسلام ونفي عبادة الأصنام ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصلياً فيهم وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب ولم تنفر طباعهم من إبطاله ومما يقوي هذا القول وجهان الأول أنه تعالى قال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) ثم بالغ في إبطاله بالدليل ثم قال عقيبه وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلاً فيهم من الزمان القديم لم يصح جعل هذا الكلام دليلاً على إبطال تلك المقالة أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة وفي تقبيح صورتها عندهم فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلاً لهذا الغرض الثاني أنه تعالى قال وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ ولا شك أن هذا وعيد وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى والأقرب هو ذكر الاختلاف فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يقال كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سبباً لحصول الوعيد أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سبباً للوعيد
القول الثاني قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين قالوا وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيباً لك قابلاً لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان
القول الثالث قول من يقول المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية وحاصلها يرجع إلى أمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الأنعام 151 ) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة فلنكتف بهذا القدر ههنا
أما قوله تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي وذكروا فيه وجوهاً الأول أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده وإن كانوا به كافرين لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم لكن لما كان ذلك سبباً لزوال التكليف ويوجب الإلجاء وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة ثم قال هذا القائل وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين الثاني وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاماً عليهم لقضى(17/51)
بينهم في اختلافهم بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء الثالث أن تلك الكلمة هي قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته وذلك أنهم قالوا أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات والكتاب لا يكون معجزاً ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما سوى الكتاب وأيضاً فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئاً آخر سوى القرآن ليكون معجزة له فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنتَظِرِينَ
واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم وهم علموا أنه لم يطالع كتاباً ولم يتلمذ لأستاذ بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطاً لهم وما كان مشتغلاً بالفكر والتعلم قط ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم لا يكون إلا بالوحي فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وتقرير رسالته ومثل هذا يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها فكان ذلك من باب الغيب فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله الله أم لا ولكن سواء فعل أو لم يفعل فقد ثبتت النبوة وظهر صدقه في ادعاء الرسالة ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب
وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ(17/52)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية أخرى سوى القرآن وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ ( يونس 20 ) ذكر جواباً آخر وهو المذكور في هذه الآية وتقريره من وجهين
الوجه الأول أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة
أما المقام الأول فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران فقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً المراد منه تلك الأمطار النافعة وقوله مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ المراد منه ذلك القحط الشديد وقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وهو قوله تعالى وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ( يونس 12 ) إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة ويطلبون الغوائل وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل
وأما المقام الثاني وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية والامتناع من المتابعة للغير والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم
الوجه الثاني في تقرير هذا الجواب أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية وقوله قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً كلام ورد على سبيل المبالغة والمراد منه إيصال الرحمة إليهم(17/53)
واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم وإنما تذاق بالعقل وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق
المسألة الثالثة قال الزجاج إِذَا في قوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً للشرط و إِذَا في قوله إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ جواب الشرط وهو كقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( الروم 36 ) والمعنى إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا واعلم أن إِذَا في قوله إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ تفيد المفاجأة معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه
المسألة الرابعة سمي تكذيبهم بآيات الله مكراً لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة قال مقاتل المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق الله بل يقولون سقينا بنوء كذا
أما قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك وهو من وجهين الأول ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال والثاني أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة ويكون ذلك سبباً للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه
هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَة ٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَاتِنَا كان هذا الكلام كلاماً كلياً لا ينكشف معناه تمام الانكشاف إلا بذكر مثال كامل فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالاً ولمكر الإنسان مثالاً حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية(17/54)
التي قبلها وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له الفرح التام والمسرة القوية ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة فأولها أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة وثانيها أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب وثالثها أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع وأن النجاة ليست متوقعة ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم والرعب الشديد وأيضاً مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية
المسألة الثانية يحكى أن واحداً قال لجعفر الصادق اذكر لي دليلاً على إثبات الصانع فقال أخبرني عن حرفتك فقال أنا رجل أتجر في البحر فقال صف لي كيفية حالك فقال ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة فقال جعفر هل وجدت في قلبك تضرعاً ودعاء فقال نعم فقال جعفر فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر ينشركم من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ ( الجمعة 10 ) والباقون قرؤا يُسَيّرُكُمْ من التسيير
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقاً لله تعالى قالوا دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى ودل قوله تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( الأنعام 11 ) على أن سيرهم منهم وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله فيكون كسبياً لهم وخلقاً لله ونظيره قوله تعالى كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ ( الأنفال 5 ) وقال في آية أخرى إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( التوبة 40 ) وقال في آية أخرى فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا ( التوبة 82 ) ثم قال في آية أخرى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( النجم 43 ) وقال في آية أخرى وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ( الأفال 7 ) قال الجبائي أما كونه تعالى مسيراً لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير وقال القفال هُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلباً للمعاش لكم وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير هذا جملة ما قيل في الجواب عنه ونحن نقول لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة ولا شك(17/55)
أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة فنقول وجب أيضاً أن يكون مسيراً لهم في البر بهذا التفسير إذ لو كان مسيراً لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازاً بهذا الوجه فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعة واحدة وذلك باطل
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد وأما أبو هاشم فإنه يقول إن ذلك ممتنع إلا أنه يقول لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين
واعلم أن قول الجبائي قد أبطلناه في أصول الفقه وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضاً بعيد لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلاً
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات
السؤال الأول كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر
والجواب لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا
السؤال الثاني ما جواب إِذَا في قوله حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ
الجواب هو أن جوابها هو قوله جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ثم قال صاحب ( الكشاف )
وأما قوله دَّعَوَا اللَّهَ فهو بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله دَّعَوَا اللَّهَ على الاستئناف كان أوضح كأنه لما قيل جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قال قائل فما صنعوا فقيل دَّعَوَا اللَّهَ
السؤال الثالث ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة
الجواب فيه وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح الثاني قال أبو علي الجبائي إن مخاطبته تعالى لعباده هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام فهي بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب الثالث وهو الذي خطر بالبال في الحال أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة يدل على المقت والتبعيد
أما الأول فكما في سورة الفاتحة فإن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الفاتحة 2 3 ) كله مقام الغيبة ثم انتقل منها إلى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 ) وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور وهو يوجب علو الدرجة وكمال القرب من خدمة رب العالمين
وأما الثاني فكما في هذه الآية لأن قوله حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ خطاب الحضور وقوله وَجَرَيْنَ بِهِم مقام الغيبة فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة وذلك يدل على المقت والتبعيد(17/56)
والطرد وهو اللائق بحال هؤلاء لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران كان اللائق به ما ذكرناه
السؤال الرابع كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء
الجواب أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة أولها الكون في الفلك وثانيها جرى الفلك بالريح الطيبة وثالثها فرحهم بها وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضاً أولها قوله جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وفيه سؤالان
السؤال الأول الضمير في قوله جَاءتْهَا عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد والضمير في قوله وَجَرَيْنَ بِهِم عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع فما السبب فيه
الجواب عنه من وجهين الأول أنا لا نسلم أن الضمير في قوله جَاءتْهَا عائد إلى الفلك بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ الثاني لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ الفلك يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل الفلك يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل رِيحٌ عَاصِفٌ لأنه يراد ذات عصوف كما قيل لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر
أما القيد الثاني فهو قوله وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر
أما القيد الثالث فهو قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك
السؤال الخامس ما المراد من الإخلاص في قوله دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ
والجواب قال ابن عباس يريد تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً وأقروا لله بالربوبية والوحدانية قال الحسن دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ الإخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى فيكون جارياً مجرى الإيمان الاضطراري وقال ابن زيد هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم
السؤال السادس ما الشيء المشاء إليه بقوله هذه في قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها
السؤال السابع هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار
الجواب نعم والتقدير دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا ويمكن أن يقال(17/57)
لا حاجة إلا الإضمار لأن قوله دَّعَوَا اللَّهَ يصير مفسراً بقوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق قال ابن عباس يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم قال الزجاج البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترقى إلى الفساد وبغت المرأة إذا فجرت قال الواحدي أصل هذا اللفظ من الطلب
فإن قيل فما معنى قوله بِغَيْرِ الْحَقّ والبغي لا يكون بحق
قلنا البغي قد يكون بالحق وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببني قريظة ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الأكثرون مَتَاعٌ برفع العين وقرأ حفص عن عاصم مَتَاعٌ بنصب العين أما الرفع ففيه وجهان الأول أن يكون قوله بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مبتدأ وقوله مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا خبراً والمراد من قوله بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ بغي بعضكم على بعض كما في قوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والثاني أن قوله بَغْيُكُمْ مبتدأ وقوله عَلَى أَنفُسِكُمْ خبره وقوله وَأَبْقَى قَالُواْ لَن خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو متاع الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول إن قوله بَغْيُكُمْ مبتدأ وقوله عَلَى أَنفُسِكُمْ خبره وقوله مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا في موضع المصدر المؤكد والتقدير تتمتعون متاع الحياة الدنيا
المسألة الثانية البغي من منكرات المعاصي قال عليه الصلاة والسلام ( أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة ) وروى ( ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه ف يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب القرظي ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر قال تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
المسألة الثالثة حاصل الكلام في قوله تعالى الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ثُمَّ إِلَيْنَا أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا والأنباء هو الأخبار وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت(17/58)